يقدم لنا الكاتب التونسي تجربة الراوي في سجن من السجون التي تنتشر وتتزايد في البلاد العربية مع تنامي القمع والاستبداد. ومن خلال تفاصيل معاناته وتعذيبه بأشكال مختلفة على مدار سنوات يكشف لنا مراحل تطور وعيه ورؤاه للعالم داخل السجن وخارجه. كما يطرح تساؤلات كاشفة عن مكانة الإنسان في مجتمعاتنا العربية.

البرزخ

مدرج إلى آخر الموت

سمير ساسي


تصدير

"لو كان الكلام يعاد لنفد"

علي بن أبي طالب

عاد فخر الدين من مخفر الشرطة بعد أن سجل حضوره اليومي الذي فرض عليه من يوم غادر السجن، قضى في السجن عقدا من الزمن لكن السجان لم يكفه ذلك فاتبعه بحضور يومي لدى رئيس المخفر.لم يكن هذا اليوم عاديا في المخفر، فرئيس العسس أثار في نفس فخر الدين ما ود لو نسيه أو تناساه،استفزه حتى أعاده إلى السجن دون أن يلجه، تداعت ذكرياته المريرة سريعا إلى نفسه، وأحس بضيق أفقده لذة العمل في يومه حتى ترك كل شيء، وآوى إلى ركن في بيته خبأ فيه بعض كتب ورسائل قديمة استطاع أن يخرجها من السجن على حين غفلة من العسس. قلبها جميعا  حتى انفتحت أمامه رسالة إلى أخيه الصغير بعثها  قبل خروجه من السجن بزمن يسير،كان السجن يومها قد ملأ نفسه بكل شئ فاستراح على ورق أرسله إلى أخيه فسلم ولقيه الآن فأطلق فيه عينيه:

الكتابة امتداد كوامن النفس امتدادا أفقيا يستوعب الماحَوْل ليرتقي الكل في رحلة الكدح المتواصل نحو الله لذلك ضرب الله مثلا كلمة طيّبة كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.

الكتابة راحة من الكدح تزيد الإنسان قوة ونشاطا وتحيي في النفس لواعج الشوق نحو نهاية سعيدة للرحلة ونحو الآخر الذي يشاركك السفر لذة وألمًا، ولا تكون الحياة من دونه.

والآخر عندي هو أنت واحدا بعينه متعددا في الزمان والمكان. أكتب لك هذه التجربة التي لا تنتهي برفع القلم ولكنها تنفتح دوما نحو أفق لا يعرف مداه إلا من اكتوى بنار الشوق إلى مستقر لرحلة الكدح.

تجربة تنفتح على كلّ الاحتمالات ولا يصبر على أذاها وبعد الشقة فيها إلا من تزوّد وتخفف، ولا يذوق لذتها إلا محب أدرك معنى الكدح فهان عنده الكد، إذ الكل كادحون طوعا أو كرها. فكن من الطائعين تحسّ لذة التجربة واسمح  لي أن أكتب إليك لأحدثك عن بعض ما ذقته أو أذوقه في هذه الرحلة.

واستسمحك أن أقول لك: "بنيّ" عطفا مني عليك من عناء الكدح إذ أصطلي بناره الآن ودوما ولكنها نار كالنور يضيء القلب فيتسع للتجربة.

واعلم يا بنيّ أني إنما أكتب إليك لا طلبا للشهرة، فالشهرة تفسد لذة التجربة. ولا ابتعادا عنها فتلك عاجل بشري المؤمن بالكدح.

إنما أكتب إليك لتقر عينك حين تعلم أن الطريق لم تخل يوما من السالكين ولتتعظ بما فعلوه وما أخطأوا في فعله، ولأجهدنّ نفسي لأكون ناقدا بصيرا مخبرا لك كأنك المعاين فإذا وصلتك رسالتي هذه فاقبل عليها إقبال محب لاقى حبيبه بعد طول غربة. وانظر فيها نظرة عاقل لم تلهه لذة العسل عن إدراك خطر الحية.

ولست أزعم يا بني أني كنت كما أطلب منك الآن أن تكون، إذ لم ألتق في البدء حين عزمت على الرحيل وخوض تجربة الكدح من يدلّني أو يرشدني إلى مكامن الخطر أو يفتح لي أبواب الزاد.

وإنما اتفق لي ذات غربة أن التقيت شابا يافعا وكنت غلاما غضا حدثني حديثا عقلته فانطلقت وتاه هو عن الطريق فلم أغتر لهلاكه ولكن أسفي أن أبدأ رحلتي لحظة تيه شيخي عنها.

كنت طفلا لأبوين من الله عليهما بتسعة آخرين توسطتهم فكنت أثقلهم حملا. ولدت ذات شتاء من أزمنة القهر التي مرت بها هذه الأمة لكنه كان أقصاها، شتاء تسلط فيه الغاصبون على أرض فلسطين فانتهى الزمن عندنا أو قل توقف ليبدأ زمنهم. وكنت ترى أجسامنا مثلهم ولباسنا يشبه لباسهم ولكن عقولنا كمعتوه ذهب عنه العته فلا يدري ماذا يفعل ولا أين كان.

ولم أدرك هول ما أصابنا إلا حين ناصفت الطريق. عندها أحسست أن الكبد يشتد والنصب يطول فعزمت أمري وتوكلت، فلما أثقلني الحزن حدثت أبي وكان رجلا تمرس بالحياة فهاب ما أنا فيه وأشفق علي من طول الرحلة وحدثني حديث أب غلبت عليه العاطفة فضن بابنه على السالكين وآثر أن يكون له هو وحده، فأدركت أنه لم يكن ذاك هو أبي الذي عرفته.

أبي الذي علمتني مواقفه أن لا أنحني ولا أخنع وأن أكون رجلا ولا أهتم بالثمن. فلما أيقنت أن حديثه كان عاطفة أومأت برأسي إرضاء له وواصلت الطريق، ولم ينطل عليه ذلك فقد أدرك بحنكته ما أكننته في نفسي ولكن أعيته الحيلة أن يردّني عما عزمت عليه فهمهم بكلام كثير ثم دعا لي.

ولم يكن ذلك شأنه وحده وإنما كثير من معاصريه ضنوا بأبنائهم وبأنفسهم على تجربة قل فيها السالكون، فاستوحشنا الطريق وصرنا إلى أسوأ حال عرفت به أمة في تاريخ البشر، وكنت كلما ذكرت ذلك اتسع قلبي لمزيد من الحزن والعزم. حزن يوقد عزما فأسير في شوارع المدينة أتحسس الغرباء بها لأشاركهم رحلة الكدح عسى جمعنا أن يذهب وحشة الطريق ولكن هيهات وجيلنا بلي بما بلي به الذين من قبله ولقد كنت حين تعييني الحيلة وتضيق نفسي وتضيق عليّ الأرض بما رحبت أوي إلى ظلّ قصيد أو كلام.

ثم أتمنى لو يصاب الجميع بالتيه فيولد جيل جديد يمشي سويا غير مكباب فتضيء الطريق مشيته. وأراك يا بني من هؤلاء فخض لجج التجربة ولا تخش الموت.

حدثنا أبو المغاليق

حدثنا أبو المغاليق، وكان ثقة في نقل أخبار أمير المؤمنين جدعًا وسطا عظيم المنكبين أمرد، -أو صار أمرد- بفعل مفعول به تطاول أن يكون ذات غفلة من أهل المدينة فاعلا فظل كمن تخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق.

وكان أبو المغاليق الحاجب يمتشق عصا يقول إنها كانت معه منذ شب عن الطوق. حدثنا قال: كنا على عهد أمير المؤمنين القائم بأمرنا أدام الله عزه وحماه، كنا قرية آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان وكان أميرنا مهابا بضعفه وقوتنا ذكيا بكلامه وتدبيرنا قويا بكرسيه وسياطنا، حليما بحمقه وهدوئنا. وكنا نحن المغاليق ننعم بهدوء دولتنا على ضر مسنا منه غير كبير يأتمر بأمرنا الكبير قبل الصغير ويخشانا الشريف قبل الحقير فقد ورثنا حجابه القصر منذ سرق جدنا أبو العراقيب الأشرف وصية أمير البلاد يومئذ قبل أن يكتبها إذ أوحي إلى عبده كاتب الأمير أن يدس السم في قلمه لاسم الموصى له بالحجابة فما زال هذا يسفل وجدنا يعلو حتى بلغنا المنزل وسميت أنا ولدي المغاليق حتى لا أجنف في وصية والدي فأعق ولدي قبل أن يعقني فنفشل وتذهب ريحنا ونكون من المحجوبين. ثم عن الملك أغراه البال الخلو والمرح الحلو ليخبر أهل المدينة فيحوّل هدوءنا حركة فينظر كيف يعملون فدعا أبا المغاليق الحاجب فلما وافاه وحيا بأحسن مما حيّاه نظر إليه وقال: "أيها الحاجب".

فبهت أبو المغاليق ولم يكن قد ناداه بمثل هذا اللقب من قبل ولكنه لم ينبس ببنت شفة، وكان الملك ينظر إليه من طرف خفي يتأمّل قسمات وجهه فالحاجب أول أبواب الاختيار فإن كان هيّنا كان شأن أهل المدينة أهون. وإن كان صعبا كان شأنهم أصعب لما يعرفه من سطوة أبي المغاليق وتعنفه المخالفين بما لا يطيقون.

ما الذي حدث فيناديني بمثل هذا النداء؟ هكذا حدّث أبو المغاليق نفسه ولم يتكلّم وتألم ثم تجمّل وكأن الملك علم بما يجول في خاطر أبي المغاليق فأتم حديثه ولم يأبه بذلك:

لقد رأينا ورأينا لا يخالف ولا يراجع أن نعزلك. ونجعل مكانك أمتنا أم البواكي فتقوم بشؤون دولتنا وترعى سدانتنا. وتكون أنت مكانها تخصف النعل وترفع الثوب وتحضّر الأكل.

- جعلت فداك يا مولاي، ولكن أملي فيك لا يخيب ورجائي لا ينقطع وعسى أن لا يكون قد جاءك مني ما لا ترضاه أو سعى بي عندك واش حقود أو عدوّ حسود فتأخذني بجريرة لم أتركبها وإني ضعيف أمام غضبك، ورجائي في عفوك كبير والرأي عندي أن تأمرني فاطلع أم البواكي على أسرار خدمتك فتقوم بها كما تشاء أنت. ولكن ما الذي أوغر صدر مولانا الأمير؟

- حسبك أبا المغاليق فما كنت لأسمع قول الحساد فيك ولا أثق بما يقال فيك ولكنه بدا لي أن أخبر أهل المدينة فعزمت أن أبدأ بك فانظر ماذا ترى؟

أدام الله ملك مولانا، الرأي ما ترى فأنا عبد مطيع وخدوم ودود ولكن أشير عليك والأمر إليك أن تعمد إلى بعض ندمائك الخلّص فتأمرهم فيجلسون إلى الناس ويظهرون لك الخلاف. وإني أرى أن تجعلهم فرقا ثلاثا فتدعو أبا عبد الرحمن الزيات فتأمره أن يحدثهم عن فرقة الأمة وتشتت الدولة ويحبب إليهم الوحدة ويستنهض فيهم الشعور بالعزة ويذكرهم مجد أسلافهم الأعراب بإطناب وإغراب.

ثم تدعو أبا محمد الوعاد صاحب الأمجاد فيحدثهم عن غلاء المعيشة وفقد الرغيف من السوق و بطنة أهل البطانة والسكوت عنهم من قبل مولانا. أما حنطلة بن محرم فليدعو العامة ممن يفلحون الأرض ويكفرون الزرع ويسرون الحديد.

فإذا اجتمع لكل واحد منهم خلق كثير يحسبهم الرائي جميعا وليس بينهم رابط متين أمرتنا أن نسمل العيون بنشرها ونصم الآذان بزرعها ونرعب القلوب بشرحها. ثم إذا مضى على ذلك زمن غير يسير قمت إلى الناس في موكب مهيب يخشاه العدو والحبيب فذكّرتهم قهرك وسلطانك وودك مع ذلك فإذا علموا منك العزم وعرفوا فيك الحزم أمرت أن يكون لهؤلاء مجلس مشهود يدعون فيه إلى ما يرون فتتعالى الأصوات بالهتاف ويدعون لك بلا خلاف فيذهب عنك الملل الذي أنتابك وتكون الحركة التي أردت.

فأعجب الملك بذلك وأصبح حديث أهل المدينة مجلس الزيات واجتماع مولانا الأمير بأبي محمد الوعاد ولقاء حنظلة بالفلاح والحداد وأصبحت المدينة كأن لم تهدأ بالأمس وظنّ أبو المغاليق أنه قدر عليها ونسي ما كان يخشاه من قبل وجعل لعيونه عيونا ليعلم أن قد صدّقوه ويكونوا عليه من الشاهدين.

ولقد صدق عليهم أبو المغاليق ظنه إلا فريقا ممن لم يصنع على عينيه ونأى بنفسه عن مجالس الزيات ولقاء حنظلة و الوعاد. فقد روي أن امرأة خطب أبو المغاليق ودها، فأبت وكانت حرة، ولم يكن النساء على عهدنا يجرؤون على ذلك إذ المدينة جوار كلها إلا اللاتي أبين وقليل ما هن.

وكنت صغيرا، قال فخر الدين حين شب بي عن الطوق حديث أبي عن زهور ذبلن لجني أمير المؤمنين لهن قبل أوان قطفهن. ولم يكن الأمير على ما حدثنا أبو المغاليق بستانيا ولكنه زير نساء. يتجافى جنبه عن المضاجع شبقا وشهوة إذا سمع في المدينة عن زهور لم يقطفهن قبله إنس ولا جان.. وقد بلغنا أنه جمع ذات صيف زهورا كان قد ديّث آباءهن كرها واسترضاهم كرها. فما زال بهن حتى أدلج فلما أدلج بلغ بهن الذبول عنان السماء، فلما أفقن كان القصر قد أناخ فرشهن في مواخير المدينة التي جاست خلال ديارها فما أبقت إلا بعض بيوت لاصق أهلها الجدر جوعا وتطهرا ومازالت قصة الرجل الذي شكا إلى زوجته سرا ضيق ذات اليد وغلاء المعيشة قبل أن يهمّ بها فبات يتدلى كدلو بئر بلا قرار يحاول أن يعانق الهواء فيتأبى عليه. مازالت هذه القصة تقرع الآذان فتسكن الحركات.

وكنت طموحا غلبت عاطفتي عقلي لم آبه لها إلا حين كان أبو المغاليق يداعب جسدي بعصاه يستنطق عظمي بعدما أذرى لحمي ولم يكن الوقت يسمح بالمساءلة والحساب فالألم يلبس جسدي وعيون الجلادين تحاصرني، وأبو المغاليق يشدد عليّ المداعبة والسؤال وكان همي أن أثبت فلا أسقط فإن السقوط لا نفسا أبقى ولا ألما أفنى ولا أميرا أرضى.

ومر اليوم الرابع ولم أعد أذكر من عالمي إلا الزنزانة حيث استرق الحياة، ومر إلى ذاكرتي حديث أبي المغاليق لحظة نزولي عليه وكان مكتبه مملوءا كتبا اطمأن قلبي حين رأيتها رغم أني لا أرى رأي صاحبها ولكن ذهب إلى ظني أن من يملك مثلها لا يمكن أن يتردى إلى المهوى السحيق، ولكن صوتا ينبعث من وسط الزنزانة أذهب أضغاث أحلامي كان صوت شاب قبض عليه وأربعة آخرين يتدربون قرب الوادي دون إذن أبي المغاليق.

قال الشاب، وكان يظن أننا في الأمر سواء: إذا طلب منك أن تنزع ثيابك فلا تفعل، سيغلظون لك القول قليلا ثم يكفون عنك أيديهم بعدما يضربونك ضربا غير مبرح. اطمأن قلبي قليلا وعلمت صباحا وأنا معلق كما ولدتني أمي على شاكلة دجاجة مصلية، والعصا تنزل لا تكاد تفارق بدني، وصراخي يتيه وسط أصوات السيارات في الشوارع المحيطة بغرفة التفتيش، أن أبا المغاليق يصنف الناس بحسب درجات السقوط وأن جميع من في المدينة يمشي مكبا على وجهه يصمّ آذانه إلا عن صوت أبي المغاليق يصف عصاه منشدا:

وحـــاميتي كـأن بهــا دلال    فليست تهش إلا على العظــام

بذلت لها الروافض والسبــايا        فســاستهم ونادت بالعظــام

وكان اليوم الثامن حين أذن لي أبو المغاليق بالخروج من الزنزانة يأسا من سقوطي أو طمعا فيه. وكان يأسه عندي أقرب، وطمعه عنده أغلب إذ لم يسمع في المدينة عن رجل نزل ضيفا على أبي المغاليق ثم خرج من عنده إلا ساقطا أو شبه حي ومن لم يخرج نفق من الزنزانة إلى عالم آخر ليس فيه أبا المغاليق.

وحين ولج فخر الدين المدينة متخذا الزنزانة وراءه ظهريا أحس أن فوانيس المدينة كلها قد انطفأت، ونجومها أفلت، وأن الطريق إليها ذات شوك وتعب، وإن رجولته على شفا لفظ إن همس به إلى أبي المغاليق هوى به إلى حافة السقوط وإن أمسك عنه ظلّ واقفا.

أحس أن الشوك والتعب يحاصران جسمه ويمتدان فيه، وأن أحلام أمه تنهار على شوك الطريق، فأمسك لسانه ورفع رأسه وداس على الشوط ومشى سويا على طريق بدا له طويلا فلم يشعر بدفء أمه وهي تعانقه.

كان بيتهم واقعا بين مسجدين وسط القرية التي كانت حاضرة الوادي. كان بيتا متواضعا بما فيه. والده كان رائدا والرائد لا يكذب أهله. علمه ذات غفلة من أبي المغاليق أن يكون رجلا ولم يحي ليرى متاعب الرجولة تعيده مرة أخرى إلى أبي المغاليق. وحسب اللقاء قصيرا ولكنه طال بعد أن عاد الزيات و الوعاد و حنظلة وكل من في المدينة إلى حضيرة القصر ينادمون أمير المؤمنين وظل وحده يعانق الرجولة وعلى قدر رجولته تداعب العصا جسده.

وتغير الجلاد  والزنزانة ولم ير الكتب هذه المرة في الرفوف ولكن ناسا يكتبون على جسده ما لو قرأه أبو المغاليق نفسه لولّى منه فرارا ولملئ منه رعبا. فالمثقب الآلي يعمل في الجسد حتى ما يكون فيه ما يصده عن عمله كأنه يخرق مفازة. وقد يتفتت لحمك وينخر عظمك ويسقط شعرك، وأبو المغاليق يلعب بالمثقب الآلي لا يبالي وهو يتلذذ بقارورة من زجاج كسر أعلاها تخترق دبرك وأنت تشد إليها كخيمة إلى وتد في يوم عاصف. ولا تعجبن إذا وضع الملح على جسدك المثخن بالجراح التي خطتها موسى أبي المغاليق كلوحة فنان تشكيلي يلاحق عُقابا في زوايا مدينة أطفأت أنوارها ليلة عيد ميلاد. وعجائب أبي المغاليق كلما ثبت الجسد ضد واحدة منها أسرعت الأخرى إليه كإسراع النجم إذا انقضّ للرجم وأتبع بعضها بعضا حتى إذا لم يعد في جسدك موضع تنزل فيه إبرة أنزلت إلى سرداب لا يسعك، ملئ أجسادا مزقت كل ممزق فلا تسمع إلا همسا وأنينا،مظلم لا يلجه الضوء إلا من كوة صغيرة بالباب يفتحها أبو المغاليق ليلقي منها طعاما لو شمه كلب لم يلعق طعاما منذ بضعة أيام لولى هاربا وله ضراط.

ثم يمر أبو المغاليق إلى نفسك يمزقها ويقطعها فلا شيء عند أبي المغاليق يبعد عن التمزّق، ولا تمزق نفس إلا عنده ولذلك يعمد إلى زوجتك أو أختك أو أمك بحسب وضعك عندهم تنظر إليها وهو يتأملها كأنه لم ير امرأة قط. ولو وصل الأمر إلى هذا لهان ولكنه يطلب منك أن تباشر زوجتك على أعينهم وأمك وأختك يرقبان المشهد والجلاد يحتضن أختك كأنها خليلته وهي تستغيث ولا مغيث.

وماذا لو رأيت أحدا ممن أحببت قبل أن ينزل أبو المغاليق المدينة، حاله مثل حالك وهمه مثل همك يؤتى به من السرداب الذي كنت فيه فيؤمر بأن يمتطي ظهر أمك أو أختك أو زوجتك وتؤمر أنت بمثله. كيف يكون حالك إذا أمرت أن تستنكح يدك و أكمك تنظر إليك، أو أن تُحمل على القيام بتصرفات الشواذ ومع من؟ مع بعض من أصحابك، وعلى أعين الملأ من جماعة أبي المغاليق. هل تعدّ سقوطا أن يذكر من كان على مثل هذه الحالة بعض سره إلى أبي المغاليق؟ ! فلم يسمع منذ بدء الخليقة أن أحدا شهد مثلما شهده فخر الدين ومن معه على يد أبي المغاليق الحاجب وزبانيته.. فحتى الموت لا يسعف من كان يتمناه تلك اللحظة.

لم يسقط فخر الدين لكنه ذكر بعض سره ولم يفشل ولكنه تعب، والسر والتعب، يؤديان إلى السجن لأجل قد يطول وقد يقصر والسجن أحب إليه مما هو فيه ولو كان سجنا مدى الحياة المهم أن لا يسقط، إذ السقوط نهاية وفخر الدين مازالت تملأ الحياة كيانه ولا يرضى أن يموت حيا.

لم يدخل فخر الدين السجن بعد، لكنه كان يحدث نفسه أنه أحب إليه مما يفعله به الجلاد.

ولو علم ما في السجن ما استعجله.

إذا سقطت قد تنعم قليلا برضا أبي المغاليق. يعطونك رغيفا مضافا خلاف بقية المساجين الذين يعيشون على رغيف واحد يوميا، قد يضاف لك بعض الوقت عند الخروج إلى الفسحة اليومية لكن سقوطك يزداد بمقدار الوقت المضاف إن لم يكن أكثر. عندها تمشي في الناس تتغشى وجهك ظلمة لا يلمح معالمها إلا من ظل واقفا -إنها ظلمة الساقطين بلا شك سمة في وجهك لا تنمحي يدركها من كان حولك بلا عناء حدث فخر الدين نفسه فأسرعت إليه صورة الساقط في السجن ليلا يمشي بين السجناء لا يسمع إلا همسهم: "لقد باع نفسه.. جاع فأكل من إليتيه.. هذا الذي يذكر أسراركم ويعجل بها إلى ربه لعله يرضى.. ساقط قواد".

واصل فخر الدين الحديث إلى نفسه عن الساقطين كأنه استلذ النجوى وقد خلا المكان إلا منهما:

تصلك همساتهم آناء الليل وأطراف النهار قد لا تأبه لهم إذا استحكم منك السقوط وتخز همساتهم ضميرك في بداية السقوط فتنهض، قد اتخذت كلامهم وراءك ظهريا فلن ترحم، فهؤلاء رغم فدامة أكثرهم ورغم الأغلال التي عليهم ورغم طول أبي المغاليق إلا أن بعضا منهم يعمد إلى الساقط فيهم فيشوه وجهه بجرح لا يندمل إذ تغمس موسى الحلاقة في الثوم. وفي السجن لا تشوه إلا وجوه الساقطين. لن ينفعك أبو المغاليق – ولو أخرجك- من السجن لن ينفعك إلا الفرار من السقوط.

وسألته نفسه:ولكن لماذا ترفض السقوط؟ أتخاف أن يشوه وجهك أم أن طبع الرجولة فيك يأبى ذلك. إذا كنت تخشى موسى الحلاقة المغموس في الثوم، فأنت ساقط لا محالة، فأبواب أبي المغاليق أشد إغراء من وقع الموسى. ولكن الحر إذا جاع لا يأكل من إليتيه.

 نعم يجوع الحر ولا يأكل من إليتيه رددها فخر الدين كأن وحيا نزل عليه فغمرته نشوة أنسته ما حوله وما هو فيه وطفق يذكر زمانه الذي مضى حين كان ينفجر ضاحكا إذ يضربه أخوه لا تلذذا بالتعذيب و انما ليذهب حزنا تكاد قلوب أخواته يتفطرن منه شفقة عليه فأخوه كان عظيم البنية إذا ضرب أوجع وإذا صاح أفزع يقوم بتأديبه عوضا عن أبيه الذي أقعده المرض بعد سنين العمل في سكة الحديد. كان الفتى يتسلل يوم العطلة الأسبوعية إلى ملعب الحي تاركا دفاتر الدراسة وأبيات الشعر ومشكلات الحساب.. هو لا يرى بأسا أن يتحلل بقية يومه منها ليعود إليها ليلا وقد أشبع نهمه من لعبته المفضلة كرة القدم. بها يستطيع أن يبدع شعرا ويفهم مسائل الحساب وإن كان يجد فيه صعوبة كبيرة لكن أخاه ومن ورائه أبوه وكل العائلة لا يشاركونه الرأي ويرون ما يفعله مضيعة للوقت ومفسدة له وملهاة عن النبوغ والتفوق. كان أملهم بعد خيبة أخيه الأكبر الذي سقط في امتحان الباكالوريا. لم يكن أخوه غبيا، ويزعم أنه أسقط لأنه يتبع رجلا ممن خالفوا أبا المغاليق، ولم يكن فخر الدين الفتى الصغير يفقه كثيرا مما يقول أخوه لكنه يصدقه فهو كبير العائلة لم يجرب عليه كذبا من قبل، ولم يكن ليجرؤ على ذلك فيخل بأدب الأخوة ووحدة العائلة.

حمّلته خيبة أخيه فوق جهده إذ أصبح أمل العائلة بعده. كان أصغر منه بكثير لكنه من تلاه في الدراسة وتفوق فيها. ومن سبقه من إخوته اكتفوا بدراسة شعب مهنية قصيرة المدى قذفت بهم إلى ميادين العمل. ولم يكن حظ البنات في عائلته أحسن منهم إذ حرمن الدراسة فعُرف القرية –التي لم يكن بها معهد- لا يسمح بالالتحاق بمعهد المدينة، فهي عند أهل القرية ميوعة وإفساد والبنات شرف العائلة ولا تجدي دراسة إذا ضاع الشرف. فلتذهب الدراسة وليبق الشرف. هكذا أجمعت العائلة- وكان منهم- أو هكذا رأى أبوه ومن غير أبيه يرى رأيا.

ولزمت البنات البيت وصار وهو أوسط إخوته أثقلهم حملا عقد الجميع عليه آمالهم سينجح ويتفوق ويصير طبيبا تفاخر به العائلة القرية والمدينة. سيعالج أباه من مرضه الذي أقعده عن الحركة وهو الذي لم يكن يطيق القعود أبدا، تراه دائب الحركة بين محطة القطار – حيث يعمل – وبين الحقل وحديقة البيت. وكان الفتى يحب هذا النشاط ويكره عسف أبيه عليه.

وصارت العائلة تحلم بالفتى الطبيب فلم يخالفهم واختار شعبة العلوم رغم أنه كان أكثر ميلا للأدب والشعر ونبوغا فيهما لكن الأدب لا يحقق حلم العائلة. والعائلة جمع وهو فرد فليطمس حلم نفسه قبل أن يذهب بأحلام عائلته فيزيد ألم أبيه، وتحزن أمه، وتنكسر نفوس إخوته.

ومضى يحلم فكل الناس يحلمون، وفي قريته يعيش أكثر الحالمين، استعاضوا عن الحقيقة بالحلم، لم يكن يسعهم إلا الحلم، وهم يرون من كان بالأمس وزيرا وقد أصبح اليوم طريدا، والعسس يجوس خلال الديار يبحث عن كل من تسول له نفسه أن يؤوي هذا الطريد أو ذاك، أو يحمل أفكاره، فكيف بهم وهم المستضعفون لا حول لهم ولا قوة دمرتهم الحرب الثانية، ونسيهم أبو المغاليق إلا من عسسه لا حق لأحد منهم أن يختلف ويجهر بمخالفته، فهم يمارسون اختلافهم في أحلامهم، هناك لا يستطيع أن ينفذ العسس والوشاة، فأبواب الأحلام مغلقة إلا لصاحبها يفتحها متى يشاء، وإن كان كثير من أهل القرية لا يرغبون في فتحها لكثرة ما أرعب أبو المغاليق يقظتهم وهم يخشون لو فتحوها لتراءى لهم الوالي بجنده فيحرمون الليل كما حرموا النهار لكن فخر الدين لا يرغب في إغلاقها وليس له نية أن يغلقها. وهذا النوم يداعب أجفانه لعله يضع عنه إصر السجن الذي يحاصره، ولما أوغل فيه رأى كأن الشارع الذي يقف في بدايته لا آخر له، ووجد خطواته مثقلة كأن على كتفيه الجبال و به شوق إلى الراحة لكن زاويته في أقصى الشارع ينبجس منها قبس الضوء تشده إليها تدعوه كأنها تلحّ علي لا يدري أو هما يرى صنعته خيالات التعب في عينيه وهموم لم تغادره من يوم أخلى المدينة أهلها إلى القصر ينادمون أبا المغاليق؟ أو نورا حقا يمسح العتمة عن الشارع ويملأ فراغا ملك عليه نفسه، فليس في المدينة ما يملأ فراغ نفسه. كتبها لا تحكي إلا نكتا و تفاهات وما جدّ منها منع أو سجن صاحبه وهو لا يريد أن يكون تابعا صفّاقا يلهث خلف تافهين ينشرون كلاما لا معنى له ودراويش يلعبون ويمرحون والناس من خلفه يدفعون مالا ووقتا ولا أحد يستنكف هرجهم والمرج، لا أحد يجده فخر الدين يحارب معه الفراغ.. كان يهجس إذ برجل ناهز الأربعين مهيبا وقورا يأخذ بيده يشد عليها ثم يمسح على جبينه فكأنه لم يعرف تعبا قط.

