يشكل الروائي التونسي من «كازينو فج الريح» والحي الذي يقع فيه استعارة تكشف عن ظواهر سياسية واجتماعية شائعة مازالت مجتمعاتنا العربية تعاني منها. واستطاع من خلال تتبعه مراحل تاريخية مختلفة لهذا المكان أن يكتب عن التحولات التي عاشتها شخصيات ارتبطت بالكازينو وتقاطعت مصائرها في أجوائه.

كازينُو «فجّ الريح» (رواية)

مصطفى كيلاني

«لا تخَفْ يا رجُل، فالظلام الّذي أنتَ فيه هُنا ليس أكبر من الظلام الّذي في جسَدِك. إنّهما ظلامان مُنفصلان بِجِلْد.»

خوزيه سارا ماغو، من رواية «كُلّ الأسماء»

 

في البدء: رغبة الحكاية تختبئ في جلباب ريح عاصفة

نَفْخًا من رَمَادٍ تتراءى من بعيدٍ، قادمةً من جنوب المدينة عبر السُطوح الرماديّة المنقّطة بالطحالب .. النوافذ بطلائها الأزرق العتيق تُشارف على امتداد البصر خطوطًا ضوئيّة نحيلة، كأنّها أطياف لزمن لم يَعُدْ هنا أو هُناك رغم المكان الّذي ينكشف الآن فجْرًا: مئذنة وقباب وسطوح مُتدرّجة وهدير ريحٍ عاصفة.

أزقّة تلتوي .. بقايا بابٍ خشبيّ ضخم منفتح على مصراعيْه باستمرار، غير قادر على الانغلاق ..

هَمّ بفتْح النافذة المُطلّة على تلك العمارة الّتي كانت فُنْدُقا لِتُجّار السُفن القادمة من الموانئ البعيدة .. هي الآنَ كازينو فجّ الريح بتسمية الجميع. نظر من خلال الزجاج إلى رَدْهتها عبر بابٍ نصف مفتوح: جليز أزرق بنمْنمات أندلسيّة، في الجدار المقابل ماجِل مُغطّى وحبْل مشدود إلى قضيب حديديّ مدقوق في جداريْن صغيريْن مُتقابليْن، أبواب خمسة ينفتح كلّ منها على دُرُج يفضِي إلى طوابق بها غُرَف تفتح أبوابها على ممَرّات بالأعلى، ونوافذها على سطوح المنازل المُجاورة.

تتضوّر المرأة على الورق أَلَمًا بصمتٍ من غير أن تذرف دَمْعَةً واحدة لأنّها لم تعد الآن قادرة على البكاء منذ أن سَطا على ثروتها وزجّ بها في مستشفى الأمراض العصبيّة والنفسيّة.

- هَلْ تُقدم على قتله بطعنةِ سِكّين واحدة؟

كأنّه أبصر في بياض الصفحة الجاثمة على الطاولة وجهها قطعةً من وجع قديم مستعاد. ولعلّها أبصرتْه في قاع البياض المُجَوَّف يُطلق ضحكة رعناء شامتة ويعِدها في الأثناء بنهاية تليق بحكايتها تغسيلاً وتكفينا ودفنا في جبّانة الغرباء.

-أعِدْ لِي عمارتي، ولن أطالب بالبقيّة !

الضجِيجُ الصباحيّ يبتلع صمت البياض المتبقّى من ليل البارحة، ورغبة الحكاية تختبئ في جلباب ريح عاصفة تكنس السطوح العالية وتدقّ شبابيك الذاكرة بأيادٍ شبحيّة ناعمة.

كازينو أعوام الجنون بأضوائه المزدانة. ارتعاشات الأحمر والأخضر والأزرق والأصفر والبرتقاليّ، ودقّات الدربوكة، وأجساد فتيات راقصات غَير محترفات تتلوّى. شُعور متهدّلة. عيون تتشهّى. تصفيق هتاف كؤوس تسقط ليندلق ما فيها على الطاولات والإسفلت المتيقّظ إلى آخر الليل وارتعاشات الأسِرّة في شُقَق الطوابق العُلويّة ..

يلفظ كازينو فجّ الريح زوّاره في كُلّ ليلة. يُغلق أبوابه ليمتثل هو الآخر لأذان الفجر ويُخلد لضَجعة ساعتيْن تقريبا قبل مرور منظّفِي البلديّة وصرير أبواب الدكاكين عند الفتح ودبيب حركة أوّل الصباح.

 

(1)

محاولَة تَذكُّر لِخريفٍ كان
السكّين على رقبة الديك وجع الخريف يفور الدّم ساخنا في شحطة واحدة تتصلّب الساقان وتهمّ الأظفار بالاندفاع إلى أعلى نقطة في آخر الزقاق يُمسك الفرجاني بسكّينه وعيناه زائغتان تنتظران انفتاح الباب والدقائق تمضي سماء الخريف سُحُبٌ رذاذٌ صوتُ مذياع يخترق الجَلبَةَ الباب في الاتّجاه الآخر يلفظ سروالاً يتكوّم لحمًا وتدور الفكرة كالدّم تلفظه رقبة الديك الذبيح العِرْق المفتوح كنَبْض الغلام الهزيل ينام حِذو أمّه المتسوّلة ويداه وركبتاه مُلطّخة بالتراب والبنزين وفي ذاكرة الشيخ تبرق صُور القبر وكدس التراب والحجارة وفراش ليلة الزفاف في عام الحرب "آشومي!" سرب فتيات يكتظّ بهِنّ الزقاق والرجال في الدكاكين يُحملقون في خيالات اللّحم ويلعنون الأطفال الحُفاة وجيوش الذباب ومنظّف البلديّة قوارير الحلوى الواسعة الحلوق مُصفّفة اللحم المُعَلّق تُغطّيه قطعٌ من قماش التيلاّ والمِنشّة والذُباب والمرأة المُطلَّقة تُغطِّي الباب المفتوح بقامتها الفارغة وضخامة بدنها "آشومي!" الدّم تحمله ذكرى الدّم ودويّ المدافع في معارك الشمال الفرنسيّ والشعور الذهبيّة المُقصّبة في رؤوس الغُلاميّات الدّم أخبار المذابح في فلسطين الدّم دَم الأظفار تُنتزع في بلاد هَاوْهَاوْ اللحم الآدميّ يُشوى بأعقاب سجائر المارلبورو يُذبح الدّيك الروميّ الفرار يصطدم بالحائط يتلوّى الدّم الضرب المبرّح طائرات الهليكوبتر التمثيليّة الصراخ السِكّين يخترق ساق الخروف الصِبْيَة يجلسون في أوّل الزقاق يخيطون كُرة من قماش الآن أبعث بشكوى إلى بريد القُرّاء وأفضح سِرّ المكتوب قبل وصول الشكوى هي الآن تدعوني إليها في آخر زقاق طفولتي العتيقة أحلم بتُفّاحتيْها أمرّغ عليهما جبيني من غير أن أبكي .. لُطخ الدّم عَلَى التراب احمرار داكن نطؤها بأقدامنا العارية والحيطان نتسلّقها كي نهدم الأعشاش ونأسر الفراخ ثمّ نذبحها بشفرة حلاقة ونشوي لحمها ونأكله ببراءة الوحوش الصغيرة ونُلقِي بأسلاك العظام كبرنا وهي في القلب مغمضة العينيْن تتجلّى كعروس خضّبت يديها ورجليها خديجة الماشطة وشعرها المُسدَل على كتفيها العاريتيْن سَعَفُ نخيل والحاجبان زيتونتان تضطجعان في ظلٍّ هُنا أو هُناك والزغَب سنابل .. اليد المُرتعشة تضع السكّين على رقبة الديك ضحكات زينوبَة النازحة إلى الباب الغربيّ في مدينة الشاطئ من قرية الجبال النائية تجلس بسروالها الأسود حذو النافذة المُطلّة على أوّل الزقاق في ماخور زمن الأمطار الّتي لا تنقطع عمّ الفرجاني الموت السكّين شحطة واحدة الدّم الوجوه الصفراء تاريخ الجرائم اللون الواحد الأحمر أحمر أحمر حتّى السواد الحَظْر الخوف الحديد النار جهنّم وبئس المصير القنابل المسيّلة للدموع الخَوْذات السيوف الرؤوس تُقطع السلاسل الشنق العويل الأنين الأبواب المخلوعة الجنود النساء الاغتصاب الأطفال الجِياع الطاعون) كُنّا أطفال تونس القيلولة نخترق شوارعها نحمل عطشنا ونحلم نحلم نحلم بالشغل لكلّ العاطلين والمنازل للمُشرّدين والفرح لكلّ اليتامى والمُطَلّقات والمُقعدين والمومسات .. (الدّيك الذبيح ترتعش الأظفار تهمّ بالاندفاع إلى أعلى نقطة زينوبة تضحك زغاريد النجاح في البكالوريا " الروزاطة " التهاني الصِبية يتصايحون خديجة الماشطة تُلاحقهم "آشومي! يا كلاب يا أولاد (كذا) الزغردات الوشم بالحرقوص العروس المأتم الكراسي على جانبيْ الزقاق الميّت القبر كدس التراب الحجارة الترتيل عشاء المقرئين الحرقوص العروس إيقاع الدربوكة نُباح الكلاب القمر الحالم الخِضاب الجسد المرمريّ رائحة التفّاح الفجر منظّف البلديّة شمس الصباح بائع الخُردة السكّين على رقبة الديك خلف الزقاق شارع زمن آخر سيّارات بذلات فساتين متسوّلات عصريّات واجهات بلّوريّة لحم قرقعات أحذية الدخان معلّقات إشهار شيخ يحلم بأيّام زمان يُحملق في الوجوه مدارس معاهد كُليّات دروس انتخابات طابور خلفهُ طابور الغياب مقاهٍ مكاتب حُبّ في الطابق الثالث من عمارة تأوُّهات زواج عاجل طلاق إجْهاض وُجوه صفراء تشتهي لون الدم الواحد واحد الفكر الكُلّ واحد الصوت واحد الطعام الجنس الموت واحد واحد واحد بين الواحد والواحد برامج مُؤقّتة أحلام مطعونة تعدُّد لا يسمح به إلاّ الواحد كي يظلّ واحِدًا على الدوام حبّك درباني عيون الغواني مقاهٍ مقاهٍ مقاهٍ عمّك فرجاني غول حارتنا إذا هدّدت أمّ طفلها قالت له: " يعطيك فرجاني .. " يا سيدي الفرجاني إيجانِي! خُطب تصفيق زواج عاجل طلاق عاجل موت عاجل دفن عاجل فكر عاجل كتاب آجل ولا قُرّاء الدّم القطط الليليّة تموت بالمَجّان الوجوه تسقط ولا وجوه اليوم الأمس الغد فراغات الكذب مثّقفون ندوات طعام لكلّ فم سهرات كؤوس فراش خُطَب تصفيق بلوزة تسّاقط بعض أزرارها مساسيك غليظة الرؤوس شاشية اهترأت تشقّقت في الأسفل نعل صُنِع من عجلة مَطاطيّة قديمة ألقى بها سائق سيَارة أُجرة في كدس النفاية أو على قارعة الطريق شفتان زرقاوان من أثر سجائر رخيصة عينان حمراوان من أثر خمرة رديئة بشربها في كلّ ليلة الدّم القطط اليوم الأمس الغد أوّله زقاق وخلف الزقاق ضمير مُفرَد لا يتكلّم يدخّن سيجارته وعيناه الفارغتان تبصران أوّل الطريق وتنتظران انطفاء الصورة السكّين على رقبة الديك وجع الخريف الدّم يفور ساخنا في شحطة واحدة يفرّ الطائر الذبيح وخلفه الصبية العاهرات اللّواطيّون ينظرون إلى عمّك الفرجاني في ماخور الباب الغربيّ بعيون متشهّية جثّة ضخمة ورأس غليظ وشاربان كثّان ومنكبان عريضان عجرفة آخر رجال زمان إذَا أرادت عجوز أن تتصابى رقصت في أحد الأعراس ولسان حالها يقول " يعطيني فرجاني! " السادة المحترمون يجلسون على المنصّة يخطبون والفرجاني هناك في آخر الحضور يرصد بعينيْ مُخبِر كلّ الوجوه يتطلّع إلى من ترخّص له نفسه الأمّارة بالسوء المعارضة بالصمت والابتسام السكّين على الرقبة الديك وجع الخريف الدّم يفور ساخنا في شحطة واحدة يفرّ الطائر الذبيح وخلفه الصبية يتصايحون وخديجة الماشطة في زقاق قريب تُطلق زغاريدها وعمّ الفرجاني وراءهم يلّوح بسكِّينة ويتوعّدهم وزينوبة تُلاحق ديكها الذبيح وسلومة الأعور يشرب قهوته الصباحيّة صخب وسيّارات ويختفي الجميع في زحمة المدينة.

 

(2)

زينوبة بنت عبد المقصود تعود بها الذاكرة إلى صيف ليس بِبعيد
تعود بها الذاكرة إلى صيف ليس بعيد بقايا مشروب الروزاطة ذباب ثقيل الظلّ يُغطِّي حَوَافّ الكؤوس الملطَّخة بأحمر الشفاه هذا الصيف ليس كذاك الصيف تلهث زينوبة بنت عبد المقصود عرق الصيف بارد رغم توهّج الشمس الحارقة لُطخ من بياض ساطع على امتداد الشارع الرئيسيّ المُفضي إلى البحر مستحمّون في عدد النمل الكلّ عُرْيٌ خِرق صغيرة تُغطّي صدور النساء وعورات الجميع موجات تتثاءب في عزّ القيلولة زغردات النجاح في البكالوريا عجائز في سقائف بيوت عتيقة آثار أغنية خضراء ماجنة يردّدها الصغار والكبار " لِلّيري يامّا لِلّيري يا .. " دقّات دربوكة رقصات الصبايا هذا الصيف ليس كذاك الصيف سُيّاح يتقلّبون على رمل الشاطئ بعُرْي أشقر واللحوم تستلقي تحْت سماء أوت ذاك الكهل المتصابي على عتبة الشيخوخة بعينه اليُمنى المُرَكّبة قطعة زُجاج لمّاع شيشة في آخر مقهى بين سيل السيارات المتلاحقة والماء الأزرق وامتداد الرمل بأجساد شبه عارية دخان برائحة التُفّاح عينان زائغتان لِرَاوٍ يتصيّد أحداثا أخرى كأسماك تظهر وتحتجب حكاية من زمن غير بعيد في بَدْء الطريق تصعد زينوبة بنت عبد المقصود من تحت أنقاض ذاكرة المزاريب المزحومة بمِياه خريف رماديّ في لون كتاب مدرسيّ اهترأت أوراقهُ وانطفأت صُوَرُه بدانتها لا تدعها تقوى على التحرّك سريعا بين السيّارات ورائحة دخان السيارات نزيف أشعّة ناريّة تلفح وجنتيها المُوَرّدتيْن هي ذاتها حطام امرأة جرّبت مهنة الاستلقاء عشرات بل مئات الرجال هناك وراء السور في الباب الغربيّ عدد الذيول ثعابين بأحجام مختلفة رؤوس صلعاء تعلو وتنخفض والماء تسكبه حنفيّات على وشك أن تتعطّل في جدران تقشّر طلاؤها غُرَفُ بلا نوافذ كابية هواؤها ثقيل عطن تضيئها في عِزّ النهار لمْبات ذابلة انقطاع كامل عن حركة السوق انفتاح مفاجئ على الأزقّة الملتوية تستقبل بين الحين والآخر فَوْرة بالوعات مياه مستعملة روائح البول وبقايا صابون قشور خُضَر وغلال انتفخ وتهرّأت في زحمة الأشياء المُرْتكنة الراكدة داخل الحُفَر العتيقة المتهدّمة خنافس من كلّ الأحجام حينما تفيض المزاريب بأمطار الخريف تحمل معها قشور الجير صفراء صفراء كَوُجوه الأطفال الحُفاة من زمن أكياس الدقيق الأمريكيّة تُخاطُ ملابس تستر بها عوراتهم خُطب تصفيق هُتاف دموع تنسكب عصيّ حجارة في ألعاب الأطفال الحربيّة زجاج لمبات تتكسّر في الأثناء شتائم العجائز المقذعة التهديد بعمّ الفرجاني الفرار إلى أبعد الأزقّة والسطوح تلهث زينوبة بنت عبد المقصود لأنّ الشارع مزدحم بالسيّارات والمارّة ورأسها مزدحم أيضا بذكريات صيف ليس ببعيد لا تقوى على المشي السريع في أتّون يوم قائظ بلا رحمة بحر يتجشّأ عَرَق مُستحميّة رائحة سَمَكٍ مهترئ كأنّها تبصر من بعيد ذلك الكهل المتصابي بعينه الزجاجيّة اليُمنى تستر عَوَرًا قديما لمارد جبّار يحمي غرفتها في آخر الزقاق تتذكرّ طفولته البعيدة الجبل الغائم في آخر المدى بنُثار لحم النعاج كلّما غلب النعاس كلاب الحراسة وأباها راعي الغنم الذئاب المتلصّصة فرارهما من قرية الجبل النائي إلى مدينة البحر والرمال والنزل تتذكّر أمّها زوجة أبيها الذبيحة الحرس يقيّدون يديْ أبيها القاتل أخوالها الذئاب يبحثون عنها في كلّ مكان هو ذاته بعوَره الّذي ورثه من لعب قديم منذ أن كان طفلا يُجمّع نُثار بارود القنابل من زمن الحَرْبِ في عُلب طماطم فارغة ويدعو إليه أترابه كي يضع قبسا من نار لا يفرّ كما يفرّون دم ينسكب من الوجه يستحيل إلى ألَم مُمِضّ مستوصف مستشفى غيوبة سرير ظلمة أبديّة تستبدّ بالعين اليُمنى سألها هذا الصباح بالهاتف عن أحوالها سألته عن المال الّذي بدّده على طاولة القمار بعد أن أعلن توبته وأقسم بأغْلظ الأيمان كانوا يعبرون زقاقها كظلال ميّتة يصطفّون أمام بابها تستقبلهم الواحد تلو الآخر تنتظر سلومة الأعور في آخر العشيّ كي تُسلّمه كُلّ المال ثمّ بعض المال ثمّ أُجْرته هذا الصيف عمُر كالبحر بحر كآخر الصيف أمواج مُنهَكة سُيّاح من الدرجة العاشرة يحملون قوارير الماء المعدنيّ وبعضا من خضر وغلال إلى غرفهم يلبسون ما قلّ من الثياب شُقْرٌ حُمْر يبتسمون يندهشون لرؤية عضلات الشباب زيوت حمّامات الشمس تلمع روائح ليمونيّة تُذكّر بخديجة الماشطة تُدير كؤوس الليموناضة على النساء في مجالس خاصّة كلّ واحدة منهنّ تعبّر عن مقصودها تنتظر من خديجة الماشطة نصيحة ماء الورد الحرقوص الحِنّاء اللوبان الذكر التابعة سحر عجوز بفم أدرد تبحث عن زوج لحفيدتها العانس حِكمة خديجة الماشطة أنّ جنّة الروامة الآن وجنّة المسلمين غَدًا بعد الموت كُتل من لحم تتعرّى في سماء الشاطئ سيّارات على الحافّتين والمارّة في عدد النمل يحثّون الخطى إلى الشاطئ المزدحم بالمستحِمّين كتلة من لحم مترهّل يندفع بأقصى الجهد صوب مقهى الشاطئ في انتظار سلومة الأعور الهاتف الجوّال يرنّ تُعلمه بأنّ زحمة المستحمّين فرضت عليها ترْك سيّارتها بعيدًا عن المقهى الّذي يجلس فيه ضخامة الجثّة لا تدعها تنتقل بسُرْعة تلهث تلهث الشمس الحارقة تقطع حبل الذاكرة الأطفال يتسارعون إلى الشاطئ القريب الأمّهات يحملن أكياسًا بلاستيكيّة بها سندويشات وما طاب من ثمار الصيف وقوارير الماء المثلّج الرصيف مُمتلئ بالمارّة والسيّارات شريط دائم لا ينقطع جباهٌ تتفصّد عرقا مُنبّهات الصوت سِباب شتائم تبتسم زينوبة بنت عبد المقصود مزهوّة بذكائها العمليّ لأنّها تركت سيّارتها بعيدًا عن الجحيم سلسلة فنادق شقق للكراء عمارات جديدة وأخرى بصدد البناء قروض قروض قروض أغنياء جُدُد حفّارات أرصفة يُعاد تبليطها مِرَارًا وتكرارًا الحُفر في كلّ الأمكنة الشارع المُسَفْلت حظائر أشغال لا تتوقّف تنتقل من هذا إلى ذاك رجال ببذلات فاخرة جدّا يوقفون سيّاراتهم الشبحيّة قريبا من الحفّارات وعمّال التبليط والشاحنات تُفرغ حمولاتها وأخرى تنقل ما اقتُلع من سَليم الجليز والرخام تبتسم زينوبة بنت عبد المقصود لأنّها أبصرت رجلا محترما في الظاهر يهمس في أذن مهندس كهل أحد عمّال التبليط يلتقط الأنفاس يصرخ بأعلى صوته في وجه زوجته البعيد عبر هاتفه الجوّال يلعن أباها لأنّها لم تضع كثيرًا من الثوم في صالصة المكارونة صحن هناك آثار صالصة بقايا عظام دجاجة على آجرّة في الاتّجاه المقابل طاولات قوارير جعة شُبّان يكرعون ما طاب من الكؤوس كهل بدين يدخّن الشيشة بمِلء بطنه المنتفخة فقاقيع تشي بقرقرة لا تسمعها الأذن في زحمة أصوات المحرّكات وصيحات الأطفال يركضون في اتّجاه الشاطئ والأمهّات يفتعلن الغضب والذعر يحذّرنهم من السقوط والسيّارات فتيات الأرصفة ينتظرون زبائن نساء سائحات كأنّهنّ يتعجَّبن من رجال عرب فقدوا فحولتهم التاريخيّة كالّذي روّجت له وكالات في أروبّا معادية للسياحة الوطنيّة السيدا خوف جديد يسكن عيون الشبّان اللحم الوطنيّ سليم مائة بالمائة الشارع المكتظّ بالمارّة والسيّارات أطفال البارحة القريبة أولائك الّذين تفتّحت عيونهم على الإشهار التلفزيونيّ الماكرونة الحليب البيسكويت الياغرط الشكلاطة الحلوى الشاميّة فرحة الشراء الدائم بين أبواب المنازل المفتوحة والمتاجر الصغيرة المنتشِرة في كُلّ الأماكن تُضانك زينوبة بنت عبد المقصود الزحمة استطاعت أن تدخّر مالا كثيرًا رغم ما أنفقه سلومة الأعور على طاولات القُمار قرارها بِصَدّه عن مالها مُصيب لا يهمّ إنْ غضب وهجرها كانت تُغدق عليه من مالها لا تُحاسبه تدعه يفعل ما يشاء ولكنّه بالغ في تبذيره على القُمار كازينو فجّ الريح يشهد على ذلك الكازينو الّذي أمكن لها امتلاكه بعد خدمة أعوام وأعوام الأضواء الساطعة في أعلاه على امتداد الليل بموافقة الحكومة الرجال والنساء يتسلّلون إليه من الباب الخلفيّ حيث دُرُج يفضي إلى الأعلى أغاني أمّ كلثوم وناظم الغزالي وصباح فخري وسيدي عليّ الرياحي والطاهر غرسة تتسلّل إلى الداخل رجال يبحثون عن لذّة عابرة نساء منهكات كان ذلك بالأمس البعيد ضجيج هائل أطفال حفاة يتقدّمهم آباؤهم وأمّهاتهم يحملون لعبا بحريّة بلاستيكيّة كأنّها أبصرت في أحدهم سلومة الطفل قبل أن يفقد عينه اليمنى ذلك المشاكس يُلاحق فراخ الحائط ويسطو على أعشاشها يذبح صغارها بشفرة حِلاقة ليشويها ويأكلها مع أترابه تتذكّر ركْضه من سطح إلى آخر سرعة اختفائه عن الأنظار في كُلّ ليلة سهرات طويلة تنقضي قبل أذان الفجر بقليل كان يسألها عن سبب إصرارها على إغلاق الكازينو في هذا الوقت بالذات فتعلن باستمرار احترامها للمسجد والمؤذّن والإمام وكلام الله الليل سِتار وإذا عصيتم فاستتروا والنهار عين فاضحة الكلّ يعملون بهذه الحكمة رئيس البلديّة العمدة كبير العسس سماسرة العقارات والسيَارات تُجّار الذهب والصناعات التقليديّة مراقبو الماليّة الأطبّاء المعلّمون الأساتذة الإداريّون العمّال من أبناء الحيّ والأحياء القريبَة يجدون ضالّتهم في الحانة الخلفيّة التابعة لمبنى الكازينو يشربون كؤوس الجعة وما طاب من النبيذ إلى منتصف الليل تنطفئ الأضواء لتنبلج أضواء أخرى خافتة في أحد الطوابق العلويّة حيث يظهر عِلية القوم من رجال السياسة والمال ينظرون من النوافذ خِلْسَةً إلى الأطبّاء وأساتذة اللّغات والعلوم الإنسانيّة وبعض المثقّفين من أصحاب النظريّات المتطرّفة الهدّامة يترنّحون ليل يموت وآخر يولد طاولات القمار تنفتح الغرف المُقفَلة على أسرّتها يَوْمَ أن أعلنت التوبة قرّرت السفر إلى الحجّ كازينو فجّ الريح لم يعد تابعا لها قليل من حرام خير من كثيره وسلومة الأعور قادر على مواصلة الإدارة بمفرده تتذكّر عودتها من الحجّ احتفال سلومَة الأعور بالحدث حضرة الوليّ الصالح سيدي عامر البنادير بخور المجامر المهنّئين من عِلية القوم يتقدّمهم إمام الخمْس الزغردات راقصات بناتها من نساء كازينو فجّ الريح المال لم يعد حلالاً استغفرت ربّها وأفتى لها سلومة الأعور من قبيل اتركي الأمر لي والله غفور رحيم كلّ شيء قانونيّ مائة بالمائة تتوقّف لتلتقط بعضا من أنفاسها تلتفت وكأنّها تهمّ بالرجوع إلى غرفتها المستقِلّة في عمارة كازينو فجّ الريح الأسوار بعيدة اشتاقت سريعا إلى سوق الربع بسقائفه المُغطّاة الممرّات تلتوي تتفارق تتعالق حمّامات عتيقة بخور المجامر دكاكين العطور بقايا نساء ملتحفات أذان مسجد الدريبَة السيّاح يرطنون بجميع اللّغات جِمال صغيرة محشوّة بالقشِّ شبّان يطرقون النحاس ليرسموا أشكالا لحيوانات أليفة وأسماء الزبائن من السُيّاح صحون صغيرة للزينة أوانٍ خَزَفيّة أطفال المدارس يركضون ابتهاجا بالتسريح شبّان يتسلّلون إلى الماخور القريب عبر زقاق فجّ الريح شيوخ وَرِعون يلعنون الشيطان أغاني محمّد عبد الوهَاب تأوّهات بعض الجُلوس من رجال يشربون القهوة ويدخّنون صِحاف اللبلابي تُوزَّع على أصحاب المتاجر روائح الحمص والهريسة وزخّات مطر أصوات الباعة الملابس المستعمَلة الفُرُش الساعات الحائطيّة البرانيس الزحمة فتيان يتدافعون نساء يمتعضن سيّاح بأياديهم آلات تصوير يلتقطون بعض الصُور القمار الرجال المحترمون جدًّا يغدقون الكثير من المال على طاولات القُمار لكنّه لا يُظهر لها إلاّ القليل علمت بأنّه قد تحوّل من مدير لسهرات القمار إلى مُقامر عنيد هو الآخر تُواصل السير في اتّجاه مقهى الشاطئ أمتار قليلة ويكون الوصول ينتظرها سلومة الأعور هناك يدخّن الشيشة يسرح خياله مع القرقرات غيمات نحيلة تنتشر في سماء بلقع هبوبات نسيم خافتة والبحر يهمّ بالتيقّظ يتثاءب موجات صغيرة خائرة القوى تستلقي على الرمل دون زَبَد منذ أن هجر زقاق فجّ الريح بعد الخصومة الّتي فرّقت بينهما وهو يحلم بليالي الكازينو هل استمرّ التوهامي بربورة في إدارة ما كان في حوزته؟ تجربة المطعم فاشلة الإفلاس قد تغفر له أخطاءه عِشرة زمان سعال حادّ أحسّ بالعالم كلّه يجثم على صدره ثِقَل لا يرحم جحيم الإفلاس والعزلة وطنين رغبة القمار يُعاوده حبّها يعاوده لا أهل له في الأخير سوى تلك المرأة التي أطردته من كازينو فجّ الريح نَهْبه الوَاضح لأموالها استهتارهُ في كلّ ليلة مع واحدة تعنيفها المتكرّر بالكلام والضرْب يتذكّر طعامها الشهيّ ما لَذّ من الكؤوس في خلواته معها دفء حنانها ثرثرتها الجميلة الّتي تفوق ثرثرات كُلّ نساء العالم منذ بدء الخليقة حِلمها رغم الآثام الّتي اقترفها في حقّها الزبائن بالمئات مرارة في البدء وهو يعرض لحمها للجميع ثمّ اعتياد وتسليم بالأمر الواقع الكؤوس التدْخين طاولة القمار أفضل الوسائل لتعويد النفس على القبول كرامة الريفيّ لم تعد تفي بالحاجة في مدينة الشاطئ قرقرات الشيشة في يوم قائظ وهو ينتظرها بفارغ الصبر مرّت شهور على الخصومة يتذكّر بعض السكارى ممّن يرفضون تسليم الأُجرة بكاء زينوبة خَوْفًا أو قهْرًا أو تَوَسُّلاً صفوف الجنود المُسرَّحين أغاني هاني شاكر وعبد الحليم حافظ ووردة الجزائريّة تلفظها مُسجِّلات الغُرف شبه المُغْلقة الستائر المُسْدَلة روائح البخور وبعض العجائز الجالسات بوجوه متكمّشة وعيون زائغة يتثاءبن ويستسلمن لنوم متقطّع في انتظار رقدة أخيرة أبديّة لعبة الأوراق كحلاء حمراء مشاجرات دمويّة شرطة المركز القريب فرار ثمّ ظهور قَرَف الفريسة وطوابير الرجال نزيف أوجاع قديمة سماء الروح مقفرة بلا مطر بلا دموع ضحكات شبه هستيريّة تُعمّر الأقبية حيث جماجم ساعات ميّتة والأسوار عالية جدًّا كوابيس ليالٍ قرف الجسد تغالب زَحْمة الشاطئ اقتدار عجيب على ممارسة شتّى فنون الألم بصمت ساقطة بتول والأمل الوحيد المتبقّى في حياتها أن تراه قريبا منها رغم أولائك الرجال المفترسين تنتظر الليل قدومه للسهر أخبار الجبل النائي السكّين الدم الحرس عويل النساء بكاء الأطْفال المرعوبين القُمار هل من حقّه أن يُبدّد مَالها الّذي من أجله ضحّت بحياتها؟! مشاجراته معها كلّما حذّرته من مزيد الانزلاق في هوّة القُمار يَوم أن قرّرت فتح كازينو البهجة أو فجّ الريح كما يحلو للبعض تسميته حذّرته من الأعوام القادمة فأدرك بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ الاستثمار في القمار تُريد به تدارُك ما فات قبل أذان العشاء في زقاق فجّ الريح كلّ شيء عاديّ فُرْن الرحمة يُقدّم لحرفائه الخبز الساخن تحمل رائحته الشهيّة نسمات كلّ الفصول والرجال يعودون من مقهى الربع إلى بيوتهم تتضاءل الحركة ثمّ تنقطع لتَتَوَقَّفَ سيّارات عِلية القوم وراء السور ينطلقون إلى الكازينو فُرَادى في رأس الزقاق ببذلاتهم الأنيقة وجيُوبهم المُنتفخة تنْطلق الفتيات بما خفّ من الثياب يُقدّمْن للحرفاء المرموقين كؤوس الوسكي والنبيذ على أنغام أمّ كلثوم ومحمّد عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وسيدي عليّ الرياحي " شدّ السيف وهيّا قابلني! " وصباح فخري وناظم الغزالي والغرف القريبة من ردهة الكازينو شبه مغلقة أضواء كابية تطلب من الله المغفرة الحجّ إلى بيت الله الحرام حرام أن تُفرّط في حياتها بَدَا لها أنْ تخطو خطوة في اتّجاه الحلال ربّما أولائك الرجال يحتاجون إلى بعض التسلية بعيدًا عن وجع الرأس وهموم الإدارة والمسؤوليّات الكبرى وكلّ شيء بثمن هم يدفعون وهي تُوفّر لهم جميع أسباب الراحة وسلومة الأعور في الخدمة رائحة العِجّة وما طاب من اللحم والسمك المَشْويَّيْن والمرق اللذيذ والنبيذ والجعة والوسكي والمارتيْني والفُودكا والمُكسِّرات والنُكت حينما تلعب الخمرة برؤوسهم سلومة الأعور يحذق فنّ الإضحاك أموال القمار أفضل بكثير من أموال الأسِرّة رصيدها في البنك يرتفع إلى سماء المجد الحمد لله نصحها ببَعْث مشاريع أخرى فرفضت لأنّها تعلم ما يدور في خلده ثمّ إنّ الإقدام على ذلك قد يتسبّب في أتعاب كثيرة الضرائب وقوانين الشغل وحقوق العُمّال وعُطل المرض والولادة ومنَح التقاعد يكفيها هذا الكازينو في حيّ فجّ الريح زقاق به عمارة تُطلُّ على مسجد الرحمة حركة عاديّة يُبصرُها الرائي من فوق لأناس يفدون على المكان من مُدن قريبة كلّ شيء عاديّ التجاهُر بالثراء قد يجرّ عليها المصائب ليس لها إلاّ أن تُواصل طريقة النمل في تجميع المال حركة المرور لا تُطاق والشمس المحرقة في كبد السماء لماذا يلحّ على مقابلتها بعد شهور من القطيعة؟! لم تعد تطلب منه الزواج منذ أن قرّرت تغيير الاتّجاه بإنشاء الكازينو وحاول هو مرارا أن يقنعها بالزواج بعد رفضه له طيلة أعوام الطمع بادٍ عليه لن تسقط في شِراكه غالبت حبّها له بالصلاة والحجّ ومحاسبته على أرباح الكازينو ثمّ ارتأت طرْده من حياتها تماما بعد أن بالغ في إهانتها أمام عمّال النُزل والكازينو والحانة إنْ تزوجته سيكون وريثها الوحيد كلّ شيء سيضيع على طاولة القُمار تقف مجموعة أطفال يركضون نحو الشاطئ أحدهم يبكي تهرع الأمّ إليه همّت بالانحناء لاحتضانه لن تكون أُمًّا قطار العمر يُسْرع في اتّجاه آخر محطّة قد يهلك سلومة الأعور وإنْ قبلت الزواج به هو الآخر يعاني من السكّري وضغط الدّم والربو الشاطئ مزدحم بالمستحّمين تبصره على بعد أمتار قليلة هناك في انتظارها ذلك الكهل على عتبة الشيخوخة بعيْنِه اليُمنى المُركّبة زجاج الشيشة لمّاع قرقرة الماء دخان برائحة التُفّاح يهرع إليها بشوق طفل ضائع يتمسّك بقشّة أمل تندفع إلى أحضانه بلوْعة طفلة يتيمة يذرفان الدمع وهما يجلسان قُبالة الرمل وأزرق الماء شبه الساكن.

 

(3)

الحاجّة زينوبة بنت عبد المقصود تُوافقُ أخيرًا على الزواج بسلومة الأعور بعد عِشْرةٍ طويلة في كازينو «فجّ الريح».
كأنّها، وهي جالسة إلى الشاطئ، تُبصر في الاتّجاه الآخر طيف كازينو فجّ الريح.

-هل الابتعاد عن المكان هو الطريق الأسلم إلى معرفته؟ عَلمٌ أخضر في أعلى المبنى حيث غرفتها الخاصّة تُشرف على كلّ المواقع في المدينة العتيقة، بدءًا من الكازينو ومرورًا بالشقق والبيوت والأزقّة الخلفيّة ومقهى الرحبة يستقبل مئات السُيّاح على امتداد النهار، من كلّ الجنسيّات: شُقْر وحُمْر وسُود .. النساء يلبسن ما قلّ من الثياب والرجال يضعون أخراصا فضّيّة في آذانهم ويرطنون بشتّى اللّغات، الشاي المُنَعْنَع تحمله هبوبات النسيم بين الحين والآخر إلى شرفتها، فتأمر أحد صبْيانها بأن يسرع إليها بكأسٍ ساخن تُدخّن في حضرته عديد السجائر باشتهاء عجيب. زحمة الرؤوس كما تُبْصرها من فوق لا تنقطع: أُناس يجيئون ويذهبون بأعداد غفيرة إلى آخر العشيّ. وحينما تخلو الأزقة إلاّ من بعض المُصلّين والسكارى يجثم على المكان صمت ثقيل، كصمت القبور. فتسكن الحركة ليستيقظ كازينو فجّ الريح. يفتح عينيه على بدء السهر، بموسيقى هادئة تليق بمقامرين محترمين يلعبون ويشربون ما طاب من الكؤوس في قاعة فسيحة بالطابق العُلْويّ، والغُرف شبه مطفأة في الطابق الثاني لا تشي بأسرارها إلاّ لمن استطاع أن يثبت مدى اقتداره على الصمت أثناء الدخول والخروج .. عَدد الرجال الّذين يفدون على الكازينو بعد إغلاق الحانة أبوابها قليل، قد يزداد وينقص ببعض الأنفار من الجُدُد أو ممّن اتّخذوا قرار التوبة على غرار صاحبة الكازينو.

تذكّرتْ استعدادها للسفر، إخلاءَ الكازينو والحانة من كلّ الزوّار، إلاّ شقق النزل لترتفع مكبّرات الصوت بسُلاميّة رقّت لها قلوب الرجال وأدمعت عيون النساء من المتزوّجات المحترَمات وغيرهنّ على حدّ سواء .. أرادت بذلك أن تُعلن للجميع توبتها النصوح. حضر جميع متساكني حيّ فجّ الريح تلك السهرة عدا بعض العُجَّز والمرضى والأطفال والرُضّع.

ارتفع صوت رئيس فرقة السلاميّة بأجمل الأناشيد بعد أن حَوَّلَهَا من أغانٍ ماجنة في أغلبها إلى مدائح وأذكار .. بعض الأطفال طربوا لِمَا سمعوا فاندفعوا راقصين على إيقاع " قدّك طويل آصالحة !" و"ها الكمّون منين يَانَانَا ! " و"مريض فاني .. " و"على الجبين عصابة " و"جاري يا حمودة ! " .. اندهش الحاضرون لكلمات التوبة تمحو معاني التهتّك وإيماءات الفُحْش في الأغاني .. كلّ نساء " فجّ الريح " لبسن في تلك الليلة ثيابا طويلة محترمة، كما حرصت الحاجّة زينوبة على إظهار بناتها للعموم بملابس لائقة، بَلْ كُنّ مِثْلَ وليّات صالحات يطُفن على الحضور بالمجامر، وينشرن بخورًا لا يختلف كثيرًا عن بخور الغُرَف شبه المُطفأة، امتلأت به صدور الساهرين، فتملّكهم الخشوع ورقّت قلوبهم، فسال دَمْع غزير إلاّ سلومة الأعور الّذي أخفى عينه الوحيدة المتشهيّة وراء نظّارتيْن سَوْداويْن .. أخذ يسترق النظر بين الحين والآخر إلى أطياف أثداء وبطون وأفخاذ غطّتها الفساتين والملاءات السَوْداء، ولم تُظهر منها إلاّ بعضًا من كُتَل لحميّة. لعنت الشيطان واستغفرت ربّها داعيةً له بالهداية. أبصرتْه يتعمّد الاحتكاك بجسد إحداهنّ عند تنقّله بين الكراسي أثناء خدمته لها بهذه المناسبة وتوزيعه كؤوس الشاي والروزاطة والبقلاوة على الضيوف. ابتسامتها المفاجئة كادت تفضحه .. عادت مرّة أخرى إلى الاستغفار وصرفت نظرها عنه إلى السُلاميّة ليتملّكها فيض من خشوع عند استماعها للأدعية المُغَنَّاة .. فضيلة واسم الشهرة فوفو، إحدى بناتها المخلصات، بكت بحرقة المرأة النادمة .. سُهَى أو سوسو بالغت في إخفاء لون شعرها المصبوغ بشقْرَة مستعارة عن العيون احترامًا للموقف، وصداع السيجارة المتأخّرة عن وقتها يُؤلمها فتتلهّى برفع عقيرتها بالزغاريد بين الفينة والأخرى رئيس بلديّة حيّ "فجّ الريح " وكافّة أعضاء المجلس ورئيس مركز الشرطة وعديد المسؤولين الآخرين وتُجّار المدينة العتيقة يشاركون زينوبة بنت عبد المقصود فرحتها .. عجائز الأزقّة القريبة يتلقّين عطر المِرَشّات مبتهجات ويدعون لصاحبة الشأن بحجّ مبرور يمسح كلّ الذنوب. تذكّرت حليمة عجوز التسعين أيّام الخطيئة ولعنت الشيطان .. تذكّرت النوافذ المغلقة الجنود الألمان في زمن الحرب العالميّة الثانية السقائف المغطّاة الأبواب الموصدة شُبّان الألمان وقَبْلَهم الفرنسيّين يرطنون بكلام غير مفهوم الشبّان العرب بعجرفتهم المحبّذة في أغلب الأحيان خطوات الأحذية الشرسة السعال الضحكات السَمِجة الكلمات البذيئة نداءات باعة التفصيل بعَرَبات يجرّونها بالأيادي بعض الوجوه تتراءى من ثقوب الأبواب الأطفال الرعب عند رجوع الآباء نهارًا أو ليلاً حمّامات المواسم والأعياد المَطَاهر في الداخل المياه الساخنة الباردة الدافئة الطَفَل روائح الزهر والورد والكونوليا الزغاريد عند الأعراس. نظرت إلى زينوبة بنت عبد المقصود، وكأنّها أدركت بعض ما يدور في خُلْدها .. نداءات قصيّة وفدت عليها من أبعد المواطن في الروح، تعاظم أُوارها في دفْق المدائح والأذكار، حوّلت الفرح سريعا إلى حزن جارف انسكبت له دموع غزيرة، واستحال البكاء الخافت إلى شهيق متقطّع حادّ حسبه أغلب الحضور خُشوعًا محْضا .. سُوسو هي الأخرى لم تتمالك نفسها عن البُكاء، وانتشرت العدوى إلى أغلب النساء، وانضمّ إلى فريق الباكيات عدد من عجائز أُخريات اندفعن إلى التعويذ بصوت عالٍ ..

تذكّرت فرارهما إلى مدينة الشاطئ من قرية الجبل .. أحسّا عند الوصول غروبًا بالجوع والغربة. ولأنّه كان لا يمتلك في جيبه إلاّ بعض الملّيمات فقد دعاها إلى اقتسام صحفة لبلابي .. لاذ في الأثناء بحيلة طَلَب المزيد من الخبز والمُملَّحات والماء مع مرق الحِمّص الساخن والليمون .. حينما غادر المطعم الشعبيّ الصغير القريب من الميناء أحسّا بالشبع .. سألته عن مكانٍ يأويهما، فاكتفى بالصمت.

المدينة أطْياف وجوه وسيّارات تعبر الشوارع شبه المظلمة .. خيوط المطر الهادئ كأنّها ألسنة تلعق دماء رغبتها المستباحة، فيعمق فيها القلق كسكّين صَدئ يُخلْخِل العظام: برد وضياع وأحزان تفيض بين الحنايا، تُقارب الماء، كَشُواظِ نارٍ يهمّ بالانطفاء مِرَارا، ولكنّ الخوف والحنين إلى طفولة ضائعة ومشهد زوجة الأب الذبيحة والحَرَس وأباها المُقيّد اليديْن يعيدُ للنار أوارها، فيَنْدسّ حريقها في كامل خلايا جسدها .. تمسّكت بيده وهي تذرف الدمع بصمت: ليل المدينة لا يرحم، والأفق ضوْء مُشبَع بالظلمة ونُثار أضواء كابية .. لحظةَ إحساسه بتعاظُم خوفها ووجعها الداخليّ احتضنها في ركن مُظلم قريبا من سور المدينة العالي، فأحسّت ببعض الأمان .. أشار إليها هامسا بأن تصحبه إلى مكان قريب داخل المدينة العتيقة .. الأزقّة الملتوية مقفرة من المارّة والحركة إلاّ بعض القطط والكلاب السائبة تُجرْجر عِظام حوانيت الجزّارين وبقايا شحوم بيضاء وصفراء مُبَقّعة بالدّم أسقطتْها عربات القُمامة أثناء عبورها الليليّ .. بالوعات المجاري الفائرة تلفظ روائح نتنة .. يبحثان عن مَمَرّ داخل الأوساخ المُتحِلّلة دون جدوى، فتتبلّل أرجلهما ثمّ تغرق في الوحل .. حينما يصلان إلى الربع في قاع المدينة العتيقة يكشف المكان عن موقع شبه مضاء، فَيَتراءى لهما مقهى كأنّه يهمّ بإغلاق بَابه لَوْلا بعض السكارى يقفون أمام الطوار، وينشدون بالقهوة الساخنة قليلا من الصحْو .. و كأنّها أحسّت بالطمأنينة لحظةَ وقوفه أمام منزلٍٍ بطابقيْن .. وتعاظمت طمأنينتها عند طرْقه للباب وتناهِي صوت رجل إليهما من الداخل يدعو إلى انتظار لحظات.

