أراد الابن أن يروي اللحظات الأخيرة من حياة والده غابرييل غارسيا ماركيز (1927-2014) بأسلوبه هو كسينمائي، بمشهديات متعاقبة، وبذكريات ملموسة، وبوقائع شخصية، تبعاً لدرجة احتضار الأب. فها هنا لا جنرال ينتظر من يكاتبه، أو نساء تحلّقن في الملاءات عالياً، أو عشّاق في رحلة تيه أبدية. فقط رجل في ثمانينه فقد ذاكرته تدريجاً، ولم يبق للآخرين إلا كتبه التي سحرت ملايين القرّاء في العالم.

رودريغو غارثيا: أيامي الأخيرة مع «غابو»

خليل صويلح

 

لن نجد لدى رودريغو غارثيا في كتابه «في وداع غابو ومرسيدس» (2021) الذي انتقل أخيراً إلى المكتبة العربية (دار أثر ــــ ترجمة أحمد شافعي) أثراً للواقعية السحرية التي طبعت مخيّلة الأب، ذلك أنّ الابن أراد أن يروي اللحظات الأخيرة من حياة والده غابرييل غارسيا ماركيز (1927-2014) بأسلوبه هو كسينمائي، بمشهديات متعاقبة، وبذكريات ملموسة، وبوقائع شخصية، تبعاً لدرجة احتضار الأب. فهاهنا لا جنرال ينتظر من يكاتبه، أو نساء تحلّقن في الملاءات عالياً، أو عشّاق في رحلة تيه أبدية. فقط رجل في ثمانينه فقد ذاكرته تدريجاً، ولم يبق للآخرين إلا كتبه التي سحرت ملايين القرّاء في العالم. هكذا تنهار تلك العمارة الشاهقة للمخيّلة التي شيّدها صاحب «مائة عام من العزلة» حجراً حجراً، لتنتهي إلى ثلاثة أرطال من الرماد في المحرقة. تبدأ القصة باحتمال إصابة ماركيز بسرطان في الرئة.

قاومت الأم فكرة إجراء فحوص طبية في المستشفى خشية شيوع الخبر، وعندما اضطر الابن إلى نقل والده إلى المستشفى بناءً على توصية صارمة من الأطباء، كان في انتظاره جيش من الصحافيين لتغطية الخبر. لكن الكارثة الكبرى بالنسبة إلى روائي من هذا الطراز، تتمثّل في فقدان الذاكرة ومرض النسيان. حتى إنّ ماركيز كان يتساءل في نوبات تلاشي الذاكرة، مستغرباً: «من هذه المرأة التي تصدر الأوامر في بيتي؟». وهو يقصد بالطبع «مرسيدس» شريكته طوال أكثر من نصف قرن! ثم سيشكو «إنني أعمل بذاكرتي. الذاكرة أداتي وخامتي. لا يمكن العمل في غيابها. ساعدوني«.

سيتتبع الابن مراحل مرض الأب، وهو يرى عن كثب علامات الموت تحيط برجل كان يوقد مخيلته من التاسعة صباحاً إلى الثانية والنصف بعد الظهر يومياً بحكايات آسرة، تؤرخ لعالم من الأعاجيب، وسوف يستحضر شخصيات رواياته التي انتهت بالموت، وخوف الأب من مجيء هذه اللحظة المشؤومة، سواء لإحدى شخصيات رواياته أم في ما يخصّه شخصياً: «لطالما اشتكى والدي من أن أحد أكثر الأشياء التي يكرهها بشأن الموت هو حقيقة أنه سيكون الجانب الوحيد في حياته الذي لن يكون قادراً على الكتابة عنه». في أواخر أيامه كان يطلب العودة إلى بيت جدّه في أركاتاكا، مغلقاً القوس على حياة استثنائية لطالما «عاشها ليرويها». يشير رودريغو غارثيا إلى أنّ والده «مهووس بالفقد وأفدح تجلياته، أي الموت. الموت بوصفه حتماً، وبوصفه مرفوضاً«.

