ينسج الروائي المصري مدينة "روح الوادي" التي تشف في رمزيتها عن أحوال مدننا العربية. ومن خلال أسرة زايادان التي ورثت حفظ الملاحم والبطولات، تتكشف وقائع المأساة التي يكتوي بها أهل المدينة، حتى يصير بيع الأعين للإغراب وسيلتهم لتجاوز ما يعانونه. لكن النهر الذي يشق المدينة يحمل في طياته ما يجدد الحياة.

وراء الجبل (رواية)

محمد محمد السنباطي

ظلام عليك أيها الجبل

(قاسم حداد)

 

الفصل الأول: بين القنطرتين
من شرفات الأفق يطل الجبل بجِرمه الهائل. يظل يتضاءل ويجمع أطرافه حتى يتلقاه زايادان في عينيه العميقتين. يرتفع حتى يندكَّ في خاصرة السماء، بينما تربض البراري، وإلى البعيد امتدادها، هابطة من المدارج الرزينة لذلك التكوين السخي الذي عليه تنسدل ستائر الليل وتنفتح إليه نوافذ الصباح، وهو كما هو بكتلتة الجبارة. تراه ممتدًّا مشتدًّا صاعدًا مدينة روح الوادي، حاضرة الإقليم السادس، تلك القابعة عند قدميه، عاشقة له، ضاجة بالحياة والمتناقضات، تحتل صدارة الجبل، بينما امتدادها العشوائي يقبع خلفه وكأنما في كهفٍ منه.

وإليك النهر، بعيد المنابع، دائم التسكع، وإذ تهبط الريح من العلالي معلنة عن سطوتها، يحس اللولو بانتشاءات الأزمنة الأولى. لا تقل إن النهر إذ تلوث أصيب في مقتل؛ فإنه لا شك يولد صبياً فتياً من جديد. لا تقل إنه شاخ وتقاعد؛ ففي أعماقه إكسير الشباب. إياك أن تفقد الثقة به؛ فإنه الأمل الباقي، فإذا أخذك الشوق الفضولي ووصلت إلى أول عناق للمدينة والنهر، ثم تركت العمار، وانحدرت فرسخين كاملين ستطالعك القنطرة الأولى، وهي أيضا بداية معسكر للأفذاذ، أما نهايته فالقنطرة الثانية، فإذا استدرت مع الجبل- وما أطول المسافة- ستطالع وراء الجبل أكواخًا بلا عدد يقنع أهلها بالقليل؛ فهم يأكلون ويشربون ويمارسون الحياة دون وعي بالحياة. يقال عنهم إنهم يعيشون في الما وراء. يضحك زايادان ووجهه يشرق: المهم ألا نُنفى وراء الشمس!

المداخن القريبة تـضرب الأفق بكتل من السخام لا تجرجرها الرياح إلى الجهة غير المسكونة، بل إلى الجهة الأخرى مما يزرع الرضا في قلوب ناس هذه المنطقة ولو أن الأكواخ آخذة في الزحف بلا توقف!. ها هو زايادان يستقبل الجبل في عينيه ثم يحرك يده مشيراً إلى كتل الدخان أن ارحلي، ابتعدي!. على الدرجة الصخرية الملاصقة للماء يجلس وقدماه تبتلان، ويشرد. تبتلان فيناجي روح الماء. أجل. لا تغيب عن ناظريه أزمنة البراءة الأولى وأسراب الغزالات تدلف إلى النهر تحميها طيور الكيجي الضخمة مؤمنة لها وروداً آمناً. لم يكن أحد قد تعود التعرض للغزالات حتى لو لم تقم الطيور بحراستها. ربما كانت تلك الأطيار تخفي عشقاً مكبوتاً وتجعل من لعبة الحراسة أداة للترويح عن النفس. تحوم بأجنحتها الضخمة أفقياً وتلقي بظلالها فجأة على الغزالات وصورها تختلج في الماء. تتفتت ضحكات عميقة غيرُ مسموعة. وكان اللولو نظيفاً كاللؤلؤ، شفافاً. تتسع ابتسامة زايادان. لا ينسى البنت زامولا، أو ربما أمها بوخاسي عندما كانت في سنها مغمورة بالنهر، والشمس لم يظهر من وجهها سوى شعرها الأشقر يطير في الأفق العظيم. البنت في الماء تنتظر شيئاً. كان زايادان يعرف هذا. تغمرها الفرحة وقد أطلت غزالة حوراء، كأنها بلهاء وما هي بذلك، اندفعت من أعلى الجبل لا تخشى مفاجآت الصخور الناتئة، المتربصة. وفجأة، انبثقت رقصة كأنها الخلود تجمع بين الغزالة والفتاة، رقصة لا تماسَ فيها بين الأنثيين، ثم... التقمت الغزالة شيئا في صدر البنت. هنا، انبثقت ضحكة لم ير زايادان من قبل مثلها ولم يسمع. أخذت تندفق زهورُ النرجس، وعندما امتلأت صفحة النهر، وكانت جدائل الشمس قد التهبت تماماً، عاد من مرائيه البعيدة تملأ وجهه ابتسامة ذابلة.

