في الذكرى الأولى لرحيله، يستعيد الشاعر السوري هنا حضور الشاعر العربي الراحل، ويتناص مع مديحه للظل العالي، متسعيدا أفق النشيد العربي الدائم .. ويرثيه شعريا من خلال سيرة الفقدان التي تركها غيابه.

في رثاء مديح ظلّك العالي

مروان خورشيد عبد القادر

ـ 1 ـ
خلف النجوم
فوق الغيوم
طائر الفينيق
يضرب أخماس الأرض بأسداس السماء
يعلن للأبدية
أن جلالة الشاعر على أعتاب القدوم
يومئ لأمير الشعراء..
عن فخامة كرسيه يقوم
كي يفتح الأبواب جميعها
ليحط محمود بيضَ الكلمات في أقفاص الخلود!!.

ـ 2 ـ
على بعد بحر ومضيق ومحيط
من أرض كنعان القديمة
يرفع الجسد الطازج أعضاءه
عضواً..
عضواً.. لبارئها
ربما حدث خطأ طبي محتمل
أو ربما سكاكين الشاعر الكثيرة
مزقت شرياناً في قلب الحياة
كي تمرّ عبره كائنات الدنيا نحو برزخها الأخير..
وعلى أعلى بقليل من قامة التراب
فوق أرض كنعان الجديدة
تظلّ أزهار الروح طازجة
تعيد انبثاق الولادات
من بطن السنديان
فيولد الزنبق على نافذة "تطلّ من بعيد"
يولد النرجس عصياً على الهواء
كلما أراد ترتيب رئات الشاعر لتنفسه الجريء..
يولد البنفسج من زواج شرعي بين الماء والتراب
سخياً يوزع أرجوانه اللاحزين
على مدمني الطبيعة
وأخيراً ـ يولد الياسمين في الشرفات
بهياً يتلقف سقوطه الهادئ
على جنازات الشاعر الكثيرة..

ـ 3 ـ
في أحياء رام الله
والقدس وبيروت وعمان ودبي وبغداد والقاهرة وحلب والشام
في شوارع كل مدن الأرض المنفية في الرخام
كان درويش يوزع على "العاطلين عن العمل"
فرصة أخيرة في الأمل
ويوزع على العابرين في "كلام عابر"
وصاياه عن حب الحياة
إن استطاعوا إليها سبيلا..
كان يرش أحاجيه "بالبسيط من الكلام"
فتعصرنا ألغازه
وتشعلنا بالحياة
كأنها أسرار القيامة
وهي مرتبة بين يديه بأناقة الأنبياء..
وكان هنا.. فوق "سيدة الأرض"
تحت مدن الريح
المشلوحة في كل مكان
يجيد دروس الطبيعة وحفظها
زهرة..
زهرة..
وعاصفة..عاصفة..

ـ 4 ـ
أخيراً
بين رام الله والسماء القريبة
فوق تلة
أسفل الطبيعة بمترين أو أقل بقليل
يحط الهدهد الكنعاني
أشعاره
فوق أمطاره، فوق أنهاره، فوق بحاره، فوق أشجاره، فوق أزهاره، فوق أسفاره، فوق أقماره، فوق أحجاره..
بعد قليل ستمر من هنا قافلة الشعراء
ليكتبوا مراثيهم من حجر على حجر
فيسيل من رملها
ضوء أزرق منسوج من ذهب الكلمات
فتضيء النهارات عصية على الغروب
تسيل منها الأرض طازجة
وقد تلقفت عذريتها من جديد
فتجيء بالشمس من خلف المحيط
وتجيء بالساعة
هذه الخرافة الدائرة
وقد رتبت عقارب بداياتها
عكس دورانها القديم..

ـ 5 ـ
مَنْ سيعتذر لنا
عمّا فعلته بنا هذا المساء؟
عمّا فعلته أصابعك في الوداع الثقيل؟
هل حقاً كنت "بقوة ألف حصان"
حتى استطعت في لحظة خاطفة
جرّ كل شعوب الأرض
ولغاتها إلى جنازة واحدة
هل حقاً كنتَ أنت مساء هذا السبت
تضع على سرير نومك الأخير
نظارتك المشبعة بماء الحكمة
وبأنخاب الرؤى بين فلسفة الموت والحياة
هل كنت أنت توزع ياسمينك الأبيض
وزيتونك الأخضر
وقلقك الأسود الطويل
على الحداثة في نص الغيبوبة
وعلى اللغة في نحو مفرداتها
وهي تجرّ فخاخها
عصية على الرحيل
هل مرّ الطوفان على الأرض ثانية؟
لنصدق أن نبياً يشبهنا ـ
يسكن أرض القصيدة
قد أنقذ فينا بذور الرغبة
كي نظلّ في قصة البقاء..