كانت توقّعات الأطباء تضع أشهراً لنهاية المريض، ثم تحوّلت إلى أسابيع، ثم إلى أيام، ثمّ «أمامه أقل من أربع وعشرين ساعة». تقول الأم: «علينا أن نستعد لأن الوضع سيكون أشبه بحديقة حيوانات»، في إشارة إلى استنفار الإعلام والأصدقاء حين يعلمون بموعد الموت. مات ماركيز بالتوقيت نفسه لموت «أورسولا» في رواية «مائة عام من العزلة»، يوم الخميس المقدّس، كما لو أنه قد خطط لذلك باكراً. أثناء فترة المرض، وجد رودريغو نفسه أباً وابناً، يعتني برجل غائب عن الوعي ومصاب بالخرف، ومشتّت الذاكرة، يستيقظ للحظات من دون أن يدرك ما يدور حوله، حتى إنه في شيخوخته، قبل أن يشتد عليه المرض، كان يقرأ كتبه من دون أن يفهم فحواها إلا قليلاً، وكان يُفاجأ إذ يجد صورته على الغلاف الخلفي للكتاب، فيعاود فتحه محاولاً قراءته من جديد: «أعي تماماً أنني أنعم بنظرة فريدة إلى سنواته السبعة والثمانين. البداية، والوسط، والنهاية، كلّها هنا أمامي، مفتوحة مثل كتاب على شكل أكورديون» يقول. لكن هذا المنظر المحزن نفسه سيحيل الابن إلى صورة الرجل الذي كان مرجلاً للإبداع والخصوبة الفاتنة، والانضباط الهائل في تأطير الحكاية تجنباً لضجر المتلقي. فقدان الذاكرة لم يمنعه من استدعاء الموسيقى التي يحب، كما كان يفعل أثناء كتابته رواية «الحب في زمن الكوليرا»، إذ «أسلم نفسه لحمية غذائية قوامها أغنيات البوب الغرامية اللاتينية، أغنيات الغرام الضائع أو الحب من طرفٍ واحد".

في ظهيرة ذلك الخميس، أعلنت الممرضة أنّ «قلبه توقّف». صعدت مرسيدس إلى الغرفة العلوية تتبعها بقية العائلة، غطّت جسده الضئيل بملاءة، وأمرت الممرضة بربط فكّيه بمنشفة، ثم يأمر الابن الممرضة بأن تُعيد تركيب طاقم أسنانه قبل أن يستقرّ فكاه، ستبكي الأم لثوانٍ معدودات، ثم تجلس إلى كرسي في الممر وتشعل سيجارة. سيتحوّل هذا الصمت الجنائزي إلى صخب وفوضى بعدما توافد المئات إلى بيت الروائي الراحل. تشقّ سيارة دفن الموتى طريقها بصعوبة إلى المحرقة، ثم سيدخل الابن وحيداً إلى الغرفة ليلقي نظرة أخيرة على جثمان الأب الذي بدا أصغر من عمره بعشر سنوات بعدما هذّبت ممرضة هيئة الرجل بمساحيق التجميل: «مشهد دخول أبي حجرة الحرق مذهل يبعث على الخدر، يبدو في آنٍ واحد، وعلى نحو مستحيل، ممتلئاً وخاوياً. الشيء الوحيد الذي يمكنني أن أشعر به يقيناً في اللحظة نفسها هو أنه ليس حاضراً على الإطلاق».
بعد أيام من الإرهاق، عاد رودريغو من مكسيكو سيتي إلى لوس أنجيلس مكان إقامته. استرخى في مقعده في الطائرة، وعلى ارتفاع عشرة آلاف قدم، التفت إلى المرأة التي تجلس إلى جواره: كانت تقرأ «مائة عام من العزلة»! بعد ست سنوات على موت ماركيز، ماتت رفيقة دربه مرسيدس بوباء كورونا (آب/ أغسطس 2020) برئتين معطوبتين وجهاز تنفّس اصطناعي، وبرصيد 65 سنة من التدخين. يقول رودريغو: «وفاة ثاني الأبوين أشبه بنظرك عبر تلسكوب ذات ليلة، فلا ترى كوكباً كان مشرقاً على الدوام. اختفى بدينه، بعاداته، بشعائره، وتفاصيله الخاصة». ولكن ماذا يفعل ماركيز الآن؟ لعلّه يعيد كتابة رواياته على نحوٍ آخر، كما لو أنها قيلولة طارئة أو لعلها مناماً طويلاً.

 

عن جريدة (الأخبار) اللبنانية