من خلال ثلاثة مسلسلات يقيم الناقد التونسي مقاربته، مبيناً تحولات العمل التلفزيوني التونسي وتخطيه لبعض التابوهات، ويركز على تقاطعات هذا التجربة الفنية مع التنظيرات الجمالية والتجارب التاريخية للدراما الإغريقية وكيفية الاستفادة منها نحو مشهدية تلفزيونية تبنى من قبل الفنان والمتلقي على حدٍ سواء.

المسلسلات التونسية

منذر بشير الشفرة


 

إن العمل الإبداعي لا يقف على تجربة واحدة فريدة ولا مسار تلقائي مرتهن بمناسبة بعينها أي الاحتفاء بشهر رمضان في بلد شهد نهضة مسرحية وسينمائية غير مسبوقة.ونحن ارتأينا التعرض لثلاثة أعمال تونسية قد بثت في الشهر الأول من رمضان على القنوات الرسمية والخاصة. لقد كان وقع المسلسلات الدرامية بتونس متبايناً من عمل لآخر ومختلفاً أيما اختلاف، حيث كانت التيمات المطروحة هي ذاتها في كل مرة، ولكن الأمر اختلف هذه المرة بمعالجة ظواهر اجتماعية بكل الجرأة الجمالية المطلوبة من دمج للفني والسياسي والنفساني والفكري:

-          "عاشق السراب" للمخرج الحبيب المسلماني والكاتب علي اللواتي.

-          "نجوم الليل" للمخرج مديح بلعيد.

-          "مكتوب" للمخرج سامي الفهري.

ما هي العلاقة العضوية التي تربط هذه المسلسلات، وما هي اللغة الدرامية المشتركة التي تسم هذه الأعمال؟ وهل ضاهت الإبداعات التونسية شيئاً من الذي يقدمه الأخوة في مصر "الرحايا" لنور الشريف و"ابن الأرندلي" ليحيى الفخراني و"حدف البحر" لسمية الخشاب، وثنايا الدراما السورية بوجهها التاريخي الاجتماعي "باب الحارة" وغيرها من الدراما النفسية الملحمية.

ما هو النهج العام للدراما التونسية؟ وما هي الجماليّة التي يمكن استنباطها من خلال الأعمال الثلاث المعروضة وهي تعتبر تحولاً في الرؤية الإخراجية والجرأة الفنية والمساس بالطابوهات الثلاث؟

في الحقيقة نحن لا نود أي وجه للتعميم مقتنعين بفرادة كل لغة في كل مسلسل، ولكن في مستوى التيمات نجد ولوجاً للمتاهة التونسية بطرق جانب المحرم وتجاوز قدسية الأنا الجمعي وهو ثمرة سنوات من الكفاح لتكريس روح حرة من التعبير وآفاق تمتد إلى أيديولوجيات اليومي والفكر المستنير. لعلنا في هذا النطاق نستنير بالقراءة المشهدية للعمل التلفزيوني حتى نصل إلى فهم كنهه ومدى نجاحه لإيصال الرسالة التي هي كلها رموز للقدسية:

- مشهدا الاغتصاب في مسلسل "نجوم الليل" و"مكتوب".

- الغوص في تجارة الممنوع في "عاشق السراب" والمخدرات في "نجوم الليل" و"مكتوب".

- التعريف بشباب منعدم الأفق بالمسلسلات الثلاث.

- تقديم صورة للمرأة المتحدية والتائهة في مثال فاطمة بمسلسل "عاشق السراب".

- الأصالة والمعاصرة مع إدراج سمات الفنطازيا الرمزية في عمل علي اللواتي.

وهذه الأعمال تبين أن منتج العمل الدرامي ليس باستطاعته تأسيس إبداع درامي بلغة مغايرة ويخلق أفقاً مسرحياً جديداً، إنما أيضاً جمهوراً متقبلاً للرسالة المشفرة التي يلقي بها الفنان المؤلف والممثل من خلال توحيده بين القراءة المتنأنية للماضي وربطها مع الوعي المتنامي للشريحة المثقفة من الشعب.

