يرى الناقد المصري إمكانية أن قصص المجموعة تتوزع بين تلك التي تتعرض لحياة الإنسان المفرد في اشتباكه بالهم السياسي، وتلك التي تتناوله مشتبكا مع نواميس الحياة، وقسم آخر يتناول الجانب الإبداعي تخفت فيه الحركة، لتبدو كما لو أنها صورة، أو حالة. ويظل اللحن الأساسي في كل القصص، هو التهميش والفقد واليأس.

فؤاد مرسى يحيل الإنسان إلى فراغ أبيض

شوقي عبدالحميد يحيى

 

قليلة هى المجموعات التى يحرص صاحبها على أن يكون بين قصصها رابط ما، إما موضوعاتى، أو روح واحدة وجو عام، يمكن أن يخرج به القارئ بعد الانتهاء من قراءة المجموعة. وفؤاد مرسى، فى عودته، بعد انقطاع طويل، يقدم مجموعته الجديدة "فراغ أبيض بحجم كائن مختفى"[i]، يجمع بين الحالتين ، الموضوعاتية، والروح السارية بين سطورها، مع وجود التنوع، فيتحول الموضوع إلى لحن أساسى، أو نغمة أساسة، وتتنوع الألحان من حوله، محافظا على الإيقاع الظاهر.

ولأنه – مثل كل المبدعين الحقيقيين- لا يستسلم للمباشرة، إذ يصبح على قارئه البحث الدائم عنما تحت سطح مياه المحيط الساكن. وأتصور أن هذا ما ساقه لاستخدام العبارات الطويلة، كعنوان رئيسي، إلى جانب أنه عنوان القصة الأولى فى المجموعة "فراغ أبيض بحجم كائن مختف"، فضلا عن عناوين بعض القصص مثل "جثمان ممدد على الرصيف بارتياح" و صوت غليظ، خشن، لامرأة بدينة، سمراء، متغضنة الوجه". وكأنه يخشى على قارئه أن يفقد الطريق، فيشعل له كشاف الإضاءة، للبحث والتقصى. إلا أنه فى بعض القصص ذات العنوان القصير، مثل الهازم والمأزوم" و القصير والبدين" والصورة للذكرى" وغيرها، لجأ التعبير الذى قد يراه القارئ عنوانا مباشرا، إلا أنه استخدمه كخدعة يستدرج بها القارئ، الذى يكتشف أنه –العنوان- والقصة بصفة عامة - عنوان رمزى، يخبئ وراءه رؤية أبعد من المباشرة.

كما لابد سنلحظ تشكيل الكاتب لمتوالية قصصية، حيث ترتبط الكثير منها برابط –إضافة إلى الوحدة النفسية- بوجود الكثير من الروابط، الظاهر منها والمتخفى، مثل مستشفى الأمراض النفسية والمرضى النفسيين، الكشرى، القطار.  

كما كان استخدام الاسم، أحد علامات القص فى المجموعة. فمثلا استخدم الكاتب الإسم فى التعبير عن رؤيته فى القصة. فبينما ذكر الاسم الكامل فى قصة "فراغ أبيض"  " محمد سيد عبد الفتاح عاشور" ليؤكد وجود الشخصية، على المستوى الواقعى، نراه أهمله فى قصة "كباش برباره" معبرا عنه ب"الرجل" أو الإسم المفرد. لينفتح على المجموع، خارجا من حصره فى شخص محدد.

كما قسم الكاتب مجموعته إلى أربعة أقسام. تحت عناوين رئيسية، فكانت "فراغ أول" ثم فراغ ثان" ف"فراغ ثالث" ثم " فراغ لانهائى" وهو الذى تناول فيه الفراغ الأبدى الذى يتركه الإنسان بالموت. غير أنه يمكن قراءة الكثير من القصص، وضعت فى "فراغ" معين، فى الوقت الذى يمكن وضعه فى آخر، فغابت فلسفة التقسيم، الأمر الذى أعدنا معه قراءة المجموعة وفق تقسيم موضوعاتى، من جانب، حيث القصص التى تتعرض لحياة الإنسان المفرد فى مجتمع، مشتبكا مع الهم السياسى لهذا المجتمع، والقصص التى تتناول الإنسان من حيث هو إنسان، مشتبكا مع نواميس الحياة.

