يتناول الباحث مسألة العنوان ويرى له خاصيتين أساسيتين، أنطولوجية ووظيفية، تتيحان للعنوان ممارسة التعدد وذلك بتعدد الأعمال ذاتها. وعليه يتناول العنونة في التراث الإسلامي من حيث النشأة والتطور، والمميزات السياقية للشكل والمحتوى للعنوان.

العَنْوَنَة بين تشكل المفهوم وتطوّر الدلالة

العـربي مصابـيح

 

1- مفهوم العنوان:

1-1- لغة:

جاء في لسان العرب: "وعننت الكتاب وأَعننتُه لكذا أي عرضته له وصرفته إليه وعنّ الكتاب يَعُنه عنّا، عنّنته: كعنونه وعنونته وعلونته بمعنى واحد، ومشتق من المعنى وقال اللحياني: عننت الكتاب تعنينا وعنّيته تعنية إذا عنونته، أبدلوا من إحدى النونات ياء ونسمي عنوانا لأنه يعن الكتاب من ناحيته وأصله عًنّان فلما كثرت النونات قلبت إحداها واوا ومن قال علوان الكتاب جعل النون لاما لأنه أخف واظهر من النون، ويقـال للرجل يعرّض ولا يصرح: قد جعل كذا وكذا عنوانا لحاجته، وأنشد:

وتعرف في عنوانها بعض لحنها وفي جوفها صمعاء تحكي الدواهيا

قال ابن برّي: والعنوان الأثر، قال سوار بن المضرب:

وحاجة دون أخرى قد سنحت بها جعلتها للتي أخفيت عنوانا

وقال: كلما استدللت بشيء تظهره على غيره فهو عنوان له كما قال حسان بن ثابت يرثي عثمان رضي الله عنهما:

ضحّوا بأشمط عنوان السجود يقطع الليل تسبيحا وعنوانا

قال الليث: العلوان لغة في العنوان غير جيدة، والعنوان بالضمّ، هي اللغة الفصيحة.

وقال أبو داود الرواسي:

لمن طلل كعنوان الكتاب ببطن أوراق أو قرن الذهاب

قال ابن بري: "ومثله لأبي الأسود الدؤلي؛ (قال تعالى: ولتعرفنهم في لحن القول: أي في معناه وفحواه)"(1).

"وروى المنذر عن ابن الهيثم أنه قال: العنوان واللّحن واحد وهو العلامة يشير بها إلى الإنسان ليفطن بها إلى غيره. تقول لحن فلان بلحن ففطنت له، وأنشد:

وتعرف في عنوانها بعض لحنها وفي جوفها صمعاء تحكي الدواهيا

قال:ويقال للرجل الذي يعرّض ولا يصرح: قد جعل كذا وكذا عنوانا لحاجته وعنوانا"(2).

"وعلوان الكتاب سمته، علونته علونةً وعلوانا، وعنونته عنونة وعنوانا، قال أبو زيد: علوان كل شيء ما علامته وهو العنوان"(3).

"وعنوان الكتاب مشتق فيما ذكروا من المعنى، قال ابن سيدة: وفي جبهته عنوان من كثرة السجود، أي أثر، حكاه اللحياني وأنشد:

وأشرط عنوان به من سجوده كركبة عنز من عنوز بني نصر"(4).

فالعنوان لغة هو السّمة والعلامة والأثر يستدل به على الشيء بوجه من وجوه التعريض لا التصريح.

في البدء كان العنوان، فما من أثر إلاّ وله عنوان يشترك في هذا ما نزل من السماء وحيا وما كان من الأرض وضعا، وتتفق في هذا الصنائع والفنون والعلوم والآداب فيما أنتجت مجردا أو مجسما؛ فبالاسم تتمايز الأشياء وتفترق ويرفع اللبس وتذهب الحيرة ويحل الاطمئنان كلّه أو بعضه.

ورد في اللّسان أنّ أبا العباس قال: "رسم وسمة توضع على الشيء تعرف به"(5)، وقال ابن سيدة: "والاسم اللّفظ الموضوع على الجوهر أو العرض لتفصل به عن بعض كقولك مبتدئا: اسم كذا وكذا"(6).

