يتناول الناقد المغربي جماليات الوصف في رواية محمد برادة مفصلا صيغ الوصف السردية فيها من الرسم الكاريكاتيري إلى التدرج في الوصف وتشظيته، إلى التشخيص، كاشفا عن طموح الرواية لتأسيس بلاغة جديدة للوصف انطلاقا من الانفتاح على لغة الجسد باعتبارها إحدى الإمكانات المغيبة والدالة في الحياة العامة للناس.

جمالية الوصف في رواية «الضوء الهارب»

حسـن لميـن

 

تزخر رواية (الضوء الهارب) للكاتب المغربي المخضرم محمد برادة بخصوبة وصفية، مما يجعلها علامة هامة في تطور الرواية المغربية، لكن الوصف في هذه الرواية لا يتم بالطريقة الكلاسيكية كما هو الشأن في الرواية الواقعية، حيث نجد أن وصف الفضاء أو المكان لا يحضر إلا في مناسبتين الأولى: في رسالة فاطمة إلى العيشوني عندما تصف بلدة "مانتون" التي تكتب منها رسالتها حيث تقول: "مانتون بلدة هادئة، تعمرها الحدائق، مناخها رقيق جاف، وبها مطاعم ذائعة الشهرة"(1). والثانية في نفس الرسالة عندما تتذكر فاطمة إقامتها مع العيشوني في طنجة "ضوء شمس ناعمة يلون مويجات البحر، أصوات نوارس فاردة أجنحتها في حركات صاعدة نازلة متناغمة."(2)

أما حصة الأسد من الوصف فقد نالها الجسد، هذا الأخير الذي يبدو مغيبا عن الاهتمام والتفكير في الخطابات الأخرى، وحاولت رواية "الضوء الهارب" اقتحامه والاحتفال به، فالشخصيات تقترب من كينونتها بامتلاكها لجسدها وتصرفها فيه كما يحضر الجسد كموضع للفردانية. لكن أهم ما يثير الاهتمام في "الضوء الهارب" هو التركيز في وصف الشخوص على الوجه والعينين، فهما يحضران باستمرار على صفحات الرواية وفي تلازم تام، ولا يفترقان، فكلما ذكر الوجه إلا وأعقبته الإشارة إلى العينين، فهما من خلال ذلك لا يمثلان خصائص فيزيقية خارجية للموصوف فقط بقدر ما يوحيان بقوته الجسدية والروحية بما يعنيه ذلك من نقل الصورة الطبيعية للشخصية مع ما يكتنفها من انفعالات عاطفية وردود فعل آنية وتوقعات مستقبلية، لهذا فكثيرا ما يرد ذكرهما بحيث يشكلان متتاليتين دونما فاصل يفصلهما ما عدا إن غاب أحدهما ونادرا ما يقع ذلك، ولتأكيد هذا الأمر نورد بعض الاستشهادات من الرواية فنقرأ مثلا "غيلانة الشقراء المدورة الوجه، الممتلئة الصدر المشدودة الساقين ذات الشخصية القوية الطموحة تلد مثل هذه الفتاة الناعمة ذات العينين الحالمتين."(3) جاء هذا الوصف على لسان السارد وهو يصف فاطمة مقارنة بأمها غيلانة، إثر زيارتها للعيشوني، وفي صورة أخرى نجد السارد الواصف يقدم صورة لإحدى (الشيخات) في مرقص "تمسك الطعريجة وتهتز بوقار ووجهها الأسمر الطويل بعينيه النجلاوين العسليتين الهادئتين يضفي على الفرجة طابعا خاصا"(4) وفي صورة أخرى نجد غيلانة "لم تكف عن الشرب وهي تتحدث، احتقن وجهها وضاقت عيناها قليلا."(5) هذه إذن على سبيل المثال لا الحصر صور تجسد ذلك الحضور الجسدي من خلال العين والوجه وتؤكد مدى التلازم بينهما.

