يقدم الشاعر التونسي هنا مفارقات الزمن في قصيدة تتأمل الزمن وتفاصيله وصوره، مستدعيا الذاكرة في التقاط بليغ لبلاغات هذا الحضور الذي يتخذ صيغا متعددة من التجلي والمواربة.

عكاز الريح

عبدالوهّاب الملوّح

كنادل يتآمر على سيرته
بشيء من اللامبالاة،
يسرح بالطاولات فتطلق دورية الورد قهقهة خلف خطاه،
خطاه التي تسكب الضوء...،
تخفق رمية نرد،
تكتب سيرته فهرسا للمجاز.
وحيدا كقبعة في الهواء تضيع،
كمفردة تتسكع خارج نهج السياق،
كيوم بلا قدمين،
كصاحب موسى يخون رؤاه...
يدخِّن سيجارة وطنية الهمِّ والوقت يأوي إليه شعوبا بلا وطن،
صمته معجم للغبار.
ستمطر بين يديه ويهبط غيم على كتفيه.
يفكِّر في يومه وهو ينزع أقنعة الوهم من حوله.
ربما كان في حاجة لخيانة عاداته والذهاب إلى أمل طارئ،
ربما سيجفِّف منديله عند زاوية من حرائق غصته،
ثمل دائما،
لم تكن جنَّة الله آخر أحلامه،
من سيسأل عنه وليس له من شريك يبادله الهذيان،
وليس له من شريك لرتق صداع الكلام.
سيأخذ حصته من تداعي الظهيرة بين يديه فيفلى حكايا الكراسي
يلاحق أغنية تعبر سيرته،
ثملا دائما،
ربما كان في نيتي أن أحدثه،
أن أحدث "كان وأخواتها" في خطاه.
هو اللآن يمنح ليلا غبيا فرائد حكمته
ويرقص
منشغلا بالذهاب إلى أمل طارئ

كمن يتسلق صمته
من جهة في الغياب يجيء احتمالا آخر لصمت
يدلِّل عناصره
ويروِّض مجاز الهواء.
يرى نفسه محظوظا والريح ترتق له من سلالتها قمصانا بألوان زاهية.
ثمّة أكثر من تأويل لمرح الظلال فيما تُشيعه العتمة من حزن غامض.
وهو يمرُّ من هنا ستتذكر الوجوه ملامح موت وشيك.
كان يحتاج لأشياء البيت المعتادة لتألف حواسه المناخ.
عظيمة سيقان أشجار الأكاسيا والحركة لا تهدأ من حولها.
يبدو أوَّل الصباح في هذا اليوم من شهر "جانفي" حميميا...
"هل كان شهر "جانفي" ؟؟"
تتوهَّج الضحكات مائية الصوت تغسل قامة اليوم.
كل هذا لن يفيده في شيء،
لقد أضاع مفتاح البيت ولن يصير بوسعه أن يعيد ترتيب شؤون المرآة وهي تتطلع لدهشته يعود من صمته سالما.

كأغنية تحلم بنفسها
ينصرف ذهنها إلى ما يشغلها دائما، ولا يحدث عادة..
... سترة الفراغ التي عليها أن ترقعها تحسُّبا لأمر طارئ،
أشياء الصمت المبعثرة في فوضى وعليها أن ترتبها بلا عجل.
ستزيل التجاعيد عن البياض المشغول بالانتظار منذ زمن،
من المحتمل أيضا أن ترسل الكرسي ليأتيها بكرواسن من المشرب عند عطفة الشارع...
ثمَّة دائما ما يشغلها هنا...
كأن تنقذ الشراشف من موتها السريري وتعدل عن فكرة تدوين مذكراتها.
تعدُّ قهوة على إيقاع ما تحكيه الجدران ليستعيد البن ُّ حيويته من مرح موسيقى الماء في الغلاَّية..
تفكر أيضا أن تدع الستائر تشاكس مزاج الطقس.
سوف تدرِّب حذاءها على رقصة نيجنسكي الأخيرة،
لن تجد الحذاء وسيفوتها مترو السادسة ولن تلحق عملها
وتعود إلى النوم مجددا...

كطفل لا يكبر
كان أبي يعرف إنه سيموت
لذلك كان يدربني على الموت
يفتح لي الباب كل صباح
ويقول لي اركض قبل النهار ولا تدع الليل يسبقك
ويقول لي إذا تعبت، اجلس على حجر في خلاء الصمت واصغ إلى نبضه
ويقول لي ستتعب حتما خذ من درج الهواء ما رأيته في منامك وأعد تشكيله لعبا تغوي الريح
ويقول إن حزنت قل يا ليتني كنت أعمى واضحك على صورتك وأنت أعمى في المرآة
ويقول إذا بكيت دع دموعك تسقي النحيل وبساتين البرتقال وأساطير المحبين
ويقول لي إذا تعبت مرة أخرى توسد الريح ونم
مرة ودعنا أبي إلى حيث لن يعود إلى الدار
فير أني كنت أراه يصفف الكراسي للمعزين ويقول لي وهو يكنس حزن المساء
اركض قبل النهار وقبل الليل حتى لا تشيخ..

شاعر من تونس
Janvier