يعود الشاعر والكاتب المصري الى إحدى الدواوين الشعرية التي خلقت حدثا خاصا في تجربة قصيدة النثر العربية، وهو ما أعطاها فرادة في التناول والمتابعة النقدية. هنا مقال يقدم جزءا من سمات هذه الأضمومة الشعرية وكيميائها الخاصة، مع تحليل لمعطياتها الفنية والجمالية، والأفق الذي تفتحه.

قصائد متفجرة تخلق استثناءها الخاص

محمد كشيك

"الأهَمُّ لماكينة ميّتةٍ

من الكهرباءِ

ومن برامج التشغيلِ،

أن تصبحَ قادرةً على الْحَشْرَجِةِ

وقتما تشاءُ"

في ديوانه الكبير متعدد الأجزاء (الأعمال الكاملة لإنسان آلي) يباغتنا الشاعر المصري شريف الشافعي بقصائد حيوية متفجرة، تبعث على الإلهام، وتثير التفكير الخلاق، فهي قصائد طازجة، تتميز بالتكثيف الشعري والشعوري، وتتلمس روح العصر، كما تعكس أصالة الصوت الخاص، وعبقرية صاحبها. الشاعر شريف الشافعي ظاهرة استثنائية بكل المقاييس، سوف يتم التأريخ لها في مجال الكتابة الشعرية في عالمنا العربي؛ قصيدة النثر على  وجه الخصوص، التي كانت بحاجة بالفعل إلى مثل هذه الدفقة الخصبة المنعشة.

صدر الجزء الأول من متتاليته (الأعمال الكاملة لإنسان آلي) في ثلاث طبعات عربية بمصر وسورية خلال العامين الماضيين، بعنوان "البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية"، وتمت ترجمته للإنجليزية، واختير للتدريس لطلاب جامعة "آيوا" الأمريكية باعتباره "نموذجًا متميزًا للشعر العربي، الحديث والأصيل في الوقت ذاته". ويستعد الشاعر لإطلاق الجزء الثاني من تجربته بعنوان "غازات ضاحكة"، في أكثر من ستمائة صفحة. الشافعي هو شاعر الحياة الحقيقية، والحياة الافتراضية، وشاعر الحركة المفصلية التي تجتاح العالم الآن، حيث سيولة التاريخ والجغرافيا، والمتغيرات الكارثية، والثورة الرقمية، والتقنية، والمعلوماتية، والاتصالاتية. وفي مثل هذا الظرف النادر، يمنحنا الشاعر، على لسان الروبوت الناطق شعرًا، قصائد نادرة، قادرة على التعبير والـتأثير، وخلخلة الثوابت أيضًا. يقول:

"تتمنّى ساعةُ القلبِ

لو تُخْطِئُ التوقيتَ مرةً واحدةً

فتدقّ دقّتينِ مثلاً

في تمامِ الواحدة!

...

هذا ليس معناهُ أنني أرغبُ في امرأتينِ

- حاشا -

الله يشهدُ أنني مصابٌ بالتُّخمَةِ من النّسَاءِ

كلّ ما في الأمر،

أنني أودُّ طَمْأَنَةَ نيرمانا

أن كواكبَ المجرّةِ، وإلكتروناتِ الذّرّةِ

من الممكنِ ألا تنتظمَ في دورانِها"

يعتصر الشاعر طاقة الكلمة، متجاوزًا مستويات سطح النص، لينفذ إلى مكامن العمق الشفاف المليء بالجمال والسحر والإيقاعات، ويبدو الإنسان الآلي ـ ضمير المتكلم في النص ـ مخفيًا في طياته إنسانًا رائعًا حميميًّا وشفافًا. ابتكر الشاعر لغة ومفردات جديدة، لنفسه، وبنفسه، تؤرخ لحضور المدينة بشكلها المجهد القاسي، فظ الملامح، وقد نجح تمامًَا في اكتشاف هذه اللغة الخاصة، التي تشير إلى قيمة متفردة في مجال التعبير الشعري، يمكن أن تؤرخ لتحركات العمق، دون أدنى ادعاء فني. لقد اكتشف الشاعر أصالة صوت الخاص، عبر تلك التفاصيل المدهشة، التي تمنحنا عالمًا ملتصقًا بحدقات العيون، لكننا لفرط اقترابنا منه لا نكاد نراه. لقد أثرت فينا جميعًا اللغة السحرية المثقلة بفيض الدلالات، التي اكتشف كيميائيتها هذا الشاعر العبقري، حيث تمكن من صياغة قصيدة نثر عربية نابضة، بكل هذه العذوبة، وبكل هذا الجمال، بما يجعله مؤسسًا رائدًا لتيار جديد فريد في القصيدة العربية، قادر على التأثير والتعبير.