شده إلى الرجل نوره ودمع يسيل على خديه كلما اقترب منه فخر الدين زاد دفقه حتى خيل إليه أنه يفيض فيحملهما. لكن الرجل سار بفخر الدين خطوات لا يبالي، صموتا كأنه أبكم.

هم فخر الدين أن يسأله لكنه مر به على سور به أبواب أخذته الدهشة حين رآه كأنه يعرفه من بدء التكوين. و له به ذكريات، أوكأن الرجل يريد أن يرجعه إلى ماض لا يقدر فخر الدين أن ينساه وان راودته نفسه ذات ضعف أن يفعل.

وإذا بجماعات من الناس يتزاحمون على أبواب عديدة طاف بها فخر الدين سريعا وكلما مر بأحدها شده أمر غريب فعزم أن يلجها كلها حتى يعلم سرها.

باب القبر الأول

تصدير

ماذا تركت لأفراخ بذي مرخ

زغب الحواصل لا ماء ولا شجر

غادرت كاسبهم في قعر مظلمة

فاغفر هداك مليك الناس يا عمر

الحطيئة

رصد لحركة سجين بحسب ما نقلته العيون إلى كبير العسس

اليوم الأول: إنه يتجول في الغرفة.

اليوم الثاني: يتسلل ليلا من فراشه ليأكل طعاما من عند صديقه سرا.

اليوم الثالث: يمشي ويقول شعرا.

اليوم الرابع: يحدق النظر في جدران الغرفة ونوافذها.

اليوم الخامس: عندما أصبح لجأ إلى حبل الغسيل يحاوره صامتا.

اليوم السادس: يطيل الصلاة والدعاء.

اليوم السابع: يطلب ساعة حائطية لينظم وقته.

يوم زائد قد يأتي، ذكرناه تحوطا: قال: "إنه أصبح كما ولدته غرفة" كبير العيون غ1 جناح2.

باب القبر الثاني

تصدير

"لا تستوحشن لقلة السالكين

ولا تغترّن لكثرة الهالكين"

القاضي عياض

أيقنت ذات غربة أن ورائي عقبة كؤودا لا يقطعها إلا المخففون، فعمدت إلى لباس الذلّ فألقيت به، وإلى قلبي الوجل من خوض التجربة فأوقدت عليه بنار الشوق. فلما انطلقت ألم بي ضيف غير محتشم عاجلني بالقرى على غير العادة عندنا في إكرام الضيف، فغادرني في قعر مظلمة. فلما أفقت إذ أنا بقوم يبيعون رجولتهم بثمن بخس، رغيف خبز أو كلمة مدح من عسس المظلمة. وإذا بهم يشيرون إلي: هذا رجل قادم إلينا !!!

فعلمت أن الرجال عندهم قليل وأويت إلى ركن في المظلمة ليس به أحد، وقد تملكني ذهول من هول ما رأيت ولم ألبث أن حضرني طيف أمي وهي تعد لي فطور الصباح في ظل شجرة التين في فناء بيتنا الذي جمع بين معمار عربي قديم وآخر غربي حديث، فكان شأنه شأن عائلتنا التي جمعت بين أبوين تشبثا بالقديم، وأبناء درسوا في مدارس الحداثة فكانت عائلة زخرفا تمتع الناظر إليها بحجاج، بين أب يرى كل محدثة بدعة، وأبناء استحيوا أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت أبيهم يهمسون إليه أنه قد جاءهم من العلم ما لم يأته فليتبعهم، فيثور هو ظنا منه أنهم يعرضون به، ويشبهون بآزر أبي النبي إبراهيم عليه السلام – وهذا قدح في إيمانه الذي لا يساوم فيه-، فتراهم يتسللون لواذا من زوايا البيت ينهون حجاجا قد يفسد عليهم لذة الفراغ الذي هم فيه، فإذا استمر أبوهم على حالة الغضب هذه فإنهم سيقضون يومهم في الحقل، ومن حالفه الحظ فسيبقى لينظف حديقة المنزل. ولكنهم يدركون جميعا أن اختلافهم مع أبيهم لا يفسد الود بينهم، إذ كان حانيا عليهم برا بهم يخشى عليهم من لفح النسيم البارد، يرفع صوته فوق أصواتهم، ويخفض لهم جناح الذل من الرحمة مثلما يفعل مع والدته التي يضرب به المثل في البر بها داخل قريتنا الصغيرة حيث يسري الخبر كما النار في الهشيم، ولا شك أنهم الآن جميعا قد علموا نبأ ما صرت إليه فمنهم من يأسف لحالي ولا يشمت بي إلا حقود لم يجد ما يذهب غيظه مني إلا هذه الفرصة أو جاهل ملأ العسس رأسه أكاذيب زادها خوفه صدقا فتولى كبرها يزيد وينمي حتى صرت بين يدي جلاد أشفقت الأرض من مشيته عليها يمسك بتلابيبي ويوقظني كأنما يستل سيفا من غمده في حرب ضروس فيحطني إلى فوق فأستوي واقفا تتملكني رعدة كمن يتخبطه الشيطان من المس فيصخب في وجهي: "ما الذي جاء بك؟

قلت في نفسي: "وهل في الدنيا عاقل يؤم مكانا يعلم أنه يمسي فيه حيا ويصبح ميتا؟"، وقاطعتني مداعبة من يد الجلاد حطت من عل:

- بم تهمهم يا هذا؟

- لم آت لوحدي ولكنكم جئتم بي.

- فأنت ضيفنا فانزع ثوبك ولا تتردد.

لم أسمع يوما عن ضيف تنزع ثيابه قرى له، لكنني حين رأيته يقولها مقطبا جبينه أيقنت أنني هالك لا محالة، وأنهم ينزعون ثوبي ليغسلوني. فحمدت الله على الإكرام بعد موتي.

لكن الموت أمنية لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم، إذ لما أفقت من لسعة عمود من خيام عاد، وجدتني معلقا بين السماء والأرض كشاة علقت للسلخ. أغطس المرة تلو الأخرى في ماء آسن يقطع طعمه الأمعاء، وكدت أصيح لكني تقيأت، فأنزلت أرضا يلاطفني السوط فيتخذ من جسدي لوحة يرسم عليها ما أبدعته يد الجلاد صعودا ونزولا وتركلني أرجل الجلادين من حولي على لحن سباب تعزفه ألسنة لم تجد غيره لحنا.

ثم جيء بي إلى رجل سوء منظره يدل على سوء مخبره، بدا هادئا أكثر منهم منتفخ الأوداج كمن ينفخ في الكير لا ينفك عنه، قصير القامة، محمرّ الوجه كأنما تملكه الغضب من يوم ولدته أمه، فتأملني شزرا كمن ينظر إلى قاتل أبيه، ثم ركن إلى متكأ أعد له في صدر الغرفة، وتجاهلني برهة يقلب أوراقا بين يديه يحاول أن يزيد من قلقي، فاضطرب ولا أثبت وأكون طوعا له. وقد دأبوا على مثل هذا السلوك مع كل وافد جديد عليهم تكون في نفسه رهبة المكان الأولى سرعان ما تنقضي وهم يعجلون حتى لا يفوت زمنها ويستمر فيسقط الوافد لعبة في أيديهم.

وهم يزعمون أنهم درسوا ذلك في علم النفس حين يفتخرون أمامك أنهم يأخذون بأسباب العلم وهم يعذبونك فتضحك – وشر البلية ما يضحك- من علم يأتون به للموت، يخرس الألسنة، ويفني المدينة فلا يبقى بها إلا عالم بالجلد متفنن فيه.

أضجرني الانتظار وكان أبغض أمر إلى نفسي. وزاد تجاهله لي في قلقي فجاهدت في إخفائه ولم أستطع تجاهل جلادي فبعد قليل سأكون تحت عصاه وصار علي أن أجاهد طبعي وأجاهد تجاهله لي فرفعت رأسي وتهت خارج الغرفة أطرد عن نفسي الجو الخانق المقلق. وكأنه يئس من قلقي فكف تجاهله وتلا:

حدثنا من لم يبلغنا عنه كذب، قال: حدثني من لا أشك في صدقه، قال: حدثني بعض الثقات، قال: أخبرتنا بعض عيوننا قالوا: إنه في بعض أيام خلون من شهر ذي الحجة أو شهر جمادي الآخرة –لست أذكر بالضبط- التقى فخر الدين- وكان شابا وسطا بدا لي أنه رأسهم، وأنهم يأتمرون بأمره إذ كان الجميع منصتون إليه باهتمام-:

"لقد ظهر الفساد في المدينة، وأن الوالي لعنه الله ودكّ عرشه- وليشهد سيدي أنني أنقل ما قال فخر الدين إحقاقا للحق حتى لا يؤخذ مظلوم بشبهة و انني أبرأ إلى سيدي مما قال – هذا الفاجر المارق أتى أمورا منكرة وجب علينا الوقوف في وجهه وشق عصا الطاعة والدعوة  إلى الخروج عليه حتى إذا اجتمع إلينا خلق كثير أضرمنا نارا في سيارات العسس فلا يصلون إلينا، وعمدنا إلى قصر الوالي فدككنا أبوابه وخربنا زخرفه وحملنا الوالي إلى سجن المدينة فإن أبي اتباعنا قتلناه وصار الأمر بأيدينا نقيم الولائم للفقراء، ونفتح أبواب السجن ليخرج المظلومون. هذا ما عندي والأمر إليكم لتمحصوه وتقبلوه على وجوه عدة، فإن بدا لكم ما تضيفون فأنا مستمع إليكم.

فصمت الجميع برهة مطأطئين رؤوسهم كأنما الطير عليها ثم التفت أحدهم إلى فخر الدين وقال:

- هل تثق فيما عندنا من معدات ورجال.

- بلى تمام الثقة، قال فخر الدين.

فلم يضف أحد منهم كلمة كأني بهم جميعا متحمسون لهذا الأمر بل إنهم ليتحرقون شوقا للانقضاض على قصر وإلينا ولا أراهم إلا فاعلين لو تُركوا أحرارا أو أحياء.

فانظر أيها السيد المحترم ماذا تفعل بهم؟ وأشهد الله أني توخيت الصدق والدقة فيما نقلته إليكم، ولست أبغي عرضا من الدنيا ولا يحملني على ما فعلت حقدا على أحد منهم، ولكن خشيت أن يؤتى وإلينا من حيث لا يعلم، ويتسلط علينا هؤلاء الأشرار فيسعون في الأرض فسادا ويُهلكون الحرث والنسل، وإنني في خدمة والينا أبدا ما حييت. فاحزم أيها السيد المحترم أمرك واضرب على أيدي هؤلاء العابثين واجعل الأغلال في أعناقهم والسلاسل حتى يعتبر غيرهم ولا تخش فيهم لومة لائم، واذكرني عند والينا بخير فإني أحب أن يرفع ذكري عنده، ولست أبغي أكثر من ذلك جزاء.

أدام الله عز والينا وأظهره على أعدائه وأقام الحق به.

كتب في رمضان لسبع سنين خلون من الآن، وختم بحضور شهود عيان.

كنت أستمع إلى ما يتلوه هذا الرجل منتبها حينا وتائها أحيانا أخرى أحدث نفسي عن وقاحة هذه العيون الأفّاكة التي لا تراعي فينا إلا ولا ذمة، ولم أنتبه إلا وهذا الذي كنت أظنه أحدا من أصحابه ينتفض كمن شيك بسم خياط يصرخ في وجهي ويجذب إليه أذنيّ كأنهما ملك له نسيه عندي:

- الآن أدركت خطورتك يا فخر الدين أنت رأس الأمر كله فالويل لك مني ولكني سأمهلك حتى تعلم لا نأخذ بالشبهة فقل ما رأيك فيما سمعت، واحذر أن نذكر عيوننا بسوء فإن لعيوننا عندنا حرمة.

- ولكن أيها الرجل المحترم ألم تقرأ فيما نقله إليك عيونك أمرا عجبا؟ ألم يقولوا أنني التقيت مع جماعتي في شهر ذي الحجة أو جمادي الآخرة وكان الوقت فجرا أو عشاء، أليس في هذا ما يريبك أيها المحترم؟

- علمت أنك وقح تنكر الجميل الذي صنعناه معك. فتسب عيوننا وتقدح في عدالتهم فلأفعلن بك الأفاعيل ولأعلمنك بلاغة الكلم أو لتقرن لنا بما قاله عنك عيوننا بال تردد.

وكنت موقنا أنهم سيقرون ما حدثت به عيونهم سواء أقررت أم أنكرت فهممت وقد أخذ مني التعب مأخذه أن أختم الورق بإمضائي حتى لا أعود إلى مداعبة العصا ولعبة الغطس والسوط والأرجوحة والقط الذي يغلق دونه السروال فيفعل بسوءتك الأفاعيل. ولكني تراجعت لعلمي أن ذلك لن يمنع "الرجل المحترم" من أن يودعني وداعا خاصا تستل فيه أظافري، ويحرق فيه جسمي بالسجائر ويشرح جسدي ليوضع فيه، ثم يرمي بي في زنزانة لا تكاد تجد فيها موضع قدم تقف فيه؛ رصف فيها عشرون أو يزيدون ممن أخذوا بالشبهة مثلي، فملا دخلتها كنت قد وقعت على الورقة كرها، وانتظرت أن يؤتى بي للسجن على ظن مني أن السجن سيكون خيرا مستقرا وأحسن مقيلا. فإذا بي في قعر مظلمة أحاطها العسس من كل مكان كأن الطير تخطفت منها الرجال فلا ترى فيها إلا ناظر غرفة ينقل فعلك وقولك إلى كبير العسس فإن رابه منك شيء قذف بك إلى قن الدجاج عاريا كيوم ولدتك أمك تشد فيه إلى سلسلة ألصقت بك إلى قن الدجاج عاريا كيوم ولدتك أمك تشد فيه إلى سلسلة ألصقت إلى حائط القن فتبقى ما شاء لك العسس أن تبقى منبطحا على ظهرك تتبول و تتغوط في مكانك ثم يعودون بك إلى الغرفة وإن عدت عادوا، ولا يسأم العسس من مراقبتك أو ضربك أو الزج بك في القن ما لم تستقم كما أمرت، وتتبع أوامر كبيرهم أوامر يشيب لها الوليد ويحير من غرابتها الحليم إذ تؤمر أن لا تكلم أحدا ولا تؤاكل أحدا وأن تمشي في غرفة حشر فيها ثلاثمائة أو يزيد منهم جماعة صغيرة ممن أخذوا مثلك حرم عليهم مثل الذي حرم عليك.

ومنهم كثير حظوا لدى رئيس العسس بحظوة خاصة فتراهم يتحادثون ويأكلون جميعا ويتسامرون ويسهرون ومنهم السارق والزاني والقاتل والمغتصب.. ولو فعلت فعلهم فخالفت أوامر العسس لكان نصيبك الجلد و القن.

في مثل هذه الغرفة تركني كبير العسس في قعر المظلمة وأفقت فيها على صوت أناس يشيرون إليّ بالبنان هذا رجل قادم إلينا كأنهم لم يروا رجلا من قبل وهم الذين تراهم فتحسبهم كذلك ولكنني علمت فيما بعد أن أحدهم يدخل السجن وهو على هيأة الرجل أو لعله يكون رجلا حقيقة وفعلا فيعمد إليه السجان فيرمي به إلى جماعة ممن سبقوه إلى المظلمة فيزينون له أن يكون عينا للعسس في الغرفة فإن أبي أرهبوه فإن تجلد أجاعوه فلا يذوق إلا رغيف خبز يابس طول اليوم أو قليلا من السلق العائم في حفنة ماء كأنه سفينة نوح. ولا يزالون به حتى ينسلخ من رجولته رويدا رويدا فيبدأ بنقل أخبار المساجين أولي الشبهة في الغرفة إلى كبير العسس أو من دونه من الحراس. ومن أعجب ما رأيت وكنت أظن أن الحر يجوع ولا يأكل من إليتيه رأيت طوافين يجوبون الغرف جيئة وذهابا ينادون: من يبيع شرفه برغيف خبز !

ولم يكن في الغرفة نساء فعلمت أن الجماعة يأتون الرجال شهوة من دون النساء وكانت الغرفة فرشها بعضها فوق بعض فإذا غارت النجوم وهدأت العيون مرّ الذين من فوق على من هم أسفل منهم فيأتي بعضهم بعضا. فمنهم من يأتي ومنهم من يؤتى وكلهم مأبونون. وكبير العسس غاض طرفه عنهم فأمر المأبونين هين ولا يزعج الكبير في تصريف شأنهم ثم إن له عندهم وطرا يقضيه كل ليلة إذ ينتقي غلاما غضا وسيما فيأتيه في داره التي يتخذها في ناحية من السجن وإذا شاع خبر المأبونين انزلوا إلى القن بعض ليال فإن لم تكف الألسن عن الحديث عنهم عمد إلى من شهر منهم فعزله في غرفة خاصة بهم اعتاد أن يرقمها بالسابعة وترك من لم يعرف منهم وكثير ما هم في الغرف لتضيف نفسك بهم فترى منكرا من الفعل وتصمت ويذهب نومك زعزعة السرير من تحتك ويراودك الجماعة عن رجولتك فينحصر همك في حفظها وتنسى ما عزمت على إصلاحه من أمور منكرة يأتيها العسس من كل مكان، ويطمئن كبير العسس أنك لن تحرض الجماعة على حفظ رجولتهم مادامت رجولتك مهددة. ولو اقتصر الأمر على العسس أو رئيسهم لهان ولكن جنودا لا يعلمها كثير من الناس لو عرفتهم لقضيت ضحكا جنودا كأني بهم قد تحالفوا مع رئيس العسس هم أيضا يهددون رجولتك آناء الليل وأطراف النهار لعلهم يظفرون منك بقليل من الدم يشبعون به نهمهم للأكل. هؤلاء الجنود حشرات قمل وبق تهاجمك بتحد صارخ تسفك دمك دون أن تولي أي اعتبار لرجولتك وقد تهزأ بك هذه الحشرات وتبلغ بها الوقاحة حدا تهاجم معه معالم الرجولة فيك وتحاول عبثا أن تنزع ثيابك ولا وقت لك لتذهب إلى الكنيف لتستتر فالكنيف أمامه طابور كأنه يوم الحشر لو وقفت أمامه لذهب القمل بما تملك قبل أن تبلغ منه مرادك.

وقد تعجب أنت ويضحك غيرك ويهزأ آخرون ولكن لو قضيت نصف يوم في الطابور لتقضي حاجتك في نصف دقيقة أو فقدت مكان نومك حين تفيق من الليل لتذهب إلى الكنيف إذ الفرش في الغرفة محدودة ولا ينالها إلا من كان ذا حظوة عند كبير العسس ومن بقي منهم يرصفون كما ترصف متاريس الحرب. لو مر بك ذلك لعلمت أن الأمر يقرح العينين ولعجبت كيف نحافظ على رجولتنا داخل السجن ولكن يجوع الحر...

كيف تقضي يومك في الحبس يا فخر الدين؟ قالت أمي ونحن في المكلم للتزاور حيث ترانا وقوفا يفصل بيننا حاجزان لا يكاد ينفذ النور إلا كما يلج الخيط في السم فلا ترى أهلك ولا أهلك يرونك إلا كمن ينظر من طرف خفي. وبين الحاجزين معبر يقف فيه أحد العسس أو أكثر يستمع إلينا في خشوع كأنما يتلى عليه كتاب الله فلا يفلت حرفا ولا إشارة ولا حركة مهما قلت أو قاله أهلك إلا دون في ورقة أمامه لينقلها إلى رئيسه بعد أن ينتهي الوقت المحدد للزيارة فستحرم من الزيارة ويكن مآلك القن. لذلك لن تزيد على قولك لأمك أنا بخير وأنت كيف حالك لتعود إلى الغرفة منكسر النفس ترجو لو أن الأرض انشقت وابتلعتك.

- أخيرا جئت لزيارتي أيتها الأم الحنون كيف سمحوا لك بذلك وكيف عرفت مكاني:

- ماذا تقول يا فخر الدين لم أسمعك.. كيف تقضي يومك في الحبس.. هل تسمعني؟

- أنا لم أحدثك أنت ولكني أسائل نفسي متعجبا كيف يسمحون لك بزيارتي بعد ثلاث سنين أو يزيد لا تعلمين فيها شيئا عني. لابد أنك زرت كثيرا من السجون تبحثين عني أعلم أنك لم تتلذذي بنوم أو رقاد وأن قلبك يتقطع لأجلي والعسس يكتمون خبري عنك. لابد أن احدهم قد تفوه وأنت تقفين أمامه سائلة بما يليق بمقامه فأنا أعرفهم بل قد خبرتهم لا يعرفون إلا السب والشتم ولو كانت أمه تقف أمامه فما بالك وأنت أمي وأنا عندهم من يحل بجسدي وبأهلي كل شيء يأباه طبع كريم. وأخي ألم يضربوه ألم يهددوه بالطرد من العمل إن هو أعانك على معرفة مكاني أو جاء لزيارتي أو بعث معك بعض طعام تأتين به إلي.

- ما بالك يا بني هل نقص سمعك أو مرضت؟

وهمت على خد أمي دمعتان فتداركت الأمر سريعا:

- لا يا الوالدة إنني بخير والحمد لله يومي في السجن كأمسي أو كما يقول الشاعر:

اليوم وغدا وبعد غد وأمس

الكل سواسية في غرفة الحبس

همست بذلك حتى لا ينتبه العسس فهم لا يفقهون الشعر ولكنهم لا يرضونه ولو كنت تمدحهم.

- لم تقل لي.. هكذا أعادت والدتي سؤالها.

- سيجيء يوم أحكي لك كل شيء.

عندها التفت الحارس ورمقني بنظرة من ينقض على فريسته.

- هل عندك ما تخبئه عنا لتنتظر يوما تحكي فيه.

- لا ولكني لا أريد أن أزعجها وأفوت عني وقت الزيارة.

- قل لها إذا  أنك بخير وأتمم حديثك بسرعة فما زالت أمامك دقيقة ونصف.

- ما أحرصكم على العدل والإنصاف، دقيقة ونصف أنتم لا تبخسون الناس أشياءهم. قلتها همسا ونظرت إلى أمي وهي تودعني على أمل لقاء قريب والدمع يسيل على وجنتيها وبصرها لا يكاد يفارقني وقدماها كأنما شدتا إلى الأرض. فلما نظر اليها الحارس انكفأت عنه وانصرفت فلم أدر إلا وأيوب يكفكف دمعي على حين غفلة من عيون رئيس العسس وأنا ممدد على فراشي لا يكاد طيف أمي يفارقني وقلبي يتفطر لوعة وحزنا.

- هل تبكي يا فخر الدين؟ قالها أيوب والعبرة تغالبه، ولكنه يتماسك حتى لا يزيد ألمي.

- وهل أملك غير البكاء "فلا حزن يشبه حزننا فلم الكلام ودمع العين يرتجع الكلام".

- أمك أليس كذلك؟

- بلى أيوب هذه المرأة البسيطة الطيبة ما ذنبها حتى يقف في وجهها جعظري جواظ كرئيس العسس يردها عني كأنها جاءت تبغي سلبه أو قتله.

- أربع سنوات يا أيوب لم أنعم برؤيتها، أربع سنوات مرت وأحس كأنني لم أكن طفلا، -غاب عني طعم الطفولة وحنان الأم ودفء حضنها كأنني منذ ولدت تلقفني هذا السجان الجلف كأن سوطه صنع لي، - أربع سنوات ثم أقف أمامها خمس دقائق..آ... يا إلهي.

- نعم إنها لوعة تذكرني قصيدك الذي قلته فيها.

ودون أن أطلب منه أن ينشدها طفق أيوب يرددها وكأنه يذهب عن نفسه لوعة الفراق والحزن فلم يكن حظه أحسن مني فكان ينشد كمبدع القصيد:

ثمــــان خلــــــون

شـــداد علينـــــا

ومــــا كان جفـــــوا

ولكـــــن قســـون.

ولم تسعفني سنة النوم التي أخذتني لأكمل الاستماع إلى أيوب وهو يقرأ قصيدتي، عاجلتني كأني لم أنم منذ أمد بعيد وتركت أيوب وحده يتلذذ ويتألم ورأيتني أجوب شوارع المدينة وقد خلت من أهلها كأنها خاوية على عروشها ورأيت موج البحر يعلو يخرق الشوارع لكنه لم يمسسني بسوء وفتاة تتلو على مسمعي قول الله تعالى: "لكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ ولا ما أصَابكُمْ".

وأفقت وناظر الغرفة يصيح: استو.. افهم.. احترام. ولم أنتبه إلى الجلاد يجوب الغرفة في عملية التعداد اليومي للمساجين. فقد أزاحت عني الرؤيا تعب سني السجن كلها وأيقنت أن الشمس لا يحجب نورها غربال أحمق يتطاول على صرح من طين.

معبر أو ممشى

تصدير

"ألبس لكل حال لبوسها"

الزمخشري

(1)

يراودك الشعر فتأبى

تنبجس الكلمات فتخشى

جلاّدك لا يفقه شعرا

لكنه قطعا لا يرضى

(2)

إن ترم عيشا هنيّا أو سلاما

لا تقل شعرا ولا تنظم كلاما

قولك الشعر يضحيك مدانا

أمسى قول الشعر في بلدي حراما

(3)

في اليوم السابع أنزلت إلى القن فلم

أكتب شيئا وصارت أيامي كلها يوما سابعا

(4)

جلاّدنا يحبنا

فويل لنا

يومنا يطول

وليلنا بلى

(5)

صباحًا يدخل الغرفة

سجان يحمل وردة

وأنفه مزكوم

يغرس في ظهري شوكها

ثم يعود

(6)

على وقع نعال السجان

يصطف السجناء لا يتكلمون

إلا من أذن له ربه

وقال احتراما

(7)

في الغرفة ناظران

يرقب الأول صوتي ولسان

ويلعب الآخر دور السجان

فانظر مثلا هل يستويان

باب القبر الثالث

تصدير

"السجن مقبرة الأحياء، وشماتة الأعداء، وتجربة الأصدقاء"

يوسف عليه السلام

فخر الدين .. يا فخر الدين...

كان صوتا كالرعد يناديني يهتف بي دون انقطاع يكاد رنينه يصدع أذني ففي السجن لا ينقطع النداء حتى تستوي واقفا أمام المنادي. وقد يستمر بعد استوائك فلا تتذمر فكبير العسس لا يرضاه لك وإن لم يرض كان القن وكان البلاء.

ووقفت فإذا بالكبير أمام الغرفة يسألني.

- هل أنت فخر الدين.

- نعم أنا فخر الدين.

- لا فخر لك ولا دين بم تفخر علينا، نحن أفضل منك قوة وعلما ودينا. وأي دين دينك. أنت لا تفقه شيئا تصلي وتخدع الله بالمسبحة. ويلك من منافق لعن الله دينك ودين أبائك. ما اسم أبيك؟

كانت أغنية تسمعها كل يوم بل كل لحظة يقابلك فيها أحد العسس أو تقصده لأمر تطلبه أو يطلبه تسمعه ولا تراجعها فوحدهم العسس يتكلمون ويراجعون.

- أمن أجل اسم أبي أسمع كل هذا. وما شأن أبي هذا اليوم رحمه الله. هل ستأتون به أيضا ما ذنبه؟ هل مات دون استشارتكم، أم على غير القوانين المعمول بها عندكم في موت الناس، أم جاءكم عين من الموتى يشكوه لكم، أم تطاول قبره فأطل على المدينة دون إذنكم. ظننت سور المقبرة أعظم من كل سور لا يستطيعه الأحياء فكيف بالموتى يا إلهي.. حتى الموتى يؤاخذون هنا.

هكذا همست إلى أنفاسي فقاطعتني زمجرة الجلاد

- هيه تكلم

- اسمي فخر الدين بن يوسف

- من يراسلك؟

أول مرة يسمحون لنا بالرسائل ما ظننتهم يقبلون بهذا. لعل رأفة أخذت قلوبهم على حين غرة أو غفلة أعمت بصائرهم لكنهم يحسبون علينا أنفاسنا فكيف بالرسائل. الرسالة اتصال بمن هو خارج السجن وهم لا يرضون لك ذلك. التفت إليه والعجب باد عليّ قلت:

- أمي

- ثم من؟

- إخوتي.

- ثم من؟

- أبناء عمومتي – أبناء خؤولتي..

- أليس لك أصدقاء؟

- بلى ولكنهم جميعا في السجن.

- فمن يكون عمر هذا الذي بعث إليك بهذه الرسالة؟

- ابن اختي (وفي المعاريض مندوحة عن الكذب قالت نفسي) هات الرسالة.

- لا... لعلنا نمزقها أو نحرقها أو تأتي بصاحبها إلينا فننظر في أمره لعله يكون من الجماعة إياهم، أو دفع لك مالا، أو أعانك بشطر كلمة، أو سب والينا، أو قدح فينا فلا بد من التدقيق والتمحيص حتى لا نقع في التعمية والتلبيس. ثم مضى إلى حال سبيله...

ثلاث ليال بأكملها لم يأتني خبر عن الرسالة. لم أذق للنوم لذة، تتقاذفني الهواجس كموج البحر المتلاطم: أيكون عمر الآن بين أيديهم؟ هل قال لهم شيئا ماذا فعلوا به؟ هل استطاع أن يصمد ومن يصمد تحت لفح السياط وقلع الأظافر ومداعبة القط ولعبة الغطس..

وبدأت صور التعذيب تتزاحم على ذاكرتي. لم أنس بعد يد الجلاد تداعب خصيتي يبغي أن يقتلعها من مكانها قال لي يومها أنه في حاجة إلى كرة في حجم خصيتي حتى يكمل ما جمعه من تحف نادرة ولولا أن صاحبه أتاه بخصية قال إنها أفضل لتحفه وأنه اقتلعها من رجل يكبرني سنا رأيته هذا الصباح وأنا أمر أمام الزنزانة. رأيته معلقا إلى وتد شد إلى حائط الزنزانة لا يكاد يتأوه. أعيتهم الحيلة معه جاؤوا بزوجته نزعوا ثوبا أمامه حاولوا مفاحشتها.. يا الهي.. صرخت واضعا رأسي بين يدي.