مسحت دموعها، وتطلّعت إلى وجه قائد السلاميّة .. بَدَالها شيخًا وَرِعًا: لحية صغيرة وشاربان كثّان ونظرات محتشمة .. المدائح على نَغَم " ها الكمّون منين يانانا " في هذه المرّة، وقد حَلّ " اللّه،اللّه! " مَحَلَّ " يا نانا " .. فتح البابَ شابٌّ أسمر طويل القامة جميل السمات دعاهما إلى الداخل، وكان العناق والقبلات بين سلومة الأعور والشابّ صاحب الدار ثمّ تلى ذلك عشاء وفراش دافئ وأغطية قُطنيّة ومطر غزير في الخارج وأوّل ليالي الغلط الفاضح في حياتها: مضاجعة الشابّ الوسيم الّذي لا تعرفه إلى أوّل الفجر. أدركت بحسّ الأنثى التائهة بعد احتسائها كؤوسًا من الخمرة لأوّل مرّة في حياتها أنّها أصبحت مُتاحَةً للجميع .. حاولت الصمود في البدْء إلاّ انّ ابتسامات سلومة الأعور المُشجِّعة وكؤوس الخمرة أفقدتْها الصواب، ففتحت ما تبقّى من مغاليق جسدها للرجل الغريب، وتعالى أُوار رغبتها الجامحة بالظلمة والمطر والريح العاصفة وصوت أمّ كلثوم الخافت .. كادت تندم في الأثناء على ما فعلت، ثمّ قرّرت بعد تشجيع سلومة الأعور لها هَمَسًا بأنْ تتحرّر من خوف كُلّ النساء في قرية الجبل .. طلبت من الشابّ الوسيم سيجارة، فكانت الأولى هي أيضا في حياتها الجديدة .. تملّكتْها موجة سعال، ولكنّها أصرّت على إكمالها، ولعلّها كانت ترغب في استباق ما ستؤول إليه وقائع حياتها: اشتعال ثمّ انطفاء في مِرْمدة الحياة. الليل بعينيْه المُغمضَتيْن يدعوها إلى أن تتحرّر تماما من كوابيس رغبتها الحبيسة .. اندهشت لجسدها يُمسي بحْرًا من شهوات أو أرضا عطْشى تستقبل أمطارًا غزيرة بعد جفاف أعوام، فتتّسع الشقوق بدْءًا لتمتلئ وتلتئم .. تنهّدت لتهمس في سِرّها:

-هو الآخر كان عابر سبيل.

فرج التوكابري، ذلك الشّاب الوسيم الّذي سيصبح في قادم الأيّام تاجر القماش الأوّل في سوق الربع، هو الآن طريح الفراش في المستشفى بعد إجراء عمليّة جراحيّة على القلب ..

-هل تسأله عنه؟

آثرت الصمت في انتظار أن يبدأ بالكلام .. نظرت في الأثناء إلى الشاطئ المزدحم بعينيْن زائغتين: مستحمّون عرب وأجانب وباعة متجوّلون يحملون سِلالاً مملوءة ببرتقال الشتاء المنقضي والمشمش، وقوارير الشراب الغازيّ في أسْطل بها ثلج، وعيونهم تكاد تلتهم أجساد النساء شبه العارية المستلقيات على الظهور والبطون يتغذّيْن من حرارة الشمس اللاّهبة دون اكتراث بالعيون المُستَنْفَرَة .. المقاهي على امتداد الشاطئ مكتظّة بالجلوس يشربون القهوة والشاي والجعة الباردة ويدخّنون النراجيل ويُحمْلقون في فراغ الأفق البعيد .. عادت لتنظر إليه، وهو جالس أمامها: وجهه شبه مغطّى بنظّارتيْن سوداويْن غليظتيْن،، كأنّه يُريد بهما إخفاء عوره المفضوح الّذي عهدته فيه منذ الزمن الأوّل في قرية الجبل .. هو ذاته وإنْ تقدّمت به السنّ، ذلك المغامر الجسور الّذي تجرّأ على عفافها في غفلةٍ من أبيها وزوجته، المُتاجِر بلحمها منذ أوّل ليلة لها في مدينة الشاطئ، المقامِر الّذي سرق الكثير من أموالها في كازينو فجّ الريح، الضعيف المستقوي بأوجاعها القديمة وصُور الدّم وزوجة أبيها الذبيحة، أمّ سلومة الأعور الّتي دفعت ثمن غلطة ابنها، والأب يقوده الحرس إلى السيّارة وفرارهما إلى مدينة الشاطئ من انتقام الأخْوال والأعمام.

-آش نَحْوَالك؟

-لاباس ..

-انسِيتيني؟

-مازلت اتْقمِّر؟

تناول منديلاً ورقيّا ليمسح العرق المتصبّب من جبينه، وكأنّه أراد التهرّب من الإجابة على سؤالها المباغِت المُسْتفِزّ ..

-باهي الحجّ؟

-تَوَّا تسأل فيّ؟!

عادت بها الذاكرة إلى ليلة الاستعداد للسفر وقرارها إنهاء زمن الحرام والرجوع بالعمارة إلى تاريخها الأوّل .. و لكنّها علمت أثناء عَوْدتها بأنّ سلومة الأعور خدعها، فلم يستجب إلاّ لِظاهر القرار، واكتفى بإبطال التسمية من " كازينو فجّ الريح " إلى " نزل فجّ الريح " في حين واصل تنظيم القمار بأسلوبه الخاصّ واستخدام الأسرّة سِرّا بإخفاء الفتيات نهارًا وتشغيلهنّ ليلاً، وسادة الحيّ موافقون تَمَامًا على ذكائه العمليّ .. عثمان المبروكي عمدة الحيّ يغادر بيته بعد صلاة العِشاء .. يُحكم إغلاق الباب وكلّ النوافذ خوْفًا على بناته وزوجته من بذاءات سكارى آخر الليل .. يتلقّف إحدى نساء سلومة الأعور بعطش المسكون برغبة نَزِقَةٍ لا يستجيب لها بُنيان جسده الهرم المتداعي .. ، الصادق بلخير كبير العسس يتسلّل إلى العمارة بعد نشر رجاله داخل الأزقّة لمراقبة كلّ شيء، ما دَبّ وهَبّ، أصحاب الأفكار الهدّامة والحالمين بمدينة فاضلة ليتناول مع سلومة الأعور في ركن شبه مُضاء داخل إحدى غُرَف العمارة كؤوس الوسكي ويأكل ما طاب من اللّحم المشويّ والفواكه، صالح برّيمة زعيم حزب التسامح والديمقراطيّة في الحيّ يقبّل زوجته وطفليْه بعد سماع نشرة الأخبار التفصيليّة والتعليقات المستفيضة ويدخل إلى العمارة من بابها الرئيسيّ اعتقادًا منه بأنّه يناضل أثناء النهار والليل، ولا بُدّ من الاستماع إلى سلومة الأعور وسادة الحيّ كي يخطّط للبرامج القادمة في مواجهة الفتيان الأشرار أصحاب النظريات الهدّامة الوافدة على الحيّ من الخارج ..

يومَ أن عادت من الحجّ استقبلها في بهْو المطار بأَشْهَر فرقةِ سُلاميّة في البلد مع ثلّة من فتياتها، كُنّ متحجّبات لا يُظهرن من الوجوه والأكُفّ إلاّ القليل، وكأنّها أحسّت بخدْعة مّا وهي تنظر في وجوههنّ .. حاولت قراءة ملامحه دون جدوى لأنّ وجهه كان شبه مُغطّى بنظّارتيْن غليظتيْن، كما تراه الآن .. بدا لها كعادته رجل المواقف الماكرة، وكادت تصدّق توبتهنّ النصوح لَوْلا ضحكة إحداهنّ بدأت تفضح حقيقة الخدمة السرّيّة بعيدا عن أنظار العامّة من سكّان الحيّ، واستحال شكّها إلى يقين حينما أسرّت إليها سوسو في غفلة من سيّدها أثناء تجميعه حقائب الحجّ على نقّالات المطار الخاصّة وتطلُّعه إلى هداياه بفارغ الصبر، بما كان يحدث في غيابها ومساندة كلّ من عثمان المبروكي والصادق بلخير وصالح برّيمة لأنشطته السريّة .. فضّلت في ليلة الاحتفال الأولى بعودتها أن تظهر للعموم بوجه باسم بعد أن تصدّرت المجلس للاستماع بخشوع إلى دقّات البنادير والمدائح والأذكار، وأطلقت، كحفل الاستعداد للحجّ، عنان بكاء صامت سرعان ما انتقلت عَدْواه إلى فتياتها وجميع نساء الحيّ إلاّ الرجال الّذين تظاهروا بالخشوع وآثروا الصمت والابتسام علامَةَ الرضى .. أبصرته في الأثناء جالسا مع عثمان المبروكي والصادق بلخير وصالح برّيمة يدخّنون النرجيلة ويتهامسون. حينما انقضى الحفل وتفرّق الجميع سألته وهي تُكفْكف ما تبقّى من دموع عن المسجد الّذي دعته إلى الشروع في بنائه، واندهشت للأموال الّتي أنفقها دون أن يبدأ في حَفْر الأسُس ولمداخيل الفندق الضعيفة، فأدركت بما لا يدع مجالا للشكّ أنّه عاد من جديد إلى طاولة القمار.طلبت منه كُلّ الدفاتر والطوابع والمفاتيح ..

لمّا غادر فندق " فجّ الريح " كانت ساعته اليدويّة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل .. لم يستعطفها ولم يلتجئ إلى إحدى الغرف كعادته بل اندفع بغضب هادئ إلى أزقّة المدينة العتيقة المُفضية إلى شارع الشاطئ. زخّات مطر مُفاجئ، ورائحة عطنة ذكّرتْه بليلة فرارهما الأولى من قرية الجبل .. مَرّ بشقّة فرج الربعي، نظر إلى حديد النافذة المُقَبَّب: الظلمة في الداخل ..

-كَمْ عدد الّذين سكنوها بعد نجاح فرج الربعي في تجارة الصناعات التقليديّة وانتقاله إلى فيلاّ فاخرة خارج الحيّ. لعلّها بَدَتْ مهجورة تَمَامًا .. كُدْس تراب وحجارة قريبا من العتبة في الأسفل الّتي هي بصدد الإصلاح.

جال ببصره في عَدَد من المنازل داخل الأزقّة .. بَدَت له خالية من سكّانها بعد انتقال جُلّهم إلى أحياء جديدة بالضواحي القريبة .. أحسّ بمرارة في الحلق شبيهة بطعم الرماد، كأنّه الخوف من الضياع أو الندم على ما فات.

-هل يعود إلى فندق فجّ الريح ليعتذر لها أم يفرّ منها إلى زحمة المقاهي والنزل في المدينة الّتي لا تنام؟

أسرع الخطى لمغادرة الرحم المكانيّ شبه المُعتم، واعترضت سبيلهُ حانة الميناء .. تطلّع إلى الداخل من وراء الزجاج والساتر الحديديّ: ضوء شاحب وبقايا ضجيج .. دفع الباب شبه المغلق .. صكّت أنفه روائح الخمرة الرديئة والقيء وبقايا أطعمة .. جال ببصره في المكان: قطّ سمين يتنقّل بتثاقُل بين الكراسي وخمسة سكارى يشربون دون توقّف .. نظر إلى الواقف خلف الطوار، هو ذاته عاشور صاحب الحانة بقامته الفارعة وعينيْه الثاقبتيْن وشاربيْه الكثّيْن ودعابته اللطيفة .. تعانقا بفيض من حبّ قديم .. دعاه إلى الجلوس. وأمر نادله بأن يفتح لهما قارورة نبيذ .. عادت به الذاكرة إلى المدّة الّتي قضّاها في الشغل نادِلاً بحانة الميناء، محبّة عاشور له، فُتُوّته. من يستطيع أن يصمد دقيقة واحدة أمام غضب سلومة الأعور؟، تعلُّق روّاد الحانة بالشابّ الريفيّ، فذلكاته ..

المكان هو ذاته رغم لون الطلاء الّذي تَغَيّر: بياض لطّختْه سريعا أيادي السكارى وآثار دخان السجائر هنا وهناك، صُوَر راقصة من عهد البوادي المُحتفِلة بمواسم الفرح، رجال يلبسون ثيابا من عهود بائدة يتحلّقون حول بدويّة ضخمة الجثّة تتلوّى أمام زكّار وطبّال، والرجال الجُلوس ينظرون إليها بعيون متشهّية، وفي الجدار الآخر صورة سَلوقيّ يطارد غزالةً في مكان صحراويّ، وحذوها مشهد شيخ نحيف البنية يتطلّع إلى قارورة خمر شبه فارغة والكأس ملأى ونثار أطعمة على الطاولة ..

- آش نَحْوَال أُختي زينوبة؟

استيقظ على صوت عاشور الّذي بدا له متغيّرا عمّا كان عليه: بحّة غريبة ولهاث متقطّع ..

-وأنت آش نَحْوَالك؟

تنهّد عاشور قبل أن يجيب على سؤال سلومة الأعور متناسيا لحِينٍ تَهرُّب مخاطبه من الإجابة:

- مانِي اعملت عمليّة جراحيّة على الريّة الإيمين. مرضت يا خويا سلومة عافانا وعافاكم الله بهاك المرض الخبيث. فُقت بيه من الأول وتوّا الحمدولّهْ إن شاء اللهْ هَاكَا حدّ البّاس.

تطلّع إلى وجه عاشور باستغراب وكادَ يلهج بما في داخله لوْلا فطنة الرجل المُحَنَّك الّذي مرّ على حانته رجال بأمزجة وأخلاق مختلفة، فخبر صمتهم وأدرك الكثير ممّا يدور في سرائرهم:

- بطّلت الدخّان وقلّلت من الكاس. توَّا نُشرب على خاطرك. جَيّْتك عزيزة يا خُويا.

دقّق النظر فيه رغم ضوء الحانة الكابي: طاقم أسنان جديد ناصع البياض لا يتناسب والوجه المتغضّن وآثار تعب مُزمِن في أعلى الخدّين قريبا من العينيْن ..

-ما قُتليش آش نحوال أختنا زينوبة؟

-لا باسْ .. لا باسْ .. مازالت كي رجعت من الحجّ ..

بَدَا الانشراح على وجه عاشور، وكأنّه أراد أن يُفيض في القول ثمّ سُرْعان ما عدل عن ذلك إلى التصريح بكلمات مختصَرَة:

-رَبّي عطاها .. حتّى آنِي انفكّر .. الكاس الكاس ياخويا حاولت انبطّلو ما نجّمْتِش .. لازم نجي ونفرح لها ..

قبّل صاحب حانة الشاطئ، الرجل الثاني الّذي وجد منه المساعدة بعد فرج الربعي في الأيّام العصيبة، ووعده بالرجوع قريبا .. ترك مُعلّمَه والنادل المتعب والكراسي الفارغة وروائح نثار الأطعمة ممزوجة بأعقاب السجائر ولُطخ قيء على الإسفلت القذر وذكريات أعوام قديمة ليخرج إلى طريق الشاطئ. رَذاذ خافت بعد مطر غزير .. فيض البالوعات يعوق السائر عن التنقّل صَوْب الرصيف المقابل .. بحث له عن مَوقع آمن بين الأوحال، واستطاع بعْد لأْي أن يَمُرّ من عتبة المغازة العامّة إلى الإسفلت المتلألئ تحت أضواء فوانيس الأعمدة .. تراءى له الليل في الأثناء قطعة من موت مُؤجّل بلا معنى حينما غادر حانة الميناء مملوءًا بالنبيذ والوجع .. تحسّس مُقلته السليمة: دمعة شحيحة دافئة في حجم لؤلؤة تطفر فجأة في وحشة الظلام البارد.

-هل هو الّذي يبكي حَقّا أم كائن آخر يرقد فيه منذ أوّل العمر وقد بَدَأ يستيقظ بالفعل؟

 فَكَّرَ في حانة أخرى .. ساعته اليدويّة تُشير إلى الرابعة وعشرين دقيقة فَجْرًا .. رغبة القمار تُعاوده من جديد .. أسرع الخطى إلى " كازينو النخيل " المُطِلّ على البحر .. تلمّس أوراقه النقديّة في جيب سترته الجلديّة: مئات الدنانير تنتظر طاولة اللاّعبين في آخر لحظات هذا الليل وبهجة الترقّب العاجل ..

لم يعد إلى " فجّ الريح " في الهزيع الأخير من تلك الليلة كما كان يفعل عادَةً بعد مُشاجراته معها .. أدرك بحِسّ فاجع أنّه المسؤول عن كلّ شيء .. بَدَا شعور الندم في تلك الليلة مؤذيا كسكّين حَادّ يُمزّق طمأنينة من كان يُتاجر بلحمها، بَدْءًا بفرج الربعي ومرورًا بعاشور المطيهري وغيره من مئات الرجال الوافدين على فجّ الريح من الأحياء والقُرى المجاورة .. الرجوع إليها لن يكون إلاّ اعترافا، والاعتراف بالذنب سقوط لن يُثمر إلاّ مزيدًا من الخسران. لذلك فضّل الفرار إلى الأمام بعيدًا عن جبروت الأنثى المطعونة في كرامتها طيلة أعوام.

كانت قد طلبت منه الزواج في البَدْء، ولكنّه رفض مُتعللا بقِلّة المال والانتظار إلى أن تتحسّن ظروفهما .. طلب منها الزواج، وحينما تَوَفّر المال، واستطاعت بذكاء خبرة أعوام أن تجمّع ثروة لوحدها دعته إلى التريُّث في انتظار تحويل كازينو" فجّ الريح " إلى فندق محترم بعيدًا عن الحرام.

همّت بمُساءلته عن مناسبة دعوته لها. إلاّ أنّها آثرت الصمت .. بَدَا نحيلاً شاحب الوجه، وارتأت في إطراقه حُزْنا عميقا أو لعلّه الندم .. تذكرّت غربتهما المُفْجعة في ليلة وصولهما إلى مدينة الشاطئ .. لم تتمالك نفسها عن البكاء في صمتٍ مخافةَ أن تُبصرها عيون الجالسين في المقهى .. أحسّت في الأثناء بأنامله تتسَلّل إلى يدها المرتعشة .. خاطبها بلوْعة طفل يلوذ بأحضان امرأة ظنّها أمّه الميّتة خَوْفا من وحشة الليل وطيف غول الحكاية:

-تاخذيني؟!

أطرقت صامتة، وهي تُكفكف آخر دموعها. فأدرك أنّها موافقة على طلبه. وكان ما كان.

 

(4)

زينوبة بنت عبد المقصود تُقيم ثلاثة أشهُر في مستشفى الأمراض العقليّة والنفسيّة بعد غَدْر سلومة الأعور بها.
مانعت في البدء ثمّ أذعنت لإرادة الرجل المستكين الّذي استحال سريعا إلى وحش كاسر .. حينما فَاتَحها في موضوع العودة بالكازينو إلى سالف نشاطه غضبت فانقضّ عليها بوحشة من يمتلك كلّ شيء منذ أن أمضت على كلّ التوكيلات ومنحتْه جميع ما كان في حَوْزتها. بطحها أرْضا وانهال عليها رَكْلاً وضَرْبًا .. بَكتْ توجُّعا من غير أن تصرخ مخافَةَ أن يشمت بها الجيران .. جَرْجَرَها من شعرها بعد أن أسقط لِحافها .. مَزّق سبحتها فتناثرت الحبّات في أرجاء المكان .. بصق عليها .. نَعَتها بالعاهرة ثمّ اغتصبها .. فلازمت الفراش في ذلك اليوم وكادت تهلك من شدّة الغيظ والألم .. حينما زارها لَيْلاً ليعتذر لها طلبت منه أن تستقلّ في سُكناها داخل إحدى شقق الربع الّتي كانت تملكها بعيدًا عن كازينو فجّ الريح كي تعيش بمفردها بعيدًا عن الحرام، وتوسّلت إليه باكية أن ينفق عليها ما تستحقّه من مال مقابل أن تدعه وشأنه دُون رقيب أو مُحاسِب .. كان في البدء يزورها مَرَّةً واحدةً في الأسبوع ليسأل عن صحتّها، ثمّ انقطع عنها لِيُكلّف أَحَدَ عُمّال الكازينو بأنْ يحمل إليها في كلّ يوم ما تحتاج إليه من طعام ودواء ..

لم تعد قادرة على التمييز بين النّهار والليل: الستائر مسدلة خَوْفًا من عيون الشامتين بها .. طابور من أطياف ذَكَريّة تعبر المرآة المقابلة لسريرها، رجال من مختلف الوجوه تخترق ظلالُهم غابة روحها شبه المُعْتمة .. فلا تغادر سريرها إلاّ لحاجة مُلِحّة .. تُحوّل بصرها بين الحين والآخر من المرآة العجوز المقابلة إلى أصوات الباعة المتجّولين في الخارج وتَعَاقُب أضواء الشمس والقمر والظلمة الدامسة وكآبة الفضاء الخارجيّ عند تلبُّد السحب وعويل الريح وهطول المطر .. حاولت في البدء أن تستعيد كلّ التفاصيل منذ أوّل الصُور في طفولتها المتقادمة .. تذكرّت جدّتها أعراس الصيف دقّات الدربوكة الزغاريد الحِنّاء بخور المجامر زينة العروس الرجال الفرسان البنادق مزار سيدي عبد القادر الجيلانِي الخرفان الذبيحة الكسكسي أمّها المتضرّعة إلى السماء أمام حائط المزار الخارجيّ حقول اللوز والمشمش الجبال القريبة أشجار الصنوبر والصفصاف الطيور المُحلّقِة في السماء البعيدة أباها ينظر بافتخار إلى النساء المُزغْردات وبيده السكّين يقطر بدَم الخرفان السليخة .. وبعد ليال من التذكّر تملّكها صداع غريب استحال إلى كابوس حقيقيّ تَكرّر صَرْعًا جعلها تُمسك بالوسادة كي تدفن وجهها فيها وتنتحِب، ثمّ تلتوي وَجَعًا. وآنَ انقضاء الصرْع تتراءى لها أشباح لهياكل عظميّة آدميّة مقطوعة الرؤوس، وتتناهى إلى سمْعها أصوات غريبة: كأنّ أمّها تنتحب في قاع بئر عميقة، وضحكات مستهزئة تطوف بها، وأنفاس رجال غِلاظ متقطّعة تشي بسقوطها الفاضح طيلةَ أعوام الخدمة من فراش إلى آخر. وتتلاحق في الأثناء عبر الذاكرة مئات الوجوه، كشريط غائم من صُور قديمة، عيون متعجرفة لا تعرف الرحمة، وعيون مُحْمرّة تعتعها السُكر، وعيون أخرى مزدحمة بالرعب ..

-      كلّ الرجال أطفال أشرار إلاّ أبوها ..

كانت تُخرج صورته من قَجَر خاصّ أحكمت إغلاقه وحرصت على إخفاء المفتاح في مكان بعيد عن الأنظار .. كلّما أخلدت إلى نفسها في أوقات الراحة أحكمت إغلاق غرفتها وحوّلت ذلك الركن حيث قجر أسرارها إلى محراب .. تعيد النظر إلى قسماته وعينيْه الصارمتين وشاربيْه الكثّين وتتوسّل إليه صامتة بأن يعفو عنها ..

تذكّرت مِرَارًا ليلة فرارهما الأولى في مدينة الشاطئ، فرج الربعي الّذي انقضّ عليها بوحشة الذئب المفترس .. مانعت في البدْء، ثمّ أذعنت لرغبته بعد موافقة سلومة الأعور ..

تفتح قجر السرير لتُخْرج صورته وتتفرّس في ملامحه وكأنّها تفعل ذلك لأوّل مرّة.

-      لماذا تركتني وحيدةً للوحوش تفترسني؟!

تنتحب صامتة .. ترتعب عند إدامة النظر في عينيه الصارمتيْن .. تتذكّر كوابيسها في أيّام سقوطها الأوّل .. طيف أبيها لا يُفارقها، يُلاحقها، يترصّد خطاها، يتراءى لها بين إغماضة جفن وإغماضةِ آخر شاحِذًا سكّينه، ناظِرًا إليها برغبة من يستعدّ لذبحها في وَضَح النهار .. تفرّ منه إلى الأزقّة الملتوية .. تلوذ بالأبواب العتيقة المُغلقة كي تطرقها الواحد تلو الآخر بحثا عن بيت تحتمي به من ظلّ السكّين المسْتطيل .. وكأنّها سمعته يهمس لها ذات ليلة:

-اذهبي إلى قبر أمّك وستجدينني هُناك في انتظارك! قد أعفو عنْكِ ..

توسّلت إليه بأن يُخرجها من بئر الظلمة إلى نور الحياة بعيدًا عن الوحوش المُفترِسة. غير أنّه اكتفي بالصمت حينًا وبالتسويف أحيانا .. اهتمّ في الأثناء بالمال الّذي قرّرت ادّخاره للأوقات العصيبة في أحد فروع البنك القريبة من زقاق موتها المستباح. كلّما سألها عن رصيدها راوغتْه هي الأخرى بأحاديث مُعمَّمة أو جانبيّة .. عشرات الرجال يدخلون إلى غرفتها في اليوم الواحد، وهو في الخارج يذرع الزقاق جيئة وذهابا .. لم يعبّر عن غيرته ولَوْ لمرّة واحدة .. حاولت استفزازه مرارًا دون جدوى بذِكْر فرج الربعي وغيره من بعض الرجال العابرين، فكان يكتفي بالصمت عادةً وينتظر منها المال الّذي يُبدّده في حانة الميناء قبل أن يطلب منه عاشور الاشتغال به غاسل كؤوسٍ وصحونٍ ثمّ نادلاً .. تبكي بحرقة من أضاع كلّ شيء .. تَجُول ببصرها بين المرآة والسجّادة واللمبة الشاحبة في أعلى السقف الهَرِم المتداعي. الريح العاصفة تدقّ النوافذ والأبواب لتوقظ أحزانها ..

وجهها الماثل في المرآة المقابلة نزيف وجع يتناسل أطيافا وظلالا ميّتة .. ويعاودها ذلك الصداع الرهيب .. تدق وجهها في الوسادة .. تتصلّب يداها وساقاها .. تبكي بحرقة من فقد الأمل في كلّ شيء ..

-الانتحار حرام .. الله الأب جهنّم وبئس المصير ..

 تُلْقي بجسدها أرضا باحثة لها عن مساحة أوسع .. تحتضن سَجّادتها لتحتمي بها بغية تخفيف جحيم صرْعها المتكرّر .. تُمْسك ببعض حبّات سبحتها المنفرطة .. تقرأ الفاتحة وتنطق بالشهادة تحسُّبا لوفاة عاجلة .. تسترحم السماء .. وحينما ينقضي الصَرْع تلفظها أمواج الألم العاتية إلى جليز غرفتها الكابية .. تتلمّس العرق المتصبّب من جبينها .. تسترخي استعدادًا لضجعة مُباغتة سرعان ما تُفضِي إلى كابوس آخر في زحمة كوابيسها الّتي لا تنقطع ..

يوم أعلموه بمرضها اكتفى بالصمت، ثمّ غمره حزن كاد يُفقده التوازن لولا عيون عثمان المبروكي عمدة الحيّ والصادق بلخير كبير العسس وصالح برّيمة زعيم حزب التسامح والديمقراطيّة في حيّ فجّ الريح وعديد المناصرين للقائمة الصفراء في الانتخابات البلديّة .. عاد بالجماعة إلى الحديث عن الانتخابات الوشيكة، عن رئيس القائمة الأفضل، عن الطُرُق الّتي يمكن اعتمادها لتصفية أقطاب المعارضة المنافسين لحزب التسامح والديمقراطيّة .. ضحك سلومة الأعور لذكْر أحدهم أقطاب المعارضة .. وكأنّ صالح برّيمة أدرك ما يدور في خُلْده فاندفع هو الآخر في ضحِك مُجَلْجل انتفخت له أوداجه وفضحت ضخامة جثّته المرتعشة .. هَمَسَ في أذنه بعيدا عن مسْمع الصادق بلخير:

-معارضةُ مَنْ؟ ولِمَنْ؟

تعالت ضحكات كلّ من سلومة الأعور وصالح برّيمة مُجلجلَةً، فلفتت أنظار بعض المارّة في الزقاق .. وتزايد ضحكهما حينما فتح عثمان المبروكي عينيْه بعد موجة النعاس المباغِتة الّتي عادةً ما تغمره في مجالس الأحاديث السياسيّة بسبب مرض الضغط الّذي ألمّ به منذ أعوام. ولأنّه مُطالَب في كلّ المواقف حَسَب ظنّه بإبْداء رأيه الصريح فقد اكتفى بتكرار جملته المعهودة بصوتٍ أجشّ متقطّع:

-مربوحة إن شاء الله مربوحة. الصفراء هي الرابحة باللّين وِلاَّ بالقوّة ..

قرّر الصادق بلخير كبير العسس في حيّ فجّ الريح الرجوع إلى الدفاتر الأمنيّة القديمة واستعان بخبراء لمعرفة كلّ التفاصيل: تصريحاتهم في الجلسات الخاصّة، الصحف والكتب الّتي يقرؤون، الأماكن الّتي يرتادون ..

ولأنّ الأمر يستلزم التدخّل العاجل ارتأى كلّ من عثمان المبروكي وصالح برّيمة اختيار أسماء قديمة للترشيح عن القائمة الصفراء، رَغم كونهم وجوها مستهلكة في عقود ماضية، بعد نفْخ الروح فيها من جديد وتلميعها بمِرْهم خاصّ استوْرداه لهذا الغرض من أحَد البلدان الاشتراكيّة سابقا ..

استعاد صالح برّيمة انشراحه حينما عرض له وجه سلومة الأعور:

-أنت الّذي ستكون رئيس القائمة الصفراء المرشّحة لانتخابات المجلس البلديّ القادمة وممثّلي " فجّ الريح " في مجلس الشعب.

لم يصدق في البَدْء ما سمعه. ولعلّ صالح برّيمة يريد المزاح. ولكنّ الموقف لا يحتمل أيّ مزاح، فاكتفى بالصمت إلى أن فاجأه تعقيب عثمان المبروكي:

-سنُراهن عليك في هذه المرّة، وسنَنْتصر كالعادة ..

حوّل البصر إلى الصادق بلخير الّذي بَدَا له موافقا على رأي الآخرين ..

-أموالي بكلّها في خدمة الحملة الانتخابيّة ..

حينما انفضّ المجلس عاوده حزن النهايات. وكأنّ لفظ أموالي أفقده طمأنينة البال، فتمثّلها قريبة منه بوجهها الأسمر الدائريّ وعينيها الطفوليّتيْن رغم أوحال السنين ..

أحسّ بطيفها المعذّب يدقّ باب عزلته في أوّل اللّيل، وكاد يُجهش بالبكاء .. همّ بزيارتها. إلاّ أنّه خاف على نفسه منها، فلازمه الإصرار على الاستمرار في قتلها البطيء بعيدًا عنها .. تذكّر ابتسامتها العريضة، غضبها الطفوليّ الّذي سرعان ما يتبدّد بكلمة غزل واحدة، أمومتها الدافئة كُلّما دسّ رأسه بين أحضانها في لحظات صدقه القليلة، نصائحها الدائمة له رغم إدمانه على القمار، خلواتهما في أعلى كازينو فجّ الريح وليالي الصيف المُقمِرة وأغاني أمّ كلثوم تخترق لحم اللّيل وتُفتّح جراحًا قديمة تنزف دموعا بحُرقة المرأة المُعذَّبَة النادمة على ما فات .. ولأنّها تخاف على نفسها من عزلة مُميتة تُغدق عليه من مالها، كطفل مدلّل يحتاج إلى رعاية الأمّ، وهي تعلم مسْبَقا أنّه سينفقه على القمار والخمرة والنساء في شارع الشاطئ بعيدًا عن نظرها ..

حينما يخلد الجميع إلى الفراش عدا بعض أصوات السكارى في آخر الليل يتملّكها أرق حادّ .. تفتح قَجَر سريرها لتتناول حبّةَ مُنوِّم دون جدوى .. يتناهى إليها في الأثناء نبض صدغها على المخدّة، ويستبدّ بها صداع مُمِضّ، فتهمّ بالصراخ مرارًا، ثمّ تفضّل الألم الصامت خوْفًا على نفسها من شماتة الجيران .. تُحاول نسيان ما هي عليه بتذكّر بناتها في كازينو فجّ الريح: جميلة استقلّت منذ زمان، ولعلّها هي الأخرى في الطريق إلى ملكيّة المال والعقار، دليلة أصبحت زوجة محترمة لشرطيّ أرمل متقاعد، فضيلة انقطعت عن زيارتها منذ شهور لسبب لا تعلمه، لعلّه الجحود .. سُهى هي المخلصة الوحيدة .. تزورها في عشيّة كلّ جمعة، وتنقل إليها بعض أخبار الحيّ من زواج وطلاق وولادة وموت .. ذكرت لها أنّ وُجوها جديدة لفتيات اصطادهنّ سلومة الأعور حلّت محلّ الوجوه القديمة، إلاّ هي فقد أصبحت المسؤولة الأولى عن شؤون الشقق المفروشة .. بدت في الأوّل مهتمّة بما تنقله إليها سُهى من أخبار، ثمّ تناقص اهتمامها تدريجًا، وبمرور الأيّام ..

حاولت ملء فراغها في عشايا أيّام الجمعة بأخبار لا تخلو من الدعابة .. ذكرت لها بعض التفاصيل المُضحكة الخاصّة بعثمان المبروكي أثناء زياراته الليليّة إلى مخدعها، بعديد أسراره العائليّة، بعُنّته المفاجئة أحيانا، فكانت الراوية والمعلّقة الضاحكة في آن واحد .. ذكرت لها التجاء صالح برّيمة إلى أحضانها في غفلة من العيون، وعده لها بالحصول على رخصة خمّارة تُحوّلها إلى صاحبة مال وجاه إنْ حرّرتْه في كلّ زيارة من شذوذ غريب أصابه، عن الصادق بلخير وترهُّل جُثّته المنتفخة وارتخاء أشيائه التحتيّة وعذاباتها معه، عن شخيره الّذي لا ينقطع كُلّما أخلد لاستراحة دقائق على إثر خيبته المتكرّرة ..

-لا، الحقّ راجل، والله راجل .. ها .. ها .. ها ..

كلّما أكثرت في الثرثرة فركت زينوبة جبينها، ثمّ حوّلت البصر عنها. فتدرك أنّ حالة الصرع قد تُعاودها في أيّ لحظة، لذلك تؤثر الصمت لبِضع دقائق، وتنصرف بعد تقبيلها والدعاء لها بالشفاء .. لحظةَ خروجها تنهض من الفراش رغم الدوار الخافت الّذي يلازمها .. تُسرع إلى الخزانة لفتحها كالعادة .. تُبعثر أشياءها: صورة الأب هي الأولى .. وجهه الدائريّ .. تنظر إلى عينيه الصارمتيْن كي تستقرئ فيهما أوجاع سنين من الخدمة العسكريّة ومشاقّ العمل الفلاحيّ في أرضه القاسية وانتظارات المطر .. تهمس له بحنين طفلة ضائعة تبحث لها عن أحضان بعيدة .. أشياء المكان ملوّنة، والصورة أمامها حبيسة لونيْن فحسب: أسود متقادم وبياض عتيق، والملامح آخذة في التفسّخ .. تبكي بحُرقة من فقد الأمل في كلّ شيْء .. تُحاول أن تتذكّر عودته إلى البيت عند الغروب، ارتماءها في أحضانه، اندساسها داخل بُرنسة بعد تناوله العشاء وترشّفه كأس الشاي، نومها المباغت على ركبتيه وبُكاءها كُلّما استيقظت لَيْلا واكتشفت ابتعاده عنها، ملاعبته لها، هداياه الّتي تتلقّفها منه في أيّام السوق الأسبوعيّة، رائحة عرقه والسجائر كلّما دسّت وجهها في صدره عند الاسترخاء استعدادًا للنوم ..

قاومت إغواءه مرارًا، ثمّ انهارت في غفلة من أمّه عند غيابها عن البيت .. أولج فيها سكّين وهجه القاتل .. آنذاك أدركت أنّها فقدت طفولتها إلى الأبد .. حذّرها من إعلام والدها بما حدث .. هدّدها بالقتل إنْ أقدمت على ذلك .. غَضَبُ الأب السِِكّين الأمّ المرتعبة الطعنة الدّم شريط من صُور لزلزال هائل، فانهيار كلّ شيْء: الأشجار الأطيار الأبواب الشبابيك المرايا، حتى الوجوه لم تعد وُجوها في نزيف الظلال الأطياف العذابات .. ثأر العشيرة كان يُرعبها، وليس لها آنذاك إلاّ الفرار معه إلى حيث يشاء ..

المرآة قبالتها تنظر إلى موتها البطيء بصمت بارد ..

- لمن تشكو أوجاعها والسماء موصودة الأبواب، والفراغ المحيط بها ثعبان يمتصّ رحيق ما تبقّى من عمرها الذابل، الليل نفق بلا انتهاء، والنهار جُرح لا يندمل .. تحتمي بالوسادة وطرف الغطاء القُطْنيّ كلّما تعاظم صداعها .. تترشّف كأس الألم بقهر أنثى هالكة منذ لحظة الاغتصاب الأولى .. تُضانِك وجعها بمحاولة فتْح عينَيْها كي تنظُر إلى المرآة المُقابلة: شبح امرأة قاربت عتبة الشيخوخة يلتوي بين الوسادة وطرَف الغطاء، يتشبّث بحاشية السرير الفولاذيّة، يدفن وجهه في الوسادة حينا ويعلو رأسه حينا آخر، يهتزّ بعُنف ألم مُمِضّ، يصرخ بصمت، كأنّه يتوسّل إلى السماء أن يُنهي الفضيحة في أسرع وقت، ولا سماء يَتطلّع إليها عَدَا سقف حجرة تقادَم طلاؤه وبدأ يتقشّر ولمْبة عتيقة بضوْء شاحب وخيوط عنكبوت وآثار ذباب. يتطلّع إلى الشرفة المُطِلّة على الزقاق دون جدوى، لأنّ الضجيج الصامت بالمرصاد، كدويّ طائرات يفد عليه من زمن أقاصي الحروب الماضية، فتتصلّب ساقاه مثل شاةٍ تُذبح. يغمره وجع ناريّ يندفع سريعا إلى أعالي الدماغ، ثمّ ينحدر إلى أسافل الرِجْليْن، ثمّ ينقلب ذلك الوجع إلى لَذّة فارتخاء، ويتدفّق في الأثناء سيل من عَرَق بارد يغمر كامل الجسد، وتنهمر دموع آخرِ لحظة للمشهد المرآويّ المُسْتعاد ..

فكّر في زيارتها ذاتَ ليلة بعد أن شرب عديد الكؤوس .. كان لأمّ كلثوم تأثير في اتّخاذ قراره المفاجئ بعد أن تذكّر بعض لحظات صفْوهما في أعلى سطح كازينو" فجّ الريح ": القمر الصيفيّ وكؤوس الوسكي يشربها بتلذُّذ خاصّ وبخور مجمرتها وابتساماتها الطافحة على الوجه بألق طفوليّ تعقبها دموع فرح مشوب بالندم تمسحها على عجل كي تُخفيها عن ناظريْه مخافة أن تُكدِّر لحظة سعادته، حنان الأمّ كُلّما أصابته نزلة برد واستفاقتها بالليل عديد المرّات لِتسوية الغطاء أو تلمُّس جبينه ..

- أنت آخر ما تبقّى لي من رائحة العائلة والبلاد .. كان يُدرك أنّ وهنها القاتل ماثل باختصار في تلك الجُملة .. فهي القويّة منذ أوّل سقوط لها في فراش فرج الربعي، وهي القويّة باستمرار طيلةَ أعوام الخدمة بعد أن أدارت ظهرها لماضي الفجيعة وراهنت على المال الّذي اكتسبتْه في كازينو"فجّ الريح " .. منذ أن طعنها بسكّين رغبته الهوجاء وهو يعلم أنّه يُمثّل بالنسبة لها موتها العاجل أو الآجل ..

صعد السُلّم ليقف مرتعبا أمام بابها .. همّ بالضغط على الجرس .. إلاّ أنّ أصابعه المرتعشة لم تستجب لإرادته .. أحسّ بخوف مباغت شبيه بخوف صبيّ، ارتكب إثما، من أمّه .. غالب خوفه دون جدوى .. نظر من ثقب الباب إلى الداخل، فأبصر في الأثناء ضوْءًا شاحبا، وكأنّه سمع نشيجا متقطّعًا .. آنذاك تراجع خطوتيْن إلى الوراء .. نزل السلّم سريعا ليفرّ إلى الزقاق ويندفع إلى حانة عاشور كي يعبّ كؤوسًا أخرى ويمضي إلى طاولة القمار في كازينو الشاطئ القريب.

هي تعلم أنّه حاول مرارًا زيارتها، ولكنّ ندمه على ما فعل حال دون ذلك .. تعلم بحدْس المرأة الّذي لا يُخطئ في مثل هذه المواقف بأنّه يُداري عن رجاله سأمًا قد يدفعه ذاتَ يومٍ إلى الانتحار .. وكأنّها أبْصرتْه في ليالي وجعها المُستعاد يندفع في اتّجاهٍ ثمّ سُرْعان ما يُغيّر الوجهة، يعبّ الكؤوس تلو الكؤوس ولا ينام إلاّ قليلاً، يتلجلج كعصفور جريح في قفص ليليّ ..

رأته في أحد كوابيسها، بعد صَرْعٍ حادّ، يجلس القرفصاء تحت شجرة قميئة في العراء .. لامست رأسه، فكشف عن وجه ليس وجْهَهُ، لعلّه لأبيها وأحد أبناء أعمامها مَعًا .. شعرت برعب مباغت حينما نظر إليها شَزَرًا، فهرولت بعيدا عنه والشجرة .. كأنّ الوقت ظهيرة: شمس ساطعة، والثعابين تزحف إليها، وفِراخ الحائط تتهاوى لتسقط بين طيفها الهارب منها والثعابين الهاجمة على كلّ ما في المكان .. صرخت بلهفة من تبحث لها عن ملاذ آمن، فأبصرته واقفا على حافّة بئر يحاول الابتعاد عن الهُوّة ويصرخ هو الآخر بكلمات لم تتبيّنْها في زحمة الظلال المفترسة، ثمّ رأته يَهْوي في قاع البئر .. همّت بمساعدته على الخروج من الهوّة إلى السهل القريب حيث الطريق المُعبّدة والسيّارات تطوي الأرض في لمح البصر، غير أنّ الجسد لا يُطاوعها، فلا تقدر إلاّ على الصراخ وحيدةً في العراء الّذي استحال سريعًا إلى فراش مرضها الدائم ..

سألته في إحدى مناسبات إلحاحه على الزواج بها:

-هل أنت قادر حقّا على أنْ تكون زوجًا؟

ولسان حالها يقول:

-هل أنت قادر حقّا على الوفاء؟

أجاب بنبْرة الواثق بما يقول:

-أنا زوجك في الواقع، ولن تكوني لغيري..

المرآة العجوز ترمقها بعين شامتة .. لعلّ صراخها الحادّ قد أزعج في هذه المرّة سُكّان الشقّة المجاورة .. يُعاودها الأمل في شفاء عاجل .. تغادر الفراش لتسير خطوات، فتترنّح في مشيتها لتسقط وينقلب صراخها إلى عويل خافت حادّ يُبدّد صمت الشقّة شبْه المظلمة.

لمّا أعلموه بما أصابها من نوبة عصبيّة حادّة في تلك الليلة أسرع إليها .. أبصر عَدَدًا غفيرًا من الرجال والنساء والأطفال على السُلّم .. بدت له الوجوه في حالة ذُعْر أمام مشهد ليليّ غير عاديّ: شرطيّ وطبيب وممرّض وامرأة في آخر الكهولة مُمَدَّدَة على نَقّالة استشفائيّة وضحكات هستيريّة متقطّعة .. ، ثمّ إطلاق سيّارة الإسْعاف صوتَها الجارح لصمت الليل واندفاعها بقوّة في أزقّة " فجّ الريح " باحثة لها عن الشارع القريب.

آنذاك أرسل دَمْعتين، وكان آخر عهده بالبُكاء.

 

(5)

سلومة الأعور يترشّح لِعُضْويّة مجلس الشعب وينجح في الانتخابات
ارتخاء كآخر انطفاء لنجوم بعيدة في مكان بجدران سميكة بلا مرايا وجع ذكرى ليلة السقوط صفّارة الإنذار تشقّ كبد اللّيل فيبكي بعض الصّغار ذُعْرًا الباب المُوصَد بين رغبة الانتقام وأوّل بارقةٍ لأمل فَقَد فرحه إلى الأبد رذاذ فجر خريفيّ كأنّها أبصرت في زحمة الوجوه طيفه باهت الحضور يندفع إليها كي يتراجع سريعا ويختفي تمامًا موجة ظلال في نزيف اللحظات تئنّ على النقّالة وعيناها إلى سقف الدُرُج شبه المتهدّم ثمّ إلى سماء الزقاق الّتي بدت لها صحراء بلا نجوم أذان الفجر وبدء الحركة والمقهى يلفظ آخر أضوائه الشحيحة قريبا من ظُلمة أكداس القمامة في الزوايا المقابلة عظام أبقار الجزّارين لم تحملها بَعْدُ شاحنات البلديّة وشوشات المُشفقين عليها وسُوسُو تشقّ الزحمة إليها وتجلس قريبا منها بعد إصرار في سيّارة الإسعاف رغم اعتراض الطبيب والممرّض والشرطيّ الواقف قريبا من الباب الخلفيّ تُمسك يدها وتقبّل جبينها المتفّصد عَرَقا وتنتحب صامتةً السائق برأسه العِجليّ وشاربيْه الكثيْن ينتظر من الطبيب إشارة الانطلاق بعد أن اطمأنّ لإغلاق الباب أزقّة ملتوية تُفضِي إلى شارع الميناء القريب أضواء تلفظها أبواب المقاهي ومطاعم الأُكلات السريعة اللبلابي تذكّرت ليلة الهروب الأولى الصحفة الواحدة اشتركًا مَعًا في أكلها والمطر الغزير وأوحال المدينة العتيقة وشقّة فرج الربعي و .. النقّالة وهَرْولة الجميع نحو المصعد والقاعة في الطابق الثالث والصداع يُعَاوِدها بألم أشدّ ضراوةً فتصرخ الحقنة ثمّ الإذعان لضجعة مباغتة وكوابيس لم تتذكّر منها شيئا عند يقظتها لَيْلاً في اليوم المُوالِي ..