 وقسم آخر يتناول الجانب  الإبداعى، حيث القصص التى تخفت فيها الحركة، لتبدو كما لو أنها صورة، أو حالة. مؤكدين أن اللحن الأساسى فى كل القصص، هو التهميش، والفقد  واليأس، وإن تنوعت أسباب ذلك بين القصص. لذا رأينا  تقسيم المجموعة على النحو الآتى:

المهمشون فى الوطن
فى القصة الأولى الحاملة لاسم المجموعة، تبدو الحركة هنا، شبه واضحة، فنتعرف على المواطن، المريض "محمد سيد عبد الفتاح عاشور". المصاب باضطراب وجداني ثنائى القطب. يعاني من الانعزال وعدم الرغبة فى التحدث مع أحد. وعلى الرغم من تحديد الإسم الكامل، والمحدد لشخصية بعينها، نتعرف على أنه قد تم شفاؤه، وخرج من المستشفى، بتوقيع والده- الدليل الآخر على وجوده المادى- غير انه يتبخر، فما أن يذهب  { أعضاء لجنة الطب المجتمعي الوافدة من الوزارة، التى وضعت بين مهامها متابعة حالة المريض بعد تحسنه وخروجه، واستبيان مدى اندماجه مع المجتمع وتحوله لشخص طبيعى من عدمه}. فإنهم لايجدون له أثرا، يؤكد بذلك أبناء البلد المحدد فى سجل بياناته، وأن هذا الاسم لم يوجد مطلقا فى البلدة، بل الاسم لم يكن من بين أبناء البلدة فى يوم من الأيام. فيلجأ رئيس اللجنة إلى صورة أخذها المذكور معه حين خروجه من المستشفى، ليفاجأ بان صورته هو فقط ما تظهر، بينما صورة المريض، أصبح مكانا أبيض. ويذهب السارد إلى السيدة زينب،  عند الإفطار فى اليوم الأخير من رمضان ينضم السارد {إلى صف الفقراء والأيتام والمساكين وعابرى السبيل والعاملين عليها} و يفاجأ ب"محمد سيد عبد الفتاح عاشور. وهو ما نستطيع معه تصور أن المريض محمد سيد عبد لفتاح عاشور، الموجود بإعتراف أهله، والغير موجود بالنسبة للحكومة، قد تماهى فى تلك المجموعة من الفقراء المنسيين منها. خاصة إذا تأملنا تلك النداءات التى يرسلها حين{ لمحته وأنا مشرف على باب الخروج، كان متشبثا بقضبان الحديد الفاصلة بين المسجد والشارع .... يزعق : يا سيدى عتريس فك الترابيس ..  يا مشيرة .. ابعتى التأشيرة}. وكانها عملية استغاثة يرسلها، ليس محمد سيد عبد الفتاح عاشور، وإنما تلك المجموعة (المريضة) فى نظر الحكومة، ولتتحول إلى صرخة اجتماعية سياسية، من تلك الفئة المنسية، أو غير الموجودة فى حساب (الحكومة).