وقريب من هذا قول أبي إسحاق: "إنّما جعل الاسم تنويها بالدلالة على المعنى، لأنّ المعنى تحت الاسم"(7). أمّا ابن بري فقد أثر عنه قوله: "[…] وكلما استدللت بشيء تظهره على غيره فهو عنوان له"(8).

فالاسم رسم وسمة وعنوان يوضع للدلالة على الشيء أو الفصل والتمييز بينه وبين غيره.

"غير بعيد عن هذا ما قرّره معجميو اللغات ذات الأصل اللاتيني في هذا الباب من لغاتهم فلفظة Titre بالفرنسية أو Title بالإنجليزية أو Titroالإيطالية أو Titolo بلإسبانية تنحدر كلها من اللفظة اللاتينية Titulus هـي تعني اللافتة تعلق علـى الدكان والملصقة توضع على القارورة تبين محتواها، كما تعنـي المعلقة في عنق العبد أُعدّ للبيع، وقائمة مناقب الأسلاف، والكتابة عند رأس يسوع الناصري مصلوبا"(9).

ثمّة إذن تعريف وفصل وتنويه ودلالة وإظهار هي وظائف العنوان أو الاسم فهو إما وسم يعرف الموسوم أو لفظ بين الموجودات أو اسم يكشف محجب المعنى أو عنوان يظهر الحاجة يعرض ولا يصرح. وإذا كانت هذه المعاني قد زالت فإنّ أثبتها في الاستعمال أو أجراها على اللسان أو أشيعها بين الناس هو ما تعلق بوسم النص حتى صار العنوان بالنسبة إلى النص علامة وإمارة وجود.

1-2- اصطلاحا:

يعرف Leo.h.hoek العنوان بقوله "هو مجموعة من العلاقات اللسانية قد ترد طالع النص لتعيينه تعلن عن فحواه وترغب القراء فيه"(10).

وتعرف فيري (Ferry) العنوان بأنّه: "كلام مكتوب فوق نص القصيدة في الفضاء الذي كان قد احتله هذا الكلام منذ المراحل الأولى للطباعة"(11).

ومع أن فيري تقتصر في تعريفها هذا على عنوان القصيدة، فإننا نجده ينطبق أيضا على ألوان أدبية أخرى، كالقصة، الرسالة وغيرهما.

ويورد جينيت (G.Genette) في مقال تعريف ليوهويك (Leo hoek) للعنوان والذي يولي فيه القارئ أهمية قصوى، بحيث يقول: "إنّ العنوان مبني وشيء مصنوع لغرض التلقي والتأويل"(12).

والاسم عند مجدي وهبة هو: "الاسم الذي يدل عادة على موضوع الكتاب، كما قد يعني مكان الإقامة"(13). ونلاحظ أن التعريفين الآنفين هما تعريفان أوليان وضيقان للعنوان، لأنهما يحصران دوره في الإشارة للعمل فحسب.

أما محمد فكري الجزار فنراه يعرف العنوان بشكل موسع مقارنة بالتعاريف السابقة مستعينا بمعاني هذه الكلمة (العنوان) الواردة في معاجم اللغة العربية فيبدأ في القسم الأول من كتابه بهذا التعريف الأولي اللغوي، والذي لا يعتبره مختلفا عن التعريف الاصطلاحي له: "العنوان للكتاب كالاسم للشيء، به يعرف وبفضله يتداول، يشار به إليه، ويدل به عليه، يحـمل وسم كتابه، وفي الوقت نفسه يسمّى العنوان –بإيجاز يناسب البداية– علامة من الكتـاب جعلت عليه"(14).

وبعد هذا التعريف يخوض الجزار في الدلالات المعجمية لكلمة العنوان، بحيث يعيدها إلى مادتي "عنن" و"عنا" ويقسمهما إلى دلالات لغوية تحوي الكلمات: "القصد والإرادة" "الظهور والاعتراض"، "الوسم والأثر"، ودلالات اصطلاحية وردت على شكل جمل، كما يقول ابن بري (1106م-1187م): "كلما استدللت بشيء تظهره على غيره فهو عنوان له" أو في قول ابن سيدة (1007م–1066م): "العنوان سمة الكتاب" ويرى الجزار أن قول ابن بري يدل على أن العنوان يحصر المعنى، أما قول ابن سيدة فيشير إلى العنوان باللغة الكتابية لا الشفاهية يَسِمُ العمل، ويعوضه عن غياب السياق المنطوق في الكلام الشفهي"(15).

