تقرير من فلسطين

صرخة عن المصير التراجيدي لجريدة «الاتحاد»!

ميرا جميل

عندما كنت طالبة ابتدائية تعرفت على صحيفة (الاتحاد) ـ التي تصدر في حيفا ـ عبر معلمي للغة العربية، الذي نصحني أن أقرأ الإتحاد والجديد ومجلة الغد لأني أملك موهبة أدبية كما قال وعقلا منفتحا. ولكنه همس لي أن يبقى الأمر سرا بيننا لأن كشفه قد يقود لفصله من التعليم. لم أفهم وقتها العلاقة بين (الاتحاد) والفصل من التعليم.

والدي مزارع يفك الحرف بصعوبة.. ولكنه صاحب حس وطني وفهم سياسي. صارحته. استمع لي ثم قال: "معلمك صادق ومخلص. ولكن اياك ان تنبسي ببنت شفة عن هذا الموضوع لأي أنسان حتى لإخوتك". وكان يعرج كل اسبوع على قرية الرامة القريبة من قريتنا، ليحضر لي جريدة (الاتحاد) ثم فاجأني بعدد ليس قليلا من أعداد مجلة "الجديد" المستعملة والتي يعود تاريخها الى بداية 1958 وحتى العام 1967.. وعدد جديد ابن شهره آذار 1967، مما جعلني أشعر اني أملك كنزا عظيما.. مع ذلك لم أفهم تماما هذا الخوف من جريدة لا تشتم ولا تتملق، وتكتب عن واقع العرب وحقوقهم وترفض الظلم، وتؤيد نضال العمال العرب واليهود من أجل حقوقهم ورفع مستوى حياتهم وضد استفحال البطالة. كان ذلك عشية حرب حزيران 1967.

وكانت مجلة "الجديد" نافذه على الثقافة العربية وعلى الفكر العالمي.. والحقيقة لم أفهم كل ما قرأته، ولكن شدني الشعر العربي عامة والفلسطيني خاصة، وتعرفت على الشعراء أبو سلمى ومحمد مهدي الجواهري وبدر شاكر السياب ونجيب سرور واحمد عبد المعطي حجازي وحنا ابو حنا وعصام العباسي وآخرين لا أتذكر اسمائهم. وكثيرا ما طلب مني والدي أن أقرأ مقالات جهينة، وفيما بعد عرفت انه الكاتب اميل حبيبي. وان القي على مسامعه القصائد التي تنشر في الاتحاد والجديد، وكان ينفعل مع قصائد أبو سلمى ويمسح دموعه سرا ومع الجواهري.. رغم انه لم يفهم الكثير من الكلمات.. وكان يطلب مني تفسيرها وعندما أعجز الجأ لأستاذي الذي يشرحها لي وأرى الابتسامة على شفتيه.. وفيما بعد عرفت اني لم أكن الوحيدة من طلابه وطالباته الذين وجههم لقراءة الاتحاد والجديد.. المهم ان والدي بعد شرح المعاني المخفية لقصائد الجواهري كان يصر على سماعها مرة بعد أخرى. وكل مرة ينفعل من جديد وكأنه يستمع لها لأول مرة. اما أبو سلمى فكان سهلا ساحرا ومؤثرا يفرض الصمت والدموع. وهناك قصيدة لن انساها واتمنى لو أجد نسخة منها كتبها شاعر مصري كرسالة الى الرئيس الأمريكي ترومان... احتجاجا عل القاء القنبلة الذرية على هيروشيما وهو الشاعر والكاتب الكبير عبدالرحمن الشرقاوي، قرأتها ربما مائة مرة لوالدي.. وما زلت أحفظ منها مقاطع حتى اليوم.

طالت مقدمتي ولكن الذكريات تتجسد في ذهني كلما قرأت شيئا عن (الاتحاد) التي لم افارقها حتى غادرت حيفا الى قبرص في اواسط التسعينات من القرن الماضي. الكاتب نبيل عودة يذكر في الكثير من كتاباته انه تعلم اللغة العربية على صفحات (الاتحاد)، وانها صانت لغته... اذن (الاتحاد) كانت مدرسة للغة والكرامة والفكر والنضال.. وانا ابنة لهذه المدرسة، التي واجهت السياسة العنصرية التي ارادتنا جهلة، ومهزوزين، ومهزومين، وسقاة ماء، وحطابين كما قال لوبراني المستشار سيء الصيت لرئيس الحكومة الأول للدولة العبرية دافيد بن غوريون.

اليوم انا خارج البلاد.لا أتصفح الاتحاد الا اثناء زياراتي الخاطفة. واتابع موقع الجبهة لأرى مصير هذه الصحيفة التي يبكيني ما آلت اليه. أقول لكم وانا أكاد أبكي، ان الاتحاد اليوم هي التجسيد الحقيقي للكارثة الانسانية التي حلت بالحزب الشيوعي. جيل القادة المناضلين والمثقفين قد مات.. أو أجبر على ترك الحزب. القيادة الآن هي مزيج محزن من الناس الذين بدون عمود فقري سياسي وفكري. الحزب لم يعد المعبر عن المجتمع المدني. ولا عن مجتمعة المتشقق طائفيا وعائليا. اجتماعيا الحزب بلا رؤية وبلا تأثير على الظواهر السلبية. ما هي قيمة الأحزاب اذا لم تدر مجتمعاتها أو تؤثر على تطورها؟.. ولا أعني ادارة السياسة العامة للدولة. أين تأثير الحزب الشيوعي الثقافي والأخلاقي والتربوي والاعلامي على المجتمع العربي للأقلية الفلسطينية الباقية في وطنها؟ لماذا هذا الافلاس الكامل حتى في السياسة؟ كيف يمكن الثقة بقادة يتأرجحون بين التدين والقومية؟ ينافسون بالزعيق القومي والشعارات القومجية الحركة الاسلامية وبقية الحركات. والحقيقة ان الحركة الاسلامية تقود وتحسم المزاج العام عند عرب الـ 48. أقول هذا بكل أسف وقلق على المستقبل.. لأن رؤيتي تتمحور في فهم يتعارض مع الطائفية السياسية، واراها خطرا على مجتمعنا وهذا ليس توقعا بل حقيقة قائمة لا يراها الا العميان.