وفى قصة "الاستراحة" نعيش أيضا حياة المرضى النفسيين، وماذا يحتاجه هؤلاء (المرضى)، ذلك ما يبدأ به فؤاد قصته، حيث يأتيه تليفون، بينما نتبين فيما بعد أنه تلقى هذا التليفون، وهو واقف على شريط السكة الحديد، وكاد أن يدهسه، لولا صراخ "على" أحد هؤلاء المرضى، فيفتح السارد تليفونه ليسمع من على الجانب الآخر{أصدقاؤك يسألون عنك ..من المؤكد أنهم يشتاقون لراحة يدك وأنت تضعها على أكتافهم وتضمهم إليك بحنو حقيقي} ثم {هناك شئ لابد أن تعرفه.. المهندس جورج بارانويا لم يتناول علاجه اليوم قبل تأكيدى له أنك ستزوره قريبا}. وتتم الزيارة بالفعل، وفى عنبر الاضطراب الوجدانى ثنائى القطب {قصوا جميعا حواديتهم وتعاملوا معى باعتبارى مفتشا من الوزارة، جاء ليطمئن على أحوالهم ويرفع تقريرا عنهم للمسئولين الكبار، عانيت طويلا معهم حتى أقنعتهم بأننى لست مفتشا من الوزارة. فقال أحدهم بابتهاج مفرط: يعنى انت صحفى يا باشا. وراح يهتف: الصحافة فين الفساد آهه}. ثم يوقظ مريضا آخر، لم يكن إلا "على"، تعرف عليه السارد، فقال "على" {اطمئن أنا لست مريضا.. فقط تعبت من رحلة السفر اليومية التى لا تتوقف، فقررت أن أستريح قليلا لألتقط أنفاسى}. فنحن إذن أمام حالات تقف فى البرزخ بين المرض والحياة العادية، خاصة إذا علمنا بأن الاضطراب ثنائي القطب، هو حالة صحية عقلية تتسبب في  تقلبات مزاجية مُفرطة تتضمن الهوس أو الهوس الخفيف والاكتئاب. وأنه ليس إلا حالة عاطفية، اى ليست مرضا عضويا، وإنما هو حالة تقف على شفا المرض. وأن هؤلاء يحتاجون إلى نظرة عطف مفقودة، اوصلتهم إلى اليأس من المسئولينن والصحافة معا، ونلاحظ أن الرض "هلى" ليس اسما معرفا، وإنما ينفتح على كل "على" فى المجتمع، وهو ما أدى إلى ذلك الموقف الذى لجأ إليه "على" فى النهاية، عندما وجده السارد على أريكة أسمنتية، مسنود على مجموعة من الكتب والصحف والمجلات، وكأنه مسنود على الفراغ – كتهميش آخر لدور تلك التى لم تعد إلا مسندا، فبادره السارد: ازيك يا على {أدينى سايب لك الدنيا كلها وماشى يا عم). خاصة إذا رجعنا للوراء، ورأينا هؤلاء (المرضى) ينظرون إلى السارد على أنه إما مفتش سيرفع شكواهم للمسئولين، أو صحفى، سينشر الفضائح، والفساد. وهو ما يؤيده عنوان القصة "الاستراحة" . وكأن مستشفى الأمراض النفسية، هى الهروب أو الاستراحة من الخارج، الذى أوصلهم لتلك الحالة.

وتتنوع عمليات الهروب، المعبر عن اليأس. ففى قصة "كباش برباره" والتى اجتمع السارد فيها بصحبة عدد من محاولى الانتحار، إما ببلع شريط كامل من التريتيزول، أو عن طريق فتح أنبوبة الغاز، أو بإلقاء النفس من فوق كوبرى قصر النيل، كانوا جميعا فى رحلة إلى جزيرة برباره، لقضاء يوم كاملٍ، وكان معهم (الرجل) الذى تعمد السارد ألا يحدد له اسما معينا، ليظل منفتحا على المجموع. حيث يذهب معهم إلى تلك الرحلة، مانحا كيسا بلاستيكيا للسارد، يحوى بعض أوراقه التى أراد أن يسعى السارد لنشرها بعد موته، غير أن (كبشا) انقض على الكيس، وفشلت كل محاولات استعادته منه، ليسقط (الرجل) ميتا، بعد أن أتى (الكبش) على كل محتوياته. وكأن فى تلك الأوراق (حياته)، إذا ما تصورنا أن الرجل، أو الإنسان ليس إلا مجرد أوراق، فى نظر (الحكومة)، وبدونها، فهو غير موجود، ولنرجع إلى قصة البداية، لنرى ذات الرؤية. وإذا ما سلمنا بأن "الكبش" هو ذكر القطيع، أو قائده، ليصبح الاستخدام مزدوج الاتجاه، القائد كجهة فوقية، والباقى أفراد القطيع، او (الغنم). فلجوء السارد هنا إلى عملية "الانزياح" بحلول الكبش، محل "الحكومة" أو الدولة، وإحالة الفعل إلى الكبش، كرمز، دفع القارئ هنا إلى التأمل والتدبر، فى فعل الدولة، دون أن تطاله يد الرقيب، وهروب من الصيغة التقريريةـ والإحالة إلى اللغة الإنشائية، أو اللغة الشعرية.