أما بالنسبة للدلالات اللغوية التي ذكرت سابقا فإن الجزار يعتبرها حافة وذات علاقة بالدلالات الاصطلاحية، ونراه يدأب على توضيح مثل هذه العلاقة، فالقصد والإرادة يرتبطان عنده بكون المرسل ينطلق من مقاصده في إرساله العنوان للمتلقي، وهذا العنوان يحمل "المرسلة" في دلاليته، وهذا الحمل هو قصد المرسل وإرادته إبلاغ المتلقي بتلقي المرسل على مستوى التجنيس والموضوع. أما "الظهور والإعراض" فيختصّان بالمستقبِل (المرسل إليه) لأن العنوان هو ما يظهر له ويعترضه من العمل، إذ أنه أول ما يتلقاه من هذا العمل، مفعِّلا في ذلك معارفه الخلفية.

ولما كان العنوان شديد الافتقار والاختصار على الصعيد اللغوي، فإن التفاعل بين تلك المعارف السابقة وبينه يتم بشكل قريب من التداعي الحر بين دوال العنوان وموضوعات تلك المعرفة ومنه تولد الدوال دلالاتها بالرغم من افتقارها اللغوي. ويؤكد "الوسم والأثر" على استقلال الوسم أنطولوجيا عما يسمه، والأثر عن حامله، أي استقلال العنوان عن نصه، رغم نسبته إلى عمله، أو نسبة عمله إليه"(16).

إذن نحن أمام خاصيتين للعنوان، خاصية أنطولوجية (استقلاله)، وخاصية وظيفية (نسبته إلى عمله) وهاتان الخاصيتان تتيحان للعنوان ممارسة التعدد الوظيفي وذلك بتعدد الأعمال ذاتها.

* * *

2- العنونة في التراث الإسلامي:

النشأة والتطور:

ارتبـط بزوغ شمـس الحضارة الإسلامية وتطـورها بتـدوين المعـارف والعلــوم وتصنيفها، وتعتبر العنونة مظهرا من المظاهر التي عكست هذا البزوغ، فقد تطور نظام العنونة في الثقافة الإسلامية تطورا ملحوظا مس جميع الجوانب المعرفية والعلمية التي صاحبت التطور الكبير لمعـالم الحضارة الإسلامية انطلاقا من مركزية القرآن الكريم، باعتباره كتاب عقيدة وشريعة ومنهج حياة.

2-1- القرآن الكريم: لم يعرف التاريخ كتابا سمي بـ"القرآن" فهو اسم خاص بالكلام المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو أول عنوان وأول اسم جنس دال على "الكلام المعجز المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم المكتوب في المصاحف، المنقول عنه بالتواتـر، المتعبد بتلاوته"(17). فقد وظف هذا العنوان بدلالة عنوانه للدلالة على هذا الخطاب المعجز.

وكان من الطبيعي أن تظهر للقرآن أسماء جديدة إضافة إلى الأسماء الأخرى التي وجدت في القرآن نفسه كالفرقان، والتنزيل، والذكر، والكتاب، بعد أن جمع القرآن في عهد عمر رضي الله عنه، يقول صبحي الصالح: "ويبدو أن تسمية القرآن بـ"المصحف" نشأت في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد أخرج ابن أشته في كتاب "المصاحف" عن موسى بن عقبة ابن شهاب قال: لما جمعوا القرآن وكتبوه على الورق قال أبو بكر رضي الله عنه: "التمسوا له اسما" فقال بعضهم: "السفر" قال: "ذلك اسم تسميه اليهود" فكرهوا ذلك، وقال بعضهم "المصحف" فإن الحبشة يسمون مثله، فاجتمع رأيهم على أن يسموه المصحف"(18).