حينما عادت إلى شقّتها بعد شهر من التداوي انتظرت زيارته بفارغ الصبر، ولكنّه لم يأت، بل قرّر الفرار منها إلى حياته الجديدة في عالم المجد السياسيّ الّذي ينتظر .. لم تبخل عنها سوسو ببعض الأخبار في كازينو " فجّ الريح " ..

- السيادة. ما الّذي يعوقه عن الوصول إليها؟ فكلّ الرجال في الحيّ ومدينة الشاطئ تجاوزوا السبعين، وما عادوا قادرين على تحمّل المسؤوليّة .. ولكنْ عليه أن يبحث له عن شرعيّة غير شرعيّتهم ..

المال. أدرك أنّه يستطيع أن يمتلك كُلّ شيء، بما في ذلك السلطة والجاه، إذ يكفي أن يُنفق بضعة آلاف من الدنانير ليحظى بموافقة الجميع.

و يشرع في إقناع المقرّبين من أصحاب القرار في حيّ فجّ الرّيح بأنّه من الثقات المخلصين لسياسة مدينة الشاطئ .. أمكن صالح برّيمة زعيم حزب التسامُح والديموقراطيّة أن يُحوّله إلى مُناضل كبير ونَسَجَ حكايات أذهلت سُكان الحيّ بأنْ روى لِجُلاّس مقهى الربع عن أبيه المناضل الّذي هلك في أحد سجون الفرنسيّين المستعمرين تحت التعذيب، عن الطفل الّذي تحمّل مسؤولية أمّه وإخوته الثمانية منذ سنّ العاشرة، عن مساعدته للمقاومين ضدّ الاستعمار، عن ثروته الّتي تحصّل عليها بعرق الجبين بعد أعوام من الجوع والتشرّد في أرض اللّه الواسعة إلى أن استقرّ به المقام في حيّ " فجّ الريح "، عن شهامة الرجل الّذي وقف إلى جانب الحاجّة زينوبة بنت عبد المقصود في أصعب الظروف وإقناعه لها في السابق بالتخلّي عن الانحراف وإعلان توبتها النصوح والتوجّه إلى بيت اللّه الحرام، عن تطلّعاته العصريّة الّتي تخدم سياحة البلد، عن إيمانه العميق بالديموقراطية وحقوق الإنسان، عن اعتقاده الراسخ في الحوار، عن إنفاقه المال لبناء مسجد بمئذنة طويلة جدًّا ومساعدة الأسَر المُعْوِزة في الأعياد، وفريق كرة القدم في الحيّ، عن تخفيضه لسعر قارورة الجعة في حانة " فجّ الريح " في أيّام العطل الرسميّة وفي نهاية الأسبوع، عن توفيره المكان الآمن بمراقبة طبّيّة دائمة للشبّان كي يقيهم من شتّى الأمراض الجنسيّة بتوفير ما يلزم من أدوات، عن مساندته الدائمة واللاّ-مشروطة لحزب التسامح والديمقراطيّة صاحب النجاحات المذهلة في كلّ المناسبات الانتخابيّة ضدّ الغوغائيّين من الأحزاب الأخرى المعروفة بمواقفها الهدّامة، عن تجنيد رجاله الشداد بهراواتهم ورؤوسهم الغليظة لملاحقتهم أحيانا وضربهم عند الاقتضاء ضرْبًا مُبَرَّحًا ..

حينما أدرك سلومة الأعور أنّه أصبح قاب قوسيْن أو أدنى من تحقيق رغبته في أن يُصبح سيّد الحيّ الأوّل دون منازع استدعى في عشاء خاصّ كُلاّ من صالح برّيمة وعثمان المبروكي والصادق بلخير رئيس العسس ومنصف عزّ الدين إمام الجامع الكبير وفرج الربعي صديق الشباب، تاجر الربع الشهير ومالك عديد المغازات المخصّصة لبيع الزرابي وغيرها من المصنوعات التقليديّة لآلاف السُيّاح الأوروبيّن، وسالم ضَوْ أستاذ القانون الدوليّ ..

أعدّ لهم طاولة كبيرة فاخرة في مكان الخلوة المعتاد بعيدًا عن عيون المتطفّلين، هناك في شقّة مؤثّثة فاخرة بالطابق العُلويّ الّذي يُفضِي إلى مَمَرّ خاصّ ..

تَعَمَّد إحضار سوسو لتكليفها بخدمة الجميع.لبست أجمل الثياب، وتعمدّت إظهار مفاتنها لبثّ كهرباء الشهوة في أجسادهم .. كانت تنحني على الرجال واحِدًا تلو الآخر عند وضع الصحون وتوزيع ما طاب من الطعام لِتنفث فيهم رائحة عطر حارق امتزج بروائح الوسكي والنبيذ والجعة المنبعثة من كؤوس شاربيها .. و لأنّ الموقف لا يحتمل الخطأ فقد أوْصاها باحترام الشيخ منصف عزّ الدين هَمْسًا .. حرصت على أن تتصنّع الحشمة كلّما اقتربت منه لتقديم مَا طاب من الشراب الحلال، كعصير غلال، مع صحون أطعمة صحّيّة خاصّة بشيخ في الثمانين يُعَاني من ضغط الدّم والسُكّري ..

افتتح الشيخ الوَرِع الجلسة بالبسلمة والحمدلة والمباركة، ثمّ لاذ برُكنه الخاصّ في أقصى الطاولة قريبا من النافذة المطلّة على ساحة الربع، مكتفيا بالاستماع إليهم والأكل بشهيّة دون نسيان ما يستدعيه السياق من إلقاء ابتسامة في الأثناء لِسُوسُو شاكِرًا لها دعاءها له بدوام الصحّة وطول العُمُر ..

بادر صالح يرّيمة بِمُساءلة فرج الربعيّ عن نيته في الترشّح لانتخابات مجلس الشعب .. وأدرك جميع الحاضرين أنّه يرغب في إزاحته عن طريق سلومة الأعور بأسلوب وِدّيّ، لتحويل التنافس إلى تعاوُن جدّيّ يخدم مصلحة الشخصيْن مَعًا والجميع دون استثناء، وقد جرت عادة اعتماد هذا الأسلوب لَدَى أكثر المنتمين إخلاصا لحزب التسامح والديمقراطية. وحينما تأكّد زعيم الحزب الغيور على مُوَاطني حيّ " فجّ الريح " من أنّ سلومة الأعور هو المُرشَّح الوحيد لِخوْض مَعْمَعة الانتخابات دَعا الجميع إلى التعاوُن لتحقيق النصْر مرّة أخرى لحزب التسامُح والديمقراطية .. لم يَرَ سالم ضَوْ بُدًّا من الاستفسار عن مترشّحِي الأحزاب الأخرى .. آنذاك ابتسم صالح برّيمة، لأنّه أدرك بحسّه السِياسيّ المُرْهف أنّ أعمال الجلسة قد انطلقت بالفعل عند طرح السؤال الخاصّ بمترشّحي أحزاب المعارَضَة. أسرع في إفراغ كأس الوسكي في بطنه المنتفخة وعيناه تتنقّلان دون كَلل بين الأستاذ سالم ضَوْ والشيخ منصف عزّ الدين، ولعلّه بذلك يستقرئ أفكارهما الحقيقيّة في تلك اللّحظة بالذات.

أشار إلى سوسو بتقديمه كأسًا أخرى .. تعمّد الصمت لبعض الثواني كي يشدّ إليه انتباه الجميع قبل التصريح بقائمة أسماء المُرَشَّحين:

- ثلاثة إلى حدّ الآن: منير الفرحان عن حزب التقدّم والحُريّة، وهو طبيب أسنان بلا أسنان بعد أن فقدها في سهرة خمريّة واستعاض عنها بطاقم أسنان مُسْتعار، وسالم قمر أستاذ القانون المدنيّ عن حزب المساواة، سوّد اللّه وَجْهَهُ، شُطِب اسمه من قائمة القُضاة والمحامين بعد أن تطاوَلَ على أستاذنا سالم ضَوْ واتّهمه بالتحايُل على القوانين والتشريعات في إحدى المناسبات الانتخابيّة، وعليّ الرِبْحيّ، شيخ متقاعد في الستّين عن حزب الاستقلال، تعرّض للمحاكمة بعد أن أمسكوه في قضيّة لِواط، ثمّ عَفَوْنا عنه لصالح البلاد والعباد عملاً بنصيحة شيخنا الجليل.

أدرك الشيخ منصف عزّ الدين ضرورة الإدلاء برأيه في مثل هذه المواقف:

-لقد زارني عليّ الربحي قبل المحاكمة وأعلن التَوْبَة، كما طلب منّي التدخّل لديك لمُساعدته على الخروج من المأزق، ووجدتُ منك آنذاك أُذنا صاغية .. سأقنعه بالانسحاب والوقوف إلى جانب ولدنا العزيز سِي سلومة. أمّا مُنير الفرحان فاللعنة عليه، ولن يجد إلاّ القلّة من المناصرين له لأنّه، كما تعلمون، زانٍ سِكّير، وله فضائح أخرى سأعلمكم بها عند بَدْء الحملة الانتخابيّة بإذن اللّه. وأمّا سالم قمر فلن يكون له شأن لأنّه المعروف بتسكّعه بين الحانات إلى آخر الليل .. ألاَ تعلمون أنّه سليل أسرة فاسدة: أب غير مسؤول وأمّ منحرفة ..

لم يتمالك عثمان المبروك نفسه عن الضحك، استحال الضحك إلى قهقهة مُجَلْجِلَة شملت عَدْواها الصادق بلخير، ثمّ الجميع بما في ذلك سوسو الّتي تراخت بكامل جذعها على كتف الشيخ بَعْدَ أن سرى خَدَر الوسكي في كامل جسدها وتعاظَمَ بالضحك، بل كادت تهمّ بتقبيل الشيخ لولا يَد سلومة الأعور الّتي أمسكت بيدها المرتخية الملتفّة بعنق الشيخ وجذبتها بقوّة أوجعتْها، فكادت تُسقطها أرضا .. أمرها بنبرة حازمة أن تلتحق بغرفتها كي يُواصل هو بنفسه تعمير الكؤوس في جلسة مصيريّة حاسمة لشخصه قد يتحوّل بها إلى مقام السيّد الأوّل في حي " فج" الريح ".

أدرك بحدسِ من جرّب أرذل الحالات والمواقف أنّ السيادة الأولى مُتاحة لَهُ تَمَامًا، وعليه أنْ يُحسن التصرّف كي لا يفرّط فيها. كما تيقّن بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ التاريخ لا ينجزه إلا الرجال طَبْعًا. فليس له من الحلول كي يضمن لنفسه الاستمرار في أعالي المجد إلاّ البدء بتصفية الرجال، الواحد تلو الآخر، بما في ذلك أولائك الجالسين أمامه. سَيُحَوّل حزب التسامح والديمقراطية إنْ أمكن له النجاح إلى نَادٍ خاصّ يستقبل المُناصرين له من كلّ صوب وحدب.

-كيف التعامُل مع رجال " فجّ الريح "؟ والصادق بلْخير؟ وعثمان المبروك؟ وفرج الربعيّ؟ وسالم ضَوْ؟ ..

لم يحن التفكير بعد في كُلّ التفاصيل. حينما اتّفق الجميع على ترشيحه لِمجلس الشعب أدرك أنّ مُشكلة وحيدة لا تزال تعترض سبيله حَقّا، تلك المرأة ..

أَمَرَ سُوسُو بزيارتها ليلاً نهارًا والوُقوف الكامل على خدمتها .. أَمَرَ أحد رجاله بمُراقبة مَدْخل العمارة الرئيسيّ حيث شُقّتها ومعرفة أسماء كُلّ الزوّار.و لأنّه لا يثق تمامًا بأقوال سوسو رغم مشاركتها له الفراش مرارًا وتكرارًا فقد استعان بخبْرة الصادق بلخير، رئيس العسس لِمعرفة كُلّ التفاصيل .. وقبل الانتخابات بأسبوع جنّد سلومة الأعور الفِرَق النحاسيّة والطبّالة والعيساويّة .. لبس جُبّة حريرٍ فاخرة وشاشية حمراء واصطحب كُلاّ من صالح برّيمة وعثمان المبروكي والشيخ منصف عزّ الدين وفرج الربعي وسالم ضوء في جولة بالشوارع والأزقّة في " فجّ الريح ". أمّا الصادق بلخير رئيس العَسس فقد تظاهر بالمُحايَدة كعادته في مثل هذه المناسبات .. رقصت فتيات الكازينو احتفالاً بالحدث .. أغْدقْن الوفير من أنوثتهنّ المُسْتباحة على زُوّار الكازينو لَيْلَةَ الانتخاب .. واستهلك الرجال مئات القوارير من الجعة وشتّى أنواع الخمور في حانة الحيّ، كما تناولوا ما طاب من الأطعمة مَجّانًا .. و لأنّ الحملة تقتضي تحسيس الشباب بالحَدَث على وجه الخصُوص فقد اكتظّت القاعة الكبرى في أعلى الكازينو بمئات الفتيان والفتيات في حفل موسيقيّ راقص ..

و في صبيحة اليوم الانتخَابيّ لم يُلاحظ المُراقبون الدُوليّون أيّ اختراق للقانون: أعداد أنصار سلومة الأعور غفيرة، وأنصار منير الفرحان وسالم قمر قلائل، كأساتذة الجامعات بوجوههم الشاحبة وبعض الحُرفاء ممّن أخلصوا لمنير الفرحان، وثلّة من المثقّفين بثياب رَثَة وأحذية غير مُلَمّعة، يدخّنون السجائر أثناء أداء الواجب الانتخابيّ وينتظرون بفارغ الصبر انتصار سالم قمر .. كانت مُكبِّرات الصوت على امتداد أيّام الحملة الانتخابيّة تصدح بالأناشيد الوطنيّة وذِكْر أعمال سلومة الأعور الرجل الخيّر، كتشييد مسجد البَرَكة وترميم الجامع الكبير و .. و .. حضرة العيساويّة والأعلام الكبيرة الخضراء تخفق في أيادي الرجال الراقصين دقّات البنادير الطبول عزف المزامير السُيّاح المنبهرون بما تحقّق من إنجازات فولكلوريّة في حيّ " فج" الريح " المقهى يعجّ بجُلاّسه المستبْشرين خَيْرًا أطفال المدارس يُغنّون ويرقصون بأعلامهم الوَرَقيّة الصغيرة العجائز والشيوخ يدعون لسلومة الأعور بالنجاح، وسلومة الأعور منتشٍ بما يرى ويسمع يظهر حينا ويختفي أحيانا كي يُجالس أفضل رجال حمْلته ويتابع عن كثب ما يحدث ساعةً بساعة.

كلّ الأنباء الخاصّة بمُنافسيْه الآخريْن يحملها إليه عثمان المبروكي. فيشرب سلومة كؤوس الوسكي رفقة صالح برّيمة وينتظر زيارة الصادق بلخير ليْلا كي يعلمه سِرًّا بأخبار الأحياء الأخرى القريبة والنائية ليلةَ يوم الانتخابات. وفي ساعةٍ متأخّرة أعلن التلفزيون فوز قائمة حزب التسامح والديمقراطية الساحق بزعامة سلومة الأعور بتسعة وتسعين بالمائة وتوزُّع نسبة الواحد بالمائة على كُل من حزب التقدّم والحريّة برئاسة منير الفرحان وقائمة حزب المساواة بزعامة سالم قمر ..

لم يَنَمْ حيّ " فجّ الريح " بعد التصريح بالنتائج: الطبول بنادير العيساويّة قوارير الوسكي والخمرة والجعة والشراب الغازيّ تفيض بها صناديق القُمامة .. ، كما تمازج فجْرَ ذلك اليوم الهُتاف والتصفيق والتصفير وزغاريد فتيات الكازينو والأذان المُنبعِث من مُكبّرات الصوت في أعالي صومعة مسجد الرحمة ..

استيقظت زينب بنت عبد المقصود مذعورة على ضجيج الشارع في ساعة مُتأخّرة من ذلك الليل .. تملّكها الصُداع ذاته حينما سمعت اسمه تهتف به حناجر المئات، ثمّ استبدّت بها حال من الصرْع المباغت .. تمسّكت كعادتها بالوسادة كي تدفن وجهها فيها وتنتحب وتتلوّى وَجَعًا .. ترشّفت في الأثناء كأس ألمٍ مُمِضّ بمُهجة امرأة مطعونة في كرامتها منذ أوّل اغتصاب .. اندفعت بما تبقّى لها من جهد آنذاك إلى باب شُقّتها .. فتحَتْه لتخطو خطوتيْن ثمّ تسقط وتتدحرج على السُلّم .. تلمّست آثار دم في الرأس .. لم تتمالك نفسها عن الصراخ.فانفتحت أبواب الشقق، وظهر سكّانها مذعورين. همّوا إليها ..

عند بَدْء صباح اليوم المُوالِي خَفَتَت الأصوات إلاّ مُنبّه سيّارة الإسعاف يُعْلن حدثا طارئا ويخترق الأزقّة إثْر التجاء سُكّان الحيّ إلى أسرّتهم فرحين بفوز سلومة الأعور، للاستمتاع بضجعةِ ساعاتٍ قليلةٍ قبل ازدحام الشوارع والأزقّة بالمارّة والسُيّاح وامتلاء مقهى الربع بالجلوس وآخر الأنباء.

 

(6)

زينوبة بنت عبد المقصود تستعيد بعضا من الصِحّة وتُصرّح بكلام خطير في إذاعة الشباب
لأوّل مرّة بعد شهور من ملازمة الفراش غادرت شقّتها للتجوال في أزقّة حيّ " فجّ الريح" .. مرّت أمام دكاكين الجزّارين وبائعي المُكسَّرات والحِنّاء والبخور ومغازات بيع الصناعات التقليديّة للسيّاح الوافدين بأعداد غفيرة على الحيّ العتيق .. استعادت فرحا قديما وهي تُضانك الزحمة وتستنشق روائح الزهر والنعْناع والبخور الّتي تلفظها بعض البيوت والمغازات .. غمرتها موجة حُبّ عارمة لِسُكان الحيّ وأدركت في تحيّات أصحاب المتاجر احترامًا خاصّا جعلها تستعيد أمل الاستمرار في البقاء .. سألوها عن صحتّها واستبشروا خيْرًا بظهورها المفاجئ بعد غياب طويل .. إلاّ أنّها سرعان ما أحسّت بالإعياء عند إيغالها في الأزقّة القريبة من سور المدينة، وفكّرت في الرجوع إلى شقَتها .. زخّات مطر وبدء صُداع ودُوار خافت حفزتْها على الإسراع في المشْي .. مرّت أمام مقهى الربع .. هناك بدَا لها بطلعة شابّ يافع ذلك الطفل الّذي لم يعد طفلاً .. حينما أبصرها تتباطَأُ من شدّة الإعياء أسرع إليها بكرسيّ عارضا عليها الجلوس بعد أن قبّل جبينها .. كاد يُجهش بالبُكاء، ثمّ تمالك نفسه حينما أبصر غضبا مّا في عينيها لا يخلو من حبّ مُتَقادم عنيف، بل ازداد يقينا من غضبها عند إشاحة وجهها عنه وافتعال النظر بصمت إلى المارّة .. تذكّرت في الأثناء لثغه .. تذكّرت ذلك الطفل الّذي أسْمتْه خميّس بنفسها ونسبتْه إلى أحد رجالها العسس .. هو ذاته خميّس المطيهري، ثمرة خطيئة إحدى بناتها في كازينو " فجّ" الريح " الّتي فرّت بعد وضعه مع عشيقها في صبيحة يوم من عام 1971 لتدعه للصدفة والمجهول ولامرأة شبّ على حُبّها ولم يجد سِواها في حياته .. كان أترابه في الحيّ يصفونه باللقيط كلّما شبّ خلاف .. أمّ هاربة، وأب مجهول، وفشل مدرسيّ وانحراف وخصومات عنيفة دامية متكرّرة مع سلومة الأعور وإدمان على المخدّرات وعديد السرقات في الأحياء المجاورة وسجن ثمّ إعلان التوبة والعمل نادِلاً في مقهى الربع .. بَلَغَهُ خبر حجّها حينما كان في السجن .. علم باستيلاء سلومة الأعور على جميع ممتلكاتها بعد تطليقها ومرضها المفاجئ .. لم يفكّر في زيارتها بعد خروجه من السجن ولو مرّة واحدة.

-هل يتعمّد الفرار منها انتقاما لها منه أم انتقاما لنفسه من أمّه العاهرة الّتي هجرته ذات يوم من عام 1971 لتدعَهُ فريسةً لشفقة الجميع وحبّ امرأة غريبة؟

سأل سُوسُو عديد المرّات عنها، فنصحته بزيارتها .. إلاّ أنّه أصرّ على موقفه الغامض. عاد ليُقبّل جبينها بفرح ذلك الطفل القديم الّذي لم يعرف حبّ الأمّ إلاّ في حضرتها ..

خميّس المطيهري طفل زينوبة بنت عبد المقصود المدلّل في بَدْء أعوام السقوط .. كأنّها أدركت بعض ما يدور في خلده، فغمرها فيض حنان مُباغت جعلها تنظر إليه بعينيْن دامعتيْن .. بَدَا لها أنّه لم يعد ذلك الطفل الّذي لازمها الفراش ولاذ بأحضانها في ليالي المطر والريح والخوف من أشباح الظلمة في الخارج: أثر نَدْب عميق لسِكّين في الخدّ الأيمن يشي بخصومةٍ دامية في زمن غير بعيد .. وتراءت له مُتعبةً حزينةً شاحِبةً.

وَجَعُ السنين ليالي القلق في أعلى الكازينو حيث غرفتها والريح العاوية ولثغها الملائكيّ يطرد عنها أشباح الجريمة والدّم والسكّين وأبيها القاتل والحرس وإغراءات سلومة الأعور وأمطار أوّل ليلة في المدينة وفراش فرج الربعيّ وزُوّار النهارات والليالي الميّتة .. كانت تحتمي به ويحتمي بها رضيع الشهور الأولى .. تَتَذكرّ كتلة اللّحم في بدايات الحواسّ لمّا بدأت تنمو، تتعاظم، فيقف الطفل في سريره الصغير الفاخر، يبكي، يتباكى، يضحك، يدعوها إليه كي يُقبّلها، وترى فيه صديقها الوفيّ فتحتمي به، في انتظار عودة سلومة الأعور سكرانَ عند الفجر بعد أن بَدّد المال في سهرةِ قُمار .. كان يعود إليها ليستعطفها ويتظاهر بحبّها ويضاجعها بحيلة المقامر يبتغي مزيدًا من المال كي يبدّده في طاولة قمار آخر.

بين سلومة الأعور وذلك الطفل الرضيع مسافة ما بين الذكورة القاتلة وأمومتها المُعَذّبة .. ويكبر الطفل .. يتعلّم المشي والكلام .. ينزل الدُرُج إلى الزقاق كي يلاعب أترابه من أطفال الحيّ .. يندسّ في زحمة المارّة .. يقف مُنْدهشا في البدء أمام صفوف زُوّار الغُرف المظلمة في الزقاق الضيّق المجاور لكازينو " فجّ الريح "، وبنات أمّه يظهرن ويختفين خلف الأبواب .. كان يُبصرهنّ بين الحين والآخر شبه عاريات حينما تنفتح الأبواب لتلفظ رجالاً من جميع الأعمار: شبّان، كهول والبعض القليل من الشيوخ .. ويفّر من شتائم عليّ المطيهري كبير العسس، ذاك الّذي اختارته زينوبة بنت عبد المقصود كي يكون أبًا لَهُ في شهادة الولادة .. يتذكّر ما يتجمّع لدَى أمّه من مرابيح الغُرَف والخمّارة والكازينو وراقصات الأعراس وفرقة الطبّالة والمزاوديّة وتدخُّلات سلومة الأعور العنيفة للابتزاز .. كان يفّر إلى الأزقّة القريبة خَوْفًا من بطشه غير المُبرَّر، فينضّم إلى أتراب الحيّ لملاحقة القطط الصغيرة الوسخة وهي تلوذ بمزابل البيوت المُكدَّسة في غفلة من عمّال البلديّة لإلحاق الضرر بها ضَرْبًا وتقتيلاً .. يتذكّر مدرسة الحيّ الابتدائيّة، الاستيقاظ باكرا، الخوف من عَصَا المعلّم، الفرار من الدروس أحيانا إلى أبعد الأزقّة في أعلى باب المدينة الغَرْبيّ، عقاب سلومة الأعور الشديد إنّ أمسك به، الفلقة، غضب زينوبة بنت عبد المقصود من جّلادهما القاسي، نظرات عليّ المطيهري الشامتة، الإخفاق المدرسيّ المتكرّر، السهر لَيْلاً ومعاقرة الخمرة ثمّ تعاطي المخدّرات، المشادّات العنيفة الدّامية، مداهمة البيوت لَيْلاً أو نَهَارًا مع أصدقاء السوء لسَرقتها بعد التثبُّت من غياب ساكنيها، السجن مِرَارًا، ثمّ إعلان التوبة فالعمل نادِلاً بمَقهى الربع.

-تُريدين قهوةً أم كأسَ شاي بالنعناع؟

استعادت حضور المكان الحابس .. سائح شيخ وفتاة في مقتبل العمر تحمل آلة تصوير يتوقّفان أمامها .. اندهشا لرؤية لباسها: جلباب أسود مطرّز بشتّى الألوان، ولحاف أبيض يُغطّي رأسها .. وقفت الفتاة إلى جانبها ليلتقط السائح الشيخ صورة ثنائيّة بعد استئذانها.

بَدَا وجْهها في الأثناء شاحبا، وخشي عليها من الإغماء.

-هل أدعو إليك سوسو كي تصحبك إلى البيت؟

أومأتْ إليه بالموافقة ..

بين مقهى الربع وشقتّها في آخر زقاق " الرحمة " عشرات المُسلّمين من الرجال والنساء .. غمرتها موجة فرح رغم الإعياء .. تركت خميّس المطيهري في حيرةِ من أمره .. تمسّكت بِيد سوسو .. وكأنّها سمعتْها في الأثناء تبكي بصوت خافت سرعان ما انقطع في غمرة من الأصوات المُرحّبة بسيّدة الفرح القديم ونزوات الفتيان العابرة آنذاك وكؤوس ما بعد منتصف الليل وبخور المجامر ومواقف المرأة الريفيّة النبيلة في الأعياد عند مساعدة فقراء الحيّ، الحاجّة زينوبة بنت عبد المقصود الّتي أعلنت توبتها النصوح أمام الجميع في ليل سفرها إلى بيت اللّه الحرام، ثمّ حرصها الجادّ على تحويل الكازينو إلى مدرسة أساسيّة لَوْلا خيانة سلومة الأعور ..

سبق أن حدّثتها سُوسو مِرَارًا عن الوجوه الجديدة، فتيات الجبال والسهول النائية الوافدات على " فجّ الريح "، عن سهرات مسؤولي الحيّ وكِبار التُجّار والمستثمرين، عن أنشطة سلومة الأعور الجديدة السياسيّة، عن فوزه في انتخابات مجلس الشعب، عن الحفل الساهر بالكازينو احتفاءً بالمناسبة، وقد استمرّ إلى الفجر، عن المهنّئين الوافدين على الحيّ من عديد الجهات والمُدُن، عن أثرياء الحيّ الجُدُد مِمّن حذقوا فنّ العلاقات وتصيُّد الفُرص وتحقيقهم السريع لثروات طائلة بشراء الأراضي وبناء العقارات والمتاجر بها واستغلال علاقاتهم للحصول على قروض بَنْكيّة جدّ مُيسّرَة.

-من أين لك هذا؟!

إذا فكّر سلومة الأعور في فذلكة سمجة أرسل ضحكَة من النوع الثقيل المُجلجِل، ثمّ همس في أذن أحد أثرياء الحيّ الجُدُد:

-من أين لك هذا؟!

و كلّما استيقظ سلومة الأعور بعد سهرة خمريّة تأمّل وجهه بالمرآة لِيُطالعه شعر أسود فاحم وبشرة لامعة رغم التجاعيد وعين تجميليّة لا تختلف في الظاهر عن عينه الأخرى السليمة، فيتساءل بصوت مسموع:

-من أين لك هذا؟!

عثمان المبروكي عُمْدة الحيّ استحال إلى مالك لعمارة بعشرة طوابق في " حيّ الأمل " المُجاوِر " لحيّ فجّ الريح " .. الصادق بلخير، كبير العسس، أنشأ لابنه المطرود من الدراسة الثانويّة ثلاث محطّات بنزين وسلسلة مغازات كبرى مختصّة في بيع كلّ الأشياء، دون استثناء .. صالح برّيمة زعيم حزب التسامح والديمقراطيّة أسسّ شركة تصدير واستيراد، كالموادّ الغذائيّة والسيّارات والأدوية باسم أحَدِ أقارِبِه ..

إذا أراد خميّس المطيهري الغمز واللمز داعب أصدقاءه التقاة عند تقديم كؤوس القهوة والشاي لهم بهذه الكلمات الّتي أضحت متداوَلَة لدى الجميع:

-منْ أين لك هذا؟!

و لا ينصرف عنهم إلاّ إذا نطق أحدهم بالردّ المعتاد:

-كازينو الدَحْدَاحْ محلول في الليل، مغلوق في الصباحْ.

يلي ذلك ضحك جماعيّ مُسْتهتِر.

فتيات الغُرف في مبنى عمارة الكازينو إنْ داعبن زبائنهنّ لحظة الاستعداد التامّ للضِرَاب سأَلْنَهُم بوقاحة مطلوبة في مثل هذه المواقف:

 -منْ أين لك هذا؟!

المُطرب الشعبيّ صالح بوكَرْدوغة، صاحب الأغاني الخفيفة ونجم الأعراس والسهرات الساخنة لحّن طقطوقة على إيقاع المِزود والطبل:

 " من أين لك هذا؟

 يا هذا

 الدنيا حلوّة يا هذا

 عسل الدنيا يا هذا

 كازينو الدحداحْ

 محلول في الليل

 مترّع في الصباحْ

 زُوْرُو (•) ترتاحْ؟

عند وصولها رفقة سوسو إلى رأس الزقاق المُفضي إلى شقّتها لفت انتباهما حضور سيّارة الإذاعة مع شابَّيْن وفتاة هرعوا إليها لتقديم أنفسهم وطلب إجراء حديث مَعَها .. لم تمانِعْ فصعدوا جَمَاعَةً إلى شُقّتها .. أعلمتْها الفتاة المذيعة بأنّ البرنامج شبابيّ، ويُراد به الاستماع إلى تجارب الكبار للاستفادة والموعظة الحَسَنة ..

أشعلت سيجارة رغم نصيحة الطبيب لها بعَدَم التدخين. طلبت من سوسو قهوةً لها وللضيوف ..

سألتها المذيعة عن مُحصّلَ تجربتها في الحياة، عن أجمل اللّحظات وأَسْوَئها، عن الطيّبين والأشرار في حياتها دون ذكر الأسماء .. بدأت بالثناء على برامج إذاعة الشباب، وتمنّتْ عَدَمَ حَذْف أيّ كلمة، ثمّ اندفعت في حديث مرسل لم يتوقّف إلاّ بالنشيج ..

استمع أهل " فجّ الريح " كبارًا وصغارًا لحديثها الصريح الفاضح الّذي أباحت فيه بجميع الأسرار، ما حَدَث لها بالتفصيل في قرية الجبل النائي وفرارها إلى المدينة وحياة الماخور وتجربة الشُقَق السرّيّة والكازينو وإعلان التوبة والحجّ إلى بيت اللّه الحرام وغدر سلومة الأعور بها .. ذكرتْه بالاسم، ودعت الفريق الإذاعيّ إلى الالتزام بالاتّفاق أو عَدَم بثّ الحديث ..

هَبّ تُجّار الربع والأسواق المُجاوِرة لزيارتها وتهنئتها على الحديث الجريء، وانضمّ إليهم عدد من العاطلين عن العمل الجالسين بالنهار والليل في مقهى الربع ثمّ عديد النساء، واندفع خميّس المطيهري إلى شقّتها كي يحتضنها باكيا أمام الجميع .. أحسّت بنشوة الانتصار على ذابحها لأوّل مرّة بعد ثلاثة أعوام من القهر والعزلة ..

دَعَا سلومة الأعور رجاله المخلصين .. بَدَا مُرْتكبا لأوّل مرّة في عيون الجميع، يُدَخّن دون توقّف، ويتلفّظ بعديد السِباب والشتائم متوعّدًا كُلاّ من زينوبة بنت عبد المقصود وإذاعة الشباب .. حاول صالح برّيمة تهدئته للتفكير الجماعيّ الرصين في حلّ عاجل يوقف انتشار الفضيحة وتلجيم الألسن وإعادة الاعتبار لسيّد " فجّ الريح " الأوّل ..

-لِمَ لا تسترضيها بإعادة بعض الممتلكات إليها؟

بادر عثمان المبروكي بالتعليق بعد أن تيقّن من حرص سلومة الأعور على الصمت:

-كيف له أن يُعيد لها بعض الممتلكات؟ أليس في ذلك إثباتا معلنا لصحّة ما تدّعي وتورُّطًا في طريق غير محمودة العواقب لدى الرأي العامّ في "فجّ الريح"؟!

لم يستطع سلومة الأعور الاستمرار في لواذه بالصمت والاكتفاء بالاستماع بل تَدَخَّل ليسأل سلومة الأعور بارتباك واضح:

-إذن، ما العمل؟

ران على الجميع صمت ثقيل، إذْ أدركوا صعوبة الموقف .. نظر صالح برّيمة إلى كبير العسس الّذي اكتفى هو الآخر في بدْء الجلسة بالصمت والإنصات .. وكأنّ سلومة الأعور وعثمان المبروكي أدْرَكَا حقّا ما يدور في ذهن الصادق بلخير فنظرا إليه مليّا في انتظار أن يُصرّح لهما بالرأي الّذي يُخلّص سيّد الجميع من أذى الألسنة الشرّيرة ..

أغنية صالح بوكردوغة في الخارج تلفظها مُسجِّلات المتاجر القريبة ومقهى الربع:

" من أين لك هذا؟

يا هذَا!

كازينو الدحْداحْ

محلول في الليلْ

مغلوق في الصباحْ

إذا حسّيت بالتعب

زُورُو ترتاحْ .. "

يمرّ جمْع من أطفال الحيّ يتصايحون، وكأنّهم يتعمَّدون إغاظته بترديد الأغنية الشعبيّة الجديدة ..

-أصْبَحْتُ أكنّى الدحداح، وقد كنتُ في الماضي القريب رجل المهامّ الصعبة، المُحْترَم لدى الجميع، دون استثناء ..

لهج الصادق بلخير بما يُشبه الحلّ للخروج من الورطة:

-كيف نمنع في البَدْء بثّ هذه الأغنية؟ أمّا مواجهة زينوبة فبسيطة، إذ القانون صريح في هذا الشأن: سي سلومة مُواطن صالح وعضو في مجلس الشعب، وله من الحصانة والحقّ المدنيّ والسُمْعة الطيّبة ما تجعله قادِرًا على مُقاضاتها ..

سأله صالح برّيمة:

-هل تقدر الآن على منع الأغنية.

فأجابه الصادق بلخير بلهجة الواثق بما يقول:

-لن يُسْمَح ببثّ هذه الأغنية بَدْءًا من صباح يوم الغد ..

أشار عثمان المبروكي إلى إمكان استماع أهل الحيّ للأغنية سِرًّا .. تملْمل الصادق بلخير في جلسته لينطق بنبرة حازمة:

-اطمئنّ ! لِي من العيون ما يكفِي لمعرفة مَنْ يُخالفُ أمري ..

حينما غادر الفريق الإذاعيّ شقّتها طلبت من سوسو العودة إلى الكازينو خَوْفًا عليها من بطش سيّدها .. استلقت على سريرها في بَدْء الظُلمة الليليّة .. نظرت إلى أضواء العالم الخارجيّ، ثمّ جالت ببصرها في أرجاء الغرفة ..

-ما الّذي يُعِدّه سلومة الأعور لها في الخفاء؟ هل يُفكّر في الانتقام؟ وكيف؟

أخلدت لِضجعة مباغتة، فطالعها وجهه مُكفهِرًّا غاضبا .. وكأنّها أبصرتْه في الأثناء يشحذ سكّينا ويستعدّ للانقضاض عليها .. صرخت مُستنجِدَةً بخميّس المطيهري ورجال مقهى الربع .. إلاّ أنّ الصوت ظلّ ذبيحًا في الحُنجُرة، ولا أحد يستمع إليها .. بحثت لها عن سلاح تدافع به عن نفسها .. المكان متهدّم، والحجارة متكدّسة به .. أمسكت بعصا غليظة .. اندفعت إليه بأقصى الجهد، وانهالت عليه بالضرب بعد أن أسقطتْه أرضًا .. بَدَا لها في الأثناء ضاحكا مُمَازحا رغم الدّم النازف من جبينه ومِنخريْه .. حينما تراءى لها جُثّةً هامدة تعالى صراخها حَادًّ مُجلجِلاً بحضور الشرطة وخميّس المطيهري ورجال مقهى الربع .. استيقظت مذعورةً .. الظلمة لا تزال على أشدّها في الغرفة، وضوء فانوس البلديّة الكابي يتراءى لها من شقوق النافذة المُطِلّة على الزقاق .. عاودها الخوف، واستبدّ بها السُؤال:

-ما الّذي يُعِدّه سلومة الأعور لها حَقًّا في الخفاء؟ هل سينتقم منها في القريب؟ وكيف؟

 

(7)

سلومة الأعور كَاد يهلك من كثرة ما شرب مِن كُؤوس.
باب الكازينو مُغلَقٌ في ليلة الجمعة .. رذاذ خفيف وريح باردة تُعَاتب مصابيح الأزقّة الخالية إلاّ من بعض السكارى العائدين من حانات الشاطئ إلى بيوتهم في " الربع " والأحياء المجاوِرة ..

أنهى قارورة النبيذ الثالثة .. حاول النهوض من مقعده دُون جدوى .. بَدَت له جثّة المرأة في السرير المقابل كثيبا من شهوة مستفِزّة .. جسده المُنهَك المخمور لا يُطاوعه، والرغبة هُناك في الداخل حريق خافت يندفع بقُوّة إلى أعلى الدماغ .. أحسّ بعطل مفاجئ في أسفل الجسد: ارتخاء مذهل مفاجئ في آلة شهوته وتخشُّب فظيع يُصيب رجليه .. تطلّع إلى وجهه في المرآة المُقابلة الّذي بَدَا له في العتمة شبه المضاءة طيفا لكائن غريب: شعر أسود فاحم بفِعل الصباغة، وتجاعيد في الجبين والخدّيْن، وبريق عين واحدة، والأخرى مُطْفأة تماما في غفلة من النظّارتيْن السَوْداويْن الجاثمتيْن على الطاولة الصغيرة قريبا منه .. الأشياء الأخرى أمامه أطباق باهتة: كأس شبه فارغة، صحن به عِظام خروف، قِطع جبن صغيرة، أوراق خسّ، بعض من المرق في صحن آخر، حبّات لوز، مِرْمَدة ملْأى بأعقاب السجائر.

أعاد محاولة النهوض من مقعده، ولكنّ الجسد لا يُطاوعه ..

سألها ذاتَ ليلة:

-لماذا تُقدمين على خيانة زوجك؟ وكيف تستطيعين مغادرة بيت الزوجيّة لَيْلاً؟

أجابَتْه بدهاء المرأة الّتي اعتادت على خيانة زوجها:

-لعبة القِيم هي أفضل سبيل لتخفّي المرأة. وأنا، كما تعلم، أتظاهر لدى الجميع بالتديُّن.

-زوجُكِ صديقي ..

-أعلم ذلك. أليست الصداقة هي أفضل غطاء لنا الاثنين؟

و قصّت عليه في الأثناء حكاية جارتها الفاتنة، زوجة الطبيب الشابّ الجميل، الّتي تستقبل في فراش الزوجيّة عامل البناء كلّما انصرف زوجُها إلى الشغل .. تطلب من عشيقها القذِر أن يُمزّق ثيابها، أن ينفث في وجهها دخان سيجارته الرديئة بصفاقة زُوّار الحانات الشعبيّة، أن يطأ بقدميْه الوسختيْن الغطاء الحريريّ الفاخر، أن يعابث بيديْه الخشنتيْن ثمار جسدها، أن يجرح كبرياءها بالسبّ والشتيمة، كأنْ يقول لها بصريح العبارة: أنتِ عاهرة .. وحينما تُحقّق بعضا من شهوتها الجامحة تدفع له بعض النقود وتفتح له باب الفيلّة الخلفيّ بعد التثبُّت من غياب العيون، ثم ّتنظر في ألبوم حفل زفافها وتنتحب طويلا قبل الانصراف إلى المطبخ لإعداد الغداء في انتظار عَوْدة زوجها ..

-و أنتِ يا عواطف، هل تخونين الصادق بلخير اقتداءً بجارتك المهووسة بعشق عمّال حظائر البناء؟

تبتسم بتخابُث المرأة المُصرّة على خيانة زوجها مهما كلّفها ذلك من عذاب تأنيب الضمير عند صحوةٍ وأخرى:

-هل أنتَ من عمّال الحظائر؟

يغرقان مَعًا في ضحك ماجن .. ينزع نظّارتيْه، وهو يستعيد بعضا من القوّة .. يندفع إليها كي يندسّ في أحضانها استعدادًا للولوج حيث يجري فصل آخر من مسرحيّة خيانة الصديق لصديقه المتكرّرة .. يركبها بعنْجهيّة ثَوْر جريح .. وحينما تنطفئ شهوتُه الجامحة يعود ليسألها بعقلانيّة المستفيد من كُلّ شيْء:

-      لماذا تخونين زوجك؟!

-      لأنّه خائن، هو الآخر.

يضحك سلومة الأعور، لأنّه يعلم حقيقَةً أن الصادق بلخير لا يفكّر في النساء ..

-      هو خائن لِي بالطبيعة، وخائن لِي بحُكْم الوظيفة.

 يُغادر أحضانها كي يستعيد مقعده الأوّل قريبا من الطاولة القصيرة حيث صُحون بها بقايا طعام وحبّات لوْز وقِطَع جُبن، وفي أسفلها قارورة نبيذ مُغْلَقَة تَسْتدعي فاتحًا لها ..

تسأله باندهاش:

-      لماذا تُكثر هذه الليلة من الشراب؟!

-      لأنّني أرى هذه القارورة أجمل منك. الخمرة هي الحياة، كما أراها. إذا بالغتُ في حبّها استنزفتْني، وإنْ أعرضتُ عنها أمسَيْتُ في الهامش. لَوْلا هذه الكأس لأَضْحى الوجود جحيمًا ..

-      لكنّني أراك تشرب كثيرًا دون أن تسكر ..

-      لأنّ السُكْر كذبة كبرى. الحقيقة أنّ هذا الجسد خائن في الأخير لِصاحبه. كم تمنّيْتُ أن أهلك دون أن أشهد خيانته لي، كأنْ أفارق الحياة في لحظة خاطفة: انطفاء عاجل، ثمّ تغسيل، فَصَلاةٌ، فَدَفْن ..

-      تسألني عن الصادق بلخير الّذي يكبرني بعشرين عامًا، ذلك الوحش الكاسر الّذي يعود إليّ منهك القوى كي يسبّني لأتفه سبب. يأكل بشراهةٍ مقيتة، وينصرف إلى مشاهدة التلفزيون أو الردّ على مكالمات هاتفيّة سرّيّة. يلوذ بإحدى الغرف بعيدًا عنّي كي يدَعَني وحيدة في اللّيل يلتهمني الأرق ويحاصرني شخيره الّذي لا ينقطع ..

-      لِمَ تُؤثرين ليالي وجوده في البيت على الليالي الأخرى؟

-      لأنّني أستطيع التمرُّد كما أشاء بالليل والعَوْدة متى أشاء فَجْرًا في غفلة من سباته العميق وشخيره الّذي لا ينقطع ..

مطر جامح في الخارج، وريح عاصفة، وأضواء الفوانيس في الزقاق المُقابل تنطفئ بين الحين والآخر .. تَذَكَّر فجأة ليلةَ فراره مع زينوبة، التجاءهما إلى شقّة فرج الربعي ..

-      ما أشبه تلك الليلة بهذه الليلة!

وكأنّ عواطف أدركت بحدس المرأة بعضا ممّا يدور في خُلْده .. فغادرت الفراش إلى المقعد القريب منه .. سوّت الغطاء القُطْنيّ حول جسدها العاري رغم دفء الغرفة .. تطلّعت إلى وجهه الشاحب المُتْعَب ..