ونسير على نفس ثيمة الإنسان (المأزوم) فى قصة "الهازم والمأزوم" والتى نستنبط بسهولة أن الهازم هو الموت. فنتعرف على "على" صديق السارد، والذى ظل بمستشفى الأمراض النفسية لمدة عام. بينما اُخرج من المستشفى{بعد تاكيد الأطباء أن حالته تحسنت، وانه بات محتاجا للاندماج فى المجتمع}. فالعِلة الأساسية إذن هى المرض النفسى، وعدم الاندماج فى المجتمع، لنصبح أمام "إنفصام" وفقما أفاد الأطباء المعالجون. غير أن عليا قد مات، لتختلف الأقوال حول ساعة الوفاة، وهل هى ظهيرة الأحد، مثلما يقول تقرير طبيب الصحة، أم أنه مساء السبت، مثلما يؤكد السارد صديق "على". وهو ما يفجر الظن بأن عليا مات مقتولا مثلما يرى السارد وشقيق "على"، مستدلين بوجود الدم المتخثر، ام أن الوفاة ليس فيها شبهة قتل، مثلما يؤكد طبيب الصحة. وليصبح "على" الذى لا يملك من حطام الدنيا شيئا، قد مات موتا طبيعيا، فى نظر الحكومة. بينما هو فى نظر الأقربين، مقتولا، ويصبح القاتل مستترا وتقديره .. الحكومة.   

ويصل التهميش إلى ذروته فى قصة "مبنيان متلاصقان" حيث يتكاثر عدد المرضى النفسيين

إلى الحد الذى لا يتطلب إلا عقب سيجارة، لحرق ملفاتهم، ليصبحوا كأن شيئا لم يكن. فبينما يجلس المسئول عن ملفاتهم فى حجرة، لا يجد له متنفسا إلا بعض السنتيمترات ليتحرك فيها، حتى أنه لا يملك مكانا يصلى فيه، ف{ملفات المرضى النفسيين تفترش الأرض}. وينظر من الشباك ليشرب سيجارته، ويلقى بعقبها من الشباك، على سطح البناية الملاصقة، الذى يحوى الكثير من الأشياء المهملة. فتشتعل النيران فى مبنى المستشفى، لتلتهم الدور المخصص للرجال. وتبدأ فى إلتهام الدور المخصص للسيدات، ويسرع فى تنبيههن للحريق، فيجدهن قد أقمن مسرحا وغناء، وكأنهن لا يدرين من أمرهم شيئا، أو مما يدور حولهن، و {بينما  ألسنة اللهب تقترب من رجل واقف فى شرفة غرفة مخصصة لحفظ ملفات مستشفى للعلاج النفسى، كئيب وكالح}، وكأننا أمام حالة مجتمعية، تكاثرت فيها حالات المرض النفسى (المجتمعى).