وبذلك صارت هذه التسمية عنوانا جديدا للقرآن الكريم، أصبح القرآن يحمل عنوانين:

- القرآن وهو عنوان توقيفي متصل بطبيعة المادة.

- المصحف وهو عنوان تواضعي عملي متصل بشكل المادة.

وبالتالي فالقرآن والمصحف من أقدم العناوين في تاريخ الثقافة الإسلامية، ويتربعان على قمة العناوين في عصر التدوين.

وأصبح القرآن الكريم مع توالي الزمن منطلقا للعديد من المؤلفات والمصنفات والكتب التي تناولته بالشرح والتفسير عارضة مختلف مواطن إعجازه وكاشفة عن خبايـاه العلميـة والأدبية وكذا خصائصه اللغوية والدلالية والصوتية، ومر التدوين إجرائيا بثلاث مراحل أساسية هي: مرحلة

الجمع والنقل، ثم مرحلة التدوين، وأخيرا مرحلة الترتيب والتصنيف والتبويب.

تعد المرحلة الأولى حاسمة لتركيزها على تحصيل ما في الصدور من معارف، وتطلب ذلك جهدا كبيرا تجسد في شدة الحرص على طلب كل ضروب المعرفة ووضع الأسس الواقية من الوقوع في الزلل، والتثبت مما يجمع وينقل.

أما المرحلة الثانية فكانت مرحلة التدبر فيما تم جمعه وتدوينه تمهيدا للاستفادة منه في فهم القرآن والحديث في المقام الأول، والعلوم الأخرى على هامش الأصول الكبرى في المقام الثاني وهي المرحلة التي صنفت فيها أمهات الكتب التي وضعت الثوابت المعرفية الأساسية للثقافة الإسلامية.

أما المرحلة الثالثة فيمكن اعتبارها مرحلة إعـادة التأمل فيما تم تدوينـه من معـارف بالشرح والتعليق والتفسير ووضع الحواشي، والملاحظ أن الخطـاب النقدي العربـي في هذه المرحلة لم يهتم بالعنـوان الخاص بالمعارف والعلوم الأخرى بمثل ما كلف بالنص القرآني فيما سموه علوم القرآن؛ إذ وجدناهم يهتمون بتأويل أسمائه وأسماء سوره حتى لا يكاد يخلو منها مؤلف، وورد في هذه الكتب مجتمعة باب رئيس متعلق بسر تسمية القرآن وسوره، فقد سماه الزركشي في البرهان "النوع الخامس عشر في معرفة أسمائه واشتقاقاتها"(19). وسماه السيوطي في الإتقان "الباب السابع عشر في معرفة أسمائه وأسماء سوره"(20). وفي هذين البابين فُصِّلَ ذكر الأسماء وفُسِّرَت ألفاظها وتُؤُولت مقاصدها.

وقد واجه الفكر الإسلامي قضية التسمية في القرآن الكريم وفرعها إلى ثلاث مسائل هي: وفرة الأسامي، والهجنة، ومبررات اختيارها. أما تعدد الأسامي فلم يُر فيه عيب، بل حول إلى علامة رفعة وعلية منزلة، قال السيوطي: "قد يكون للسورة اسم واحد وهو كثير، وقد يكون لها اسمان وأكثر، من ذلك الفاتحة وقد وقفت لها على نيُّف وعشرين اسما وذلك يدل على شرفها، فإن كثـرة الأسماء دالة على شرف المعنى"(21).

أما مسألة ما استُهجن من الأسماء –استهجنه المشركون– وما كُرِهَ منها –كرهه الأئمة– فقد انتهى فيها السيوطي إلى رأي، فقد رأى أن التسمية توقيفية لا خيار للمؤمن فيها إلا بالقدر الذي تسمح به بنية الجملة العربية، فإذا كان الله قد كفى المؤمنين شر ألسن المشركين فعلى المؤمن الكاره التسمية أن يعدل بها من تركيب إلى تركيب يزيل الإبهام ويحفظ العقيدة.