الماركسية دفنوها. العدل الاجتماعي شعار ضبابي، مساواة المرأة كذبة كبيرة. الأممية صاروا يخافون ان يلفظوها. كل التقاليد الاجتماعية الثقافية التقدمية ليس هناك الآن من ينشرها ويغذي بها الأجيال الصاعدة. مقاهي الأرجيلة هي غذائهم الروحي الوحيد.. وشطف الدماغ الأصولي يتصاعد، وقد حدثوني عن "اختفاء" شباب من الناصرة بعد أن تعرضوا لغسيل مخ أصولي.. وأن أهالي الشباب أصدروا منشورا يطالبون شيخ ما يسمى شهاب الدين بتوضيح ما آل اليه مصير ابنائهم. مثل هذه القضية يُفرض الصمت حولها من الجميع..

مثل هذا المجتمع لا أتحمس لأعود اليه!!

صار الحزب الشيوعي حزبا موسميا في الانتخابات، لا يختلف عن بقية القوائم الانتخابية او المسماة حزبية، وكلها أحزاب وجهاء بلا مؤسسات. بماذا يختلف الحزب الشيوعي عن بقية أحزاب الوجهاء؟ مجلة "الغد" الشبابية المميزة اختفت. مجلة "الجديد" التي تعتبر أفضل مجلة ثقافية فكرية صدرت في اللغة العربية اختفت، بعد ان تدهور وضعها الثقافي والفكري، وغاب عنها المحررين ذوي الرؤية والقدرات الفكرية. الندوات الشعرية التي كانت تتحول الى مهرجانات ثقافية نضالية اختفت. المحاضرات الثقافية والفكرية والسياسية في نوادي الحزب لم يعد لها ضرورة. ان شجرة الحزب الشيوعي الآن أصبحت جافة.. ضحلة.

يقال الناس على دين ملوكهم، وأنا أقول الأزمة الخانقة أفرزت قيادة فارغة، مهزوزة، عاجزة عن طرح برنامج، عاجزة عن تقديم نهج فكري حقيقي للناس. المصوتون للحزب بأكثريتهم الساحقة مصوتون بقوة الاستمرار، وأحيانا وفاء لتقاليد العائلة التي كانت قبل خمسين سنة أيضا "مع الحزب". وأعترف بأني في انتخابات الكنيست الأخيرة، كنت بالصدفة في حيفا وصوت مرغمة وبدون قناعة لجبهة الحزب الشيوعي، لأني هكذا تعودت، وضحكت على نفسي.. حتى زوجي الشيوعي القبرصي اعتبر تصويتي غير عقلاني وقال لي: "لا صوت حتى لحزب شيوعي بدون ثقة بالمرشحين"!!

إن الحزب الشيوعي الأن لا هو اممي ولا هو قومي، ولا هو عمالي، وبالكاد نقول انه حزب يساري... ومؤخرا صار حزبا يمجد حسن نصرالله وحزب الله وحماس وأحمد نجاد وملالي ايران. وهو متواطئ مع المد الأصولي الظلامي في الشارع تحت صيغة مضحكة، عبر عنها سكرتيره العام محمد نفاع بمقال قال فيه: "نحن مع المقاومة في كل مكان" أي مع طالبان والقاعدة أيضا ومع الجهاديين في الجزائر قتلة الشعب الجزائري.. وقس على هذا المنوال الفكري الشيوعي الهجين!! ولكن أكثر مظاهر الأزمة المأساوية للحزب الشيوعي الاسرائيلي (راكاح) هي حالة جريدة "الاتحاد". لو ماتت لدفنوها وبكوا على تاريخها. ولكنها لا حية ولا ميتة.. أو لنقل مومياء تتحرك. أقول هذا وقلبي ينزف دما. لو قلنا انها مثل أوراق الخريف لظلمت أوراق الخريف، فهي تفتقر الى الفكر والى الثقافة، والى النقاش مع الآخرين، والى مقارعة الخصوم.

ان المثقفين من أعوان "المفدال" وأعوان "مباي" الذين تقاعدوا من سلك التعليم، صاروا يسرحون ويمرحون على صفحات "الاتحاد". وكل كذاب يتوهم ان ابناء جيله ماتوا لذلك يسرح ويشطح في الأكاذيب تبييضا لسمعته. واذا كان هذا لا يكفي فانه يحج الى بيت الله الحرام ويصير مؤمنا ورعا، بل ويصير عضوا في لجان الصلح ولجان الدعوة للمعروف والنهي عن المنكر (ليس عن منكراته)!

عجائز فلسطين يقولون عندما يرون انسانا عجوزا مريضا لا أمل فيه وموته هو نهاية عذابه: "الله يفرِّج عنه". وأنا أقول: الله يفرِّج عن الحزب الشيوعي، الله يفرِّج عن جريدة "الاتحاد"، فكلاهما لا يستحقان هذا المصير المبهدل، هذا المصير التراجيدي. 

الدكتورة ميرا جميل ـ كاتبة وباحثة اجتماعية فلسطينية ـ نيقوسيا
meara.jameal@gmail.com