لم أعد أطيق أن أستحضر ما حصل بعدها فهل تطيق يا عمر صبرا أم هل أقررت لهم بما لم ترتكبه؟ لماذا راسلتني يا عمر؟

- أحبك يا خال.

- ماذا عساك تكون قد كتبت في رسالتك ألم تعلم أنه لا يسمح لنا بعد التحية والسلام إلا بكتابة: أنا فلان بن فلان أبلغكم التحية وأقول لكم أنني بخير ولا بأس علي وإلى اللقاء.

فلماذا راسلتني يا عمر؟ لماذا.. لماذا؟

- فقدت كل سمير في المدينة. شوارعها أقفرت وأبوابها أوصدت وأغربت هي عن عشاقها يا خال فلا ترى فيها غير العسس الجاثم عليها يبحث في زواياها ودروبها عن مشتبه فيه غريب مثلك. لم أدر ما الذي أصابها، أخرج صباحا فأرى الجميع يمشي مكبا على وجهه عميا بكما صما نساؤنا يجبن المدينة عراة يرددن:

اليوم يبدو جلّه أو كله

وما بدا منه قد أحله

ورجالنا حفاة يتقازمون أمام العسس حتى الجنائز يا خال لم تعد كما كنت تشهدها أنت من قبل. بضعة أنفار يمشون خلفها يلهجون بذكر الوالي حتى لا يتهموا: "أدام الله عز مولانا أنعم على موتانا بمقابر مسيجة وجعل عليها حرسا وأبوابا" كأنه يخشى أن يتسلل الموتى إلى المدينة ليلا، يحدثنا المعلم في المدرسة حديثا لا أفقه كثيره، وقليله لغو يرسم لنا صورة بقرة أو حمار أو شرطي يراقب بطاقات هويات المارين. كل صباح يقرأ في السبورة: الطفل المهذب هو الذي يخفض صوته ويمشي الهوينا ويحيي الشرطي إذا لقيه ويفسح له الطريق. ثم يجمعنا المعلم لنرقص ونقبل يده لنخرج صفا لا نتكلم.

- لماذا راسلتني يا عمر؟

-  بكت أمي حين رأت صورتك في البيت وأبي تسلل لواذا إلى بيتكم حيث جدتي تجلس إلى موقد النار يتوقّد من نار حزنها عليك. تفتأ تذكرك حتى تكاد أن تكون حرضا أو تكون الهالكين. لم نعد نذكر اسمك أمامها إشفاقا منا عليها فعيناها تكاد تبيض من الحزن وقلبها ينفطر شوقا إليك. لم أعد ألعب في الحي مثلما كنت تلاعبني وأطفال الحي غزا الشيب مفارقهم ولم يبلغوا الحلم بعد. أذكر حين كنت تأتي لتلاعبنا كنت تصارعنا بلطف وكنا نداعب لحيتك الجميلة. هل حلقتها أم مازالت كعهدي بها.

- لماذا راسلتني يا عمر؟

- أخوك الصغير سمّى نفسه أبا الأحزان. قال شعرا يفيض حزنا:

الشمس مكلومة الأهداب واجمة هذا الصباح

والطير تطاردها الرياح

وأنا هنا ما بيني وبين ظلي مكسور الجناح

أخذوه بجريرتك وليس له جريرة غير أنك أحببت مدينتك وكتبت شعرا وقلت حسنا فهل يرمي بمثل هذا في  السجن. أم يحرم أخوك من دراسته وتسد دونه أبواب الرزق لمجرد أنه أخوك؟

لم نعد نتزاور كما كنا من قبل، أهل القرية يحبونك ويأسفون لحالك ولكنهم يجتنبون الحديث إلينا. صرنا نحن في سجن أضيق من مظلمتك التي غيبوك فيها، لا ألومك إن لم تعذرهم ولكن لا تحمل عليهم فإن فيهم من يكتم حبه ويذرف دمعه إن خلا وحده ولكنهم أضعف من أن يقفوا في وجه الوالي. قد تهزأ بي يا خال وتظنني تطبعت بطبع من خلّى بك وتقول ألم أكن أنا ضعيفا لماذا لم أنحن هل كنت أقوى من الوالي لأقف في وجهه وحدي. نعم كنت كذلك يا خال وكان في قلبك ما يهد الجبال الرواسي. أبصرت النور فمضيت، كنت رائدا والرائد لا يكذب أهله وأهل القرية أهلك فلا تحقد عليهم.

- لماذا راسلتني يا عمر؟

- مات محتسب السوق وسجن ابنه وصودر ما كان يملك زيتونتان وكوخ. ونودي عليه في القرية أنه كان يسرق الناس ويحابي الغشاشين فاستقر رأي الوالي على تعيين محتسب جديد. تعلم من هو يا خال: إنه الأشنب أحمق رجل عرفته القرية. لقد وسّد الأمر إلى غير أهله يا خال فأصبحت لا ترى في السوق إلا مكّاسا أو محتالا أو غشاشا أو محتكرا.

ارتفعت أسعار الخبز والأشنب يجوب السوق طولا وعرضا يرى ولا ينكر، درّته تعلو ظهر أبي علي لأنه جادل كبير التجار في سعر القمح، الأشنب يا خال أصبح يلقب بذي الدرّة... ذو الدرة يهابه الجميع يطوف في السوق وينادي من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا الأشنب أقول ببقاء الأصلح وزواج المتعة وتعاقب الليل والنهار.

- لماذا راسلتني يا عمر؟

- طلاب الجامعة وأدباء المدينة يقولون كلاما كثيرا ولا نفقه كثيرا مما يقولون يحرفون الكلم عن مواضعه.. زينة مجالسهم النساء يشربون خمرا ويقولون غزلا...

هل تذكر قولي يا خال:

يا امرأة شبهت في وطني

خضرا أو بعض غلال

هل كان المشبه إلا قزما

يتسلل لواذا من دور الشعب

إلى بهو القصر

يجهل ثمن الخضر في سوق الشعب

إذا أتخمته فاكهة السلطان

- لماذا راسلتني يا عمر؟

- لا أظنّ الصلاة تقبل ولكن إقامتها أفضل من تركها فالمساجد خلت من العباد ونودي على المنابر للوالي "يا أيها الناس اسمعوا وعوا إن الوالي يأمركم أن تركعوا وتسجدوا وعليكم بالخشوع والخضوع والخنوع عسى الله أن يهدي الوالي فيزيدكم من نعمه". ونعمه لا تحصى ولا تعد فقد جعل للمساجد حراسا يمنعون عنها الكلاب، وأجري فيها الماء الزلال، وأفتى لكم بجواز صلاة الفجر في بيوتكم حتى لا يتعب الشيخ ولا يستيقظ الصبي. أيها الناس قد أظلكم زمان صعب من أطاع فيه الوالي فقد فاز ومن عصاه فقد ظل ولا يلومن إلا نفسه. إن طاعة الوالي من طاعة الله فمن أراد أن تقبل صلاته ويزداد له في الأجر فلا يشرك في طاعة الوالي أحدا. اللهم انصر والينا فإنه أقام دينك وحماه.

- لماذا راسلتني يا عمر؟

- هذه مساجدنا وأسواقنا ومدارسنا وكتاتيبنا وكل ذلك عندنا فما عساني أفعل ولا سمير في المدينة ولا أنيس. من تراني أحدث إذا لم أراسلك. هذا إليك يا فتى فهل للّيل من فجر.

- أحسنت صنعا يا عمر.. أين الرسالة.. الرسالة يا ويلتي مات عمر ضاعت الرسالة آه.. يا الهي.

أشرقت الشمس ولم يأت السجان بالرسالة ولم أسمع صدى صوت عمر.

نفق

تصدير

"وقال للذي ظنّ أنه تاج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه، فلبث في السجن بضع سنين".

قرآن كريم

حيّيت يا كلب الحراسة

لك الرئاسة والنخاسة

ولك إن شئت القداسة

ما دام في وطني أشباه ساسه

أو كان فيهم صنو الخساسه

يبيع أرضه بتقبيل رأسه

باب القبر الرابع

تصدير

"أسعد أم سعيد"

مثل عربي

نودي علينا هذا الصباح، الكل مدعوون للحضور أمام كبير العسس. ومن عادة كبير العسس إذا دعانا جميعا أن الدعوة حفل عشاء راقص نجلد فيه تباعا ونستف تراب القن. حتى إذا أرقصتنا العصا جيدا أعادنا والكل يحمل قطعة خبز يابس هدية كبير الحراس إلينا حتى لا نظن به بخلا ولا يكون رقص دون عشاء لذلك حين نودي علينا هذا الصباح ظن الجميع أن موعد الحفل حل فاصفرت الوجوه كأنما عصفت بها الريح. ولم أسمع من قبل أن حفلا يبث الرعب في النفوس مثل حفل كبير الحراس هذا. وتهامست الألسن وتسلل البعض يضيف بعض ثياب لعل الجلاد لا يظفر به فيكون الجلد أخف لكنه نسي أن كبير العسس يستحي أن يرانا نرقص وعلينا ثيابنا. ومررنا بالقبو وهمس هامس:

- لماذا لا نستعطف كبير الحراس فيؤخذ موعد الحفل هذه المرة أو يلغه تماما.

- وهل تظنه يرضى، إنه يبيت ليلته مريضا لو فعلها.

- لقد خدمت كبير الحراس كثيرا وكنت له عينا فلماذا يدعوني معكم. لقد حل علي غضبه يا ويحي إني إذا لمن الهالكين.

كنت وأيوب نستمع همسهم ونلتفت يمنة ويسرة. وسألني أيوب: أليس عجبا أن يدعى هؤلاء معنا وجلهم من عيون العسس والحفل في غير موعده؟

همهمت ولم ألتفت إلى أيوب فالأمر عندي سواء: الحفل في موعده أم لا وهؤلاء معنا أو ضدنا لا يهمني الثبات عندي أنني سأجلد. وأعاد أيوب: أليس في الأمر سرّا؟ قلت: لا يهم، انتظر سوف ترى.

ولم يطل انتظارنا إذ أدخلنا العسس قاعة كبيرة تزين جدرانها صور الوالي وأعلام البلاد وكبير العسس يجلس على كرسي في صدر القاعة. فأمرنا أن نجلس على كراس مصففة. فعجبنا ولم نمانع وصمتنا فإذا كبير العسس يحيّينا بلطف على غير العادة عنده ثم مضى يقول:

" إن الوالي أدام الله عزه و نصره على من عاداه رحمة منه بكم ورأفة نظر في أمركم ورأى بعد أن فكر وقدر أن يمنحكم فرصة لعلكم تنتهون وإن عدتم عدنا وليكونن عذابنا أشد وأبقى. سنعرض أمركم على القاضي بحسب تصنيف نعده نحن فمن رأى القاضي أن يسرحه صرفناه إلى أهله ومن رأى أن يحسبه سجناه بأمر القاضي وحده لا يشاركه في أمره أحد فانصرفوا حتى يأتي كل واحد منكم دوره.

وجاء دورنا كأنّ الأمر دبر بليل فدخلنا دار القضاء ولما جاوزنا الباب أخذت بعضنا رعدة كأنهم يحشرون إلى جهنم. دار القضاء ملجأ المظلوم ومأوى الضعيف تبعث في نفوسنا مثل هذا الشعور. إن هذا لشيء عجاب "هكذا حدثتني نفسي وأنا أتأمل زخرف دار القضاء والجند يحيطون بها من كل مكان زخرفا لم أتذوق فيه معنى الجمال رغم روته الأخاذة لا لبلادة في ذوقي وإنما لهمّ غلب علي وهواجس تهمس لي أن باطن هذا الزخرف عقن دفين".

لست أدري لم لماذا صدقت تلك الهواجس والهموم لكنها كانت تتزاحم على نفسي تزاحم المربدين على شيخهم تلح عليّ أن ظاهر الدار زخرف وباطنها عذاب أليم. ومازلت بين هواجسي وزخرفها أقلب عيني وأجادل نفسي حتى نودي علينا. فانتصبنا واقفين أمام رجل حليق اللحية والشاربين، وسامة وجهه لم تحجب الشر المنبعث من عينيه. حوله بطانة أو مستشارون لو رأيتهم لعلمت أن حظ إبليس من الجمال والطيبة أوفر من حظهم تزينوا جميعا بزي أسود أشربوا لونه في قلوبهم فاسودت وأربدت حتى لم يعد للرأفة إليها مسلك ولا للظلم عنها مخلص.

تأملونا جميعا ثم أجلسونا وأفردني سيدهم القاضي بالوقوف ليسرد على مسمعي ما كتب على ورقة أمامه قال انني أمضيت عليها بمحض إرادتي عند رئيس الشرطة أقرّ فيها أنا فخر الدين بن يوسف بأنني في يوم من أيام الشتاء الفارط أجمعت وثلة من الشباب معي أمرنا على حين غفلة من عسس المدينة فأحرقنا وكسرنا وأفسدنا كل ما اعترض سبيلنا ثم إنه لما دعاني رئيس الشرطة لم أنكر فعلتي هذه وافتخرت بها لكوني أول من خرج على الوالي لظلمه وتعدّيه حسب زعمي.

وعلى هذا أقفل محضر الشرطة في ساعته وتاريخه. ثم سألني القاضي وقد كنت لحظتها أبحث عن إرادتي في قسم الشرطة التي حدث القاضي أنني أمضيت بمحضها على ما كان يتلوه. وتذكرت يومها كيف طلبت مني عصا الجلاد بعد أيام من المداعبة أن أدع إرادتي لدى حافظ الأثاث في القسم حتى لا تتلوث بأوساخ الزنزانة فلما فعلت مكرها جيء لي بهذه الورقة فانتبهت والقاضي يكرر سؤاله:

- ما قولك فيما سمعت؟

- يا سيدي القاضي أنا..

- نعم... قاطعني القاضي.

- أنت من خططت ودبرت وفعلت فعلتك التي فعلت ثم أقررت وليس لك اليوم من محيص.

فعجبت له يسألني ويجيب نفسه وهمست إليّ نفسي: ألم يقل كبير العسس أن القاضي سوف ينظر في أمركم دون ضغط ولا تأثير فما باله يقرّ تهمتي دون أن يسمعني أو يثبت وقلت له:

- ليس الأمر كما تظن يا سيدي القاضي

- أنا لا أظن بل أعتقد وأحكم باليقين بعد أن أتبين. وقد فعلت وبدا لي أنك مخطئ. وقد تقرر بعد النظر والاستماع إلى المتهم وإلى لسان الدفاع الذي حضر وأدلى بما رآه صالحا. تقرر رفع الجلسة للمفاوضة والتصريح بالحكم.

رفعت الجلسة ورفع معها أمل كاذب ألقته في روعي طيبة كامنة في فؤادي من زمن والدي راودتني كثيرا عن نفسي:

- لا تحقد وإلا سربلت في كفن.

- كيف لا أحقد وهذه أعمالهم وأحوالنا، مظلمة كل زوايا مدينتنا لا أرى بصيص نور. حتى القاضي أدانني قبل أن يسمعني، كبير العسس كان أرحم منه لأنه منسجم مع مهمته، جلاد لا يعرف إلا السوط والعصا وقد تعجب إذا رأيت بين يديه كتابا. ولكن القاضي ما شأنه استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟

- من قال هلَك الناس فهو أهلكهم.

كل الناس هلكى إلا العسس. والعسس هلكى في خدمة كبيرهم وكبيرهم أهلكته خدمة الوالي والوالي أهلك كثيرا قبله. كم أصغر كبيرا وأكبر صغيرا وأعز ذليلا وأذل عزيزا، نساء المدينة حرث له يأتيه أنى شاء تسبقه جماجم الرجال الذين ضنّوا بأعراضهم عليه ومن أبت من النساء – وهن كثر – فموعدها التعذيب وإن أخطأتها العصا فالتشهير يسير بحديثها – إفكا-.

أقزام يجوبون المدينة كلابا سائبة يتولون كبره فترى آذان الناس منصته وإن لم تصدق وألسنتهم متلقية وإن صمتت. فهل بعد هذا من هلاك؟ من ظل منا حيا غودر في غيابة مظلمة برزخا، ميتا ينتظر بعثا يأتيه من حين لآخر كلما حن الجلاد إلى عصاه وبينهما وجد لم يبلغه صوفي من قبل كأنهما حلا في بعضيهما قبل بدء التكوين. فحنينه لا ينتهي وفي أجسادنا يتجلى ليلا نهارا. وهذا القاضي يقول إنه أيقن من إدانتي.

ما عساني أقول يا طيّبة، أجفوك وتعوديني، دعيني لعلني أرتاح حين أحقد.

لحظتها وددت لو أن طيبتي تمثلت أمامي كبير العسس غلت يداه أرمي به من شاهق ثم أتلذذ برؤيته تهوي به الريح من مكان سحيق. لم أدر كيف تمنيت ذلك، أنا فخر الدين من كانت أخته تضحك حين يغضب على أصغر إخوته ليؤدبه وتقول له إنك لا تعرف كيف تغضب يا فخر الدين. وتكاد تستلقي ضحكا حين أحاول أن أثبت العكس. وما ألبث أن أنفجر ضاحكا أنا الآخر ويعود الأصغر إلى شقاوته.

ليست شقاوة صغير ما دهاني هذه المرة يا أختاه ولكن دناءة قاض وسوط جلاد، وظلمة مدينة وهمّ كالجبال وأشياء أخرى... هكذا حاولت أن أستسمح أختي وقد حال بيني وبينها أمد بعيد. استسمحها ولما يتمثلها خيالي فقد كانت صورتها تنمحي من ذاكرتي لطول مكثي في السجن. والسجن سوس الذاكرة ينخرها حتى يكاد يفنيها وليس للذاكرة بقدر مكوثها في السجن محيص عن ذلك. فأن ترى يومك واقفا أو جالسا تعاشر مائة أو يزيد وجوها لا تتغير سنين عديدة، همكم كيف تقضي حاجة بشرية في كنيف تنبعث روائحه في أرجاء الغرفة حتى لا تكاد تجد فيها متنفسا نقيا، أو الحصول على رغيف يعطيكه الجلاد كأنما يرمي به إلى كلاب لا يفضل في طعمه إلا الجوع، تأكله كرها حتى تجد في جسمك ما يحميه من لسعة السياط أو تراكم في هرج ومرج أو يتعالى صياحكم فذلكم الدش أو الاستعداد له حيث علينا أن نتسابق كخيول رهان فمن فاز نعم بما يقطره علينا كبير العسس من قطرات ماء معدودة، ومن تخلف أيقظ الوسخ من سباته ثم عاد إلى الغرفة يحك جلده كمن أصابه الجرب.

هكذا ينتهي يومك ويتكرر كله أو جله سنين عديدة فتنبش في ذاكرتك عن أشياء تحفظها من ماضيك فتلقاها هاربة متلاشية كأنما تغشاها السجن مثلك. قد تظهر لك حين تخرج من السجن ولكنها الآن مرتدة إلى أعماق الذاكرة متخفية كأنها تحذر مكر الجلاد. لعل الذاكرة وحدها في هذا السجن من يدرك ما أنت فيه فتحفظ سرك على تعب تسببه لك. قد تتضح خيالات اليوم غدا ويتميز الزمن يوما ما وتكر طفلك أو صديقك أو بعض أهلك حينا آخر لكنها الآن مرهقة يأتيها التعب من كل مكان وتأتيك بالتعب في كل آن فتخجل حين يقف طفل على سور "المكلم" متعلقا به يناجيك: عمي.. عمي، ولكنك لا تذكر إلا أنه أحد أبناء إخوتك لا تحضر صورته ذهنك الآن يناديك: جئت لزيارتك يا عمي فهل تذكرني أنا.؟

وينهمر دمعك وتضيق نفسك قبل أن يتم كلامه وتعجل إليه حتى لا تكسر خاطره.

- نعم يا أسامة أذكر جيدا أنا أحبك كثيرا كنت...

- ماذا كنت يا عمي؟ أنا لست أسامة ما الذي أصابك هل أنت بخير هل نسيتني؟

وتنتشر كلماته في فؤادك نارا تكاد تأتي عليك تنبهك إلى آثار السجن في ذاكرتك تشعرك أنك انتهيت أو تكاد ولكنك لا تستسلم رغم الموت الذي تعيشه تحاول أن تنسى الحزن الذي يخز قلبك قبل أن يمتد إلى الصبي الواقف أمامك.

- أقصد هل جاء معك أخوك أسامة وكيف حاله؟.

يبتسم الصبي تمر الحادثة في مخيلته كأن شيئا لم يكن وترفع أنت رأسك كأنك تقتلعه من بين الصخور وترى على خد أخيك أبي الطفل الواقف أمامك دمعتين. لقد أدرك أخوك ما أنت فيه لكنه لم يتكلم ونطقت عيونه دموعا قذفت بك إلى غياهب الموت مرة أخرى فانكفأت لا تلوي على شيء.

يوقظ صوت القاضي وقد عاد بعد تشاور مزعوم يزيد في موتك بضع سنين فتنقل إلى السجن غير مكباب تحمل أحلاما وترقب الفجر...

باب القبر الخامس

تصدير

"مرّ حواريو عيسى ابن مريم على جيفة كلب فوضعوا أيديهم على أنوفهم فقال لهم عيسى ألم تروا أن في أسنانه بياضا"

- ما أقسى ما أنت فيه يا بني. ولكن أليس في سجنك نور تستضيء به أو ركن تأوي إليه. أليس غير العصا والعسس والقن والكلب... هل خلّ تفضي إليه ويفضي إليك أليس فيمن حولك رجل يراك ولا يفشي سرك للعسس.

حدثني يا بنيّ عسى سجنك هذا لا يطول وعساني وإخوتك جميعا نجد عزاء لما نحن فيه فقلوبنا تكاد تنفطر بل قد بلغت الحناجر وظننا أن لن ترجع إلينا. حدثني يا بني فحديثك يهدئ ليلي إذا ارقني السهاد وقد نزف البكاء دموع عيني وعساك تمسح بكلماتك التي تبعث بها إلى ما خطه الدمع على خدي. وعسى الكتابة بيننا تهتز وتربو وتنبت من كل حرف حبل وصال بينك وبين احبتك جميعا.

- بلى في السجن كثير مثلي ولكن وجودهم يزيد من همي يؤرقني ويطيل ليلي. قد أرتاح قليلا حين أحدثهم ولكن ما بالك برجل يرى خليله أو قريبه أو أخاه ومن كان صديق طفولته يصبح حيا ويمسي ميتا يصيبهم ما أصابني أو أكثر، فمتى أحدثهم وكيف أفضي إليهم. إنني تعب وهم أحوج ما يكونون إلى المواساة مثلي حين أعلق إلى أعلى أو أنزل إلى القن أو تداعبني العصا. كيف أكون أخا لهم وأزيدهم على عنت العسس همي فوالله إنني لتعروني أحيانا شدة أود معها لو تقبض روحي ولكني أكتمها حتى لا يسقط في يد أخ جريح أو صديق يجلد...

هل رأيت أماه كلنا هكذا عزاؤنا صبرنا وبسمتنا. تعلمين أماه أن بسمة يراها أحد من أخيه تفتح قلبه وتزيد عزيمته وتزيح همه وتوهن جلاده، بسمتنا هي حديثنا يا أماه نفضي من خلالها بأسرارنا وأتعابنا ونواسي بها بعضنا كأننا حين نبتسم والعصا تعلو ظهورنا نقول لبعضنا صبرا فإنما هي الضربة الأولى ولا تدري أين يقع الباقي، المهم أن لا يرى منك الجلاد وهنا أو ضعفا فالحرّ يجوع ولا يأكل من إليتيه.

هذا هو النور الذي سألتني عنه يا أماه والركن الذي آوي إليه حين تعوزني القوة بالجلاد. فلماذا حزنك علي وأنا رجل تخيف الجلاد بسمتي لا تجزعي فأنا راجع إليك وإن طال سجني. فهل رأيت شمسا تغيب دون أن تشرق أو ليلا لا يعقبه نهار.

- جميل كلامك يا بني ولكن قل لي متى تعود هل ستقضي عاما أم عامين أم أكثر أم أقل؟.

لم يجد فخر الدين ما يقوله لامه، هو يعلم انه مدة الحكم ضده لكنه كان يحلم ان تنقضي قبل ذلك،همس إلى نفسه  يحدثها عن أمه وأمهات وكثير من أمهات الذين معه: هكذا هي أمي وغيرها يرون العام والعامين أمدا بعيدا ونراه نحن في عمر الشعوب قليلا ولكنهن يستعجلن. قالت نفسه

هل ترى السجن قدركم؟

قال فخر الدين يحاجج نفسه قد نكون أخطأنا إذ تركنا الوالي يتمكن من سجننا ولكننا لم نأت هنا لنلهو ونلعب.ثم قطع كلامه كأنه التبس عليه ورحل إلى أمه يحدثها مرة أخرى: قد لا تفهمينني أماه بل قد لا أستطيع أن أوضح لك أكثر مما قلت وسيأتي اليوم الذي أحدثك فيه دون أن يرقب السجان ما نقول. حين أعود إليك وألجأ إلى حضنك عندها لن يستطيع السجان وإن حاول أن يحول دون حديثنا لأننا سنهمس إن خرست ألسنتنا وبين الأم والابن لغة لا يدركها الجلاد.

تعلمين أماه حتى هذه الرواية التي أكتب، حظها من النجاة مثل حظها من الغرق في بركة ماء القن الذي يسكب منه يوميا على السجناء لأن عيون العسس تتربص بها ولا أمل عندي إلا المخاطرة والمجازفة. سوف أستنبط طريقة لإخفائها فهي عندي كفلذة كبدي أتقطع أسى وحسرة حين تقع بين يدي الجلاد، لن يرحمها أو يرحمني سيمزقها مثلما فعل بسابقاتها لأنه لا يفقه شعرا أو أدبا. قد تظنين أنه سيشجعني إن رآني أنظم قصيدة أو أكتب قصة بلى ولكن على طريقته الخاصة. تقولين كيف: لا بأس فهذا مما لا يخفي ما دمت اكتبه هنا على هذه الورقات سوف يمزق لحمي قبل أن يمزقها وسوف يسخر منها كثيرا ويضيف إلى سني السجن المدونة بسجلي الخاص أرقاما أخرى قد تصغر أو تكبر على قدر ما فهم هو من الرواية أو القصيدة. أذكر ذات مرة أن الجلاد أخرجني على عجل من الزنزانة حيث كنت أقبع والتف حولي كثير من أعوانه يطلبون أن أغني لهم خمس أغنيات، نعم خمس أغنيات يا أماه. قلت يومها لابد أن للجلاد يوم سعد ينسلخ فيه من جلده فيطرب وظننت أنني فائز ببعض الراحة لا محالة. فأنشدت بعض شعر كنت قد نظمته لكنني كنت ساعتها أحيا لحظة غباء، لم أنتبه منها إلا حين ضحك الجميع حولي فأدركت عندها أن تلك هي السخرية التي يعقبها الألم وتحسست ثوبي فلم أجده ورأيتني كما أنجبتني أمي يحاول الجلاد أن يرسم على جسدي قصيدة شعر قال انني لن أنساها أبدا لهذا يا أمي سوف أضع هذه الورقات حين أتمها في زاوية من حقيبة ثيابي أخيطها خصيصا لها حتى لا ينتبه إليها الجلاد فحقائبنا عرضة للتفتيش الدوري لكن بعض الحيلة قد تطمس أعين الجلاد عنا.

- عدت تحدثني من جديد عن العصا والقن والجلاد.. ألم تعلم أن ذلك يمزق قلبي وإن فرح بصبركم وجلدكم أليس عندكم شيء آخر تحدثني عنه يا بني.

- لا أعود إليه بملكي ولكن حملته فاصطبغ به قلمي لا ملجأ له منه إلا إليه كل ما حولنا يهمس إليك سرا أو جهرا أن الجلاد هنا، حتى الحب عندنا أول شيء يذكرنا به صورة الجلاد. قد تعجبين ويسخر غيرك ولكنها الحقيقة فلا تأمن إذا أحببت أو أحببت أو أحبتك امرأة مكر الجلاد قد تحلمان كثيرا ويزعج الجلاد أحلامكما على حين غفلة من العاشقين ويرمي بك في غياهب السجن ويمنع عن كنك رسائلها أو يمنع عنها رسائلك فيذهب في ظن أحدكما أو كليكما أن لا مناص من الفراق إذ لا معنى للحب من جانب واحد. أليس مقيتا يا أماه أن ينتهي الحب بسبب رسالة يحجزها الجلاد عنده قد لا يموت الحب في قلبك أو في قلبها ولكنه يخبو ويبلو كما يبلو الثوب والبعد جفاء. عندها ينقض الجلاد فيضغط حتى تفترقا. قد نصمد ونثبت لكن لابد أن نعترف أن بعضا من تجارب حبنا قد فشلت ولم تصمد ومحزن أن يموت حبّ تحت لسع السياط.

- تعلمين سر ذلك يا أماه لأن الجلاد لا يفقه معنى للحب إنه لم يقل كلمة حب واحدة لزوجته، كان يعجب منا حين يكلم بعضنا زوجته بكلام رقيق لين أو حين يكتب بعضنا الآخر في مطلع رسائله: "حبيبتي" أو "إلى التي يرتاح قلبي لذكرها" وغير ذلك من كلام الود والحب. إنه يمزق رسائلنا ويرمي بها في سلة المهملات مثلما ينزلنا نحن إلى القن. هو لا يعترف بغير رسالة رسمية موجزة من زوج إلى زوجته أما الأحبة الذين حال السجن دون زواجهم مثلي فإن حظ رسائلهم من الغرق أوفر من حظها في النجاة. لذلك احتلت على السجان وأنا أراسل خطيبتي وحبيبتي فبدأت رسالتي "زوجتي الحبيبة" فمرت ولم ينتبه إليها الجلاد وجاءني الرد طريفا لأن حبيبتي فاجأها أنّا تزوجنا وهي لم تعلم فقالت تمازحني: والأجمل أنك تزوجتني فقل لي متى تزوجنا.