المنزل الذي يقيم فيه وأسرته هو بعض الزبد الذي ألقاه موج المدينة على الأقدام الجامدة للجبل. من الخشب مصنوعة حجرته المطلة على الدرب تحفظ جدرانها ألواح من الصاج متلاصقة مثبتة بمسامير. يغطي الصاج الجدران بأكملها حماية للأخشاب من القوارض المتربصة، أما الحجرات المطلة على الفسحة فمن الطوب الأحمر، تمكنوا من تشييدها في غفلة من العيون. البناء هنا مخالف. وقد صنع السقف بحيث ينزلق المطر عنه فلا يتلف. كما أن قرني الثور المثبتين في  واجهته يُبعدان عنه الأعداء الهلاميين. هكذا يقولون وإن كان هو يعتقد أن ذلك غير أصيل. دائماً يفوح  بخور تتصاعد موجاته لتتداعى خارج النوافذ الضيقة. إلى جانبه أحواض صغيرة تنمو فيها أزهار ترعاها زوجته وتتفنن في تنسيقها، ترشها بالماء وتقف تتأملها والربيع في أكمامها. تهتف راضية: أنا مارانا، ملكة الزهور!

هذا المنزل ربما كان الأفضل في المنطقة كلها.

كل صباح تكنس الخلاء المحيط به، تنظف عشة الدجاج، تنثر الحبوب، ودودو يراقبها:

- نظفي الأوعية يا أمي، واملئيها ماء جديداً طازجاً. أين دجاجتي الحمراء ذات العرف كأنها الديك؟! هذه هي. أيها الديك الجميل، لاطف دجاجتي!. لاطفها دون أن تقفز على ظهرها!؛ إن أظافرك تؤذيها، ومنقارك يشوه ريشها.

تضحك مارانا تحت الشمس.

- إياك يا أمي تقطعي رأسها!

- لا تخف عليها؛ إنها تعرف كيف تعيش. إذا لم ينقطع بيضها ستبقى حية، أعدك.

وهي تكنس يراقبها متأملاً ملامسة قدميها للأرض شبه الرملية.

- إن كعبيك يا أمي نظيفان دائماً، ملساوان. ويضحك. إن كثيراً من النساء لهن كعوب مشققة بها جحور تأوي إليها الحشرات والزواحف!

تضحك له: إنك تمزح يا دودو!

يبيت الأب كثيرًا خارج البيت بحكم عمله. ينام المدللُ الصغير في حضن أمه. يهمس: 

- أنتِ زوجتي أنا!.

يهتز المضجع الخيزراني المجدول لضحكاتها. تنهره:

- أخرجتك من بين ساقي كدودة كبيرة فهل تصبح زوجاً لي؟

- أين يا أمي ثديك الذي كنت أمص منه اللبن وأنا صغير؟

- نم يا دودو! لقد صار كالخرقة البالية.

- لو أن هذا الزمان يعود!

- أنت تتحدث عن الزمان وعودته؟

- هل كانت لك أم أنت أيضا؟

تبرق عيناه في غبشة الحجرة. من فتحة النافذة المواربة يتدلى حليب القمر. ينسكب على طرف السرير من ضرع النافذة ويقع على جزء من الأرضية. إذا وضعت عينك مستقبلاً الشعاع الساقط سيوصلك إلى المنبع السماوي. حتماً سيتحرك النور ويغادر الحجرة عما قليل، أجل، كانت لي أم تحملك على كتفيها وتصعد بك الجبل وأنت بعد رضيع، تدللك ولا تطيق بكاءك، تطرد عنك الذباب والشياطين. أنت محصن بحبها وتعاويذها. بيديها الخضراوين لكثرة الوشم تقذفك إلى أعلى وتتلقاك.