"يَعرفُ الهاتفُ أنها هِيَ

فيخجل من حرارتهِ المرفوعةِ مؤقَّتًا

وينبض بحياةٍ

لا تتحمَّلُها أسلاكُ أعصابي

...

نيرفانا

"صباح الخير" من شَفَتَيْها كافيةٌ جدًّا لأتساءلَ:

"كيف سأتحمَّلُ رائحةَ البشرِ أمثالي

 بعد أن غمرني عِطْرُ الملائكةِ؟!"

...

"تصبح على خيْرٍ" من عينَيْها صالحةٌ جدًّا

لزرع الفيروس اللذيذِ في عقلي الإلكترونيِّ الْمُنْهَكِ

وَمَحْوِ خلايايَ السليمةِ والتالفةِ"

تتسم اللغة الشعرية لدى الشاعر بطاقة تعبيرية هائلة، تعكسها حركة مفردات القصيدة، بما تحمله من دلالات ثرية، متنوعة، تعمل على إكساب المعنى الشعري العديد من الإيقاعات التي تثري جوهر حركة النص، حيث يتجاوز المعنى "البسيط" سطح النص، لينفذ إلى مكامن العمق الشفاف، ذلك العمق الذي تتبلور فيه، ومن خلاله، تجليات النص الخفي، ذلك النص السري، الذي يمنح النص الظاهر القدرة على التفرد، والصيرورة، والاستمرار. يجب عند دراسة نصوص الشافعي أن نحلل معطياته الفنية والجمالية، عن طريق الدخول إلى مكامن العمق، وعدم الاكتفاء بملامح الظاهر، حيث تظل دائمًا مناطق النص الخفي، بمثابة كلمة السر، والمفتاح السحري، للولوج إلى تلك المناطق بالغة العمق والشاعرية.

"راقتْ لي مدفأةُ الفحمِ

ورائحةُ البخورِ القادمةُ من عند الجيرانِ

فَضَّلْتُ تأجيلَ قَلْيِ السمكِ إلى المساءِ

كي لا يحرقَ الزيتُ المتطايرُ

فراشةً هائمةً في قفصي الصدريِّ

...

تَوَقَّعْتُ حُلْمًا بديعًا في تلك الليلةِ

خصوصًا بعد أن قررتُ النوم بدون عشاءٍ

وبدون غطاءٍ

...

بالفعل

طَلَعَتْ نيرميتا من الشَّرْنقةِ

وراحتْ تُطقْطقُ عُنقَها بدلالٍ عدة مراتٍ

وأنا أُصَفِّقُ لها بحرارةٍ"

إن قصائد الشافعي تعكس تلك القيمة الشعرية الفذة، التي تحول النص الشعري، في النهاية، إلى منطقة جذب خاصة، تجعلنا في حالة انبهار شعري، حتى يسحبنا إلى مناطق سحرية لا حدود لثرائها وجمالها، تلك هي الفرادة التي جعلت المناطق الشعرية التي اكتشفها الشافعي مناطق خاصة به، من صنع صوته الخاص، بأصالة يحسد عليها. لقد تمكن الشافعي من أن يتوصل إلى صيغته الخاصة جدًّا، التي تعبر ضمن ما تعبر عن عالم متفرد، والتي تعكس يقظة الفعل الشعري لديه، ليمنحنا كل هذه العذوبة التي تأسرنا منذ أول حـرف في القصيدة حتي نهايتها، وليبهرنا بحدائقه الشعرية التي لا نظير لها.