المهمشون داخل أنفسهم
ثم ينتقل القاص إلى نوع آخر من الضياع (الفردى) وإن ظلت روح الفقد، والوحدة، ما يجمع أجواء المجموعة بالكامل، ليشكل وحدة واحدة، متنوعة المذاق. فيعرض "فراغ آخر" ونقرأ فيها قصة "رفيف أجنحة الحمام" ، بما يضفيه الحمام من إيحاء السلام، والسكينة، التى يبحث عنها السارد، فيتمنى الذهاب إلى رحاب السيدة زينب يحكى لها عن {وحدته فى هذه المدينة التى بدت أكثر قسوة خلال الأيام الأخيرة}ز ويحلم بذكريات الحبيبة (الغائبة) ويهاتفها -فى الخيال- ويدعوها للحضور، غير أنه يتصور ما ستفعله، حين تنظر إلى {خيط المطر على الأرض وامتلاء الحفر بالمياه وغوص السيارات الطائشة فى الطين ورشرشته على جدران البيوت والأرصفة} . وكأنها رؤية السارد للقاهرة (فى الأيام الأخيرة). ويمر السارد على ميدان الأوبرا (القديمة)، ليستدعى التاريخ، كى يلقى بحمولته الدلالية، والتى تساعد فى رؤية مصر الماضى والحاضر، فيرى تمثال إبراهيم باشأ مشيرا بإصبعه لم يزل، فيتوهم أنه يشير إليه، فيسأله: أتقصدنى أنا؟ ولما لم يسمع إجابة يدور حوله، فيجده فى كل اتجاه يشير إليه. ثم { لف وراء التمثال، وجه نظره باتجاه الإصبع.. تأكد أن الإشارة على امتدادها تقصد محطة مصر}. ولكى نُدرك الرؤية المستترة وراء تلك الإشارة، يجب أن نعلم أن إبراهيم باشا، الإبن الأكبر لمحمد على باشا، ومن يعرف ببانى مصر الحديثة، وأن ابنه- الخديوى إسماعيل- مفتتح قناة السويس أمام الملاحة العالمية- هو الذى أمر بعمل التمثال- تخليدا لوالده -، وقد عرف إبراهيم باشا  بأنه أعظم القادة العسكريين فى القرن التاسع عشر. وعيَّنهُ والده قائدا للحملة المصرية ضد الوهابيين فى العام 1819، لإخماد ثورتهم، فقضى على حكمهم. فأن يشير إبراهيم باشا إلى السارد، فهو ما يعنى تحميله الأمانة، إلا ان تبين السارد فى النهاية بأن الإشارة إلى محطة مصر، بما تعنيه من السفر، والمغادرة، وكأنها رؤية أخرى لليأس والإحباط. فتكون النتيجة التى تتضح مع نهاية القصة، حيث تقرر (هى) مهاتفته هذه المرة لتخبره {أنا لست لك} وكأنها تضع كلمة النهاية.لا نهاية القصة، ولا نهاية حكياتهما معا، وإنما نهاية الحياة، بالنسبة له، وبالنسبة لصلاحية المجتمع للعيش فيه. حيث يعبر شارع عماد الدين، لتطير حمامة من سطوح. تتماوج، ثم تعود للسطح ، ثم تظهر ومعها تشكيل من الحمام {ثم بدأ يترنح يمينا ويسارا كمن فى حلقة ذكر، وسرب الحمام يهبط ويهبط، حتى بدأ يطير من حوله كحمام الحمى، دار الحمام دورات خفيفة أحدثت هفيفا دغدغ جسده، ليواصل تمدده على الرصيف ... تداولت صفحات الفيسبوك صورة لرجل على مشارف الأربعين، ميتا على الرصيف أول شارع عماد الدين، محاطا بكومة من حمام ميت كان يهبط من أعلى}. لنتبين أن السلام، والوئام، قدما ماتا. أو انه انتحر، مثلما انتحر كل الأصدقاء فى قصة "كباش برباره".

 ومن ذات القصة "رفيف أجنحة الحمام" نجد الإشارة إلى (الكشرى) {فكر فى الكشرى، لكنه عدل عن الكشرى لأنه يهيج معدتها المصابة بارتجاع فى المرئ, وفكر فيما كان يمكن أن يكون لو أن الكشرى لا يستثير معدتها}. ثم نعود لذات النقطة ، ولكن برؤية أخرى، فى القصة التالية "نقطة الاتكاز" ليبدأها{لم ألحظها تتناول أقراصا ما، قبل الطعام، ولا منتصفه، ولا بعده}. ثم نتعرف على الحبيبة (المفارقة) والتى اتخذت قرار الانفصال، رغم تعلقه المرضى بها{كأنها محور الكون أو نقطة ارتكازه}. فنجدها تلتهم الكشرى بنهم، بعد أن تضيف إليه أكياس الشطة. وعلى الجانب الآخريلمح العجوز التى تتابعهما من بعيد، والتى تعطيه كيسا به ميدالية، فيمنحها مبلغا من المال، فتسرع به إلى محل الكشرى، وتشترى كيسا من الكشرى، تُبعد أكياس الشطة {وبينما تهم بالتقاط أول ملعقة خبطت فخذها بيدها كما لو تذكرت شيئا من الدواء، والتقطت حبتين}. كما نلحظ أن الحديث الذى دار بين الحبيب المغدور والحبيبة المفارقة، دار حول "مصر الجديدة"، و "البارون إمبان"، مؤسسها.ونتبين أن الحبيبة (المشتهاه) فى "رفيف الحمام" كانت لا تأكل الكشرى، ولا تحب الشطة. بينما الحبية-0المفارقة-، والتى تم الانفصال – منها- دون عناء، كأن شيئا لم يكن- تلتهم الكشرى، والمزيد من الشطة. فى الوقت الذى نجد فيه العجوز، تأكل الكشرى، لكنها تنتزع منه الشطة، وتأخذ الأدوية.  ولذا كان وجود العجوز مرتبطة بسيرة مصر الجديدة، فقد حضرت العجو، فى ذهن السارد، برمزيتها الدالة على الماضى، (العجوز) و(البارون إمبان)، لتمثل لها الحب المشتهى، الحب الذى كان، ولم يعد. وكأنها الحنين للماضى، ورفض الواقع. ولنتأكد من أن الكاتب يصنع متتالية قصصية، ارتبطت فيها ببعضها البعض، وكأنها وحدة واحدة.

