ترفض هذه الرواية الواقع بانقساماته المتجاهلة لحرية الفرد، والمُستَنْبَطة من تراث زَرَعَ التفرقة، والتحريض على الخلاف. فترفض الحاضر لكنها لم ترفض الأمل الذي تراه بانفتاح العقل، وانفتاح الأفق، لتستوعب أنه بالفرد، وحريته، تستقيم الأمور، ويخرج المجتمع من مستنقع الحروب والخلافات، ليصل إلى ركب الحضارة المتسارعة، التي لا تنظر إلى الخلف.

الحب فى.. «مصنع السكر»

شوقي عبدالحميد يحيى

 

عندما أراد الله أن يخلق بشرا.. خلق آدم.. وعندما أراد ألا يكون وحيدا، خلق له حواء، لتقوده إلى الأرض، ليشقيا فيها. فكانا معا هما الخلية الأولى للبشر، أو جوهر حياة البشر. وعندما يموت الإنسان.. فإنه يموت وحيدا، فردا {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة}[1]، وعندما يتم الحساب.. فإنه يحاسب فردا، عما قدمه فى حياته على الأرض. وهكذا عاش الإنسان على الأرض، فَرْدا، فكانت حياته هى المركز، الذى عليه يكون البناء (الصحيح). وحول هذا المركز، نسج الكاتب (الصحفى) محمد شُعير روايته الثانية "مصنع السكر"[2]. التى جاء الإهداء فيها بما يؤكد تلك الرؤية، وذلك التخصيص، المقصود{ إلى الإنسان فى كل مكان.. إلى البشر فى مصر وسوريا بعدما كان). حيث إختص الكاتب (مصر وسوريا) بعدما كان، من إهدار لحياة وكرامة هؤال (البشر). والذى دار فيها السارد للطواف حول مصر وسوريا، والسنى والعلوى، المسلم والمسسيحى، الصادق والمُتلون، عبر أجيال وسنوات عديدة تمتد من العام 2020 عام الوباء (الكورونا) وعام الحروب العربية العربية، وحتى عام 2050، وكأنه يقف على ربوة عالية، هناك فى البعيد، ويبتعد كى تصبح الرؤية أوضح. ولذلك جاءت بؤرة الرواية على يد الإبنة، التى تقيم فى ألمانيا فى العام 2050، فكان الاختيار الموفق، الذى يصل بالرواية إلى مبتغاها، بعد التطواف الزمنى والمكانى المتباعد.

 حيث نشهد العديد من الأمور السورية- والتى لاتبتعد عنها في مصر- لنرى التحول المجتمعى، الذى انعكس على سلوك الفرد، وزرع الخوف بداخله. فتحكى "ورد" (السورية)عن والدها فى بدايات حكم بشار الأسد، الذى لم يذكره الكاتب صراحة، وإنما أوعز به إلينا، فتتحدث "ورد" عن والدها المساعد بالجيش السورى{رأيته مرة يضع جهاز "راديو" صغير ويسمع.. هنا لندن.. هل تعنى القرارات الأخيرة للرئيس الجديد انتهاء ربيع دمشق؟..... وكانت من المرات النادرة التى ينهرنى أبى فيها، نهرنى بهمس، همس مخيف"بس عيب ماتكرريها بنوب .. وبعدها صار "المساعد ناصر عمار" يمضى فترات أطول فى مكتبته، منصرفا عن الأخبار}ص40. حيث سكن الخوف القلوب، وإلتزم البشر بالسكون ، والسلبية.

وعن تكلفة المعيشة، كيف يعيش الإنسان كريما وهو يعانى فى حياته الخاصة- وما الموضوع أيضا ببعيد عنا- : {ماذا تفعل لنا 35 ألف ليرة؟! كم أكلة يمكن أن نطبخها فى الشهر؟! "احسبها معى. أرجوك.. كيلو الدجاج ب 12 ألف ليرة. البطاطا 2500 ليرة. البصل بألفين . لتر الزيت النباتى إن وُجد ب12 ألف ليرة".. هذه مكونات صينية دجاج بالفرن وفقا لفقرة "طبخة اليوم "ببرنامج صباح الخير.. قدموا لنا المقادير ببراعة، لكن لم يعلنوا عن تكلفتها أو يُخبرونا كيف نشتريها}ص36.