لكن السؤال الذي يلح علينا ونحن نتصفح هذا النص الروائي المغامر هو لماذا التركيز على وصف العين والوجه دون غيرهما من الأعضاء؟ وما دلالة ووظيفة ذلك الحضور المتميز لهما؟؟ إن الوجه في الضوء الهارب يصير نسقا للتفكير وأداة لمعرفة واكتشاف العالم والنفاذ إلى حياة الآخرين. إنه مرآة ودليل للنفاذ إلى أعماق الشخصية "تعبيرات الوجوه صريحة مثلما هي حركات أجسادهن، وغمزات عيونهن الضاحكة نداء لنا بالمشاركة."(6) ومن هنا يغدو الوجه مشهد قصة وذاكرة للتأمل وإثارة للهواجس الهاربة والمبرحة والمجنحة في آن، كما يصبح قوة تبعث الحياة في الإنسان "هذا هو قانون اللعبة يا فاطمة، تافه وواطئ، ومع ذلك أزعم لنفسي أنني أستطيع أن أستولد منه شيئا يتعدى الظروف البئيسة، شيئا نضرا مثل وجهك وابتسامتك."(7) غير أن هذا الوجه قد يتحول إلى طلل للرثاء والأسى على فعل الزمن القاسي الذي لا يرحم حيث نجد غيلانة "في جلابية صفراء ووجهها بدون لثام يكشف عدوان الأيام والليالي على المرأة الجميلة سابقا. ربما العينان الخروبيتان بالتماعتهما المتوفرة تحفظان بعد للمرأة بعضا من جاذبيتها، لكن الوجه المتغضن الفاقد لروائه يطمر سحر النظرات."(8) هكذا إذن يحمل الوجه وشم الأيام ويشي بإيقاع الليالي ويتحول من مشهد جامد إلى صورة نابضة تترجم كينونة أو سيرة أو ذاكرة كما يقول العيشوني في مذكراته "تعطي المذكرات متعة أن أكون أكثر من وجه ومسار وتجربة."(9)

أما العينان فتعتبران من أكثر عناصر الوجه تأثيرا في عملية التواصل والتعبير "فكثير من الحالات تقرر أن أنماطا كثيرة من السلوك غير اللفظي: مثل حركة الأقدام وتعبير الوجه الهادئ قد يستعصي إدراك مغزاها والتوصل إلى معناها، فيما تفهم الدلالة التي تحملها إلينا العين المحملقة مباشرة فينا أو في غيرنا."(10)

باستقرائنا لرواية (الضوء الهارب) نجد أن وظيفة ودلالة العين مثلها في ذلك مثل الوجه كما أوضحنا لأن العين ماهي إلا جزء من الوجه. إن للعين دورا هاما في تأكيد جاذبية الجسد وتأثير الشخصية وتأكيد الرغبات والمقاصد الدفينة، حيث نجد أن التقاء العيون وتبادل النظرات يؤشر على الرغبة في التواصل وعلى الاهتمام بالآخر، وهو تعبير عن المشاعر الإيجابية تجاهه "الكؤوس تملأ وتفرغ والضحكات تتوالى وفاطمة مستأنسة بالحكايات والنكت وتبادل نظرات دافئة مع العيشوني الذي استعاد مرحه."(11) فالنظرات تقوم بتنظيم التفاعل الداخلي- العاطفي بين الطرفين وتجسيد مدى الاهتمام باستجابات الآخر موضوع الرغبة، وقد تختلف أبعاد التوجيه لتتحقق في صيغة نداء " نظراتها لا تخلو من تحرش وشقرتها ممتزجة بصهبة خفيفة."(12) وبذلك تصير العين بطاقة تعريف تنضح بكينونة صاحبها وتكشف رغباته." إلا أن حدة العينين المتوحشتين كانت هناك معلنة من غيلانة التي عرفت هجمت علي تقبلني في تلقائية.(12) وهكذا نستنتج أن العين تشكل بطاقة سفر تخترق المسافات والأبعاد والجهات حيث يلتقي الواقعي بالحلمي وتوحد الرؤية بين المستحيل والممكن فتتفتق العين عن جسر لا مرئي وعن سحر جواني يحفز على امتلاك شتى اللحظات المستعصية وتحيين البريق المشتهى والضوء الهارب.

ومع كل ما توصلنا إليه سابقا تجدر الإشارة إلى أن الوصف في رواية "الضوء الهارب" له خصائص أخرى، فرغم تركيزه بشكل ملفت للانتباه على العين والوجه، فإن ذلك لا يعني غياب موصوفات أخرى كالشعر والملابس والحالات التي تكون عليها الشخصيات وبنياتها الجسمية. وتعتبر فاطمة وغيلانة الشخصيتان الأوفر نصيبا من الوصف، ولا غرابة في ذلك لأنهما مدار السرد وحولهما تدور أحداث الرواية، لكن الغريب في الأمر والمثير للانتباه هو بقاء العيشوني – وهو الشخصية الرئيسية- في الظل بحيث لم يمله الوصف إلا في مناسبة واحدة وهو في غرفته أثناء لقاء حميمي مع فاطمة، ولم يكن ذلك الوصف إلا إخبارا عن حالته الشبقية حيث "فتاه بدورهما تتحركان والأصابع تلتقط كهرباء الجسدين".(13)

