الأشياء هنا في قصة القاص الجزائري تتخذ مسار وانفعالات الكائنات الحية، ويصير المشهد المعتاد لتزويد السيارة بالوقود أشبه بلقاء تحتشد فيه المشاعر والأحاسيس والرغبات التي لا يتفهمها إلا السائق المأخوذ باللقاء والمستغرق في تفاصيله.

القَطّار

(الحلاب)

قادري عبدالخالق

وجاء دوري!

خرطوم مضخة الماوزت من الإينوكس، يبرق، يشع، ويلمع تحت شمس منتصف النهار اللاهبة.

أملس. أمرد. منتصب. متوثب. متحفز. مقتحم ومفترس يترصد فرصة للفتك. أمسكته ومسدت عليه بحنو، ارتبك تمطط ومد عنقه. فتحت بويب الخزان وأزحت السدادة، بدت فوهته جرداء ناعمة الأطراف. تصاعدت أنفاس لافحة من جوفه وتسارعت نبضات بطنه المتأهب المضياف بشوق المستعجل الملحاح التواق للقاء.. للموعد الروحي. أولجت الخرطوم فيه برفق ثم بعنف إلى المقبض، غاب في ظلمات عنقه السحيقة واستقر. خالجني مزيج من المتعة وآلام عذاب الانتظار الحارق وغرور زهو الوصول. احتضنه الخزان بلهفة واحتواه بفرحة، دون تمنع أو غنج أو دلال. التف حوله يعب من سيله المتدفق بسخاء ووفرة ويمص بشبق الولهان وشراهة عطشان نهم هدّه الحنين من بعد طول انتظار. يخزن ويدخر في انبعاجاته التواءاته وانطواءاته، تقعراته وتحدباته، جيوبه وأنابيبه. فالطريق طويل والعقبة كأداء، المفرغة بعيدة، حلابها طماع، دلاءه كبيرة، يملأها حد الشريط، قد لا يبقى بعد حلبه الكثير لأوبة أخرى.

تبث زناد دواسة الخرطوم وابتعدت قليلا. تركته لإلفه يبثه أشجانه و يتعاتبان بود وانسجام. أقبلت على عامل المضخة أشاكس وأداهن وأتملقه، عين على العداد، وأخرى على فوهة الخزان. يشتكى دوما من هم الوقت والحلابة ويتحفني بآخر نكتة. سُمِع شخير الخرطوم وشهيق الخزان. أسرعت. اندفع السائل متدفقا مزبدا على شفتي الفوهة وساح منزلقا لزجا على واقي الصدمات والإطار. كأنه يوزع وليمة على الجيران. تطاير بعض من رشه على الزميل الموالي في الدور، الواقف بجانبي، فصرخ هاتفا:

ـ خراء.. خراء!
ـ حشاك.. لا تقل هذا عن النعمة.. هذا خبزك.

أمسكت الخرطوم بيد الواثق، رفعت مؤمن الزناد وسحبته على مهل. تساقطت منه قطرات. بقبق السائل العزيز وغرغر في الأعماق. أعدته أدراجه. ضغطت برفق على دواسته أهرق مقدارا تجشأ زبدا رغويا وُسمِع شهيق وفوران. سحبت كرة أخرى وانتظرت. غمست، الرأس فقط، وشوش في جوفه قطرات. صعد هرعا. سحبت غاص. نفضت الرغوة.رحت أستل وأغرزه فيها ألمس وأجس مستوى الوقود على مشارف عنق الخزان. استأنفت. أدفع، دائما برفق، أجذب، أتريث، تطفو الرغوة، أولج وأضغط. يهيض مقبلا ويفيض زبده على شفتي الفوهة تارة، أحجم يدبر ويغور السيل في الظلمات تارة أخرى. ألقمه قطرات وأمسك برهة متلذذا متعمدا تعذيبه. أرهقته صعودا. أهريته نزولا. مشبعا صاديتي بأناة وروية. توقف الزمن لحظة وانتقل العذاب واللذة إلى الحلابة، ترغي سياراتهم بمزاميرها الحادة. من الغيرة أم الخوف من نضوب السائل العزيز؟

ارتفع صوت من الطابور:

ـ لا يطاق، شيء كثير، أطلق رب الخرطوم، كفى تقطيرا، تعصيرا، تجقارا!!

لم أبال ولم يطرف لي جفن. أوشك على بلوغ الذروة. أدفع عمري وارشي عامل المضخة لأجل هذه اللحظة، لحظة التوحد والتدرج نحو الفناء، انفصل عن العالم وأنسى من حولي. يتأوه الخزان. يقول هل من مزيد؟ أشد على دواسة الخرطوم وأوغل مقطرا. أستله وانحني على الفوهة.أنفخ. أوخز لأزيح الرغوة. أحرك، بالرأس فقط، وأرفعه بيد فوق الفوهة وأتركه يسيل خيطا رفيعا ليبدد ها وأهدهد السيارة الثملى باليد الأخرى. يستقر صافيا لامعا مترعا يعلوه زبد خفيف سرعان ما يذوب وينساب من الفوهة. أخرجه على مهل ولما تزل تتقاطر من فوهته المعطاء حبيبات لزجة، ناصعا أشد بياض من ذي قبل، كأنه لم يشف غليله أو يذرف دمعات فراق لا يرجى منه لقاء، فهو لا يحمل ضغينة ولا يضمر حقدا لأي كان، لا فرق لديه بين فوهة سيارة أو شاحنة أو جريكان.

أعاد العامل عداد المضخة إلى الصفر. استلمه الزميل وفي نفسي شيء منه. معتذرا عما بدر منه وأمسكه برفق. تنعكس عليه خيوط شمس لاهبة. يشع بريقه الأبيض الناري وينزلق على العيون، فيسيل لعاب الحلابة المنتظرين في الطابور، مشرئبا العنق، باحثا متطلعا، يدسه في فوهة خزان سيارته، قبل أن يرتد نفس الخرطوم، مزهوا غير مبال برش المازوت وأعين الحساد.

أحكمت غلق السدادة ورددت بويب الخزان، هيمن علي إحساس من الرضا والامتنان. أنقدت العامل ثمن المازوت وزدت رشوة التقطير. أقلعت لأتوقف غير بعيد أنظف بالماء واقي الصدمات والإطار.

القطّار أو الحلاب هو مهرب الوقود في خزان سيارته. 

مغنية في 30 ـ 4 ـ 2009