وعلى الرغم من أن العام 2011 سُمى فى البداية بالربيع العربى، إلا أن الانقسامات الداخلية، المنبثقة عن الجماعات المتنافرة، فى أغلب البلدان العربية، والتى كانت سوريا أحد هذه البلدان، فقد تحول الربيع إلى خريف، حيث تم إحباط الصحوة، أو حدثت انتكاسة لذلك الربيع. وحيث كان الارتباط الأكثر قوة بين مصر وسوريا، مثلما كانت الوحدة بينهما، كان ارتباط السارد "زياد" بالحبيبة "ورد". إرتباطا إنسانيا، يعلو فوق الجماعات، وفوق المذاهب، على الرغم من أنها زعزعت يقينه برهة ما، فثارت هواجسه {بيت القصيد فى حيرتى هو: علوية أو سنية.. مؤيدة أو معارضة.. لايهمنى ، فأنا أعرف حبيبتى.. روحها ..عقلها .. نفسها.. وأعرف أن كل الأطياف فى أرضها تتنازع  حقيقة ما جرى ويجرى .. لكن ما يرعبنى أن يكون تأييدها فى السياسة نابعا من طائفيتها.. أن تكون مؤيدة لأنها علوية!.. انها عنئذٍ لن تظل حبيبتى التى عرفتها}ص116. فالحب .. هو الحب الإنسانى الذى يعلو على كل تلك الخلافات.

ويستمر –شعير- فى رؤيته السياسية/الإنسانية، ليوضح النتائج لهذه الانقسامات، والطائفية المقيتة، وإنعكاساتها، الحتمية، فيعرض ما آلت إليه أوضاع البلاد الداخلية، والتى أدت للتدخلات الخارجية، فيعكس بطريقة إبداعية، تمزج الداخل بالخارج{ {رهذا الطريق المهيب له أسماءأخرى، فى زمن السلم هو "طريق حلب – دمشق السريع"، شريان حياة البشر، الذى يقطع البلاد طوليا مارا بإدلب وحماة ثم بنا فى حمص، وفى الحرب هو طريق "إم فايف" الذى يقطع الوطن! وقد ظل مغلقا أمام حركة الناس ثمان سنوات وأكثر، فهو مربط الفرس فى الصراع الكبير، صراع "الدوليين"، من يتحكم فيه يكون قد سيطرعلى السوريين، تجارتهم، أرضهم، حياتهم. ورغم فتحه مجددا العام الماضى، لم يتوقف تسيير الدوريات "الدولية" عليه، دوريات روسية وتركية ومن كل بلاد الدنيا تطأ الأرض، خصوصا فى إدلب، أرض أمى!}ص65.

غير أن الأمل الذى تجلى فى رؤية الرواية، يتجلى هنا، وكأنه التمهيد للنهاية التى انتهت إليها الرواية. فمن بين كل تلك التحزبات، والحروب، والضغائن، تنبت "وردة" الحب، وكأنها شعاع الضوء الخافت المنبعث وراء كل تلك الحواجز {وعندما أحط على الأرض أسالك: إنه زمن الكورونا فكيف تفعلون كل هذا بينما العالم يُغلق أبوابه؟! كأنكم تقاومون الوباء والحرب معا .. بالحب!}ص26. وكأن  الحب الذى جمع "زياد" المصرى، ب"ورد" السورية، هو الخلاص من كل تلك الأزمات.