 وهى ذات الرؤية التى يمكن استخلاصها من القصة التالية –فى المتوالية- "مقهى الحرية" وحيث لا تأتى التسمية عشوائية. فالسارد يبحث عن الصديقة التى يستطيع أن يبوح لها بدواخله و "الحرية فى التعبير، فى الوقت الذى لم يعد فيه من صديق (حقيقى)، وقد اصبحت {هذه المدينة تحتاج إلى رفيق، نستمتع معا بجمالها ونسخر من قسوتها وعشوائيتها، نحلم بنظام جدبد، يسمح للإنسان أن يكون إنسانا بالفعل}. إلا أن هذه الصديقة، تتهرب منه، ليصير البحث عن الذات. فالسارد يبحث عن نفسه{ لو كانت معى الآن لكنا ذهبنا إلى الجمالية وسعينا وراء كائن يشبهنى، أظنه أفلت من التاريخ وأقام فى خلوة بخانقاه أو تكية يبدو أن هذا الكائن هو السبب فى تباعدنا الآن}. فالسارد يرى نفسه وقد اصبح فى عالم غير عالمه، حيث لعب الإنترنت، وساهم فى عملية التباعد تلك. فأفرغ حياة البشر من الأحباب، والأصدقاء.

القصة الحالة أو القصة الصورة
فى القصص السابقة، اعتمد الكاتب على وجود الحركة فى القصة، بمعنى وضوع (الدراما) فيها، مما جعل من عملية التأويل متاحة. غير أن المجموعة تحتوى على عدد من القصص، يمكن أن نطلق عليها "الفصة الحالة" بمعنى خفوت صوت الحركة، لتبدو القصة كما لو كانت حالة، تبدو فى ظاهرها، منزوعة الرؤيا، وهو ما يفقد القارئ الإشباع المطلوب، أو بمعنى آخر، لا تجيب عن السؤال التقليدى الذى لابد يسأله عقب كل قصة: ماذا يرد أن يقول؟ إلا أن الرؤية (الكلية) هى ما يجيب عن السؤال. فمثلا فى قصة "القصير والبدين" وفى القطار، نتعرف على شخص بدين، بل مفرط فى البدانة، يجلس فى كرسى بجوار شخص قصير جدا ونحيل، راح-القصير- يتململ فى كرسيه من فرط انحشاره بين البدين والشباك، فيفر من المكان. ويصدر من البدين رائحة كريهة ، كرائحة {بالوعة مسدودة فى مستشفى عام}، تُنفر الركاب جميعا من الاقتراب من المربع الجالس فيه، والذى فر منه أيضا القصير والسارد، رغم ما بالقطار من ازدحام. الأمر الذى جعل البدين ينفرد بالأربعة مقاعد يتمدد فيها بثقة {كمالك للقطار}.

فالأمر هكذا يبدو كما لو أنه صورة ثابتة، للبدين متربعا على أربعة كراسى، بينما الركاب واقفون. لنرجع إلى الصورة الرمزية التى تحول الرؤية إلى النظر للبدين على أنه تمثيل الوجهاء، أو السادة (الحيتان) وهم يتمتعون بالبراح، على حساب باقى البشر من القصيرين، والمهضوم حقوقهم. أما الرائحة المنبعثة من مؤخرته، فليست إلا رائحة الفساد. إلا أن الرؤية ليست بهذا التجريد، حيث أضفى الكاتب بها من الواقع الذى يمكن معه تصور الموقف والتعايش معه، فيرى نفسه أحد شخوص القصة، لينغرس فيها. فيأتيه الإحساس بأن الإبداع يعبر عنه.

غير أنه ربما تتضح الصورة أكثر، ونتعرف على من هو البدين، فى قصة "صوت غليظ خشن لامرأة بدينة سمراء، متغضنة الوجه". أراد الكاتب أن يقرب الرؤية من القارئ بهذا العنوان الواصف الطويل " صوت غليظ، خشن، لامرأة بدينة، سمراء، متغضنة الوجه". حيث تمنح كل تلك المواصفات التى يضفيها على المرأة، التابعة، فما بالنا بوصف الزوج نفسه .