- وأين هي الآن؟

- ماتت!

- كلهم ماتوا؟! لو كان الموت يموت!

- تريد الذهاب إلى الحمام؟ لماذا لم تفعل ذلك قبل الدخول إلى النوم؟ أنا أعرف أنه لا توجد لك حاجة حقيقية لفعل ذلك لكنك، دون أن تشعر تحاول إخضاعي لطلباتك المتكررة لتظهر وكأنك المتحكم فيَ والمحرك الوحيد لي.

وقبل أن تطاوعه سألته لماذا لا يذهب وحده.

- أخاف من الحمام المكشوف.

- في الصيف نتركه بلا سقف كي لا تضايقنا رائحته رغم أني أرشه بالفنيك والجاز لأدفن أبخرته في جوفه، ثم إن مازوكا لا تنقطع عن نزح البرميل كلما امتلأ.

دائماً قبل النوم تحكي له عن عراقة أسرته؛ فهم أهل التاريخ الشعبي ومنشدوه الحقيقيون. والده زايادان يحفظ الكثير من الملاحم الموروثة عن الجدود أيام كانت كلمة الحق تكتب بالسيوف فلا تنمحي. وتظل عراقة الزمن الأول قابعة في الأجفان المحدقة في الجبل. وأنت يا دودو أمل أبيك لمواصلة المسيرة، ومن يدري؟! فربما يكون لك شـأن عظيم. الموج المالح يكتسح الناس والأرض لكننا نحن أهل العذوبة فوق هذا الكوكب

- وابن عم أبي لماذا قطعوا لسانه ؟ !

- لا تتحدث في هذا وأنت على عتبات النوم كي لا تركبك الكوابيس!

- أخبريني؟

- ضبطوه متلبساً بانتقاد الحاكم.

وهنا تأكد لدودو أن الحاكم الكبير هذا رجل مختلف تماما. هو لا شك أطول من المنارة وأعرض، يحتك الغيم بكتفيه إذا نهض واقفا أو ذهب لقضاء حاجة. هل يعقل أن يفعل كما يفعل الناس؟ لا شك أن أقماع السكر الكبيرة ليست سوى فضلاته. سمع أمه تقول: كان له منزل رائع يتعاجب على خاصرة الجبل واستولوا عليه!

- كل هذا لأنه تكلم كلمات في الهواء؟!

- الكلمة سيف، الكلمة كنز. ابن عم والدك أودَت به كلمات، ووالدك يا دودو، والدك الآن يشارك في حراسة قصر الحاكم المحلي، لا ينام الليل بل مفتح العينين يسهر، لم تنفعه محفوظاته أم إنه هو الذي لم يحاول استغلال قدراته؟ الأمل معقود عليك يا دودو.هل نمت؟ إن عينيك ما تزالان تلمعان. شقيقاك: ميادو، ودنجو، لم يحفظا شيئاً عن أبيهما، فإذا لم تحاول أنت حفظ الملاحم الشعبية فإن موروث الأسرة سيضيع. ميادو يكسب الكثير من بيع السمك الذي يصطاده من بين القنطرتين، ومن يدري فربما يفكر في الزواج ثم يستقل هو وهي بمسكن جديد.

- إنه عبيط ولا ترضى به زوجاً أية فتاة!

- عيب!! أهذا يقوله أخ عن أخيه؟ 

كان لزايادان ابن عم يشغل منصباً يحسد عليه، وبحكم منصبه وقد علم أن الجو مكهرب، كان عليه ألا يتحدث فيما يجر عليه المتاعب. قرر أن يأخذ حذره فلم يعد يلوك السياسة في مكان العمل ولا في سهراته مع الأصدقاء، لكن إحساسه بالظلم العام كان يغلي داخله، ويبحث عن متنفس؛ ولذلك عندما كانت عشيقته تتسلل إليه في منزله الرائع على خاصرة الجبل - كان تمكن بسهولة من استخراج رخصة بناء هنا وكان الناس يحسدونه-  كان يحلو له وهو ينتشي معها أن يحدثها فينتقد الذين يكبسون على أنفاس الناس، فتتعجب: "ألا تنشغل بي عنه ذلك؟!" فيدغدغ ذراعها الطرية بأسنانه: دعيني أتنفس كي لا أنفجر!.أيمكن أن تكون هي الواشي؟. استطاعوا تسجيل صوته منتقداً النظام بجرأة غير مسبوقة. صدر عليه الحكم الأقسى في مثل هذه الحال وهو أن يقطع لسانه ويهدم منزله! لكنهم نفذوا الشطر الأول حرفياً، أما ما يخص المنزل فقد طردوه منه واستولوا هم عليه.  