ومن سوريا يعود "زياد" إلى مصر، وبخيرة (الصحفى)، وتجربته مع واقع متلون، يكتشف المتلونون فيه أنهم لم يكونوا إلا وسيلة استخدمتها السلطة، لأغراضها، مثلما أشار "هانى" الصحفى، صديق السارد "زياد" فى أواخر الرواية عندما قال له على سرير مرض النهاية، وكأنها نهاية الرحلة، أو خبرة (الصحفى) حيث كان قد أصيب بالتسسمم الكُحولى، الذى أدمنه الصديقان معا، وكأن- الكوحل- هو الوسيلة لتناسى ما هم فيه، أو لخلق عالم مواز، لذلك العالم الذى يعيشانه، ولا يرضيان عنه، فعبر عنه السارد {اختار جسد "هانى" زيادة السكر، لا نقصه، بعد أن اختار  صاحبى إفساد كبده، أو كما عبر لى الطبيب: "قرر تخريب معمل السكر فى جسمه"}ص264 وكأننا عملية انتحار. حيث قرر الصديق"هانى" البوح لصديقه الذى حاول مقاطعته إشفاقا عليه { خلينى أكمل. محدش ضامن. موسى صبرى.. هو مسيحى زىَّى .. ابتسمت وسعل بشدة فشق صدرى. محمد العزبى نقل عنه أنه قال فى أيامه الأخيرة: يبدو أننا اتخدعنا خدعة كبيرة وإن المتصارعين على السلطة استخدمونا لمصالحهم أسوأ استخدام}ص265.  ثم يستمر السارد فى التوثيق لهذه المعلومة {العزبى كتبها فى كتاب اسمه (هل يدخل الصحفيون الجنة؟ّ).. تفتكر؟}. ولتصبح هذه جوهر الرواية، أو الدبوس الذهبى الذى أرهق شُعير قارئه، بحثا عن ذلك الدبوس، المخبا داخل أكوام من المعلومات التى حرص على ذكرها، ليثور التساؤل حول المعلوماتية التى اصبحت سمة واضحة فى الرواية فى الفترة الأخيرة، حيث جاء الكثير منها –هنا- يبدو متعمدا، حتى أنه لو تم حذفه لما انتقص ذلك من الرواية شيئا، لذا فهو يُعد عبأ على الرواية. مثل العديد من الملعلومات التاريخية والجغرافية عن سوريا، كما فى {فوجئت فى البداية  بالتسمية التى يطلقها البعض على طائفتها "الطائفة النُصَيرية"، لكننى عرفت أنها نسبة إلى"محمد بن نصير" الذى انشق عن المذهب الشيعى فى القرن التاسع للميلاد، حتى أُستيدل بهذه التسمية فى العصر الحديث مُسمى "الطائفة العلوية"، نسبة لسيدنا "على بن أبى طالب" فالطائفة هى إحدى الفرق الشيعية، التى تختلف فى أفكارها حول الإمامة عن باقى الفرق}ص114. وغيرها كثير. إلا ان هذا لا يمنع أن الرواية فى مجملها، اصبحت تتمشى مع الرواية الحديثة، التى تخلت عن فكرة الاستنامة، والتسليم لسلطة (الحكاية)، وإنما اصبحت مصدرا موثقا للعديد من الإضاءات التى تحيط بالشخصية، او المكان ، الفاعلان فى تطوير الحدث، أو الخروج بثروة ذهنية، منسوجة فى خيوط العمل، حتى باتت الرواية، استزادة ذهنية، إلى جانب الاستزادة الوجدانية.