ثم أردفت تؤكد حبها لي وتعمي الجلاد عنا حتى لا يمزق رسالتها "حبيبي ما دمت زوجي أهديك روحي وقلبي وأغلى ما عندي"

تسلمت الرد ولم ألبث طويلا حتى جاء التفتيش لم أعره اهتماما هذه المرة لأنه لم يكن عندي ما أخفيه والرسالة مختومة من الجلاد نفسه بعد أن قرأها مليا. كنت مطمئنا إلى أنه لن يمزقها فلم أسع إلى إخفائها وليتني فعلت فقد بدا للجلاد أن يغير رأيه حين أخذ الرسالة بين يديه مرة أخرى، استنكر وجودها عندي قلت سلمتنيها وهذا ختمك عليها. أفحمته هذه المرة لكنه مزقها فعذرا حبيبتي فقد أعيته الحيلة أن يمزق قلبي وكلماتك راسخة فيه فليفعل ما يشاء فإنا سنظل حبيبين...

تاقت نفسي لم يكن ثمة حلّ أستعيض به عن رحماني من الزيارة. هذه المرة تمثلت أمي واقفة أمامي حدثتها وحدثتني. تبسمت ولما ينتبه السجان.

باب القبر السادس

تصدير

ومن نكد الدهر على الحرّ

أن يرى عدوا له ما من صداقته بدّ

المتنبي

الليلة شديدة البرودة والسماء مكفهرة والنجم لا يكاد فخر الدين يلمحه كأنه ينظر من طرف خفي. يرفع فخر الدين رأسه إلى السماء ثم يطلق زفرة كأنها أخرجت من غياهب الزمن السحيق: هي أول مرة أرى السماء منذ أربع سنوات أرى السماء بأفقها الواسع الممتد. كم كانت سماء السجن ضيّقة. كنت أسترق النظر إليها من باحة الفسحة اليومية والباحة يعلوها سقف في شكل مربعات أو مستطيلات قد من حديد لا يسمح لك برؤية السماء إلا على شاكلتها.

كان فخر الدين حين همست إليه نفسه بهذه الكلمات واقفا عند باب المخفر مخفر مدينة الجلاء كما يسمونها مدينة بحرية جميلة هكذا يعرفها فخر الدين لقد زارها من قبل حين كان حرا بل هو حرّ وإن صفد في القيود. زارها قبل أن يدخل السجن يومها كانت شوارع المدينة رغم جمالها ونظافتها وهدوء البحر فيها توحي إليه بالمحنة.

العسس في كل مكان وفخر الدين يمشي غير مطمئن رغم أنه ليس مشتبها فيه ولكن العسس لا يفرقون لذلك فضل التسلل إلى الكليّة حتى لا يطلب العسس بطاقة هويته ولو فعلوا لاكتشفوا أنه ليس أصيل المدينة ولكان قد استعجل ما هو فيه الآن حيث يقف على باب المخفر والعسس في جيئة وذهاب يمرون به وهم عنه معرضون كأنهم لا يأبهون لوجوده "لعلهم لم يلحظوا وقوفي هنا منذ ساعة بل هم مطمئنون أنني لن أهرب وأين أهرب وكل المدينة رشقت مخافر وعسس كأنها استعاضت بهم عن سورها القديم.  ولماذا أهرب وأنا سأغادر المخفر بعد قليل فقد انتهت مدة السجن وأنا أنتظر رئيس المخفر ليتثبت في أمري لعلهم نسوا حكما آخر بالسجن ضدي فيرجعوني إليه أو أكون مطلوبا في بعض المدن الأخرى من الوطن الكبير فلكل مدينة عسسها وكل عسس يجهد ليثبت ولاءه للوالي وإن كانوا لا يعرفونني أو لم يسبق لي أن زرت مدينتهم ولكن سأنتظر لأرى ما يفعلون. إن كان السجن فقد اعتدت عليه ولا عجب منه وإن كان غير ذلك فسجن أكبر لعله أعجب مما عرفت".

كان يحدث نفسه ويستعجل المغادرة. سيلقى أمه بعد أربع خلت ذاق فيها الحرمان والألم. بدأت الأحلام تسحبه خارجا وتستبق الزمن والمسافة.

هو الآن بين يدي أمه، قبّلها ضمها حدثها عن سجنه بكى وبكت كفكفا دموعهما ثم نهض إخوته مصطفون يرقبون المشهد. هم أيضا بكوا قبل أن يعانقوه. أما هو فعادت إليه صلابته فقد نسي الدمع من يوم وقف بين يدي الجلاد.

صبر تصبر تجمل ونصح إخوته بكفكفة الدموع لكنه كان كمن يحاور موتى فهم كانوا في حاجة إلى هذه الدموع يمسحون بها آثار أقدام العسس تطأ فرشهم وأجسادهم وتمر على طعامهم تخلطه بنجاسات الطريق كلها ولم يسعفهم الدمع من يوم غادرهم إلى السجن فقد حبس هو وحبس دمعهم معه. كانوا ممنوعين من البكاء منعا خفيا ظاهرا، فلو سال دمعهم للحقوه في السجن جزاء لعدم رضاهم بأوامر الوالي. لكنه عاد اليوم فتحرر دمعهم وسال بلل ثوبه تحسسه لم يجد أثرا فانتبه.

مازال لم يغادر المخفر لكن نفسه سبقته إلى البيت، زفر زفرة كادت تزهق روحه وانتبه رئيس المخفر يناديه من فوق بينهما عشرون درجة أو يزيد سيصعدها مسرعا ليخرج مسرعا وينتهي كل شيء. ولكن من يدري لعلها لن تنتهي. فلماذا أفرحه نداء رئيس المخفر ليبطئ إذن حتى يوهم العسس أنه ليس لديه ما يعجل إليه فلو علموا عجلته لحرموه مما يعجل إليه كدأبهم دائما.

وبدأ فخر الدين يصعد الدرج لكنه أحس بها مزدحمة كأن عليها من يصده عنها ويقلق سيره فوقها. لعلهم أدركوا عجلته فعدلوا عن قرار تسريحه لكنه لا يراهم، الدرج فارغ فلماذا تثقل خطواته عليه، لعلها الذكرى، نعم إنها هي والأمل أيضا.

مدّ رجليه جاوز الأولى فالثانية فالثالثة فلما أراد أن يجاوز إلى الخامسة توقف أحس بشيء غريب يوقفه يصده عن التقدم. رأى جسدا ممددا على الدرج إنه جسد أبيه هل عاد إلى الحياة، تحرك شوقه إليه حنّ لمعانقته أراد أن يعتذر إليه إذ لم يحضر جنازته ولم يشيعه إلى القبر كان يومها في الجامعة لم تلهه عن الجنازة مواعيد غرام فهو مازال بعد لم يحب ولا تعجبه العلاقات العابرة أو علاقات ملء الفراغ التي ينشئها الطلبة والطالبات. وما أهلته مشاكل هؤلاء رغم كثرتها وقد كان نقابيا يحسن مناكفة الإدارة عنها لكنّ الزمن لم يسعفه. وصل متأخرا إلى بيتهم وجدهم دفنوه فالطقس حار لا يسمح لهم بالانتظار. اعتذر منه أخوه وهو الآن يريد أن يعتذر من أبيه لكنه لا يؤمن بعودة الأرواح إلى الدنيا وليس في رأسه مكان للأشباح فمن يكون هذا الذي يراه، لا شك أنه واهم فليمض فرئيس المخفر ينتظره لكن الذكرى غلبت عليه. تسمر على الدرج:

اغفر لي أبي فقبرك كان بعيدا وبيتي وبينه بعثرت قبور كثيرة لم أستطع أن أجتازها فأنت علمتني أن لا أطأ القبور بقدمي. كنت تعلمني كيف أحترم الموتى غير أنه لا أحد اليوم يفعل ذلك فالمدينة صنفان ناس يفرون إلى المقابر يدخلونها سراعا كأنهم يعودون إلى الأجداث خوفا ورهبا فيدوسون ويداسون لا مكان لهم في المدينة. وناس تجيء المقابر إليهم تملأ بيوتهم موتا، تذهب احترامهم تهين كرامتهم تحاول أن تميت أنفسهم فلا يسعون في الأرض احتراما فإن أبوا أماتت أجسادهم سجنا وتعذيبا مثلما فعلوا بي أبي فاعذرني فقد أثقلت المقابر ممشاي فلا تكن عونا لهم علي ودعني أجاوز الدرج... ولكن من تخاطب؟ فخر الدين أبوك مات من عشر سنين خلت هل بلغ بك السجن مبلغ الوهم. هكذا انتبه وهو يجاوز الدرجة الخامسة إلى السادسة فالسابعة لكنه مرة أخرى يفقد القدرة على تخطي الثامنة، فالثامنة ترهقه كثيرا إنها ساعة التعداد في السجن وللتعداد قدسية لدى كبير العسس تذهب معها بشرية فخر الدين، وهي ساعة المساءلة في الزنزانة فيها يقدم الجلاد صباحا فيحيله ليلا وهي ثمانية أعياد لم ير فيها والدته ولا قبّل فيها صغيرا ولا أعطاه الحلوى أو بعض مال يفاخر به صبية الحيّ ولا هو فرح ولا أفرح فلا عيد في السجن ولا يعرف له الجلاد معنى برغم ما عرف عن أهل المدينة من سعي للتسامح والتزاور لكن كبير العسس يحصر التسامح معه أعوانه يسامحهم على ما يأتونه مع المساجين كأن العيد يوم سعدهم يعبثون ويضربون ويحرمون.

ومضى فخر الدين، الوقت جاوز الثامنة ليلا وفخر الدين على عتبة العاشرة والذكرى تعاشره لا تكاد تفارقه. هذا الوقت وقت السمر في الجامعة في غرفته من القسم السفلي لمبنى المبيت كان يلتقي مع زملاء له يضعون عنهم إصر العمل السياسي الذي يحيط بهم طيلة الأسبوع. هذه الليلة يلتقون يمازح بعضهم بعضا يطبخون الشاي يتجاذبون الحديث عن تقاليد مدنهم عن تجارب بعضهم في الحياة عن الحب عن الغرام كانوا شبابا يملأ الأمل قلوبهم رغبة إلى البناء والانطلاق غير أن عنت الوالي في المدينة حمّلهم عبء العمل السياسي. كانوا يفخرون بما يصنعون غير نادمين عليه لكن حماس الشباب لم يترك لهم الوقت لمراجعة بعض الخلل فيه بدا لفخر الدين وغيره بعدما دخلوا السجن.

في الجامعة لابد لك أن تختار إما أن تكون أخا أو رفيقا أو متعاطفا مع أحدهما أما أتباع الوالي فعيون وجب طمسها ومنعها من الظهور وتتبع أخبار الناشطين.

الليلة يسهر مع خليليه رشاد ومحمد، ثلاثة تعاهدوا على الصحبة وإن تفرق بهم الانتماء كأنهم كانوا يرقبون محنة الوالي التي تغشت المدينة ولم يلتقوا بعدها. لم يأت سواهم هذه الليلة كأنهم أرادوا سمرا خاصا يجتمع فيه رشاد ومحمد علي فخر الدين كل منهما له تجربة حب ناجحة وهم يحاولون منذ مدة مع فخر الدين يزينون له خوض التجربة ويعرضون عليه من تصلح أن تكون شريكة حياته، لم يكن خوض هذا الحديث لعبا وهزؤوا إذ كانوا أنضج عقلا لكن فخر الين وإن كان معجبا بتجربة صاحبيه فإنه لا يريد خوض التجربة في الجامعة التي يدرس بها على ظن منه أنه إن فعل فسيظلم غيره. كان يعتقد أن قيادته لزملائه وإمامته لهم تحرمه هذه التجربة. كان اعتقادا غريبا لكنه أصر عليه رغم أنه ودّ أحيانا لو يفعل مثلما فعل صاحباه ولعله سايرهما بعض حين وما لبث أن عاد إلى موقفه مثلما عادت به نفسه إلى هنا حيث يقف أمام رئيس المخفر يخاطبه:

أنت الآن حر لم نجد ضدك أي حكم آخر تستطيع أن تغادر إلى مدينتك.

فلما هم بالفرح وهم به الفرح حال بينهما صوت رئيس المخفر: عليك إذا رجعت إلى مدينتك أن تذهب إلى مخفرها سيكون عليك أن تسجل حضورك صباحا مساء لا تغادر المدينة حتى يؤذن لك لا تحدث أحدا نشتبه نحن به أو شخصا لا يعجبنا. أهلك هم أمك وإخوتك فقط لهم الحق في لقائك واحذر أن تفكر في مخالفة هذه الأوامر.

أخذته الدهشة ودّ أن يرجع إلى السجن.  تلفت كان المكان قد أقفر، رئيس المخفر مضى إلى مكتبه لا أحد هنا يمكن مراجعة الأمر معه وإن كان فلا فائدة من المراجعة. حرك رجليه كانتا أثقل من ذي قبل.

وانطلق كان الوقت ليلا ولم تكن المحطة بعيدة عن المخفر كثيرا كان المخفر يحيط بكل مكان في المدينة. لم يكن هناك مسافرون والمسافة إلى مدينته مسيرة ليلة عليه أن يذهب إلى العاصمة أولا لكن السيارات لا تغادر إلى هناك إلا إذا اكتمل النصاب. ومن يسافر في مثل هذه الساعة من الليل؟ لا أحد من أهل مدينة الجلاء يريد أن يكون محل شبهة أو تتبع من العسس إذا غادر ليلا والغرباء عن المدينة قليلون وليس لفخر الدين المال الكافي ليغطي ثمن الأماكن الشاغرة حتى تنطلق السيارة إلى العاصمة فكبير العسس لم يكن يسمح لهم بتلقي الأموال من أهاليهم وإن سمح فبمقدار محدود لا يكفي لسد حاجته اليومية. ومن يجرؤ غير والدته أن يرسل مالا. ووالدته لم تكن موسرة وهي لا تجد أحيانا ثمن الرحلة لزيارته وقد لا تجد ثمن دوائها وهي لا تضمن أن يصل المال إليه فكثيرا ما استحوذ عليه العسس.

تقدم فخر الدين نحو السيارة كانوا ثلاثة: غريبان والسائق ينتظر من يقدم عليهم ليملأ الشغور فينطلق إلى العاصمة والغريبان وحدهما لا يستطيعان أن يقتسما المبلغ ينتظران لو يقدم عليهما رجل ثالث على الأقل. والتفتوا... كان فخر الدين يتأبط حقيبة فيها بعض ملابسه فرحوا إذ رأوه،  سينطلقون قبل أن يشتد الظلام وينتشر العسس، تهللت أساريرهم لكن فخر الدين لا يستطيع الضحك الآن، هو خارج من السجن ذاهب إلى آخر لا يعرف عنه شيئا سيكون لقاء المسافرين أول عهده بالعالم الجديد لعل طيبة أهل المدينة لم تنعدم كلها، لعل مازال فيهم من لم يتطبع بطبع الوالي فليتقدم وليرى.

وصل، سلم فردّ الجميع السلام وانبعثت في نفسه طمأنينة خفية: لم يخب أمله مازال في المدينة من يجرؤ على ردّ السلام عليه لكنهم يجهلون من هو فلماذا يعجل بالفرح لعلهم لو عرفوا ما فعلوا.. هكذا شأنه تتقاذفه مشاعر متناقضة لم يقر له قرار منذ خروجه. قال السائق مخاطبا فخر الدين:

- كنا ننتظر منذ زمن ليس بالقصير أصبحتم ثلاثة تستطيعون تقاسم الثمن سنرحل الآن إلى العاصمة. كأنه كان متأكدا من عزم فخر الدين على الذهاب إلى هناك فلم يسأله إلا بعد أن أتمّ كلامه.

- هل أنت ذاهب إلى العاصمة؟

عجب فخر الدين: مادام قد حسم الأمر فلماذا يسألني الآن؟ وما كان هذا ليشغله كثيرا فما يهمه الآن كيف يواجه ما هو فيه، هل يحدثهم أين كان ومن أين أتى وعلى ماذا يحتكم من مال فيخبر ردّ فعلهم لعلهم يرفضون وإن رفضوا فستحبط نفسه ويشعر بالخيبة ويزيد شعوره بالغربة لكن عليه ان يواجه الواقع حتى يعلم أين يضع قدميه وماذا ينتظره، يكفيه تحليقا في الخيال إن كانوا تغيروا فعليه أن يتكيف مع ما  هم عليه، يكفيه أن يظن أن الناس سيظلون مكانهم، لا يتغيرون إذ كان هو نفسه قد تغير. لم يعد فخر الدين كما كان قبل أن يلج السجن فماذا ينتظر من الناس ألن تفعل المحنة فعلتها بهم. وعاوده الأمل لعلهم بقية من رجال لم يضرّ نفوسهم عنت الوالي. وحدثهم كانوا كذلك، قبلوا ما عرضه عليهم لم يسأله أحد لماذا دخل السجن ولم يهرب منه أحد بل إنّ أحدهم تطوع أن يتحمل القسط الأكبر من الثمن حتى لا يحمّل فخر الدين ما لا يطيق.

وانطلقت السيارة نحو العاصمة وبين المدينتين ساعة زمن وفخر الدين شجعه موقفهم فانطلق يحدثهم عن سجنه لكن بحذر، لم يجرؤ أن يذكر الوالي وسبب سجنه فالسجن علمه أن لا يأمن مكر الوالي أبدا وموقف هؤلاء لا يعطيهم الحق أن يسمعوا منه ما يريدون لعلهم عيون الوالي أرادوا أن يستدرجوه فأبانوا له الطيبة لكنهم لا يعرفوه من قبل.

واشتدت به الحيرة وتناقض المشاعر فآثر أن يصمت وأسند رأسه إلى نافذة السيارة يرقب حافة الطريق لعله يبصر في ظلمة الليل نورا يذهب بعض حزنه. وكانت بيده رسالة استطاع أن يخرجها في غفلة من العسس طواها وأوغل في الوجوم... رسالتك تضمنت شعرا وكلمات شعرك تقطر حرقة ولوعة وصوره تتميز غربة وروعة وفي بحثك المفرط عن القافية هنة شعرك كم كنت وحدك يا ابن أخي ألهذا الحد صار زمنا رديئا، صغير أنت وغريب إلى هذا الحد تناديني من وراء المدينة حتى أشجارك تستحي من هذا الزمن فتطل من وراء البيت تتحسس طريقك إلى وراء السراب وهل موكب في زمني يسير إلا كسراب بقيعة يحسبه الغريب مأوى فيظعن حين يلقاه إلى المغيب، هل هذا هو زمن الهول أم هول الزمن الذي يصير فيه الولدان شيبا.

أحسك تكبر عاما بل عشرا في كل لحظة من لحظات غربتك، غريب أنت ورائعة غربتك محببة إلى قلبي ريحها التي تعانق نار لوعتي وشوقي فتطير كما طارت كف أشعارك ولكن من نقطة الفراغ في المدينة حيث أقف من يوم مددت يدي لأخترق ظلمة الحي وما أحلكها ظلمة. وإلى حد انسياب هذه الكلمات من نفسي تصاعد غربة ورفض تفيض نورا حين يظللها نور كلمات صادقة تنبجس من نفس أرقها تبين العاشقين وتنائي الحالمين، فما ظنك وأنت أخي وقليل هم لمن كان مثلي سلما لمثلي يمشي سويا في مناكب مدينة طال ليلها وداهمها اللصوص من كل مكان. ما أعجب النفس أخي غور لا سبر له تراوح بين الفرح والحزن وقد تجمع بينهما كان هذا شأن نفسي حين كنت أنتقل عبر كلمات رسالتك التي أراقت دمع عيني طورا وأنت تعانق أمي ولما أشبع بعناقها وأضحكت سني طورا آخر وأنت تعتذر لي عن ثمن وصفة دواء البرد الذي طلبته منك مازحا.

أخي لا يحزنك قول الصغير الذي ذكرته كسوة العيد دفء حناني ولما يعرفه بعد فإنّ الغربة حاصرتنا حتى ضاقت بنا فتكلم الوليد بما حيّر الحليم ولكم وددت لو أنني أنا الذي فعل ما قاله الصغير.

لماذا تسمي حديثك إليّ ثرثرة وتعتذر منها وهي تعبر إلي من نفسك التي حيل بينها وبين نفسي ذات ظلمة عمت زوايا حيّنا الصغير جغرافيا الكبير تاريخا. نحن في زمن نحتاج فيه إلى ماهو أقل من الثرثرة تدغدغ سواكننا فكل شيء يصمت من حولنا وحولنا الكثير، لذلك جادت قريحتي ذات سجن بما يؤنس الوحدة ويخرق الصمت ويعبر إلى حيّنا يمسح عن جدراته آثار النخاسين.

قلت ولمّا أتم قولي أخاطب حبيبة متعددة متوحدة:

لماذا تصمتين

ويصمت الولد الصغير

وشيخنا والحنين..

أنا عمّك فخر الدين بل أنا فخر الدين قبل أن أكون عمك وبين الاسم والصفة فرق بين الماهية والوجود. ولدت ذات يوم من شتاء قريتنا القارس حيث لا يجد الكثير من سكانها يومئذ ما يتدثرون به ولعل والدي لم يكن أحسنهم حظا ولكني لا أذكر كثيرا عن تلك الحقبة التي جمعت عامها بين الشتاء في أول السنة وبين النكبة في الصيف أقصد نكبة سنة 1968.

إذن بين النكبة والبرد ولدت لأبوين أفتخر كثيرا بالانتساب إليهما، كنت أوسط اخوتي الذكور مع ثلاث أخوات يفقنني سنا لعل للأوس دور قد علمت الآن كنهه.

هذا أنا ولعلك تتساءل لماذا أحدثك عن نفسي ولأمر بسيط فعلت، لأني أحسست أنك الآن عرفتني وعرفتك واقتربنا من بعضنا وما مر من سنين قضيناها من قبل لم يكن لها أي معنى ولكن حين اقتربنا افترقنا أو أننا افترقنا حين أردنا أن نلتقي.

هكذا أحدثك يا ابن أخي وأنا أودع السجن وحدثت والدتي وإخوتي وكل من أحب ولم أنبس بما حدثتك به ولكن نفسي جاشت بذلك وإنما "الكلام في الفؤاد وإنما جعل اللسان على الكلام دليلا".

ولقد جاشت نفسي لأنني كنت أركم وقد أذهلكم الموقف،  موقفي أمام العسس وهم يريدون إرجاعي إلى السجن بعد يومين فقط من مغادرته يومان لم أتخلص فيهما بعد من الإحساس بالسجن لأن هذا الإحساس يرافق صاحبه بعد الخروج إلى أجل قد يطول وقد يقصر حسب ما يكون عليه المرء عند مغادرته السجن. وقد كنت أشعر أنه سيطول لأسباب قد أشرحها لك يوما حين نلتقي دون فراق. كنت أراكم وكنتم مذهولين كأن على رؤوسكم العسس وكنت مصفرّ الوجه ذابلة حين مددت إلى بعض طعام لم أكن أغرب فيه رغم حاجتي إليه.

قلت: إنني كنت أراكم حين كنت ألج السجن وحين ولجته فالمحب يستطيع أن يرى أو يستحضر صورة حبيبه في أي وقت شاء في الحلم أو في اليقظة وكان ذلك شأن جار لي في السجن والجار في السجن هو من ينام إلى جانبك أو فوقك أو تحتك حسب موقعك من السرير وهو يحظى بما يحظى به جار الدار من مراعاة واحترام أحسب أنهما في السجن زائفين في أغلب الأحيان، يحثهما لزوم الإقامة في الغرفة ولا ينبعان من شعور صادق مثلما كان يعلمنا والدنا رحمه الله إذ كان يقول أن الجار أوصى به النبي خيرا وعلمنا أن نتأدب معه أن نغض أبصارنا عن محارمه. والدي رحمه الله كان رائدا والرائد لا يكذب أهله. ولم أكن أنا أعرف زيف المشاعر ولكن شرّ الناس مكانة يوم القيامة من أكرمه الناس اتقاء شره ولجاري الذي حدثتك عنه ولم يكن ممن أتقي شره.

قصّة طريفة فهو من العاشقين وأنت تعلم أخبار العاشقين منذ القدم كلها طرافة. كان جاري يستحضر صورة حبيبته كلما أراد كأنه يضع أمامه جهاز فيديو. قد يكون العشق سهّل له هذا الأمر وكلانا عاشقان ولكننا مختلفين: عشقه كان عشق غرام ووله. وعشقي كان حبا سرمديا جبلنا الله عليه حب الولد لأمه وحب الأخ لأخيه، لذلك كنت أراك حين كنت أريد وأنا دائما أريد. وكنت أنت تريد فتراني كل ليلة في منامك كما ذكرت في رسالتك التي وصلتني إلى سجن قابس ولم أكن أشعر بقابس رغم أن السجن يوجد بها فلا معنى للزمان والمكان في السجن. قابس لم تكن تعني شيئا بالنسبة إلي بل لم أشعر لحظة واحدة أنني نزلت بها، بلد الحنّاء و أبي لبابة الأنصاري.تذكرفخر الدين ابو لبابة الأنصاري فطفق يقص على ابن اخيه حكايته معه حكاية طريفة أقصها عليك قال ليبتهج فؤادك لعلنا نذهب بعضا من الحزن المسرمد على المدينة:

كنت ذات صيف أعمل بمكتبة القرية المقابلة للمدرسة الابتدائية التي قضيت فيها أجمل فترات طفولتي. كنت أعمل إذ دخل رجل قد بلغ من الكبر عتيا فحياني فرددت التحية بأحسن منها ثم قال لي: أعطني دينارا فاندهشت ولم أكن أعرفه من قبل وليس بيني وبينه دين، وكان أشد ما يثقل علي أن يكون دين بذمتي ولا أقضيه فالدين هم بالليل ذلّ بالنهار، سألته وأي دينار تريد؟

قال: دينار أبي لبابة. زادني جوابه دهشة، فهذا الصحابي مات قبل أن يولد والدي بمئات السنين فقلت: وهل أرسل معك أبو لبابة ما يثبت نيابتك عنه ثم قبل هذا وبعده هل كان أبو لبابة ليقرضني دينارا فأعطيكه.

انصرف أيها الرجل لشأنك ولا تعد لمثل هذا الحديث وائتني بأبي لبابة فأقضيه دينه إن كان له علي دين. فانصرف مذهولا وهو يردد: يا لطيف يا لطيف أنت لا تؤمن.

كان يتحدث كأنني قد كفرت. ولم يكن ذلك استهزاء مني برجال قدموا لهذه الأمة كثيرا وإنما كان رفضا لاعتقادات بالية كبلتنا وهذه خصلة أخرى تعلمتها من والدي رحمه الله.

ألم أقل لك إن أبي كان رائدا؟

أما زمن وصول رسالتك فلم أعد أذكره وكيف أذكره والزمان عندنا سواء، نحتاج أحيانا إلى استعمال أصابعنا نحسب الفاصل بين يومين يشتركان في الاسم وينفصلان في الزمن. ما أذكره أنها وصلتني ذات يوم

 واليوم وغد وبعد غد وأمس            الكل سواسية في غرفة الحبس.

باب القبر  السابع

تصدير

"وإنَّ جهنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أجمَعِينَ لَهَا سَبْعةُ

أبوَابِ لكلِّ بابٍ منهمْ جُزْءٌ مقْسُوم

ذات مرة أحببت امرأة وغريب أن أحب ولم يمض على خروجي من السجن سوى شهر واحد والشرطة ترقبني أناء الليل وأطراف النهار في حينا وبيتنا وأينما حللت حلت، علي من العيون قائم وشهيد لعلهم يظفرون بما يدينني فيرجعونني إلى السجن مرة أخرى.

فهم كما قال لي رئيس الشرطة لا يرتاحون لوجودي بين الناس وأنا الخطيب جهوري الصوت إذا قلت أسمعت وإذا أسمعت أقنعت ويحبني شيوخ القرية وشبانها ونساؤها وأطفالها. وتبعني على ما أنا عليه ثلة من الشباب أردنا أن نعلم الناس كيف يختلفون وإذا اختلفوا لا يتباغضون لأن المدينة تسع الجميع. لكنني أغضبت الوالي في رأي لم نتفق عليه فزج بي في السجن وكان والينا غليظ الطبع شديده، سريع الغضب قليل العلم أحمق يرى الأمور بحسب مزاجه إذا نوقش تكبر وإذا جودل غضب وإذا خولف الرأي هدّد وتوعّد وعذّب وقتّل وشرّد ورمى بالآخرين وأنا منهم في السجن. وكان غليظ الحاجبين كبير الأنف سوء منظره يدل على سوء مخبره خالفته فلبثت في السجن يصحبني رجال مثلي وآخرون يأكلون كما تأكل الأنعام والقن مثوى لهم يجلدهم السجان فيخنغون له ويقتر عليهم طعامهم فتلهج ألسنتهم بمدحه عيون علينا يخفون في أنفسهم ما لا يبدون إلا لكبير العسس. إذا جنّ الليل وأوصد باب الغرفة حدثوك وسامروك وآنسوك وسبوا الوالي والجلاد وكبير العسس. فإذا طلع النهار نقلوا ما حدثوك به على لسانك إليه فعاقبك دون تثبت أو تحرّ مثلما فعل بي الوالي.

فلما غادرت السجن أمرت إلا أكلم أحدا وأن أحضر المخفر كلّ يوم وأن أعلم كبيرهم بتحركاتي وسكناتي وغدوّي ورواحي وصمتي وحديثي وأمرت إلا أحب حتى يعلم ثم يرضى، فإن لم يكن زج بي وبمن أحببت في السجن ولم أكن وأنا رجل يغار على عرضه والوالي شقي متصاب لأرضي فكان غريبا أن أحب والأغرب أنني أحببت امرأة قبل أن أعرفها وأراها حتى إذا وشى عين بخبري إلى الوالي فسألني فلم يجد عندي ما يتعلل به لسجني أو يفسد علي لذة حبي إذ له في ذلك صولات لا يعرف حرقتها إلا من اكتوى بنارها وهم كثر وأغربت في حبي وقررت بيني وبين نفسي أن أفتح قلبي لحب أختاره وأستخير عليه.