-      لماذا رفضتَ الزواج بها؟ هل حقّا أنّك استوليتَ على جميع ممتلكاتها؟ قيل إنّك تتعمّد إهانتها بمُضاجعة فتيات الكازينو الواحدة تلو الأخرى أمام ناظريْها قبل إعلان توبتها واعتزامها الحجّ .. وعدتَها بالزواج حالَ رجوعها من الحجّ. وكّلتك على جميع ممتلكاتها شَرْط أن تتخلّى عن القُمار وتُحوّل الكازينو إلى نُزل صغير أو متحف ومقهى للسيّاح .. هذا ما صرّحتْ به لإذاعة الشباب ..

-      كاذبة. أنا صاحب المال والعقار. لا أُنْكر حبّي القديم لها رغم كونها امرأة مستهترة مُسْتباحة. أجلْ تورّطتُ بَدْءً في حياة القمار ثمّ عدلتُ عنه. ولولا ذلك لما أمكن تجميع هذه الثروة ..

-      هي تقول إنّك أنتَ الّذي دفعتها إلى الانحراف ثمّ خنتَ الأمانة بعد أن ضحّت بشرفها وأعلنت توبتها في الأخير ..

يضحك سلومة الأعور ملء شدقيْه عند سماعه لفظ التوبة، لأنّه تذكّر المثل الشعبّي القائل: " الحجرة ما تذوب والقحبة ما تتوبْ " .. نظر إليها وأخذ يُردّده مرارًا بين موجة ضحِك وأُخرى .. تفطّن في الأثناء إلى دهشتها الّتي استحالت إلى غضب مباغِت يوشك على الانفجار. فالمثل قد يشملها هي أيضا، بل لعلّه تقصّد الإلماح إليها .. تكره المرأة هذا المَثَل الشعبيّ، حتّى نساء المواخير يغضبن عند سماعه ..

تساءل صامتا:

-      لماذا تغضب نساء المواخير عادَةً عند سماعهنّ هذا المثل؟!

أحسّ ببعض الندم، فقد تثأر عواطف لنفسها ولكُلّ نساء العالم بِإعلان القطيعة .. قد تحتقره، وفي ذلك بدء طريق المرأة إلى الكراهيّة والانتقام .. قد تَسْتَعدي الصادق بلخير عليه، فيخسر بذلك أحد رجاله الأوفياء ..

لاذ بالفراش بعد أن عَبّ كأسه الأخيرة تاركا القارورة نصف ممتلئة وسط أشياء الطاولة المسكونة بالفوضى .. تقلَّبَ في انتظار ضجعة تُسْلمه إلى طمأنينة كاذبة. وحملتْه موجة نُعاس مباغت إلى غُرفة مستطيلة مُسْدَلة الستائر، شبه معتمة، بها طاولة يتحلّق حولها رجال يحملون قُبّعات تُخفِي وُجوهًا. حاول التعرّف عليهم، ولكنّ أوراق اللّعب تحول دون ذلك، ورؤوسهم شبه المنحنِية عند تأمُّل الأوراق تحجب سماتهم .. التمس منهم تشريكه في اللعب .. توسّل إليهم دون جدوى .. كاد يُجهش بالبكاء من شِدّة الغيْظ .. ضرب الطاولة بجُمْعه كي يلفت انتباههم إليه .. إلاّ أنّهم ظلّوا منغمسين في اللعب لا يكترثون بوُجوده .. تملكتْه في الأثناء رغْبة الانتقام .. تلمّس سكّينا في جيْب سترته، وأسرع في إخراجه ليطعن به أحدَهم في ظهره .. اندهش لمّا استمرّ الرجل المطعون في اللّعب، وكأنّ شيئا لم يحدث .. انتقل إلى ردْهةٍ قريبَة .. هناك بَدَا له المكان واضح السمات: كازينو " فجّ الريح " في حفل راقص، أجساد متوثّبة، وجوه معروقة، أضواء صفراء حمراء بُرتقاليّة خضراء ترتعش في السقف وبالجُدران، في أقصى المكان مشهد جنسيّ جماعيّ، تأوُّهات تتخلّل الموسيقى الصاخبة، قوارير خمرة فارغة وكؤوس مدلوقة وأخرى شبه فارغة، وسوسو تنتقل من رجل إلى آخر، بتمام عُرْيها تفرّ من ظلّها الّذي يهمّ باغتيالها إلى أجساد ذَكَريّة متلاصقة تنتظر نصيبها من الشهوة في ماخور هائل بلا غرف ضيّقة مغلقة، والراقصة البدينة تنتهز الفرصة لالتقاط الأوراق النقديّة وإخفائها داخل حَفّاظَةِ نهديْها في غفلة من الجميع والدرابكيّ الفطِن يغمزها ويُقهْقِهُ مُتحدِّيا ضجيج المرقص الماخور في انتظار نصيبه، ويرشقها بين الحين والآخر بقُبُلات ذابلة .. أبصر سوسو في غفلة من الجميع تدسّ يدها بين الحين والآخر في جيوب الملابس المُبعثَرة هُنا وهُناك، فتيات حديثات عهد بالصنعة يتعلّمن فنون التعرّي والإثارة تتقدّمهنّ عجوز في السبعين بشعر أصفر فاقع ومكياج عجيب به كُلّ الألوان تُشير بإصبعها بين الحين والآخر إلى مشهد ضِراب مختلف، وكأنّ إحدى الفتيات تحاول الفرار فتصطدم بصدر رَجُل عظيم الجثّة عريض المنكبيْن كَثّ الشاربيْن، يدفعها بغِلْظَة إلى منصّة التعرّي فتُذعن للأمر الواقع، نساء من جِنسيات مختلفة يجلسن إلى طاولات مستديرة يُدَخِنَّ السجائر الفاخرة بحركات استفزازيّة في انتظار زبائن آخر الليل .. الساعة الجداريّة تُشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل .. بدأ المكان يكتظّ بتُجّار الأقمشة وموادّ البناء والجزّارين وعدد من الأطبّاء والمحامين .. عاد إلى قاعة القمار .. لم يجد أحدًا .. الطاولة كما هي: أعقاب سجائر تملأ مرمدة، أوراق لعب مبعثرة، كؤوس وسكي لم يتبقّ داخلها إلاّ آثار ثلج ..

استبدّ به الذعر حينما أبصر لُطخ دم على المقعد الّذي كان يجلس عليه الرجل الّذي أقدم على طعنه منذ دقائق .. فرّ من قاعة القُمار إلى المرقص كي يبحث له عن مَخْبإٍ يقيه من خطر وشيك .. فَكّر في الاستنجاد بسُوسو كما جرت العادة كُلّما بلغ به السكر أشدّه، ولكنّها غَير موجودة. فهرعت إليه عجوز السبعين، صاحبة الشعر الأصفر الفاقع، وهي الخبيرة حَقًّا بشؤون الرجال المُتْعبين. احتضنته. مدّدتْه في موقع بعيد عن الأنظار من المرقص الكبير. نزعت ملابسه بثقافة عُهْريّة عجيبة. مدّدتْه على البطن. اعتلتْه بعنهجيّة المرأة المنتشية بانتصارها على الرجل الآثم. دلكت ظهره وأسفل عقبيْه إلى أن سرَى فيه كهرباء شهوة رعناء أفقدتْه الصواب فاستدار إليها بأعنف ما تكون الاستدارة مُتناسيًا أمومتها المفترضَة ولم يرحم شيخوختها أيضا. ولأنّها معتادة على مثل هذه المواقف تركتْه يعبث بها وبنفسه إلى أن استراح. حينما استعاد صواب الابن العاقّ أبصر فتيات عاريات يتطلّعن إليهما بعيون شبِقة ولا يُصدّقْن ما حَدَث .. كِدْن ينهشن لحمه العاري لو لا أصغرهنّ الّتي بادرت بمخاطبة سيّدتها العالمة قائلةً:

-كيف أمكنك فعل هذا وأنتِ عجوز في السبعين؟

لم يتمالك نفسه عن البكاء بحُرقة من أجرم في حقّ طفولة الاسم .. حاول نسيان ما اقترفه من ذنب دون جدوى. ولأنّه في أمسّ الحاجة إلى الفرار من الجريمة فقد غالب فيه نذالة الرغبة الآثمة .. هجر المرقص الملعون إلى شوارع المدينة الخالية في ليل حُلْمه الكابوسيّ .. بدت له المدينة أشبه ما يكون بليْلة فرارهما الأولى: سماء ممطرة وبروق ورعود وقُطيطاتٌ شريدة تموء دون انقطاع باحثةً لها عن مأوى على الرصيف الغاطس في المياه الموحلة .. سعى إلى التنقُّل دون بلل، ولكنّ الفيض المنسكب من السطوح والحيطان وواجهات المباني لا يدعه يتقدّم خطوةً واحدة. استيقظ فجأةً على صوت صاعقة عقبها نور مُبهر تَلتْه صاعقة أخرى اهتزّ لها حيّ "فجّ الرّيح" .. تمنّى وجود امرأة إلى جانبه في تلك اللحظة: سوسو أو عَوَاطف، لا يهمّ، أو عجوز كابوسه ..

-      ليس أشدَّ على الكائن فظاعَةً من عُزْلةٍ موحِشة في لَيْلِ حُلْم كابوسيّ.

و تساءل في حيرة من يريد معرفة الحافز على ذلك الحلم:

-مَنْ تكون تلك العجوز؟ لعلّها زينوبة بنت عبد المقصود بِوَجْهٍ آخر. ولكنّ زينوبة أصغر بكثير من عجوز كابوسه المستهترة.

اختار وضعيّة الجلوس في الفراش وعيناه لا تُفارقان الشرْفة المقابلة حيث يتراءى لمعان برق متقطّع في الخارج ومطر خافت لعلّه يشي بهجمة سُحب أخرى ..

راودتْه فكرةٌ مجنُونة:

-لِمَ لا ينزل إلى بيت الصادق بلخير ويطرق بابه طرقًا خفيفا، تفتح عواطف الباب على إثره، فيستدعيها إلى شقّته كي يأنس بصحبتها ويغالب قلق الليل؟

 الساعة الجداريّة تشير إلى الخامسة والرُبع صباحًا. عدل عن الفكرة، فقد تحدث كارثة بعد الطَرْق لا تُحمد عُقباها. لعن الشيطان في سِرّه. نزل من الفراش مترنّحا كي يتّجه إلى المرحاض .. تبوّل .. أحسّ بصُداع رهيب وبما يُشبه الإغماء. لاذ بحوض المِغسل في الحمّام بعد أن تملّك أمعاءه في الأثناء وجع مُباغت تقيّأ على إثره، وهاله أن يرى قطرات من دم تُلطِّخ الحوض .. صكّت أنفه زفورة الدمّ، وتعالى صداعه في الأثناء، كما احتدّ وجع بطنه .. سار خطوات مترنّحِة نحو الفراش بعد أن غسل وجهه مُحاولا بذلك التخفيف من الإغماء .. تعثّرت قدمه بكرسيّ مقلوب لم ينتبه إليه في زحمة الأشياء المُبعثَرة .. اصطدم بالطاولة الصغيرة لتنقلب وما عليها من قوارير وصحون وكأس وبقايا أطعمة .. حَبَا نحو الفراش .. جسده الفولاذيّ لا يُطاوعه، والألم الحادّ يسرى في أمعائه كسكّين حادّة قاطعة .. السرير قريب بعيد .. يهمّ بالحركة، ولكنّ جسده الفولاذيّ بالمرصاد لا يدعه يحقّق ما يرغب فيه. أحسّ بخفقان حادّ في القلب وعاوده الصداع والقيء ..

تمثّل نفسه ميّتا، وجمْع غفير من سُكان "فجّ الريح" يحملون نعشه في يوم مُمْطر إلى مقبرة الغرباء، يتقدّمهم رجاله المخلصون: عثمان المبروك عمدة الحيّ، والصادق بلخير كبير العسس، وصالح برّيمة زعيم حزب التسامح والحرّيّة، ومنصف عزّ الدّين إمام الجامع الكبير، وسالم ضوْ أستاذ القانون الدوليّ، وفرج الربعي صديق الشباب الّذي آواه وزينوبة بنت عبد المقصود في ليلة فرارهما الأولى من قرية الجبل النائي إلى مدينة الشاطئ السياحيّة.

-لن يُواصلوا حَمْله إلى الجبّانة، لأنّه سيُعلن العودة إلى الحياة بصوتٍ عالٍ. وسيفرّون منه جميعًا إلاّ فرج الرّبعي، رفيق نزواته وعالم أسراره القديمة.

استلقى على الظهر، وكأنّه يلتقط بذلك الأنفاس قبل مُواصلة زحفه إلى الفراش .. تملّكتْه في الأثناء موجة ضحك هستيريّ .. تراءى له منصف عزّ الدين يفرّ مذعورًا عند تمزيقه الكفن وخروجه من النعش .. سيُناديه باسمه ليلتفت إليه ويتعاظم رعبه، ثمّ يندفع جاريا رغم شيخوخته وهيْبة العالم كي يتعثّر في جبّته داخل الزحمة ويسقط .. وستشمت به زينوبة به بنت عبد المقصود في البدء، ثمّ يصيبها الإحباط عند سماعها نبأ استفاقته المفاجئة .. قد يدعو إثر ذلك إلى حفل بهيج يحضره كلّ السادة في "فجّ الريح"، وتُنشّطه راقصات الأحياء القريبة .. سيُوَفِّر ما طاب وفخر من الأطعمة والخمور لكافّة المدعوّين. وسيرقص احتفالا بعودته إلى الحياة، ساعاتٍ دون كلل .. لا يهمّ إنْ عاب عليه زملاؤه في مجلس الشعب طيشه الّذي يُسيء لهيبة السلطة التشريعيّة .. قد يغفرون له رقصة فرحه لأهميّة الحدث.

حاول مواصلة الحبو إلى الفراش دون جدوى، فأذعن مرّةً أخرى للشلل المفاجئ الّذي شمل كامل جسده .. عاد ليُسْند رأسه إلى سجّاد صغير قريبًا من بعض أشياء الطاولة المُبَعْثَرة .. عرضت له في الأثناء وجوه الرجال المحترمين ببذْلاتهم الفاخرة ورابطات العُنُق والعطور الراقية وجلساتهم الوقورة الهادئة ومعانقاتهم الّتي لا تنقطع عند الاستعداد لدخول القاعة واصطفافهم وانضباطهم شبه العسكريّ آنَ انتظار مسؤول رفيع المستوى ..

عاودتْه موجة الضحك حينما صكّت أنفه رائحة القيْء وأدرك بما لا يدع مجالا للشكّ أنّه سيّد محترم جِدًّا، ومن حقّه أن يحلم بأعلى المناصب .. سَيَسْحَقُ آنذاك زينوبة بنت عبد المقصود تماما وكُلّ الّذين يقفون حَجَر عثرة في طريقه ..

استعاد وضعيّة المنبطح ليزحف قليلاً نحو الفراش .. غمرتْه حُمّى غضب مفاجئ:

-كيف ينتقم من نفسه وزينوبة بنت عبد المقصود وعواطف زوجة الصادق بلخير، ومن جميع ألسنة السوء في حيّ "فجّ الريح"؟

أحسّ بيد كابوسيّة غليظة تضغط على صدره وتتسلّل أصابعُها شبه الأخطبوطيّة إلى معدته .. حريق خافت مُؤلم يسري في كامل أمعائه، فيُعاوده القيء داميا في هذه المرّة، قريبا من بركة دَنسه الأولى .. يتمالك نفسه في الأثناء رغم آلام بطنه الحادّة، ليتأوّه ويضحك معًا .. يُمرّغ وجهه في بركة أشيائه القذرة ليزداد ضحكا، والفراش القريب البعيد يرمقه بِعَيْنٍ شامتة.

-هل يعود القهقرى حبْوًا إلى باب الشقّة كي يفتحه ويصرخ مسْتَجيرًا بسُوسُو كعادته في مثل هذه المواقف؟ الفراش أقرب إليه من الباب، والأفضل له أن يظلّ مُمَدَّدًا على الموكيت، مُسْنِدًا رأسه إلى السجّادة الصغيرة مُلَطّخا بقيْئه إلى الصباح، بل إلى آخر العمر ..

بَرْقٌ وريح ومطر في الخارج، مع تباشير صباح شتويّ حزين ذكّرتْه بليلة فرارها الأولى .. موجةُ إغماء خافت أخرى حملتْه إلى جبال قريته البعيدة، هناك بين الشجر والسماء وأغاني الجَدّة وعواء الريح الجَبَليّة على امتداد الفصول ..

استطاع أن يُمسك بطرف الغطاء القُطْنيّ المتدلّي من السرير أخيرًا بذابِل قوّة جسديّة مفاجئة دفعته إلى الأمام .. لم تُفارق يدُه حاشية الغطاء .. جذبه إليه فتهاوى قريبا منه .. تدثّر به كي ينعم ببعض الدفء ..

 آنذاك حملتْه موجة نُعاسٍ مُباغتة إلى غياب عميق كأنّه الموت.

 

(8)

سهرة «ستار أكاديميّ» في كازينو فجّ الريح، وسلومة الأعور يُنفق أموالاً طائلة لاستمالة القُلوب بعد تصريحاتِ زينوبة بنت عبد المقصود المُغْرِضة
أشار عليه صالح برّيمة زعيم حزب التسامح والحرّيّة بأنْ يعالج الموقف بحِنكة من خبر شؤون أهل " فجّ الريح " جميعهم .. فسأله سلومة الأعور عن السبيل القويم لاستعادة ثقتهم بعد ما أصابه من أذى إثر تصريحات زينوبة بنت عبد المقصود المُغرِضة في إذاعة الشباب.

-أهل " فجّ الريح " مُصابون بالنسيان، فهم لا يتذكّرون من ماضيهم إلاّ القليل. يهبونك كُلّ شيء إذا أحسّوا بالشبع الدائم واستمتعوا بالراحة ومشاهدة البرامج التلفزيونيّة الهَزْليّة والمُسَلْسلات العاطفيّة والمقابلات الرياضيّة والحفلات الصاخبة ..

ابتسم صالح برّيمة عند سماعه " الحفلات الراقصة " .. تطلّع إلى وجه سلومة الأعور المكتئب الغاضب:

-الحفلات الصاخبة. وجدتُها. نحن مع الديموقراطيّة. فما الّذي سمح لزينوبة بتصريحها المُغرض لو لا الديموقراطيّة الّتي أضحت من تقاليد حياتنا اليوم. ولن يكون ردّك عليها في الإذاعة بل التلفزيون. لِمَ لا تدعو إلى سهرة " ستار أكاديميّ " مَحَلّيّة يحضرها المغنّون الفِتيان والفتيات وبعض الراقصات من الأحياء المُجاوِرة، وسأضمن لك حضور التلفزيون وعديد الصِِحافيّين .. لن تكلّفك هذه السهرة إلاّ القليل من المال، ثمّ ستكتسب منها الكثير.

لم يَرَ بُدًّا من الموافقة .. أمر رجاله بتزيين أعلى سطح الكازينو والمحَلاّت التجاريّة وساحة الربع بمختلف أدوات الزينة من أعلام وأضواء مختلفة الألوان .. استعان بفرج الربعي صديق الشباب الّذي حرص مع رجاله على متابعة الدعوات والإضاءة ومُكبّرات الصوت وما يلزم من الأثاث ..

انطلقت السهرة في حدود التاسعة ليْلا بأغنية المطربة التونسيّة الشهيرة "عُليَّة":الليلة عيد .. الليلة عيد ". ولأنّ التجربة فريدة من نوعها فقد حرصت عديد الفضائيّات العربيّة على بثّ السهرة مُباشرةً لملايين المشاهدين .. جلس كُلٌّ من سلومة الأعور وعثمان المبروكي والصادق بلخير وصالح برّيمة وسالم ضَوْ وفرج الربعي في مقدّمة الحضور .. فكان أن ألهبت أغنية الافتتاح عديد الشبّان والفتيات الجالسين وراء سادة الحيّ، فتصايحوا واندفعوا في رقصات ناريّة حفزت الجميع على التصفيق ونقلت مَجَال التصوير من دائرة مُجْمل الحفل إلى حيّز أجساد الفتيات المُتماوِجة حينا والمُرتعِشة أحيانا لتكشف عن صدور وبطون شبه عارية احتلّت بفَيْض شهوانيّتها النَزِقة كامل الشاشة. لم يتمالك رئيس الفرقة نفسه، فاندفع هو الآخر بحركة لَوْلَبيّة إلى الصحن، بعد أن أومأ إلى بعض العازفين بأداء الدبْكة .. وما كان من أحدهم إلاّ أن رفع الطبل على كتفه ليندسّ داخل الفِتيان والفَتَيَات المهتاجين لتهبّ على القاعة الكبرى في أعلى كازينو فجّ الريح عاصفة من التصفير والتصفيق والهتاف .. فطرب الجميع حَدّ فقدان الصواب.

بدت الليلة مُقْمِرةً في الخارج، والشوارع مقفرةً إلاّ من بعض السكارى والقطط والكلاب السائبة، إذ الجميع جالسون أمام التلفزيون .. عسَس الشركات والمؤسّسّات جلبوا إليهم شاشات صغيرة الحجم، واشتروا للغرض ما طاب من المُكسّرات .. أعلمت سوسو زينوبة بنت عبد المقصود بالسهرة قبل يوميْن .. ولأنّها مشتاقة رغم كُلّ شيء إلى رؤيتها عن بعد فقد كانت هي الأخرى في الموعد .. بَدَا لها في مقدّمة الحاضرين بصحن الحفل الموسيقيّ الساهر شاحب الوجه زائع البصر رغم افتعاله الانشراح وتلويحه للكاميرا ببعض الابتسامات الديبلوماسيّة .. هو نفسه رجل أحلامها القديمة لو لا تقدُّم السنّ وبعض التجاعيد .. كادت تجهش بالبُكَاء بعد أن غمرتها موجة ندم مُفاجئة.

-هل أظلمت في حقّه بتصريحاتها الأخيرة في إذاعة الشباب؟

ابتسمت لرؤية بعض فتياتها يرقصن شبه عاريات. وتعاظم انشراحها المباغت لمّا أبصرت سوسو ترفع عقيرتها بالزغاريد تلو الزغاريد قريبا من الطبّال الّذي فقد الصواب وانقلب إلى شيطان راقص مع طبله الّذي يقرعه وُقُوفا وجُلوسًا، استلقاءً وانبطاحًا في غمرة الصيحات والزغاريد والتصفيق الّتي لا تنقطع.

رحّب المُنشِّط بالحضور، وتحديدًا بسلومة الأعور مُمَوِّل السهرة والمسابقة الغنائيّة، وبأعضاء لجنة التحكيم والمشاركين في المسابقة، وبفِرْقة العازفين يتقدّمهم المايسترو عليّ بوطبلة، وكافّة فريق التصوير التلفزيونيّ، ثمّ قدّم للحضور كافّة المتسابقين من الفتيات والفتيان ..

أصرّت زينوبة بنت عبد المقصود على مواصلة مشاهدة الحفل رغم نصيحة الطبيب بالنوم باكِرًا بعد تناوُل الدواء. لفت انتباهها صوت إحدى الفتيات الهاويات للغناء ..

تحوّل المشهد الصاخب فجأةً إلى عالم حميم يترجرج بالعواطف والأحلام: " أَغَدًا ألقاك؟ " لأمّ كلثوم.

أذعن الجميع لسِحْر وجهها الطفوليّ الفاتن وصوتها العذب .. تعمَّدَ المُصوِّر التلفزيونيّ التنقّل عبر تفاصيل جسدها الرشيق وتضخيم وجهها بين الحين والآخر والتجوال بين وجوه المستمعين .. بدا لها سلومة الأعور في الأثناء أشدّ حُزْنا. كأنّ الأغنية ذكّرتْه بليالي عشقهما في مكان الحفل ذاته، والقمر في الأعالي يُراقبهما في صمت وحُنوّ رغم قساوة الأيّام الماضية. عاودها ذلك الندم، فأجهشت ببُكاءٍ حادّ مُتقطع.

-هل أخطأتْ حقّا حينما حاولت أن تستردّ بعضا من كرامتها المهدورة؟

نظراته الحزينة الزائغة على وقع " أغدًا ألقاك؟" تدلّ على أنّه مُتعَب نادم حقّا .. وكأنّها أبصرت في وجه المُغنيّة الشابّة بعضا من ملامح جمالها الريفيّ الّذي كان، كعينيْها السَوْداويْن الواسعتْين وابتسامتها الجبليّة المستفِزّة ..

كانت قد أحسّت آنذاك بنظراته المتشهّية يُرسلها بين الحين والآخر استراقا إلى بعْض المفاتن الّتي تفضحها فساتين قصيرة شفّافة ابتكرتها موضة الخياطة في ستّينات القرن الماضي.

رقصة التويست تصل إلى قرية الجبل مع السُيّاح الأوروبيّين لتتعايش مع " الفزّاني مرتاح" وأغاني صليحة وسيدي علي الرياحي و"المزاودية" و"للّيري يمّا" و"من قرّبك للواد يا زيتونة" والأمّو الأمّو الأمّو نحبّو ونذبح أمّو" (•).

أعراس تلك الأيّام بخور المجامر رقصات النساء بشعورهنّ المتهدّلة قِصاع الكُسْكسي ولحم الظأن واللبن الطازج والطبّال وحشود الرجال المُصاحبين له ينتقلون بين الأزقّة في عشايا أيّام ربيعيّة وصيفيّة مُشمِسة الشيوخ بِعَكاكِيزهم يتحسّسون الطريق إلى منزل العريس الأطفال المشاكسون يتصايحون راكضين في كُلّ صوب والطيور المذعورة تفرّ بعيدًا فوق السطوح وأعمدة الكهرباء وأسلاك الهاتف زخّات المطر في ليالي الشتاء والمصابيح الكهربائيّة الكابية والنساء والأطفال يلوذون بالغُرَف الدافئة في انتظار الرجال العائدين في أوّل الليل من الحقول المجاوِرة ومقهى القرية الوحيد .. تتذكّر ضوء السراج يشتغل بالبنزين الأزرق ولسانه الناريّ الشاحب وآخر التمارين المنزليّة قبل انقطاعها عن المدرسة وطبيخ أمّها الشهيّ قبل وفاتها بأعوام قليلة واحتمائها بالفراش كي يسرح خيالها مع سي مُنير معلّمها الشابّ الوسيم، فارس أحلام كُلّ الفتيات المراهقات في قرية الجبل، تحتضن الوسادة، وكأنّها تحتضن رأسه بين نهديْها اليافعيْن، تضغط على طرف الغطاء الصوفيّ بأقصى الجهد في انتظار شهوة سرعان ما تنقطع.

"أغدًا ألقاك؟". صوت المُغنّية الهاوية أذهل الجميع، فتمايلوا جالسين وزاغت في الأثناء عيون الشبّان والفتيات وبعض الكهول والشيوخ. عثمان المبروكي أرخى عنان خياله وكادت الكاميرَا تهتك سِرّه وتشي بحالته النفسيّة الصعبة للجميع آنذاك لولا يقظته المُفاجئة وتلويحه للمُصوّر بابتسامة عريضة مُعَاتِبة .. صالح برّيمة أطرقَ صامتا لأنّه رجل مسؤول ولا يُريد أن يظهر أمام الجمهور بسِحْنة مُتصابٍ ينهار أمام وَجْه صَبوح وصوتٍ جميل آسِر، وهو المعروف لدى الجميع ببطل المُلمّات والمواقف الصعبة وزعيم حزب التسامح والحُرّية .. سالم ضَوْ أستاذ القانون الدُوليّ ومسْتشار سلومة الأعور الخاصّ وجلاّد المثقّفين الأوّل في الخفاء أغرق في ظُلمة وساوسه العارضة، كعادته كُلّما تملّكتْه شهوة السيادة وتذكّر شذوذه الغريب وانبطاحه أرضا كي يركبه رِجال غِلاظ لا يرحمون صَلَعه الفضائحيّ والتباس ذاته الذَكَريّة، فاربدّ وجهُه وتجهّم .. .فرج الربعي جالس حِذو سلومة الأعور وعيناه لا تفارقان سالم ضَوْ، وكأنّه تذكّر بعضا من استهتار شذوذه في تلك الشقّة القديمة بالربع بعيدًا عن الأنظار .. لم يستطع إخفاء تأثُّره البالغ .. عدسة الكاميرا فضحت تقاسيم وَجْهٍ تائه في سوق مزدحمة بالعاهرات والمآبين"

أَغَدًا ألقاك؟ " مطر متوحِّش في الخارج وكؤوس الخمرة في الداخل وأنينها المتقطّع بين أحضانه بموافقة عشيقها الهارب معها من قرية الجبل النائية. وجع كجُرْحٍ قديم يعود لينزف في الداخل، ندم كندم آدم، شعور حادّ بالقرف يعقب لحظةَ القَذْف وارتخاء مُباغت بعد انتصاب، عُنّة أبديّة متكرّرة في تاريخ كُلّ الرجال لا يعلمها إلاّ النساء على امتداد الأزمنة، أنوثة كالأرض تستقدم إليها وَهجَ الروح في سماء مُشمِسة، ختان لعلّه يشهد حقّا على بدْء تاريخ العُنّة، انطفاءات شهوة تُسْتعاد كمَنْ يموت مِرارًا قبل أن يهلك.

-هل الموتُ هو أنْ تَحْيا حَقّا، أمّا الهلاك فموتٌ ليس بَعْده موتٌ؟

هَمَّ فرج الربعي بالضحك، ولكنّ الموقف لا يسمح بذلك ..

-صَلَعُ سالم ضَوْ يشي حَقّا بالضَوْء الّذي إنْ لَمَعَ حَدَثت مُصيبةٌ مّا، كوشَاية أو دسيسة، وله وَلَعٌ بتعقُّب المُثقّفين أينما كانوا وإلحاق الضرر بهم، شعارُه الدائم في الحياة: " فَرِّقْ تسُدْ "، ولا تفوُّق يُسْمَحُ به لأيَّ كان، لأنّ الزعامة واحدة في حيّ " فجّ الريح "، والسيّد الوحيد هو سلومة الأعور دون منازع،، إذْ له كلّ الصفات الدالّة على النبوغ والاختلاف عن كُلّ الناس .. لذلك كان حريصا باعتباره مستشارًا خاصّا لسيّد الجميع على زرْع بذور الشقاق بين الكُتّاب والرسّامين والمسرحيّين وأساتذة الجامعة وأُمنَاء أحزاب المعارضة والوزراء ورؤساء جمعيّات كرة القدم وغيرها ..

الرعد الرازم في الخارج وعُرْيُها الفاضح في الداخل وزخّات المطر وفيض شهوته العارمة، كُلّ ذلك في انتظار أن تتحرّر من رعب المصير في ليلة هروبهما الأولى من قرية الجبل النائية إلى مدينة الشاطئ .. لم تَرَ بُدّا من أن تتنقّل عارية بين غرفتيْن بجُنونِ شهوةٍ شيطانيّة قويّة عارضة، وتنفتح في كلّ الاتّجاهات برغبة من يُريد الانتقام من أعوام الكبت الماضية .. كانت تُعبّ الكؤوس تلو الأخرى كي تتناسى في الأثناء وجه أبيها بعصاه الغليظة وسكّينه الحادّة الذابحة، فتُذعن لإرادة كُلّ منهما. وكأنّ فرج الربعي قد تراءى لها آنذاك شبيها بمنير فارس أحلامها الأوّل.

"أغَدًا ألقاك؟" والمطر الجامح في الخارج ورعْد وبروق وزئير ريح لا ترحم وآخر الكؤوس يليها أذان الفجر وانطفاء فحولتهما المُباغت وزعيق صامت لِأُنثى تركب جنون شهوتها وتنسحب خائبة إلى فراش ثالث بارد كي تستيقظ عند الضحى على صُدَاع رهيب. وما كان لها إلاّ أن تذرف دموع الندم ..

لحظَةَ استعطافه تنقلب من أنثى جريحة ترغب في الانتقام منه إلى أمّ حنون .. تحتضنه بعشق أنثويّ مُزدَوج .. يبكي فتنتحب .. و حينما تستعيد الصواب تدعوه إلى أن يتحرّر من القمار قبل موافقتها على الزواج .. و آنَ تحرُّره من لحظة الانهيار المفاجئ يشترط عليها الزواج قبل العزوف عن القمار.

" أغَدًا ألقاك؟ " صمت مشحون بالترقّب يسود الجميع، و" أنغام " المُغنّية الهاوية تعبث بقلوب عديد الرجال في حفل " ستار أكاديميّ " الساهر وتثير غيرة كُلّ النساء .. عدسة الكاميرا تتعمّد إظهار وجه استحال من طفولة شبه بريئة في بَدْء أداء " أغَدًا ألقاك؟ " إلى أنوثة عابثة فاتكة قد تُحوِّل اللّعب إلى جِدٍّ قاتل .. فتنحبس الأنفاس في دفْق ذبذبات الصوت المُراوِغ المُستهتر ترغب في التطريب بمزيد تعذيبهم بالسماع والانتظار .. عواطف زوجة الصادق بلخير تنظر بعين غاضبة إلى سلومة الأعور الّذي بَدَا في الاتّجاه المقابل للمشهد على حافّة الانهيار حتّى كأنّها أدركت بحدس الأنثى الّذي لا يكذب عادَةً في مثل هذه المواقف أنّ شيئًا سيحدث بين كُلٍّ من سلومة الأعور زعيم حيّ "فجّ الريح " وأنْغَام المغنّية الهاوية الفائزة بالمرتبة الأولى في مسابقة " ستار أكاديميّ ".

انطفأت أضواء حيّ " فجّ الريح " في ساعة متأخّرة من تلك الليلة .. أخلد الجميع لِضجعة هادئة إلاّ امرأة كانت تنتظر فَصْلاً آخر للرواية، ولرجل غادر.

 

(9)

سالم بن عبد الغنيّ شُهِرَ سلومة الأعور يتزوّج أنغام، الفائزة الأولى في ستار أكاديميّ.

في صبيحة اليوم الموالي لستار أكاديمي بَدَأ الاتّصال الهاتفي بأنغام الفائزة الأولى في المسابقة لتهنئتها. كلّ الصحف والإذاعات والتلفزيونات الوطنيّة والعربيّة أعلنت الخبر.

عند اللقاء الأوّل عرض عليها تمويل شريط مسَجَّل لأغانيها الأولى الّتي ينوي تكليف من يكتبها ويُلحّنها لها .. أعجبها الاقتراح ولَم تَرَ بُدًّا من تسليمه ما يُريد .. كانت تُخطّط لشيء آخر عَبْر الزواج، وكان يُخطّط للزواج فحسب .. هو يعلم كُلّ تفاصيل المسرحيّة الّتي حاك خيوطها منذ البدْء، وهي لا تعلم شيئا سوى أنّه معجَب بها ويريد أن يستهلكها منذ ساعات التعارُف الأولى. بدت له أثناء ذلك اللقاء الأوّل بوجه طفوليّ وجسد أُنثويّ ثائر وعينيْن مُتشهّيتيْن. لامس يدها ثمّ رُكْبتيها فلم تُمانعْ. وبَدَا لها كهلاً على عتبة الشيخوخة مُتغضّن الوجه، يسعى إلى إرضاء طموحها بما يملكه من مال. لم تتفطّن في البدء لعينه الاصطناعيّة. وحينما ضحك في أوّل لقاء بينهما أبصرت حُفرَ أضراس مَقلوعة ..

فكرة الانتقام من زينوبة بنت عبد المقصود تستبدّ به فلا يقدر على التخلّص من براثن حُبّ قديم أورثه أحقاد الرجل المطعون في ذكورته منذ أن اختار تحويلها من حبيبة إلى مومس في متناول كُلّ الرجال في مدينة تعجّ بالنازحين القادمين إليها من جبال النسيان وسهوله وجوع الرغبة الحالمة بهدير الموج وأجساد السُيّاح الشقْر المتعرّية المتمدّدة على رمال الشاطئ. وكأنّه ارتأى في أنغام بعضا من طفولة زينوبة وشبابها الآفليْن: نحافة تستعدّ لِبدانة قادمة، وبراءة طفلة تنتظر لَوْثة المواقعة وأنفاس ذُكورة متوحشّة رعناء تعبث بكُلّ شيء ولا تكتفي بما تُقدّمه الأمّ ثمّ امرأة الفراش. دفعها إلى عرينه، فاستجابت له دون مقاومة. أفقدها طهارة الاسم، فوهبتْه كُلّ ما يَمتلكه جسدها من اشتهاء كي يُحوّلها إلى رقم باهت في كُنّش نزواته المزحوم بأسماء الضحايا من نساء رغبته الّتي لا تنِي ولا تستريح.

سألتْهُ بعد زواجهما بأسبوع، تقريبا، عن سبب اختياره لها زوجةً وهو الّذي قرّر العُزُوبيّة حتّى عتبة الستّين.

ولأنّه أدرك أنّ وراء هذا الاستفسار أسئلة أخرى لا يُريد سماعها لاذ بالصمت. فعادت لتسأله عن سرّ إخفائه عنها زواجه بزينوبة عبد المقصود، وسبب تطليقه لها. بدا لها مُسْتنفَرًا على أُهبة الهجوم فآثرت تغيير الموضوع في انتظار فرصة ملائمة.

-هل أخطأ حقّا في زواجه بأنغام؟

تأكّد أنّها غير مكترثة بما فعل. لذلك أحسّ برغبة جامحة في الانتقام من نفسه قبل التفكير مرّة أخرى في الانتقام منها.

-هل الانتحار أفضل سبيل للثأر منها ومن نفسه، أم هو ذلك السقوط الحتميّ الّذي أفقده بَوْصلة الاتّجاهات في حياته المتاهة؟

سألتْه أنغام أن يدفعها إلى مزيد من السقوط في سرير شهوته المبتورة بعد مُرور شهور قليلة على زواجهما.

كُلّما اندفع إليها بجموح ما تبقّى له من الشهوة تملّكتْه حُمّى غريبة وأسرع طريقه إلى الانقطاع لتنكسر إرادته في الأثناء وهو لا يزال فيّ بَدْء الطريق.

كان يتعمّد إعلام سوسو بتفاصيل زواجه بأنغام وما يحظى لديها من عناية المرأة المحبّة الوفيّة، وغرضُه من ذلك التشفّي من زينوبة بنت عبد المقصود عند سماعها لأخباره الجديدة، ولكنْ ..

-      هل انتفاء الغيرة مفادُه موت ذلك الحُبّ؟!

 أدركت رغم كُلّ ما سمعتْه عنه، أنّها تجاوزت الحُبّ والكراهيّة إلى حالٍ غريبة لعلّها سليلتهما مَعًا، كاليأس يتعاظَمُ لِيُنشئ ما هو أبعد من اليأس والأمل، أو كالقهر كُلّما استفحل أنْتج في الأثناء فيضًا من رغبة تسري كالنمل المتوحّش في كامل خلايا الروح .. ، بل لعلّه الحُبُّ أضحى بمرور الزمن كُتْلَةً من جليد لم تفقد جذوتها في الداخل من غير أن تستمرّ نارًا حارقةً.

-      هل يُهلِكُ الزمن كُلّ الأشياء، بما في ذلك الحُبُّ؟

لم تعد كما كانت في الماضي البعيد فريسة ذلك الحزن الغريب كلّما بلغها نبأ موت قريب أو صديق أو جار عزيز. فالموت أضحى حدثا عارضا، كأن تتقبّل الخبر وتكتفي بالترحُّم على الميّت. وكأنّها رأت في زواجه بأنغام هلاكه العاجل قبل الوفاة. لم تتألّم عند سماعها الخَبر. لم تذرف دمعةً واحدةً. لم تتسقّط أخباره كما كانت تفعل في شهور مرضها الأولى. ولعلّ لتلك الحبوب المُهدّئة تأثيرًا خاصّا، إذْ لم تعد قادرة على الغضب. فكلّ الأشياء متساوية لديها: المال الشهرة الحبّ الزواج الحياة الموت.

تُخلد إلى قَجَرها الخاصّ. تفتحه لتُخرج منه صُوَرًا شمسيّة قديمةً بالأبيض والأسود بَدَأت تهترئ: مشهد جماعيّ لعائلة من الريف التونسيّ تعود إلى الستّينات. أدامت النظر في وجه الجدّة. بدت أكثر حَزْما من الجدّ، وكأنّ الأب مذعن لإرادة والدته قبل الوالد. ملامح الأمّ في الصورة تشي بغضب خافت لعلّه ناتج عن إساءة مّا حدثت لها من الجدّة المتسلّطة الّتي هي حماتها .. تلك الطفلة الّتي كانت، لعلّها في سنّ الرابعة أو أكثر بقليل، تجلس في الوسط بين الجدّة والجدّ، بعيدًا عن الوالديْن وكأنّ الصُورة تشي بعائلة في طريقها إلى التفكّك، أو بشجرة آيلة إلى الموت بعد تخشُّب الجذع وتعرّي الأغصان من أوراقها. ثَمَّةَ حُزْنٌ خافت يَنْتَشر على الوجوه من غيْر أن يتّخذ له السمات ذاتها لدى الجميع. آثار المرض بادية على وجه الجدّ.

-      هل هي آخر صورة له في الحياة؟!

أعادت الصُوَر إلى القجر. لاذت بالغطاء القُطْْنيّ في انتظار ضجعة تُسلمها إلى حُلم هادئ أو موت مفاجئ بلا ألم.

سألتْه أنغام بعض المَال تُقدِّمه لعائلتها الفقيرة فاستجاب لطلبها. حوّلت أسرتها من شقّة في حيّ شعبيّ إلى فيلاّ بحيّ راقٍ. ثمّ ألحّت في السؤال بطلب الهدايا الثمينة تلو الهدايا. وبالغت في السؤال كلّما عاوده ذلك الفشل العضويّ، كأنْ تغمره حمّى مُباغتة تدفعه إلى أعلى ذرى اليأس يليها عرق بارد ومرارة في الحلق. فتنسحب عارية إلى الحمّام، وعلى شفتيْها ابتسامة المرأة المنتصرة كي تعود إليه بعد لحظات وقد استحالت الابتسامة إلى شماتة شبه معْلَنة تليها طلبات لم يعد بِمُرور الأيّام قادرًا على تحمُّلها، كأن تترجّاه إهداءها كازينو "فجّ الريح". وحينما يتعالى غضبه تذرف دموعًا كاذبة وتغرس فيه سكّين المرأة العالمة بعُنّته المتكرّرة. ترثي حظّها وشبابها الضائع، فيستشيط غضبا ويغادر " فجّ الريح " دون وجهة. تقوده قدماه أحيانًا إلى بار عاشور أو الحانات البعيدة. هناك يغرق في سائل ما تبقّى من رغبة قديمةٍ مُسْتعادة. يشرب بقَهْر الرجل الّذي خانَهُ جسده فجأةً ودون سابق إعلام.

 سأله عاشور عن سبب التوتّر. ولأنّ الموقف لا يحتمل الصراحة فقد اكتفى بالإلماح إلى فارق السِنّ وكثرة طلباتها المُجْحِفة. فأدرك عاشور في الأثناء بعضا من الحقيقة.

-      كيف يمكن للمرأة ممارسة نفوذها شبه المطلق على الرجل إنْ لم تملك سٍرّ ضعفه؟

 نصحه بإنهاء الكارثة قبل فوات الأوان.

يعود إلى البيت فَجْرًا. المفتاح لا يطاوعه، فيطرق الباب بعد يأسٍ طرْقا خفيفا، ثمّ عاليا يوقظ أحيانا سُكّان البيوت المجاورة. فَتَتعمّد الإبطاء ثمّ تفتح غير مكترثة بسُكره البالغ. تدعه يتعثّر ليسقط ويتقيّأ قبل وصوله إلى الحمّام. تستمع إلى نشيجه المتقطّع بفرح غريب. تعود إلى فراشها ببُرود مَن ألِفت مثل هذه المواقف مع أبيها المُدمِن وصراخه فجرًا وبُكاء الأمّ عند ضربها وشتائمه وسِبابه المُوَجَّهة للجميع دون استثناء.

يزحف إليها ليجثو قريبا منها. يتوسّل إليها بأن تُسامحه على ما فعل. تتظاهر بالنوم لتدعه في حيْرة من أمره لا يقوى على الحركة، ملطّخًا بالقيْء. آنذاك يحتمي من البرد اللاّسع بسَجّادٍ قريب. يُذعن لنومِ ساعاتٍ في انتظار يقظة تُسلمه إلى الحمّام للاغتسال والجلوس مَعَها قصد اللوم والاسترضاء ووعْدها بِهديّة أخرى. صالح برّيمة هو أوّل من لاحظ تغيُّر أحواله. غيابُه المتكرّر عن اجتماعات الحزب أَقْلق كبار المسؤولين، صَمْتُه في مجلس النُوّاب أمام من يصطادون في الماء العكر لفت انتباه رئيس المجلس، وقد جرت عادة الردّ عليهم بحماس مَن آمن بسياسة حزب التسامح والديمقراطيّة والتفاني في خدمة مبادئه وأهدافه النبيلة. لم يعد ذاك الرجل الأنيق ببدلته الجديدة اللاّمعة والوردة الحمراء الّتي يضعها بالقصد في أعلى جَيْب سترته لاستفزاز كافّة الأعداء والمُناوئين. بَدَا على شاشة التلفزيون عند تقديم مشاهد من أشغال المجلس شاحب الوجه، زائغ النظر، غير مكترث بحال رابطة عنقه، مع اختفاءٍ غريب لوَرْدته السياسيّة المستفِزّة الّتي ألفها الجميع دون استثناء وأذاعوا حولها النُكَت. الفرجانيّ بائع الزهور في شارع مدينة الشاطئ الرئيسيّ القريب من حيّ " فجّ الريح " يزوّده في كلّ صباح بأفخم وردة لديه، والحساب يُسَدَّد في آخر كُلّ شهر.و لأنّ سلومة الأعور أضحى يُكنّى سلومة بُووَردة لدى الخاصّة والعامّة من الناس ورأى في ذلك مَجْدًا حادثا وشهرة يُحْسَد عليها، وقد يضمن بها النجاحَ في دورة ثانية بمجلس النوّاب، حرص بمرور الأيّام على اختيار وردته بنفسه ومجازاة الفرجانيّ على ذلك بوفير المال ..