       وتبدأ بؤرة الرواية، من الإنسان الفرد، بإعتباره اساس العلاقات، وهو الذى يكتمل، بمؤسسة الزواج، التى –على الرغم من كونها أساس الحياة، ومصدر الراحة النفسية، المنبعثة من الراحة الجسدية- تحولت فى الغالب منها إلى المشاحنات، والخلافات، والاختلافات. حيث ينشأ الخلاف بين الزوج "زياد" وزوجته "علياء". فيكون التباعد، العاطفى والجسدى، فيهرب الزوج إلى العلاقات الخارجية، ليقع بين نموذجين متقابلين. "ورد" السورية، التى تمثل الروح، حيث يرتبطان بعلاقة عاطفية متوهجة، ويتفقان على الزواج، عبر وسيلة العصر- الإنترنت-  ومن خلالها نتعرف على الكثير من المآسى الإنسانية،  التى يرتكز عليها الكاتب لكشف الكثير من ويلات الانقسام، والتحارب بين أبناء البلد الواحد، تلك المصيبة التى عانت، وتعانى منها غالبية الدول العربية، كدليل لسحق حرية الفرد، الإنسان وضياع كرامته، والتى يأتى من أهمها، حكاية أمها التى تعففت "ورد" كثيرا عن ذكرها، لِما تحمله من ذكرى أليمة، تعجز النفس البشرية عن استرجاع ألمها، إلا انه مع الإلحاح، تحكى " ورد" {إليك أمى يا "زياد" .. طفلة بريئة جاءت إلى الدنيا فى زمن المحبة، أتدرى؟ّ ميلادها كان فى عام الوحدة، مصر وسوريا 1958. وعندما أكملت أعوامها السبعة كانت سعادتها أن يسمح لها والدها بزيارة فى عمله الجديد}ص127. ولم يكن ذلك العمل الجديد إلا مصنع السكر، الذى أصرت أن تستعيد فيه تلك الذكريات، عندما قامت الحروب، والتفريق، والفتنة، بين السنى، والعلوى". وتم التهجير، وفى رحلة الهجرة.. تُصر الأم على زيارة المصنع من جديد، لاستعادة الذكرى. وما أن دخلت الأم ذلك المصنع، حتى تحدث المآىساة { وبحلول حزيران اندلعت أحداث الجسر. قيل إن جماعة من التكفيريين هاجمت مركزا أمنيا فى جسر الشغور هو مفرزة الأمن العسكر، وفجرته بمن فيه، ثم ذبحت وقتلت وقطعت وحرقت الناجينن}ص136. ولتبدأ المعارك التى ضاعت فيها الأم، التى رغم تأكيد الأحداث بما يجرى فى تلك المنطقة، إلا أن الأم أصرت، بانها ستبتعد عنها، وما تريد غير استنشاق الذكرى فى مصنع السكرر و{تم إعتقال رجال ونساء فى "معمل السكر" . الرجال تم تعذيبهم أما النساء .. آآآه من النساء .. وآآآه عليهن، النساء خُضن "دربا خطيرة" .. تم إغتصابهن، وإجبارهن على التجول عاريات لخدمة مُعتَقِليهن، والسهر على راحتهم بكل ما تملكن.. هُتك سترهن، ذُبحن معنويا.. قبل سحقهن!... ولم يكن مصير الأجساد الثكلى فى شرفها، الممزقة أرواحها ... سوى "فرامة الشُّوَندر"}ص137. ليصح "مصنع السكر هو نقطة الإلتقاء بين مصر(مصنع السكر داخل جسد "هانى"أو الحاضر من الحياة)، ومعمل السكر فى سوريا، الذى كان بؤرة الألم فى حياة الإبنة "ورد"، أو الحاضر من حياة الأمة(السورية).   

إلا أن تحولا سريعا فى العلاقة بينهما حدث سريعا، فطلبت "ورد" إنهاء العلاقة، ووافق "زياد؟ على ذلك سريعان لٌشارة إلى قِصر الفترة التى جمعت مصر وسوريا فى وحد، لم تدم طويلا، على الجانب الجمعى. وعلى الجانب الفردى، للتأكيد على أن العلاقة لم تكن إلا عملية تنفيس ، أو تعويض عن الزوجة، المغضوب عليها. حيث جاءت هذه النهاية، متوافقة مع طبيعة العلاقة، ومنهج العصر، المعتمد على الإنترنت، والعلاقات السريعة، وغياب التواحد الإنسانى القائم على التلامس، والمعاشر، لنعود إلى أن العلاقة (الفردية) والإنسانية، هى الأصلن وهى البؤرة. وكأن الكاتب قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد.