يمكننا ههنا إدراج تصور مايرهولد بنبذه نوعاً من الجهل الفني وعمله على شحن همة الممثل حتى يتسنى له بعث روح من التقبل السليم لدى جمالية التلقي الممكن لعناية المتفرج، ويمكن تحقق ذلك باتباع أسلوب الحقيقة في التسليم بالواقع وفي هذا النطاق نرى لزاماً علينا بطرح بعض الملاحظات المتعلقة بالعمل الدرامي الذي تفضل بتأليفة المبدع الفنان علي اللواتي وأخرجه الحبيب المسلماني راجين أن يأخذ المبدعون بمسار النقد البناء القادر على الإفادة:

- لم تكن الكتابة الدرامية للمسلسل "عاشق السراب" في المستوى المأمول من مؤلف مميز بتونس كان قد أتحفنا برائعة الخطاب على الباب ومنامة عروسية بالخلط في المراجع الجمالية فقدان ذالك الخيط السحري القادر على ضمان شيء من التناسق فالتفكك بيّن على مستوى الزمان والمكان: الشمال والوسط والجنوب وليس من الشرعي أن يرد المؤلف بأنه عمل قصدي لأن الأداء التمثيلي الهش قد زاد المتفرج وعياً بالتذبذب الصادر عن سرعة في الكتابة.

- إن العمل الجدي يتطلب من المؤلف تدقيقاً أكثر للهجة المحلية بمدينة الأغالبة القيروان حيث كان الممثلون قد عجزوا عن ولوج خصوصيات اللهجة المحلية باستثناء الفنانة القيروانية فاتحة المهدوي بسؤالها الضامر"بيكش" أي كيف حالك؟

للهجة أهمية قصوى في إبداع عمل من صنف الواقعية الجديدة وهو الضامن للمصداقية التي يأتمن عليها المتفرج ممثله ومخرجه وقد كان المسلسل خليطاً غير بناء للغة مهترأة فقدت شاعرة الخطاب على الباب وحميمية منامة عروسية، وكأننا أمام فتور دور البطل مالك وعدم توصله الى تبليغ آفاق تلك الكاريزما المتألقة بالرغم من مراهنة المخرج الحبيب المسلماني على الشاب المتألق خالد حمام.

- يمكن العودة الى نقطة الضوء المبهرة في شخصية فاطمة وهي المخرجة والكاتبة الشابة سهير بن عمارة. يحق لنا أن نشبهها بسندريلا الشاشة التونسية وأنها تسير بخطى ثابتة لتتبع مسارات النجاح لمن سبقنها من هند صبري المؤثرة ودرة زروق الحالمة وعفاف بن محمود. إن عمل سهير بن عمارة لم يكن مجرد أداء رومنسي بريء بل هو عمق للدور المركب حيث التحولات السريعة الباطنة والنظرة الثاقبة لعمق الأشياء والشخوص. وعيها بالفضاء والزمن اختزلته بالبسمة الهادءة والدمعة الوهاجة ولها قادم درامي رهيب ورومنسي في آن.

- إن للعمل التلفزيوني خصوصية وهي لغة في التمثيل ليس باستطاعة المسرحي الغاؤها وتعويضها بفرادة مشهدية توليفية وهذا هو الخطأ الجمالي الذي وقع فيه كل من شخصية "عريق" لصاحبها حمادي الوهائبي وبعض الذين انتهجوا أدوار الشر. فيجب التعلم من مبدعين راسخي القدم في الميدان الشيطاني كالعبقري عادل أدهم حيث الشخصية مجبولة أصلاً من جوانب الشر وتبلغ ذلك للمتفرج بكل الإبداع الجمالي الممكن حيث لا تهريج مع التأثير ولا مبالغة في تبان السكر ولا ترميش للعين للتأكيد على الغضب.catharsis.

ذلك هو أس العمل التلفزي وهو قد يجد له طريقاً إلى المسرح، فإننا نجد أن الجمهور منذ البدايات الأولى قد كان العامل الرئيس في العمل المسرحي، إذ عليه يتوقف نجاح أو فشل العروض التي كانت تقام آنذاك، فتكون بذلك له كلمة الفصل وبالتالي يمكن أن نستشهد بعمل إبداعي إغريقي، ألا وهو الملك أوديب لصوفوكل العظيم، لم يتوصل الى المرتبة الأولى في الأعمال المقدمة بمناسبة الاحتفالات الباشية اليونانية وترك الصدارة لعمل ثان للشاب فيلوكي قريب الشاعر الكبير إيشيل.