وقد أخرج ابن أبـي حاتم عن عكرمة قـال: "إن المشركيـن كانـوا يقولـون سورة البقرة والعنكبوت يستهزؤون فنزل "إنا كفيناك المستهزئين"(22)، وقد كره بعضهم أن يقال سورة كذا لما رواه الطبراني عن أنس مرفوعا "لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النساء وكذا القرآن كله قولوا السورة التي تذكر فيها البقرة والتي يذكر فيها آل عمران وكذا القرآن كله"(23).

أما ثالثة المسائل فتدل على أن مسألة الأسامي في النص القرآني مسألة خلافية أشد تعقيدا فالوجه الأول منها أن هذه الأسامي جاءت مراعية للسائد مفارقة له في آن، يلمس ذلك في قول السيوطي: "قال الجاحظ سمى الله كتابه اسما مخالفا لما سمى به العرب كلامهم على الجمل والتفصيل، سماه جملة قرآنا، كما سموا ديوانا وبعضه سورة كقصيدة وبعضها آية كالبيت وآخرها فاصلة كالقافية"(24).

أما وجه المسألة الثاني فإن هذه الأسامي تدل على تواصل الرسالات ووحدة مصدرها قدر دلالتها على تفاضل بينها واختلاف وعلى ذلك أدلة منها قول السيوطي: "أخرج ابن الضريس وغيره عن كعب قال: "في التوراة: يا محمد إني منزل عليك توراة حديثة تفتح أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا" وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: "لما أخذ موسى الألواح قال: "يا رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في قلوبهم فاجعلهم أمتي" قال: "تلك أمة محمد"(25).

ثم يقول السيوطي معلقا: "ففي هذين الأثرين تسمية للقرآن توراة وإنجيلا، ومع هذا لا يجوز الآن أن نطلق عليه ذلك، وهكذا سميت التوراة فرقانا في قوله: "وإذ آتينا موسـى الكتـاب والفرقان"(26)، وسمى الرسول صلى الله عليه وسلم الزبور قرآنا في قوله: "خفف على داود القرآن"(27).

أما السور فقد أثبت العلماء أن لها في الكتب السماوية تسميات أخرى هي من المنكر والمضعف والصحيح تتراوح، فسورة "الملك" (تبارك)، يقول السيوطي: "في تاريخ ابن عساكر من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها المنجية، وأخرج الطبراني عن ابـن مسعود قال: “كنا نسميها في عهد رسول الله المانعة"(28).

أما تسمية القرآن ذاته فور خروجه من طور الحفظ والمشافهة حتى استوى على أيديهم كتابا فقد احتار المسلمون هل يسمونه بما عُرِف في الأديان الأخرى وتواتر، أم يختلقون له اسما حادثا لم يُسبَقوا إليه، ذكر الزركشي في البرهان فائدة جاء فيها: "ذكر المظفري في تاريخه:” لما جمع أبو بكر القرآن قال سموه، فقال بعضهم: سموه إنجيلا فكرهوه، وقال بعضهم: سموه السفر فكرهوه من يهود، فقال ابن مسعود:” رأيت للحبشة كتابا يدعونه المصحف فسموه به"(29).

2-2- علوم القرآن القراءات:

كان النصف الثاني من القرن الهجري الأول البداية الفعلية للعنوان التخصيصي في علوم القرآن ونشوء مدارس القراءات على يد عدد من التابعين تلقوا القراءات عن الصحابة في المدينة والكوفة والبصرة، وأقدم كتاب معروف في الموضوع كتاب عنوانه "كتاب في القراءات" ليحي بن يعمر (ت.89هـ/ 707م) وهو أحد تلاميذ أبي الأسود الدؤلي، وكتاب آخر لعبد الله بن عامر اليحصي (118هـ/ 736م) وعنوانه "اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق" والراجح أن كتبا أخرى قد جرى تصنيفها في هذه المرحلة في ضوابط القراءة وقواعدها، وفي اختلاف المصاحف المستعملة في مختلف الأمصار ولكن عناوينها لم تصل إلينا.