فرأيت في منامي أن هاتفا يقول: "لو صبرت ثلاثة أيام أو أربع".

ورأيتني أخوض في ماء يعلو ويسفل كأن به رعدة أو مسا من الجنون دون أن أصاب بأذى فعلمت أنني أبتلى بلاء خفيفا ولم يمض اليوم الرابع حتى أنزلني رئيس العسس في زنزانة مظلمة لا تسمع فيها إلا يرابيع الكنيف تتعالى بين الفينة والأخرى جاءت لتؤنسك كأنها ترق لحالك وتأكل من فتات قد تلقيه إليها إن كان في طعامك ما يؤكل وطعامك قليل من مرق لا طعم له في بطن رغيف أيبس من جلمود صحّر تخشى لو أكلته أن تزدرد أسنانك.

أنزلني رئيس الحرس هناك لأنني حسب رأيه جاوزت حدودي وأدبت صعلوكا أراد أن يتطاول على ابنة أخي وزعم رئيس الحرس أن ابنة أخي لا يعنيني أمرها فقلت له: إنها ابنة أخي وشرفها شرفي وأنا عمها فكيف لا يهمني أمرها.

قال: أبوها من يهتم بأمرها. قلت: ومن يكون أبوها إنه أخي وهذا الصعلوك تطاول عليه وعلينا وعلى العائلة جميعا وكان عهدي به طفلا صغيرا يلهوا بالتراب مع أترابه في الحي وأهله جيراننا ومرّ زمن لم أرجع فيه إلى القرية والتحقت بالجامعة وتصعلك هو على صغره ودخل السجن لكثرة سرقاته وتطاوله على الناس دون موجب، وهو اليوم يحاول أن يعيد الكرة مع ابنة أخي فكيف تريدني أن أصمت أو...

قاطعني رئيس الحرس زجرا مزمجرا وقد عجبت كيف تركني أكمل قولي وعهدي به تضيق نفسه بالكلمة والكلمتين.

- قاطعني قائلا: نحن دولة قانون فهل نسيت أنك مأمور ألا تحدث أحدا إلا بإذننا وأن لا تفعل شيئا ولا تحلّ بمكان إلا بإذننا فكيف أتيت ما أتي

- إنه شرفي. قلت له: فهل أستشيركم أن أحمي شرفي وهل كان الصعلوك مستعدا لينتظر حتى أستشيركم؟

قال: وقد برم بي وبمجادلتي إياه: أقررت إذن ووجب عقابك فامكث في الزنزانة حتى ننظر في أمرك.

وكان للصعلوك امرأة عم حضرت يوم الواقعة جيء بها للشهادة فاستحلفتها بالله أن تشهد بما رأت وربما سمعت. فأقرت أني لم أظلم قريبها وأنه بدأ بالتطاول علي ولبثت في الزنزانة بضع ليال عجبت معها وأنا الخارج من السجن حديثا ما صارت إليه الحياة في القرية قريتنا الصغيرة الجميلة بجداولها الكثيرة وعيونها العذبة حيث يزدحم الزوار من مختلف قرى المدينة في شهر رمضان للتزود من مياهها لعذوبتها وخفتها فيدخلون على الحياة في القرية حيوية ونشاطا يسعد له أطفالها ويضج منه شيوخها ويستغله شبابها لإبراز بعض من مواهبهم بالسباحة في الوادي الكبير وفي "القلتة" المحاذية له للفت نظر الزائرات قليلات العدد اللاتي جئن مع إخوتهن وآبائهن للتزود من الماء وينتهي هذا النشاط مع انقضاء الشهر المبارك لتعود الحياة في القرية إلى طبيعتها، هذه الطبيعة التي عجبت لتغيرها وفسادها وأنا في الزنزانة أتفكر ما آلت إليه العلاقات بين أهل القرية فخلال عشرين عاما قضيتها فيها لم أسمع عن جريمة قتل أو اغتصاب أو اعتداء بالعنف فكل من في القرية يعرف بعضهم بعضا ويستحي وإن كان منحرفا أن يأتي ما يعيبه عليه أهلها لكنها المدينة ألقت بضلالها على شباب حظهم من العلم قليل ونصيبهم من البطالة كثير يمضون وقتهم في المقاهي ينثرون الورق على طاولاتهم فينتشر معه ما بقي في ذاكرتهم من فكر يميزون به خبيث المدينة من طيبها وتلقفهم الشوارع من بعد ذلك ويقتلهم الفراغ ويرون الفتيات من بعد ذلكم في الطرقات يقطرون فتنة وإغراء فلا يرقبون من شرف الأهل إلا ولا ذمة ولا يرعون للقرابة عهدا. وكأن السجن أيقظني على هذه الحقيقة المفزعة ففي الجامعة كنت حالما في عالم من المثل كغيري من الطلبة الذين يصبحون ويمسون وهم يلهجون عن مجتمع تتساوى فيه العلاقات وتتكافل فيه الفئات وتقسم فيه الثروة بشكل عادل ويتحدثون عن دولة الحريات وشعبية التعليم... وغيرها من مثل لم أعلم أن واقعنا لم يسمع بها إلا حين خرجت من السجن حينها أدركت أن حديثنا في الجامعة لم يجاوز أسوارها وكأن الناس خارجها يحيون في وطن غير الوطن ففي الجامعة أنت حر تعقد الاجتماعات تسب الوالي والجلاد، تنظم المسيرات تدعو إلى ماركس والأفغاني أو غيرهما وتؤسس حزبا وحدك أو أنت وخطيبتك أو تهيم على وجهك تقرأ الشعر تغازل الحالمات مثلك تتأبط كراسا أو بيانا سياسيا أو يا فاتنة قضت نصف يومها في التزين تلعن الامبريالية أو قوى الاستكبار العالمي، تنظم إلى نقابة الطلاب أو حزب" الديك "حيث لا سياسة ولا نقابة، المهم أن لا تكون من طلبة الحزب الحاكم أو من يقف ورائهم فذلك تجاوز للقطيعة مع النظام ومن يفعل ذلك يلق نكالا كبيرا. ولو ساورتك نفسك أن تفعل ما تفعله في الجامعة خارجها كان جزاؤك السجن أو ربما القتل أو تغيب في الزنزانات أمدا ينساك معه أقرب المقربين إليك أو يكاد، أو يجيء السجن إلى بيتك كأننا نحن الطلبة لا نرجع إلى أهلنا ولا يجيء أهلنا إلينا فليس بيننا نقطة التقاء واحدة.

أدركت بعد سنين السجن أننا حلمنا كثيرا وكان الحلم جميلا أيقظني منه السجن وأخي الصغير الذي حدثني أن الجامعة صارت مثل حي من أحياء المدينة قليل من العلم وكثير من صخب وغناء وعيون في طرفها حور، وعيون في طرفها حرس، ولا صوت فيها يعلو فوق صوت المصلحة الوطنية والوفاق.

ورجعت من الزنزانة تصحبني أحزاني وغربتي وذكرياتي وعلمت أن ذلك هو تأويل رؤياي قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وكتبت رسالة حبي الأولى.

كانت فكرة غريبة كغربة نفسي أو أشد غربة أن تراسل فتاة لا تعرفها أو تحدثها عن حب يمكن أن يجمع بينكما كأنك تحاول أن تقنع الجلاد ببراءتك من تهمة كيدية سعى بها إليه عين من عيونه ينام معك في الغرفة نفسها ويؤاكلك ويحدثك وتحسن إليه وينتهي بنقل أخبارك طمعا في رغيف يمنّ به عليه كبير العسس بين الفينة والأخرى أو كلمة شكر أو ربما صفعة قد يفتخر بها يوما ما وتزيده إصرارا على الوشاية بك.

كيف ستقنعه وأنت عنده المدان دوما والمستحق للعقاب أبدا ولو حدثته فكأنك تطلب من حبيبتك المنتظرة أن تنسى ما فعل الجلاد بإخوتها الثلاثة ومن معهم من مدينتها التي تبعد عن مدينتي مائتا ميل، مدينة شهداء، هناك استمر القتل والتعذيب ومن نجا لبث في السجن بضع سنين يذكر كيف كان يؤتى بالفتاة العذراء البكر يعربها الجلاد أمام أبيها أو أخيها حتى ينتزع منهما اعترافات بما لم ترتكبه أيديهما. ليلتها لم يناموا وهمت عيونهم دمعا وتقطعت قلوبهم حزنا فصراخها كان يملأ الآفاق، أبت أن تنحني للجلاد فمضى يبحث عن إذلالها في بكارتها بعصاه وقضت ليلتها تنتحب تشهد العالم والموات بشاعة ما تلقاه فعزيز على عذراء مثلها شامخة أدبا وجمالا أن تفقد بكارتها بغير ملكها وإن كان من أجل فكرة تحملها أو حق تدافع عنه.

بكوا حتى جفّت مآقيهم وصراخها لم ينقطع. وصورة أخ يؤمر أن يستنكح أخاه وشهيد عذّب حتى الموت يكتب الطبيب الشرعي على ورقة شدت إلى رقبته: "مات برصاصة أطلقت خطأ حينما حاول افتكاك سلاح الحرس والفرار به".

صور لا تفارق سجنه وكبير العسس يفتأ يذكرهم بها. وحبيبتي ليست تنسى ما حدثها به أوسط إخوتها وكان أولهم خروجا من السجن وصديقا لي أيام الجامعة وكان وسيم الوجه، حييا متوسط القامة، له خط جميل والخط الحسن يزيد الحق وضوحا.

قال صديقي: قد لا تصدقين ما أحدثك به يا أختاه. قالت: كيف وأنت عندي ثقة مؤتمن.

قال: لكن ما وقع لنا يشيب لهوله الولدان ويذهل منه الإنس والجان وما سمعنا به في الأولين والآخرين وأظننا كنا بدعا فيه.

قالت: قل فما أنت عندي بمتهم. تبسم ضاحكا من قولها وقال: طيبة أنت يا أختاه ذكّرني كلامك بما كان يقوله زملاؤنا في جامعة الحقوق كانوا يحدثوننا عن أسس القانون وقواعده وعن المتهم بريء حتى تثبت براءته لكن كثيرا منهم باعوا ضمائرهم للوالي بثمن بخس وحنثوا حين أقسموا يمين القضاء وآخرين منهم لم يعرفوا كيف يختلفون معنا في الجامعة لأن فكرهم يرفض الاعتراف بالآخر المغاير ولو استطاعوا لمحونا من الوجود لكن كنا أكثر منهم وأشد قوة فلما تولوا القضاء عاملونا بأن البريء متهم حتى تثبت إدانته. حتى كدت لا أصدق أنني عندك لست بمتهم لكثرة ما جعلونا كذلك دون ذنب سوى أننا لا نرى رأيهم فكان أول محنتنا حيث القضاء فصار القاضي منهم يسمعك الساعات الطوال تحدثه عن عدالة قضيتك وحقك في الاختلاف وتهيب به أن يكون حكما عدلا وقد يكون ممن صاحبك أيام الدراسة فتذكره تعريضا بما كان ينادي به من شعارات لكنه ينهي محاضرتك بتعليق صار مضرب مثل عندنا لكثرة تداوله "أنكر المتهم ما نسب إليه" حتى إن قاض شكا إليه بعض من كان معنا أن الجلاد عمد إلى قلع أضراسهم بكلاليب حادة من أجل نزع اعترافات لا أساس لها فبرأ القاضي الجلاد وعزا إليهم كسر أضراسهم لكثرة أكل اللوز وقد قضوا سجنهم لم يعرفوا من الطعام سوى ما يمدهم به الجلاد من رغيف.

ألم أقل لك يا أختاه لقد صرت أشك أنني لست عندك بمتهم.

لم ينتبه إلا والدمع يسيل على خديها ومضى يحدثها كأنه يضع الجبال من على ظهره أو كطفل فزع وأوى إلى حضن أمه فرضي واطمأن.

منذ سنين عديدة لم يجد من يشكو إليه بثه وحزنه، حتى الدعاء لا يستطيع أن يرفع يديه إلى السماء، وهو يوقن أن الله يعلم سره ونجواه ولكنه لا يجد لذة في دعائه صامتا دون رفع يديه ولو رفعهما لأنزلهما الجلاد إلى قاع قن يشد فهي كبهيمة إلى وتد يأكل حيث يتبول ويتبول حيث يتغوط،ويتغوط حيث ينام. وهل نوم يحلو والجلاد أفزعه الدعاء فبات ليلة يجلده كأنه يسابق الدعاء إلى السماء ليرجعه ولو أخذته سنة من النوم في قابل لياليه على حين غفلة من الجلاد لأثقله قيدا ولأوجعه ضربا ولضاعف له العذاب ضعفين.

يسائله عن حلم رآه وهاتف ظن أنه في منامه ناداه ويضيق صدره ولا ينطلق لسانه ويذكر كيف مات صاحبه في القن ضربا لأن عينا وشى به أنه يحاول الفرار من السجن، فتبكي وتنهمر دموعها فتشهق وينتبه هو رافعا رأسه ويمد يديه نحوها يحاول أن يمسح عنها الدمع فتبعدهما بكل لطف ورقة ويدرك أنها مثله أو أحسن منه فيدخل يده في جيبه ويخرج منه رسالة سلمها لها ومضى إلى حال سبيله.

لم يجل بخاطرها أن تكون الرسالة كما وجدتها لذلك فتحتها بكل هدوء ودون عجلة المنتظر خبرا أو المستغرب أمرا ولو أنها عجبت من نفسها أن تكون وصلتها رسالة في هذا الظرف من الزمن فالوالي يلاحق كل من له صلة بعائلتها فمنذ محنة إخوتها لم يراسلها أحد وكل صديقاتها تخلين عنها أو كدن خوفا لا بغضا والخوف تغشى المدينة كلها فالعيون مبثوثة في كل مكان وساعي البريد عين ولعل خبر الرسالة الآن عند رئيس الحرس هكذا قالت وهمت أن تعجّل بقراءتها أو حرقها قبل قراءتها وقبل أن يصل الحرس إلى هنا لا شك أنهم في الطريق إليهم وداهمتها رهبة لم تعرفها من قبل ثم هدأت لو كان ساعي البريد وشى بها لجاء بالرسالة يصحبه الحرس فمن عادته أنه سابق بالوشاية بأمر نفسه ورثها صاغرا عن صاغر فجده كان كبير عيون الوالي، وكنيته أبو العيون كني بها حين أذاع في المدينة أن وليا من أولياء الله الصالحين جاءه في المنام ومسح على عينيه حتى إذا نام جاست عيناه خلال الديار فلا تذر بيتا أتت عليه إلا جعلت صاحبه يبوء بين يديه بذنبه دون إرادته.

وأهل المدينة يتناقلون كيف أن شابا هزئ برؤية أبي العيون فلم تمض ليلة واحدة حتى جاءه واشيا بأبيه وعمه خاتما قوله "إنهما يصليان صلاة غريبة بعد منتصف الليل"، فكان عاقبتهما أنهما في السجن لابثين فيه سنوات عديدة.

لكنها تعتقد أن هذا كله خرافة حبك نسجها الوالي ليضفي قداسة على عيونه فلا يبقى في المدينة من يخفي عنهم شيئا وقد كان. فترى الناس يسارعون بالوشاية ويسابقون بها كأنهم يسارعون إلى الجنة. ومن أبت عليه رجولته لزم بيته أو مشى حذرا وضيق عليه في الطرقات ولم يبدأ بالتحية وحوصر في الرزق حتى صار أرذل الناس يتطاول على من كان بالأمس سيدا عليه وباع كل الناس رجولتهم خوفا وطمعا إلا قليل منهم فإنه كاتم رجولته عن الوالي ومنهم من أعيته الحيلة ففاضت عيناه من الحزن إلا يجد ما يعين به صديقا له ألمت به محنة الوالي.

ومنهم من لم تعبه الحيلة فكان يتسلل حتى لا تلمحه العيون فيأتي بيت صديقه فيدفع إلى الصبية وأمهم ما يستعينون به على الملمات أو يستعير اسم زوجة صديقه أو أمه أو أحد بنيه فيرسل إليه رسالة قد يرى الجلاد أن لا خطر على أمن الدولة منها فيوصلها إليها أو لا يفقه معناها وكثير ما هو كذلك فيتوجس منها خيفة فيهملها في النار.

أما هي فقد هجرها صديقاتها وهي غير آسفة عليهن فمحتها أبانت لها الصديق من العدوّ ولكنها حزينة والحزن يملأ قلبها أن صار صفيها بالأمس ينظر إليها من طرف خفي أو لا يكاد.

وأوت إلى السرير في الغرفة وأسندت ظهرها إلى الجدار كأن التعب يلم بها منذ ولادتها واذكرت بعد زفرة كاد قلبها ينفطر معها وحكت كأنها تشهد الناس جميعا أو توقظ الموتى، حكت والدمع يفتأ يسيل فقالت:

حين امتحن إخوتي جبت الشوارع أعلاها وأسفلها وطفت المدينة أقصاها وأدناها أبحث عن شهم ينصف من الجلاد إخوتي ويجادل القاضي عنهم جدال من لا يخشى في الحق لومة لائم ولا يستعطفه خشية على نفسه فكنت كمن يلاحق سرابا بقيعة أنكرني الجميع إلا بقية أطابوا لي القول واعتذروا فما عندهم من شهامة لا يوصلهم إلى مناكفة الجلاد أو القاضي، ثم يممت وجهي نحو الصحف يمينها ويسارها أفتش عن زاوية أبث فيها ما أجد ولو في صفحة الإعلان عن الوفيات.. سطرا أو سطرين أو كلمة المهم أن أكتب وأن يقرأ الناس فيعلمون أن ناسا في المدينة سامهم الوالي سوء العذاب يسجن أباءهم ويستذل نساءهم ويقتل من أبي منهم. بحثت فإذا اليمين يؤمن ما يفعله الوالي وإذا اليسار أطوع في يده من كأس النبيذ الأخيرة تسقط من يده فلا يستطيع ردها.

وأوصدت دوني الأبواب وضاقت عليّ نفسي وضاقت الأرض بما رحبت فكنت أرجع إلى البيت يسبقني إليه دمعي وحزني واجمة يغلب علي خجل من دمع طفل صغير ينتظرني كل يوم على الباب:

عمتي، عمتي منى يرجع أبي لماذا لم يرجع معك هذا اليوم. وأضمه إلى صدري حتى أخفي عنه دمعي ويبكي فتضيق نفسي ويشتد حزني ويكاد اليأس يقتلني فأذكر بي ويطمئن قلبي فأكفكف دمعي وأرسل الطفل من بين يدي لأقم له قطعا من الحلوى يذوب أمله مع ذوبانها، فيعود إلى السؤال وأعود إلى المدينة أبحث عمن يسمعني وكان في المدينة جماعة من الغرباء نزلوا بها ضيوفا فاستطابوا المقام فيها وعمروها أكثر مما عمرها أهلها، وأغدقوا على الوالي هداياهم فأوسع لهم وأفسح لهم في مجلسه وقد حرمه على أهل المدينة إلا نديما أو غانية أو عينا يأتيه بأخبارها فعن لي أن أحثهم وقد سبق فضلهم على الوالي فلا يستطيع إليهم سبيلا، وهم غرباء والغريب أرق نفسا وأهدأ طبعا وأسمع للشكوى، فنزلت محلتهم سرا وقد حاذت البحر وأحاط بها شجر الغابة الكثيف فهي على أجمل موقع في المدينة، فلما حللت بها أكرموني وواعدوني خيرا وقد أنجزوا، فما زلت أعجب من فعل أهلي بي وما كان من شأن الغريب بي حتى جاءتني رسالة من غريب آخر مثلي حزين كحزني يسألني.

وانتبهت هي لم تتم قراءة الرسالة بعد واستلقت على ظهرها وتبسمت قد كان ما يسألها أغرب من غربتيهما. وأغرب الغربة ما أسرّك قليله وحاط بالمغامرة كثيره.

كنت وأنا أنتظر رسالتها كميّت يرجوا نشورا أو سجينا يرقب خروجا لا يدري متى يكون ولم أذق مرارة الانتظار رغم كثرة ما عرفت منه إلا ساعتئذ، لعل رسالتها نقطة الضوء الوحيدة في ظلام المدينة الذي أحيا فيه فالشوارع مقفرة رغم ضجيجها وأنا وحدي أسير على الرصيف رغم كثرة المارين فوقه والناس غير الناس والوجوه والمدينة أغربتني وناسها تجنبوا الحديث معي إلا خفية أو استحياء والشرطة قريتني ومن يكن الشرطي له قرينا انفض عنه الناس وتركوه.

وخشيت أن يدركني السجن مرة أخرى ولم تصلني رسالتها ومضى أسبوعان كنت أتسلل كل يوم إلى مركز البريد بعد أن أسجل حضوري في مخفر الشرطة متعمدا اختيار هذا الوقت اذ ورثت عن عظيم من عظماء هذه المدينة أعيا الشرطة اختفاؤه مبدأ في التخفي قال لي ذت اختفاء "كن حيث يكون العسس"، وقد فعلت فلم يهتم أي عين لوجودي في مركز البريد ولكني كنت كل مرة أرجع متأبطا خيبتي تساورني شكوك كثيرة: لعلها رفضت واستحى أخوها أن يحرجني وأنا صديقه وهو يجلني كثيرا ففضل الصمت، أم لعلها هزئت برسالة من لا تعرف عنه سوى أنه غريب مثل اخوتها فضحكت ومضت إلى حال سبيلها لا يهمها انتظاري من عدمه.

كنت أقطع الطريق إلى البيت أحاور نفسي بهذا وتحاورني فإذا ولجت الباب وجدت أمي في باحة الحوش الكبير تقطعه جيئة وذهابا وقد هدها القلق، تتأوه، تطلق زفرات متتالية، تعد الزمن إلى حين عودتي لحظة بلحظة.

كل دقيقة تتأخرها أحسب أن الجلاد أعادك إلى السجن، قالت لي وقد تهللت أسارير وجهها لعودتي، هي لا تعلم أنني أرتاد مركز البريد ولا تدري ما بي من شوق. مازلت أستحي أن أحدثها عن الحب رغم أني أمازحها من حين لآخر حول موضوع الزواج.

تغيرت علاقتي بها بعد أن خرجت من السجن أصبحت أكثر انفتاحا وصراحة ولم أكن قبل ذلك أجرؤ على الحديث معها في مثل هذه المواضيع ولو منزاحا حتى لا أخل بأدبي معها مثلما ورث ذلك كل أبناء جيلنا.

لكن هذه المرة غلب علي حيائي وخشيتي أن يفشل ما عزمت عليه فلم أكن مستعدا لأزيدها خيبة أو قلقا فهي ترى الأمور بغير ما أراه وقد حدثتني عن أمانيها ومخاوفها.

قالت، وهي تمد لي كأس الشاي بعد وجبة الفطور الصباحي: إنك لا تدري ما أحدث بنا الوالي بعدك، نصبح على حرس يقلبون البيت رأسا على عقب يكسرون الماعون، ويرعبون الأطفال ويمزقون الكتب والدفاتر والأوراق ونمسي على آخرين يعبثون بنا كما يعبث صبي بلعبته يسألوننا أين تكون وهم أعلم منا بك فإن قلت لا أدري جلدوك حتى يتبين لهم أنك لا تهزأ بهم ولا يكون ذلك حتى يأخذ كل واحد نصيبه منك وإن قلت إنه في السجن أقاموا الدنيا وأقعدوها على عصيهم حتى تبرأ مما تقذف به الوالي وإن سكت انطقوا لسانك بالابر والسجائر وأشياء أخرى يمنعني الحياء من ذكرها ثم يسدل الليل ظلامه فيظلم البيت بكلاب العسس تعوي على جدرانه وفوق السطوح فلا يكون للنوم إليك سبيلا ولا للسهر عنك مخلص فكأننا نحن السجناء لا أنت،يحلّ علينا حرس الوالي فيتملكنا القلق والأرق والرعب وما كنت وأنا في مثل سني لأتحمل ولكنك فلذة كبيدي وبعض نفسي فليس لي والله إلا الصبر وقد كنت أراك بعيني أم حظها من العلم قليل ابنة مؤدب ورثت عنه نصيبا من كتاب الله تؤدي به صلاتها، حلمها لا يتجاوز سعادة بيتها ورضا زوجها أبيك، ترى فيك كل أحلامها تراك أستاذا أو ربما طبيبا لك بيت فسيح وسيارة وزوجة جميلة وأبناء يملؤون بيتك مرحا وحبورا وما كان يعز عليك أن تحقق لي أماني إذ كنت محبا للعلم قوي الحافظة سريع البديهة لكنك سلكت مسلكا غريبا جلب لك السجن والعذاب وأذهب أمانينا فيك وإن كنت محقا فما تقدر وأنت فرد أعزل أما كان لك أن تكون كغيرك من أهل المدينة تسعى لزرقك وعليك نفسك لا يضرك ما يصنع الوالي يظلم أو يعدل يفسد في الأرض أو يصلح يأكل أموال الناس أو يحفظها.. لست مسؤولا عن الناس أفلا أرحتني يا بني؟".

نظرت إليها بكل عطف وأنا أتناول من يدها كأس الشاي وهي تعلم أن حديثها لن يغير من قناعتي شيئا وقد جاهدتني على ذلك كثيرا لكنها ترى الأمور بعين أم صعب عليها ما أنا فيه ولم تطق ما أصابها بسببي ولها علي حق الطاعة والصحبة بالمعروف فمازحتها قليلا وهممت أن أحدثها بما في نفسي لولا أن بدا لي أن أؤجل الأمر إلى حين وكفى بما ذهب من أمانيها وبيني وبين السجن خيط رفيع لا أدري متى يشده الوالي فينقطع بي في قعر مظلمة تسفه أحلامها.

ونهضت كان الطقس جميلا وبعض الورد أينع في حديقة بيتنا وفراخ الدجاج تجوس خلال العشب النابت فيها هنا وهناك. مشهد يغري بقول الشعر وانفتاح النفس لكنني أجد في نفسي غربة لو قلت معها شعرا لبكى كل من حولي وحسبي من الحزن ما أنا فيه. مشيت قليلا لا هدف واضح أمامي ثم رجعت على صوت أمي تناديني أن تعال أشرب كأسك الثاني قلت: لا بأس صار شرب الشاي صباحا مكونا رئيسا من برنامجي اليومي إذ لا أجد ما أفعله والحرس يمنعون عني العمل في كل مكان والويل لمن تحدثه نفسه أن يشغلني عنده أو معه وحركة البيع والشراء في دكان أخي لا تتطلب بائعين وقد يسحبون منه الرخصة لو اقتربت منه وعميد الجامعة اعتبرني شخصا غير مرغوب فيه وكانت الجامعة تملأ كل وقتي علما وسياسة وعملا حزبيا وأشياء أخرى واليوم أعود إلى دفاتر قديمة وبعض كتب لم تلحظها أعين الحرس لعلني أجد غريبا أو فيلسوفا أو شاعرا يقاسمني غربتي أحاوره ويحاورني. وإذا ورق دوّن عليه "الفوت أشد من الموت لأن الموت انقطاع عن الخلق والفوت انقطاع عن الحق".

فقلت: أبا زيد ما أعجب ما أنت فيه غربتك عن الخلق لم تلهك عن الفوت.

قال: وما الغربة عندك؟

أن تهجرك المدينة وأنت حلّ بها.

وما المدينة؟

من لك عليها حق المواطنة وهي مدينة لك بمعناها فمن دونك يكون الخراب.

وكيف تهجرك؟

كما تهجر اللغة صوفيا فينطق بما لا يفهمه الخلق يضيق بي مكان المدينة وزمانها وتحل هي في نفسي حلما فأصير بها غريبا.

من لا يجد له قرينا إلا شرطيا أو عينا.

مدينتك تهجرك وقرينك شرطي أو عيون فكيف تصنع؟.

أعيتني الحيلة فعجبت لحالك كيف يلهيك الفوت عن غربتك في الخلق.

تجلّ في المدينة تكن حبيبتك.

ما عهدت التجلي يكون في المدائن.

أحلل بها يحلو لك المكان وألبسها من نورك يجيء إليك زمانها ثم اتحد بها يصفو لك شخوصها.

حللت بها فأبت وأحيتها فجفت.

انصب خيمتك إزاءها إن المحب ملحاح صبور.

ما الصبر يعوزني لكن الجلاد أرخى جنوده على المدينة فأفقدها لذة الحب.

وما الجلاد إلا نقطة فوق المدينة لكنك النقطة التي تحت يائها والفوق هباء والتحت أس.

كل الدروب شيكت والعاشقون أناخوا على تعب يرقب همسهم عسس وسياط.

هل رأيت نورا يحصره شوك أنت النور فاخرق ولا تهن.

إن النور إذا دخل قلبا انفسح وانشرح لكنني لا أجد قلوبا أحل بها.

قال وقد أعيته مجادلتي وهم بالانصراف "الفوت أشد من الموت".

قلت: مهلا أبا زيد فما أرحت قلبي وما كشفت غربتي وما عرفت ما بي  فلا تنصرف فإن في داخلي شوقا أعجز الكون حمله والبحور.

قال: أنت هنا وأنا هناك وبينهما حرف لم تدركه بعد، الفوت أشد من الموت..

وتلاشى خياله وأنا أضع الورقة بحذائي وأمد يدي إلى كأس الشاي تحمله أمي كعادتها حين أنزوي وحدي في الغرفة أفتش في الكتب والدفاتر.

رشفت من الكأس رشفة ذكرتني أبا الطيب المتنبي لكنها لم تكن حلوة مثلما تذوقها هو بل مرة كلحظة الغربة التي عشتها وأنا أشرح لأستاذ الأدب القديم في كلية الآداب موقف أبي الطيب من الغزل قائلا: إن الغزل عند أبي الطيب صناعة شعر لا تجربة. وكان هذا رأي طالب اجتهد بحسب مبلغ علمه وإن كان مخطئا فما كان ينبغي لأستاذ في مكانة أستاذي العلمية أن يبرم به ويرمقه مثلما يرمق الجلاد ضحيته

ويقول: أنت تتهم أبا الطيب بعدم الرجولة.