نظرة أنغام شبه الشامتة له كلّما اصطدم بحقيقة العَطَب تُحوّله إلى كائن غريب بلا أصل وهوّية وعنوان. ويُحاول التخلّص من سجن عُنّته دون جدوى. فالأبواب الحديديّة مغلقة، والجدران السميكة لا تَدَع النداء يُسَمَع خارج الروح. احتجب ذلك البلل اللّذيذ الّذي يعقُبُ حريق الشهوة عند الاستنفار. يلهث دون فائدة، كمن يحاول إذكاءَ جَسَد ميّت تَجمَّد في صقيع ليلةٍ شتويّة بالقطب الشماليّ أو الجنوبيّ لكوكبنا. كُلّ الأشياء في جسده المرتخي ترفض الانفتاح على أشياء أخرى، بفِعْل العناق الّذي يُفضي، كما جرت العادة المتكرّرة القديمة، إلى ضِرَاب. كأنّ ذلك الجسد لم يعد جسده: الدماغ في اتجاه والأعضاء في اتجاه آخر. يُصدر الدماغ أوامره عادةً منذ استفحال ظاهرة العطب المذكور، والأعضاء لا تستجيب. يُقلّب أشياءه التحتيّة في بعض خلواته الواحد تلو الآخر. هو ذاته لم يتغيّر سوى ارتخاء شبه دائم إلاّ في حالات قليلة، عند اليقظة بعد ضجعة عميقة أو حينما يتذكّر جسدها الثائر المستهتر لحظةَ ينقذف إلى آخر تُخوم العُرْي ليتفتّح في انتظار وقاحةٍ ذَكَريّة مُسْتحبّة تُنهي مسرحيّة الخجل الأُنْثويّ لمدّة زمنيّة تُقاس بصراع الشهوة آنَ الضِرَاب، وعادَةً ما تتحرّك الآلة المعطّلة عند بَدْء الانتشاء إثر كؤوسه الخمريّة الأولى. يلتفت آنذاك لَعَلّها قريبة منه لِيُثبت لها أنّ أشياءه التحتيّة لا تزال على قيْد الحياة، ويفكّر أحيانا في مغادرة المكان إلاّ أنّه سرعان ما يعدل عن الفكرة، لأنّ التحوّل من بار عاشور إلى بيته قد يُنهي الحماس الطارئ فتنقضي المحاولة بفشل ذريع يُفاقم شعوره بالانكسار ويُضاعف سطوة المرأة الشامتة. تبدو له غير مكترثة بالأمر، غير مُقصِّرة في شيء. تلبس ما شفّ ورقّ وتتطيّب بأكثر العطور إثارةً وتتجمّل وتتغنّج وتتعمّد استفزاز ذكورته بحركاتٍ عُهْريّة مُحْترمة لا تليق إلاّ بزوجات الرجال المُهِمّين في مثل هذه المواقف. غير أنّ الّذي ينبغي أن يقع آنذاك لا يخصّ أنوثتها، فهي الكأس الّذي تنتظر مَاءً يُرْوي جسديْن بشربَةٍ واحدة في انتظار عَطَشٍ يبحث له عن رُواء آخر.

هُو يكبرها بما يُقارب الأربعين سنة. لعلّه يرى فيها وجود ابنته الّتي لم تولد بَعْد. هل هو الشعور بالإثم تجاه امرأة في مقتبل العمر لم تتجاوز العشرين إلاّ بعاميْن فحَسْب؟ عاد إلى سُوسو وتأكّد من أنّ عطبه خاصّ، فهو مصابٌ بعُنّة عارضة كُلّما اقترب منها هي بالذات. سأل سوسو عن الخطْب الّذي أَلمّ به فأشارت عليه بزيارة عرّاف عوضا عن طبيب، وفي اعتقادها أنّه واقع تحت تأثير سِحْر. هل هو فعل انتقام؟ ومن له مصلحة في ذلك؟ إنْ تأكّد ما تزعمه سوسو حقيقةً فلن تكون إلاّ هي، زينوبة بنت عبد المقصود .. إلاّ أن لسوسو رأيا آخر بخصوص مَنْ لَهُ مصلحة في إعطابه، واكتفت بالإشارة إلى أقرب الناس إليه. زينوبة بعيدة عنه، ولم تُقدّم له أيّ طعام أو شراب منذ أكثر من ثلاثة أعوام. تَراجَع عن فكرته الأولى. إذْ لا يمكن أن تكون هي. حَجُّها إلى البيت الحرام سرعان ما أطرد عنه الاعتقاد بأنّها هي فاعلة ذلك السحر إنْ تأكّد السحر، كما تزعم سوسو. ولكنْ، ما الّذي يجعل أشياءه التحتيّة تستعيد بعضا من عافيتها كلّما عرض جسده لِسوسو، عاهرة الأربعين؟

تستقبله في البَدْء مثل أمّ تحتفي بعودة ابنها الغائب منذ أعوام. تُغدق عليه من بخور مجمرتها ما يجعل آلته شبه المعطّبة تستيقظ على مهل. وحينما تتأكّد من استنفاره الذكريّ تدفعه إلى الفراش بقساوة لطيفة لا تقدر عليها إلاّ امرأة مجَرّبة. تركبهُ، وبأناملها الدافئة تتنقّل بين كافّة مواطن جسده فيستحيل بذلك إلى نافورة رغبة ينبجس ماؤها فجأةً من تحت رُكام العادة. آنذاك تُرافقه في عَدْوٍ يُغالبان بِهِ مَعًا خطر العطب الّذي قد يُصيبه فَيُصيبها هي أَيْضًا. وتضحك في كلّ مرّة تُثبت من خلالها لسلومة الأعور أنّه سليم مائة بالمائة كُلّ ما في الأمر أنّه تعوَّدَ على دوابّ قديمة، ولعلّه يعاني من سِحرٍ انتقائيّ، لا أكثر ولا أقلّ. مشكلتُه أنّه يرى فيها صورة لامرأة تصغره بما يقارب الأربعين سنة، وكأنّ الزوج والأب يتغالبان فيه من غير أن ينتصر أَحَدٌ تمامًا على الآخر. ملامِحُها تذكّرهُ بزينوبة فتاة العشرين، بل لعلّها ابنتها الّتي أنْجباها في غفلةٍ منهما، في لحظة طيش قديمة قبل الزواج، رغم أنّ الحمل والولادة لم تحدثا في الواقع. وهل يُعْقل أن يقبل وضعيّة الزوج مع من لا تتوفّر فيها صفات المرأة الناضجة؟

عادت به الذاكرة مرارًا إلى الوراء: حَدَث الإجهاض ثلاث مرّات تقريبا، وحُلم الإنجاب ظلّ ماثلا في حياتها دون أمل. كانت تصرّ على الزواج فيُرجئ الأمر مِرارًا وتكرارًا. وحينما أذعنت لطلبه غَدَر بها، فأضاعت المال ولم تُحقّق حلم الإنجاب بعد أن تقدّمت بها السِنّ وأضحت شجرة غير قادرة على الإثمار.

تمضي الأيّام الشهور الأعوام والوجع هو ذاته، قديمٌ قدامةَ ما انقضى. يُحاول النسيان، ولكنّ الّذي حدث لا يمكن محوه من الذاكرة. فثمّةَ أشياء في حياة الكائن تظلّ كالوشم المثبت على جلد الروح إلى ما لا نهاية. قد يتقادم الجسد ليتعاظم بعضٌ من النسيان، أو هي الذاكرة يتخلّلها بوار النسيان، وقد تتجفّف أحيانا بفعل مُباغت، كشاطئ يتعرّى صباحًا للشمس بعد ليل من الموج الزاحف.

 حينما استولى على جميع ممتلكاتها لم يفكّر في تطليقها بَدْءًا، بل آثر الانفصال عنها مخافةَ التورّط في فعل يندم عليه أمام شتائمها الّتي لا تتوقّف كلّما أبصرتْه يتسلّل إلى إحدى شقق بنات تجارته السِرّيّة. إلاّ أنّ تصريحاتها المغرضة في إذاعة الشباب وشماتة أهل " فجّ الريح " والأذى الّذي لحق به بعد أن اهتزّت صورته لدى كبار السادة جعلته يفقد الأعصاب ويُقدم على تطليقها ثمّ الزواج بأنغام رَغْبَةً في الانتقام.

لو أمكن للمرء أن يُعيد حياته من جديد فسيختار سبيلاً آخر مغايرًا لِمَا سار فيه، وستتغيّر آنذاك فصول مسرحيّة الحياة ومواقف شخصيّاتها تَمَامًا عمّا هي عليه في الواقع. وربّما يُكرّر البعض حياتهم كما حَدَثت بالفِعْل، فيزداد الأمر بذلك تعقيدًا. ولكنْ، مَن الّذي يَقدر حقّا على التفكير في إعادةٍ مغايِرةٍ للحياة؟ أليسوا أولائك الّذين يُفلسفون الحياة ولهم من هامش الحرّيّة ما به يُغيّرون الوقائع ويتغيّرون؟ لنتصوّر أطبّاء وأساتذة جامعات ومهندسين وزعماء سياسيّين وتُجّارًا ونادلي مقاهٍ وحانات وعَسَسًا وجنودًا وقُوَّادَ جنود وعمّالاً وسائقي شاحنات وسيّارات أجرة وراقصات ومومسات. أضحَوْا غير مَا كانوا عليه، فهل الحياة ستكون كالّتي هي عليه الآن؟ أليست الحياة في كلّ المواقف اجتماع وظائف وإرادات وأمْزجة بمبدإ التغالُب طَبْعًا، بما يقضي تفوُّق مزاجٍ على آخر وإرادة على إرادة أخرى؟ زواجه بأنغام أثبت له بما لا يدع مجالا للشكّ أنّ الحياةَ لا يمكن أن تُعَادَ وتُسْتعادَ، ولَوْ مجازًا. من حقّ الإنسان أن يحلم في ضوء ما كان، ولكنّ الّذي كانَ حَدَث وانقضى ولم يترك من الأثر إلاّ رغْبة الاستذكار. ضحك في إحدى سكراته حَدّ الاستلقاء لأنّه تفطّن لِكوْنه أضْحى شبيهًا بفيلسوف على عتبة الستّين، وإنْ لم يقرأ صفْحَةً واحدة من كِتاب. عينُه الزجاجيّة المهذَّبة بفعل التجميل أَعْلَمُ من عينه الأخرى الصحيحة بالحقيقة. كلّما تطَلّع إليها في مرآة روحه بَدَا له أنّه أعمى في بصير وبصير في أعمى، يرى أحيانًا مَا لا يراه الآخرون، ولكنّه يؤثر عادةً الإنصات لعينه الزجاجيّة الميّتة، ويتَّبع خُطاها رغم كونه يراها تخبط خبْط عشواء، فتُحوّل الأشياء إلى سَوَادٍ أو بياضٍ تستحيل عندهما المُشاهدة. يستعين آنذاك بعينه الأخرى دُون الإذعان الكامل لإرادتها. يستهزئ منهم في سِرّه آنَ سماع كُنيته، وهو الأعلم بأنّه لا يشكو من عَوَرٍ، كما يزعمون، بل من رؤيةٍ بِبُعْدَيْن إثنينْ يلتقِي عندها ظلام النور وظلام الظلمة، بما يُبحر في الاتّجاهيْن مَعًا. العَوَرُ الّذي اكتسبه منذ الطفولة بفعل صبيّ طائش يلاعب آثار بارود قديم ليس عَوَرًا مُعْتادًا: مشهد الدم المتناثر لا يفارق ذاكرته، والرعب وبكاء الأمّ وأوجاع المُدَاواة والكُنية الّتي سكنت اسمه منذ شهور المدرسة الأولى. لعلّ سِرّ نجاحه الجماهيريّ الباهر يعود أيضا إلى وقْع كنْيته في آذان الناس. أَحَدُ صحافيّ المعارضة علّق على نتائج الانتخابات بأسلوب ساخر كالآتي: حَقَّق سالم بن عبد الغنيّ وقد شُهر سلومة الأعور فَوْزًا باهِرًا على منافسيه، لأنّه أثبت بجَدارة بُعْدَ النظر بعين واحدة طَبْعًا، إذْ جرت العادة أنّه لا يخطئ إلاّ عَمْدًا. وترسّخ لدى اعتقاده أنّ عينه الرائية كاذبة لأنّها كائن حَيّ من لحم ودم. أمّا عينه المُعطّلة فهي لا تعرف الكذب أو الصدق بل يستعين بها كعَصَا الأعمى على التنقُّل في المواطن الخطرة، يشحذها عند الاقتضاء كسكّين تتلهّف لرؤية دم الذبيحة، وتكتفي بالنظر الصامت دون حِرَاك. لا مبالاتها ضروريّة، ولا تقدر عليها تلك العين السليمة. إذا نزع نظّارتَيْه عند الإخلاد إلى النوم أو الاستعداد لِمضاجعةٍ بَدَا طيفه من خلال عينه الزجاجيّة نِمَرًا من ظلمةٍ نادرة يتفانى في حراسته من أيّ خطر داهم، فيعتلي سطوَته القريبة ليندفع في أَحَدَ ممرّات أحلامه الكابوسيّة برباطة جأش أو يركب فريسته ليُذيقها أمتع حالات الضراب.

-أين ذلك النمر الّذي كان يستمدّ منه عنفوان القوّة؟ هل عينه تلك لم تعد كما كانت مُعَطّبة؟

 المصيبة هي الّتي تُعَلّم المرء أنّه مهدّد في كُلّ لحظةٍ بالانهيار ثمّ الزوال. موت الآخر قد لا يعني شيئا بالنسبة لنا ونحن أطفال أو شبّان. قد نتألّم قليلا لموت قريب أو صديق، ولكنّ الرغبة في الحياة تجعلنا نتجاوز وجعنا سريعًا إلى شوارع الحياة المكتظّة بساكنيها. أمّا موت هذا الآخر، ونحن على عتبة الشيخوخة أو خلالها، فهو يعني الكثير. كأنّنا نتحوّل عند تقدّم السنّ إلى كائنات زجاجيّة هَشّة إذْ كلّما حدث خطب تشرّخ فينا موقع. ولعلّ الجسد الغادر هو أقصى الخطوب على جدار الروح الزجاجيّ، وشروخه هي الأسرع في الحدوث.

لاحظت سوسو في إحدى مناسبات إثبات ما تبقّى له من القوّة شحوب وجهه اللاّفت للنظر، ترهُّل رقبته، هزال يديه ورجليه. وكأنّها أدركت أنّه في بَدْء الطريق إلى حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت. موته قد لا يعني الشيء الكثير بالنسبة لها، وهي الّتي خبرت عالم الرجال وطوّحت بها الحياة في أقاصي الصدفة دون أن تفقد الأمل في الحياة ذاتها. وفاؤها لسيّدتها زينوبة بنت عبد المقصود غير مشكوك فيه رغم إذعانها لإرادة سلومة الأعور كلّما أرادها أن تُشاركه في الفراش دون علم سيّدتها في زمن زواجهما وبِعلْمٍ منها قبل ذلك وإثره، إلى بدْء مَرَضها ..

تسأله:

-كيف أمكنك إسقاط زينوبة بنت عبد المقصود في شراكك مِرَارًا؟

يجيبها وعيْنهُ السليمة تتشهّى كَأسًا أخرى رغم ما ألمّ بجسده من انهيار مباغت لم يألفه في أعوام نزقه السابقة:

-بالغدر.

حينما عبّر سالم ضَوْ عن رغبته في تولّي إدارة التثقيف السياسيّ التابع لحزب التسامح والديمقراطيّة نصحه صالح بريّمة بإرجاء تقديم الطلب إلى الجهة المعنيّة ناصِحًا إيَّاه بالتريّث، ثمّ فوجئ سالم ضو بتكليف ابن أخت صالح برّيمة بالمهمّة، وهو طبيب بيطريّ. عين سلومة الأعور المعطّبة لا تُبصر من الإخوة في سهرات الاستعداد للحملة الانتخابيّة إلاّ سالم ضوْ أستاذ، القانون والعلاقات بين الدُول. لذلك حينما علمت بتفضيل ابن أخت صالح برّيمة على سالم ضوْ في التكليف بإدارة التثقيف السياسيّ الخاصّ بحزب التسامح والديمقراطيّة فهمت المغزى من ذلك، عَيْنُه المُعطّبة طَبْعًا. أعلمه صالح برّيمة في جلسة خمريّة ثنائيّة، كان ذلك في بدْء إعداده للمهمّة الجديدة، بأنّ تاريخ سالم ضوْ السياسيّ يعود إلى الطلبة الشيوعيّين قبل إتمام دراسته الجامعيّة واشتغاله بالتدريس أستاذًا للتعليم العالي.

-كيف تَحوَّل فجأة من حزب الشيوعيّين إلى حزب التسامح والديمقراطيّة؟

يضحك صالح برّيمة

-الطُموح، أَوْ لعلّه الطَمَع ..

طابور الطامحين من الجامعيّين والمثقفيّن وغيرهم طويل طويل في "حيّ فجّ الريح". لذلك يصعب الانتباه إلى الحدود الفارقة بين اليمين واليسار. فيسأل سلومة الأعور عن كُلّ منهما لمعرفة ما به يستطيع إثر توّليه مهمّة نائب بمجلس الشعب أن يمُيّز بين يساريّ ويمينيّ.

- يكفي أن تُدْرك معنى التآمر في اتّجاهٍ والنفاق في الاتّجاه الآخر، وما بينهما هو اليسار اليمينيّ أو اليمين اليساريّ.

و يطلق صالح برّيمة ضحكة أخرى يستجيب لها سلومة الأعور بسلسلة من الضحكات تحوّل الدرس السياسيّ إلى فَوْضى تُفيدهما مَعًا بما هو أبعد من فهم سيرة سالم ضَوْ وواقع الحياة السياسيّة في " فجّ الريح "، كأنْ يذهب مخيال عين سلومة المُعطّبة إلى تفسير ظاهرة التداخل بين اليسار واليمين بركوب عاهرة وسؤالها تنفيذًا للدرس السياسيّ الأوّل: هل أفعلها من اليمين أم اليسار؟ وسيكون ردّها إلاّ أن افعلها وكفى. المُهمّ أن نتأكّد الاثنين من النتيجة.

عَيْنُه المُعطّبة لا تكذب: يساريّة سالم ضَوْ لا تُفارقه رغم إعلانه الانتماء إلى حزب التسامح والديمقراطيّة الّذي هو حزبُ يمين الوسط رغم كوْنه يلاعب أقصى اليمين حينا وأقصى اليسار أحيانًا بشعارات الحريّة والديمقراطيّة والوطنيّة والثورة، إن اقتضى الحال والمقام.

ولأنّ يساريّته ماثلة تماما في شعارات حزب التسامح والديمقراطيّة فهو يعتقد بأنّه قد أحدث تغييرًا مبدئيّا بفضل تلك الشعارات في انتظار التغْيير الداخليّ.و لكنْ، يتغيّر سالم ضَوْ في كلّ يوم دون أنْ يفقد حزب التسامح والديمقراطيّة هُوّيّته الأولى الّتي بها كان ويكون وسَيكون إلى قيام الساعة.

نصحته سوسو بأنْ يُغيّر أسلوب معاملته للزوجة الجديدة، وهي العالمة بحقيقة المرأة أكثر منه: إنْ بالغتَ في تدليلها أضحت فرسا جامحة تُلقيك أرضا وتفرّ وحيدةً إلى الفلاة. المشكلة أنّه يدلّلها لضرورةٍ تعلمها سوسو: فالعصا الّتي بها يتعدّل المزاج لم تَعَدْ عَصا، بل فقدت صلابتها برخاوة مُباغتة قد تدفعه يَوْمًا إلى الجريمة أو الانتحار.

جرّب حظّه مع عواطف ليتبيّن له أنّ العطب هو ذاته مع اختلاف طفيف، كأن تكتسحه حمّى مُباغتة بعد شبه يقظة. فالنتيجة واحدة، تلك العُنّة المُتكرّرة رغم وهج اللحم الأنثويّ المتكوّم أمام عَيْنه السليمة. النظام لديه بَدَأ يتهدّم إثر ما حدث للدماغ. فَسَلامتُه الظاهرة لا تعني اقتداره على تَسيير الجسد، كلّ أعضائه، دون استثناء. بدت له شماتة المرأة في مثل هذه الحال أفظع ممّا يتصوّر. سوسو الوحيدة هي الّتي تُدَاري تلك الشماتة بفعل الإذكاء الّذي لا تقدر عليه كُلٌّ من أنغام وعواطف. وتعجّب لأمر عواطف تحديدًا، امرأة الأربعين أيضا.لعلّه القَرَف أو الشعور بالذنب يحول دون الاستمرار في خيانة صديق أخلص في الوقوف إلى جانبه.

و تتمادى أنغام في انتقامها غير المُبرَّر. تُلحّ على انتقال ملكيّة الكازينو والشقق القريبة منه إليها خَوْفًا من غَدْر الزمان بها إنْ عَجّلَ اللّه في وفاته. ولأنّه يخاف على نفسه من غَدْرها يكتفي بالوعد دون التنفيذ.تسأله تقديم هدايا تليق بمكانتها وتُجازيها على صَبْرها، وهو الّذي أنفق على الكاسيت الأولى ثمّ الثانية المال الكثير دون أن تضمن لها شهرة دائمة تُواصل نجوميّتها الأولى الّتي تحقّقت بفوزها في ستار أكاديمي ثمّ سرعان ما انطفأت.يُخصّص مُرَتّبا شهريّا هامّا لعائلتها الفقيرة. تطلب أثمن الملابس

 والحُليّ فيهبها الشيك تلو الآخر لتشتريها بنفسها ودون مُحاسبة.

حينما أعلمه صالح برّيمة بماضي سالم ضَوْ الكفاحيّ ارتأى أن يسأله دون تردُّد:

-ماذا باع سالم ضَوْ لَكُمْ؟ وما الّذي قبض؟

تُعَاودُ تلك الضحكة شبه الهستيريّة صالح برّيمة فيرتعش جسده تحت تأثيرها المباغت، ويكاد بذلك يفقد رصانة زعيم حَيّ عتيق يعجّ بِسُكّانهِ، وبِمناصري حزب التسامح والديمقراطيّة منذ عقود، بَدْءًا بأعوام تأسيسه الأولى.

-ماذا قبض؟! ها .. .ها .. .ها .. قبض الكثير.

أفضل متعة لصالح برّيمة، كما لاحظ ذلك سلومة الأعور، استهانته بالمثقفيّن، ممّن يُتقنون لعبة الانتقال من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين. فإذا سَقط أحدهم من أعلى حَبْل التنقُّل المذكور تلقّفه بعصا مجازيّة غَليظة ليكسِر ظهْرَه ويزجّ به في دائرة المُقْعَدِين الخاضعين لأحلام المقاعد الوثيرة.

-قد يستحقّ منصب وزير. أليس كذلك؟

يذكر أنّهم روّجوا بالقصد خبر تعيينه وزيرًا للخارجيّة. فهبّ أهل " فجّ الريح " لتهنئته، ثمّ أعلنت الدائرة الرسميّة المختصّة في صباح اليوم الموالي تعيين شخص آخر، من أتباع صالح برّيمة الأكثر وفاءً، وهو ابن لمناضل قديم. فلازم صالح ضَوْ الفراش عدّة أيّام، ثمّ تعمّد الخروج من بيته في الصباح الباكر والرجوع إليه في ساعة متأخرّة من الليل لتحاشي العيون والضحكات الشامِتة. كُلّ الّذين سقطوا تعرّضوا لشماتة أهل " فجّ الريح" إلاّ زينوبة بنت عبد المقصود، بل يذكر الكبار أيّام مجدها بحسْرة صادقة. ولأنّها من المواضيع المتداوَلة في أحاديث مجالس الحيّ فقد انتقلت عدوى حبّها إلى الصغار من الأجيال الجديدة، حتّى كادت تُضاهي مَكانَةً الجازية الهلاليّة أو الكاهنة البربريّة الّتي قدّمتها الكتب المدرسيّة بصورة القائدة الّتي حاربت جيش الفاتحين من المسلمين لديار إفريقيّة. عجائز الحيّ يُنزّلْنها في مقام وليّة صالحة دفعتها يَدُ القدر إلى هوّة سحيقة، ثمّ نجّتْها إرادة الخالق بأن أنارت لها سبيل الحقّ فأعلنت توبتها النصوح لتمسح ذنوبها بالصلاّة والحجّ إلى الديار المُقدّسة.

الصادق بلخير كبير العسس وزوج عواطف أعلمه مِرَارًا بأنّ أهل الحيّ يتمثّلونه شيطانا في صورة إنسان، ولكنّهم لا يُجاهرون بما يُبطنون خَوْفًا على أنفسهم من نفوذه الحادث.

عينُه المُعطبّة لا يُمكن أن تكذب، لأنّها أبعد ما يكون عن دائرة النقصان الّذي به كان ويَحْيا. باب ذاكرته المتهرّم بَدَأ يفقد مرونة الانفتاح بعد أن عَلا الصَدأ كُلّ الأقفال. أمّا الخشب فأضلاع مُتشقّقة تُنذر بنسيان داهم لا يُبقي من سالف الوجود إلاّ طيف جثّة وكفنا وعيْنا زُجاجيّة تعابث كُلاّ من الحياة

و الموت وتستمّر في البقاء وحيدةً داخل ظلمة قبر سيندثر تمامًا في زمن قادم. وتُعاوده شهوة الكأس في بَارِ عاشور حيث الليل على أشدّه وبعض الرجال الملوَّثين بقيء الكؤوس الأخيرة والقَطّ الأسود السمين يتمَسّح بأرجل لا تقوى على الوقوف، وصورة عاشور في أعلى الطوار تذكّره بأعوام شبابه الأوّل وتدعوه إلى أن يشرب بجُنون الرجل الّذي أوشك على النهاية.

سوسو لا تُشجّعه على الانتحار بالخمرة، وعواطف تنظر إليه من بعيد بِعَيْن شامتة، وأنغام لا مبالية تتحيّن الفرصة الملائمة للانقضاض عليه وتسديد الضربة الحاسمة الّتي تُنهي كلّ شيء في حياته قبل أن يُسلم الروح وينتقل إلى مثواه الأخير.

يسأل سوسو عن زينوبة بنت عبد المقصود. يتصيّد أخبارها بشغف العاشق القديم الّذي لا يزال وفيّا لبعض الأوائل.و حينما يتأكّد من نهايتها الوشيكة يزداد تشبّثا بأسلوب الانتحار البطيء الّذي اختار.

حتّى عاشور لم يعد بالإمكان ظهوره لأنّه فارق الحياة منذ شهور بعد المرض السرطانيّ الّذي أهلك رئتيْه وبَعْضًا من كِليته اليُمنى.كان قد نصحه مِرَارًا بالرجوع إليها وإعادة بعض ممتلكاتها. ولكنْ ..

يزحف إليها مُلطَّخًا بأوْحال السنين وقَيْء سكرته الّتي قَرَّر برغبة الانتحار المستعادة أنْ لا تكون الأخيرة. تتعمّد في كُلّ مرّة أن تتعرّى له من موقعها في السرير مُتظاهرةً بالنوم واللاّ-مُبالاة. يدعوها إليه باستعطاف طفل صغير لم يعتد بَعْدُ على المشي دون تعثّر أو شيخ أدرك أرذل العمر، فتتمادى في مسرحيّة النوم الكاذب لتكشف في الأثناء عن بعض الشعاب المؤدّية إلى فَجْوَةِ أنوثتها المُسْتفِزّة الآسرة.

و إنْ أمكن الوصول إليها دون قيء بخطواته المتعثّرة أسرعت في فتع عينيها وضمّه إليها كي تساعده على نزْع ملابسه،ثمّ تعابث أشياءه التحتيّة بأمل استعادة بعض من القوّة. وحينما تتأكّد مرّة أخرى بأنّه عاجز تمامًا عن إطفاء نار شهوتها المتأجّجة تنقلب باكية بصوتٍ مُتقطّع ثم ّتندفع في ضجعة مباغتة إلى صباح اليوم الموالي كي تستيقظ بأعصاب متوتّرة في انتظار استفاقته لافتعال أيّ سبب للتشاجر أو طلب هديّة جديدة تكون في مستوى صبرها الّذي قد ينفد ذات يوم فتطلب الطلاق مُعْلنةً سَبَبَه للجميع. لاحظ غيابها المتكرّر عن البيت، وفي أوقات مختلفة من النهار. وإنْ سألها عن ذلك أعلمته بتقضية الوقت في التنقّل بين مغازات الملابس وغيرها لطرد بعضٍ من الملل الّذي بَدَأ يستبدّ بها.

- هل يستجيب لطلبها فيُجازيها على صبرها وكتم الفضيحة إنْ طلبت الطلاق بتسليمها مفاتيح كازينو " فجّ الريح" ويكتفي هو بالممتلكات الأخرى؟

ألحّ ليلتها في عبّ الكؤوس دون توقّف كي يعود إليها فَجْرًا مُلَطّخا بأوحال السنين والقيء الحادث. زحف إليها كعادته إثر فتح الباب الخارجيّ بعد عناء محاولات شتّى. تعثّر ليسقط.زحف إليها راجيا منها المساعدة. وأصرّت كعادتها على اللاّ-مُبالاة. آنذاك أعلن بصوتٍ باكٍ متقطّع أنّه لا يستطيع التفريط في حبّها وستنال ما ترغب فيه

أسرعت في فتح عينيها، ثمّ اندفعت إليه لمساعدته على نزع ملابسه الوسخة.صاحبتْه إلى الحمّام.غسّلته بفيض من حنانٍ مُخَادع. ألبسته ثيابًا نظيفة. مَدّدتْه على سرير أنوثتها المتفتّحة بأقصى الجهد الكاذب.

و كأنّ شيئا وقع، بل وقع بالفعل رغم مآسي عطبه الحادث. كان فَيْضهما مَعًا بَدْء سعادة بارقة لم يتبقّ منها في صباح اليوم الموالي عَدَ الوفاء بِوَعْدٍ ليليّ لن يستطيع إلاّ الالتزام به.

 

(10)

ما شاع من أخبار العلاقة الغراميّة بين خميّس المطيهري وأنغام زوجة سلومة الأعور، وفضائح أُخرى
الكازينو هو أثمن هديّة تنالُها بعد فشل الكاسيت الأولى ثمّ الثانية. أصبح عالمَها المفضّل بالليل والنهار. ارتأت أن تتعاقد مع عدَدٍ من المُطربين ممّن تقطّعت بهم السُبُل وتخرّبت أصواتهم بفعل الخمرة والسهر وتدخين النارجيلة فأضحَوْا أشباه قِطعِ أثاثٍ قديمة فقدت بمرور الزمن أيّ ألق جاذب ثمّ اهترأت، مع فرق من الطبّالة والمزاوديّة والراقصات. فانصرفت عن عُنته إلى شؤون الكازينو كأن تحرص بنفسها على تزيين سقفة وجدرانه بشتّى الأضواء وتغيير صحنه وكراسيه، وقد كلّفت أحد أنبه رجالها بالتنقّل داخل الأحياء القريبة والبعيدة لجلب الحرفاء إليه مِمّن يُغدقون المال في السهر والكأس والرقص. أمكن لها بعد شهور قليلة تحقيق مرابيح هامّة، فبدأت تفكّر جديّا في المرحلة الثانية.

أشارت عليها سوسو بأن تستعين بخدمات خميّس المطيهري النادل بمقهى الربع، صاحب السوابق والمعروف بتنوُّع علاقاته الاجتماعيّة. وحينما علم سلومة الأعور بانضمام خميّس المطيهري إلى عمّال الكازينو استشاط غضبا في البدْء ثم سرعان ما أخفاه بعد أن نصحتْه سوسو بالتريُّث وعدم إيلاء الموضوع أيّ أهميّة. فهي صاحبة المحلّ والمسؤولة عمّا تفعل، وأيّ تدخّل في شؤونها قد يُشْعل بينهما حرْبًا لا فائدة تُرْجى منها.

يُديم النظر أحيانا إلى عينه المُعطَّبة بدافع السؤال الوحيد الّذي يتردّد بصمت المرآة ووحشة المكان رغم وفرة أشيائه:

-      هل أخطأ حَقًّا بتسليمها الكازينو؟

ولكنّ الّذي يدفعه حَقًّا إلى الحيرة هو تأثير سُوسُو الجديد عليه. لم تعد مجرّد رقم في قائمة نسائه، بل أضحت وريثة زينوبة بنت عبد المقصود، وإنْ هي لا تزال على قيد الحياة، يستشيرها في كُلّ شيء عَدَا إقدامه على تسليم الكازينو إلى أنغام، فهو القرار الّذي أذهلها كما أدهش الجميع من مُقرّبيه، ولعلّه أزعج زينوبة بنت عبد المقصود أيضا رغم عدم اكتراثها بالأمر حَسَب رواية سوسو لحظةَ إعلامها بالحدث. نصحتْه بأن يعود إليها عند سُكره الفاضح. وما كان منه إلاّ أن عمل بنصيحتها، كأنْ طَرَقَ بابها طَرْقًا خفيفًا كي تغادر فراشها إليه، فتساعده على دخول الحمّام وإفراغ ما تبقّى في جوْفه وغسل وجهه ونزع أدباشه الملطّخة بأوساخ سكرته المجنونة وتعطيره إن اقتضى الحال وتمديده على السرير مع الحرص على تغطيته وتدثيره كلّما لاحظت عليه إحسَاسًا بالبرد وتعريته عند التعرّقُ كما تفعل أمٌّ بطفلها المدَلَّل تماما.

لم تُخْف عنه حقيقة نُصحها لأنغام بالاستعانة بخميّس المطيهري وهي تعلم تفاصيل العداوة القديمة بينهما. حُجّتها في ذلك أنّ القريب أفضل من الغريب، وخاصّةً إذا تعلّق الأمر بشأن لا تقدر على تسييره امرأة بمفردها، كما ليس له، حسب الاتّفاق على الهديّة، أن يتدخّل في شؤون التسيير. ذلك ما عَلِمَتْه منه في إحدى سكراته الانتحاريّة حينما اختار طرْق بابها والارتماء في أحضانها كي يفرّ إليها من شماتة أنغام الفائزة سابقا بالسعفة الذهبيّة في مسابقة "ستار أكاديمي"، ولاحقا بكازينو "فجّ الريح".

بدا له أنّه يعلم الكثير عن الحياة إلاّ المرأة. يسأل عينه السليمة عن سرّ جهله. وكأنّها تنظر إليه بشماتة كي تردّ عليه بما يشبه الإجابة: إن جهلتَ المرأة استحال فهمك للحياة. ولكنْ، أيّ فهم لهما وهو المتردّد بين عينه السليمة والأخرى المُعطّبة. ويكاد يُطلق ضحكته السمجة الّتي اعتاد عليها في أيّام سطوته لولا صعوبة الموقف. فهل عنّته هي سليلة تلك العين الميّتة؟ بين الأعلى والأسفل أفكار تظهر وحيوات تموت، ولا شيء يُحقّق الانتصار على الجسد الغادر سوى الأفكار الأخيرة من عُمُر أيّ كائن يُصرّ على أنْ يَظلّ هو ذاتُه كما كان رغم المهزلة الّتي حَدَثت.

يتذكّر ذلك الطفل الرضيع الّذي يشاركهما الفراش، بكاءه أحيانا في اللّيل عند التبلّل أو المرض، احتضانها له بِحُنوّ أموميّ غير مُعتاد كُلّما عاد إليها فَجْرا بعد سهرات الخمرة والقُمار، بعض مشاجراتهما عند قساوته عليه بالضرب أو الشتيمة وهو صبيّ ثمّ شاب في مقتبل العُمُر.

يعود ليسأل عينه المُعطّبة كما تلوح له ذابلةً في المرآة، وقد اعتاد في الغالب على لمعانها: لِمَ يتجاذبه كُلٌّ من الحُبّ والكراهيّة كُلّما تراءى له خميّس المطيهري في الاتّجاه الآخر من المشهد المرآويّ، خارج إطار مَا يُرى حِسًّا؟

بينهما مسافة ما بين الذكورة القاتلة وتلك الأمومة المُعذَّبة. ويكبر الرضيع. يتعلّم المشي والكلام. ينزل الدُرج إلى الزقاق. يُلاعب أترابه من أطفال الحيّ، ذلك الطفل الّذي أسمته خميّس بنفسها: أمّ هاربة، وأب مجهول، وفشل مدرسيّ، ثمّ تجربة أعوام مع السجن ..

يقف أمامها في مكتب خصّصتْه لإدارة شؤون الكازينو الماليّة والإداريّة. تأذن له بالجلوس. تسأله: هل أنت متزوّج أم أعزب؟ وتُعلّق على ردّه سريعا: أحسن .. ، لأنّ عمل الكازينو يحتاج إلى رجل يتفرّغ تمَامًا لهذا العمل باللّيل على وجه الخصوص. وتُضيف، إنّ سوسو هي الواسطة ولأنّها تحتاج إلى علاقاته الاجتماعيّة للاستفادة منها في العمل فقد اختارته من بين عدد كبير من الرجال ليتولّى ما يخصّ الاتّصالات مع المطربين والفِرَق الموسيقيّة والحُرفاء أيضا والإشراف على المطعم والبار ومراقبة الحُرّاس. أمّا المرتّب فألف دينار في البداية مع منحة إضافيّة شهريّة تخضع لنسبة المرابيح. ران صمت في الأثناء قبل التعليق على كلامها. نظرت إليه باندهاش، وكأنّها أبصرته لأوّل مرّة: شابّ طويل القامة بعينين كُسْتنائيّتَيْن صارمتيْن وأثر ندب خفيف على الخدّ الأيمن. أدام النظر إليها، وكأنّه يعرفها من زمان، تلك المرأة الّتي رآها لأوّل مرّة في سهرة "ستار أكاديميّ " منذ ثلاثة أعوام تقريبا. هي ذاتها تلك الأنثى الّتي اشتهاها مع عَدَدٍ كبير من شبّان الحيّ. فيعدها بالعمل الدؤوب

و تعده بالمرتّب القارّ والمِنَح ..

يستلم الشغل في اليوم الموالي بعد أن اعتذر من صاحب مقهى الربع .. لا تفارق عَيْناها قامتَه المُدْبرة، وكأنّها تتوقّعُ انهيارها الوشيك بين أحضانه.

نبَّهَهُ أحَدُ رجاله المخلصين مِرَارًا إلى أنَّ شيئا مّا يحدث بينهما. فلم يُعِر المسألة أيّ اهتمام، إذْ في ذلك التنبيه وشاية رخيصة، ثمّ إنّ عينه المُعَطبّة لا تكذب. لاحظ في البدْء حرصها الشديد على ملازمة البيت لَيْلاً والانصراف إلى تسيير شؤون الكازينو نَهَارًا. حاول مُراقبتها من بعيد. أعلمه الصادق بلخير بأنّها تُودع أموالاً وفيرة بالبنك في كلّ صباح بعد استلامها كامِلة من خميّس المطيهري. وتأكّد من صحّة الأخبار بنفسه عندما أغدقت عليه الكثير من المال لتبديده في القمار. فازداد اطمئنانا بأنّ العلاقة بينهما تنحصر في دائرة الشغل، لا أكثر ولا أقلّ.

اهتمامُها بالكازينو الهديّة أنزل عن كاهله ثِقلاً هائلا لم يعد قادِرًا على احتماله، ثمّ انصرافه عنها إلى سوسو في ليالي سكرته المجنونة ملطّخًا بالقيء وأوحال السنين الماضية ليس خافيا عنها. فلم تُبْد أيّ اعتراض عليه، إذْ أدركت منذ بَدْء عُنّته أنّه أضحى يُمثّل بالنسبة لها عبْءًا ثقيلاً يستدعي التخلّص منه بأيّ ثمن، فكان الثمن هو الكازينو مقابل هامش واسع من الحرّيّة لِكُلّ منهما. تفتعل أحيانا غيرة المرأة فيُدرك بحدْس عينه المُعَطّبة أنّها تريد امتحان ما تبقّى من ذكورته. ويفتعل هو أيضا مساءلتها عن سبب التأخير إنْ ثبت تأخّرها آنَ الرجوع إلى البيت في آخر العشيّ.

بين سكراته المجنونة العاصفة بآخر ما تبقّى من بنيان جسده الآخذ في التهرّم وبين سوسو يعود إليها مُثقلا بأوجاع من فقد الأمل في سعادة جديدة تُنقذه من الهلاك القادم. يسأل أنغام المال بعد خسارته لِكُلّ ما كان يملكه في القمار، فلا تبخل عليه، بل تتعمّد تقبيله في كُلّ مرّة وتهمس في أذنه بكلمات حُبّ كاذب بعد أن تدسّ في جيبه مصروفه الليليّ، فيغادر البيت إلى بار عاشور أو طاولة القمار مع الصادق بلخير رئيس العسس المتقاعد وفرج الربعي صديق الشباب الّذي يكتفي عَادةً بمجالسة المقامرين واحتساء كؤوس الوسكي والمزاح ..

قد يعود إليها، وقد لا يعود. حينما يفقد احترام الزوج يلوذ بسُوسو. ليالٍ طويلة من الانتظار تتلهّى أثناءها بمراجعة الحسابات في ملفّ خاصّ، ثمّ تُقرّر استخدام حاسوب مَحْمول للغرض، تُخزّن فيه كُلّ المعلومات الحسابيّة الجديدة، وحينما يُصيبها الإعياء تلتجئ إلى الفراش. تُشغّل التلفزيون لتتنقّل عبر الفضائيّات إلى أن تُخلد لضجعة مباغتة. فكّرت في الاتّصال به ذات ليلة بعد تردُّد طويل. افتعلت مساءلته في شأن بسيط. ولأنّ المسافة بين الكازينو وشقّتها لا تتجاوز عِدّة أمتار فقد دعته إلى المجيء لمزيد الاستيضاح. سوسو تعلم بدايات القصّة، بل هي الّتي نصحتها بأن تختار لها خميّس المطيهري رَجُلاً يطفئ بعضا من نار شهوتها المتأجّجة. أدركت بما لا يدع مجالاً للشكّ مدى إخلاص المومس القديمة لمصلحتها. تحدّثنا طويلا في كُلّ التفاصيل الخاصّة بإنشاء علاقة بينهما، وجعلتها تطمئنّ حِينما وضعت لها خطّة محكمة لا تقدر عليها إلاّ المرأة المُحَنَّكة، كسُوسو طَبْعًا: لن تنام بالليل، وستتولى بنفسها مُراقبة عَوْدته فجْرًا، ستُنَبِّهها إلى هيئته المحترمة إن ثبتت لها بواسطة طرقات خفيفة تجعل خميّس المطيهري يُسرع في الانتقال إلى شقّتها قبل صعوده السُلّم. وإنْ سار إليها على أربع يختلف عدد الطَرَقات وإيقاعها ووقعها أيْضا، وبإمكان خميّس آنذاك مغادرة فراش أنغام عند الصباح بمُساعدة المرأة المُجرِّبة الّتي استطاعت كسْب ثقة الجميع، دون استثناء. ستنام أثناء النهار. طبيعة الشغل الجديد تستدعي ذلك، وجديد عمارة الكازينو أيْضا أنّها أضحت شققا مفروشة للكراء بعيدًا عن الشبهات، أو بشبُهات لا تتناقض والقوانين الجديدة في حيّ " فجّ الريح" ..

منذ أن تولّى سالم ضَوْ زعامة حزب التّسامح والديمقراطيّة تغيّرت الشعارات الّتي تُرشّق جدران الشوارع والأزقّة في حيّ "فجّ الريح" وواجهات الإدارات الرسميّة والمغازات والمدارس والمقاهي وسوق الربع، لأنّ منظّري الحزب من مستشاري سالم ضَوْ تصيّدوا أقوالاً شتّى لأحزاب المعارضة الرسميّة وغير الرسميّة وأعادوا صياغتها بما يستجيب لسياسة الصاعدين الجُدُد، فما عاد بالإمكان التمييز بين ما لحزب التسامح والديمقراطيّة وما ليس له، وقد أضحى له بحُكم الأمر الواقع. سالم ضَوْ هو المستفيد الأوّل والأخير من الخليط الشعاراتيّ العجيب بين اللّبيراليّة ورأسماليّة الدولة، بين اليمين واليسار، فهو نصير الجميع، تجّار السوق بما في ذلك السوق السوداء والعمّال والمُوَظّفين والعاطلين عن العمل وسُرّاق الليل والنهار والأتقياء .. حرص خميّس المطيهري بعد استشارتها في الأمر إدخال تغييرات هامّة على مكان خلوات كبار السادة في " فجّ الريح ". غيّر الديكور. غيّر الأثاث. غيّر كُلّ شيء. أزاح طبْعًا صورة صالح برّيمة وأحَلّ مقامها صورة سالم ضَوْ بابتسامته العريضة الّتي لا يقدر عليها إلاّ أستاذ مختصّ في العلاقات الخارجيّة يُتقن شتّى فنون الديبلوماسيّة. ولأنّ سالم ضوْ يُدْرك حقائق خاصّة جدّا لا يعلمها إلاّ ثلّة قليلة من المؤرّخين والأنتروبولوجيّين فقد ارتأى عَدَم التفريط في القديم والاكتفاء بإكسابه صفة الجديد. لذلك كلّف فرج الربعي بتولّي شؤون عمدة الحيّ عِوَضًا عن عثمان المبروكي وتعيين منصور الفرطاس رئيسًا للعسَسس خَلَفًا للصادق بلخير، وهو النادل سابقا في بارْ كَازينو "فجّ الريح"، وإعدَاد خميّس المطيهري بما يلزم من الدروس التكوينيّة الخاصّة لترشيحه نائبا في مجلس الشعب عِوَضًا عن سلومة الأعور، السكّير المقامر المستهتر في أنظار سُكّان " فجّ الريح " ..