عندما صدر الحكم بقطع لسان جيزيلدو كان زايادان على وشك أن يعمل حارساً ليلياً عند الحاكم المحلي. لم تستطع وشاية عابرة عن القرابة بينهما أن تفقده وظيفته. اقترح أحدهم عليه إبراء ذمته أمام الجهات المختصة، وكان يحب جيزيلدو، ولم يكن يتصور الغبن الذي سيحيق به جراء قطع لسانه. إن الحرمان من النطق فقدانُ ركن من أركان الحياة، وحتى إذا كان قال ما قال فإنه لم يفعل شيئاً!! أما هم فبقطع اللسان فعلوا الكثير.

مع ذلك وخشية الكيد له وقف زايادان أمام الحاكم المحلي وأنشد محفوظاته التاريخية التي تجعل الجسم ينمل من التأثر، اختار منها ما يندد بالخيانة والخائنين، - ويشهد اللولو أن ابن عمه لم يكن منهم- وأعلن ولاءه للحاكم  وللراية المرفرفة فوق الجميع ولقرني الثور فوق كل منزل وللثور الكبير قبل قرنيه. ويومها عاد زايادان إلى بيته مرتجفاً، ولم تسكت مارانا حتى أخبرها بما قال في حق ابن عمه  فهدأت من روعه وقالت له وهي تضع خدها على يده المرتعدة: مهما تفعل فلن تعيد إليه لسانه؛ ثم إنك لم تذكره بالاسم وأنت تتبرأ. إنك تجاريهم لتحافظ على سلامة لسانك الذي في فمك، إنك لم تخطئ أبداً. لكنه لم ينقطع عن النحيب، إن من واجبك المحافظة على وظيفتك. ظل يجفف دموعه بكم جلبابه وعندما سمع طرقاً على الباب دق قلبه. أخذوه في عربة جيب. وقع قلب زوجته في كعبها. طمأنوها أن الأمر بسيط وفي صالحه. أشار إليها ألا تقلق!

وفي مشفى السجن تمت المواجهة بينه وبين ابن عمه مقطوع اللسان. الوجه السمين شاحب، والفم مفغور كقبر صغير. بشاعة العقاب تتلوى في المكان كثعبان لدغ طفلاً في إليته. كاد يهوي على يد ابن عمه فيقبلها لكنه استوعب خطورة الموقف. سمعهم يقولون للبائس: ها هو ابن عمك الذي من لحمك ودمك أتى ليقول لك إن تصرفك كان مشيناً. هل التف سلك كهربي حول ساقي زايادان فارتعد إلى حد السقوط ؟! لم يستطع إلا أن يتمتم: هو ذاك، هو ذا!

ولهذا استمر في العمل كحارس ليلي موثوق به!!

كانت الرياح هابطة من الجبل، منفتحة، فواحة، ضحى الغد عندما عاد ميادو – الذي يقول عنه دودو إنه عبيط -  ومعه سبتُ الخوص تبينت الأم سمكة كبيرة ظهرُها أخضر، مغطاة بأعواد الصفصاف، رأسها ظاهر من بين الأعواد ينفتح فمها وينغلق.

- خذي يا أمي، اطبخيها!.

وبإشاراته فهت أنه ربح اليوم ربحاً وفيراً وأنه تذكرها وهو يطرح الشبكة آخر طرحة ونذر ما بداخلها لها، وكما ترى، باع كمية واحتجز الباقي. وتنهد، وبذراعيه اللتين يحركهما في ثقة أكد لها أن باستطاعته أن يبني بيتاً مستقلاً له.

- ما أسعدني!