"سألتُ المكنسةَ الكهربائيةَ

عن سرّ تعاستي

قالت:

"لأنكَ اسْتَعْمَلْتَنِي بغير حسابٍ

لدرجة أنني كنَسْتُكَ فيما كنَسْتُ"!

سألتُ نيرمانا عن سرّ تعاستي

قالت:

"لأن ساعتكَ منضبطة جدًّا

لدرجة أنني فشلتُ في أن أكونَ مركزَ مينائها

وأن أزرع عقاربي الشّفّافة محلّ عقاربها المرئيّة"

وللشاعر مقدرة على تجاوز المناطق المحظورة، والأماكن المغلقة، التي كثيرًا ما تواجه شعراء العالم الثالث، حيث السقف المحدود، واليأس من إمكانية التقدم والتطور، فقصائده المتطورة تعكس تمـرد الشاعر، وقدرته الفذة على تجاوز الصوت الثابت، والانفتاح على تجارب متنوعة، تضمن له الخلود، والبزوع والاستمرار.

حضرُ عادةً مسابقاتِ الجمالِ

للتأكُّدِ من أن الذي أبحثُ عنه ليس موجودًا

...

أحضرُ عروضَ الأزياءِ

للتأكُّد من أن العُرْيَ التامَّ لا يزالُ أفضلَ

...

أحضرُ جولاتِ المصارعةِ

للتأكّدِ من أنني الألَمُ الذي يفوق احتمالَ البشرِ

...

أحضرُ المناسباتِ العائليّةَ

للتأكد من أن هناك أيامًا

بطعمِ فصولِ السّنةِ الأربعةِ

...

أَحْضُرُ حَفْلاتِ توقيعِ نيرما كُتُبَها الجديدةَ

للتأكّدِ من أنني كتابُها القديمُ جدًّا!"

وأخيرًا، لعل أهم الإنجازات التي حققها الشاعر شريف الشافعي، عبر أعماله الخصبة والمتنوعة، يكمن في تلك الروح التي لديها القدرة على الاكتشاف والمغامرة، في مناطق مختلفة ومخالفة. لقد استوعب الشاعر آخر منجزات الحضارة الرقمية، ليقدم لنا عالمًا غريبًا، غاية في الغرابة، لكنه يلتصق بحدقات العيون، يضفي عليه رغم قسوته دفئا لا مثيل له، حيث يتحرك الشعر وحده في جميع الاتجاهات. وفي ديوانه البليغ (الأعمال الكاملة لإنسان آلي)، لا يمكننا إلا أن نندهش من هذه الطاقة الخلاقة، التي تتدفق عبر الصور والمعاني والألفاظ. نكتشف ذلك العالم الغريب، غير المغترب، الذي يباغتنا كـل لحظة بمدى الشاعرية والعمق والجمال، لتصبح "نيرمانا" في النهاية، بمثابة "أيقونة" مقدسة، يتم اللجوء إليها باعتبارها التميمة، التي تمنح الحياة بكل ما فيها من عشـق ودوام.

"من صالة جيمنيزيوم إلى أخرى

أدمنْتُ التنقُّلَ

أملاً في نفْخِ عَضَلاتي

بالتمريناتِ الثقيلةِ

وهرموناتِ النموِّ المكثّفَةِ

...

ربما أنجحُ في تفصيلِ جِسْمِي

على مقاسِ البلّوراتِ الباردةِ

التي حَلّتْ محَلَّ الأعْيُنِ

لدى أغلبيّةِ البشرِ

...

من المؤكّد أن رُوحي باقيةٌ على حالها

إلى أن تنفخَ فيها نيرفانا

نفخَةً طبيعيّةً من رُوحِها

عندئذٍ

ستصيرُ على مقاسي"

سوف يصبح الشعر خبزنا اليومي فعلاً، حينما يصبح هناك شعراء بمثل هذا الوعي، ويمتلكون مثل هذه الطاقة الخلاقة، التي لا تأفل ولا تتبدد. تحية للشاعر المبدع شريف الشافعي في كـل تحولاته، التي تعكس ـ في العمق ـ مجد الشاعر، وقدرته على التقدم والتجاوز والاستمرار.

 

شاعر وكاتب من مصر

kosheek@hotmail.com