أما العلاقة الثانية، التى سعى إليها السارد، والتى كانت ولازالت حاضرة فى ذهنه، فهى علاقة "سهير سكر" والتى تمثل العلاقة الجسدية، حيث كانت "سهير سكر" الشاعرة، والتى ساقها والدها ووالدتها منذ البداية، لبيع جسدها، حتى احترفت المهمة، واستطاعت بها أن تشترى الشهادات الدراسية. إلا أن السارد يركز رمزيتها فى{أنها كانت المحتلة التى غزتنى بالنسيم، لكنها سلبت منى الحياة.. الشيطانة التى أغرتنى بجنة، لكنها وارت خلفها النار}. وكأنه يعبر عن بعدها الفردى الذى انساق وراءها السارد، واكتشف أنها الجزء الفردى الشهوانى، المُغوى، الهادم لأمان الأسرة. حيث عبرت هى فى كلماتها التى تركتها، والتى توضح فيها بُعدها الشيطانى، وصراعها مع الإنسان، الذى احتفظ بها السارد{مئات السنين وقبل السنين/ وأنا أصارع/ أرضا وسماء/ وأنت / أنت الغارق فى الوهم، أما أنا/ ومن أنا؟! صقلنى الحريق/ وعمدنى الدمم حتى صرت قادرة على الخيال/ والحلم/ لم أجبر أحدا علىَّ/ اللعبة أمام الكل/ اللعبة أمام الكل} ص266. ليبين الكاتب أن اختيار هذه الكلمات، كان مفصحا عما خبأها خلفها من كشف عن حقيقة الشخصية، فضلا عن دمغها بصيغة الهدم، حيث سعت إلى هدم حياته الزوجية، بإرسال الرسائل المجهولة لزوجتهن لمحاولة الوقيعة بينهما. وقد يؤكد تلك الرؤية، أن "سهير قد انتحرت، اى إنتهت، بينما "ورد ظلت حية وتواصلت حياتها.

ويركز الكاتب صورة هذه العلاقات (الكثيرة)، كاشفا عن المُخَبأ وراء الظاهر، وكاشفا عن الأبعاد النفسية المحركة للسارد {على مدى رحلتى، يا ابنتى، أوغلت فى طلب السعادة بعقلى، نشدت المثال، ولما لم أجده اعترضت، أعرضت، تمردت. فرُحت  أبحث عن سعادتى بين ثانيا الأجساد وفى تحليق الأرواح.. وفى الطريقين وجدت حرية .. لكن ما تحررت}ص272.   

ثم تأتى "شهد" الإبنة التى كان لها من اسمها نصيب كبير، مثلما الكثير من الأسماء، والتى عاصرت، وعايشت الكثير من أحداث الأب "زياد" والأم "علياء" واطلعت على حياة الأب تحديدا، لنكتشف أنها هى من كتبت الرواية، رواية الأب، ومعاناته، حيث سافرت "شهد" إلى "زالتسبورج" وفق نطقها الصحيح، ورغم ما عُرفت به بيننا "سالزبورج"- وفق ما تؤكده الرواية-  وتحصل على الدكتوراه. وتتعرف على الصعيدى "طارق العليمى" المتخصص فى الذكاء الاصطناعى. وتفكر فى الارتباط به. ورغم اندماجها فى عالم العلم الحديث، إلا أنها تكتب حياة والدها، وتستأذنه فى نشرها، وبها تتجمع الخيوط، وتتلاقى الأبعاد. حيث تلتقى "شام" صديقة ورد فى ألمانيا، وتسألها عن "ورد" إلى أن تلتقيها.