رغم اعوجاج غير قديم في كلماته فإن أمه غالباً ما تفهم ما يريد أن يقول. وحين يستعصى عليها إدراك همهماته، وتأخذها الحيرة أمام تعبيراته المبالغ فيها ليفهمها مقاصده، يتهيأ لها أنها سمعت بكل وضوح، أخيراً، كلمات في صلب الموضوع، حاسمة، فتسلبها الدهشة ثقتها في سمعها، وتؤكد لروحها أنه فعلاً قال ما قال، لكنها لو سألته أأنت قلت كذا وكذا؟ لأنكرَ وقعقعَ بضحكات هازئة، بل وربما أمسك ذراعها ليلويها!.

لم يكن هكذا في طفولته ولا صباه ولا بدايات شبابه، لكنهم منذ أعوام وجدوه ملقى قرب القنطرة الأولى غائباً عن الوعي، وإذ تعرف عليه أحدهم استدعى أباه ليحمله إلى البيت. كشفوا عنه ثيابه فهالهم الكدمات الزرق في جسمه، وظل يشكو من آلام رأسه بعد أن أفاق، لكنه بعد أن تعافى بدنه ظل لسانه على الحال السيئ. حدث الانقلاب الصوتي والحركي لميادو المسكين فصارت أصابعه تتشنج وهو يمسك الأشياء ويلويها، بينما عيناه الجميلتان كعيني أمه تتحركان في اتجاهات مختلفة بسرعة وعدم تركيز، أما ابتسامته فلم تفارق شفتيه بل وافترشت وجهه، تلك البسمة ربما كانت وراء تعاطف الناس معه، حتى الأفذاذ رقت قلوبهم له وأدخلوه المنطقة المحرمة ليصطاد. هذا ما تعتقده أمه. 

وكانت السمكة ما تزال تنتفض ومارانا  تقطع رأسها وتخرج أحشاءها. ظل ذيلها يحتج وخيشومها يختلج وعينها تدور كأنما تلهث خلف مكامن الحياة الضائعة. تعرف أن ابنها يقتني أموالاً تجهل أين يدفنها. يمكنه متى أراد أن يستقل تاركاً المطرح لأخويه، مع هذا تطلعت نحوه بوجهها الجميل الأسمر ورسمت بالكلمات ابتسامتها الطويلة:

- منزلك بقلبي يا ميادو، كم من السنين لم نفرح خلالها؟ انصرفي يا مشمشة، منذ كم من السنين لم يطرق الفرح بابنا؟ انصرفي!، منذ احتفلنا برؤية وجه دودو وقد ملأه النهار أول مرة. يا مشمشة انصرفي. ومنذ ذلك اليوم لم تهز نسائم الأفراح أغصان الروح. روحي لحالك يا مشمشة!. أكلتِ رأس السمكة وأحشاءها فماذا تريدين بعد؟ يا ولدي علمنا أنك ستبني البيت الذي ستلهو فيه مع عروسك، إياك أن تؤخر الزواج إلى أن تشيخ، سنعمل معك على إقامته، سأحمل الأحجار على رأسي وأشارك، لكن المهم هل سيسمحون لك بالبناء؟! إنهم يهدمون البيوت على رؤوس بانيها. يجيبها بابتسامة ويطمئنها. تسأله: أين أخوك دنجو؟ يجيبها بإشارتين وتمتمات: لابد أنه على الجبل، إنه يحب العزلة!