كما حظيت كل شخصيات الرواية الرئيسية منها والثانوية بأوصاف مختلفة، والوصف هنا كما سبق الذكر يختلف عن الوصف في الرواية الكلاسيكية، فهو لا يتخذ شكل مشاهد أو وقفات وصفية طويلة بل هو مجرد لمحات عابرة تتراوح بين الإشارة التي لا تتعدى صفة أو صفتين وبين المقطع الذي نادرا ما يتجاوز ثلاثة أسطر، وكل ذلك يتم عبر آليات وتقنيات يمكن أن نفصله كما يلي:

- الرسم الكاريكاتوري: تتجلى هذه الخاصية في تشويه صورة الموصوف، وذلك بالمغالاة والمبالغة في رصد ملامحه فالدحماني مثلا كان "أمام الباب بقامته الربعة المكتنزة، وشعره الأسود اللامع، ونظارته الطبية الغليظة، وصوته الأجش الذي لايسعفه في بلوغ طبقة أعلى."(14) ونجد ذلك أيضا عندما يستلهم العيشوني حلم فاطمة حول الستريبتيز لإبداع اللوحة التي كان يريد رسمها، حيث بدأت تتوضح له ملامح الرؤية التي كانت تلاحقه وهي غائمة القسمات يقول العيشوني "الوجوه التي تتزاحم عند بوابة مخيلتي ترتدي أزياء مختلفة متعارضة في التفصيل والألوان والأحجام."(15)

بعد هذه الصورة التوضيحية الأولية التي انبعثت في مخيلة الفنان نجده يسعى إلى رسم صورة لمجتمع السلالم الإدارية انطلاقا مما يرتديه أصحابها من ألبسة مختلفة حيث يقول "ما يطفو في مخيلتي هو حشد السموكنغ أرسمه في أزياء مختلفة: نفس الملامح والشخوص داخل الجلابيب البيضاء والشاشيات الحمراء المغطاة بالقب الشفاف (شفافية أجنحة بنات وردان) ثم هي نفسها مرتدية البدل العصرية الغامقة الألوان، ودائما في حالة استماع أوتصفيق. وفي لوحة أخرى أجعلهم في سراويل قصيرة تكشف جزءا من الأفخاذ والسيقان المشعرة وتبرز الكروش المستفيضة خلف قمصان قصيرة ملتصقة بالأجساد المتباينة الأحجام والتضاريس."(16)

إن المستقرئ لهذه المقاطع الوصفية ليجد البعد الكاريكاتوري ظاهرا بشكل بارز، ويتضح من خلال رسم هيئات مختلفة ومتناقضة لنفس الأشخاص الذين يتم تقديمهم تارة بالجلابيب والشاشيات، وتارة أخرى بالملابس العصرية وطورا أخر بالسراويل القصيرة والسيقان المشعرة. بهذه الطريقة إذن يصف العيشوني مجتمع المراتب والألقاب الذي يسخر منه، ويكشف في نفس الوقت عن شكله الحربائي المتلون. وصورة هؤلاء مثيرة للتقزز والاشمئزاز حيث يتم تشبيه القب الشفاف بأجنحة بنات وردان (سراق الزيت) إضافة إلى صورة الكروش المستفيضة والسيقان المشعرة التي تخلق نفس الإحساس والشعور.

- التدرج : نقصد بالتدرج وصف ملامح الشخصية بطريقة تدريجية، وهو ماسماه الأستاذ أحمد اليابوري بالتشظية حيث لاحظ استعمال هذه الخاصية عند محمد زفزاف ومحمد الهرادي ومحمد عزالدين التازي.(17) إن الحكي كلما قطع أشواطا اكتشفنا وجها جديدا للشخصية أو اتسمت بسمة أخرى تمثل إتماما لما سبق أو تعديلا له، وتنفرد بهذه الخاصية الشخصيات الرئيسية بالدرجة الأولى فمثلا إذا اتبعنا الأوصاف التي تقدم بها غيلانة نجدها في خمس مناسبات(18)، في كل مرة تسير في تواز مع السرد.

فإذا قرأنا مثلا هذا المقطع "غيلانة الشقراء المدورة الوجه، الممتلئة الصدر المشدودة الساقين ذات الشخصية الطموحة."(19) سنجد أن السارد الواصف يقدم الملامح العامة لغيلانة مبتدئا من الأعلى إلى الأسفل، أما في هذا المقطع "نظراتها لا تخلو من تحرش وشقرتها ممتزجة بصهبة خفيفة، والوجه المدور ملامحه دقيقة تستوقف الرائي فضلا عن جرأة في الحركة يسندها دلال تلقائي."(20) فإنه يخصص ما هو عام ويضيف أشياء جديدة أي أنه يقوم بتفصيل الصفات الواردة مجملة في المقطع الأول ويضيف صفات أخرى. ونفس الشيء نجده في المناسبات الأخرى التي وصفت وجهها المتغضن الفاقد لروائه بسبب عدوان الأيام والليالي.(21)

