في باحة (بيت الوقف) في زقاقنا المسدود، في آخر البيوت وأوسعها، في (عكد المسجد) في محلّة المهدية، في الحلّة القديمة، في بابل المباركة، كما يقول أبي. كنا نمرح يوميّا، نحن والعصافير والحمام، وبعض القطط التي تتجول بين البيوت بحثًا عن حمامة غافلة!! نحن بدشاديشنا المقلّمة القصيرة؛ فقد كنّا نزداد طولًا أسرع منها، ولا نعلم ذلك، والعصافير والحمام بلهوهما البريء، يلتقطان بعض الطعام المتساقط، ويصنعان الأعشاش في تجويف الجذع الذي فوق الباب الخشبيّ المغلق الذي لا نعرف إلى أين يؤدي! أو داخل شقوق الجدران العالية التي تحيط البيت من ثلاث جهات، وتحجب شمس الصيف اللاهبة عنه.
تسكن (الحجية روضة) مع أختها الصغرى (نعومة) في (بيت الوقف) ويبدو أنّهما ولدتا في هذا البيت لا غير!! فليس في البيت ما يشير إلى والدي الشّقيقتين، أو زوج (الحجية روضة) ولا تحمل الجدران أية ذكرى لأطفال سكنوا البيت، أما نحن فلا يمكننا أن نكتب على الجدران، ما يؤرخ وجودنا فيه، فلعشرات السنين حفرت قطرات المطر القوية المائلة ذات اليمين وذات الشمال، ندوبا غائرة بطابوق الجدران، وأزالت بعضا من طبقة الجص الرابطة بين الطابوق، فلا يمكن للطباشير الذي نسرقه من المدرسة، أو أقلام الرصاص، أو قطع الفحم الصغيرة التي نلتقطها من مخلفات (مطعم كباب حمزة الحجي) أن تترك خطوطا متواصلة على الجدران.
لا أعرف تقدير الأعمار، لكنّ (الحجية روضة) أكبر من أمّي بكثير، تجعّد وجهُها كثيرًا، ومع ذلك فما زال أبيض اللون، وقد تركت النّظارات الطّبية السّميكة فوق عينيها الصّغيرتين، لونًا داكنًا على أنفها الكبير وصدغها، نراها وهي ترتدي الدشداشة السوداء الواسعة، وتضع علبة السكائر والشخّاط في جيبها الجانبيّ، وتلفّ رأسها بالشّيلة السوداء، وتضع العباءة الناعمةَ على رأسها دائمًا، لم ير أحدٌ شعرها، حتّى وهي تتوضّأ للصلاة، لا نحن، ولا العصافير، ولا الحمام، حيثُ نمرح يوميّا في الباحة الترابية الواسعة، على العكس من أختها الجميلة (نعومة) التي قدرتها بعمر أمّي، وربما أصغر، لنحافة جسمها، وحركتها المستمرّة، وهي تقوم بأعمال البيت لابسةً الدشاديش الملونة التي تخيطها في بيت (دلال الخياطة) في (عكد الفلّوجي) ومع نحافة جسمها كانت جميلة بشعرها المسرّح المصبوغ بالحنّة دائما، وعندما تخرج إلى السوق صباح كلّ يوم، تضع العباءة فقط، بلا شيلة، إذْ تحرص على ظهور بعض خصلات شعرها.
على الرغم من بدانة (الحجية روضة) وكبر عمرها، إلا أنها قوية دائمًا، تأتي من غرفتها صباح كلّ يوم، تحمل كيس الخام الأبيض الذي فيه نقودها، لتجلس تحت نخلة الأشرسي التي تتوسط الباحة الترابية المرشوشة، ثم تفتح دفترًا كبيرًا مجلّدًا بالورق المقوّى، تسجّل فيه أسماء زبائنها من النّساء والرجال، الذين يستطيعون مراجعتها من الساعة الثامنة حتى الحادية عشرة تقريبا، حيث تستطيع الشّمس النزول إلى أحد الجوانب، ومع ذلك يبقى جزء من الباحة باردًا بفعل ظلّ النّخلة، وفي حالات متباعدة، يأتي بعض الأشخاص للاستدانة في غير هذه الأوقات في حالة حاجتهم لأجور الدفن لموت مفاجئ! لا يستطيع الرجل الدخول إلى بيت الحجية، بل إلى الزقاق، إلّا برفقة أمّه، أو زوجته، أو أخته، أو بنته، أمّا الذي لا تعرفه من المستدينين فعليه أنْ يحضر معه مختار محلة المهدية، سيد إبراهيم الحسيني، برفقة أحد حريم المستدين طبعا.