وتسافر "شهد" إلى سوريا لعمل فيلم تسجيلى، وهناك تأمل فى لقاء "ورد" وقد تخلصت من حقدها الطفولى عليها، غيرة على والدتها "علياء"- بعد علمها بقصة "ورد"-. على أن ذلك كان فى العام 2050. بما يعنى أنها النظرة المستقبلية، التى يتخلص فيها العالم من خلافات الماضى وجائحته الكورونا (2020)- ، والذى يسعى فيه أن يلتقى العلم بالواقع المرير، ليصلح ما فيه، أو تلتقى فيه الروح بالجسد، وما يوضحه "طارق" { لكنىى –فى الحقيقة- بعد رحلتى الطويلة مع الذكاء الاصطناعى الذى أحبه، ارى أنه يبقى هناك شئ ناقص، عجز العلم عن توفيره....... الروح.. الروح يا "شهد"}ص280. وإذا كان العلم، هو التعمل الجاف، البعيد عن العاطفة، إلا أنه لايكفى وحده ليصبح الإنسان إنسانا، فيأتى دور "الروح" .. العاطفة.. الحب. فهنا يصبح الإنسان... إنساناً، وهنا يكمن جوهر"مصنع السكر.

التقنية الروائية

       لتباعد شخوص الرواية، وتباين إتجاهاتهم ورؤاهم، حول ما يمكن أن تكون مسألة واحدة، ينظر كل منهم إليها من زاويته، مثلما كان بين "زياد" وصديقه الأقرب "هانى" لاختلاف طبيعة كل منهما. وكذلك رؤية "زياد" وابنته "شهد"، لاختلاف الأجيال وللفرق الزمنى بينهما، وحتى بين "زياد" وزوجته "علياء"، لاختلاف زاوية الرؤية بينهما، كان إختيار "رواية الأصوات" نهجا لرواية "مصنع السكر"، إختيار موفق من الكاتب، حتى وإن تداخل صوت الأب وإبنتة كثيرا، حين أرسلت إليه الرواية لاستطلاع رأيه فيها، الأمر الذى يؤدى لتشتيت الرؤية عند القارئ، وإثارة السؤال: كلاهما فى بلد متباعد عن الآخر،، فكيف يظهر صوتاهما فى نفس المكان؟. إلا أن ذلك لايقلل من التوفيق فى إختيار "رواية الأصوات" كنهج سار عليه الكاتب. حيث تناولت كل شخصية السرد عن الرؤية العامة للحياة من زاويتها، وإن تدخل السارد فى الكثير منها كشخصية محورية، وللأنها تمثل إنعكاس رؤية الآخر على حياته، بالدرجة الأولى، حتى يمكن القول بأن الرواية تدور بالأساس حول حياة السارد "زياد".

كما جاء استخدام أسماء العديد من الشخوص، بدلالة تؤدى لوصول الرؤية الى يريدها الكاتب. حيث جاء استخدام اسم "زايد" للشخصية الرئيسة، ليصلح اسما لأى من العربى فى أى مكان، حتى وإن لم يكن من الأسماء المنتشرة فى مصر، إلا انه لا يعدم وجوده فيها.  كما جاء اسم "هانى" ليصلح اسما للمسلم والمسيحى، ترجمة للعلاقة الشديدة بينه وبين "زياد" وكأن فرقا فى الديانةبينهما لم يكن، وهو ما يتوافق مع رؤية العمل. وكذلط جاء اسم الزوجة "علياء" وهو ما يترجم قناعة السارد فى النهاية، وما عبر عنه، وعبرت ابنته. والإبنة "شهد".. وما يتوافق مع الدور الذى قامت به من جهد فى توفيق أوضاع الأب والأم، وإعادتهما إلىمسارها الصحيح. أما ورد التى تمثل مع السارد، شخصيتى الرواية ، العناصر الرئيسية، ولما يتوافق مع عنصر الحب الذى جمعهما.  