يركبها كثوْر هائج، فترتخي تحت خُواره المتقطّع مْثل بقرة ذبيحة، يخترقها بغلظة من يريد الانتقام لِشهوة قديمة. هي ذاتها تلك الفتاة الّتي أبصرها على شاشة التلفزيون في سهرة "ستار أكاديمي" وتَشهّى عريها مع آلاف الشبّان ممّن ظلّوا أوفياء لذكُورتهم رغم تأنيث كُلّ شيء في حياة «فجّ الريح».

و الأحياء المجاورة والبعيدة. لا تدعه يهدأ. كُلّما استلّ خنجره منها دعته إلى تكرار المشهد ذاته، فتشتعل ثمّ تنطفئ، وينطفئ ثمّ يشتعل، يُهرق ما تيّسر من دِفئه في حَوْضها فتطلب المزيد، ثمّ المزيد: فجوة فجدار من اللحم المرتخي تليه فجوة، كتعاقُب حالات الشدّة والارتخاء، ليظلّ هو الممتحَنَ في كُلّ الوضعيّات، وهي المستفيدة بَدْءًا وأخيرًا وفي الأثناء عَمَلاً بنصائح سوسو، صاحبة التجارب العديدة.

 تسأله برغبة المعرفة، لا غير:

-هل ما يحدث الآن هو المماثل ذاته لِمَا حَدَث في الما – قبل؟

 فيجيب وعيناه لا تُفارقان أرضها الّتي لا تزال بكْرًا رغم انفتاحها الكامل على ما ترغب فيه:

-اللحظة لا تكرّر اللحظة وإن تشابهتا، وهذا لا يخصّ ما نحن بصدد فعله، بل يشمل كُلّ شيْء في الحياة.

ويسألها وهو العارف مسبقا:

-هل أنتِ هي أنتِ بعد الطعن الّذي حدث؟

فتجيب وعيناها لا تفارقان خنجره المُسْتَنْفَرَ من جديد:

-أنا الأنثى. هذا العالم الّذي أرى الآن هو عالمي.

وكأنّها تخاف عليه من عُنّة مشابهة لِعُنّة سلومة الأعور، ليس بدافع الخوف عليه تحديدا بل الخوف من خسارة أخرى مُفاجئة تُفقدها ما هي عليه من اطمئنان مُؤقّت، فتردف قائلةً:

-تمادَ في ذبْحي يا سيّدي الآن قبل أن تعود السيادة إليّ! اخترقني بهذا الخنجر، ولكلّ شيء ثمنه.

وهي تريد أن تقول أيضا، ولكنْ بين السطور، لا غيْر:

-منذ أن تولّى سالم ضوْ زعامة حزب التسامح والديمقراطيّة والنساء رجال والرجال نساء، إلاّ أنتَ، حتّى هذه الساعة، في ما أعلم.

تردَّدَ في مجالس سكان "فجّ الريح" الخاصّة جدّا ما مفاده أن سالم ضوْ يهوي خنجر خميّس المطيهري، إذْ يختلي به في إحدى الشقق المفروشة. يكتفي بالنظر إليه والصلاة على النبيّ. يمرِّرُ لسانه على حَدّه الدافئ الذابح. ولأنّه شخص مُثقّف محترم جدّا وأستاذ أجيال وزعيم بأتمّ معنى الكلمة ومتسلّق انتهازيّ خائن للأمانة ووفيّ أيضا لما يقول فقد كان في مستوى التزاماته إذْ يكتفي عادة بالفرجة على فخامة الخنجر دون إحراج خميّس المطيهري الّذي صرّح مرارًا وتكرارًا بأنّه يكره اللّواطيّين والمُخنَّثين، ويُؤثر فَجَوات الحرير الناعم على سراديب الجرذان وتصريف المياه المُسْتعملة. ينبطح سالم ضَوْ أرضا كلّما أفرط في عبّ الكؤوس. يُعاوده شذوذ المُخَنَّثين، فيُسرع إلى غرفة قريبة من المكان الّذي خصّصته أنغام لجلسات كبار السادة في حيّ "فجّ الريح". ينزع ملابس الرجل ليلبس ما شفّ من ثياب مومس في الأربعين. يُخفي صلعه بشعر أنثويّ مُسْتعار. يتجمّل بالكُحل وأحمر الشفاه ثم يعود إلى خميّس المُمَدّد على الكنبة ماشيا متعثّرا أوْ حابيا. يستعطف صاحب السوابق العدليّة بأن يُغدق عليه من أشيائه ما يُذهب عنه بعضا من شهوته الناشزة. ولكنّ صاحب الخنجر الفاخر مُصرّ على موقفه. وقد أمكنه ذاتَ مرّة أن يصوّر بكاميرا هاتفه الجوّال بعضا من مشهد الزعيم المخنّث. حرص على أن يظلّ سرّيّا للغاية. لم يُطلع عليه أحدًا إلاّ أنغام الّتي رأت فيه وَجْهًا آخر لفحولة نادرة قَدْ تُحْسَد عليها. وكُلّما أعادت مشاهدة سالم ضَوْ وهو يستعطف خميّس المطيهري المُصِرّ على موقفه الأوّل في رفض التعامل مع اللواطيّين والمخنّثين فقدت العقل وأضحت في الفراش امرأة بلا حياء ينطق لسانها عند الهَيَجان بأقذع الشتائم والسباب، وتكاد تلفظ الروح عند أقسى حالات الضِرَاب. تدعوه بصريح العبارة إلى القسوة الضروريّة للانتقام من زوجها سلومة الأعور العِنّين، إلى وصفها بأقبح الألفاظ ليكتمل بذلك مشهد الانتقام. تُهدِّده بالطرد من الكازينو إنْ لم يفعل ذلك بنذالة الرجل الّذي عايش حُثالة المجتمع في السجن قبل إعلان التوبة الكاذبة في نظرها. تَرى في خِنجره المسلول وشمًا حقيقيّا لكائن لقيط، وتُديم النظر أثناء شهوتها المجنونة في عينيه آنَ غياب صفوهما بحُمْرةِ مفاجئة، بل تخشى على وجهها من نُثار دَمٍ ينبجس منهما لَوْلا سَريان الدفء في حوضها المُتوثِّب المرتعش مرارًا وتكرارًا قبل أن يكتمل مشهد الانتقام الجميل في نظرها. حينما تولَّى سالم ضَوْ شؤون زعامة الحزب فكّر في إبعاد كُلّ الكفاءات السياسيّة والعلميّة خَوْفًا على نفسه من تكرار مسرحيّة الخيانة الّتي اعتاد عليها تاريخ حزب التسامح والديمقراطيّة منذ تأسيسه. عجّل في تقريب منصور الفرطاس منه وتكليفه برئاسة العسس، ذلك النادل الّذي بَدَأ الشغل في بار عاشور مع سلومة الأعور قبل فتح بار كازينو "فجّ الريح" وجعْله البارمان الأوّل بموافقة كُلٍّ من زينوبة بنت عبد المقصود، مالكة المحلّ آنذاك، وسلومة هو الّذي أشار عليها بالفكرة، ثمّ رأى وجوب المراهنة على رأس المال بتعيين فرج الربعي عُمْدَةً للحيّ عِوَضًا عن عثمان المبروكي، ولحاجته الدائمة إلى خميّس المطيهري قرَّرَ بمُفرده ومن غير أن يستشير أَحَدًا استكتاب صِحافيين لتقديم صورة مشرقة لمُرَشَّح حزب التسامح والديمقراطيّة القادم لمجلس الشعب إلى أنْ استقرت في الأذهان، أثناء النهار طَبْعًا، ملامح نورانيّة لوجه نبيل هو سليل مناضل من الدرجة الأولى استشهد في الدفاع عن الوطن ضدّ المُستعمِر الغاشم. ولأنّ تبديل الأحوال يستلزم تعبيد طريق جديد فقد تآمر على مثقّفي الحيّ وحاملي أعلى الشهادات بأن زجّ بهم في دائرة اليأس، ليندفعوا فرادى إلى مختلف أنواع الانتحار البطيء بالانطواء أو الإدمان على التدخين والخمرة وزرع بذور الفرقة والكراهية بينهم أو الهجرة إلى بلدان الخليج العربيّ لجَمْع المال قصد شراء السيّارات الفارهة وامتلاك الأراضي الصالحة للبناء والاستثمار في الميدان العقاريّ أو التخلّي عن أفكارهم المستنيرة تمامًا مقابل وُعود ضمنيّة دعت الحاجة إلى الوفاء بها الانتظار جلوسًا أو وُقوفا في طابور هائل ممّن يقدّمون سِيَرهم الذاتيّة لمكتب خصّصه سالم ضَوْ لهذا الغرض. ولأنّ عَدَد الخُطط المزمَع تخصيها كذبا لهؤلاء معدودة بحُكم محدوديّة المجال الجغرافيّ والعدد السكانيّ لحيّ " فجّ الريح " فقد بلغ التنافس بهم حَدّ إعلان حرب ضروس بَدَدّت شمل الجميع وحوّلتْهم إلى أعداء شرسين لبعضهم البعض .. ويضحك سالم ضَوْ كلّما أعلمه منصور الفرطاس بأنّ التباغض بينهم بلغ حَدّا مذهلاً. يأمر النادل القديم بأن يملأ كأسه، ثمّ يومئ إلى كؤوس كُلّ من فرج الربعي وخميّس المطيهري وسوسو الّتي انضمّت هي الأخرى إلى المجلس كي تقوم بما يلزم من الخدمة وتسهر معهم إلى ساعة متأخّرة من الليل في انتظار عودة سلومة الأعور فَجْرًا. هذا إنْ بَدَا لسالم ضَوْ أن يبدأ سهرته معهم بعَبّ ما يلزم من الكؤوس قبل أن تتدبّر سوسو أمره حسب اتّفاق سِرِّيّ بينهما وبمعيّة خميّس المطيهري. فيُعلن سالم ضَوْ انتهاء الجلسة بعد تظاهُره بالإعياء. وحينما ينفضّ المجلس الأوّل يتحوّل الثلاثة فرادى إلى شقّة قريبة. هناك يبدأ الاستعراض بخنجر خميّس المطيهري العجيب، يليه انصرافه مع سوسو خارج الشقّة إلى حيث أنغام في انتظار ذابحها المستهتر، وظهور الساسي خرشُف حارس الكازينو اللّيليّ من إحدى غرف الشقّة بجُثّته الهائلة ورأسه الغليظ وشاربيه الكثّيْن وعينيْه المنتفختيْن بفعل السهر والخمرة. يضع هراوته جانبا لينزع قشّابيّته وينقضّ على سالم ضَوْ بوحشة لا يألفها إلاّ المُخنّثون، كي يدعه في الأخير فريسة ندم مستعاد.يُسوّي قشّابيّته ويُعابث شاربيْه بابتسامة مُسْتفِزّة. ينظر إلى ضحيّته الباكية ببعض الشماتة، ثمّ ينزل الدُرُج بخطى ثابتة إلى الساحة المقابلة لباب الكازينو الخارجيّ. يذرعها طُولا وعَرْضًا، ثمّ يعود ليجلس على كرسيّ هناك في الداخل خلف الباب الرئيسيّ. يلتفّ كقُنْفذ بقشابيّته لينام قليلاً قبل انبلاج ضوء الصباح.

جديد سالم ضَوْ الآخر أنّه، رغم بليّته المشار إليها وكراهيّة للمثقّفين وأصحاب الشهادات العُليا أنّه حريص على الظهور أمام الرأي العامّ في "فجّ الريح " على كونه إنسان العلاقات الاجتماعيّة. لذلك دَعَا إليه سوسو ذات عشيّ إلى مكتبه في مقرّ حزب التسامح والديمقراطيّة كي تصحبه إلى شقّة زينب بنت عبد المقصود. سألها في البدء: هل تزيرينها باستمرار. وعلم أنّها مصرّة على الوفاء. إلاّ أنّها غيّرت أوقات زيارتها من الصباح إلى آخر العشيّ بسبب عملها الجديد باللّيل. وكأنّ سالم ضَوْ أدرك طبيعة هذا العمل الليليّ أو بَعْضًا منه، ولكنّه آثر الصمت على التصريح بما توصّل إلى فهمه تحديدًا. أَمَرَ أحد مناضلي الحزب بأنْ يكون معهما في المهمّة النبيلة. فأرْكب سوسو حذو السائق، واختار الرجلان الجلوس في الخلف للظهور أمام عيون المارّة من سكّان الحيّ وزائريه بمظهر رسميّ لا يستدعي أيّ شكّ.

هزالُ امرأة في الستّين أدهش الجميع: شعر أبيض منفوش، وعظام وجهٍ ناتئة ونظّارتيْن بِعَدَسَتَيْن سميكتيْن تُخفيان ما تبقّى من ألق أنْثَويّ اعتاد عليه الكبار ممّن استهلكوها ثمّ أحبّوها بصدق وعديد الصِغار رغم محاولات سلومة الأعور تشويهها طيلة أعوام مجده الصاعد، ويدان نحيلتان تبدوان خارج اللحاف الّذي يُغطّي نصف صدرها وأسفل جسدها المُمَدَّد. بدت للجميع نائمة أو مُسْتسلِمة لارتخاءِ ما بعد نوبة الصرع الّتي تُعاودها بين الحين والآخر. وعلى الكوميدينو المُجاور لسريرها عُلب أدوية مختلفة وقارورة ماء معدنيّ نصف ممتلئة وصحن به غلال بدأت تتعفّن، وقد انتشرت رائحتها في كامل الغرفة. أسرعت سوسو إلى النافذة المُطلّة على ساحة الربع لتفجيجها قليلا بعد أن قبّلت جبينها مثلما جرت العادة. وكأنّ المومس الوفيّة لسيّدتها أحسّت بالخجل لبعض التقصير في الخدمة نتيجة الرائحة العطنة. إلاّ أنّها سرعان ما تداركت أمرها بأن أيقظتها من الدهشة المباغتة حينما أبصرت سالم ضَوْ يتقدّم إلى سريرها ويُقبّل هو الآخر جبينها باحترام صادق رغم الخلفيّة السياسيّة للموقف. حَدْسها لا يكذب. اكتفى السائق بالتقاط صورتيْن لِنشرهما طبعا في الصحف مع مقالات تُشيد بسالم ضَوْ وعطفه الخاصّ على الشيوخ والعجائز، في الأولى سالم ضَوْ يُقبّل زينب بنت عبد المقصود، وفي الثانية يسأل عن أحوالها ويُقدّم لها هديّة.

-هل أنتِ الآن بِخير؟

تَمَسّكت بيده، وأجهشت ببُكاءٍ مُرّ متقطّع. لأوّل مرّة طيلة أعوام مرضها يزورها مسؤول رفيع المستوى من حيّ " فجّ الريح ". هَنّأتْه بمنصبه الجديد. فأدرك أنّ سوسو قد أعلمتها بالتغيير الّذي حَدَث على رأس إدارة حزب التسامح والديموقراطيّة في الحيّ. دعت له بالتوفيق ودوام الصحّة وطول العُمر.

حينما تصفّح سلومة الأعور جريدة " الديموقراطيّة للجميع " وطالعتْه صورة سالم ضَوْ يقدّم الهديّة لزينب بنت عبد المقصود أدرك أنّه في الطريق صَوْب حتفه السياسيّ الوشيك: غياباته المتكرّرة عن المجلس، سكراته الجنونيّة في بار عاشور وعودته فَجْرًا إلى عمارة الكازينو في حالٍ مُزرية، عُنّته المُسْتفحلة، أخبار خيانة أنغام له مع خميّس المطيهري الّتي بَدَأت في الانتشار .. تَمَلَّكَهُ غضب عاصف، فاندفع كالثور الهائج إلى أشياء غرفة الاستقبال. بدأ يَقلب الطاولة البلّوريّة وما عليها من كؤوس وصحون، فاندلق الحليب وانقلب الكعك وبعض الغلال، ثمّ أسقط التلفاز وطاولته. وكأنّ الأشياء عند تهاويها تتنادى في هدير غضبه العاصف، إذ اختلط الزجاج بأطعمة فطور الصباح وأوراق الجريدة المُمزَّقة ومجلّدات الكتب الّتي تُتّخذ عادةً في حيّ " فجّ الريح " للزينة فحسب، كأن تُوضَعَ في مكتباتٍ تُوهم زوّار البيت من الضُيوف بثقافة لا وجود لها في الواقع، أو لعلّه اتّفاق أهل البيت وزوّاره الضمنيّ أنّ تلك الكُتب، مِثل الصحون والكؤوس الفخّاريّة والبلّوْريّة والملاعق والشوكات والوسادات المُطرّزة وباقات الزهور البلاستيكيّة يُراد بها التجميل، لا غيْر ..

لحظةَ بلوغ خبر غضبه الجنونيّ إلى أنغام غادرت مكتبها لتصطدم عند دخولها إلى الشقّة بهَوْل الفَوْضى الحادثة. حاولت تهدئته دون جدوى. وكأنّه استغلّ فرصة ظهورها لِيُمْعن في تكسير بلّور النوافذ. فلم تَرَ بُدًّا من أن تصرخ بأعلى صوتها مُسْتعينةً بسوسو وعمّال النهار في عمارة الكازينو. وكادت تسقط أرضا من شدّة الرعب لمّا أبصرت الدم ينزف من ذراعه اليمنى. حاولوا الإمساك به قصد تهدئته. إلاّ أنّ غضبه الهيستيريّ حَوّل جسده إلى ما يُشبه قطعة فولاذ تهزأ بالريح والمطر والشمس الحارقة. آنذاك رأت سوسو ضرورة الالتجاء إلى الساسي خُرشف حارس العمارة الليليّ. فتحت غرفته في أعلى السطح بمفتاحها الخاصّ الّذي تستخدمه عند الشدائد الخاصّة والعامّة وهو يغطّ في نوم عميق. استيقظ مذعورًا على صياحها المباغت.فأعلمته بالكارثة. ولأنّ الموقف خطِر ويستدعي التدخّل العاجل فقد اندفعَ إليه شبه عَارٍ بجُثّةٍ بَدَتْ للجميع أكثر ضخامة ممّا هي عليه عند الاكتساء. حاول تهدئته في البَدْء، ولكنّ سلومة الأعور مُصِرّ على غضبه قَوْلاً وفِعْلاً. آنذاك اضطُرّ لاستخدام قوّته البدنيّة المُؤذية عادَةً. أمسكه من كتفيْه لِيرفعه قليلا. بدت عينه السليمة في الأثناء حمراء من أثر الغضب العاصف، وتعجّب من عينه المعطّبة وقد تراءت له زجاجيّة مُسْتفِّزّة. عاجَلَهُ بضربة رأس أفزعت الجميع، ولكنّها أدّت وظيفتها كاملة لَمّا تهاوى جسد سلومة الأعور وتكوّم على الأرض مُغمًى عليه. ودون أن ينتظر كلمة شكر من أحد اكتفى بعرض ابتسامته الّتي عادةً مَا يشي بها إثر تلقُّف هراوته والانصراف عن سالم ضَوْ السكران المتباكي. سلّمت أنغام وخميّس المطيهري بأنّه رجل المواقف الصعبة ولا يُمكن الاستغناء عن خدامته، بل ارتأت سيّدة الكازينو الجديدة بعد شكر سوسو على الفكرة الترفيع في مرتبّه، وقد تحتاج هي الأخرى إلى خَدَامته الهِراوِيّة الخاصّة إن انتقلت العدوى من سالم ضَوْ إلى خميّس المطيهري.

استيقظ سلومة الأعور بعد إغماء ساعة تقريبا. حاول الجلوس فلم يستطع نتيجة الدُوار. توقّعت سوسو عقابا شديدًا. سألها عن أنغام، ثمّ طلب منها كأسَ مَاء فتبدّد خَوْفها لمّا سمعته ينطق بكلمات الشكر. أدركتْ أنّه فهم قصدها من الاستعانة بالساسي خرشُف. اقتربت منه لِتُمسك بيده وتُقبّلها طالبة منه الصفح. ولأنّها لم تُخطئ في حقّه، بل العكس، ابتسم في الأوّل، ثمّ انفجر ضاحِكًا ولسان حاله يقول حينما تذكّر ضَرْبَةَ الرأس:

-رأس عجل ..

 رَوَى لِنُدْمانة في بار عاشور لَيْلَتَهَا تفاصيل الحدث، فسرى الضحك إلى جميع الطاولات. ولأنّ صادق بلخير يعلم بعض الأسرار الخاصّة بخَلَوَات سالم ضَوْ مع خميّس المطيهري تليها خلوته الليليّة الأخيرة مع صاحب الرأس العِجْلِيّ فقد أغرق في ضَحِكِ شبه هستيريّ لفت انتباه السَكارى رغم كثرة الكؤوس الّتي شربوها، فعاودتهم رغبة الضحك ليستحيل البار بذلك إلى ما يُشبه روضة أطفال لاعبين أو ساحة مدرسة ابتدائيّة في وقت الاستراحة بين الدروس أو جناح في مستشفى للأمراض العقليّة.

سألهُ صادق بلخير بصوْتٍ عالٍ مُتعَمَّد لمحاولةِ إضحاكٍ أخرى قبل أن تُعاود بعض السكارى موجة الاكتئاب الّتي عَادَةً ما تتزامن وآخر الكُؤوس ليستحيل الجدل والتنكيت إلى بُكاءٍ مُرّ:

-بِماذا أحْسَسْت آن ضَرْبته الرأسيّة؟

أطلق سلومة الأعور ضحكةً مُتقطِّعة استجابت لها عينه السليمة في حين ظلّت الأخرى ساكنة دُون حِراك.

-سمعْتُ دويّا هائلا في قاع الجمجمة، ثمّ ..

-ثمّ ماذا؟

-لا شيء فقدتُ الوعي تَمَامًا ..

وقف أحَد السَكارى. ترنّح في مشيته إلى أن قارب طاولة كُلٍّ من سلومة الأعور وصادق بلخير:

-رأسُه العِجليّ بهذا الحجم. أليس كذلك؟

و أومأ بكلتا يديه إلى حجم الرأس، ثمّ اكتفى بيَدٍ واحدة كي يومِئ إلى شيء آخر بطرْح السؤال.

-الرأس العجليّ فهمْناه، والدليل على ذلك ما حَدَث لرأسِك المُحتَرَم، وجهازه السُفْلِيّ؟ كيف هُوَ؟ أفرغ سلومة الأعور الكأس في جوْفه وقرّر الإجابة في هذه المرّة بنبرة تفتعِل الجِدّ:

-ِسألْ من هو على علم بجهازه السفليّ !

بَدَا للسائل أنّ الإجابة الماكرة تعنيه هو شخصيّا، فأسرع بتكسير إحدى القوارير الفارغة ليهمّ بالانقضاض بها على سلومة الأعور لَوْلاَ تدخُّل حَرَس البار من أصحاب السواعد المفتولة وحنكة صادق بلخير البوليسيّة الّتي غيّرت مجرى الحديث من رأس ساسي خرشف إلى مكانة الأمّ في حياة الإنسان مهما تقدّم به العمر. آنذاك انفجر السكران الغاضب باكيا بعد تقبيل سلومة أعور واستسماحه. وانتشرت العدوى البُكائيّة إلى جميع السكارى باستثناء صادق بلخير طبعا، مُدَبِّر الحيلة. حتّى سلومة الأعور لم يتمالك نفسه عن البُكاء. البَرْمان ومساعدوه وبعض حُرّاس البار من أصحاب العضلات المفتولة انخرطوا هم أيضا في موجة البُكاء الجماعيّة. لو كان عاشور صاحب البار حاضرًا في تلك الليلة لشاركهم البُكاء، بل كَادَ الصادق بلخير ينسى الحيلة وينضَمّ إلى الجمْع الباكي. تذكّر الرجال السكارى أمّهاتهم، كُلٌّ بطريقته، وراحوا يذرفون الدمع وينتحبون بمن فيهم شيخ السبعين الّذي بَدَا دَردُه على أشدّه كلّما فتح فمه عند الشهيق.

عاد إلى سوسو في تلك الليلة مُلطّخًا بالقيء وأوْحال السنين الماضية. فاحتضنتْه كَعَادتها. أطعمتْه من ثمار جَسَدها المتبقّية بعضا من حنين لم يُؤجّح فيه نار ذكورته الغادِرة رغم كُلّ ما بذلتْه من جهد إثاريّ. واستعاد الرغبة في البكاء. حينما سألته عن السبب أجابها بصوت خافت، كَأنّه يُداري به سِرًّا خطيرًا:

-تذكّرتُ أُميّ.

كادت تضحك لَوْلاَ حَرَج الموقف:

-اللّه يرحمها! أنا أمّك الآن. إذا أردتَ الرضاع وفرّتُ لك ما يلزم. نَمْ، فَوَرائي ما تبقّى من شُغل ليليّ.

أغمض عينيْه، وكأنّه طفل مدلّل مُطيع لأمّه. لمّا تأكّدت من نومه حرصت على تغطيته ومغادرة الفراش إلى مكان آخر حيث أنغام وخميّس المطيهري بعد انقضاء السهرة الخاصّة مع سالم ضَوْ. هناك نظرت سوسو من ثقب الباب إلى جَسَدَيْن عاريَيْن يركبان مَعًا بِحار شهوة مجنونة أخرى إلى آخر الفجر في غفلةٍ من سلومة الأعور وجميع سكّان العمارة.

 

(11)

خميّس المطيهري يترشّح لعُضويّة مجلس الشعب عِوَضًا عن سلومة الأعور وينجح في الانتخابات
لم يستمع لنصائح صالح برّيمة، بل واصل سَهَرهُ إلى ساعة متأخِّرة من الليل في بار عاشور كي يعود إلى أحضان سوسو غالبا. تنتظر عَوْدَتُه ملطّخا بالقيء وأوحال السنين الماضية. ويُساعده صادق بلخير على الوصول إلى الطابق الثالث حيث باب أنغام المُظلم، وباب سُوسو شبه المُضاء.

تتعاقب النهارات والليالي، ولا شيء في الأفق عَدَا نِداء خافت غريب يُنذر بكارثة قادمة، لعلّها هلاكه المؤجّل رغم ما حَدَث وما قد يحدث في المستقبل القريب. ذكرياته مع زينب بنت عبد المقصود أضْحتْ تُؤرّقه إنْ لم يغْرق في سَكْرَةِ كؤوسه الليليّة. أدرك مرارًا أنّه أهلك بعضا من وجودها من غير أن يُجْهز عليها. تمنّى قتلها الكامل كي لا يدع لها فرصة الثأر ولزعيم حزب التسامح والديمقراطيّة الجديد. غيابُه المتكرّر عن اجتماعات مجلس الشعب يستلزم حسب القانون الداخليّ فصله، إلاّ أنّ الساهرين على شؤون البلد العامّة يرون في ذلك مَسّا من سمعة المجلس ومصداقيّة حزب التسامح والديمقراطيّة. لذلك آثروا الصمت في انتظار انقضَاء مدّة عضويّته وتغييره بمن يليق بمثل هذه المهمّة النَبيلة. خميّس المطيهري هو البديل بإجماع كلّ من سالم ضَوْ أستاذ القانون والعلاقات الدوليّة في السابق قبل أن يتولّى زعامة حزب التسامح والديمقراطيّة في حيّ " فجّ الريح " وفرج الربعي العمدة ومنصور الفرطاس كبير العسس. أشار سالم ضو على خميّس المطيهري بأنْ يكسب ودّ مُواطني حيّ " فجّ الريح"، وطلب لهذا الغرض مساعدة أنغام. ولأنّ المهمّة القادمة تستلزم ملفّا جديدًا بأوراق ناصعة البياض فقد بَدَأ سالم ضو بتمزيق أوراق خميّس المطيهري القديمة. استغلّ لقب المطيهريّ لإثبات ماضيه النظيف حدّ الطهَارة، بلْ كادَ مُواطنو " فجّ الريح " ينسون ماضيه بَدْءًا بالأصل والإخفاق المدرسيّ والإدمان على الكحول والمخدّرات وسرقة المنازل بالنهار والليل ودخول السجن لو لا بعض الأقاويل المُغرضة سعَت بها أحزاب المعارضة إلى إحداث البلبلة لإرباك المرحلة الأولى من تنفيذ برنامج حزب التسامح والديمقراطيّة الانتخابيّ. ولأنّ تبْييض السمعة هو من قبيل ضرورة تبييض الأموال في حيّ "فجّ الريح" فقد رأى سالم ضوْ وجوب اعتماد خطّة مغايِرة تُراهن على أوراق جديدة عوَضًا عن أوراق الماضي القاتمة السَوَاد. دعاه إلى اصطحابه في زيارة شيوخ الحيّ من العُجّز، وتعمّد تشريك الصحافة والإذاعة والتلفزيون في تغطية الأحداث.حينما أبصرتْه زينوبة بنت عبد المقصود ضمن مسؤولي "فجّ الريح" تمَسّكت بيده لِتُجلسه قريبا منها وتضمّه إلى صدرها. فتشبّث بها هو الآخر لينْخَرطَا مَعًا في بُكاءٍ خافت حَوّله المُصوّر التلفزيونيّ إلى مشهد مؤثّر لجميع مُواطني " فجّ الريح "، وموقف نبيل لخميّس المطيهري، بل رأى فيه سكّان الأحياء الأخرى المجاوِرة والبعيدة من مدينة الشاطئ بَطَلاً حقيقيًّا ذكّرهم بزمن الوفاء القديم الّذي وَلّى ليدع الحياة تمضي في طريق آخر.

بَدَأ سلومة الأعور يستعدّ لمغادرة المشهد السياسيّ في الحيّ. أدرك منذ إصابته بالعجز أنّه لم يعد يصلح لشيء. حَدْسه لا يُخطئ، لأنّ غدر الجسد يعني الكثير بالنسبة للمرء، فهو الموت قبل الموت.

-هل يموت الإنسان حقّا قبل أن يموت؟ وهل يكفي أن يظلّ اللحم ينبض كي نُسلّم بأنّ الكائن لا يزال على قيد الحياة؟ ألا يُقِرّ الطبُّ الموتَ السريريّ قبل إعلان الموت الأخير؟ ألا يمكن لنا أن نقيسَ بناءً عليه ما يُفارق في الوجود بين أحياءٍ وآخرين هم أمواتٌ قبل الموت؟

وينخرط سلومة الأعور أمام مرآة الحمّام عند اليقظة بعد ليالي سكراته المجنونة في ضحك صامت هستيريّ تنتفخ له أوداجه وتحمرّ له عينُه السليمة في غَفْلةٍ من عينه الأخرى المُعَطَّبة. يُلامِسُها بإصبعه، وكأنّه يهمّ باقتلاعها ثمّ يرجئ الفعل إلى موقف آخر، لعلّه سيكون الأخير. يعود إلى الفراش ليتشمّم رائحةً كَأنّها ليست لَهُ، ولكنّ للخمرة أحكامها، والمعروف عن الرجال أنّهم لا يمتلكون حاسّة قويّة للشمّ مثل النساء. وهل يُعْقَلُ أنْ تُفكّر أنغام في خيانته وهو الّذي وكّلها على أهمّ مُمْتلكاته، ولم يترَدّد لحظةً واحدةً في التعريف بالإمضاء دون الاستعانة بِمُحامٍ لقراءة تفاصيل العقد.

عُنّتُه وعيْنُه المعطّبة يَرْمقانه في السرّ والعلن. ثمّةَ أشياء تموت تدريجا في الداخل، وهي الّتي بها يموت المرء قبل أنْ يموت. وثمّة وجوه تندثر في الخارج لتترك ندوبا خافتة في جسد الروح، فيستمرّ المرء رغم ذلك في المُكابرة بإرجاء التفكير في اللّحظة الأخيرة. يخاف أن يلتفت وهو يسير بخُطى ثابتة صَوْبَ حتفه المُحقَّق، لأنّه سيرى أطيافا لأناسٍ هَلَكُوا وقد كانوا يصْطحبونه في قافلة الوجود الّتي لا تتوقّف. يُواصل السير وقلبه يزداد خفقانا كلّما راودتْه فكرة النظر إلى خلف. وعند سقوط أحدهم من الأهل أو الأصدقاء يتملّكه ذعر مباغت سرعان ما يتجاوزه بالمُكابرة عند مواصلة السير دون التفات.

كابوس سلومة الأعور المُتكرّر الّذي يعاوده كلّما بلغ به السكر حال الهذيان أثناء النوم هو وجه زينب بنت عبد المقصود المُغمض العينين، تتراءى له ميّتةً في العراء عند آخر السبيل المؤدّي إلى إحدى شعاب الجبل في قرية قديمة، تُحيط به الذئاب والكلاب والخنازير الوحشيّة. وكأنّه يفكّر في دفن الجثّة دون جدوى لأنّ الوحوش المفترسة بالمرصاد، وقد بدأت تنهش أسفلها وتُرجئ تمزيق ملامح الوجه إلى آخر فصل من مسرحيّة الموت السمجة المتكرّرة.

حينما يستيقظ أحيانا قليلةً من كوابيسه يجد أنغام لا مبالية تغطّ في نومٍ عميق. وفي ليالي سُكره البالغ لا يجد أَثَرًا لِسُوسو. فيُحاول مغادرة الفراش للبحث عنها في غرفة مجاورة، ولكنّ جسده الفولاذيّ لا يُطاوعه، فيُذْعِنُ لِثقله كي يُخلد لِضجعة أخرى تُسلمه إلى كابوس آخر أو إلى ضحى اليوم المُوالي.

بَدَأت بعض الصحف تُشير إلى نائب في مجلس الشعب يتَغيّب عن الجلسات باستمرار ويُفرط في شرب الخمرة إلى ساعة متأخّرة من الليل، غير مبال بسمعة المُؤسَّسة الّتي ينتمي إليها. وقد تزامنت هذه الهجمة مع الدعاية لخميّس المطيهريّ، مدير فندق " فجّ الريح " ورئيس جمعيّة رعاية المُسِنيّن وابن زينوبة بنت عبد المقصود الروحِيّ.

يعاوده الخوف من زينوبة بنت عبد المقصود والغضب من خميّس المطيهري في ذات الحين. وكأنّ ذيْنك الخوف والغضب من معدن واحد هو النقمة على ذكورته الغادرة بهما وبِهِ. يتذكّر توسّلاتها لَهُ بأن يصون عرض أبيها، ليلةَ فرارهما الأولى إلى مدينة الشاطئ قبل الاستقرار بحيّ "فجّ الريح"، المُتاجَرة بجسدها قبل امتلاك الكازينو والعمارة وغيرها من العقارات الأخرى. يتذكّر ذلك الرضيع الّذي يشاركه الفراش معها، بعضا من طفولته وشبابه الطائش والكراهية المُتبادَلَة بينهما. ويَسْتعيد مشاهد ليست بعيدة من سهراته الخاصّة مع صالح برّيمة زعيم حزب التسامح والديمقراطيّة السابق وعثمان المبروكي عمدة "فجّ الريح" السابق أيضا وسالم ضوْ أستاذ القانون والعلاقات الدوليّة قبل أن ينقلب على صالح برّيمة لينتزع منه رئاسة حزب التسامُح والديمقراطيّة فيختطّ لحيّ "فجّ الريح" سياسة قديمة على شاكلة جديدة بحَادث الشعارات المسروقة من اليسار واليمين بعد أن أضحى اليمين يساريّا إلى حَدٍّ مّا واليسار يمينيّا.

يضحك سالم ضَوْ في إحدى خلواته الجادّة مع كُلٍّ من فرج الربعي عمدة الحيّ ومنصور الفرطاس كبير العسس وخميّس المطيهري مرشّح حزب التسامح والديمقراطيّة الجديد لمجلس النوّاب حينما يسأله أحدهم عن معنى اليمين واليسار، لأنّه يستحضر في الذهن عينيْ سلومة الأعور، فيُجيب بعد توقّفه عن الضحك إلى حينٍ ومعابثة صلعته السياسيّة المرموقة:

-هل بإمكاننا جميعا التفريق بين عينيْ أخينا سلومة: أيّهما السليمة وأيّهما المُعَطَّبة، إنْ نظرنا إليهما معًا تحت نظّارتيْه السَوْداوين؟!

ثمّةَ شعورٌ حادٌّ دفين بالكراهية للجميع يدفع سالم ضوْ إلى تقزيم كُلّ الرجال في حيّ "فجّ الريح" وتَعمُّد تكليف الفاشلين والمطعون في سيَرهم الذاتيّة بالمهامّ السياسيّة والإداريّة الكبرى كي يظلّ هو الوحيد القادر على الإمساك بخيوط اللّعبة إلى آخر العمر، وقد كان صالح برّيمة يكتفي بزعامة الحزب ومعرفة كلّ ما يدور جَهْرًا أو خفاءً في الحيّ بما يصله من تقارير صادق بلخير، كبير العسس السابق. مشكلة سالم ضَوْ في زعامته الحادثة أنّه يعيش في حال رعب دائم يُخفيه عن كافّة رجاله، بمَنْ فيهم المُقرَّبين منه، لأنّه وهو الغادر بصالح برّيمة يخاف على نفسه من غَدْر مجهولٍ قد يُباغته ذات يوم ليهدم مجده الصاعد بضربة واحدة. لذلك قرأ تاريخ الانقلابات القديم والحادث ليستخلص دَرْسًا مفاده أنّ على الّذي يُريدُ أن يسود في عموم مدينة الشاطئ والمدن الأخرى أنْ يظلّ يقِظا باستمرار، ولا يختار من مساعديه رجالاً أذكياء، ويعجّل في كلّ مَرّة بتغيير من بدأ بفهم قانون اللعبة، ويُنْزل العقاب الشديد بين الحين والآخر بأحَد من يرتكبون أخطاء بسيطة دون الالتجاء إلى السجن، كما جرت العادة قديما عند تسيير شؤون حيّ "فجّ الريح".

ثمّةَ توازُن جديد خاصّ بالحيّ ناتج عن تورّط الجميع دون استثناء في وقائع غريبة. فجُلّ مُرَتّبات مُواطني "فجّ الريح" الشهريّة محجوزة لدى البنوك بسبب القروض الهائلة وتكاليف الحياة الجديدة، ولا أسرار بخصوص الخيانات الزوجيّة وحالات الشذوذ الجنسيّ الشائعة من لِواط وسِحاق، والسرقات الموصوفة وغير الموصوفة كالرشاوى والأداءات المجحِفة وخطايا المرور وغيرها.

بين سالم ضَوْ وخميّس المطيهري قصّة لِواطيّة لم تشهد بدايتَها الحاسمة رغم مشهد الخنجر وانهيار سالم ضَوْ الكامل استعدادًا لخلوْته الثانية الّتي يفقد بها سيادته المطلقة ويستحيل إلى عبد مطيع للساسي خرشف حارس العمارة برأسه العجليّ وقامته الطويلة وساعديْه المفتوليْن. ينقضّ عليه بعنجهيّة الخادم الّذي سرعان ما يُضحِي سيّدًا وفي لحظات معدودة، يخترقه بقسوة من يريد الانتقام لكرامته المهدورة ليدعه إثر ذلك باكيا مُلَوّثًا بعارٍ جديد. فيُعابث شاربيْه الكثيْن كعادته. يُمسك هراوته بعد تسوية قشابيّته ويستأذنُه في الانصراف مُلَوّحًا له في الأخير بابتسامة خافتة لا تريد التورُّط في صريح الشماتة والاستهزاء.

حينما يستيقظ سالم ضَوْ من غيبوبة قهره في لحظات انهياره المتكرّر يندفع هو الآخر إلى المرآة، وكأنّه برؤية وجهه الممتقع يستعيد بعضا من توازنه النفسيّ ويدرك في الأثناء أنْ لا زعيم في الماضي والحاضر لا يشكو من عطب مّا، فهو إنسان له أخطاؤه وخطاياه كغيره من البشر. ولكنّ وَهَنَه المُسْتعاد قد يجرّ عليه الويلات، فكيف مُعَالجَته؟ فكرة تغيير الساسي خُرشُف برجل آخر قد ينجّر عنها انتشار خبر شذوذه المَرَضِيّ. وهل سيصمت الساسي خرشف إنْ أُطرد من الشغل دون سبب وفَقَد المِنح والهدايا الخاصّة الّتي يُغدقها عليه سِرّا ومن غير أن يعلم بها أحد؟ فكرة قتله قد تُؤدّي إلى متاعب كثيرة لا فائدة منها، خاصّةً وقد اعتاد سُكّان مدينة الشاطئ على الإشاعات، وفي اتّساع رقعة انتشارها مَا قد يعجّل في سقوط نجمه الصاعد. لِمَ لا يستشير طبيبًا نفسانيّا في حالة شذوذه الّتي هي آخذة في التفاقُم؟ تقريب النساء الجميلات منه قد يُغيّر مزاجه بمرور الزمن، ولكنّه لا يميل إليهنّ. لعلّ في استشارة سوسو ما يُساعده على التخفيف من بليّته المخْجلة. كأنّ ثمَّة هاتفا بالداخل يعلمه بأنّه كان في أصل تكوينه الجنينيّ الأوّل مُهَيَّأً ليكون امرأة غير أنّ حدثا مّا حوّل جسده من أنثى إلى ذكر كي يظلّ في الأثناء معلّقا بين سماءيْن. هوايته المفضّلة منذ الطفولة تتمثّل في استخدامه أدوات الزينة في غفلة من أمّه. كان يتسلّل إلى غرفة نوم والدته ليُقضّي الدقائق أمام المرآة حيث قوارير العطر ومختلف أدوات الزينة. ولأنّ فعله هذا قد تكرّر عديد المرّات فقد انكشف سِرّه ِلأبيه بَدْءًا، إذْ تفاجأ ذات يوم وهو يفتح باب غرفة النوم لمّا رأى وجه ولده مُغطّى بألوان الزينة. فانهال عليه بالضرب المبرّح وعلا صوته بالسباب والشتائم. رَأيُ الأمّ في ما حدث آنذاك أنّه طبيعيّ لأنّه الابن الوحيد المُدَلّل، ولا فائدة من زيارة طبيب نفسانيّ خوفًا عليه من الصدمة، وما قد ينجرّ عن التداوي من فضيحة. تعلّم منذ ذلك اليوم الاختفاء عن الأنظار كلّما همّ بممارسة طقوسه التجميليّة الخاصّة، كأن يُقضِّي بعْضًا من أوقات الراحة بين ساعات الدرس في استخدام أحمر الشفَاه ثمّ فسخه عند مغادرة أحد مراحيض المدرسة ثمّ المعهد فالكُلِّيّة الّتي درس بها القانون الدوليّ وأصبح إثر ذلك أستاذًا بها مختصّا في العلاقات بين الدول، قبل التفرّغ الكامل لرئاسة حزب التسامُح والديمقراطيّة في حيّ "فجّ الريح" والزعيم الأوّل في مدينة الشاطئ. ويُذكّر خميّس المطيهري مرارًا بأيّام طيشهما الشبابيّ، رغم نجاحه المدرسيّ مقابل إخفاق صديقه فيكتفي نائب البرلمان بابتسامة عريضة مع الإلماح إلى أنّه أعلن توبته النصوح منذ آخر سجن له، وهو الّذي يعلم أسماء الشبّان الّذين تداولوا على زعيم حزب التسامح والديمقراطيّة قبل أن تنقطع عنه أخباره في تجربة الإدمان على الخمرة والمخدّرات والمتاجرة بها والسرقة الّتي أفضت به أخيرا إلى الحبْس. اتّفق معه على أن يكتفي بالاستيهام. يرمق خنجره كلّما استلزمت حالة شذوذه التوسُّل بذلك الاستيهام ليتغيّر المشهد إثر ذلك عند التحاق خميّس المطيهري بأنغام والتجاء سالم ضَوْ إلى الساسي خرشف رجل المهامّ الصعبة في طَرْدِ شبح الكدر عن كبار السادة في حيّ " فجّ الريح" بالأجر الّذي يستحقّ طَبْعًا. وقد لا يكتفِي أحيانا بما يستلمه من مال وهدايَا، بل يلتمس منهم بعض الخدمات، كتشغيل قريب أو التسهيل في إسناد رُخصة تاكسي أو مقهى أو السماح بتجارة تُدِرّ على صاحبها أرباحًا طائلة، وكُلّ شيء بثمن. حاول سالم ضَوْ استرضاءه ذات ليلة بعد تعنيفه بالقول لتخلُّفه عدّة دقائق عن أداء الواجب بأن اقترح عليه وظيفة حاجب أوّل بمقرّ حزب التسامح والديمقراطيّة، بأجْر أفضل من أجر حارس عمارة ليليّ وزِيّ محترم عِوَضًا عن القشّابيّة والهراوة. ولكنّه رفض العَرْض مُتعلّلا بأنّه يفضّل مهنة الليل على النهار، والحقيقة أنّه لا يريد أن يكون رجل سالم ضَوْ لِوَحْدِه، فأحْلامه أبعد من أن تظّل حبيسة مأبون يريد أن ينفرد لنفسه بكُلّ شيْء، ثمّ إنّ جسده لا يزال في بَدْءِ عَطائه الشذوذيّ، وفي ذلك موهبة أو صناعة نادرة في زمن فَقَدَ فيه الكثير من الرجال ذكورتهم وأضحَوْا بفعل العُنّة الجسديّة والروحيّة نساءً على شاكلة رجال. بكاء سالم ضَوْ اللاّحق سرعان ما ينقلب إلى ضحك هستيريّ بفعل الخمرة وندم الرجل الّذي يستعيد بعضا من ذكورته. يُحَاول لَمْلَمَةَ شظاياه قبل الإخلاد لضجعة تُحوّله عند الصباح إلى رجل محترم جدّا يفتح له سائقه الخاصّ الباب الخلفيّ ليجلس بوقار ويُحَيّي في الأثناء مواطني " فجّ الريح " من المارّة، والسيّارة الفارهة ببلّورها الحاجب تخترق الشارع الرئيسيّ إلى مَقرّ حزب التسامح والديمقراطيّة.

