من خلال مشاهد مكثفة وإن امتد زمنها السردي يكشف لنا القاص المصري طقوس معايشة راويه للموت منذ أن كان طفلا وكيف انتقلت تلك الطقوس إلى جيل لاحق، وكيف يمثل الحلم مكانا للقاء الموتى واستمرارا للعلاقة معهم

موت البرتقال

أشرف الصبّاغ

قلب صغير
أدركتُ من صراخ أمي وعويلها أن حدثاً جللاً قد وقع، لكن قلبي الصغير لايتسع له. بكيتُ لبكائها، وعندما احتضنتني قريبة لي زاد بكائي فأخرجونى من "المندرة".

رحتُ ألعب مع العيال في الشارع. ولما اكتمل السرادق ووضعوا الكرسي المذهب الكبير في موضعه، تسللتُ من بين أقراني تجاهه، اختفيتُ تحته ورحتُ أقشر الطلاء الذهبي ووجه الشيخ محمود الشحات يكتمل رويداً رويداً.

حممتني أمي بعد انفضاض العزاء، وعند النوم ضمتني إلى صدرها وراحت تغني أغنية لا أذكرها، لكنها كانت تبكي، فبكيتُ لبكائها. وفي الحلم رأيتُ جدي للمرة الأخيرة.  

نسمة
لم تحضر أمي بسبب زعلها مع جدي. ولم يحضر أبي لأن جدي كان قد طرده من الدار. لكنني كنتُ الوحيد القريب من قلبها. ابتسمتْ لي فأجهشتُ بالبكاء، والقلب الصغير يكبر. فرتْ دمعة من عينيها، أشارتْ لي فاقتربت. ولما هبت نسمة انطفأت لمبة الجاز وانقبض قلبي. وعندما صرختْ عمتي انفلتتْ يدي من يد جدتي.

عبر أسلاك الهاتف

أجهشتْ أمي بالبكاء:

ـ البقية في حياتك يا بني..

كان قلبي الصغير قد كبر وصار في حجم البرتقالة. نمتُ بجوار زوجتي وكان بطنها المنتفخ بيني وبينها، ولما لمحتْ دمعة في زاوية العين اعتدلتْ على ظهرها وأراحتْ ذراعها إلى رقبتي وراحت تدندن بأغنية لا أذكرها، لكنها كانت تبكي، فاستحضرتُ وجه جدتي في الحلم وكان مختلطا بصوت الشيخ محمد الشحات ابن المرحوم الشيخ محمود الشحات.  

النسر
هبت نسمة محملة برائحة عرقه وشعرتُ بملمس ذقنه الخشنة. كنتُ دائما شديد النقمة عليه، لكنني كنتُ أحبه بيني وبين نفسي. وعندما كان يضرب جدتي كنتُ أكرهه من أعماق روحي. وفي الأيام الخوالي كان يشتمني بأبي ثم يهجم علىَّ ويختطفني ثم يرفعني إلى أعلى في الهواء ويتلقاني، وكلما شتمته كانت ضحكاته تزداد علوا وصفاء. ولما اتهمه أولاده بالجنون، وأولهم أبي، لأنه تزوج بعد موت جدتي، وكان السب هو الميراث، أبى في قلبه أن يخضع، فطار بعيدا بعيدا وارتفع عاليا عاليا ثم هوى. وفي عتمة الليل كنتُ أسمع نهنهات ابنتي الصغيرة على ترانيم أغنية الأم.

أغنية مألوفة

شعرتْ زوجتي برفسات قوية في بطنها. في هذه الليلة طارت قشة من فوق سطح الدار القديمة وحامت طويلا طويلا، ورسمتْ دوائر كثيرة في الفضاء ثم ابتعدت. في الليلة التالية تكورت على نفسها وراحت تغني أغنية مألوفة للقادم الجديد. وفي الغرفة المجاورة رحتُ أحكي لابنتي حكاية طويلة عن أمي.  

اللمسات الأخيرة
عندما انتهوا من وضع اللمسات الأخيرة على السرادق، تسلل ابني خلسة وجلس تحت الكرسي المذهب الكبير وراح يقشر الطلاء الذهبي. أما الابنة فكانت تجلس إلى جوار أمها لتحفظ أغنية مألوفة تمزق حنايا القلب. وفي الصباح أخبرني الولد أنه رأى أبي في الحلم.  

موت البرتقال
تصاعد السائل اللزج إلى الحلق، كان مرا وحارقا، وأمام العين تكون غشاء شفاف أحمر له طعم حامض، فنزت البرتقالة آخر قطرة وانفجرت.