ويلاحظ في عناوين هذه المرحلة -على قلتها- إشارتها إلى المضمون إشارة مباشرة، زيادة على بساطة تركيبها، ووضوحه، وهي لا تعطي الانطباع بوجود تخصيص لمجال دون آخر. وأهم ما تميزت به عناوين هذه المرحلة ما يلي:

1- البساطة وتتجلى في الإحالة إلى طبيعة الجهد الذي لا يخرج في الغالب عن دائرة القراءة والتفسير.

2- الإحالة المباشرة إلى المضمون والابتعاد عن التكلف اللغوي، والإطناب، ولذلك أسباب أهمها طبيعة المجال المشتغل فيه (القرآن الكريم)، وكذا طبيعة المرحلة التي تشكل بداية لجهود محتشمة كانت تدور في المضامين الظاهرة والواضحة دون كبير توغل وكثير تأويل.

3- غلبة الصفة التقريرية في بعض العناوين وهو ما يفسر طول بعضها (كتاب اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق).

4- تشابه عدد من العناوين في الصيغة كـ"كتاب المقطوع والموصول" الذي نجده عند عامر وعند حمزة الزيات، وكـ"كتاب القراءة" الذي نجده عند "ابن كثير"، وكذلك عند "نافع" ويعود ذلك إلى عدم نضج فكرة العنوان لدى المصنفين الأوائل، فغالبا ما ينسب مضمون الكتاب إلى مصنفه ولذلك أسباب تتمثل في قلة المصنفات مقارنة بالمراحل الآتية، وفي الحرص على الرواية الصحيحة التي تستند على التأكد من هوية المصنف، وهو مرتكز أخلاقي وحضاري يرفع اللبس والغموض.

5- الراجح أن عددا من الكتب والرسائل لم تصل إلينا في الشكل والصورة التي صيغت بها ويحتمل أن تكون العناوين الحقيقية لهذه المصنفات ضاعت وعوض عنها بعناوين تقريرية ومباشرة، وهو ما يرجح تناقلها مشافهة في أول الأمر، ثم تدوينها بعد ذلك.

6- أصالة هذه العناوين ظاهرة وواضحة، فلا أثر فيها للمؤثرات الأجنبية الدخيلة، لأنها من صميم هذا الدين الجديد ومن جوهره.

وعلى العموم ففكرة صياغة العنوان وبنائه في هذه المرحلة لم تكن جلية وواضحة نظرا للأسباب المذكورة آنفا، فالإشارات الواردة في عناوين هذه المرحلة تعبر بشكل من الأشكال عن المدونة فإذا قيل مثلا "كتاب ابن عباس" فهذه العبارة عنوان على مدونة لابن عباس دون فيها ما فسره من آي القرآن الكريم وملاحظات أخرى(30).

إن الغالب على عنوان هذه المرحلة هو الطابع التداولي الرامي إلى التسهيل على الراغب في التعرف على المضمون مع ربطه بالمصدر المتمثل في اسم المؤلف، وإن كان ضبط القراءة والتوضيح والتفسير هو عمق الجهد المطلوب في هذه المرحلة فإن علة ذلك هي الحاجة إلى الفهم الصحيح للقرآن الكريم والمحافظة عليه.

2-3- العنونة وجهود تدوين الحديث:

تطورت العنونة شيئا ما بالموازاة مع تطور حركة التدوين والتأليف، ويُلمس ذلك من خلال بعض الكتب المصنفة مثل "صحيفة" عبد الله بن عمرو بن العاص (الصادقة) التي تعتبر أول مدونة في الحديث وأول عنوان فيه، و"صحيفة" جابر بن عبد الله و"الحديث" لنبيط بن شريط الأشخصي الكوفي وأمثالها من المصنفات(31).

الطابع الغالب على هذه العناوين هو عدم خروجها عن الإشارة إلى طبيعة المصنف بالاكتفاء بالإحالة على المادة التي كتب عليها النص (صحيفة) أو بنوع المادة المكتوبة (حديث) ونسبة ذلك إلى مدونها أو الذي وجدت عنده ساعة التصنيف والجمع دون الاعتناء بموضوع المصنف أو محتواه، الأمر الذي يسمح بأن تتطور بنية العنوان على هذه الصيغة: الحالة (حديث، صحيفة)+اسم المصنِّف.