كذلك يلعب عنوان العمل-أى عمل- دور كبير فى التعريف بقدرة الكاتب على الفهم الصحيح لدور العنوان، كعتبة أولى لتهيئة القارئ لدخول النص. فعند قراءة "مصنع السكر" يتهيأ للقارئ صورا من البهجة، التى تدعوه لتخيل الكثير من استعمالات السكر، غير أن أفق توقعاته، تصطدم بواقع الرواية، التى تجعل مصنع السكر، بؤرة المرار، والسخط واللعنة، فى سوريا(والدة ورد)، وتجعل من معمل السكرفى الجسم، سبيل الانتحار، ومصدر الألم والموت فى مصر(هانى). الأمر الذى يثير المقابلة، والمفارقة بين التوقع، والواقع- مثلما كانت فى المفارقة التى رأيناها فى عملية التناص- وهو ما يثير عاطفة القارئ، ويثير بداخله الأسئلة، حول الواقع والأمنية، او الرجاء. وهو ما استطاع –الكاتب- أن يركزه فى الإهداء، والذى أصبح هو رؤية العمل مركزا، يقدمه للقارئ، ويوحى بالشاعرية المبطنة، بداخله، حين خص سوريا ومصر، وكأنه يقول إن ما تعانى منه سوريا ومصر، ليس إلا مثالا للأمة العربية جميعها، والحاضر الذى يعيشه المواطن فى أى منها، يلقى بالحقيقة والمصداقية على العمل..

وعلى الرغم من سيادة الصبغة المعلوماتية فى الرواية، الأمر الذى صبغ السرد باللغة الإخبارية، إلا أن الكاتب حاول باستخدام الكثير من الأغانى، لتصوير الحالة العاطفية، وترقيق اللغة، فى حالات وصف لحظات الحب مع "ورد". إلأ انه نجح بالفعل فى الوصول باللغة إلى الإحساس العاطفى، عندما تحركت فيه (عاطفة) الأب، عندما قرأ حكايته المكتوبة بمعرفة ابنته، فضلا عن الغربة التى تعيشها فى ألمانيا، وأنها تحب "طارق"، كل ذلك حرك فيه العاطفة فطلب منها نشر روايتها عن أحداث الماضى –الذى عاشه هو- فاجابها{ فكرت فى الأمر، فالأحلام حلوة، وإدراك الحلم فى الختام ربما يمنح روايتك نهاية رومانتيكية}ص296. فهنا اصطبغ السرد باللغة الرومانتيكية فعليا، حيث {فتحت عينى الناضحة بالدمع على اتساعها}. وارتسمت الصور، التى تخلق الشاعرية فى السرد{ظل النهر يراوغ الحلم، ينقسم مجراه بين القنوات والترع، لكنه سرعان ما كان يعود ليتحد، ويظل جاريا}.

الشخصية  

وكما زرع الشيخ مصطفى ثابت (والد زياد) فيه الكثير من الصفات المُتَشربْة منه، مثل الصدق، ومثل معايشة القرآن، الذى تبدى فى الكثير من التناص مع القرآن فى أحاديثه، حيث أن استحضار النص القرآنى إلى جانب كونه مؤثر أساس فى تكوين الرؤية الجمعية، إلا أن كون الأب (رجل دين) -كمايُشاع اقول- فإن استحضاره من الأبن يعنى تشرب رؤية الأب_ ليس الأب الفعلى فقط، وإنما الأب بمفهومه العام، أى الأجيال السابقة، أى أنه تأصيل للسارد وزرع له فى الطينة المحلية، وهو ما يربط بين إنتماء الأب إلى العام 2020، وأرتباط الأبنة بالعام 2050. وهو ما يوضح إختلاف النظرة بينهما. فمثل الحديث عن والدة "ورد" وإصرارها على استعادة ذكرى طفولتها فى مصنع السكر، نقرأ {ولما فصلت العير قالت أمهم إنى لأجد ريح مصنع السكر.. قلنا تالله إنكِ لفى ضلالك القديم}[3]ص135. حيث تم الربط بين استنشاق رائحة يوسف، الغائب من فترة، فى الآية الكريمة، واستنشاق الأم هنا لارائحة الذكرى. حتى وإن حملت الصورة التناقض فى الحالين، ففى الأول انتهى الأمر باللقاء، وانتهت الحالة الثانية بالفراق. وهو ما يخلق شعرية الرؤية المُضْمرَة فى السرد.