ـ 6 ـ
اليوم ومن هنا..
على تلة.. فوق أرض كنعان
لا تبعد مسافة مترين أو أقل بقليل من أبدية مطلقة..
ريتا تدرب عصافيرها في حصة عسكرية
على فك وتركيب البندقية
لتطلق يوم الجنازة إحدى وعشرين طلقة
احتفاء بعرس شاعرها
وهو يزف أسماءه الكثيرة إلى الخلد..
اليوم.. على مسافة مترين أو أقل بقليل من أبدية مطلقة..
يدير محمود مهرجان الجنازة
فتشيع التلال خرائطها.. لفوهة البركان
تشيع السهول زهر نرجسها.. لحرارة الصيف في آب
تشيع حضارات الأرض كتاب دليلها السياحي
لجمرة الضياع بعد غياب البوصلة..
وعلى مقربة أكثر من الأبدية
الورد بكل أسمائه..
يشيع رحيقه للهواء الثقيل
الصحوة تشيع أحلام نومها..
لسطح دالية عنب بعيدة
شمال القلب ينقض هدنة الحياة مع الطبيعة
هنا..
لا خارج التاريخ والأمكنة
كل أشباه الحياة وأضدادها
حاضرة في جنازة محمود إلى الأبدية
حاضرة
لتندحر أمام عصف سكونه الهادئ
ثقل الهواء الفاسد في الأرض..

ـ 7 ـ
هل نصدّق إذاً وكالات الأنباء
وهي تسكب على العقول حليب الذهول

لا.. لن نصدّق ما حدث
ربما أخطاء تقنية في الصوت والصورة
حدثت هذه الليلة على سطح أقمارهم الصناعية
وهل نصدّق غير أن طائر الأبدية هدأت جراحه
فأنزل عن جناحيه قوة الطيران
ليمشي على قدمين من عاج وتراب إلى ماء الخلد يطلب
هواء.. هواء.. هواء..
كيف نصدّق أن كمّه وكيفه الهائلين بالحياة
مرّا عبر شريان ضيق في القلب
لا بد من أطنان حزن غريب
باتت تسكن الطريق من غزة إلى رام الله
ضغطت بموت شديد على زناد المسدس
فغابت عن ضحاياه
سمت الطريق إلى الطريق..
لذلك أراهن يا محمود
إننا لن نحزن
بقدر حزنك على قتلاك من الطرفين
ولن نجاريك بضحكة الرثاء
بعدما رثيت فينا الحضارة
وهي تنحر على أعتاب الفراغ في بعض الرؤوس المائلة
ونراهن إنك الآن في قصيدة الموت الطازجة
تكتب عن خيباتنا
وتذكرنا
إننا الموتى
وإننا الخاسرون..

ـ 8 ـ
فماذا نفعل
إن لم تكن يا محمود
وإيانا من شعراء الأرض نكون
إن لم نعلم قصائدنا
أبجديات الشعر في كلامك الجميل
مَنْ نكون يا محمود
إن لم تكن
ونعلم إننا الآن وبعد مئات السنين
سنتهم بك كلما أيقظنا الوحي على صباح جديد
كيف لا..
وأنت مَنْ جعل ثمار الشعر الناضجة
عالية جداً عن مواسم قطاف الشعراء
وأنت مَنْ علق على بوابة الأرض
"جدارية لأحد عشر كوكباً"
وأزهرت مع اللوز في المطارح البعيدة
وأنت مَنْ سكن مديحه العالي
وسكن لغات الأرض جميعاً..
بينما نسكن اليوم ظلال الفجيعة
نسكن الارتباك
كيف نرتبه لهذا الغياب الثقيل
ونسكن الذهول
كيف سنقود الطبيعة إلى الطبيعة
اليوم.. مساء السبت الأخير
قبل القيامة بقليل
نربي فراشات خوفنا بين أزهار الكلام
ماذا لو جرحتنا برحيق ثقيل
فتسقط في ذبول المعاني
وترتد أقمارنا
عن الدوران في فلك النشيد الجميل..

شاعر من سوريا