قلت وأنا أستغرب هذا الموقف:

من قال هذا يا سيدي؟

أنت.

كلاّ..

ولم يمهلني حتى أوضح موقفي وأنهى حواره معي برسم علامة اسقطني بها في الامتحان كأنه كان يستبق الزمن ليهيأ لما يفعله بي الوالي. قلت: هذا إليك أبا الطيب فما ترى؟ قال:

أذم إلى هذا الزمان أهيله

فاعلمهم فدم وأحزمهم وغد

قلت: انني ليحزنني أن يرفض أولو العلم منا ما يخالفهم ومن يخالفهم.

قال:

ومن نكد الدهر على الحر أن يرى

عدوّا له ما من صداقته بد

قلت: وحدي على طل المدينة أبكي أين المدينة والعشاق ويك.

قال:

يذم لمهجتي ربي وسيفي

إذا احتاج الوحيد إلى الذمام

قلت:

على ضمأ كأن دلاءها أرجاء غور  غيابته قيعان ذوات شوك

قال:

وقد أرد المياه بغير هاد

سوى عدّ لها برق الغمام

قلت:

أرجّي وهل غير العاشقين لهم رجاء

وحلهم العاشقين يقين دون شكّ

قال:

عجبت لمن له قدّ وحدّ

وينبو نبوة القضم الكهام

قلت:

السجن والقعر والأغلال تعرفني

والنار والقطر والأعوان والحرس

قال:

فإن أمرض فما مرض اصطباري

إن أحمم فما حمّ اعتزامي

قلت: إن المدينة أغربت عشاقها وما عن نفسي أحدثك ولكن كيف السبيل إليها وقد أعيا قلبي ماهي فيه.

وتأففت ليس في شعر أبي الطيب ما يشفي ما بي أذكره فتشتد غربتي أتألم، أجد، أحقد، ألعن المثقفين في بلدي إذ لم يخرجوا من دائرة أنفسهم بل ارتدوا على أعقابهم، استهوتهم فاكهة السلطان قبل أن تخفيهم عصاه فضلوا وأضلوا والمدينة ضحية لما يفعلون. شعرك يقطر حكما أبا الطيب كزخرف قولهم يغترّ به من كان على شفا رجولة تنهار به في قصر الوالي فيتبعهم كثير طوعا أو كرها، صدقا أو رياء.

وأضلّ ومن معي وحدنا: السجن يجمعنا والغربة تقتلنا والوالي يتبعنا وأنت تحدثني عن نفسك أو نفسي أصبت الداء وأخطأت الدواء.

نفسي أنا أعرفها عذبت فصبرت وسجنت فأبت واستذلت فلم تتذلل وجوّعت فلم تخنع لكني أريد أن أرجع إلى المدينة وترجع المدينة إلي. أن نلتقي وينصرف الوالي ويبتسم الطفل وأمسح دموع العذارى أو دماءهن التي تلطخ جدران المخافر.

إليك عني أبا الطيب فما أنا في حاجة إلى من يذكرني غربتي وما غربتي بالتي تنسى وكيف أنسى لعبة الجلاد والقط. لا شكّ أنك لم تسمع عنها من قبل فهي من بدع وإلينا لعبة تجري ما بين لحمك وسروالك فيها يوصد الجلاد منافذ الخروج أمام القط فليس يرى إلا جهازك التناسلي أو لحم فخذك ثم يخزه بإبرة وأنت مقيد لا حراك.

وهل أنسى الكلاليب تقتلع أظافري أم الخيط يعتصر به الجلاد خصيتي أم أنسى أن عليّ الحصول على ترخيص من رئيس الحرس لزيارة أختي في القرية المجاورة. انفعلت قليلا كأن أبا الطيب أمامي يستفزّ مشاعري ثم تمددت في الفراش.

وحدي كنت ممددا، نعمة لم أنعم بها منذ سنين خلت فالجلاد كان يحشرنا في الغرفة كعلبة السردين تخشى لو أفقت ليلا فتذهب إلى الكنيف أن تفقد مكانك. تقبلت في الفراش كأنني أنتقم من الجلاد ما.

أنا الآن حر أذهب إلى الكنيف من غير أن يزرمني أحد. لا أحد يزاحمني في الفراش أفيق متى أشاء وأرجع متى أشاء.

هكذا حدثت نفسي فضحكت مني: أهذا مدى حلمك أن تتقلب في الفراش أو تذهب إلى الكنيف. نسيت الغربة والمدينة والجلاد وأخوتك في السجن. هل أفلح الوالي في تقزيم أحلامك وطموحاتك.

قلت كأنني اعتذر إلى نفسي مني: كلا بل اشتدت وطأة الغربة عليّ فلم أجد متنفسا إلا ما ترين وأجدني عاجزا عن فعل أي شيء للمدينة أو لأخوتي في السجن ولا بد أن أحافظ على ما أنا فيه حتى لا ترتدّ نفسي وتحيط بي مغربات الوالي فأنسلخ من رجولتي مثلما فعل كثير من أهل المدينة.

قد يبدو ما أفعله تافها لكن علي أن أفعل شيئا أوحى به إلى نفسي كره الجلاد وأوقد فيها جذوة البحث عن مخرج لما نحن فيه. تافه ما أفعله أليس كذلك، كان الجلاد أتفه مما تتخيلين، بضع سنين قضيتها في السجن والجلاد يحاصرني بالتفاهة تلو الأخرى. لم أشعر أنني أواجه ناسا يحيون عصر التكنولوجيا والانترنيت. ولو فرض علي الجلاد أو ما يشعرني أنه صادر عن رجل ذي عقل لقبلته رغم ما بيني وبينه من العداوة لكن التفاهة تزين كل أعمالهم ويرى بعض إخوتي غير هذا فهم يقولون لي – على حين غفلة من الجلاد – أن ما يفعله يهدف إلى استفزازنا وإثارة أعصابنا وإصابتنا بأمراض شتى حتى ننهار لكنني لا أشاركهم الرأي وإن بدا أنه على صواب نسبي فماذا يفيده أن منع عني ظرف الرسالة وسلمها إلى غيري من مساجين الحق العام.

هل من دواعي الاستقرار لنا والأمن له أن أنزل إلى القن مكبلا لعشرة أيام من أجل ثمرة أو تفاحة يهديها لي أخي وهو يعلم أنه كلما زاد في إبعادنا عن بعضنا زادت لحمتنا ومودتنا لبعضنا. يبقى الأمر محل اختلاف ولم يكن هذا وحده ما اختلفنا فيه لكننا نتفق أن المدينة لم تشهد ما شهدته على يد هذا الوالي. وأبقى أنا أصرّ أن حربه علينا داخل السجن كانت قذرة إلى حدّ التفاهة أو تافهة إلى حد القذارة وإن بدا لغيري ما بدا فتافه من يواجه رأي غيره بالعصا.

ولكن لماذا أذكرك تفاهات الجلاد وأنت يا نفس من عشتها وعاينتها ألهذا الحد أضحيت غريبا فلا أجد من أحدثه؟ دعيني فلعل حبيبتي المنتظرة تسمعني.

- هل ستلتقيها لتحدثها عما ذاقه إخوتها وذاقته هي من بعدهم،

- أفلح الوالي إذن أنت مازلت رهين غربتك أهذا فهمك للحب؟ قالت لي نفسي.

لم أنكر أنني مازلت رهين غربتي فما لاقيته ليس هينا أن أنساه ولن أنساه أبدا لكني أجاهد أن أقلص آثاره على مواقفي فأنا لم أعد مثلما كنت قبل السجن وتلك هزيمة أعدها له فقد أيقظني على حقائق جديدة في نفسي وفي الآخرين لا يهملها إلا من أراد أن يتيه.

وتسألني نفسي عن الحب وقد كان من الأحاديث المحرمة عندنا لتربية ورثناها عن آبائنا ومازال في نفسي بعض حرج منه لكن السجن علمني أن الحياء في غير محله مضيعة للحقوق والإنسان في حاجة إلى الحب وأنا إنسان من حاجتي إليه غربة أحياها أنا وثلة ممن معي دون غيرنا من أهل المدينة.

سأحبها و ألتقيها لأحدثها عن نفسي وعنها وهي بعض نفسي، سأتودد إليها وتتودد إليّ سترحمني من غربتي وأرحمها من غربتها لعلنا نتفكر كيف نحيا دون أن ينغص لذة حبنا جند الوالي أو يزعج خلوتنا عواء كلب من كلابه لا يستحي أن يأتيك أناء الليل وأطراف النهار، ستكون لباسا لي يقيني من لسعة سياط الجلاد ومن نسيم مغرياته فلا أنهار ولا أرتد وأكون لباسا لها يحفظها إن جاعت فلا تأكل من ثدييها وأسامرها وتسامرني وألاعبها وتلاعبني وأداعبها وتداعبني، سأحبها وتحبني.

هكذا الحب عندي لكنني سأخبرها عما وجدت في سجني وبعده فليس غير قلبها يسع غربتي.

تزاورت عنه ذات اليمين. كان شعاع الشمس المتسلل من نافذة الغرفة ساطعا ومفاجئا فلم تحتمله عيناي وقد كنت اطمأننت إلى أن النافذة مغلقة فحدقت فيها النظر معرّجا خارج الغرفة، ظننتها كنافذة غرفة السجن لو تأملناها عاما كاملا ما رأيت شعاع الشمس يغشاها، ظننتها كذلك ظن سوء وجهل فما كان أبي جلادا ليجعل معمار بيتنا معمار سجن وما ينبغي له ولم يعرف السجن أبدا وقد كان رجلا ولكن عيون الجلاد عميت عنه أو ربما ألهيتهم عنه فمنذ شببت عن الطوق حُببت إلي مواقف الرجولة التي كان يقفها والدي وحاولت تجسيدها بوعي أو بغير وعي فأزعجت الجلاد فطفق يراقبني كأنه يخشى من مستقبل أكون فيه سبب نهايته وقد كان. فما زال يعالجني بالسجن المرة تلو الأخرى يظن أنه يفت في عزمي ومازلت شامخا أسير في الطريق برغم الشوك أذكر ما حدثني به أبي رحمه الله قال:

- يا بني لابد لك من أرض تقف عليها تستند إليها وتفتخر بها تمارس معها جنون الحب فتقف مثلها، فعلت أنا ذات مطر في ليل شتاء بارد أتلذذ برؤيته يتنزل عليها يسقي شجرها ويحي زهورها، لا يعنيني بلل يصيبني أو زكام يلمّ بي ولابد لك من أرض تختبر فيها رجولتك فليس لذة تعال لذة الدفاع عن الأرض. ولقد بلغت بي اللذة مبلغا هممت به أن أقتل صهري زوج أختي عمتك أنت ولم أكن أحقد عليه ولست جهولا إلى هذه الدرجة ولكنه أراد أن يمنع عن أرضنا الماء ولو منع عنها الماء لماتت ولو مات معها أبوك وأمك وعمك وأنت وإخوتك وكل أهلك فهل يموت كل هؤلاء ويبقى رئيس الجمعية المائية وإن كان صهرنا، وماذا عساه يبقى ليفعل بعد موتكم، هو لن يحب الأرض كحبكم لها وما تجدي مصاهرة والأرض خراب والأرض حب ورجولة ولو لم أكن رجلا ما أحببت، ولو أحببت وانعدمت رجولتي لما حيي أو قتلني ومن لم يكن رجلا لم يستطع أن يعبر عن حبه والأرض تحتاج لمن يعبر لها عن حبه يحدثها يصف لها مشاعره يدافع عنها يبيت في ترابها يمرغ وجهه به حتى إذا ما افترقا حنت إليه وحنّ إليها ومن هزه الحنين سعى إلى اللقاء وإن مات بكت عليه الأرض واستبكت السماء. فخلف من بعده خلف ورثوا الأرض يأخذون من خيراتها فتجزل لهم العطاء وتسألهم حبها فتسعها قلوبهم ومن أحب الأرض ولم يصحب حبه رجولة تحميه نأت عنه الأرض واستنكفت عن حبه.

فخلف من بعده خلف أضاعوا الأرض واتبعوا السبل فتفرقت بهم ومثل الفريقين كمثل رجل وامرأة أحبها وأحبته وعشقها وعشقته حتى كادا يبلغا من ذلك مبلغ الجنون لولا أنهما التقيا بعد أن تواعدا واتفقا. فجاءته تحمل بين يديها فسائل صغارا وماء كثيرا وازينت وأخذت زخرفها، فلما أتاها عجب لما بين يديها وأخذته زينتها فرمى بالفسائل والماء جنبا وهم بها فهتف به هاتف أن الماء سال على الفسائل وكاد يتلفها فألق ما في يدك وعجّل فبهت واحتار وانكفأت هي على نفسه حتى همد ومضت هي تتبع صوت الهاتف حتى تاهت و ادكر هو بعد برهة فالتفت أيمن منه فلم ير إلا السراب والتفت أشأم منه فلم يجد إلا بقايا للفسائل قد أتلفها الماء وغيض فطفق يدور حول نفسه من جديد ويبكي حتى عانقه الجنون فصار يغنّي:

أنا الوطئ لم يزل

أبدل حبه بالخبل

أنا الوطئ يا صحاب

أضاع ماء واتّبع السراب

والأرض تاهت والنساء

وصرت أشبه بالمساء

أنا المساء في السماء

أنا الخواء أنا الهباء

أنا المضاء أنا القنا

هل يستوي هو ومن جاءته امرأة في زينتها وزخرفها وهو عاكف على الفسائل يغرسها ويسقيها وهواه يستحثه أن ألق ما في يمينك قد جاءتك الزينة فانعم بها وما الفسائل إلا متاع آجل قد يسبقك الموت إليه فما اطمأن حتى استوت الفسائل وجرى الماء خلالها والتفت فإذا بالمرأة جالسة تنتظره وتنظر إليه وكلما نظرت نضرت وازدادتا زينة وجمالا فأتاها يمشي سويا وتعانقا فأينعا وأنشدا:

نحن قلب قد رأى

رؤيا حق لا هراء

في دياجير الدنى

نور فجر قد بدا

للحيارى التائهين

والغريب والسجين

أيها القلب المشوق

نحن في الشوق سواء

أو نزيد أو نفوق

فاخلعن هذا الرداء

وامسحن دمعا

واقطعن هذا البكاء

إن نور الفجر حق

والدياجير هباء

يا بني ضربت لك هذا المثل لتعلم أين تكون وكيف تكون وقد أعجز عن فهم ما تطمح إليه لاختلاف الزمن بيننا وتسول لك نفسك أنني أحدثك بما لا يتلاءم وعصرك وما أنت فيه وتأمرك أن تضرب عني الذكرى صفحا ولك أن تفكر كيف تشاء وتطمح إلى ما تشاء ولكن كن رجلا تأتيك الدنيا صاغرة ولا تأبه لما يصيبك من أجلها فدون الرجولة الموت وستذكر يا بني يوما ما أقوله لك فقد يأتي عليك زمن تبحث فيه عن رجل يشاركك الطريق فلا تجده فتقصر أمانيك على رجل يسمعك ولا يشاركك وتفضي إليه ولا يخدعك فكأنك تنزل بئرا بلا قرار أنت تبلغ هدفك ولا أنت تقدر على النجاة.

ولم يكن أبي وقد حدثني بما حدثني نبيا ولا منجما ولم يوح إليه شيء ولكنه كان كمن ينظر إلى قابل أيامي بين يديه وقد علمته التجارب فراسة الناس فقد رأيتني والناس جميعا تعرض رجولتهم على أبواب الوالي بثمن بخس خوف السجن أو خشية الجلد وقد يتفق أن يرفض الوالي بعضا مما عرض عليه فيرجع_ صاحبها تكاد تفيض عيناه من الحزن إن لم يسجّل في قائمة المخلصين ولا يزال يتمسح بأعتاب القصر ويمعن في الوشاية حتى يرضى عنه الوالي ويقبل منه رجولته بلا ثمن فيسعد ويذهب حزنه ويسهر ليله يرقب باب بيتك إن كان جارك، وقد يأتي من أقصى المدينة يتحسس أخبارك ويتبعك فأقفرت بذلك المدينة وهجرها بعض رجالها من قبل أن يقدر عليهم الوالي وكثير منهم قضى تحت عصا الجلاد. وكنت ومن بقى منهم يواعدنا السجن وعدا غير مخلف ولا مرتقب ولم أفهم لماذا يغيب السجن عن الذاكرة الجماعية كأنه مصنف خارجها رغم أن الجميع مهدد بولوجه ويجهد حتى لا يلقاه وعبثا تحدث الناس عما تلقاه في السجن وعن نمط العيش فيه وقد يأسف البعض لحالك ولكن سرعان ما يعمّ النسيان حديثك ولا تجد في المجالس ذكرى له فعجب ما تقول عن "باكية" من حديد لا ترتفع عن الأرض سوى نصف متر يؤتى في أقل من ثلثها بقليل من ماء وزيت وبعض بقايا خضر يأخذها الجلاد من قمامة سوق الخضر فتفرّق على مائة سجين أو يزيد وانظر ماذا يكون نصيبك ولو دلفتها في حاوية القمامة أو استنكفت عن أكلها نالك من الجلاد ما يجعلك تعشقها كرها وتأكلها كرها. ولم يفهم من حدثته عنها معنى اسمها فما دامت لا تختلف كثيرا عن قدور الطعام خارج السجن فلماذا يسمونها في السجن باكية؟ قال محدثي.

قلت: لم يدخل السجن قبلنا رجال فكر أو سياسة ومن دخله لم يعش ما عشناه فيه فلم يقم ما أقمنا ولا ناله ما نالنا والتسمية سبقتنا جميعا إليه والذين اختاروها لم يكونوا من هذا الصنف بل إنهم كما يحلو لبعضنا أن يسميهم حثالة المجتمع أو حثالة الحثالة على اختلاف في الوصف بيننا بلغ بمن اعتدل منا اعتبارهم ضحية ظروف اجتماعية وسياسية دفعت بهم إلى الانحراف وزادت سياسة السجن في تعميق الجهل عندهم لكنه جهل لم يعمهم عن دقة التعبير عن حالهم، دقة ترجح كفة من اعتدل منا في وصفهم ولا أدلّ من البكاء وصفا لحال تشقق لها الحجارة فضلا عن قدر طعام باكية لما تحمله من قوت لا يرضاه كلب. وباكية حال من تحمل إليه القوت ولأنهم يخشون عاقبة البكاء عند كبير العسس فقد رضوا بأن تحمل الباكية عنهم هذا العبء إذ لا يقدر لها الجلاد شيئا.

قال محدثي: طريف ما فعلوه وذكاء يخرج بهم من دائرة الحثالة ويضعف الحجة ضدهم.

قلت: كلاّ لا تعجب فما أنصف الجماعة أنفسهم إذ فعلوا ما فعلوه فعيب في حق الرجال أن يوكلوا أمرهم إلى جماد لن يغير من حالهم شيئا ثم إن آخرهم نسي لماذا أطلق أولهم هذه التسمية ولو أدركوا ما استذلهم الجلاد، والنسيان مصيبة الناس جميعا في مدينتنا فلولاه ما أجرف الوالي فيها ومن كان ضعيف الذاكرة سهل قياده وهان على عدوه والسجن محّاء الذاكرة ومن كان مثلهم ما همه أن يذكر بعد أمّة جلدا ناله بغير حق أو صفع أو إهانة أو تجويعا.

قال محدثي: لكنكم أسهمتم في ذلك من حيث لا تشعرون فبوصفكم إياهم واستنكافكم عنهم أعنتم الجلاد عليهم فخلا له الرجال وطفق يفعل بهم ما يشاء.

قلت: حقا ما تقول لكنهم أعجزونا وما خلّينا بينهم وبين الجلاد إلا بعد أن أرهقونا. نتودد إليهم بطعامنا ولباسنا ويتباغضون إلينا بنقل أخبارنا إلى كبير العسس ويكثرون علينا اللحن فيسومنا سوء العذاب، تحدثهم فيسمعون وتراهم إذا أصبحوا مهطعين إلى الجلاد تنوء صدورهم بما سمعوا، يخرجون من الغرف سراعا أيهم يسبق صاحبه بالوشاية ثم يعودون ويلعنون أمامنا كل صباب ويسبون أمه وأباه سبا تستحي أن تذكره بينك وبين نفسك. وتعجب من فعلهم كيف "يصبون" ثم يسبون. و الصباب نعت من عجب ما يأتي به هؤلاء فناقل الأخبار عندهم يصبها إلى كبير العسس كمن يصب الماء على جسمه في يوم حر قائظ، وهم على ذلك في جميع أحوالهم يتنابزون بالألقاب تنابزا تشدك إليه دقة التشبيه فيه فتعذرهم حينا وأحيانا تود لو أنك رميت بهم في الجحيم فهم حمقى ينطقون بما لا يفقهون وهم في الوصف أبلغ من شاعر وهم عون للجلاد عليك ولا تكفي البلاغة عذرا لهم عند من ذاق لسع سياط الجلاد لذلك لم يكن خلافنا حولهم مبعثا للفرقة مثلما لم يكن اختلافي مع أبي وقد فطن إليه بذكائه وفراسته مفسدة للود بيننا فقد كان وهو يحدثني كأنه يستمع حديث نفسي إليّ وهي التي سوّلت لي أن أهزأ بما يقوله أو على الأقل لا ألقي له بالا فبيننا زمن لا يدرك هو أثاره ولكن غلب علي أدبي فأحسنت له القول.

وعقل يرى الأمور على غير ما يراه بعض أترابي تحللوا من كل ما يربطهم بوالديهم ومضوا يمعنون في التحلل ثأرا من هذه العلاقة التي ظنوا أنها تعيقهم عن الانطلاق فتلقفتهم المتاهات فما استطاعوا مضيّاغ ولا هم يرجعون.

وظللت أمشي سويا تحضرني مواقف الرجولة التي كان والدي رحمه الله يقفها، فأجدد عزمي وأعمد إلى ما استجد من أمري فأتعهده بما يصلح له وأحذر أن تؤتى العلاقة ما بيني وبين والدي مأتى لا تنصلح بعده.

وقد كان لنا جار أغدق عليه الوالي نعمه يحقد علينا خشية على حظوته أن يذهبها خلافنا مع الوالي فأعماه حقده فلم يراع حرمة الجار ودفعه حرصه على حظوته أن يكيد لنا ويمشي بيننا بالنميمة ويكون عينا يمد الوالي بأخبارنا ويوغر صدره علينا فأما الوالي فكان أذن سوء يؤمن لعيونه ويأخذ بالشبهة وأما هو فقد كان على حقده يقطر خبثا رأى أن فعل الوالي لا يذهب غيظ قلبه فطفق بجمع كبار الحي حلقا يسامرها، يغدق عليهم مما أنعم عليه الوالي ويحكي لهم أعاجيب وخرافات تنجذب إليها العقوق وقد عزت عن التفكير حتى إذا أيقن دهشتهم منها بين لهم بعض آراء يوقن أنه لو جهر بها في غير هذا الموضع لنفره الجميع أو سبوه وقد ينالون منه وهو الآن يحدثهم بها فلا يستطيعون ردها حرصا على السمر واستخفافا بقلتها إذ لم يكن يكثر منها ومازال بهم حتى لم تعد لهم قدرة على هجره أو مقاطعته، فزاد على ما كان يقتر به عليهم من آراء يخشاهم على نفسه منها أصبحت هي مدار السمر ومناط الحديث وقلت الخرافات والأعاجيب وقد بلغ به الدهاء أن كاد لبعض شيوخ كانوا يحضرون مجالس سمره ويكثرون مجادلة آرائه وخشي أن يفسدوا عليه عمله فثار عليهم كل من في المجلس وطردوهم عندها أيقن أنه تمكن من قلوب كبار الحي ولم يبق أمامه إلا شبابه وهم أهون عليه ممن سبقهم فكثير من هدايا وأموال وبعض بائعات الهوى يسخرهن له الوالي – وقد أعجب بفعله – كفيل باستمالة قلوب هؤلاء الشباب وقد حدثهم بخلاف ما حدث به كبار الحي حتى يباعد بينهم فلا يلتفون أبدا وإن خسر هؤلاء ضمن الآخرين وقد كان ينفق ماله ليصد عن سبيل لم يهتد إلهيا وأزعجه كثرة الماضين فيها وأنا منهم فعلمت أنه ينفقه ثم يكون عليه حسرة والذين معه تبعوه رغبة وطمعا في ما بين يديه. أما الذين خالفوه فقد كانوا ينشرها الوالي في طريقهم ويصبرون على الأذى فلما أدرك أنه مغلوب على أمره معهم تخيّر بعضا من أتباعه فتزيّوا بزيهم وحفظا بعض كلامهم وشاركوهم بعض أعمالهم مما لم يكونوا يمنعونه على من خالفهم حتى إذا حسبه الناس منهم فارتدوا على أدبارهم وخلعوا ما كانوا يتزيون به وصاروا في المدينة يرجفون فيها ويشيعون أنهم وجدوهم بخلاف ما يظنه الناس ومكروا مكرا حسبوا معه الناس تنفرهم أبدا.

ورأينا من أرجفوا يعودون عن قولهم وبعضهم ندم ولم يذكر خشية على نفسه ومضينا نحدث الناس ونصلح ما أفسده جارنا وحاشية الوالي من ورائه وغلبت الطبيبة علينا فنسينا أن سوء الظن من حسن الفطن ولم ندرك أننا نخوض مستنقعا تغمره أفاع نهّاشة لا تعرف للطيبة معنى ولا للأخلاق بينها مكانة، ومضينا بطيبتنا نواجه خبثهم وما كانت الطيبة وقد غلبت على أكثرنا تجدي إذ كانوا يعدوننا فنثق بوعودهم ثم ينقضون عهدهم من بعد ميثاقهم فيتقدمون أو هكذا يبدو لهم ونتخلف ثم ما نلبث أن نضاعف جهدنا فنتجاوزهم فيعودون ونعود وينقضون ونستخف بفعلهم وقد يبرره بعضنا ثم يمضي للعمل والجهد فلما أعجزهم صبرنا زينوا للوالي ضربنا وأعدوا معه العدة وأمدوه بالمال والتدبير فكان السجن والتعذيب والقتل والتجويع وما كان ليغيب عنا ضلوعهم فيما يفعله الوالي معنا وكنا قادرين على أن نرد على القتل بمثله وعلى التعذيب بأشد منه وقد حسن تنظيمنا وكثرت عدتنا وقويت حجتنا فلا أحد يلومنا ولكن خشية أن تسيل دماء كثيرة بغير حق، ويذهب أبرياء ضحية تقاتلنا أسقطنا في التردد وزادت طيبتنا وحسن ظننا فلم نحسن وكان السجن موعدنا وطال فأيقظنا يقظة من يأسف لما فاته ولا ينفع ساعتها الأسف وعزم أن يجاوز أخطاء ما صنع وقد كنا نحدث بعضنا حديث من أتعظ لما ناله ولم يكن المكان يسمح لنا أن نجهر بالحديث ولا أن نتشجع عليه فعيون كبير العسس متحفزة ترقب حركة شفاهنا ولكننا أدركنا واقعنا وأخذنا عبرتنا فكنا نسترق الزمان والمكان ونحدث بعضنا مثنى وآثر بعضنا الصمت واختلفنا ولم نفترق ولكنني أذكر بعضا من حديث دار بيننا يوم سجن علي حين غفلة من العيون.

قال صاحبي: دخلنا معتركا تغلب عليه أخلاق اللئام كثيرا وما كنا نجاري أخلاق أناسه فلماذا أدخلناه ونحن نعلم ما هو وما هم وما نحن.

قلت: دخلناه لنصبغه بصبغة أخلاقنا ونطهره من الدرن الذي علق به.

قال: السياسة لا أخلاق لها وقد دخلناه ونحن نعلم ذلك وأوتينا من حيث نعلم وهذا في السياسة عين الحمق.

قلت: لم يكن حمقا ولكن أردنا أن نقيم الحجة على كل الساسة في المدينة حتى لا يكون لهم علينا حجة يوما ما.

قال: ليس قدرنا أن نقضي سنوات السجن ونتحمل آلام التعذيب من أجل إقامة حجة على بعض أناس لا يرعون للعهد إلا ولا ذمة. وقد كان لنا عليهم الحجة المرة تلو الأخرى وما تسميه أنت بالحجة لم يكن يتطلب منا كل هذه التضحيات وإذا لم تكن حبّا فما كان ينبغي أن يخدعك الحبّ، وقد مر زمن وفعلنا في التاريخ والمجتمع معطل ولا يهمل قيمة الزمن إلا من جهل معنى الفعل في الحضارة.

قلت: لست أنكر قيمة الزمن ولا معنى الفعل في المجتمع والتاريخ ولكن...

ولكن ماذا؟ قاطعني: تريد أن تبرر أخطاء وقعت ونعيش نحن الآن تبعاتها لعل مشكلتنا أيضا وجود كثير مثلك يبررون الخطأ ويتغاضون عنه.

استفزني حديثه كثيرا ولم استسغ مقاطعته لي واتهامه إياي بالتبرير وهممت أن أقطع الحوار معه فلا أحد منا نجا من أثر السجن عليه ولكني كنت مدركا حرصه على مستقبلنا ومعنى ما يعانيه رجل يرى أن مكانه ليس السجن وأنه يموت كل لحظة، يذكر أن فعله في الحضارة معطل ويعطله جلاد جاهل كان باستطاعتنا أن نزيحه من طريقنا لو أحسنا إدارة المعركة ولعلني كنت أبادله الشعور نفسه وكثير منا بل كلنا نشعر بما يشعر به هو ولكنه استبق الحديث فاتهمني وعذرته حرصا على الحوار وحفاظا على أواصر الود التي تجمعنا وتفويتا على الجلاد فرصة خلاف سعى إليها بكل الوسائل ومازال يقتنصها ليغنم نتائجها فينفرد بنا مشتتين وينجز ما منعه منه اتحادنا وماذا يفيد الخلاف والخطأ والسجن نعانيه وعلينا أن نضرب الرأي بالرأي حتى يبدو لنا برق الصواب.