وهى تلك المقابلة أيضا، حين اتصل "زياد" بسهير ووافقت على مقابلته، نقرأ {حددت لى موعدا لن أخلفه. قلت: فاذهب، فإن لك فى الحياة داخل جسدها أن تقول: المساس المساس.. الإلتصاق .. الالتحام .. جسدها جَنتى.. ما أظن أن تبيد هذه أبدا}[4]ص196. فإذا كانت الآية تشير إلى السامرى الذى أغوى اصحاب موسى، وصنع لهم إلاهاً يعبدونه من دون الله. فكان عقابه أن أمر موسى بنى إسرائيل، بالأ يخالطوه [ قال له إذهب فإن لك فى الحياة أن تقول لا مساس].. اى ان الآية تدعو إلى عدم المساس، بينما التناص، يرحب بالتماس، والإلتصاق، بين السارد  وسهير. حيث يرى فيه جنته. وحيث يثير ذلك التناص، وغيره كثير، الدهشة، والانتباه من القارئ، دون أن يَدَّعى الكاتب ذلك، أو يتعمده.

وكذلك كان الكاتب موفقا فى صناعة شخصية الإبنة التى تشربت من والديها وتجربتهما، الخوف من الزواج، او التردد فيه، وهى تذكر فكرة أبيها عن الزواج وهى فكرة مخيفة.. {لماذا يختار المرء بنفسه أن يفقد حريته ليعيش فى مجتمع اسمه الأسرة؟! لأجل الاستقرار؟! الأطفال؟!}ص248. فتتردد الإبنة فى قبول الزواج من طارق، رغم إعترافها بفضله فى تعليمها الكثير، خاصة فى مجال العلم، فتكون رؤيتها {أهذه الدنيا يا أبى؟! أنأتى لنتعذب أغلب العمر وإن أدركنا السعادة بضع سنسن فإننا نرحل بعدها هكذا؟! .. نجاهد لنحبس ذواتنا داخل جدران مؤسسة الزواج،  كم هو شعار جميل  يرفعه الحالمون.. ككل الشعارات التى ترفعها المؤسسات}ص272. غير أن العلم، والفهم الصحيح للعلاقة، ساعداها فى التخلص من إرث الوالدين، وها هى تبعث فى استشارة والدها فى الارتباط بطارق، فأفادها، بانه طلب منه يدها.. ووافق، وهو ما يصنع من كل من الأب، والإبنة، شخصيات حية، تتأثر بالواقع، ويؤثر فيها الموروث، فتتغير آراؤهما، وقناعاتهما.. وفق تغير المُخلات. فتصنع الحركية التى تخرجهما عن النمطية، أو الرمزية. وهو مالا نستطيع ان نتبينه فى الشخوص الأخرى، التى توقفت عند وجودها الرمزى، مثلما أصبح "هانى" رمز للتغير أو التحول الذى ما أن عُرض عليه رئاسة نحرير جريدة، حتى تغيرت أحواله، وانقطع عن صديقه، وانتقطع صديقه عنه (المتحولون). وإن كانت تلك هى النهاية الحتمية، التى مهد لها الكاتب، حيث آمن "زياد" بالحب، بينما "هانى" فشعاره "لاوقت للحب"، وكأن الأول آمن بالعاطفة، بينما آمن الثانى بالعقل، والمصلحة.

رؤية تنويرية، يُحَمِّلها محمد شعير فى روايته الثانية "مصنع السكر"، ترفض الواقع بانقساماته، المتجاهلة لحرية الفرد، والمُستَنْبَطة من تراث زَرَعَ التفرقة، وحرض على الخلاف، والاختلاف. فيرفض الحاضر، لكنه لم يرفض الأمل الذى يراه بانفتاح العقل، وانفتاح الأفق، ليستوعب أنه بالفرد، وحريته، تستقيم الأمور، ويخرج المجتمع من مستنقع الحروب والخلافات، وليصل إلى ركب الحضارة المتسارعة، التى لتنظر إلى الخلف.

20 /5 / 2023

 

[1] - سورة الأنعام الاية 94.

[2] - محمد شعير- مصنع السكر – غراب للنشر والتوزيع – ط1 2023.

[3] - سورة يوسف الآية 94.

[4] - سورة طه الآية 87.