- التشخيص: يشكل التشخيص أهم عناصر الوصف في الكتبة القصصية والروائية بل يعتبر من أبرزها، ويتحقق بواسطة الأوصاف المادية والمعنوية التي تتميز بها الشخصيات الروائية والتي ترسخ كينونتها في عالم التخييل. ولعل المتأمل في رواية "الضوء الهارب" سيجد هذه الخاصية واضحة للعيان، ولن نقوم برصد جميع الشخصيات المشخصة بل سنكتفي بمثال لشخصية فاطمة.

إن فاطمة تتغير وتتبدل حسب الظروف التي توجد فيها، ففي بداية الرواية نجدها مشخصة كما يلي: "كان وجهها يكتسي غلالة ناعمة ومثيرة، العينان عسليتان مضيئتان بالتماعة ملتبسة وقصة شعرها الكستنائي على طريقة الغلمان. والجلباب منسدل على جسد تبدو ملامح رشاقته عبر نتوءات الصدر والخصر."(22) وفي مكان آخر نجدها "هي أيضا ترتدي فستانا أبيض طويلا مكشوفا عند الكتفين والظهر ... وجدت شعرها أطول مما اعتدته وفي العنق قلادة فضة قديمة تتخللها حبات من اللبان المثير بوميضه الفوسفوري."(23) وعند انتقال فاطمة إلى باريس تصف نفسها للعيوني في رسالتها قائلة: "أرسلت شعري على كتفي ووضعت ماكياجا خفيفا يلائم شخصية الطالبة التي قررت أن أكونها ذلك اليوم، وارتديت قميص حرير أزرق وبنطلون جينز، ومعطف قطيفة بنفسجيا، وتلحفت شالا صوفيا غامق الصفرة."(24) هذه هي فاطمة الفتاة المغربية التي غيرت الجلباب واستبدلته بملابس عصرية لتلائم دورها الجديد الذي تتقمصه، فهي الآن في متحف رودان تطبق خطة الآنسة بونون، وليس هذا التحول شكليا فقط، بل هو يمس الهوية ذاتها لأن "فاطمة قريطيس" ستصبح "فاطمة بيدال".

وتتجلى خاصية التشخيص في كافة الأوصاف على امتداد الرواية باستثناء الفصل الذي يحمل عنوان " دفاتر العيوني " لأن السارد يحرص على تسجيل الأحداث أكثر من وصف الشخصيات، ومن هنا نستنتج أن التشخيص يوضح ملامح الشخصية ويفسر سلوكها ومزاجها ومقويا البعد الاحتمالي للمحكي.

وصفوة القول، إن رواية "الضوء الهارب" من خلال هذه الخصائص تطمح إلى تأسيس بلاغة جديدة للوصف انطلاقا من الانفتاح على لغة الجسد باعتبارها إحدى الإمكانات المغيبة في الحياة العامة للناس، رغم مالها من وقع حاد في التواصل الاجتماعي، وبذلك يحظى الوصف بجانب كبير من الأهمية من خلال تبئير الوجه من جسم الشخصية بفضل حساسية العين في التقاط الخطوط العاطفية.

 

كاتب وباحث مغربي  

 

هوامش

 (1) محمد برادة. الضوء الهارب. نشر الفن . الطبعة الثانية. 1995 . الصفحة .  110

(2) نفسه . ص . 112

(3) نفسه. ص . 16

(4) نفسه . ص . 84 

(5) الرواية . ص . 95

(6) الرواية ص . 118

(7) الضوء الهارب . ص. 25

(8) نفسه . ص . 86

(9) نفسه . ص . 193

(10) إدريس القصوري. شعرية الجسد واللغة غير اللفظية. كلية الآداب ابن مسيك. البيضاء. الطبعة الأولى.1995.الصفحة 33

(11) الضوء الهارب . ص . 27

(12) نفسه . ص . 55

(13) نفسه . ص . 73

(14) الرواية ص . 43

(15)  نفسه . ص . 22

(16) الضوء الهارب . ص . 40

(17) نفسه . ص . 42

(18) أحمد اليبوري. دينامية النص الروائي. منشورات اتحاد كتاب المغرب. الطبعة الأولى.الرباط..1993 

(19) الضوء الهارب . صفحات .16- 55-73- 56- 95

(20) نفسه ص . 16

(21) نفسه. ص . 55

(22) الرواية . ص . 86

(23) نفسه . ص . 31

(24) الضوء الهارب . ص . 150