لكنَّ المختار هو الرجل الوحيد الذي يستطيع الدخول لوحده إلى الزقاق، ومن ثمّ إلى بيت (الحجية روضة) وغالبا ما يأتي كي يتوسّط لأحد الأشخاص لتأجيل سداد القسط الشّهري المستحق، لمرّة، أو مرّتين فقط، فلن تقبل (الحجية روضة) أكثر من ذلك، وما زلنا نسمعها عند اتفاقها مع مستدين ما تقسم قائلة: "وروح أبوي الي علّمنى القراعة والكتابة ما أأجّل قسط!!"
لا تدعنا (الحجية روضة) نلعب في باحة الدار بلا ثمن، فعلينا أن نرشها بالماء، صبحا وعصرا، وعلينا أن نطعم الدجاج من فضلات الطعام التي نجلبها من بيوتنا، وعلينا أيضا أن نجمع البيض، وننظف قنّ الدجاج، المصنوع من جريد النّخلة قبل أن نغادر البيت، ليس هذا فقط، بل على أحدنا أن يقدم الشّاي الذي تخدره (نعومة) إلى من يأتي من الزبائن من الرجال، وعلى أحدنا أن يجلب الى البيت من (دكان جاسم بصل) ما تحتاج نعومة للطبخ، من سمن أو أرز أو شاي أو بهارات، أو طحين، أو ..،
الشخص الوحيد الذي لا يشترك معنا بهذه الأعمال هو ابن المختار، وكم كان يودّ أن يأتي معنا للدكان، لكن (الحجية روضة) ترفض ذلك، لأنّه سيّد، وهو ابن المختار، كما تقول، وتدفع (الحجية روضة) ثمن مشترياتها نقدا، على الرغم من أن اسم جاسم بصل مكتوب في سجلها السميك.
في إحدى المرّات اصطحبتني (نعومة) إلى شارع باب المشهد، كي أحمل للبيت مدفأة نفطية جديدة، اشترتها نقدا من (محلات سلمان إخوان) وفي الطّريق قالت لي، وهي تشير إلى بيت صغير واطئ واجهته على الشارع العام، وخلفه جدار عال من الطابوق "ذلك الحائط العالي هو بيت الوقف!! يعني بيتنا، وهذا البيت الصغير الناصي هو بيت سيد ناجي، أبو المختار، يعني أبويه أغنى من بيت المختار، افتهمت؟؟"
لم افهم شيئا، على الرغم من أنها زادت من نبرتها على الكلمة الأخيرة؛ كي أفهم جيدًا، لكنني كنت معجبا بصوتها، فقلت لها: "إي، إي، نعومه، كملي"
فقالت:" تعرف باب الخشب المسدود وين يطلعك؟؟ تتذكر مرة سألتني عليه!! يطلعك على بيت سيد ناجي؛ لأن أحنا قرابة بالنّسوان، افتهمت!!". لم أفهم أيضا ماذا تعني القرابة بالنّسوان! ومع ذلك قلت لها: "إي نعومه، إي، صوتج كلش حلو والله، ... " فضحكت قائلة: "ولك بالبيت راح أضربك، أنت لسانك صاير طويل!"
ولغاية هذه اللحظة ما زلت أتذكر طعم البيض المقلي مع الدبس والخبز الحار الذي أعدته لنا (نعومة) بيديها النّحيفتين البيضاوين، بعد وصول المدفأة سالمة إلى البيت، على الرغم من تأفف (الحجية روضة) وسبابها لأختها!! وكم كنت فرحًا عندما حدثتني (نعومة) بصوت منخفض: "لا تخاف، هذه مخبله، هسه الله يحركها بالدّنيا قبل الآخره، لأن تاخذ بالفايز!"
لم أفهم معنى الفايز، وتوقعت أنّها ستوضح لي المعنى عندما أضافت: "بس دير بالك، مو تقول لي صوتج حلو، كدام أي واحد، بيناتنا بس، افتهمت!"
لكنني لم أعد أدخل البيت مذ اصطدمت السيارة الفيات الصفراء التي اشتراها أبي بشاحنة عسكرية خارجة من معسكر المحاويل فجر يوم شتائيّ بضبابٍ كثيف، نجا أبي، والركاب بأعجوبة، ونقلوا إلى مستشفى المحاويل العسكريّ، لكنّ السيارة تحطّمت تقريبا. وبلا وساطة من السيد إبراهيم المختار، منحت الحجية روضة أبي أربعة أشهر لتسديد الأقساط، متجاوزة قسمها لأول مرة في حياتها، فقد وعدها ابي عندما زارته في المستشفى أن يبيع البيت حال شفائه!