هدأت من روعه وقلت لا بأس لن أبرر الخطأ ولكن لن أبكي على ما فاتنا. نعم أخطأنا وعلينا أن نحسن تجاوز الخطأ و نهمل اختلافنا حول رأي قد لا نتفق عنده ولا يجدي خوضنا فيه فإذا أدركنا أننا خدعنا وأن الساسة في المدينة قد نكثوا عهودهم معنا فلنبحث كيف لا نخدع مرة أخرى وكيف يكون تعاملنا مع من لم يحترم عهده، أليس أفضل من إضاعة الوقت والسجن تجربة مقيدة برغم قساوتها ومرارتها وليس حتما أن نمر بهذه التجربة وحتما علينا أن نستفيد منها مادمنا قد وقعنا فيها وخضناها.

قال: أتعلم يا أخي، حديثك قادني إلى فكرة لو استطعنا أن نمررها ونقنع بها غيرنا لأدكرنا ما فاتنا من الزمن.

قلت: وما تلك الفكرة؟

قال: لا ينهزم أحد في معركة حتى يهزم في نفسه أولا وأحسب أن الجلاد تمكن من بعض نفوسنا فمنهم من أخذته شدة العذاب ومنهم من زعزعت ثقته وعلينا أن نغير ما بأنفسنا حتى نستبق الزمن ونعمل لما بعد السجن.

قلت: أوضح

قال: لماذا لا نقطع التعذيب من السجن وندفع بالجلاد إلى ذروة حمقه فينقلب إلى ضده ونحيا في السجن كما نريد نحن لا كما يريد هو حتى إذا أخرجنا من السجن لم نضع الوقت في محو آثار الانهزام في النفوس.

قلت: سيكون ذلك شديدا.

قال: وأشد منه سيكون، ربما تقتل أنت أو أنا أو غيرنا وسنرى ألوانا من العذاب لم نعرفها من قبل وقد لا نلتقي بعد اليوم سيقذف بنا وثلة منا إلى الصحراء، وعلى سجون أخرى سيتوزع الباقي لكن ذلك لن يدوم ستكون معركة صبر لن يغلبنا فيها فانظر ماذا ترى؟

كان يحدثني كأنه من خطط فكل الذي توقعه كان، فقد رأى وأنا في الصحراء وقلبي يكاد ينفطر وأخ لي غيره يحدثني عن ومن خيرة إخوتنا أعيا الجلاد صبره فطفق يزيده العذاب حتى أنفاسه: كنت في القن وحدي حين رمي به إلي، ضممته إليّ صدري كان قاب قوسين أو أدنى من الموت، تأملني بعينين يشع منهما رجل عرف قوسين أو أدنى من الموت، تأملني بعينين يشع منهما رجل عرف الحق فاتبعه وأبي الظلم فقاومه فتألمني كأنه يشفق علي وحدتي أو يعجل بوداعي، قال لي: اصبر ولا تحزن.

لم أشعر إلا والدموع تغمر خدّي تفيض على صدري، ثيابي لم يكن هينا على نفسي أن أفارق رجلا مثله قتل غدرا... أحببته أخا وأبا وابنا كان لا يخشى في الحق لومة لائم لكنه ما أتدرك مات...

لقد حاول الجلاد  أن يثنيه عما عزم عليه، رغّبه أرهبه لكني فدفع حيلته ثمن إبائه، هل...

لم يتم حديثه فلم يعد قادرا عليه وما استطعت صبرا الاستماع وكانت الصحراء تلقي بشموسها علينا حرا وقيظا وعطشا وريح سموم تعمي العيون.

إن كان مات فلنمت على ما مات عليه أو نحقق حلمه.. مات معه أو عذب. فالصحراء لن تدوم والجلاد سيضيق.. الصحراء. عشرون رجلا لم نذق طعاما ولا شرابا سبعة أيام...

لم تكن المرة الأولى التي خضنا فيها إضرابا عن الطعام وفي كل مرة يحاول الجلاد فكّه بكل ما أوتي من وسائل: يعذب، يحقن، يرغم على الأكل وعجيب أن ترى طاغية متجبرا يخشى جماعة من أسراه لا يقوون على الحركة يهدهم التعب وينهكهم الجوع ويرتعد جلادهم حين ينظر إليهم أو يحاورهم والسوط في يده ولبوس القوة يجاهد ليرسمه على وجهه وصبرنا أعياه وفراستنا فيه زادتنا يقينا أننا سنغلبه.

ظنّ الصحراء ستقهرنا سمي ما أعدّ لنا فيها فردوسا، بيوتا يشتدّ بردها ليلا فيذهب عنك النوم وترتفع حرارتها نهارا فيسيل منك العرق كمجرى السفن وتتنزل العقارب من فوق سطوح الغرف كالغيث وتخرج من الأرض كالفطر فلا تدري من أين تأتيك لساعتها.

استقبلتنا الصحراء واستقبلناها كأننا نعرف بعضنا منذ بدء التكوين، كأننا ولدنا على رمالها وأرضعتنا لبن نوقها المنتشر فهيا كحبّات رمل عصفت به ريح السموم.

لم نرهب، نظرنا إلى بعضنا نشدّ أزرنا نظرتنا تغنينا عن الكلام كنت لحظتها أراود الشعر، مشهد يستحق أن يعانقه الشعر لابد أن يذكر في قابل أيامنا وليس لي إلا القصيد. القلم ممنوع هنا والورق جريمة والشعر تحفظه ذاكرتي فإن كلّت فذاكرة إخوتي لابد أن تذكر لأحفادنا.

ما عشناه، راودته فاستعصم لم تكن لي القدرة البدنية لأجهد قلبي وفكري في مراودته، جوع الليالي السبع أرهقني، الآن يمر بخاطري بيت أو بيتان لابأس بهما سيكون لي مع الشعر لقاءات أخر سأفتأ أراوده حتى يشهد ما شهدناه، الآن أرى سجن الصحراء على مرمى حجر خطوات ونلج الفردوس الذي حدثونا عنه. كيف سيكون فردوس يهيئه جلاد؟

حينها أجابتني قريحتي:

فردوس والينا غير فردوسك يا إلهي

نار تلظّى والجحيم الملاهي.

كانت خطوة نحو الانعتاق، نحن الآن ندفع بالجلاد إلى ذروة حمقه وبين الفينة والأخرى سيكون ضده سينزل عند إرادتنا ونفرض عليه كلمتنا ومطالبنا سيكف يده عنا ولا تهم نار سياطه وجحيم ملاهيه. هو الآن يحدث نفسه أننا سنتراجع إنه يحاول محاولة اللحظة الأخيرة بيننا وبين هزمه خيط رفيع لابد أن يحسن الإمساك به فلا ينقطع. من يصبر أكثر تكون له الكلمة في النهاية. أحسسنا ضعفه من خلال لسعات سياطه لم تعد كما كانت من قبل أصبحت يده ترتعش وهي تمسك بالسوط لكنه يرفض الاعتراف بالهزيمة سوف يقرّ بها يوما ما وإن لم يجهر بها سيجد كيف يبررها ويحفظ ماء وجهه معنا.

وهكذا دأبه إن اضطر إلى التنازل عن شيء ما فإنه يقدمه على أنه منة منه يتراجع عنه متى يشاء يجعلك تدور في حلقة مفرغة تطالب اليوم بما نلته منه بالأمس لكننا أدكرنا الحقيقة فلم يعد ما تحصلنا عليه بالأمس محل مطالبة وإن تراجع عنه نفرضه واقعا فيصمت ويأمر عيونه بالتغاضي عنه والصحراء ستكون المرحلة الأخيرة قبل أن نحقق حلم من مات منّا وليس بعد الصحراء إلا الخضرة والماء وما ذلك منّا ببعيد.

ونسيت أنني أنزل من الصحراء سجنها ويأتيني من الخضرة اسمها فشدني مشهد الشمس تجري لمستقر لها. تأملت غروبها فما استطعت متابعته فنافذة الغرفة لا تسمح بذلك. ألم آخر يزيد من ثورتي على الجلاد وحسرة تسكن قلبي.

انكفأت على نفسي وكان إلى جانبي صديق يرقب ما أفعله كأنه شعر بما بي فأراد أن يذهب حزني بمحاورتي، هو يعلم أني أحب الحوار وجميعنا يذهب بعضنا حزن بعض ونحرص أيّا يسبق على ذلك فقد كنا جسدا واحدا إذا أنزل الجلاد فردا منا إلى القن ترى قلوبنا تجأر وعيوننا تشخص ودموعنا تسيل ونسهر ليلنا ونصوم نهارنا حتى إذا أرجع تلقفناه بعضنا يحدثه يرفع له ذكره وآخر يضع عنه إصره وبعضنا يمسح دمه ويضمد جرحه وكان شأننا أن نحدث بعضنا إذا غفل الجلاد عنا وكل ينفق ما عنده وصديقي كان يعلم أني أحب أحاديث الأدب والفكر.

قال: أحزنك مغيب الشمس ولما تتأمله؟

قلت: إن قلبي يتسع لمزيد من الحزن.

قال: الحزن قعود وركود.

قلت: لا حزن يشبه حزننا.

قال: ما الحزن عندك إذن؟

قلت: كل ما حولنا حزين ويسبقني إلى الحزن كثير لكن حزنهم بكاء لم يجاوز أنفسهم كما قال أبو العتاهية: "على نفسك نح إن كنت لابد إلا تنوح". لكن حزني نار أوقدت على غضب فاتسع قلبي للمدينة غريبها و شريدها و طريدها و فقيرها أشاركهم لوعة ما فرضت عليهم إلا ابتغاء رضوان الوالي فما ارتضوها لكن تقطعت بهم السبل. فأنا مدينة الغريب ومأوى الطريد ومسكن الشريد وقرى الفقير وآخذ من لوعتهم وأصبها على قصر الوالي والدور الحاشية فترتد لوعتهم نارا تأكل هشيما عشّش على عتبات القصر وتجتث قصورا أسست على ضعف منهم وصمت.

قال: والعاشقين؟

قلت: شأني معهم عجيب يتتابعون على قلبي كل يحمل همه جفاء وهجرا وقطعا ووصلا ودلالا، فأنا كلهم وأنا قلبهم أتحسس لهم الطريق وأضع عنهم همهم والأشواق التي كانت عليهم. وأنا بعدهم أشيع ركبهم وأستودعهم من لا تضيع ودائعه ويمرون على حزني فإذا قلبي ينثر عليهم من حبي فيفضون سراعا إلى المدينة يوقدون عليها من شوقهم فيضيء ليلها وترق أشجارها.

قال: حالم أنت يا صديقي؟

قلت: وما أنت بغير حلم، وحلمي ليس ضغثا هو يمتد في الشوارع والحواري فإذا رجالها معي والعذارى ترقب عودنا والأطفال يمرحون بذكرنا والعسس يخرجون لا يلوون على شيء.

قال: والصحراء؟

قلت: عجبت لأمرها. مشهد غروب يشد النفس لجامله ولحن طير رخيم الصوت يملأ  فؤادك طربا. كيف ترضى مثل هذا الجلاد الذي يئد كل لمسة جمال فيها. إن جمالها يشدني وخنوعها يستفزني.

قال: هل أحببت؟

قلت: أحببت المدينة لكنها أغربتني، و أحببت  ناسها لكن الوالي أوقع في قلوبهم الخوف فهجروني  و إني و إياهم لفي نبأ عظيم حتى يصارع خوفهم. أحب و يهجرون و أقدم و يهربون يتسع قلبي لهم  وتوجل قلوبهم من ريح الجندي وعزائي أن لا خوف يغلب حبا.

قال: أحدثك عن المرأة هل أحببت إمرة؟

قلت: غلب حب المدينة على قلبي و ظننت أن لا أحد يشاركها قلبي و كنت أرى المرأة تلهيني عنها و تذهب عني لذة عشقها و جهلت ان المدينة دون امرأة خراب أو سراب. المرأة معبر إلى المدينة، إلى المجد إن قدرتها  حق قدرها، ولو جهلت قدرها كانت معبرا إلى التيه و لقد وددت لو أني أحببت من قبل.

حين مر بخاطري حديث الحب مع صديقي ونحن في سجن الصحراء تنبهت لقد أخذتني الذكريات ما زلت رهينا، أحاديث السجن لا تنسي و تجربته لا تمحى و عن كنت وددت من قبل أن أحب فأنا الآن أحب لكن حبي غريب مازال امنية. لم تصلني رسالتها بعد أو ردها.

عدت من حيث بدأت تتلاطمني الشكوك و أحاديث النفس المتناقضة: حبيبتي في رحم الغيب و اصدقائي في غيابة السجن و انا بين الغيبين أقف وحدي شاهدا على فراغ:ان الأرض تهرب إلى قاعها مني، هل ينطفئ حب غائب شوقا إلى غائبين، وقف تاريخ المدينة عند غيبتهم؟

لماذا أمتد من خارج الغيابة إلى غيب آخر؟ هل قطعك سجنك عن الشهادة فرميت قلبك إلى غيب  قد لا تدركه أم إنك اخترت الغيب تذهب آثار الغيابة في نفسك؟

هل أحببت حقا أم استبدلت فراغا معلوم بحلم مجهول. هل ترى حبيبتك ترضى أن تخرج من شهادة تحياها إلى غيب تخشاه؟

رجعت إلى البيت فلم يكن مسموحا لي أن أقضي الليل خارجه فلا يخشى الجلاد من زمني إلا الليل، يظن نهاري مقدورا عليه. إنما الليل محجة لا يسلكها إلا ذو خطر عظيم و صبر و شوق، شمائل لا يجد الجلاد بعضها في عيون رجاله ولو علم الزمن عندي ما ظن ظنه هذا ولكن يؤتي الحذر من مأمنه فمحجتي بيضاء ليلها كنهارها أغرف من نهرها أنى شئت و إن كان مر زمن لم أغترف فغفلة قادت إلى السجن و كثير ما يغفل الناس في مدينتنا عن اغتراف النهر وهو يمر بهم لنشأة نشؤوها لا تعطي للزمن قيمة يصبح الواحد منهم نائما حتى الضحى ثم يقضي نهاره حمارا يصخب و يجلب يضع و يحمل لا يفقه لما يفعل مغزى فإذا أرخى الليل سدوله خر جيفة لا يدري ما حوله ولا يشعر بمن حوله يظلم زوجه و يهمل طفله و ينتبه الجميع وقد فاتهم خير كثير فمنهم من تفتر همته فيواصل نومه ومنهم من يجهد ليدرك ما فاته وقد يقتله جهده لجهله كيف ينظمه.

و كذلك كان شأن الوالي مع المدينة رأى مدنا أخرى تسبقنا زمنا طويلا فطفق يستعجل أهل مدينتنا ليلحقوا بهم فعجلوا لا يدركون كيف  اللحاق و متى و لماذا يلحقون بهم و شأنهم مختلف و الناس غير الناس. و استحثهم الوالي ومن معه فخرجوا ولم يعدوا للحاق عدته ولا تزودوا بما يعينهم عليه فلم يدركوا من سبقهم ولا أفلحوا في الرجوع إلى زمنهم و أقبل بعضهم على بعض يتلاومون، كل يلقى باللائمة على صاحبه فما عرفوا ما بهم و كثر جدلهم حتى  افترقوا كلما همت فرقة منهم لينطلقوا أو يعودوا ثبطتها أختها حتى ادّاركوا في الحيرة جميعا فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون، ومن اعتزلهم وما يدعون ادر كتهم فتنة الوالي تشتتهم أو تلهيهم عن عزمهم.

وكنت تطبعت بطبع أهل المدينة لكنه لم يصحبني كثيرا و انتبهت منه قبل ان يفوتني ما فاتهم فلما اعتراني بعضه يوما كانت الغفلة التي قادتني إلى السجن لكنها غفلة أورثت يقظة أحفظها أبدا و اذكرها في محجتي فيستوي ليلي و نهاري قيما و يختلفان فعلا و يكون نهاري معاشا امشي في مناكب الأرض أصلح فيها و أعمرها عمارة مخلد فيها غير عابث ولا متجبر و يكون ليلي لباسا ألبس أوله حبا لجسدي و آخره حبا لروحي و بينهما يكون النوم سباتا يستعيدان و آخره حبا لروحي و بينهما يكون النوم سبايا يستعيدان فيه جذوة الفعل.

وقد فطن الجلاد لهذا فكان يوقظ ليلي يستفزني يذهب نومي يحرمني سباتي حتى أصبح كمنبعث من الأحداث لا أدري ما حولي أجر جسدي و يثقلني و أفعل فعل مقل لا قصد عنده.

و مضى زمن السجن يسبقني إلى المدينة قيدا و عيونا وعسسا و أمرت أن أقضي الليل في بيتنا لا أغادره. ولما ولجته وفي يدي وعد وفي قلبي أمل و نفسي تتضوع ألما آويت إلى ركن شديد أضع عن نفسي إصرها و الآلام التي تحملها. ثم كانت الذكرى وقد جلست إلى أمي و بعض إخوتي نتناول عشاءنا و دفء العائلة يعود إلينا من أقصى الغربة على حذر فما زلت لم أطمئن. و أني لي و الوالي يمكر ليلا نهارا و مازالت أمي لم تشبع عينيها برؤيتي و إخوتي ينظرون إلي كوافد جديد قذفني الرحم لتوي يرونني ولا يكادون يتحسسوني يغمر قلوبهم الفرح و عيونهم مندهشة كأنني لم أحي معهم عشرين سنة أو يزيد، أحدثهم عن السجن فيصدقون ما أقوله لأمانتي عندهم و يعجبون كيف يكون. ولو علموا ما اعلم و ما لم أحدثهم به لزال عجبهم بهتة لو صعقوا عجبا وما ظننت به عليهم إلا رأفة بهم و بوالدتي و انا على شفا السجن ولو حدثتهم لظنوا أنه سيلحقني مرة أخرى و لهلكوا أسفا.

و ادكرت بعد العشاء و كانت أمي تتابع التلفاز و إخوتي يخوض بعضهم في حديث بعض و الذكرى تحملني بعيدا عنهم       وتقطعها بعض أسئلتهم أوجز الرد عليها أو أوسع معها الحلم و الذكرى كمثل ما قاله لي أصغرهم وقد لحق بكلية الآداب حيث كنت أدرس من قبل.

- لماذا لا يسمحون لكم بمواصلة الدراسة في السجن، - قد قرأت في الصحف ان مدن الغرب تفعل هذا بنزلاء سجونهم حتى إذا قضوا سجنهم أفادوا بعلمهم أهل مدنهم، - فهل كنتم مثلهم؟

عندها مرت بذاكرتي القصائد التي خططتها على أوراق التبغ و الجلاد يمزقها بين عيني وهو يتتعتع في قراءتها و يمنع عنا الحليب المعلب في قراطيس نقلت إليه عيونه أننا نكتب عليها علما نتناقله بيننا.

كان يخرب ذاكرتنا أو يحاول وهو يوقن بينه و بين نفسه أن علمنا سيكون لأهل المدينة لكنه يجحد ذلك ظلما و علوا و ما أدخلنا السجن إلا لعلمنا، فلم تكن تهمه المدينة بل الكرسي الذي انتصب عليه فيها. ولو خلى بيننا و بين أهلها فعلموا من علمنا لخر من على كرسييه وما لبثوا في العذاب المهين.

و السجن في مدن الغرب سلب مؤقت لحرية يستعيدها صاحبها يوما و صاحبها رجل من أهلهم إن أخطأ أصلحوه، وما يفعلون بعذابه أو التنكيل به، ثم أنهم لا يدخلون السجن عالما أو مخالفا رأيا رأوه و إنما جعلوا السجن لمن يبغي الفساد في الأرض و ينشر الرعب في المدينة فإنهم يجهدون في إصلاحه علما و معرفة وفنا.

أما نحن فالوالي يضيق بمن يخالفه وما ملأ الوالي سجنه إلا بمن خالفه الرأي و الفكرة من سعى في الأرض فسادا فما بلغوا معشار من دخلوه لرأي رأوه غير رأيه، و ما كانت مدن الغرب مثالا له إلا فيما يضرنا و بنفعه و يستهديهم كيف يكيد بنا و يزين لهم أنهم يحفظ مصالحهم عنده فيهدونه و يجزلون له العطاء رجاء ان لا نلحق بهم أو تفوقهم علما و بحثا وقد وجدوا من يكفيهم أمرنا من بني جلدتنا.

و التف إلى أخي ثم زفرة ريحها السجن وصوتها الغربة و قسمات وجهي جرحا ينزف تاريخا مهملا و حاضرا جامدا و أفقا أغلقه العسس أتخلله ومن معي على جثث منا ودماء أسالتها سياط الجلاد و أسف على مدينة كيف تكون غدا ونحن نجيء إليها نجر ورائنا سبعا أو يزيد عجافا أكلت ما قدمنا و ملأت ما أحصنا ألما و حزنا و رغبة ثأر لا تنطفئ عند كثير.

لم يعد يجدي معهم حديث القلب و العقل أو الحب و الرحمة و العدل يستمعون إليه ثم يعرضون عنه، يقولون ذهب الحب مع عصا الجلاد تلج أدبارنا، تهين رجولتنا. و انفض القلب منا مع بكارات العذارى تفيض في مخافر العسس و انقضت الرحمة حين جاع أبناؤنا و شردت نساؤنا، و العدل أن معاقب بمثل ما عوقبنا به.

و قليل منا يرى الزلة العجلة و العفو أفضل للمدينة وما كنا لنجني الورد دون شوك و لنحتسب أمرنا فجميل أن نعطي ولا نأخذ لكن القليل قد لا يغلب رأيه رأي الكثير و تتفتت الزهرة و ينتشر الشوك ولا نمشي و إن مشينا فالهوينا و الهوينا فوت و الفوت أشد من الموت فإن كان أحدهما أو كلاهما ضاع حلمنا و أبطأ الغوث و اسودت محجتنا.

لست أدري لماذا شابت تذكري نظرة السوداء هذه لأول مرة. فلأول مرة يخيفني اختلاف الرأي إذ اختلفنا فوق الجراح ومن كان جرحه أعمق كان عن اللقاء أبعد و جراحنا سواء لكن نفوسنا غير واحدة و المشاعر مشارب عدة لا حصر لها.

قال: ما للمدينة ولاختلاف نفوسكم هل سيقودكم إليها الهوى أم يعجب كل ذي رأيه فتضيع بينكم المدينة و يكون الفناء؟

قلت: لا أخشى على المدينة من الهوى فهو مقدور عليه أدبا و سلطانا  لكن سبع المهانة أورثت في المدينة جرحا، جرة قلم القاضي وحدها لا تكفيه و مدينتنا زهر التف بأوراقها الشوك فليس يشمها احد إلا شيك ومن شيك تذكر ثار أو همد و ثائر الذكرى أرعن تثيره الجراح و يقوده الحزن فيخبط خبط عشواء يستوي عندها اللونان فأن قُتل بكته المدينة و أن قتل ابكاها.

قال: فماذا ترى؟

قلت: كأنك تدرك ما بي أو تشفق علي. غدا أسير في المدينة زهر و شوك منفصلان طوعا و جرحا و ملتقيان كرها و أرضا. كانك تسألني متى تكون نهاية الكدح و الغربة التي أخوضها و أنا أدخل من قتام في قتام لكنه قدري و حبي و المدينة تسألني  أن أفتش شوكها و أضع عنها إصر الجلادين و العسس الذين كانوا عليها، تسألني اليوم حبا و عقلا كما سألتني بالأمس دما و روحا سيأتي زهرها وريح الدم تفوح مني و من أجساد الذين عبروا إلى الخلد ولم يشهدوا عرس المدينة و اثار السياط قناديل نور تمحو تاريخ الليل عنا فيستحي مني الزهر  و ينفتح و يكبر و يصغر الشوك و لا يبقى منه إلا ما كان نفعه أكبر من ضره و ما صاحب الزهر إلا ليحميه ممن أراد ان يجعله في جواربه و تحت الحذاء.

إن مثل زهر مدينتنا و شوكها كمثل قوم عرسوا بواد ذي زرع و كان رؤوس القوم يستضعفون صغارهم و يكلفونهم ولا يطيقون، و كان في العلية عسس و ناس و لا يعلمهم كثيرا ممن أستضعف، يشفقون و يكتمون فلما اشتد بالذين استضعفوا العذاب اجمعوا أمرهم وهموا بالعلية رؤوسا و عسسا و ناسا لولا ان تزيل الذين يكتمون شفقتهم واشتدوا قليلا ممن يعلمهم من المستضعفين لوطئتهم الذين ثاروا  و لا يلوون على شئ و يخرجون من استعلى يقتلون و يأسرون فلما أحكموا أمرهم عمدوا إلى الوالي ينصحونه و يصلحونه و كان فريقا منهم ينظر من طرف خفي إلى الذين يكتمون من قبل أمرهم و يظن بهم أمر سوء حتى أوقعوا بينهم و بين الناس و ذكروا موقعهم بالأمس فهموا بهم مرة أخرى لكن نفرا منهم لم يعجل و اخذ بأيديهم ليذكرهم ما كان من هؤلاء شفقة و حبا و مازال بهم حتى هدئت نفوس الجميع و اقبل بعضهم على بعض يتوادون و يتحابون.

قال: كان زهر مدينتكم سيحتضن شوكها.

قلت: لهذا هي تسألني اليوم حبا و عقلا فمن لم يحبنا كان له في عقلنا مندوحة و من لم يرضى رأينا وسعه حبنا و من كان غير ذلك كله صار شوكا يقتله فعله.

قال: و أين أنت من كل ذلك؟

كان كل سؤال سألنيه يثير في نفسي جرحا و ما أكثرها جروح نفسي كأنه يدفع بألمي إلى مداه يظن بألمي يذهب بألمي ثم يسألني عن موقعي وهو يعلمه و ما عنه يسأل بل يخشى أن أجرح جرحا قد أقضي معه وهو يعرف أني أصدم  لو خدعت ممن اصطفيته أو خذلني من رافقت دربي، كأنه يعرض إلى كثرة الساقطين حين العبور، الواصلين ولم يحترقوا بنار الطريق و ينسى أننا لم نكن بدعا في أمر الساقطين لكن أحد لم يسر سيرنا فمن أبطئ به سيره لم يشفع له ان كان يوما واحدا منا و ما السبق عندنا قدر و عهد ولكن الصدق دأب العابرين سالفا ولاحقا و من سقط ونزع عنه رجولته و الآمال التي يحملها قتله سقوطه و انصرفنا عنه فلا احد يصل إلا و آثار السفر بادية عليه و الشوك أدمى قدميه وقد غسل ثيابه عرق الكدح.

و أنا يا أخي ما سرت يوما في هذا الطريق لأكون رأسا ولكن هزني الشوق فتلذذت الرحيل و شمرت.

خفيا أغيب فلا أفتقد و احضر فلا اعرف أقول و امضي و الزهر في قلبي و بين يدي، أموت ولا تتفتت جسدي لبوس لها يحسنها من بأس الشوك ينغرس في ولا يعبر إليها آخذ بيد العاملين أشهد عليها قلبي و لساني سيفان يرقبان الطريق فمن حاد بغيا وعدوا سلط عليه فإن كان لابد من الغربة مرة أخرى فقد نذرت لها نفسي حتى تضئ المدينة كلها أو اهلك دونها.

فإن متّ أورثت نسلي ما كنت فيه و ما أورثت غريبا خيرا من رجولة يتحلى بها نوره و عن كان السجن يومي فغدي فجر دائم أو موت يوقظ من أحببت معهم المدينة من غفلتهم و ما أبرّئ نفسي فقد أحببنا المدينة معا و جميعا، لأجلها كان السجن و الموت و العسس يتربصون بنا لكن نار الشوق عندي أفضل من لذة الوصال، لا أروم نشر حبي على مكاتب المدينة و مؤسساتها و على أبواب قصورها و إن طلبتني سأظن به عاليا و لتعذرني مدينتي فما أنا بالذي يبذل حبه لتقتله السياسة و عن كنت قد فعلت من قبل في زمن الغربة و الفراق لكن الوصل كفانيه و لأحفظن وصالها ومن قاموا عليه حتى لا يظن أحد أنني أثغر في حضنها ثغرة قد تؤتي منها. و من تبعني على ذلك جعلنا من أنفسنا سياج الحمى فما عاد الزمن يسمح لنا أن نهدر طاقة ولا نعبث فعلا.

قال: وهل أدركتم فتفعلون؟

قلت: بلى كان ذلك في قلوبنا و أصلاب آبائنا ثم جئنا نبشر بما وجدنا ولو لم ندرك ما كنا ولنكون ما أدركنا وليس محبا من ظن يوما أنه ينقطع و لا يبلغ.

قاب قوسين أو أدنى رأيتها فحدثتك كيف هي و كيف نحن. إني أراها تجيء كفلق الصبح فاستعد لها، السجن ينتظرني و الحب يزينني و أنا و المحبين في الحلم سابحون.

ولما ذكرت المحبين عادت نفسي إلى الذكرى. وقطعت حديثي مع أخي فمازال منهم في السجن، هم الآن يتطهرون و أنا عدت أخوض في دنس المدينة احمل بقية من طهر أحاول زرعها في الدنس لأذهبه أو أحافظ عليه فلا انتهي.

لقد تركتهم يجهد الجلاد ليذلهم وهم شامخون، مطمئن أنا لصبرهم و جدهم لكنني حزين، إنهم هنا في القعر حيث معرة البشرية جمعاء موسومة على البواب و السوار و داخله سياط و مشانق وقن.

هل كانت البشرية يوم ابتدع السجن؟

اشك في ما وجدته فيه تستحي البهائم أن تأتيه و ينفجر الصخر ماء أسفا عليه.