إن لسلطة المتقبل الجمهور كبير التأثير في العملية النقدية وهو المقياس والمحرار إذ كان يمارس النقد المباشر وقد يؤدي ذالك الى زعزعة وثوقية الكاتب العظيم والمخرج المتفرد. إذ إن هذه المهمة ليست بالهين فقد يقع المتفرج في مطبات الخداع الآنية وما على الناقد الحر إلا تبيان مواضع الخلل في هذا المجال في سبيل أن يكون التقييم موضوعياً. إلا أن السياسة اليونانية أبت إلا أن يحكم الشعب نفسه بنفسه ويتم الإلتجاء إليه حينما تكون اللغة الفنية عند اليونان تعبيراً بالبشر يدخل في إطار الملهاة والتراجيديا على أساس أنها صنو الحياة وميلاد لثقافة التغيير.

- سقنا مثال الجمالية اليونانية لأنها دعتنا الى التأمل أكثر في عمل شد النقاد ودعاهم للتفكير في نقاط الضوء في العمل الجريء نجوم الليل وما يحمله من مغزى.

- أبدع المخرج مديح بلعيد في اتقان لعبة الضوء والظلمة حيث كانت شعرية اليومي متألقة.

- لم يشب تمثيل الجيل الجديد من الممثلين أي شائب وقد توصلوا الى الإقناع والتحدي.

- آثر المخرج مديح بلعيد العمل على استعمال زوايا السينما وخصوصياته في شحن اللغة التلفزية وهو ذات التمشي الذي ذهب اليه المبدع شوقي الماجري في مسلسله أسمهان.

- يمثل مسلسل نجوم الليل نقطة عبور للدراما التونسية الى آفاق أرحب مع تألق الفنان هشام رستم باقناعه المعهود وحرفيته الدقيقة وجمالية آداءه الحقيقية.

- ليس بالإمكان نسيان إبداع الممثل محمد كوكة في دوره المائل الى الشر مع عمق في الأداء وسخرية باطنة من القدر الظالم وهي إحالة فلسفية لا يمكن البعد عنها ولا التطرق إليها بسهولة محمد كوكة الذي أظهر قدراته على تقمص شخصية الفقير الشحيح في حكايات العروي أثبت قدرته على تجاوز ذاته وخلق مناخ رائع للتفرد والتميز.

- يمكن اعتبار دور علي الخميري في عاشق السراب "نور الدين" وفي نجوم الليل ميزة أخرى لممثل لم يعد يفاجيء بإداعه وقد توصل أكثر مع مديح بلعيد لان إدارة الممثلين كانت أكثر صرامة وتناغماً.

على المتفرج أن يتملك آليات التلقي ولا يسقط في الإضحاك الماقبلي البسيط المضمن في أعمال كالسردوك نريشو وغيرها من البدائل التهريجة التي تبدو هادفة في ظاهرها وهي تخرق مخيال التونسي وهذا يدعنا نقول مع آن أوبرسفيلد Anne Ubersfeld الناقدة الكبيرة أن "إعادة سميأة العرض تتطلب من المتفرج بناء معنى لكل علامة يتلقاها. كما أنه يعود إلى المعنى المتضمن داخل الفكرة بعد العمل التحليلي للفرجة... ما دام كل تحليل يتطلب إعادة تجميع العلامات وبناء المجموعات".

حين نود البحث في مجال الأعمال السمعية البصرية فعلينا العودة الى المنحى الأرسطي لأنه يبقى الأس الفكرى لكل نقد- الذي يشكل سلطة نقدية ومرجعية مركزية، فنحن بالتالي ننحت لدى المتفرج قدرة على النقد الضمني وفهم كنه الأشياء حتى الوصول الى مرحلة التطهير الذاتي عبر الشجن كالعمل التراجيدي: "محاكاة فعل نبيل تام لها طول معلوم، بلغة مزدوجة بألوان من التزيين، تختلف وفقاً لاختلاف الأجزاء (...) وتثير الرحمة والخوف، وتؤدي إلى التطهير من هذه الإنفعالات".

ومن المؤكد أن إعداد النفوس هو الهدف والغاية التي كان يسعى إليها المسرح اليوناني من خلال تبيان كل الأعمال المتنوعة والأعمال المأساوية وهي تتضمن العنف والضحك والساعات الرهيبة التي يعانيها الأبطال، وهي ذاتها التي تبعث لدى المتقبل الممكن شعوراً من التعاطف معهم ومقاسمتهم لآلامهم وأحزانهم، وهكذا فالأساس هو الجمهور المتقبل وعلى الناقد أن يضع الحجر في مكانه ويهدي الى سبيل المراجعة والتقييم.