فرحت أمّي كثيرا لأنني لم أعد أذهب إلى بيت الوقف، لأنها تكره (الحجية روضة) حتى قبل أن تصطدم سيارة أبي، وغالبا ما كانت تصفها بـ(الذيبه السوده) لكنها تضايقت كثيرا من الكتب التي صرت أقرأ فيها يوميا، عن طريق الاستعارة من المكتبة المركزية في حي بابل، وقالت لي: "راح تصير مخبل من وره الكتب!!"
وكم تمنّت أن أرجع إلى بيت الوقف بدل القراءة. لكننا كبرنا جميعا، نحن والعصافير والحمام، وما عادت (نعومه) تسمح لنا برؤيتها بلا عباءة، وقد استطاع أبي قبل أن يتوفاه الله، وقبل أن تبدأ الحرب أن يسدّد الأقساط بعد أن باع السيارة بوصفها (سكراب) وما زالت أمّي حتّى اليوم تقول إنّ (الحجية روضة) هي سبب وفاته!!! حدث ذلك بسرعة فائقة، لقد دخلنا في خريف الحرب دون أن نشعر، وقد دخلت بسن الثامنة عشرة وما استطعت أن أتجاوز الدراسة الإعدادية، كما أصدقائي الآخرين؛ لذا كان عليّ أن أراجع التجنيد لسوقي إلى الجيش؛ لكنني قررت أن أقتل (الحجية روضة) قبل الذهاب إلى الحرب، قررت ذبحها، كما فعل ذلك المعتوه في (الجريمة والعقاب) لن أخطأ مثله، ولن أقتل (نعومة) أبدا، لن تشي بي حتمًا؛ لأنها مثلي تكره أختها التي (تأخذ بالفايز) اشتريت سكينة قوية وطويلة مصنوعة من (ورقة دبلات) من مخلفات سيارة ما، كما أخبرني الحداد في السوق المسقف الصغير، قلت في نفسي: "ربما كانت من (سكراب) سيارة أبي؛ لذلك ستكون الضربة قوية ومميتة ولمرة واحدة فقط!!"
وضعتُ السكينة في كيس صغير من الجوت، وعدت إلى البيت، وفي أول الزقاق، شاهدت (نعومة) قرب (دكان كاظم بصل) كانت المرّة الأخيرة التي رأيتها فيها، سلّمت عليها، وأنا أنظر في وجهها، كم كنت أود أن أقول لها (نعومه، والله أنت حلوه، وصوتج كلش حلو) لكني تلعثمتُ، وكأنّها عرفت ما أفكر به، ردت عليّ السلام وقالت بتوسل: "دير بالك على نفسك، راح تصير جندي، وبدت الحرب!!!" ظلت تنظر لي لعدة ثوانٍ وكأنها تقول لي (أنت خوش ولد وما تسويها) حينها أدركت أنّ (نعومة) كانت ترتاح كثيرًا لكلماتي معها!
ولكن يبدو لي أنّ طريق الدخول إلى بيت (الحجية روضة) صار سهلا؛ لأنّ المختار ترك بيتهم الواطئ الصغير وقد صار خرابة، وانتقل إلى بيت آخر مسقف بالشيلمان، اشتراه من ورثة الحاج صالح السماج ... إذنْ سأدخل بسهولة إلى الخرابة قبل الفجر، سأفتح الباب الذي يربط بين البيتين، سأرفع المزلاج الخشبيّ، ثمّ أتسلل بهدوء إلى سرير (الحجية روضة) ثم ينتهي كلّ شيء بدقائق معدودة، أخبرت أمّي أنّني سأخرج قبل الفجر؛ لأنّ عليّ الذّهاب إلى التجنيد العامة في بغداد، لغرض تقديم طلب للجنة الطبية لفحص البصر، وضعت منبه الساعة على الوقت المحدد، وقد دقّ المنبه بصوته العالي، دقّ أكثر من مرّة، لكنّني لم استطع أن استيقظ، بل لم يقو جسمي على ذلك، أخيرًا استيقظت بهلع على صوت أمّي، جاءت مسرعة، وهي تهزني من كتفي: "أكعد! أكعد بسرعة! تسمع الأصوات؟!"
لقد استيقظت فعلا، استيقظت بعد ربع ساعة من انتهاء المنبه، سمعت أصوات الصياح "يبووووووو، يبوووووو، يبوووووو" قالت أمّي: "ماتت الحجية روضة، ماتت الحجية روضة، الله يرحمها"
وما عدت أتذكر متى سقت إلى الحرب؟ ومتى ذهبت إلى الجبهة؟ ومتى أسرت؟