ولا تعكس هذه العناوين وعي العقل خلال هذه المرحلة بأهمية العنوان، لأنه لم يكن غاية في حد ذاته، فقد ظل مجرد دال على شكل ومضمون المُعنوَن، الأمر الذي يعكس انشغال علماء الحديث برغبة الإسراع في تدوينه مخافة موت حملته الذين قضى عدد منهم في الفتوحات الإسلامية، وعرف هذا الجهد فيما بعد بمصطلح "تقييد الحديث".

مهدت هذه المرحلة لظهور علوم الحديث التي اهتمت بتصنيف الحديث من خلال الكتب التي تحمل عناوينها عبارة "مصنف"، و"سنن"، و"موطأ"، و"جامع"، و"صحيح"، "العلل ومعرفة الرجال" لأحمد بن حنبل، و"طبقات الرواة" لأبي عمرو خليفة بن خياط، التي حملت بوادر علوم الحديث الأساسية كعلم الرجال ولم الجرح والتعديل وطبقات الرواة ونتلمس في عدد من العناوين البواكير الأولى استقلال كل علم بشخصيته وتخصصه كعلم قائم بذاته.

وتبدو هذه العناوين في الأخير أحادية الاتجاه لكونها مسكونة برغبة إخبار المتلقي بالمضمون في المقام الأول، الأمر الذي لا يترك مجالا للعناية بالعنوان من الناحية الفنية الجمالية نظرا لسيطرة النزعة الذرائعية النفعية في بعدها الديني على كل العناوين.

عرف القرنان الثالث والرابع الهجريان حركة فكرية نشيطة في كافة المجالات، وعلم الحديث أحد تلك المجالات التي تجسد فيها النضج الفكري والحضاري للثقافة، والمتأمل لعناوين هذا العلم يلاحظ توجها إلى:

1- الموسوعية: وتتجلى في الدلالة على عمق البحث وكثافة الجمع (الجامع الصحيح التاريخ الكبير، كتاب الطبقات، كتاب السنن).

2- التخصص: ويتمثل في تدقيق موضوع الكتاب (كتاب الجمعة، كتاب العلل، كتاب رفع اليدين في الصلاة..)، وصار الطابع التاريخي ميزة تسيطر على أغلب العناوين نظر لارتباط علم الحديث بالتوثيق والحرص على دقة الخبر والرواية ووضع شروط صارمة لهما.

2-4- لماذا العنوان الطويل؟

وعلى مستوى الصياغة بقي في هذه المرحلة مشدودا إلى صورة الصياغة القديمة من حيث البساطة، وغلبة البنية الاسمية، وانعدام التركيب إلاّ نادرا، والارتباط المباشر بالمضمون، الأمر الذي أدى إلى صياغة عناوين طويلة، ويجسد هذا الطول النسبي لهذه العناوين التطور الذي عرفته مضامين المؤلفات والتي بدأت تجمع بين الجمع والشرح والتفسير حرصا على تقديم صورة دقيقة عن المؤلف، ويلمس ذلك بالعودة إلى "الجامع الصحيح" للبخاري، فقد قسم إلى كتب، ويدل مصطلح كتاب على الجزء أو الفصل، ولا يتجاوز العنوان "كتاب" مضافا إليه كلمة واحدة تدل على الموضوع المراد الوقوف عنه كـ"كتاب الأيمان" و"كتاب العلم" و"كتاب الوضوء" وهي بنية مركزية يجري تقسيمها إلى أبواب، ويحمل كل باب عنوانا قد يتسع طوله بحسب تشعب الموضوع كـ"باب الأيمان" و"باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأيمان والإسلام".

ومن هنا يمكن القول إن البخاري في جامعه قد كان معنيا بمتلقيه ؛ فالبعد التداولي في بنية العنوان التي تسهل على المتلقي الوصول إلى مبتغاه يتحكم فيها عاملان:عامـل ديني يتمـثل في تسهيل الوصول إلى القضية الدينية كما وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعامل موضوعي يتمثل في تنظيم المعرفة الدينية المنظمة في الصحيح.