كان المسلسل الجريء في عقده الثاني مكتوب على موعد مع مشاركات مميزة وكان الضامن في كل ذلك نص الفنان الطاهر الفازع الذي يلج أبواب القدسي بكل الأريحية الممكنة ويفهم توجهات المجتمع التونسي بكل تلويناته ويمكننا الإشارة الى بعض نقاط القوة:

- الاعتماد على تسيير دقيق وإدارة رائعة لعاطف بن حسين حيث توصل في وقت قياسي لضمان تناغم ممثلات تقف أول مرة أمام الكاميرا كمرام والأندلسي وغيرهم مع إدراج مساهمات ذات بال للفنانة الغنية بالإحساس مع النظرة العميقة هند صبري والمايسترو الأنيق محمد إدريس، الرجل الشاب الشيخ الذي يتشبث بفريسته الأنثى تشبثه بالحياة وتمثيله البسيط والقوي في آن. لعل الأخوة في المشرق يتحسسون نقاط الدفء في عمل يعبر عن مجتمع في كامل فورانه. تونس الامتياز والانطلاق إلى آفاق أرحب مع النظر الى عمق الأشياء وقدسيتها الجارحة.

- لا يمكن اعتبار إخراج عمل المخرج الشاب سامي الفهري مراهنة على الشهرة والجمال النسوي والوسامة الذكورية ولكنه يبحث عن جالية جديدة للدراما التونسية التي بقيت حبيسة الكليشيات زمن العولمة.

- يحاور المخرج سامي الفهري المتفرج ضمنياً ويتلذذ باهداءه علقة المعتدي على شرف زوجته. إنها تفاصيل ولكن ذات بال وتنبيء بوعي إخراجي تشكيلي مميز.

مع آن أوبرسفالد Anne Ubersfeld يتضح المشهد بقولها: "يجب أن نعلم أن المتفرج هو الذي يخلق الفرجة مثله في ذلك مثل المخرج المسرحي. فهو يعيد تركيب العرض كله على المحورين العمودي والأفقي. فالمتفرج مضطر ليس فقط لتتبع حكاية معينة، ولكن لإعادة تركيب الوجه العام لكل العلاقات المتصلة بالعرض في كل لحظة".

إن اختلاف الأعمال الدرامية التونسية في مستوى التمثيل والإخراج مع تبيان أجيال من المبدعين يرسخون أقدامهم في تراب الإبداع والفرادة لا يعني بالضرورة عدم التقاءهم حول مائدة القدسية والفرادة فالحداثة الدرامية التونسية ليست مسرحية فحسب بل دراما تلفزيونية ولكن يجب التأكيد أن الأعمال الثلاثة المقدمة ليست سوى البداية الموسومة بالتعثر والتردد والتذبذب أحياناً. إن الراهن صعب وإنما المستقبل هو أجنحة التحليق بالنسبة للقراءة الإخراجية والنفس التمثيلي.

من واجب المتفرج في هذا النطاق أن ينخرط في الدراما التلفزية وألا يبقى كشاهد يتبسم ساخراً انطلاقاً من برج عاجي على مسارات الأحداث دون أن تكون له القدرة على المشاركة في إثراء المشهدية الفرجوية من زوايا مختلفة، ذلك أن الفضاء الرمزي المتاح الذي ينبني عليه العمل الدرامي يسائل الوجدان ويجعل الممثلين يحيطون بالمخيال الجمعي ويطرقون أبواب تصنته. وهذا ما سيسهل عملية الحوار والتخاطب الضمني والاندماج بين الحالة الرمزية ومتلقيها "ويصبح المسرح أو الدراما إذن احتفالاً جماعياً يشترك فيه الممثل والمتفرج بالتساوي".

لقد كانت المقاربة التي ارتأينا القيام بها ما بين المسرح والدراما التونسية محاولة لفهم كنه توقعات المتفرج التونسي ورؤاه وتبين لنا أن هذه الأعمال المنشورة على واجهة الشاشة الصغيرة لا تتماشى مع تنامي الذوق التونسي إلا في بعض الإبداعات فهلا تحركت آلة النقد لتشذب وتصلح ما ترهل من عمل تلفزي؟