ففى القصة نتعرف على "أحدهم"- أيضا- يجلس فى القطار. والذى أراد به – فى الظاهر- أن يمثل القطار، الحياة بكاملها، بينما الرؤية المستبطنة، نراه القطار المحلى، الذى ربما قطار الأقاليم. يُشعل الرجل السيجارة الرابعة، بينما تعنفه زوجته، كى يحافظ على صحته، فنتعرف منه أن ابنه  يدخن أيضا، لكنه يدخن السجائر الأجنبية. ولنعرف أنه لم يتزوج، أى انه (الحيلة)، لنصبح أمام رؤية عائلية لأحد هؤلاء (البدناء). يستأذن الرجل فى الذهاب إلى الحمام، بينما يأتى الكمسارى، فتخبره الزوجة بأن التذاكر مع زوجها، فيُصر الكمسارى أن تدفع ثمن التذكرة، وتخبره أن (الفلوس) كلها مع زوجها، ويتبرع البعض بدفع قيمة التذكرة، كرؤية مجتمعية تعبر عن شعور الطائفة الأخرى (المهمشة)، لكن الشهامة تأخذ الكمسارى أخيرا ليتحمل هو ثمن التذكرة، لكنه يتاعس عن ذلك، ويجلس لمراجعة دفتر التذاكر. ويأتى الرجل، ويعرض سيجارة على الكمسارى، بعد أن سلم عليه كما لو أنهما أصحاب، ويستمر الكمسارى فى فحص دفتره.

فهنا تحول الرجل البدين إلى إمرأة بدينة، وزوجة لمن يرشى (الحكومة) الممثلة فى الكمسارى، فلا تذاكر يدفعونها. ولتتحول القصة إلى رؤية كلية، ربما كان فيها الرد على أنصار ما يسمى بالقصة القصيرة جدا، أو القصة الومضة، الخالية من القصة، حيث تتحقق المعايشة المفقودة في اللاقصة .

وقد شملت تلك الحالة، او الصورة، بعض المحاولات القصصية التى تتناول مسيرة الإنسان الحياتية على الأرض، مثلما نجد فى  "قصة "رائحة سكر محروق" حيث نجد دائرة التيه تتسع، لتشمل الإنسان فى كل مكان. فيصح الرجل وقد تاه عن أقرب الناس إليه- زوجته وابنتيه- فلا يتعرف عليهم وكأنهم أناس غرباء. لكنه بعد فترة يتعرف عليهن، فيحمل كتاب "فلسفة الحياة" ويخرج إلى الشارع، حيث يتحول الخروج هنا إلى الخروج من الحياة، تاركا الأقربين إليه، وهو ما يربط الوجود بالاعتراف، أو إنهاء حالة الغربة ، وكأنها مسيرته على الأرض، أو "فلسفة الحياة".

وهى ذات الرؤية التى يمكن أن نخرج بها من قصة "الصورة للذكرى"حيث غاب الرجل عن الحياة عندما وصل السبعين من العمر، حتى أن ابنه الذى لم يفلح فى التعليم، غَيَرَ واجهة الدكان الذى كان للوالد، من مكوجى الرجل، إلى "ست البنات لمستلزمات الستات". وكأن حياة الرجل قد تلاشت واختفت مثلما تلاشت ذاكرته، ومهنته.

وهى أيضا تلك الرؤيا التى نجدها فى قصة "ناظر محطة العريش" والتى تتحدث عن اندثار محطة العريش ، تلك التى كانت تستقبل إناسا، محملة جنوبهم وحقائبهم بطمى الدلتا، وتأخذ

أناسا تبرق فى عيونهم رمال الصحراء.

رحلة طويلة ممتدة، بحث فيها فؤاد مرسي عن نفسه التى تاهت، فى دوامات الماضى والحاضر، الوجود المادى والغياب المعنوى. غياب الحبيب والصديق، ورغبة البوح. فى عالم، ومجتمع، دهس فيه الكبير الصغير، والبدين الرفيع. وأصبح مذاق الحار فيه واللاذع، يحل محل الهدوء والسكينة. فى مجتمع غاب فيه الإنسان، وحل محله .. فراغ أبيض.. وأصبح مجرد .. كائن مختف.

 

[i]  -  فؤاد مرسى – فراغ أبيض بحجم كانئن مختف – سنابل للكتاب-  ط1  2021.