يصور القاص العراقي المقيم في هولندا تجربة أول علاقة لشاب قادم من الشرق بامرأة من الغرب، خجل وتردد وارتباك المحكوم بقيم بيئة نشأ فيها، وقوة ورصانة المرأة وهي تكتشف من الحوار الأول أغراض الراوي، فتخوض معه تجربة بفلسفة تدرك قيمة الزمن والحياة كونها تعاش مرة واحدة، والقصة مسرودة بلغة عذبة وشجن إنساني يميز نصوص جيكور صالح الإنسانية العميقة.

إنجريد

جيـكور صالح

 

إنجريد، هي أول امرأة أتعرف عليها في هذه البلاد الغريبة، بعد شهور طويلة من الوحدة والتسكع، التقيتها في المترو النازل الى وسط المدينة.

جلست قبالتها وكنا متجاورين، بعد أن تركت السيدة المُسنة التي كانت تجلس أمامها، مقعدها ونزلت في المحطة التالية، ليتاح لي النظر إليها ومحادثتنا.

كان ذلك في عصرية يوم مشمس من نهاية شهر آيار..

لم تكن على قدر كبير من الجمال، فهي قصيرة، ممتلئة بعض الشيء، ترتدي نظارات طبية وتكبرني ببضعة أعوام .

لكن فيها شيء مغري، جذبني لسبب أجهله!

صرتُ أهتم بمتواضعات الجمال من النساء ، على شاكلة إنجريد، بعد أن آيست من اصطياد فتاة شقراء جميلة، تلائم ذائقة وأحلام، رجل شرقي محروم من العاطفة والدفء.

سألتها بلغةٍ هولندية ركيكة :

هل يصل هذا المترو الى محطة راينهافن ؟

كُنتُ أعرف كل محطات المترو والترام ومواقف الباصات، أكثر من أهل المدينة ذاتهم، لكني أردت بسؤالي هذا مدخلاً للحديث معها.

أجل، يصل الى هذه المحطة، قالتها وابتسامة عذبة أشرقت من عينيها الحشيشيتين الصغيرتين.

شكرتها بلطف، ثم رحت أنظر اليها عبر زجاج النافذة التي عكست صورتها بوضوح تام،

خلعت سترتها البنية القصيرة، طوتها وألقتها الى جانبها، أبهرني ذراعها الأبيض وصدرها المُنمش الممتليء.

تنبهتُ الى جمالها، وفي الحقيقة لا أدري إن كانت جميلة، أم أن الحرمان يصورها لي بهذا الشكل؟!

خفت أن أرمي صنارتي التي طالما عادت بخيباتي وإخفاقي، لكني استجمعت ما لدي من جرأة وسألتها:

هل أنتِ من هذه المدينة؟

كلا، أنا من مدينة فلاردينن، على مبعدة عشرين دقيقة من السنترال بالقطار.

و أنتَ ؟ لا تبدو من هنا

بلى، أنا أسكن قرب المحطة التي صعدنا منها قبل قليل.

قالت : وكيف لا تعرف بأن المترو يصل الى راينهافن وهي على مبعدة ثلاث محطات من محل سكناك؟!

في الحقيقة أنا أعرف، لكني وددت أن أختلق أي موضوع، يكون مُستهلاً للتعرف بك!

ضحكت بصوت عال وظلت تقهقه للحظات، مسحت دموع الضحك وأردفت قائلة:

كان لدي أحساس بانك كذاب !

ضحكت بدوري، لأداري حرجي، قلتُ:

صح، أنا كذاب، لكنها كذبة بيضاء، بيضاء، صدقيني.

ألقت نظرة على جسدي الرياضي الرشيق وظلت تحدق بعيني طويلاً..

قالت: أحب هذا النوع من الكذب والكذابين !

إذاً مازال الأمر هكذا ، ما رأيكِ بفنجان قهوة؟

ردت: لا بأس..

هبطنا من المترو، سرنا شارعين خلف محطة القطار، دخلنا مقهى صغيراً، جلسنا في أحد أركانه، طلبتُ لها قهوة، ولي زجاجة بيرة..

تحدثنا لساعة كاملة بانشراح ومرح، وكأننا تعارفنا منذ أعوام ! كتبت لي رقم هاتفها، صافحتني مبتسمة، ثم انصرفت.

انتشلتني إنكريد من وحدتي وتعاستي، كانت طيبة وسخية، في عطاءها العاطفي والجسدي، عُدتُ معها ذلك المُراهق الحالم.

بعد أيام قلائل من ذلك اللقاء، كنتُ أجلس بمنتصف الليل في شرفة شقتها الصغيرة، أترشف شراب (الجنيفر) وأدخن، كانت إنكريد نائمة بثوب قصير، لا شيء تحته، وقطتاها تغفوان فوق الأريكة المخملية الصفراء.

قناني النبيذ والبيرة الفارغة، مبعثرة على الأرضية والطاولات، ومنافض السكائر ممتلئة، وتفح منها رائحة خانقة.

في الصباح استيقظت وعليها روب استحمام أبيض، فتحت النوافذ كلها، رحتُ أساعدها في جمع القناني وغسل الصحون،

قالت لي ضاحكة:

قلبت شقتي رأساً على عقب وصيرتها فوضى يا كذاب، ظلت تنعتني ممازحة، بهذا اللقب القبيح حتى انتهاء علاقتنا بعد شهور.

بعد أيام من تلك الليلة عرفتني بأمها، جلسنا في حديقة دارهم نحتسي القهوة ونثرثر، أبواها منفصلان منذ سنوات، لها أخت تسكن في ذات الشارع الذي تقيم فيه أمها، وأخ في مدينة أمستردام.

كُنتُ أتصبب عرقاً عندما يكون أخوها حاضراً بيننا، فأنكريد اللعينة عرفت طبعي الشرقي، فكانت تقفز إلى حضني أمام أنظارهم وتطبع قبلات على وجهي، لتتسلى بخجلي واضطرابي!

لم أستطع الانسجام معهم، كُنت أشعر بالضيق والحرج، فأنا بينهم مثل أطرش في زفة، لا أفهم حديثهم إلا لماماً، أتبسم حين يبسمون، وأعبس عندما يعبسون!

انفصلنا، ولم يكن هنالك سبباً مباشراً للانفصال، كلانا كان يدرك بأن هذه العلاقة عابرة، نزوة، هي أيضاً كانت تعاني مثلي من الوحدة والضجر، لعلها اعتبرت علاقتنا القصيرة، محطة استراحة في حياتها الرتيبة المحصورة بين بيتها ومحل عملها!

كانت بداية النهاية قد حلت، بعد أن أحست بسأمي ومللي الواضحين، صرتُ أتهرب من لقاءاتنا اليومية، إلى لقاء أسبوعي ومن ثم مرتين في الشهر، ثم اختفيت تماماً من حياتها.

اتصلت بي مرات عديدة بالهاتف، لكني لم أرد.

التقيتها بالصدفة بعد عشرة أعوام، وفي ذات المترو النازل إلى وسط المدينة، تصافحنا بحميمية، لم نأتِ على سيرة الماضي بكلمة واحدة، زاد وزنها قليلاً، لكنها ظلت تحتفظ بضحكتها الحلوة المُشرقة، من عينيها الحشيشيتين الصغيرتين.