حينما سأل سوسو عن الدواء الّذي يحقّق له الشفاء من مرضه الشُذوذيّ العُضال نصحتْه بالزواج. صورة المرأة الزوجة تُرعبه رغم رأي سُوسُو ضمْنًا القائل بِقطْع ألسنة السوء بالزواج، ثمّ ما الضرَر، في تقدير سوسو، إنْ جَمَعَ بيْن الزواج وبليّته القديمة. ليدع الصراع قائما بينهما، وربّما كان الانتصار للزواج في الأخير كي يتحرّر من ازدواج الشخصيّة!

أدرك كاتب هذه الرواية أنّ العطب الّذي أصاب سلومة الأعور أشدّ ضَرَرًا على الشخصيّة من الشذوذ المستفحل الّذي حلّ بسالم ضَوْ كي يقضي تغيُّر صورته بالليل من زعيم لحزب سياسيّ عتيد بِحيّ " فجّ الريح " إلى حطَام رجل يتهاوى على ركْحِ شهوة بليدة تُفْقِده الاحترام أمام عجرفة الساسي خُرشُف، جُنديّ المواقف الشذوذيّة الصعبة وكاتم الأسرار لحاجات انتفاعيّة في نفسه جعلتْه يُحقّق ما يُريد بقضاء شؤونه العاجلة والآجلة واقتراض أموال عند الأعياد وغيرها من المناسبات يُسدّدها له سالم ضَوْ بشهامة نادرة لا يقدر عليها إلاّ مَنْ طَوَّحَ به شذوذه في أقاصي مغامرة متكرّرة غير مضمونة العواقب. كم تمنّى زعيم حزب التسامح والديمقراطيّة أن يعبر ذلك النفق الليليّ الّذي يحمله إلى الضفّة الأخرى حيث الأنوثة تنتصر أخيرًا لوجودها على ذكورة استثنائيّة مُغتصِبة، إذْ ثَمَّةَ شُعور غريب يستبدّ به لَيْلاً لِيتلاشى نهارًا، وللمرآة عيون لا تنام، ترمقه بنظراتِ اندهاشٍ كلّما تعاظمت فيه شهوة جسد لا يحمل من الذكورة إلاّ ظاهر الصفات، فيندفع إلى خزانة خاصّة حيث ملابس نسائيّة شفّافة وشعر مستعار لِمومس في الأربعين. ينقلب بعد دَقائق قليلة من التجمُّل إلى ما يُشبه امرأة متنكّرة بتاريخ مُسْتعار. وكُلّما أَسْهَب في تقمُّص شخصيّة الأنثى بَدَا له أنّ الوجه الّذي يَرَى ليس ذاك الذي اعتاد عليه الجميع في " فجّ الريح ". قد يُفكّر يَوْمًا في التنكُّر بملابس نسائيّة لمعرفة مدى التأثير في عيون المارّة من الرجال أو الجالسين في مقهى الربع وعلى عتبات المغازات والدكاكين. ثمّة شعور عميق في الداخل يجعله يُسلّم بأنّه ذكر على وجه الخطإ: عيناه شبه المسبَلتيْن تفضحان ما وراء ذكورته الكاذبة، إمالة عديد الحروف عند التكلّم وترقيقها بغُنّةٍ خاصّة لا يتحمّلها صوت رجل، مشيته المتمايلة المستفِزّة رغم مُحَاولة التخفيف من حدّة أنوثتها الفاضحة في المواقف الرسميّة، الضحكات المرتخِية، هواية الثرثرة في مجالس خاصّة لاغتياب فلان وفلتان، مخالفة الوعود أحيانا ببراغماتيّة تحذق فنّ المناورة والتراجع كُلّما اقتضت المصلحة ذلك، تفتيش الجيوب والمكاتب بأيَادٍ أخرى يتولّى منصور الفرطاس كبير العسس إدارتها من بعيد وتجميع ما يلزم من المعلومات لتحسُّب الأخطار

و التفكير في الضربات الاستباقيّة لِوَأد الأفعال قبل حدوثها، استخدام الرقّة الذابحة عند الإجهاز على الخصم، إمطاره بالقُبل وكلمات الترحيب والمدح قبل تسديد الطعنة الوحيدة القاتلة ..

ولأنّ المرحلة الجديدة في زمن " فجّ الريح " تقتضي اتّباع سياسة الأيادي الناعمة فقد التزم الجميع ببرنامج سالم ضَوْ الإصلاحيّ: فرج الربعي عمدة الحيّ قطَعَ صلته تمامًا بسلومة الأعور بعيدًا عن كُلّ الشُبُهات وأنشأ فريقًا من تجّار الربع والأحياء القريبة والبعيدة يناصر أفرادُه حكمة سالم ضَوْ الزعيم الجديد لحزب التسامح والديمقراطيّة، منصور الفرطاس كبير العسس خَلَفُ صادق بلخير تَعَلََّم فنونا جديدة من التجسّس على مواطني " فجّ الريح " باستخدام وسائل إلكترونيّة فائقة الصنع قادرة على اختراق كلّ المواقع في منازل السُكّان داخل بيوت النوم وفي قاعات الاستقبال ولا تُفرّق بين الفيلاّت الفاخرة والمساكن الشعبيّة والمتاجر والدكاكين والمسارح وقاعات السينما والمدارس والمعاهد والكلّيّات ومكاتب المُوَظّفين في مجمل مدينة الشاطئ إلاّ الحانات، فمن حقّ مرتاديها أن يتلفّظوا بالكلمات البذيئة وغيرها الّتي يريدون إذْ ليس على السكّير حرج، ولمنصور الفرطاس النادل القديم في بار عاشور قبل أن يرتقي إلى رُتبة كبير العسس عطف خاصّ على سكارى الساعات الأخيرة من اللّيل وللتنفيس أحكامُه أيضا، خميّس المطيهري الوجه السياسيّ الجديد الّذي راهن عليه سالم ضَوِْ لتمثيل مواطني "فجّ الريح" في مجلس الشعب بَدَا مُقْنعا للجميع. سالم ضَوْ ومنصور الفرطاس يعلمان تفاصيل العلاقة بين خميّس المطيهري وأنغام عبد الغفور. ولهذه العلاقة ملفّ خاصّ لدى كبير العسس مدعوما بصُوَر تلبُّس لا تدع أيّ مجال للشكّ. حينما اطّلع عليها زعيم حزب التسامُح والديمقراطيّة تنازعه الشعور بالافتخار لمدى تقدُّم جهاز المراقبة في الحيّ وبعض من الغيرة لأنّه تمنّى نفسه في مقام أنغام عبد الغفور، ولكنْ بوضعيّة مختلفة طبْعًا .. كَمْ تمَنّى ضجعة واحدة مع خميّس المطيهري تُنسيه عَجرفة الساسي خُرشف حارس عمارة كازينو "فجّ الريح"!، ولكنّ خميّس المطيهري مُصِرٌّ على موقفه الرافض لحياة الشذوذ، ثمّ إنّ سياسة المرحلة تقتضي الفصل بين الأهواء الفرديّة والحياة العامّة، وقد توصّل إلى الحلّ الوسَط بأن يسمح لنفسه ولخميّس المطيهري بعد كؤوس الوسكي برؤية مَا يَفتح شهيّته لاستقبال الساسي خرشف بعد انصراف خميّس المطيهري إلى أنغام بمساعدة سوسو طَبْعًا، مومس الأربعين ونيْف.

-إنْ أردت أن تسود حَقّا لا بدّ من فهم الحدّ الفارق بين النظام والفَوْضَى. لا تدع النظام يتقادم حدّ الفَوضى؟ أدْخِلْ عليه ما يلزم من الإصلاحات الطفيفة الّتي تخصّ الواجهة طَبْعًا، لا غيْر!

لم يعد بالإمكان الاستمرار في المراهنة على سلومة الأعور، لأنّه أضحى ورقة مهترئة لا تليق بسمعة القيادة الجديدة في حيّ " فجّ الريح ". لذلك ارتأى سالمْ ضَوْ ومساعدوه تغييره في مجلس الشعب بخميّس المطيهري الرجل الّذي يُتقن لعبة الجمع بين وجهيْن في حياة واحدة: مستشار أنغام الماليّ ومدير أعمالها في النهار ونجم السهرات الخاصّة الليليّة الأوّل في حضرة سالم ضَوْ قبل انفراده بسيّدة الأعمال الأولى في الحيّ، تلك الّتي فازت بالسعفة الذهبيّة في "ستار أكاديميّ" من عام ظلّ سُكّان " فجّ الريح" يُؤرّخون به لِمجد سلومة الأعور الآفل والمطربة الّتي سُرْعان ما خبا نجمها رغم ما أنفقه زوجها سلومة الأعور من أموال على أغانيها الأولى المُسَجَّلََة ..

و يسترسل سالم ضَوْ في ضحكاته شبه الأنثويّة كلّما لهج لسان أَحَد جُلاّسه الأوفياء بلفْظ الخيانة، لأنّه يستعيد شريط الخيانات الّتي حدثت وقد تحدث بما يُشبه وميض ذاكرة نشيطة رغم ما تحتمله من أثقال: خيانة سلومة الأعور لزينب بنت عبد المقصود، خيانة كُلّ من أنغام وسوسو لسلومة الأعور، خيانة خميّس المطيهري لأنغام بما يجمعه في حسابه البنكيّ الخاصّ من أموال مسروقة .. و تتملّكه هستيريا الضحك أيضا كلّما تذكَّرَ انقلابه المباغت على صالح برّيمة بعد أعوام من إتقان فنّ الاستماع وتحيُّن الفرصة للانقضاض بالضربة القاضية على زعيم حزب التسامح والديمقراطيّة، ثمّ اتّباع مخطَّط مدروس لتصفية كُلّ الوجوه القديمة المستهْلَكة بوجوهٍ قديمة أخرى: فرج الربعي عوضا عن عثمان المبروكي ومنصور الفرطاس بَدَلاً عن الصادق بلخير، وخميّس المطيهري خَلَفًا لِسلومة الأعور ..

 يكفي أنْ نُغَيّر الأسلوب كي نوهم الآخرين بأنّنا قد تَغَيّرْنا بالفِعْل: طريقة التكلُّم، الوقوف، التحيّة، الابتسامة العريضة، اللباس، تمشيطة الشعر .. أدرك مدى الحاجة إلى من يحذق فنّ التفاصيل، فكانت سوسو المسؤولة عن مَظْهره، تختار له البدلة ورابطة العُنق والقميص والحذاء وتحرص بنفسها على صباغة ما يظهر في رأسه شبه الأصلع من شعرات بيضاء، تُسوّي حاجبيه بعناية خاصّة وتلمّع وجهه بمراهم خاصّة. اكتفى بخدمتها لمدّة ساعة في صباح كُلّ يوم بعلم سلومة الأعور وأنغام وخميّس المطيهري مُقابل منحة شهريّة وصداقة خاصّة لا يحظى بها إلاّ القليل من مُقَرَّبيه، إذْ سالمْ ضَوْ يستشيرها في كلّ الأمور الخاصّة، وهي تعلم من أسراره الشيء الكثير. نصحتْه بالزواج لأنّها تعلم ما يدور في حيّ " فجّ الريح" من أحاديث حول شذوذه الّذي بَدَأ يُعْرف لدى القاصي والداني. خافت عليه من مصير شبيه بسالفه، وإن اختلف الرجلان. البعض القليل من مُواطِني " فجّ الريح " يتذكّرون فضيحة السرقة الّتي عصفت بصالح برّيمة، الأموالَ الّتي أودعها سِرًّا لدى بنوك أوروبيّة، عبث أقربائه واستثراءهم العاجل رغم ما كانُوا يُعرفُون به من انتماء إلى وسط اجتماعيّ متواضِع، على حدّ قول عثمان المبروكي عمدة الحيّ في إحدى الجلسات الخاصّة بعد التنحية ..

الكلّ يعلمون في حيّ " فجّ الريح " أنّ سوسو هي الّتي أشارت على سالم ضَوْ زعيم حزب التسامح والديمقراطيّة بزيارة سيّدتها زينوبة بنت عبد المقصود، وقد رأى في ذلك ما يدعم مركزه الجديد. رأت سوسو في ذلك أخْذًا بالخاطر لا غير، لأنّها لا تفكّر بالسياسة. أمّا سالم ضَوْ فقد حوّل الزيارة إلى حَدَث سياسيّ وإعلاميّ وهَيّأ الرأي العامّ لتقبّل قراره الجديد في ترشيح ممثّل آخر لمواطني " فجّ الريح " في مجلس الشعب.

تُحاول سوسو في كُلّ زيارة لها، لوحدها أو رفقةَ خميّس المطيهري، إقناعها بالانتقال إلى إحدى شقق عمارة كازينو " فجّ الريح " الّتي تَحَوَّلت ملكيّتها إلى أنغام الزوجة الجديدة. إلاّ أنّها تُصرّ على الرفض خَوْفًا عليه من عذاب آخر .. أعلمتْها سوسو في السابق بمَا آلت إليه أوضاعهُ الماليّة وتدهوُر صحّته وإدمانه على المخدّرات والخمرة، فبكت مِرَارًا بمرارة من يُذعن لفراق أبديّ، وتعَّرضت لنوبات عصبيّة حادّة لم يعد جسدها النحيل المتهدّم قادِرًا على تحمّلها. لذلك ارتأت سوسو، بعد استماعها للطبيب، تغيير الموضُوع كلّما سألتها عنه لمعرفة آخر أخباره. بَدَتْ لها الليالي أطول بكثير ممّا كانت عليه في مراحل العمر السابقة. ثمّةَ شيْء مُحَدّد سيحدث حَتْمًا وفي زمن قريب. جسدها الّذي أضحى كَوْمة عظام يدفعها بثقلِه الّذي لا يُقاوَم إلى التسليم بالأمر الواقع. يَنْفتح الباب لينغلق، وفي أوقات الزيارات النهَاريّة المحدودة. ليال تليها لَيَالٍ في نَفَق من سنين هاربة إلى حيث السقوط الأبديّ. مُشكلة الإنسان أنّه عادَةً ما يَمُوت قبل أن يموت إنْ طوّحت به آلة الزمن إلى آخر العُمر. أدْركت مرارًا أنّها ميّتة منذ غدره الأخير بها. تنظر إلى التجاعيد في وجهها الذابل، فيعرض لها شريط العمر مشاهدَ متقطّعة، فراغات بدأت تنتشر داخل ذاكرة مثقلة بعذابات طويلة. حينما زارها خميّس المطيهري رفقة سوسو وسالم ضَوْ تشبّثت بيده كي تقبّلها بفيض من حنان مستعاد. بَدا لَها متغيّرا. لم يعد ذلك الفتى الّتي يشتغل نادلا بمقهى الربع. بدلته الجديدة الفاخرة ورابطة عنقه الحمراء وعلامات البذخ البادية على وجهه تشي بانقلاب كبير حَدَث في حياته، والّذي زادها يقينا بالتغيير الحادث في حياته صُحبة سالم ضَوْ لَهُ بعد أن علمت بأنّه قَدْ تولّى قيادة حزب التسامح والديمقراطيّة بالحيّ بعد صالح برّيمة. ثمّةَ أحداث كثيرة وقعت في الخارج هي لا تعلمها رغم الأخبار الّتي تنقلها إليها سوسو بين الحين

و الآخر. أَدْمَعت عيناها في تلك الزيارة لمّا احتضنها وقبّل جبينَها. ولَوْ لا أضواء الكاميرا الساطعة لاسترسلت في بكَاءٍ طويل يُحرّرها من قهر المرض الّذي ألمّ بها وألزمها الفراش.

البابُ المنغلق لَيْلاً وشبه المنفتح نهارًا يُسلمها في أوقات كوابيس اليقظة لعذابات الانتظار الأخرى، إذْ ثمََّة جُرْحٌ عميق نازف لا يمكن أنْ يندمل لأنّه مزيج من رغبة قديمة مكبوتة وشعور حادّ بالقهر لكرامة أنثى مُدَاسة رغم كُلّ المحاولات في تغيير الاتّجاه. لقد وثقت به، لذلك سلّمتْه كُلّ شيء، وحينما استحوذ على كُلّ شيْء لديْها لم يَعُدْ في حاجة إليها. مشكلة المرأة أنّها تصفح عن كُلّ الأخطاء في حقّها إلاّ التجرُّؤ على اعتبارها غير أنثى. فكيف لها أن تقبل الإقامة في شقّة من عمارة لم تعد ملْكًا لها؟

وهي لا تكره أنغام.

البابُ المنغلِق ليْلا وشبه المنفتح نهارًا يُسلمها لانتظارات بلْهاء .. قد يزُورها ذات يوم رغم انتقال ملكيّة الشقّة أيضا إلى أنغام. أعلمتْها سُوسُو بأنّه فَقَد كُلّ شيء، حتّى عينُهُ السليمة أضحت في طريقها العاجل إلى العَمَى. قد يتوسّل لها بأنْ تُسامحه رغم كَوْنِها تعلم أنّه ليس من صنف الرجال الّذين يعترفون بأخطائهم. قد يساعدها خميّس المطيهري على الاتّصال بقريب يُعيد لها الأمل في حياة أعوام أخرى بكرامةٍ لطالما نشدتها. ولكنْ، من بقي من الأهل على قيْد الحياة بعد أكثر من أربعة عقود؟! لعلّ خالاً أو عمّا واحدًا يفي بالحاجة قبل أن تزفّ ساعة الخلاص وينتهي كُلّ شيْء. قبلة واحدة قد تمْسح ذنوبًا عديدة وتجعلها تطمئنّ بعض الشيء للحظة النهاية في انتظار موتها الوشيك. قد تُقرّر في آخر لحظة الاستعانة به في هذا الأمر رغم العذابات المُمِضّة الّتي سبَّبَها لها.

الباب المُنغلق ليْلاً وشبه المنفتح نهارًا بحضور سوسو يَوْمِيّا لتقديم الدواء والغذاء يضيف إلى سجلّ انتظاراتها عذابًا آخر: ليلة احتفال أخرى بفوز خميّس المطيهري في الانتخابات يَليها احتجابه الكامل عنها. أفق آخر للانتظار يتهاوى. زغردات في الخارج، هتاف، أغانٍ شعبيّة وشبابيّة، تصفيق، عويل ريح تُذْكّر بأمس قريب، شماريخ تُزّين سماء "فجّ الريح"، مُكبِّرات أصوات تُعلن اسم الفائز وتُشيد بِسياسة سالم ضَوْ الحكيمة. تتذكرّ ليلة فوز سلومة الأعور بالانتخابات. تهمّ بالبكاء ولكنّها لا تقدر عليه، لأنّ الجسد المنهَك لا يُطاوعها، والجُرْح العميق النازف أصابه خدر مباغت، وكَأنّه لم يعد جُرحًا. هل تصرخ؟ لا أحد يسْمعها. هل تدعو إليها سوسو بالهاتف الجوّال الّذي وضعتْه لخدمتها ولم تُسجّل به إلاّ رقما واحِدًا استعدادًا لعرسها المأتميّ الوشيك؟ لحظةُ الحسم لم تحن بعد. موجة فَرَحٍ عارم غمرتْها رَغْمَ تَذكُّرها تلك الليلة.

تَمَلَّكها شعورٌ شبيه بشعور الأمّ المُتنازَعَة بين الزوج والابن: ذَكران بطبيعتيْن مُخْتلِفَتَيْن. بالأمس أحسّت بالقهر. واليَوْم نسيت أو تناست ذلك القهر، تَمَامًا كالمرأة تستفيد من كُلّ المراحل. هي العاشقة بَدْءًا، وهي الأمّ انتهاءً. تنفتح كي تنغلق، كذلك الباب الموصد في أغلب ساعات النهار والليل.

حقيقة واحدة لم تدركها زينوبة بنت عبد المقصود، كغيرها من نساء العالم: الرجل هو الرجل.

حينما انتصر خميّس المطيهريّ في الانتخابات انصرف إلى شؤون جديدة، وقد كان آخر عهده بالأمّ زينوبة بنت عبد المقصود في حملته الانتخابيّة رفقةَ سالم ضَوْ في صباح يومٍ بشقّة الربع بالحيّ الجديد، وذلك بحضور فريق تلفزيونيّ أُحيل جميع أفراده على التقاعد الوجوبيّ لقرار مفاجئ لا يعلم تفاصيله وأسبابه إلاّ سالم ضَوْ، زعيم حزب التسامح والديمقراطيّة في حيّ "فجّ الريح".

 

(12)

تَشْييعُ جُثمان زينوبة بنت عبد المقصود في مأتم شعْبيّ غفير شهد له الداني والقاصي من سُكّان حيّ «فـجّ الريـح»
زارتْها سوسو في آخر مرّة قبل أنْ يصيبها شلل مباغت ألزمها الفراش في انتظار اللّحظة الأخيرة. عجّلت بإعلام كُلّ من سلومة الأعور وخميّس المطيهري بما حَدَث لها. فاكتفى سلومة الأعور بالصمت، وانصرف في أوّل الليل كعادته إلى بَارِ عاشور كي يعود مَصْحُوبًا بالصادق بلخير فجْرًا في هيئة رثّة بعد أنْ بالغ في الشُرب. أمّا خميّس المطيهري فقد أسرع إليها كي يحتضنها ويبكي بُكاءً مُرًّا في حضرةِ أمّ حنون وهبته أثمن لحظات حياتها ولم تُشعِره في أعوامه الأولى باليُتْم. دَعَا إليها الطبيب ليعلم منه بأنّ ساعتها قد أزفت: أيّام قليلة وينتهي كُلّ شيء. جَسَد مُتداعٍ فَقَد اللحم والشحم، بل عظام ناتئة يغطّيها جلد مترهّل بعروق زرقاء نافرة. حاول خميّس المطيهري التكلّم معها، ولكنّها بَدَتْ مستمعةً لما يقول، غَيْر قادرة على النطق. داعب جبينها، فَلَمْ تَقْوَ على تحريك يدها كي تتمسّك به وتقبّله كما جرت العادة في زياراته السابقة. التفتت إلى الباب، وكأنّها بذلك تنتظر زيارة سلومة الأعور الأخيرة لها قبل أنْ تودّع " فجّ الريح " والعالم بأسْرِه إلى الأبد. دموعُها الصامتة أكّدت لكُلّ من خميّس المطيهري وسوسو على أنّها مسكونة آنذاك برغبة واحدة: أن يظهر لها ويقبّل جبينها لتصفح عنه مَا اقترفه في حقّها من أخطاء.

عادت إليه سوسو لتُعْلمه بأنّ زينوبة بنت عبد المقصود فقدت النطق، ولعلّها تحتاج إلى كلمة حُبّ منه تُساعدها على اجتياز آخر الأوقات العصيبة عند احتضار المرء.

اكتفى مرّةً أخرى بالصمت. وكأنّها أبصرت دمعة تطفرها عينه السليمة الآيلة إلى العَمَى. غيْر أنّها لم تفهم إصراره على الفرار.

-ما الّذي يُخيف رَجُلاً قويّا آثما كسلومة الأعور من عجوز لا حَوْل لها ولا قُوّة، وهي في حال من الاحتضار؟ هل هو الخوف حَقّا أم الشعور بالذنب يصل به إلى أعلى درجات التسليم بالأمر الواقع؟

حينما عَادَ إليها مُلطَّخا بقيئه ساعدته كعادتها. بَدَا لها في تلك الليلة أضعف ممّا تتصوّر: رجل يبكي دون توقُّف. لذلك آثرت الصمت على أن تستفسره في السبب الّذي يدعوه إلى الإصرار على موقفه. زيارة واحدة وينتهي عذابهما مَعًا، ثمّ يطوي العدم حكاية رجل مُسْتقْوٍ ظالم وامرأة ضعيفة لا حول لها ولا قوّة رغم الثروة الّتي جمعتْها واحترام الجميع الّذي حظيت به. كأنّه يُدْرك أنّها الأقوى منه بضعفها المتأصّل فيها منذ الولادة، وقبل أن تُسلمه جسدها وروحها ومصيرها أيضا عند لحظة الفرار الأولى من قرية الجبل النائي إلى حيّ "فجّ الريح" في مدينة الشاطئ. صمته وبكاؤه المرسلان يؤكّدان لها أنّه في ورطة وجوديّة من نوع خاصّ. كبرياؤه اللعين لا يُطاوعه كي يعترف بأخطائه الفادحة، وقد ينهار أمامها تمامًا فيفقد آخر ما تبقّى من رجولة مُحَطّمَة. عُنَّتهُ، هذا الجرح الناشئ قد يُحوّله في آخر لحظات حياته إلى وحْش كاسِر يُقدم على جريمة قتل، لِمَ لاَ؟ يبصرها من قريب بعيد تمتشق فتوّتها الآسرة بأفخر الثياب وأكثرها أناقةً. تغادر الشقّة عند الصباح من غير أن تعبأ به حاملةً معها محفظةً جلديّة فاخرة بيد، وعلى كتفها الأخرى حافظَةَ أشيائها الخاصّة من موّاد تجميل وغيرها. كأنّها ترمقه بعين تزداد شماتتها يَوْمًا بعد يوم. فكرة الخيانة تعرض له من غير أن تستبّد به. ويشعر ببعضِ الاطمئنان حينما يتراءى له عشيقها من حيّ بعيد. لم يُفكّر لحظةً واحدة في خميّس المطيهري. فقد تتعاظم الخيانة في زمن العُنّة الّتي أصابته كما أصابت مجازًا عديد شبّان الحيّ وكهوله بحُكْم الأوضاع الجديدة الّتي أقرَّتها إدارة سالم ضَوْ الجديدة لحزب التسامح والديمقراطيّة، ولكنْ ليس إلى حدّ خيانة ابنٍ لأبيه. بحُكْم التبنّي. كراهيّة الأب الآثم لابنه العاقّ لا تدع تفكيره يتّجه إلى خيانة خميّس المطيهري له، ولكنّ الابن مُصِرّ على خيانة أبيه إلى آخر لحظة في حياته. كراهيّة خميّس المطيهري لسلومة الأعور هي من طبيعة أخرى مغايره، إذْ يرى فيه الرجل الّذي نافسه على امتلاك زينوبة بنت عبد المقصود ودمّر فيه عند انتقامه الشنيع منها آخر حلم لأمومة ضائعة فيه، وإلى الأبد. ثمّةَ شعور عارم بالغبطة كلّما ازدادت أنغام انفتاحًا عليه بتشهّي المرأة العاشقة الّتي قد تُضحِّي بكُلّ شيء مُقابل عدم التفريط في معشوقها الآسر. حاول الصادق بلخير في عديد المرّات تنبيهه إلى أمر الخيانة. فلاحظ إصراره على تبْرئتها. وكأنّه بذلك يُرْجئ الإقدام على اقتراف جريمة. يكْتَفِي بالصمت عند الإشارة إليها ليندفع إثر ذلك في عبّ الكؤوس علّه بها يطرد عنه فكرة الجريمة إلى أَجَلٍ غير مُحدَّد. قد يُمْسِكُهَا مُتلبّسةً مع عشيقها المجهول لَدَيْه، وربّما المعلوم حسب الصَادق بلخير. تطمينات سُوسُو جعلتْه غير متيقّن تمامًا من خيانتها. ولكنْ، هل يجوز له تصديق مومس في الأربعين !؟ قَدْ تكونُ عالمةً بكُلّ شيْء. إلاّ أنّها تُداري الخيانة لاتّفاقٍ بينهما لا تقدر عليه إلاّ امرأتان من فصيلة أنثويّة واحدة، كالّتي تنتمي إليهما كُلّ من أنغام مطربة الشباب وسُوسُو سيّدة الأداء العالي في ترضية كُلّ الرجال من الراغبين في العلاقات الجنسيّة العارضة.

تنظر بين الحين والآخر إلى باب غُرفتها، علّه ينفتح ذاتَ مرّة ليَهَبَها رحمة الرجل الّذي أحبّتْ. عشرات الزوّار يتوافدون عليها بين الحين والآخر بمحبّة صادقة ألفتْها من سُكّان " فجّ الريح " ممّن أغدقتْ عليهم من مالها في الأعياد وغيرهم من أثرياء الحيّ وسَادتِه. استطاع سالم ضَوْ أنْ يُقنع الجميع بضرورة إعادةِ الاعتبار لسيّدةٍ أسْعدت الجميع من الكبار والصغار وبأساليب شتّى تبعا لمُختلف مراحل عمرها، حتّى نساء الحيّ تجاوزن حال الغيرة والنقمة عليها منذ زمان وانضمَمْنَ إلى جمْع المُحِبّين الغفير. العجائز ممّن تَقدّم بهنّ العمر يعتقدن بأنّ زينوبة بنت عبد المقصود امرأة صالحة، ولا بُدَّ من دَفْنها في مزار خاصّ بعد أنْ ظهرت لهنّ في مناماتهنّ بهيئة فتاة في العشرين مُجَلْبَبةً في البياض الناصع، وبوجه نورانيّ ساطع يُبهر العيون ويُحيّر الألباب.

لم تعد سُوسو قادرة على تركها لوَحْدِها منذ أن انعقد لسانها وأصابها ذلك الشلل شبه الكامل. عَيْناها فَحَسْب تنطقان صَمْتا كلّما سألتها عن تلبية رغبة مّا. تُجلسها لدقائق قليلة، وتُسند رأسها إلى كتفها، ثمّ تلاحظ تَعالي أنفاسها تعبيرًا عن إعياء أو إغماء. فتُسرع في تمديدها، وكأنّها لا تعي أحيانا ما يدور حولها من أحداث، وما يظهر من وُجوه.

ينظر من خلال الزجاج إلى خَلاء الشارع والسيّارات الرابضة أمام شقق العمارات المُطفأة في ساعة متأخّرة من الليل. بار عاشور كعادته غارق في ضوء شاحب، والسكارى خمسة لم تُتَعْتعهم الخمرة بَعْدُ. أمّا السادس فرجل في بَدْء الشيخوخة بفم أدرد وعينين شبه مُطْفأتَيْن يضانك أطياف الوجوه والكراسي والطاولات والقوارير المبعثرة فوقها وبعض الكؤوس الفارغة أو المدلوقة والقطّ الأسود السمين مُتخَم يرمق الجميع بعينين غير مندهشتيْن لما ألفه من مشاهد متكرّرة. رَذَاذ في الخارج، وهبوب ريح غير عاصفة تُعابث الأبواب والنوافذ وواجهات المتاجر الزجاجيّة. يشرد ذهنه في غفلة من نديمه الصادق بلخير الّذي بدأت الخمرة تُثقل رأسه من غير أنْ تُفقده الصواب في انتظار ما تؤول إليه حال سلومة الأعور. يتذكّر بعضا من نشيجها المتقطّع في لحظات عذابها الأشدّ، توسّلاتها لَهُ، وُعوده لها المتكرّرة بالزواج، تحويلها إلى مومس في خدمة الجميع، طوابير الرجال المتعجرفين كالجنود المُسَرَّحين عند الأعياد الدينيّة والوطنيّة، الفتيان المُرَاهقين وغيرهم، الكازينو الّذي استطاعت بمرابيحه أن تمتلك عمارة بأكملها ثمّ شُقَقًا أخرى ومتاجر هُنا وهناك رغم ما أنفقه من أموال طائلة على طاولة القُمار.

فكّر في زيارتها قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. ولكنْ سرعان ما عَدَل عن الفكرة لأنّه أَدْرك بوضوح أنّه يخاف منها حَقّا، ثمّ هو لا يرغب في رؤيتها وهي في حالٍ من العجز الكامل. قد تتعاظم عنّته بذلك فيُقدم على الجريمة أو الانتحار.

بين زينب بنت عبد المقصود وأنغام حياة انتقال من قمّة المجد الذكريّ إلى الانحدار المفضي حتما إلى هناك حيث العَدَم يطوي كُلّ شيء ليظلّ اسمه ذكرى في بعض أحاديث الكبار من سُكان " فجّ الريح " قبل أنْ يهلكوا هم أيضا فيندثر كُلّ شيْء: الأسماء والوجوه والأفعال وآخر الذكريات ..

أشار عليه نديمه والصاحب الوحيد الوفيّ له الصادق بلخير بِزيارتها. لم يكتف بالصمت كما فعل مع سُوسُو، بل علّق على طَلبه بسؤال شبه مبهم يريد به الفرار، لا غير:

-وهل ترغب هي حقّا في زيارتي لها؟!

تنظر بين الحين والآخر إلى باب غرفتها، علّه يظهر في زحمة الوافدين عليها. الوجوه المتشابهة تكاد تخدعها بأنّه قد ظهر معهم آنَ فقدانها الوعي، قبل أن تستعيد بعضًا من ذاكرة التفاصيل. كأنّها تسأل سوسو بصمت:

-هل أتى طيفا عابِرًا، ثمّ مضى؟

حدْسها لا يكذب. فهو لم يأتِ، وقد لا يأتي. نظراتها الذليلة تشي باستعطاف خاصّ لافت للنظر، لا يمكن لسوسو المرأة المُجرّبة عَدَم فهمه. تًُحاول طَمْأنتها بكلمات كاذبة لعلّ زينوبة بنت عبد المقصود تسمعها. غير أنّها عاجزة عن النطق للردّ عليها:

-هو الآن في المستشفى، وقد أُجريتْ على عَيْنِه عمليّة جراحِيّة. سيُشفى منها، وسيزوركِ حَتْمًا.

يُؤكّد تَبَدُّلُ نظراتها من الاستعطاف إلى القلق أنّها تَسْمَعُ وَتَعِي ما تقوله سُوسُو. هي لا شكّ خائفة عليه. لعلّها تُصدّق بعض ما يُقال لها وتتمنّى له السلامة.

نَفَقٌ بين الإغماء والصحو، وللطيور المُحلّقة في سماء الجبل النائي ظلال بلا أجنحة ونعيق تُرسله العاصفة إلى آخر المدى في جسد تَقَوَّضَ كبئر عميقة بلا ماء .. وجع خافت كأنّه أسراب نمل تُعابث كافّة المسامّ، ووجوه الموتى من الأقارب تظهر على شاكلة هبوبات متَقَطّعة، تَدّاخَلُ في زحمة وجوه الزائرين من الأحياء. هذيان صامت يجعلها تتكلّم من غير أن تنْبس ببنت شفة. جبينٌ يتفَصّد عَرَقًا بارِدًا. زغردات من بعيد يحملها نباحُ كلاب جوعى وريح جبليّة تُعابث أشجار الزيتون والصنوبر والحَلفاء. سكّين أبيها يقطر دَمًا والحَرَس يكبّلون يَدَيْه كي يُساق إلى سيّارة الجيب. طبّالة الجبل يندفعون إلى أزقّة القرية، وخديجة الماشطة تلاحق الأطفال المُشاكسين ولسانها يلهج بأقذع السباب والشتائم. يفرّون من السطوح إلى الحقول المجاوِرة المفضية إلى غابة الصنوبر قريبًا من الجبل الشامخ. تهمّ بالبكاء، فلا تقدر عليه، لاْنّ جسدها المتهدّم لا يُطاوعها فتعود برغبتها القهقرى إلى حيث إمكان اليقظة كلّما بلغ بها الانحدار أقصى حالات الغيبوبة الّتي لا تُفضِي إلى الغياب الكامل.

باب غرفتها الّذي يعود ليظهر من جديد بعد كُلّ نوبة إغماء مفاجئة أضحى طيفًا لِشيء متحرّك، والوجوه ظلال تَعْبر باهتةً. الأحجام لم تعد أحجاما، والسمات المتشابهة تُدَاخل بين ما تراه وما لا تراه. يكاد المكان يتفكّك. تفرّ اللحظات من قفص الزمن في اِنتظار أن تتفرّق في بحر من فراغ هائل. خيوط واهية بدأت تتمزّق الواحد بعد الآخر، دون أنْ تستعيد سَدَاها الأوّل. مدارات واتّجاهات تضيع في عالم لا مكانيّ هو اللاّ-عالم رغم ما تبقّى من ذكريات حِينيّة ذابلة لا تفي بالحاجة إلى فهم ما يحدث آنذاك تحديدًا. كَأَنَّهَا تُبْصِرُ في الاتّجاه المُقابل لباب غرفتها حيث النافذة والستائر أشكالا لثعابين وطيور جامدة في بركة صغيرة من مشاهد شبه غائمة. تُحاول استقراء ملامح الوجوه الّتي تظهر دون جدوى. تُضانك عجزها عن التمييز بينها لعلّها تظفر برؤيته، واحِدًا منها. تهمّ بالصراخ لِتَستَيْقظ بعض الشيء من كابوس غيبوبتها الآخذة في التصاعد، ولكنّ الصوت لا يُطاوعها، واليد الّتي تلامس جبينها، يَدُ سُوسُو لا شكّ، تشحن جسدها المتهدّم ببعض الأمل.

فَتَحَتْ عينيْها لتستعيد فجأةً إمكان التمييز بين الأشياء والوجوه: سوسو وبعضٌ من فتياتها القديمات في زمن الخدمة وخميّس المطيهري وسالم ضَوْ وطبيبها، البعض منهم جالسون والبعض الآخر واقفون قريبًا منها، وهي تجول بنظرها بين الوجوه باحثةً عنه دون جدوى. كأنّها أبصرت سُوسو تُكَفْكِفُ دُمُوعها بمنديل وَرَقيّ، والطبيب يتوقّف عن الكلام، لعلّه كان يشرح للجميع حالتها الصِحّيّة الصعْبة. هي تُدْرك بما لا يدع مجالا للشكّ أنّها في الطريق العاجل إلى القبر. جسدها المشلول وبُكْمُها وغيبوبتُها المُتقطّعة تُنذر بالنهاية الوشيكة.

- كُلّ البشر يعلمون أنّهم في الطريق إلى الموت. إلاّ أنّهم يُصرّون على تناسيه بالانصراف إلى تفاصيل الحياة اليوميّة، وأملهم الّذي به يَحْيَوْنَ ماثل في الصحّة أسَاسًا. أمّا الشؤون الأخرى مِنْ مَالٍ وغيْره فهي من قبيل الظواهر الزائلة الّتي تبْدَأ في التبدُّد أو فقدان القيمة عند المَرَض.

نصحه الصادق بلخير بأنْ يزور طبيب العيون خَوْفًا عليه من عَمى مباغت يُفقد عينه الوحيدة البَصر. بَدَا له غَيْرَ عابئ بالنصيحة، يتعثّر كثيرًا عند انتقاله بين طاولات بار عاشور. فتصطدم يده أحيانا بالكؤوس والقوارير، لِِيُحْدِثَ بَلْبَلَةً بين السكارى الّذين ألفوا عَشاه الآخذ في الاستفحال. ويساعده في كُلّ مرّة على الوصول إلى باب شقّته إن تبقّى فيه بعض من الاحترام الّذي يليق بنائب قديم في مجلس الشعب، أو يصْحَبه بصمت إلى شقّة سوسو، مُلطّخا بالقيء وأوحال السنين الماضية.

يتَتبّع أخبار مرضها الأخير بصمت. فيُصغي لأحاديث أنغام وسوسو. يعلم أنّه مُقصّر في نظر الجميع، ناكر للجميل، غير مقدّر للمواقف الإنسانيّة الصعبة. ولا أحَدَ يعلم حقيقة الأمر إلاّ الصادق بلخير، تقريبًا.

 - كيف بإمكانه أن يَرَاها على تلك الحال؟ قَلْبُهُ لا يُطَاوِعُهُ.

وَقَدْ يَنْهَارُ تمامًا أمام الجميع فيفقد سُمْعَةَ رجل تقاذفتْه الحياة بين ماضٍِ قديم مُعتم، وإنْ علم الكبار من سكّان " فجّ الرّيح " العديد من حقائقه، وبَيْنَ ماضٍِ قريب اقترن بمجْد سياسيّ سُرعان ما آل إلى الاِنحدار بسبب تفريطه في الثروة وإدمانه على الخمرة.

لعلّ سالم ضَوْ هو الآخر يعلم حقيقة إصراره على عَدَم زيارتها. إلاّ أنّه يستفيد من استنكارات مواطني "فجّ الرّيح" لطمْس ماضيه بمجلس الشعب وإقناع الجميع بجدوى الاختيارات الجديدة في تسيير شؤون الحيّ السياسيّة والمدنيّة بعيدًا عن صالح برّيمة وسلومة الأعور وأمثالهما من رجال المرحلة السابقة.

الباب الّذي تبصره بين الحين والآخر استحال إلى غيمة هاربة حملتها بأيادٍ ناعمة لِتُسلِمها إلى شاطئ يعجّ بالمستحمّين في يوم قائظ: قرقرات نرجيلات بأحجام وزخارف مختلفة ورجال بِبُطُون منتفخة وشوارب كثّة يُدخّنون ويسرّحون أبْصارهم في أقاصي الماء الأزرق الهادئ. كأنّها أبصرت في الأثناء زوارق تُبْحر بعيدًا. بحثتْ عنه في زحمة الشاطئ علّها تَرَاه بين غيبوبة يقظتها الذابلة وشتات الصور الهاربة. كُلّ الّذين يظهرون ويحتجبون سريعًا هُمْ من الأقارب الأموات إلاّ سُوسو تبدو لها فتاةً في العشرين كما كانت في بَدْء خِدْمتها بالمبنى القريب من عمارة كازينو" فجّ الرّيح " قبل أن تتغيّر الأوضاع وتصبح امرأةً محترمة بشهادة الجميع، تسهر على راحة متساكني شُقق العمارة من الكُرَّاء الدّائمين والزّوّار العابرين، وتساعد أنغام وخميّس المطيهري وسالم ضَوْ وسلومة الأعور على قضاء بعض الشّؤون المستعجَلَة.

تسألها سوسو عديد المرّات بفيْضٍ من حُبّ صادق:

-لماذا تُصرّين على البقاء وحيدةً في عَلِيّ هرم مُتداعِِ بالربع؟

هي تعلم وسوسو تعلم أيضا أنّ انتقالها إلى إحدى شقق عمارة كازينو" فجّ الرّيح " يعني موتها المجازيّ قبل الموت. الثابت أنّ أنغام ستُرحّب بها وتُحيطها بعِناية خاصّة. إلاّ أنّها لا ترضى بالذُّلّ، ولن تقبل ما قد يُفهم على كونه استجداءً.المرأة في مثل هذه الحال لا تقبل إهانة المرأة، وإنْ لم تتقصّدها فِعْلاً. فارق السنّ بيْنهما لا يعني شيئا، لأنّ المرأة في كُلّ الوضعيّات هي المرأة، كالّذي يحدث من الغيرة بين الأمّ وابنتها. وكأنّ الشاطئ الّذي يتشكّل بين الحين والآخر بَدْءًا من غيبوبة الباب هو ذاك الشاطئ الّذي أنهى لأوّل مرّة حَالَ التردُّد في أمر زواجهما. وبَدَا لها اللقاء إعلانا مًبكّرًا لِوفاتها. انتقال الملكيّة إليه تعني إمضاءَها على وثيقة إعدامها الرسميّة دونَ تحديد لمكان التنفيذ وزمنه والأداة المعتمَدَة لِهذا الغرض. لم تستمع آنذاك لنصيحة سوسو ظَنًّا منها أنّها صادرة عن غيرة مضمرة لامرأة تُبيّتُ لها شرًّا قاتلاً. فهي تعلم أنّ سلومة الأعور على علاقة جنسيّة مَعَهَا، كغَيْرها من النساء المشتغلات بالكازينو وشقق عمارة " فجّ الرّيح ". ولكنْ بعد الّذي حَدَث أدركت أنّها قد أخلصت حَقًّا في نُصْحِهَا.

-حُبّ المرأة قد يؤدّي إلى كوارث حقيقيّة. فهي الأكثر استخدامًا للعقل من الرجل. إنْ تَحَوَّل الاتّجاه من العقل إلى القلب في عالمها الصامت تقوّض بنيان الحكمة وأضحى الكيان ملتبسا بلا طريق.

يضحك سالم ضَوْ عند سماعِهِ حِكمة خميِّس المطيهري الّذي أصبح فيلسوفًا بحُكْم التجارب القديمة ومعاشرته السّريّة لأنغام في غفلة من الزَوْجِ السِكّير. وتنتشر عَدْوى الضحك لتشمل كلاّ من فرج الربعي عمدة الحيّ ومنصور الفرطاس كبير العَسسِ. إلاّ سوسو الّتي لم تفهم حكمة خميّس المطيهري وسَبب ضحك الجماعة، ثمّ هي لا تقدر علي الضحك لأنّها مسكونة بالحزن ومحكومة بالوقت، رُبْعُ سَاعَةٍ وتحمل الغذاء والدواء لسيّدتها المُحْتَضَرة. حالتها لا تسمح بتناوُل أيّ شيء ولكنّ حرصها الشديد على خدمتها إلى آخر اللحظات يَسْتَدعي القيام بالواجب كاملا. يكفيها سعادةً أن تلحظ كلمات الشكر والامتنان في عينيْها. استرخصت من أنغام وخميّس المطيهريّ وسلومة الأعور للمبيت حِذْوَها لَيْلاً.