هكذا كانت الذكرى تضرب بي من أقصى الحزن إلى أقصاه أفتش عن معبر إلى الفرح فتتزاحم مشاهد الألم على أبواب ذاكرتي و أنا اذكر وعد حبيبتي و ارقبه سيكون بشرى حب يذهب بعض حزني وقد يذهب أملي إن هي خالفتني و استبدلت حبا غيري.

و استبقت أملي ورأيت أن أفكر كيف يكون فرحي. و الفرح في مدينتنا طبول و مزامير و نفخ في جلد ماعز و رقص كرقص العاهرات في الملاهي، تدوير حزام و هز بطن و لهو حديث يظلون به أهل المدينة فلا يرون رأيا ولا يعقدون أمرا يستفزهم كل نعيق يصدر من جلد الماعز فيهرعون إليه لا يقومون عنه حتى ينقضي الليل فيصبحون كمن بات تداعبه عصا الجلاد، لا يستطيع نوما و لا ينفك عنه فيضطرب العمل و تكثر الإحن ولا يجتمع اثنان، ويسعد الوالي إذ زين لهم سوء ما هم فيه فملك قلوبهم فلا يشقون له رأيا.

و لما لم أشاركهم فرحهم لم أجعل للوالي علي سبيلا غير أنه منعني أن أفرح كما و أهلي يشفقون ان فرحي صمتا مثل الجنازة، و الناس يعجبون و منهم من يسخر و ما درى أن صمت فرحي يغيض الوالي و يقهره إذ لم أرض فعله.

وقد بحثت في المدينة كلها فلم أجد طربا يغنيني عن لهوهم وقد صادره الوالي جميعا فلم يبق إلا الناعقين و العبثين رقصا وما كنت لأخلع لباس القصد لحظة واحدة تلهي الجلاد عني و تورثني حزنا طويلا، وقد كنت أومن بالقصد في الطرب يريح القلوب فيشحذ العزائم و ينشر قيم الحب و المودة و المجد و الكرم ولهوا تطرب له النفوس ولا يضلها متى عزم الأمر.

ما كنت أرى طربا يخلو من قصد و إن بدا لي عبثه كمثل ما فعل الوالي إذ جعله رقصا و عبثا و لغو كلام يفرق به الجماعة و يستحكم أمرهم وما وجدت الطرب للطرب إلا زخرف قول يعمي به الوالي عن سوء قصده و يتفكه به آخرون رضوا بان يكونوا مع الخوالف يخوضون مع الخائضين وليس لهم من المر شيء و الصمت عندي أفضل مما يقولون أخرق به خوضهم وعمهم.

يرى كثير ممن أحببت وجادلوني في أمر الصمت يوم الفرح إنني أكون كمن ينقل جبلا من مكانه آتي غريبا و أقول عجيبا وقد ولى زمن كنا نرسم فيه لهونا كما نريد ونحن الآن في السجن و أنت وحدك و حبيبتك صمتكما ينفر الناس عنكما و يجلب إليكما العسس يحيطون بكما و يذهبان فرحكما وقد تنتهي إلى السجن مرة أخرى لكنني اعشق الغربة ولا أرى نفسي غير طمّاحة تناكف الوالي و الجلاد و ترسم ما تراه ولا يهمني ثمن ذلك وقد كنت خالفتكم من قبل في أمر لهونا إذ تغنون الحرب و الثورة يوم عرس جمع قلبين طال شوقهما واستبد بهما الحب و العشق حتى اهتدينا إلى لهو يراعي المقام ولا يخرق الدب و الهدف فكيف أرضى بمن يبطر بالطرب و يغمط الناس و يجعل الطرب مطية ونزوة و تتعب المدينة جميعا.

و أراني وحيدا أحاول أن أسترضى والدتي التي ترفض أن أقيم فرحا دون صخب لا يدفعها إلى ما تقول إلا دفعا لشماتة الحساد و نكاية بمن رأوا أن السجن نهايتي و أمي لا تفقه كثيرا مما أقول لكني قاربت رضاها إذ كان هدفي. وقد كان يقنعها مني قولا كريما يطيب خاطرها و يذهب الشماتة عنها و أراني وحيدا يخشى من يحضر فرحي أن يتهم بموالاتي و عيون العسس ترقبني و الناس جميعا، وما همني وقد شرب المفرد العدد فصرت كل الغرباء، يراني الجلاد كثيرا فيحشد لي العيون و عسسا يشهدون فرحي فلا أكون وحدي و أسمعهم ما يكرهون و إن كان صمتا ولا يجرؤ أحد منهم أن ينطق فيفتضح أمره وقد كلفهم الوالي أن يرقبوا الحفل لحظة بلحظة و يصبروا على ما آذيتهم به لعلهم يضفرون بمن لم يعرفوا من قبل جاء يهنئني فيرفعون أمره إلى كبيرهم، و أمعن في إيذائهم و أنا أعلم منهم وهم لا يقدرون على شيء مني و يقتلهم غيضهم ثم ينفضون ولم يضفروا بما جاؤوا لأجله وقد أعميتهم عن الغرباء فلا يرون أخا إلا شبه لهم أنهم يرونني و يرون حبيبتي كالنساء: جميلة من غير زينة أبية في غير كبر حياؤها يستر كل النساء اللاتي هتك الوالي سترهن كرها فيرتد شبق الجندي حرقة تأكل نفوسهم.

ولما كنت أرقب ردها و آمل نفاذ وعدها مستعينا على الشوق بالذكرى فقد كان حديثا يرتجى أمتد إلى آخرين أوشك الشك أن يقصر أحلامهم و يقتل فيهم الطموح فلا يرون الفجر أبدا، و امتددت به إليهم ليعلموا أن الوعد حق و انه من كان عاشقا لا تفتر همته و المعجز يستحيل عنده ممكنا.

ولا يكون ذلك حتى تجده في نفسك و تقيمه في حلمك و الوجد بغض الشك و إغلاق السبل دونه و الإقامة ان يستوي حلمك في قلبك فعلا يسبق خطواتك. ولقد كنت واجدا مقيما منذ شببت عن طوق الوالي و جربت السجن و اخترت الغربة و طامحا مشوقا أسير ثابت الخطى غير عابئ بالشوك ولا نتونة الجيف تتزاحم على الطرقات أفعل ما أرى إذ يعنيني وحدي ولا يكلف إلا نفسي ولا يتوقف على آخر كمثل ما انا فيه الآن من أمر الحب و الفرح آخر، إن وافقك كان المر و عن خالفك لم يجد رأيك معبرا إلى الحياة و يظل حلما أجمل ما فيه أنه يمنع عنك الموت أبدا.

و لما كان الإصباح وما خالف ليلنا من يوم أن قدم الوالي إلى المدينة عزمت حاملا معي الوعد و الأمل أرجو نفاذهما كل حين. وكان علي أن أمر بالمخفر – شائبة الأمل الوحيدة-.

قبل أن أفعل أي شيء، أسجل حضوري، يتفقدني العسس يطمئنون أنني لم أغادر المدينة، يبحثون ماذا فعلت البارحة وكيف نمت، من جاءني أو من ذهبت إليه يتحققون من وشايات عيونهم سألوني عن أحلام الليل و النهار وقد رأيت البارحة ان كبيرهم يمهلني يومين أستعد فيهما للمثول أمام القاضي ولما أنتظر كبيرهم، و أوجست في نفسي خيفة و تمثلت رؤيا البارحة: هل سيشد الوالي خيط السجن إليه فينتهي المال ولا أرى حبيبتي ولا يكون حبا.

و التفت فإذا كبير العسس يقول لي: سنقلك إلى العاصمة، القاضي هناك يطلبك.

- اليوم ! قتلها هامسا.

- سنمهلك يوما أو يومين، تتهيأ فيه للأمر تحمل أغراضك و بعض المال لعل القاضي لا يقر سجنك هذه المرة فتستعين به على أعباء السفر.

- وهل سيسجنني القاضي؟

- ثمة أمر بسجنك خمس سنوات أخرى، - ستذهب لتراجع فيه القاضي و إياك أن تحاول الهرب فعبثا تحاول ولا تخشى شيئا ما دام الأمر قابلا للمراجعة.

كان يتحدث كأنه لا يظلم الناس شيئا يحاكم بالعدل و يسقط بين الناس، ولا يخالف القانون وما هذا إلا تورية عن مهزلة يلعب فيها دور البطولة.

وعجبت كيف يطلبني كل قضاة المدينة يحاكمونني  المرة و المرتين للأمر نفسه، يظنني  الواحد منهم مذنبا في حق القضاء الذي يليه و ما سمعت بهذا من قبل ولا أقل منه لكن والينا كان بدعا في كل شيء مفسدة وجورا.

و انطلقت ألقي السلام الأخير على أمي و إخوتي و أودع اليومين الأخيرين لي في المدينة يكون بعدهما السجن فلا أظن القاضي يعصي أمر الوالي وقد كانت أول فتنتنا في القضاء. و أحزنني أن رسالتها لم تصلني بعد ولم تكن الرحلة إلى العاصمة هينة على نفسي فقد كانت رحلة على السجن.

أعود إلى العاصمة بعد أربع سنوات لم أزرها أعود إليها لتسجنني أو ليحتضنني سجنها لا لتمتعني روعة حدائقها ولا لأسترجع فيها الذكرى و كانت رحلة صيف و السجن في الصيف ضعف العذاب. يزيد القاضي حدة وقد مررت به ينظر في أمري كأنه يلهو مع طفله أو ينادم بعض صحبه، برهة من الزمن لا تكفيه ليرتد إليه طرفه يسألني مستعجلا:

- لماذا تهرب من العدالة؟

ضحكت ما بيني و بين نفسي كأن العدالة تعم مدينتنا فاهرب منها و لماذا فهي مطلبي و غايتي ولو فررت لفررت إليها أشهدها عجيب ما يقع ف مدينتنا باسمها ولو وجدتها لذكرت ما أخفيه في نفسي علنا في وجه القاضي دون خشية ان اتهم بالتطاول على هيأة قضائية و نشر أخبار زائفة توهن من موقفي في مراجعة ما صدر ضدي من حكم لم أكن أعلم به و قلت للقاضي:

-لم اهرب من العدالة بل كنت في السجن وما بلغني أنكم تطلبونني.

-السجن كالفرار.

هل يستويان ألم أقل لك يا نفسي أن حياتنا في المدينة عجب وبدع، هل استوى الظل و الحرور يوما فتكون مداعبة الأم كعصا الجلاد و تفتأ تراودني عنك تقولين في المدينة ناس يأسفون لحالك وترق نفوسهم و تدمع عيونهم فلا تجزع فلست وحدك وما يستوي بين نقيضين لا يلتقيان، لم يميز بينهما في ذهنه أما رأيت كيف ينظر في أمر من سبقنا إلى المحكمة ذلك الوجيه من وجهاء المدينة ومن المقربين إلى الوالي لم ينقص القاضي إلا أن يجلسه مكانه يسأله متى يكون فراغ وقته فيشرفهم بحضوره حتى لا ينشغل عما يقدمه للأمة، و ماذا يقدم للأمة لو كان عنده ما يقدمه لها لنهر القاضي عن غيه ولأمر ان يسوي بين المتقاضين حتى في نظرته ولكنهم سواء إلا نحن من يروننا أغرب من الغربة إنه لم يكلف نفسه بعض الوقت يوهمني أنه أمعن النظر في أمري، كنت سأقنع نفسي أنه ظلمني لو فعلها حتى لا أزيد من غربتي إلى حين ولا تضيق نفسي و انا والج السجن فيقوى  عليها الجلاد ويجد مني لحظة ضعف.

لكنه فعل ما أمر به و ليس غريبا و أنت نفسي تحبين المدينة و أهلها لا يحبونك تتوددين إليهم و يغضبونك، يقتلون فيك الأمل و الحب. هاك يا نفسي وعد حبيبتي و أملي ضعيهما هنا على منضدة القاضي وفي قفص الاتهام وعلى كراس الحاضرين في قاعة المحكمة يتابعون مسرحا و يقتلون فراغا يملأ قلوبهم و عقولهم.

ضعيهما ليشهدوا أنا مررنا من هنا على أعين الناس ينزعون عنا الحب و يقتلوننا و نحن منهم ويخرجوننا من ديارنا بغير حق و يظاهرون على إخراجنا.

ضعيهما وقولي لحبيبتي سوف آتي إن لم يسبقني الجلاد إليك فيجبرك على ما تكرهين أو يقتلك إن أبيت، قولي لها سوف آتي حتى وإن سبقني الجلاد إليك وفعل فما ما فعل فما أنا بالذي يرتد على عقبيه ونفسي حضن كل الغرباء و دفء للذين أبرد شوقهم صلف الوالي، سآتي و إن لم تنتظرني لأنك لا تكرهينني و أنت بقية من سلف يقفون على الجمر لأجل هذه المدينة.

قولي لها اختاري من شئت و اضربي عرض المدينة و طولها و امح من ذاكرتي ما كان من وعدك و أملي لكن ثقي أنني سأعود.

ضعيهما و امسحي عن أمي دمعها وعن إخوتي حزنهم و ذكريهم  أنني كنت شاهدا على عصري و الشاهد على عصره رجل و الرجل يجوع و لا يأكل من إليته و الدمع مجبنة و الحزن منقصة. ومن جبن لم يبلغ ومن انتقص من نفسه ذل.

يا نفسي قري عينا وارقبي فجرا وزيدي شوقا وذري ما يقولون وما يفعلون. هناك بحر النور فكوني السابحة وجدي السير مسرعة.

كانت نجوى أفر بها من ظلام المحكمة والقاضي يرفض مراجعة الحكم الصادر ضدي، ويأمر بحبسي خمس سنوات أخر لا يدري أيشهدها أم ترمي قمامة التاريخ.

و فررت بالنجوى من الظلام وولجت ظلام السجن يصحبني وعد لم ينجز ورسالة لم تصلني و أمل عجزت – أبواب السجن السبعة – و أذني تسمع صلصلة مفاتيحها وهي تغلق دوني عجزت أن تحصره.

النشور

﴿ ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام  ينظرون﴾

قرآن كريم

فلما أتم ولوجها جميعا وجد نفسه في مقبرة كأنها وسعت الناس كلهم أو كان المدينة كلها حشرت ترقب يقظته، تسال عن حلمه. وهم أن يحدثهم لكنه انتبه، كان المكان سجنا و المكان وقت التعداد، السجناء يتأهبون و العسس قارب وقت وصولهم، عندها أدرك فخر الدين أن العسس تسللوا إلى أحلامه أيضا كغيره من أهل القرية، لم ير إلى ما ذكره رعب أبي المغاليق و ما مر به بالمدينة لكن عزاءه أنه كان في حلمه حالما يجادل الرجل الذي سار به على الأبواب يذكر آماله و حكى حتى كأنه تحلل من كل قيوده لكنه الآن في السجن بعد أن غادره مرتين و غودر فيه ثلاثا و مازال حالما في غير نوم وبدا كأن به حاجة إلى الاعتذار فحلمه صار حلم المدينة كلها، جاوز حلم أبيه و أمه ولم يرع شوق إخوته،أوتي حلم العائلة من حيث لم يحتسبوا. لم يصر طبيبا لقد غادر العلوم إلى الشعر و الأدب ثم كان السجن.

آه كم كنت قاس يا فخر الدين، أهكذا تسفه حلم العائلة، تذهب به أليس في قلبك رأفة بهم...

هكذا قالت له نفسه حين حاسبها متذكرا وأستدرك: كأنني إذا ذهب حلمهم ذهب بعض نفسي. النار بداخلي توقد أبدا لكن نار المدينة أشد و أبقى، أنا جزء منهم وهم جزء من المدينة و المدينة كل يسعني و يسعهم أما رأيت يا نفس ما فعل الشوق بي صار حلمهم قطرة من فيض، فيضها عانقني، دثرني، زملني، حتى ألبسني فألبسته، صارت جرحي و بلسمي، حلت بي فإذا دمها جرحي و جرحها حزني و إذا الجروح كثيرة أكبر من زمني ولو مد زمني زمن و زمن كأنما الجروح ولدتها كلما مر جرح خلف عشرا وحللت بها ذات جرح لم أسبر غوره ومضيت يحملني حب أشربت به المدينة في قلبي، كلي لها حلمي وحلمهم، حلمي جرحا يشتد بي فأخبط حبا كي أضمده و توقظني صرختها فأستوي وما بين الخبط و الاستواء كان دأبي حتى كان السجن قطعا فتح أبواب غربة بين فراغين.

هكذا قال هم أما نفسه فعاشت السجن الفراغ و كان أولاهما فأذاقها فراغه حيث تدور ولا تدرك شيئا و تفلت منها الذاكرة فلا يرقى إلى ذهنه اسم كان يعرفه أو رسم كان يعشقه ينتزعهما كما ينتزع ثوبا من شوك فيلقى نفسه مجهدا من وصب إلى وصب، الناس حوله في فراغهم يعمهون و السجن نقطة فراغ في ذاكرة الجمع لا يذكر إلا كعابر سبيل استظل تحت الذاكرة ثم مضى.

أسف بلا معنى وحزن لا يمتد كمن يضع حجرا على غير آس، كان فراغا لا يجوز لأنه غور بلا قرار أنت فيه دلو تقطع حبله تجاهد أن تدرك فلا تبلغ و تكف نفسك حتى لا تتلاشى و تأوي إلى الظلام خشية ضوء يعشق أن تكون فراشته.

هكذا كان الفراغ السجن أولى الفراغين تلك ذاكرة الثقلين و مأوى غريب لم يرض أن يحترق بنار المدينة فأوقد عليها حتى علقت بقلبه، ثم أوقد فأوقدت به، ثم أوقد عليها مرة أخرى فقذفت به من السجن الفراغ إلى الآن فكأنما آخرهما جاء به تلفه المدينة ينظر إلى الأفق كأن لا فراغ ينحصر كأن لا أفق.

لكنه الآن في فراغ يقف عليه، يتلظى به يتلذذ به لقد استوى ترك الخبط كان السجن فارغا و إفراغا عانى الفراغ و أفرغ المعاناة و الخبط لكنه حين استوى وجد الفراغ، المدينة خاوية شوارعها عسس و موتى ناسها أغربوا في غربتهم فهل يستوي غريب و المدينة خواء.

كانت أبواب القبر السبع التي مر بها صراطه إليها غير أن عمله أبطأ به فأصابه الفوت وقد خلت من أهلها المدينة فكان منهم سابقون و منهم لاحقون، كان فوتهم انقطاعا حيث وجب الوصل وجاء وصل حيث لا موصل هناك.

كان يرى المدينة تنساه كأنه يتسلل من ذاكرتها أو يفر منها شأنه شأن الشهيد يوم الرغيف الذي حاول ان ينتزع من الحديقة العمومية صنما جثم عليها، كان الصنم أقدس عند أبي المغاليق من روحه و الشاب يفرغ حقده هنا و هناك على كل ما يرمز إلى من تطاول فأغلى سعر الرغيف، كانت ثورة المدينة كلها و كل يثور على شاكلته وشاكلة الشاب فاضت به حتى أدرك الصنم وهم به ولم يعلم أنه يجاوز حده، أو علم ولم يأبه حتى أدركته رصاصة جند أبي المغاليق فخر ولما يسقط الصنم خر شهيدا يومها ذكرته المدينة و الناس جميعا لكن أبا المغاليق عالج ذاكرتهم بالحفر و مازال بهم حتى أحدث بها ثقبا أسقط الشهيد فصار رجلا مات و انتهى، وفخر الدين يقاوم حتى لا يمر بالثقب فيسقط ولا يتسرب إليه خواء المدينة فيعوج بعد أن استوى.

كان يخرج بعد ان يأخذ زينته كما كان يفعل قبل أن يلوث دون السجين، فالزينة في السجن لا معنى لها و عن كان يجتهد ان يحافظ عليها حتى يحفظ نفسه من الدرن فلا يسقط فقد كان يدرك أن من رضي حياة السجن ذل وانتهى و الزينة قطع مع هذه الحياة و إن كان يحياها و يهملها أحيانا ليقول انه في السجن و كان هذا من أغرب آرائه.

الآن تطهر من دونها وهو يخرج صباحا وقد تطيب و الطيب أحب الأشياء إليه يذهب نتن ريح الجند و العسس الذين يملؤون الشوارع و الحواري، الآن هو يخرج يتحسس المدينة لعله يظفر ببقية من سلف يعرفهم و يعرفونه يحدثهم أو حي من أحيائها لم يذهب هدوءه رعب الوالي أو لعل واحدا من صغار  الحي ممن لم يصاحبهم في الطفولة يتعرف إليه فقد كان إذا شأن في المدينة و خبر سجنه عم أفاقها سيدرك حين يعرفه هؤلاء أنه لم يمر بالثقب و إن مر فإنه لم يسقط وجاوزه إلى مرافئ الذاكرة ينتظر حتى ترجع المدينة إليه فينطلقا إلى البحر يغسلان ما ران عليهما من عجف سني الوالي.

كان يجوب الحواري كلها فقد مر الآن على خروجي بضعة أشهر لكنه لم يظفر بما تمنى إلا قليلا، كل الطرق تجملت و تزينت و بدلت أسماؤها لكن رعبا ما كان يسكنها يذهب لذة الجمال فيها أو يذهب الإحساس به الشيوخ  فيها يبادلونه تحية الصباح أو العودة يذكرونه و يذكرون صحبة أبيه لهم. لم تنسى ذاكرته علاقته بهم بعضهم يسر إليه ان قلبه معهم، وجد أيضا ان نفرا قليلا ممن صحبه في السجن أو عمى عنه بصر الوالي و يود انه حين يراه لو انه الآن في السجن،  هناك يمكن التحدث ولو سرا فلا شيء يخشونه، أما الآن فلا سر و لا جهر العيون  تحاصرهم و العسس ولو فعلوا و تحدثوا لأرجعوا إلى السجن و هل سجن أكثر من هذا لكن ذلك كله لم يذهب ما به من رغبة، كان يشعر أن شيئا أكبر من ذلك يملأ شوارع المدينة فظل يجوبها و يعيد جوبها المرة و المرتين لم يفلح أبو زيد و رهطه أن يحملوه معهم إلى وجدهم و عشقهم إذ كان أشد منهم وجدا و أكثر عشقا و ما تغني عنهم شطحاتهم وهو يرغب أن يفرغ عشقه وصلا لا شطحا  إذ الشطحات تملأ نفس العاشق لكنها تفصله عن المدينة و فخر الدين لا يرى عشقا دون مدينة.

ترك أبا زيد و شطحاته ولم يجد في شعر العرب ما يذهب وجده وبعضه يزيد ألما و إن كانت نفسه تفيض شعرا يقوله و يكتبه لكنه يرى شعره استثناءا نوعا من وصل لم يكتمل مع مدينة، لا يكفي خواء ما شعر ليمتلأ، الشعراء في المتردم و يكفيه ما قضى فيه، لقد إستوى و غادر المتردم لكن المدينة لم تعد بعد.

مازال يبحث، يجوب المدينة و يبحث حتى كان ذلك اليوم، يوم طقسه كغيره من أيام المدينة شمسه تكاد تحرق الوجوه فتسوء منها كما أسودت من رعب الوالي، الناس في الشوارع قليل إلا عابرا إلى العمل أو ذاهبا إلى السوق أو متنقلا بين الأسواق ووجده أشد من حرارة هذا اليوم كان يمشي لعله يظفر بما يطفئ حرارة هذا الوجد و كان ذلك اليوم يوما له ما بعده و قد كان قبله الألم و الفراغ.

يومها استوقفه شاب يعرف وجهة لكنه يجهل اسمه، يذكر أنه إبن المدينة لكنه كان صغيرا حين دخل هو السجن و عقد من الزمن بتغيير كل شيء، لقد رأى كيف تغير أبناء إخوته و أخواته و أمه التي زاد عظمها وهنا، قد كان عقدا من الهول لا عقدا من الزمن.

حين استوقفه الشاب ظن انه من أعوان أبي المغاليق، تملكه الشك و شيء من الخوف، لم يغادره الشك منذ خروجه من السجن لعلمه أن أبا المغاليق لم يترك أحدا في المدينة حتى أسكنه في رحابه إلا من تخفى برجولته أو مات. لكن الخوف الذي انتابه اليوم غير الخوف الذي عرفه خلال سنواته العشر لم يدم طويلا كأنه مس عبره تعودت نفسه عليه أحس بالطمأنينة تملأ كيانه، مد يده إلى الشاب فرأى الشاب يعانقه بل عانقه فعلا فبادله العناق بحرارة كأنه ولي حميم.

كان الشاب طويلا عريض الكتفين وسيما قوي البنية لم يجاوز عقده الثاني من عمره، تسريحة شعره لفتت نظر فخر الدين، كل شباب المدينة هذه الأيام يسرحون على هذه الشاكلة، فخر الدين لا يحبذها يراها سلبا لشخصية الشباب كأنها تذهب بما بقي من عقولهم تطير بها إلى هناك حيث البلد الذي وردت منه ولم يكن فخر الدين ضد كل شيء يأتي من هناك لكن أشياء كثيرة لا جدوى منها هكذا كان يقول.

و تأمله كأنه ينتظر أن يطلق الجلاد سراحه، شوق مشوب بخوف، خوف أن يسقط ما كان يأمل أن يسمعه أو يلقاه. حالة لا يعرفها إلا من عاشها مثل فخر الدين.

هناك حين يقف أمام منضدة مكتب التسجيل في السجن حيث يسجل الداخلون وهم كثير و تشطب أسماء الخارجين وهم قليل. و الخارجون  صنفان: صنف لا حاجة للوالي به، دخل السجن في سرقة، أو اغتصاب فتاة، أو تعد على شخص، أو غيره من جرائم بحق المجتمع لا يأبه له الوالي ما دام لم يصل إلى محارمه. هذا الصنف حين يقضي ما حكم عليه به يسرح دون إبطاء، يجد بطاقة السراح في انتظاره تسلم إليه مع بعض كلمات المزح من العسس ثم يمضي.

و تكون الوقفة الطويلة و الانتظار المشوب بالخوف من نصيب الصنف الثاني: فخر الدين و من كان مثله ينتظرون لا حق لهم في السؤال متى الخروج و إن سألوا لن يجابوا فلا احد من العسس يعرف.

كلهم ينتظرون الجلادين من خارج السجن فالقانون لا يسري في حق هؤلاء يعطل إلى حين.

فخر الدين ومن كان مثله يحمل الواحد منهم حين تنتهي مدة حكمه إلى الزنزانة، هناك يلقى أبا المغاليق أو بعض أعوانه و هناك أيضا تفتح كل الاحتمالات و عادة ما يغلق احتمال السراح.

بادله الشاب التحية سأله عن أحواله، سؤاله كالعادة أهل المدينة إذ يكثرون منه، كيف حالك؟... لا بأس ! الحمد لله.

و كان فخر الدين يجيب و يكرر السؤال لعله الشيء الوحيد الذي لم ينزعه الوالي أو لم يفلح في نزعه من طيبة أهل المدينة حتى الذين تملكهم الخوف يستحون أن يمر بهم الرجل فلا يبادلونه هذا الكرام و إن قللوا منه.

.طيبة تريح نفس فخر الدين قليلا و إن كان يرى أنها غير ذات جدوى ما دامت لم تجاوز إلى الفعل و ما جدوى طيبة تصدر من رجل يسأل عن أحوالك ثم ينقل أخبارك إلى الوالي أو رجل يسأل ولا يأبه للرد.

على كل، طيبة غير ذات جدوى من صمت يزيد المدينة خواء، هكذا يقول فخر الدين الذي لم ينفك عنه السؤال منذ أن استوى، يسأل وقد يجيب حينا و يهمل الجواب أحيانا وقد لا يجد جوابا، لم يكن يخشى السؤال يوما ولا أذهب السؤال توازنه ولا عبث به قط وما عبث هم بالسؤال لكن المدينة ما زال يحيط بها الخواء.

قال الشاب: أنا لا أعرفك....

لم يكن هذا ما ينتظره فخر الدين حين تبدد خوفه من الشاب ولا حين خرج يجوب المدينة. أفراغ آخر يعانيه و سقط فيه؟ أم أن إحساسه خانه وقد كان مرهف الحس و الشعور، بداية الكلام لا تطمئن و فخر الدين كأنما أسقط في يديه، هم أن يجذب يده و ينهي المقابلة مع الشاب يعكر صفوه ويستفزه حتى عن طوره، لولا أن الشاب واصل حديثه:

- ولكني أسمع عنك كثيرا.

لم يدر فخر الدين أيفرح أم ينزعج لهذا القول فلا يعلم ما سمع عنه الشاب و الوالي يعمد إلى نشر الأكاذيب يلوث بها سمعة الذين خالفوه الرأي. و الخبر يسري كالنار في الهشيم يتولى عيون الوالي كبره وفي المدينة سماعون لهم. هل كان مصيره كذلك؟ أسمع الشاب عنه ما كان يخشاه وماذا يخشى وهو لم يأت ما يعيبه، لا يهم أن يأتي أو لا يأتي ما يعيب فللوالي أسلوبه الخاص في خلق حقائق جديدة من وهم لا أساس له.

ولماذا لا يفرح،لعل الشاب سمع عنه خبرا، سمع عن صبره إذ عذب أو عن ثباته إذ لم يسقط فمثل هذا لا يخفى و إن جاهد الوالي أن يخفيه و ماذا لو أن الشاب سمع المرين، هل يميز الخبيث من الطيب؟ هل ينصف فخر الدين أم يغلب خوفه رجولته فتصدق عنده الأراجيف.

وماذا يهم فخر الدين من كل هذا، يسمع خيرا أو يسمع عنه شرا و يغلب عنده الشر، هل فعلت ما فعلت، لتنتظر أن يسمع بك و تمدح؟

أهذا غايتك قد قصرت أمانيك إذن أين المدينة من كل هذا، مثلك لا يفلح ولا يدرك هدفه.

هكذا رجع فخر الدين إلى نفسه يحدثها حتى سمع الشاب يكمل حديثه: و إني و الله احبك في الله.

عندها كانت الشمس على جبين فخر الدين تزينه، تنشر أشعتها عليه و سمع ناظر الغرفة يصيح: استيقظوا حان وقت الحساب !