وأهم ما يسجل من خصائص في هذه العناوين هو الكثرة والدقة والموضوعية والتنوع نتبينها من خلال بعض النماذج مثل "منحة الباري في جمع روايات البخاري" والمسمى "تحفة الباري" تأليف شيخ الإسلام ابن يحي زكريا الأنصاري(ت 962هـ)، و"شرح مشكل البخاري" لمحمد بـن سعيد بن يحي الواسطي(ت 637هـ)، و"المسك الداري لقارئ صحيح البخـاري"، و"فتح الباري" لابن حجـر العسقلاني(ت 852هـ)، وكذلك كتاب وكتاب "المتجر الربيح على الجامع الصحيح" لمحمد بن أحمد بن محمد مرزوق الحفيد (ت 842هـ)، وغيرها كثير، وهي تدل دلالة مباشرة على مضامينها المتعلقة بحاجات المتلقي المتزايدة إلى الجامع الصحيح.

ومن الخصائص المتصلة ببعض العناوين تمثيلها لطبيعة المرحلة من الناحية الفنية، فابتداء من القرن الثامن بدأ العنوان يأخذ شكلا مغايرا من خلال التركيز على الصنعة في بنائه وجرسه الموسيقي المتمثل في السجع والجناس والطباق، كما تعكس بعض العناوين صورة الحياة التي عاشها المسلمون على امتداد الرقعة الإسلامية، ويتجلى ذلك في الرياض والرياحين والأنهار والأزهار التي تضمنتها بعض العناوين مثل كتاب "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء" لصاحبه ابن حبان البستي.

(د. العربي مصابيح: أستاذ مساعد بجامعة اسطمبولي مصطفى بمعسكر- الجزائر)

* * *

الإحالات:

(1) ابن منظور، لسان العرب، ج 13، دار صادر، بيروت – ط 1، 1992.

(2) المصدر نفسه، ص 392.

(3) المصدر نفسه، ج 15، ص 92

(4) ابن منظور، مصدر سابق، مج 15، ص 106.

(5) المصدر نفسه، مج 6، ص 381.

(6) المصدر نفسه، مج 6، ص 381.

(7) المصدر نفسه، مج 6، ص 382

(8) المصدر نفسه، مج 9، ص 441.

(9) Encyclopedia Universalis. (Thesaurus index) Paris. 1990. P. 3470 A

(10) Leo. Hoek: la marque, Paris, mouton, 1982.p.17

(11) Ferry, A. The Title to the Poem. Stanford University Press. 1996.p. 1.

(12) Genette, G. Structure and Functions of the Title in Literature. Critical Inquiry 14. 1988. pp. 692-693.

(13) مجدي وهبة. معجم مصطلحات العربية في اللغة والأدب، مكتبة لبنان، بيروت، 1984، ص 262.

(14) محمد فكري الجزار، العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1998، ص 15

(15) المرجع نفسه، ص 16-18.

(16) المرجع نفسه، ص 20-23.

(17) صبحي الصالح، مباحث في علوم القرآن، بيروت، دار الملايين، 1983، ص 21.

(18) المرجع نفسه، ص 77–78.

(19) بدر الدين الزركشي، البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مكتبة دار التراث القاهرة، د. ت، مج 1، ص 273–282.

(20) جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، دار الفكر بيروت، د. ت، ص 51–58.

(21) جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، مصدر سابق، ص 54.

(22) سورة الحجر، الآية 95.

(23) جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ص ص 53–54.

(24) المصدر نفسه، ص 51.

(25) المصدر نفسه، ص 53.

(26) سورة البقرة، الآية 53

(27) جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، مصدر سابق، ص 53.

(28) المصدر نفسه، ص 56.

(29) بدر الدين الزركشي، البرهان في علوم القرآن، مصدر سابق، ص 273–282.

(30) محمد عويس، العنوان في الأدب العربي (النشأة والتطور)، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، ط1، 1988، ص 105.

(31) ابن سعد،الطبقات الكبرى، تحقيق إحسان عباس، بيروت، دار بيروت للطباعة والنشر، ج4، 262هـ، ص. 1398.