صمتٌ مُوحش وإغفاءةُ دقائق ويقظة شبه دائمة، تلك الأحداث الباهتة تتكرّر أثناء الليالي الأخيرة قبل انطفاء كائن بشريّ يُمثّل بالنّسبة لها رَمْزًا شخصيًّا لا يمكن نسيانه. فهي مومس الأربعين، صاحبة المواقف النبيلة الّتي تعلّمتها من سيّدتها المحْتَضَرَة أمامَها. لا تتمالك نفسها عن البكاء عند استعراض شريط حياتها، فرارها هي الأخرى من الأهل والاحتماء بمبغى الباب الغربيّ بمدينة الشاطئ قبل أنْ تفقد الكثير من جمالها المُسْتهلك وتصبح واحدة من الطاقم المسؤول على تسيير الشقق المفروشة في عمارة " فجّ الرّيح " ثمّ صديقةً للجميع، يثقون بها ويودعونها أسرارهم ويستشيرونها في كلّ شيء، تقريبا، ويُحْضِرونها في المجالس الخاصّة. ولها موهبة إدارة الكؤوس وتنظيم السهرات الخاصّة الحميمة وإدخال الغبطة على كبار السادة بما ترويه من مواقف طريفة ونِكات خضْراء كما يقول أهل حيّ " فجّ الرّيح"، أي جنسيّة من النوع الهزليّ الّذي يُحَوّل الجلوس إلى أجسادٍ ترتعش ضحِكًا وتطلب المزيد.

تنظر إلى باب غُرْفتها المغلق. فتُدْرك أنّ الوقت ليل، وهي ليْست وَحِيدةً كما كانت قبل أن تفقد الحركة وتُذعِن لمَرضِ آخر اللحظات في عمرها. الباب كما هو، بِسِماته الدقيقة الدّالّة عليه، بعيدًا عن غيبوبة اللحظات الحرجة كُلَّما اشتدّ بها مرض آخر اللحظات. كأنّها تشعر بصحّة مباغتة. كلّ الأشياء حواليْها بالغة الوضوح، لا أطياف لأقارب هلكوا منذ أعوام بعيدة. سوسو على كنبة مقابلة تغطّ في ضجعة مباغتة. بدت لها في غمرة الأشياء الواضحة حدّ التجلّي ببَدانة لم تأْلفها لديها في ماضي شهور قريبة قبل أن يستفحل بها المرض وهمَّت بمناداتها. غير أنّ الصوْتَ ظلَّ حبيسًا في الحُنْجرة، عدا ما يُشبه الحشرجة المتقطّعة لفظتْها بأقْصَى الجَهْد ليستبدّ بها ألم مباغت في الصدر، تلتْها انتفاضة جسد خافتة، كأحدِ آخر الأنباض يدفع كأْسًا قريبا منها إلى السّقوط. فتستيقظ سوسو مذْعُورَةً لتهرع إليها بحركة سريعة أمكن لجسدها أداؤُها رَغْمَ ثِقلِ البَدَانَة. أمسكت بيدها ثمّ ضمّتها إلى صدرها. قبّلت جبينها. وكأنّ زبنوبة بنت المقصود أحسّت باطمئنان لم تألفه طيلة أعوام. رمقت سوسو بنظرة امتنان، أرسلت إثرها دمعتيْن، ثمّ عاودتْها تلك الغيبوبة. بابُ غرفتها المقابل لم يعد بابًا. كأنّها لم تعد هي، بل شخص آخر ينفصل فجأةً عن بَدَنِهِ. تنْدفع بلا ذاكرة في نفق عميق تَزداد ظلمته سوادًا. ينتابها في الأثناء ما يُشبه الرعب، أو لعلّها الرغبة الذابلة تحذّر من مصير مجهول. لا تمتلك من الإرادة إلاّ التنفّس الّذي يتعالى فجأة بشَهَقات سريعة متتالية وحشرجات باكية انتهت بانقضاء الحركة تمامًا. آنذاك أدركت سوسو أنّها قد فارقت الحياة. نظرتْ مُلتاعَةً إلى الساعة الجداريّة المقابلة الّتي تُشير إلى الرابعة وعشر دقائق فجْرًا. مدّدتْها على السرير وغطّت وجهها. استعانت بهاتفها الجوّال كي تُعلِم خميّس المطيهري بما حدث. عادت إلى الكنبة. نظرت إلى الخارج من خلال أضلاع النافذة المقابلة خلف الستارة الشفّافة. تملّكها رعب مباغت حينما تراءت لها الظلمة موحشة رغم ضوء المصباح البلديّ الكابي.عاد بها البصر إلى الجُثّة الممدَّدة على السرير. هو المصير ذاته تقريبا، ينتظرها. قد لا تجد من يُساعدها على خوْض محنتها الأخيرة، لا زوج ولا أبناء. أدركتْ لأوّل مرّة أنّها وحيدة في عالم موحش. قلّبت في دَقَائق معدودة مُجمل تاريخ مومس في الأربعين، وتراءى لها الموت يرمقها من بعيد بعد أنْ تسلّل إلى سرير سيّدتها وعاد إلى كهفه الليليّ في انتظار فريسة أخرى.

حَضَر الجميع تشييع جثمانها إلى مقبرة الحيّ. كان سالم ضَوْ وفرج الربعي ومنصور الفرطاس في مقدّمة الجمْع الغفير. ولم يغب صالح برّيمة وعثمان المبروكي والصادق بلخير. تقبّل خميّس المطيهريّ التعازي لوحدِه. وقد اندهش المُعَزّون لغياب سلومة الأعور.عثر عليه الساسي خرشف مغمى عليه في ركن قريب من عمارة كازينو" فجّ الرّيح " ملطّخا بالقيء تحت المطر والريح. كان ذلك في الهزيع الأخير من ليلة تشييع جنازتها. ولأنّ أنغام غير مبالية كعادتها بما حدث له لم تفتح الباب، كما رفضت سوسو، ولأوّل مرّة، فَتْح بابها أيضا، فقد آواه الساسي خرشف من البرد والمطر بأنْ مَدّده داخل غرفته المتواضعة في أعلى العمارة على سجّاد قديم مُهترئ، ملطّخا بالقيء ووحَل الشارع الغاطس في مياه ليلةٍ مُمْطِرَة. تَرَكه وحيدًا بلا مُساعد إلى الصباح، وعاد إلى الحراسة الليليّة وخدمة سيّده سالم ضَوْ الّذي أَلَحّ في فجر ذلك اليوم بالذات على ممارسة شذوذه المعتاد، بعد قلق يوم طويل زاخر بأحداثِ جنازةِ سيّدةٍ غير عاديّة.

 

(13)

أنغام، نجمة ستار أكاديميّ في زَمَنِ مضى، تسعى إلى طلاقها من سَلُومَة الأعور، وتفاصيل أخرى
يطرق بابها بِلَوْعَةِ من فَقَد كُلّ شيء. يصرخ ليوقظ الجيران متلفّظا بعديد السباب والشتائم. ينتحب داعيا إليه زينوبة بنت عبد المقصود. يترجّاها أن تُسامحه. ولأنّه يعلم يقينا أنّها ميّتة منذ شهور يعود ليترجّى أنغام أن تفتح له. يطرق باب سُوسو دون جَدْوى. يتلفّظ بسباب وشتائم أخرى. يذكّرها بأعوام خِدْمَتها، بطوابير الرجال المُتداولين عليها. يفضح بعض أسرارها الّتي لم تعد أسرارًا بحُكم تكرارها كَيْ تخاف وتفتح له الباب. وحينما يستبدّ به اليأس يترجّى الصادق بلخير أن يُساعده على الوصُول إلى غرفة الساسي خرشف بأعلى سطح العمارة، كي يلوذ بعتبتها في انتظار أنْ يفتح له الباب أو يظلّ، كما

 هو إلى صباح اليوم الموالي، مُلَطّخًا بالقيْء وأوحال السنين الماضية. بَارُ عاشور أغلق هو الآخر الباب في وجهه، لأنّه لم يعد قادرًا على دفْع الحساب. فالتجأ إلى أحد صخور الميناء مُكْتفيًا بالخمرة الرخيصة يشتريها بنُقودٍ يتسوّلها مِنْ جُلاس المقاهي القريبة. حِينما نفّذت أنغام ما قرّرتْه بمَنْع المال عنه ارتأى آخر أصدقائه أن يهجره ليدعه وحيدًا في ظُلْمة عالمه الّتي بدأت تشهد أعتى سَوَادها. إذْ فَرَّ الصادق بلخير منه إلى فريق خميّس المطيهري بعد أن تمسّح بأعتاب السادة الجُدُد ليزوّدهم بالأخبار الخاصّة بصالح برّيمة وعثمان المبروكي على وجه الخصوص، فيَْسَمُحون له بحضور بعض السهرات الخمريّة غير السّريّة لاستدْرَار ما يحتاجون إليه من معلومات وإيهامه بأنّه أضحى هو الآخر من مُقرَّبي سالم ضَوْ. بدا متعاونًا مع أفراد الفريق الجديد لمّا أعلن انفصاله الكامل عن سلومة الأعور، بلْ عبّر عن استنكاره ممّا آلت إليه أحواله. تظاهر بعدَمِ سماع صراخه واستنجاده به فجرًا. فأدرك سلومة الأعور أنّ زمن الصداقة قد ولّى، وليس له إلا أنْ يسير بِمفْرده في طريق الحياة، حتّى آخر العمر، إن تبقّى من العمر بعضٌ من رَمَق.

دَعَا سالم ضَوْ الساسي خُرْشُف إليه لِيُكلّفَهُ بالتحريضِ على كتابة عريضة احتجاج يُمْضيها كافّة سكّان عمارة كازينو" فجّ الرّيح " والمنازل القريبة. ولمّا أضحت الوثيقة في مُتناوَله سلّمها إلى منصور الفرطاس كبير العسس بَعْدَ أن ذيّلها بملاحظة المسؤول الأوّل في حزب التسامح والديمقراطيّة. فأمست الإدانة جلِيّة لا تقبل الدحض: إزعاج مُتساكِني "فجّ الرّيح" والسُكر الواضح والثلب والاعتداء على الأخلاق الحميدة والإساءة لماضِي نائب في مجلس الشعب ..

وحينما التزم باحترام القانون في مَحْضر خاصّ كلّف سالم ضَوْ الساسي خرشُفْ بطَرْده من الحيّ أو تهديده بتسليمه إلى الشرْطة بالتُهم ذاتها، إنْ أصَرَّ على دُخول عمارة كازينو" فجّ الريح ". حاول الاتّصال بأنغام وسوسو عن طريق الهاتف الجوّال. غَيْر أنّهما أصرّتَا معًا على القطيعة. سأل فرج الربعي أن يُعينه على استرداد حقّه في الملكيّة أو الحصول على نصيب يُساعده على الخروج من محنة فقره المُدقع الأخيرة. فأعلمه بإصرار أنغام على موقفها الجازم بأنّه قد نال حقّه كاملا، ولها من الوثائق ما يُثبت زعمها، بلْ نَصَحَهُ بعَدَم الاِلتجاء إلى القضاء بعد اطّلاعه على كامل الوثائق الّتي هي في حوْزَة زوجته الّتي تدعوه إلى الطلاق العاجل، إنْشاءً أو ترَاضيًا، كما يشاء. فكرة الاِستعانة بفرج الربعي أفادته بعض الشيء، إذْ أمكنه الحصول منه على قليل من المال وسَكَنَ مؤقّت في مستودَع سيّارة قريبًا من ميناء مدينة الشاطئ. هو يعلم مسبقا وقبل الاستعانة به أنّه من صنف الرجال الأوفياء رغم انقضاء زمن الصداقة والاِنقطاع الحاصل بينهما بسبب المصلحة الشخصيّة ومقتضيات المرحلة الجديدة. قليل من المال وسكن لا يليق إلا بمتسكّع سكّير يكفيان، ربّما، لخوْض آخر المراحل في حكاية ابن الجبل الضالّ. لكنّ المال سرعان ما نفد. أمّا السكن فقد ظلّ مُنْزواه كُلّما تعْتعتْه الخمرة أو أفقدته الصواب كأنْ يعود إليه فجْرًا كعادته مُلطّخًا بالقيء وأوحال السنين الماضية. عينُه السليمة أضحت على حافّة العمى. بريقُ خافت من ضَوْء ينبعث من الداخل سُرْعان ما يصطدم بالأشياء المرئيّة، فتستحيل إلى أطيافِ متداخِلَةِ، كُتَلٍ هاربةِ. لم يعد، كما كان، يرغب في رؤية وجهه بالمرآة، بل لعلّه يخاف على نفْسه من إبْصار مُعْتم يدفعه حتما إلى الاِنتحار. ثمّةَ مرآة هناك، في الداخل تترصّد خطاه أثناء النوم واليقظة، مِرْآة بلا زجاج، مُجَوّفَة حيث اللحم النازف، وأشجار ذبيحة، ومحاجر بعيون ميّتة. مرآة اعتاد عليها العميان، حسب تقدير الكاتب البرتغاليّ جُوزي ساراماغو في روايته "العمى"، مرآة تجعل الأشياء أكثر فظاعَةً ممّا هي عليه عند مشاهدتها حِسّا. مرآة تفضح ما يُخفيه ظاهر الأشياء فنقترب آنذاك من حافّة الهاوية، مرآة تعود القهقرى إلى لحظة الصفر، حيث العَدَم قابَ قوسيْن أو أدنى من الظهور برغْبةِِ عمياءَ في إنْهاِءِ كُلّ شيْء واِلتهام ما كان ويكون. يتلمّسُها بحَنين مُرْتعب فَيُدرك أنّها لا تزال من معدن آخر غير زجاجيّ، كعيْنه الاِصطناعيّة. يهمّ بفَقْئها ليتأكّد من أنّها بعض من جسده الّذي لا يزال ينبض حياةً رغم كُلّ المؤشّرات الدالّة على أنّ مَوْته الآخر قد حدث منذ أن فارقت زينوبة بنت عبد المقصود الحياة إثر موتها الأوّل منذ خيانته لها. أدْرك بحدْس الشرّير المغامر أنّ المرء يهلك بعد أن يموت. فإنْ مَاتَ هَلَكَ. حينما تصطدم إرادة الكائن بآخر الأمنيات يستحيل الجسد إلى وعاء لا يمتلك من الحياة إلاّ اللحم والعظم والدم ونبْضًا باهتا، وطعامًا وشرابًا لا يُثمران من القُوّة إلاّ التعرُّق والتبوُّل والتغوّط والضِراط. مشكلة الإنسان أنّه يموت ليهلك. أمّا الحيوان فيحْيَى ليهلك فحسْب. بَدَا حيوانا بِقناعِ إنسانِِ لمّا أصَرّ على أن يُجوّف في مرآةِ الداخل. وعلى حافّة ما شاهده مِرارًا وتكرارًا كلّما استعاد يقظة اليوم الموالي بعد شبه غيبوبة سكرته الليليّة بكحولِ تسوّلُه في المقاهي القريبة من مُنْزَواهُ تراءت له نفسه بصفة إنسان يَضَع على وجْهه للضرورة قِنَاعَ ذئب جَريح. عَمَاه شبه الكامل ينعى هلاكه الوشيك. يتلمّس ثيابه الرثّة، شعره الأشعث ببياضه الناصع. يبحث عن نظّارتيْه علّه يُخفِي بهما آثار عماه الآخذ في الاِكتمال. ويتذكّر أنّه أضاعهما عند تعثّره وسقوطه على حافّة رصيف، وهو في الطريق إلى مُنَْزَواه. يتلمّس أشياء المستودع باحثا له عن عَصَا تُساعده على التّنقّل، فتصطدم يَدُه دون جدْوى، بعجلةٍ مطّاطيّة قديمة وقِطَعٍ فولاذيّة ومقوَد سيّارة هرِمة وبَرَاغِ وصَمُولاتِِ مهترئة بعد أن أنهت وظيفة استخدامها في ماضِي فرج الربعي الميكَانيكيّ قبل احترافه التجارة بالربع. مغادرة المستودع أضحت مغامرة غير مأمونة العواقب. فكيف له أن يعبر الشارع ويتنقّل بين المقاهي للتسوّل وشراء ما يلزم من الخمرة الرخيصة أو الكُحول وبعضِ الغذاء، وعينُه لم تَعُد كما كانت قادرةً على الإبصار، وَلوْ قليلاً؟! ابتلعه نفق عميق لا أوّل له ولا آخر، رغم المسموعات الّتي تجعله قادِرًا على التمييز بين الداخل والخارج. فتستمرّ الأمْكنة لديه في المحافظة على هُويّاتها المعتادة، كضجيج الشارع ووَحشة المستودَع وتراكُض الفئران به لَيْلا ونشيج المطر خارج المنزوى وعويل الريح ومُوَاء القطط ونُباح الكِلاب السائبة وصفير البواخر المسافِرة الناعق وصَخب جُلاّس المقاهي وصيحات الأطفال اللاّعبين في أيّام العُطل المدرسيّة ونداءات الباعة وأصوات الإذاعات والفضائيّات المُنبَعِثة من المنازل القريبة. بَدَأَ يَعْتَادُ على رؤية السَمْع بعد أن غمرتْه مَوْجَةُ ظلام دائم. الأصواتُ أضحت لديْه وجوهًا سَمْعيّة مختلفة يُفارق بها بين ما يُرى حِسًّا وما هو أبعد من الحِسّ، بين ذبذبات أجسام شيئيّة وأجساد بشريّة في بحر هائل من الحركات والأقوال. يتلمّس عينه الوحيدة الّتي كان يُبصر بها عَيْنَه الأخرى الميّتة وخارطة ملامح وجهه وتفاصيل التّحوّلات في حياته الماضية.عَمَاهُ الكامل جعلهُ يُبصر الأشياء والوقائع بأسلوب آخر، كَأَنْ يلتقط داخِلُه ما يعبر السَمْع فيُحوّله إلى رموز خاصّة لا يُدركها إلاّ مخيال أعمى مرهف السَمْع. أيْقونات زمن إبصاره والرموز الحادثة تتعالق بأداء ذاكرة حادثة لا تقطع تماما مع ماضيها، كَأَنْ يستعيد بَعْضًا من سمات ذلك الوجه عَبْرَ مُختلف المراحل، بَدْءًا بطفولة الجبل ومرورًا بِحَدَث الجريمة والفرار إلى مدينة الشاطئ ووُصولا إلى حياة المَبْغَى ثمّ كازينو" فجّ الرّيح ". ثَمَّةَ شعور غريب يقضي يقينَهُ بأنّها لا تزال على قيْد الحياة رغم اسمها المثبت على شاهدة القبر الّذي زاره مرارًا وجَثا أمامه منتحبا. قبور الغُرباء على مرمى البصر في جبّانة مدينة الشاطئ: أسماء مختلفة لنازحين وافدين عليها من الجبال والسهول النائيَة، فقدوا جذُورهم وابتلعتهم حياة المدينة، ليتسوّل بعضهم ويحترف بعضهم الآخر تلميع الأحذية وحراسة العمارات والأحياء ومساعدة البنّائين وتنظيف الشوارع، وللفتيات الريفيّات حكايات شتّى يزخر بها الملفّ الصحّيّ الخاصّ بمَبْغى " فجّ الرّيح". كانت تستعطفه بأن يُنهي مأساة فرارهما بالزواج. فيُصرّ على إرجائه بوعودٍ كاذبة. يتذكّر تفاصيل انقلابه المفاجئ حينما قرّر الزواج بِها ليتغيّر موقفها بالرفض. لو أمْكن له إرْجاع الزمن إلى الوراء لاختار لنفسه الرحيل الدائم سبيلاً يقيها كما يقي نفسه من غدْر شرّير أعور. وكلّما طوّحت به الأقاصي آنذاك عاد إليها بين الحين والآخر، مُثْقَلاً بأتعاب الطريق كي يحتمي ببريق عينيْها الجميلتيْن ويستعيد القوّة الّتي يستأنف بها مغامرة التنقّل من بلد إلى آخر، ومن حانة إلى أخرى، ومن طريق إلى طريق. مُشكلتُه أنّه عاشق للرحيل اضطُرّ على البقاء في مكان واحد فتعاظم شرّه بأن استباح عمرها ومالها له وجسدها للجميع طيلة عقديْن، قبل أن تنتهج لها سبيلاً آخر في الحياة. إلاّ أنّه ظلّ مهووسًا برغبة قتلها حتّى آخر لحظة في حياتها.

كان يبالغ في إلحاق الضرر بها. وكلّما عَادَ إليها ذليلاً مُفلسا قليل الحيلة احتضنتْه كَأمّ مُدَلّلِة وأعادت له كبرياء ابن الجبل الضالّ.

يعرض له شريط الوجوه في مرآةِ دَاخِلِهِ المُجوَّفة: سالم ضَوْ بِصلعه وتقاسيم وجهه الأبْيض المُدوَّرِ

وعينيْه الضّيّقتيْن ونظراته الحاقدة وضحكاته الاِستفزازيّة المُجَلْجِلة ومشيته المُخنَّثة، وفرج الرّبعي صديق الماضِي الّذي ساعده على الإيواء رغم ما تقتضيه المصلحة الشخصيّة وظروف المرحلة الجديدة من قَطْعِِِ كامل مع من ثبت تورُّطه مع صالح برّيمة زعيم حزب التسامح والديمقراطيّة السابق، وخميّس المطيهري الّذي هو في مقام ابنه اللّدود، بل يزعم البعض من كبار السِنّ في" فجّ الريح " أنّه من صُلْبِهِ، لما بينهما من شَبَه، وإنْ تعذّر إثبات النسَب نتيجةَ انفتاح الأمّ المومس على عامّة الرجال العابرين أثناء النهار والليل، ومنصور الفرطاس أكثر الرجال وفاءً لسالم ضَوْ الحريص على طرده من عمارة كازينو" فجّ الرّيح " وتطليقه من أنغام وإبْعاده عن سُوسو مستفيدًا من موقفه الرافض لزيارة زينوبة بنت عبد المقصود أثناء مرضها الأخير وحضور جنازتها، والساسي خرشف بجثّته الضخمة وقشَّابيّته الرماديّة الوسخة وهراوته الغليظة الّتي تذكّره بأحد أبناء العمّ من أهالي قرية الجبل النائية، وسوسو الرحيمة قبل إغلاق بابها في وجهه، وأنغام .. ينطفئ البعض الكثير من شرّه بانطفاء عينه الكامل. وكم تمنّى أنْ يظلّ بصيص نور فيها كي يستضيء به للوصول إليها فينقضّ عليها بوحشيّة رَجُل مطعون في كرامته يرغب في الانتقام ذبْحًا ثمّ تمزيقها إرْبا إرْبًا وبعثرة نُثار جثّتها في مواقع متباعدة كي يستحيل تجميعها لمن يرغبون في تخصيص جنازة ودفنها بقبر يحمل اسمها. تتملّكه في لحظاتِ اكتئابِ حادِِِّ عارضة موجةُ ضَحِك هستيريّ تهتزّ لها مرآةُ داخله المُجوَّفة، ويحدث في الأثناء ما يُشبه الصدى تُطوّح به الظلمة القاسية في أبعد أقاصيها، كَمَرْكَب غريق يَدفعه جَبَلُ الموج إلى قاعِ بلا قرار، لتتبدّد أشلاؤُهُ في زحمة الظلال الميّتة.

العتمة الّتي يرى هي بَدْء العتمة الأخرى الّتي بَدَأت تظهر له أثناء النوم بكوابيسها دون أن تترك أثَرًا لذكرى عند اليقظة. خمرة رخيصة وكحول حارق للأمعاء والمعدة اعتاد عليهما، يتسلّل كلٌّ منهما إلى دماغه بأيادِِِ فولاذيّة صدئة، فيُقاربُ غيبوبة النهاية لَوْلا آخر جَمْرٍ للشرّ المتبقّى فيه يَحْفزه على الاستمرار في البقاء رغم العمى.

-هل العمى الّذي أصابه هو العقاب الناتج عن آثام عديدة اقترفها في حقّ تلك المرأة الّتي تعتبرها عجائز " فجّ الريح " وليّة صالحة، كرابعة العدويّة لدى المثّقّفات مِنهنّ تحديدًا، وعَدَدُهنّ قليل؟

يتحسّس الأشياء حواليْه بعَصًا أنيقة أََهْدَاها لَهُ أحد الأطفال من جيرانه الجُدُدِ. مساعدات المارّة كلّما همّ بقَطْع الشارع المكتظّ بالسيّارات لا تقلّ أهمّيّة عن صديقته العَصَا.

أَدْرك بحدْس الأعمى الناشئ وبِفعل مرآة الداخل المجوَّفَة أنّ الإنسان لا يمكنه أن يعيش دون الآخرين، وقَدْ يُعَوَّضُ هؤلاء بأشياء جامدَة تكتسب عند تكرار الاستخدام وظائف شبه إنسانيّة. فَعَصاه قد تعني الاستعاضة، وَلوْ إلى حين، عن زينوبة بنت عبد المقصود الميّتة، وكرة الصبْية اللاّعبين من الجيران الّتي تصطدم بين الحين والآخر بباب المستودَع حيث يُقيم شبيهة بسوسو الّتي تحوّلت في الأخير إلى صفّ الخصوم المنتصرين لسالم ضَوْ وأتْباعه، والكَأْسُ بما يصطحبها من متعة وعذاب أشبه ما يكون بأنغام الغادرة .. يتجوّل بين المقاهي سائلا بعض المال. وبين آخر مقهى ومتجر بيع الخمور بالجُملة مسافة أمتار قليلة اعتاد على عدّها بخطواته، مستعينا بعصاه. ولأنّه أضحى معروفًا لدى جميع السكارى المدمنين ممّن يصطفّون للتزوُّد بما يحتاجون إليه ليْلاً، وعلى امتداد أيّام الأسبوع دون انقطاع، فقد اعتادُوا على تبجيله كُلّما ظهر وإكْمال ما يلزم من النقود، إنْ ثبت نقْصُها. يمرّ على بائع الدجاج المصليّ القريب من منزواه أو مغازة بيع الموادّ الغذائيّة إذا ثبت بقاء بعض النقود لديه، لشراء ما يلزم من كمْية. يفتح باب المستودع الملتوي إلى فوق. ينحني قليلا ليندسّ بين الأشياء الفولاذية الصدئة باحثا له عن سجّاد ومِخَدّةِ مهترئيْن. يتلمّس قارُورَتَيْه وقرطاس الطعام. يُنَظّم جلسته غير عابئ بالظلمة والفئران في الداخل والبرد القارس أو القيْظِ أو الريح أو المطر في الخارج. عامٌ كامل على هذه الحال إلاّ زيارة واحدة في الأخير لفرج الربعي الّذي أعلمه بالطلاق واستعداد كُلّ من أنغام وخميس المطيهري للزواج. لم ينزعج من الخبريْن معًا، بل تقبّلهما بابتسامةِ من أَلَف أصعب المواقف في حياة المرء وتعلّم جَلدًا لا يقدر عليه إلاّ الأبطال من العِمْيان. كلمة واحدة من حديث فرج الربعي أربكتْه قليلاً، وسرعان ما حوّلت ابتسامته إلى ضحْكة مُجلجلة أدهشت مُخاطِبَهُ وأَحَد المارّة:

-القاراج..!

فرج الربعي يريد طرْده من المستودع متعلّلا بكرائه لميكانيكيّ أو أحد باعة فواكه السهرة. اكتفى بسماع لفظ "القاراج"، وهو يعلم مُسبقًا ما سيعقب اللفظ من طلب ومُبرّرات. سلّمه المفتاح في الحال. استعان بعصاه وبأحد الصبْية. سار إلى آخر الشارع. وكأنّه التفت قليلاً إلى عمدة حيّ "فجّ الرّيح" كي يوّدعه من قريب بعيد. ترك الصبيّ يعود وحيدًا إلى بيته. وظلّ فرج الربعي واقفًا بمُفرده هو الآخر يتنازعه الندم وطمأنينة من استجاب لأمر سالم ضَوْ، زعيم حزب التسامُح والديمقراطيّة في حيّ "فجّ الرّيح". اختفى كلٌّ منهما عن الآخر، إذ ركب فرج الربعي سيّارته متّجها إلى الحيّ لإعلام سيّده بما حدث، في حين سار سلومة الأعور بخُطى ثابتة رغم عَمَاه مستدِلاّ بعصاه إلى بار عاشور كي يبحث لهُ عن صديق قديم هناك، لعلّهُ لم يُفارق الحياة بَعْدُ.

 

(14)

خميّس المطيهريّ يسطو على مُمْتلَكات أنغام، نجمة ستار أكاديمي في زمنِ مضى والرّواية تسير بِخُطًى

حثيثة صَوْبَ مُنْتَهاهَا
يضحك الراوي مُتَخابثا، وعيناه لا تفارقان لَوْحَةً زيتيّة في الجدار المُقابل، بها رَجُلٌ أعمى يرتدي ثيابًا رثّةً يتحسّس بعصاه رصيفًا في مدينة الشاطئ. يتساءل بصوْتِ مسموع:

- هل أنا شخصيّة لفظتْها الرواية إلى الحافّة ولم يرِد ذكْرها في أيّ حَدَث أم طيف هارب لخميّس المطيهري أو الساسي خُرشُف؟

عين الراوي في مرآةِ داخله المُجَوَّفة تكتشف فجأةً وجوهَ شبَهٍ عديدة: الراوي مغتصب بياض والساسي خُرشف مُغتصب سالم ضَوْ، وإنْ بِرِضاه كأن يتهيّأ في كُلّ مرّة للاِعتداء عليه بالفاحشة،

وكانتقام خميّس المطيهري الجميل من أنغام رغم العجرفة البادية على مشهد الركوب إِذْ يبعثرها، فتتملّكها رغبة المزيد ..

يتعالى ضحك الراوي في قيعان البياض، لأنّه يُدْرك عند ممارسة لعبة التشبيه والمقارنة بين الشخصيّات الظاهِرة والأخرى الخفيّة أنّه في الماهِيّة وواقع الاشتغال مَجْمَع صفات كُلّ من خميّس المطيهري والساسي خُرشف. فهو لقيط، رغم تسليم كبار شيوخ "فجّ الريح" بانتسابه لسلومة الأعور، تبعا للشبه الكبير بينهما في عديد ملامح الوجه. وهو ذلك المغامر الّذي أقدم على الزجّ بنفسه في سجن الحكاية، مثل خميّس المطيهري تمامًا الّذي تقلّب في حياته بين الحبس ومقهى الربع ومقرّ حزب التسامح والديمقراطيّة ومجلس الشعب.وهو شرّير حَدّ الخير، خيّر حدّ الشّر، كفضحه أسرار الآخرين مُتعلّلا بالواقعيّة وأحكام النرّاتولوجيا الّتي تعلّمها دُفْعَةً واحدة من بروب وجينيت وتودروف وغريماس ونصيب بوراس كبير النرّاتولوجيّين العَرَب ممّن ابيضّ شعرهم في التقليب داخل حيوات الشخصيّات وضعُفَ بصره لِمدى فصْله ووَصْله بين خيوط المَحْكيّ، فأنشأ بذلك أحدث نظريَّة وصفيّة عالميّة في علم السرد. وهو شبيه بالساسي خرشف إنْ قرّر خلْط السواد بالبياض، والذكورة بالأنوثة،إذِ الرواية في اعتقاده كتابة خنثى.فجاجة الهراوة تقصم ظهر الحكاية بضَرْبةٍ واحدة لا يقدر عليها إلاّ رَاوٍ يتشبّه بعجرفة الساسي خرشُف ووقاحة خميّس المطيهري وغَدر سلومة الأعور وانتهازيّة فرج الربعي وأُبْنة سالم ضَوْ وحِيل سوسو مومس الأربعين .. كما أنّ إصرار الراوي على مُواصلة الحكاية رغم تراجيديّة الحال الّتي آل إليها وضع سلومة الأعور حتّى آخر نَفسٍ يذكّرنا بالحنين إلى زَمَنٍ مضى ويحذّرنا من زمَنٍ حَدَث ويحدث،بلْ قد يحْدُث.

لذلك ارتأى الراوي، باعتباره مَجْمَع الشخصيّات المذكورة، إعادة كتابة الحدث السابق بشخْصيّتيْن أُخْريَيْن من قائمة الأسماء المذكورة، وتبعا لحادث المسارّ الروائيّ: خميّس المطيهري عوضا عن سلومة الأعور وأنغام بَدَلَ زينوبة بنت عبد المقصود دفينة جبّانة الغرباء بمدينة الشاطئ.

-هل هو العَوْد الأبديّ على شَاكِلةٍ روائيّة؟

سألها الزواج في بَدْء خِدمته لها فتمنّعت. سألها الزواج بعد أن نجح في انتخابات مجلس الشعب فقبلت دون تَرَدُّد. فكان له ما أراد، إذ استطاع بما تعلّمه من فنون القول الجديدة، بحُكم التمَدْرُس السياسيّ وما امتلكه من تأثير ذكريّ عليها، أن يقنعها بوَضْع جميع مُمْتلكاتها تحت تصرُّفه.

و بتوكيل رَسْمِيّ أمكنَ تحويله بمساعدة سالم ضَوْ إلى حُجّة ملكيّة خاصّة به، مُسجّلَة بالدفتر خانة ..

وجوهٌ قديمة تختفي وأُخرى تظهر في زحمة المارّة من العابرين بين الربع وشارع كازينو " فجّ الريح ". مقهى الربع فقد معماره القديم بعد الترميم الّذي أُدْخِل عليه. اختفت طاولاته وكَراسيه العتيقةَ وتحوّلت مِلكيّته بحُكم المرحلة الجديدة من فرج الربعي إلى خميّس المطيهري النائب بمجلس الشعب وعضُد سالم ضَوْ الأيمن الكازينو هو الآخر شهد ترميما من نوع خاصّ بأنْ فَقَدَ جليزه الأندلسيّ الّذي كان يُغطّي جدُران الردهة كما أضاع بابهُ الخشبيّ الضخم المُنَمْنم بمسامير غليظة الإضاءة أَمْسَتْ زاهيةً تُبهرُ العيون بمختلف ألوانها الغامزة تغيّر الأثاث والخدمات بعض فتيات الشقق المفروشة بما قلّ من الثياب يُقدّمن الكؤوس للزوّار ويُظهرن عند الانحناء المتعمَّد إقبالاً أو إدْبارًا الكثير من مفاتنهنّ الساسي خُرْشُف ترقّى وظيفيّا بأن لبس بذلة محترَمة عوضا عن تلك القشّابيّة الوسِخة وتخلّى إلى الأبد عن هراوته كي يتولى إدارة شؤون العمّال يُراقب الجميع ويتدَخّل عند اللزوم لإنهاء خصومة عنيفة ناتجة عن إفْراط أحَدِهم في الشُرْبِ كأنّ يُقدم على تكسير قارورة للهجوم أو يرفع صوته بالشتيمَةِ لأتفه الأسباب وفي الأعلى هناك من عمارة كازينو"فجّ الريح" مجلس ليليّ خاصّ لا يحضُرُه إلاّ سالم ضَوْ ورِجاله المُقَرّبُون ومعهم سوسو مومس الأربعين تُدير الكؤوس وتفتح جسدها الآخذ في الترّهل لمن يرغبُ في تلبية شهوةٍ عارضة ولَهَا عطفٌ خاصّ على سيّدها الجديد خميّس المطيهريّ تُسنده إلى كتفه كلّما بالغ في عبّ الكؤوس ولا تدعه يخرُجُ من العمارة وهو على تلك الحَال خَوْفًا عليه من العيون وكي لا يُعيد مأساة سلومة الأعور هو الأمل الوحيد المتبقّى إنْ أصَابَهُ سُوءٌ فقدت كلّ شيء وأضحتْ شريدة متسكّعة في شوارع مدينة الشاطئ الّتي لا ترحم كمآل سلومة الأعور وعديد المومسَات في ماضي الخدمة لأنغام أهل تحتمي بهم رغمَ الفقر الّذي هُو على الأبواب أمّا هي فلا أهل ولا أصدقاء بعد أنْ فقدت سيّدة الجميع منذ عاميْن تقريبًا .. .

بدَا وجهُهَا عند لفظِ آخر الأنفاس مُطمئنّا: عينان مُسبلتان كأنّهما تسترخيان لضجعة هادئة بلا ألمٍ. والشحوب الّذي كَان في أيّام المرض العصيبةِ أضحى بياضًا جميلاً. كأنّها استعادت بعضا من شبابها الآفل. فتأكدّ لديهَا بمَا لا يدع مجالاً للشكّ أنّها امرأة صالحة، كالّذي تردَّدَ على ألسنة العجائز من العائلات الشريفة في حيّ " فجّ الريح ". مَاضِي خدمتها بشتّى عذاباته امتحان ربّانيّ انتهى بإعلانِ توبتها وحجّها إلى بيت اللّه الحرام وإصرارها على تحويل الكازينو إلى مقهى مُحْترم يقصدُه السُيّاح والعربُ، ويقدّم الشراب الحلال. بناؤها مسْجدًا هو الدليل الآخر على أنّها امرأة صالحة. مساعداتها للفقراء والأيتام صبرها على أذى سلومة الأعور عفّة لسانها ورفضها النميمة والشتيمة وعطفها الخاصّ على المومسات من جميع الأعمار ومساعدتهنّ في أوقات الضيق كلّها علامات دالّة على أنّها امرأة صالحة تستحقّ مَزَارًا. ولكنّ اختيارات سالمْ ضَوْ الجديدة وسياسة حزب التسامح والديمقراطيّة وعقليّة الأجيال الصاعدة لا تسمح بالرجُوع إلى زمن المزارات. لذلك ارتأى سالم ضَوْ بَدَلاً عن المزار تسمية شارع الكازينو باسمها ودعا الساهرين على النشاط الثقافيّ بالحيّ إلى تنظيم ندوة سنويّة تبحث في الظاهرة الزينبيّة أو الزينوبيّة، ويُسْتدعى لها بَاحثُون عربْ وأجانب يدرسون أبعاد هذه الظاهرة. كَمَا تُنظَّم على هامش الندوة أُمسيات شعريّة بالفصحى والعامّية وسهرات مدائح وأذكار من عديد البلدان الإسلاميّة تُرفعُ راياتها وينتشر بخورها في غمرةٍ من الابتهالات والزغاريد والدموع؟ كمَا حرص خميّس المطيهري على وضع صورتها مُضخَّمةً في مكتبه الّذي يدير منه شؤون مُمْتلكاته وعضويّته بمجلس الشعب، وتقديم شتّى المساعدات الماليّة وغيرها لفقراء الحيّ وأيتامه بمناسبة ذكرى وفاتها في كلّ عام.

حينما بَدَأت أنغام تشكّ في نوايا خميّس المطيهري وأفعاله بادَرتْ بالمُحاسبة الّتي أفضت إلى مشاجرات كانت في الغالب تنتهي بالضرب المبرّح بعد إلقائهَا أرْضًا وتهديدها بالطلاق إنْ تمَادت في حياة النكد. فتتدخّل سوسو كلّما بلغت المشاجرة أشدّها للتفريق بينهما تفاديا لخطر القتل غير المتعمّد الّذي قد يحدث في حالةِ طيشٍ نتيجَةَ غضب سيّدها الجديد. سالم ضَوْ بدأ هو الآخر ينزعجُ لتكرار المشاجرات الحادّة بينهما الّتي قد تُسيء لعضو مجلس الشعب وأحد أبرز رجال المرحلة حسب برنامج حزب التسامح والديمقراطيّة الجديد. لذلك عجّل في مساعدة عضده الأيمن على الطلاق. فكان له في الأخير ما أراد: ثروة طائلة وراحة بال! تسأله سوسو عن سبب خيانته لها فيجيبُها بنبرة الواثق بما يقول:

-أليس من حقّي أن أستعيد مُمْتلكات زينوبة بنت عبد المقصود لي ولكِ ولجميع من ضحَّوْا بحياتهم من أجل لقمة العيش نزوحًا من قرى الداخل وأريافه إلى مدينة الشاطئ، وتحديدًا إلى حيّ "فجّ الريح "؟

و كأنّ خميّس المطيهري غير مُكْتفٍ بالثروة الّتي انتزعها من مُطلّقته. رغبة الثأر من أهالي فجّ الريح وكافّة أحياء مدينة الشاطئ تتعاظَمُ فيه وتحفزه على مزيدٍ من الانتقام.

-متى يتهاوى الصرح القديم الآخذُ في التهرّم ليُعلن أبناء القُرى والأرياف النائية أنّهم أولى بامتلاك كلّ شيء وإدارة جميع الشؤون؟

المعركةُ في بدايتهَا والتكتيك المتّبعُ ناجعٌ جدًّا: الطاعة العمياء لسالم ضَوْ وفرج الربعي ومنصور الفرطاس، والمزيد من التعاون معَ كُلّ من الساسي خُرشف وسوسو ابنة الجبل وابنة العمّ أيضًا، كما يحلو له أن يدعوها أحيانا والتواصل مع الأحفاد المتبقّين من سلالة السادة القدامى من أصحاب العيون الزرقاء الوافدين بسفُنهم الحربيّة على مدينة الشاطئ ..

الثأر ثمّ الثأر ثمّ الثأر، ولكنْ بتدبيرٍ حكيم وبرودة أعصاب. ذلك ما حوّل خميّس المطيهري من مطعون في نسبه، نزيل سجون، نادل بمقهى الربع، ناكر جميل لمن تبنَّتْه وغمرتْه بفيض محبّتها ووفير مالها إلى أحد سادة " فجّ الريح " الكبار ممّن يحلمون بأعلى المناصب بعد الإطاحة بسالم ضَوْ وإنهاء العمل بسياسة حزب التسامح والديمقراطيّة. الجلسات الخاصّة والعامّة مع سالم ضَوْ ورفاق دربه السياسيّ علَّمتْه الشيء الكثير، ثمّ إقباله على دروس الإنقليزيّة والفرنسيّة وعلوم الإدارة والإعلاميّة جعلت منه سياسيّا من النوع الرفيع القادر على فهم كلّ القضايا القوميّة

و الدُوليّة ومتابعة ما يحدث هنا وهناك من حروب وكوارث في زمن العولمة الّتي بشّر بها سادة العالم الكبار. أهمّ الدروس الّتي تعلَّمَها من سياسات الدُول العُظمى وقادتها هو العمل بصمت رغم الضجيج الإعلاميّ والهجوم الاستباقيّ عند الضرورة واتّباع سياسة " فرّق تَسُدْ " الّتي تعلَّمَها أيضًا من زعيم حزب التسامح والديمقراطيّة الأوْحد.

للإنسان فرصة واحدة في الحياة قد تُتاح له فيُحسن استخدامها لتحقيق نجاحِ كبير. إن فرّط فيها ظلّ يحيا كغيره بالتَساوي، إنْ لم نقل بالدون. وقد تتحدّد هذه الفرصة بالمال والجاه معًا أو أحدهما. فرصة خميّس المطيهريّ نادرة جدّا لأنّها من قبيل من تفتح له السماء بابها ليلةَ القدر: مالٌ وجاهٌ وزعامة ممكنة قادمة. الشهادات الجامعيّة لا تعني شيئا في زمن المصالح الشخصيّة والحسابات والولاء ..

و َينتظر الصباح القادم، أخبارَ سُوسو الجديدة عن مُطلّقته، عن تعليقات مُواطني فجّ الرّيح، عن خلوات سالم ضَوْ السّرّيّة مع زعماء الأحياء المجاورة الوافدين عليه للتشاور في أمور لا يعلم منها إلا النّزْر القليل، عن حيوات كلّ من فرج الرّبعي ومنصور الفرطاس والساسي خرشف الخاصّة، عن تفاصيل ما يدور في العمارة والكازينو، عن شلل صالح برّيمة النصفيّ المفاجئ وإفلاسه الناتج عن تدخّل الضرائب، عن تفاقم مرض الصادق بلخير بسبب التداوي في المستشفى العُموميّ وتخلّي سالم ضَوْ عنه رغم عديد خدماته وتآمره في الأخير على سلومة الأعور .. ينظر إلى الساعة الجداريّة المقابلة لحظةَ أذان الفجر.

-لا يزال بعضٌ من وقت، وينبلج نور الصباح. لعلّه لن يكون كغيره من الصباحات السابقة، بل قد يكون صباحًا آخر، لا غ

 

بــَـدْء آخـــــر

للريح أيادِ حريريّة ناعمة

تدفع النافذة شبه المغلقة

كي تعابث أوراق الراوي

الموضُوعة على مكتبه

فتتهاوى أرضًا، وتتبعثر ..

بين شقّة الراوي وكازينو" فجّ الريح "

مسافة أمتار ..

إذا رغبتَ في أن تنظر عبر النافذة،

تلك النافذة الّتي فتحتْها الريحُ عُنْوَةً،

بدا لك المكان، كما هو تقريبا

عَدَا تغييرات طفيفة أحدثتْها يَدُ الزمان ..

العَلَمُ لا يزال يُرفْرفُ في أعلى الكازينو

والشُقَق بدأت تستقبل أوّل الصباح ..

يستيقظ الراوي على اهتزاز الأبواب والنوافذ،

لهُبوبات الريح الآخذة في الهيجان ..

عِِنْدَ دُخول المكتب

يعترضه مشهد الأوراق المُبَعْثَرَة ..

يندهش آنَ تجميعها

لأنّها تَبْدُو غيْرَ مُرَقّمة ..

لكنّ الريح رتَّبتْها بِأن بَعْْثَرَتْها ..

أَعَاد النظر في الصفحة الأخيرة

ليقرأ آخر الكلمات لرواية،

لعلّها أوشكتْ على النهاية:

سلومة الأعور الّذي أضحى أعمى سَكَنَ إحدى لوحات الراوي الرسّام: رَجُل في بدْء الشيخوخة يتحسّس بعصاه أحد الأرصفة في شارع مكتظّ بالمارّة والسيّارات. كأنّه يبحث له عن مُفتقَدٍ مّا.

لكنّ الشارع يَبْدُو للكاتب، كما للراوي، وللقارئ أيضًا، بلا اتّجاه.