وكما توقع، يحلو لدنجو أن يخلو إلى نفسه ويصعد الجبل، يجلس في بقعة  والده يكثر الجلوس فيها. ربما احتضنت هذه البقعة كل المتأملين من الأسلاف الراحلين. في السنة النهائية ولكن أين الوظائف أين؟ يجيل بصره وراء كلام يملأ تكوينه يشبه فراشات سابحة كألوان انفصلت عن الملونات وهامت في الفضاء البعيد والقريب.أيها الجبل المتعالي، على أكتافك تقبع الأشجار سامقة حمراء الصمغ يسيل من شقوق جذوعها وأفرعها السائل الكثيف، شديد اللصق، محتفظاً إلى الأبد بدموية لونه، قامات من الكبرياء غير قابلة للانحناء. من أين لجذورك بسلسبيل الحياة؟ تتوغلين، لاشك، في شقوق الجبل، وتنحشرين بين جلاميده غائصة فيما بين رمل وحصى شاخصةً إلى العميق السحيق حيث الحنان الرطب الموغل في الجمال. يا قامات فارعة، تسكنك حياة بارعة، وأنت هكذا في شموخك النبيل لا تنتظرين هبةً من أحد، لك قلبي يهتف ويشرئب حناني. ليتني أصبح طيراً يحلق ساعياً إلى عليائك. ليتني أصل إليك وأصعد حتى أرى السحاب أرضاً فوق أرض، أرضاً من القطن الأبيض تتحرك تحتي وأنا أرقب الأفق ال.. انتفض فجأة إذ رآها. غمغم: باتولاتي! إنها هي!.آه يا فتاتي! عندما رأيتك منذ أيام تنقلين خطاك تحت المطر، وفوق رأسك مظلتك الصغيرة المكسوة بالزهور كأنها شجيرة ورد عطشى لا تتلفها الأمطار مهما جادتها، بل تزداد إشراقاً ويقظة. إنها مظلة باتولاتي تراقب من تحتها المارة المحتمين بالأسوار والجدران وابتسامتها متعلقة بالجانب الأيمن من فمها. وإذ لمحتني ساعتها انفرجت شفتاها وغمغمت كيمامة:

- تعالَ إلى جواري لتحتمي من البلل!

- بل أود خلع قميصي ومخاطبة الغيم ليمطرني وحدي.

ولأن المظلة صغيرة كان على دنجو ألا يتحرج من الالتصاق بالفتاة. أما الآن فهي تمر أمامه والمظلة هذه المرة تحميها من الشمس الواهنة. ناداها فثبتت. ألقت طلتها عليه فغمر وجهه الفرح. جرى نحوها، أمسك يدها، لم يسألها أين كانت ولا إلى أين هي ذاهبة.

- تعالي لتري مجلسي المفضل، إنه هناك عند سرة الجبل حيث أناجي الفراشات وأغازل الألوان والنسمات، وأرقب القمر وهو يصعد، وكلما ارتفع ازداد بياضاً وتألقاً. همت أن تخبره أين كانت فأسكتها. لا يهمني أين كنت. إذا لمح المرء غزالة هائمة بين الأحراش، ورأى عينيها حيث يبني الجمال أعشاشه، أيعقل أن يسألها أين كانت؟ رفع يديها إلى شفتيه. كان ساعدها مطوقاً بغصن طري. ترى أي العطور ستفوح به الزهور النابتة في ساعديك يا زرافتي!

لمس أصابعها بخده.أحلى من الموز هذه الأنامل. قاطعته:

- ولكنك يجب أن تعرف أنني كنت مع ....

- لا تنطقي اسمه أمامي، ولا تعكري صفو اللحظة الحاضرة، إنه ليس جاداً معك، ولا يهمه أمرك في شيء.

- أو تعرف من أعني؟!

- طبعاً أعرف.. إنه ابن الحاكم المحلي.

مالت برأسها على صدره وتشاغلت بمظلتها فجعلت تديرها بمهارة وسرعة حتى تختلط ألوان الزهور. تناول يدها مرة أخرى وباسها. هو لن يعطيك الحب بل سيأخذه منك. أما أنا فالحب عندي عطاء. نبعي متدفق، مائي دافق، خليجي آمن، تياري غير مهلك. تمهلي ولا تتسرعي بإصدار الحكم .هل عرض عليك الزواج؟ نعم؟ مدى الحياة؟ لا. أرأيت يا باتولاتي؟ إنه يريدك زوجة له أشهراً معدودات. مدة الأجازة فقط. أرأيت؟ يريد أن يأخذ منك الحب ويتركك تلهثين وراء الذكريات. سيعطيك بعض المال وتغادرينه آسفة مكسورة. ليس عنده الذي تأملين.أما أنا...

ولكنه يعرفها، هي تجري وراء البرق. تعرف أنه سيتخرج ولن يجد عملاً أما غريمه فالمال والجاه.

- لم أعد أطيق الأكواخ يا دنجو، أترضى لي أن أخرج من كوخ لأدلف إلى كوخ؟

- ولكن.. على فرض أنك قبلت الزواج منه لمدة ثلاثة أشهر كما يريد، وعشت في فيلا تحيطها الأشجار، وتطفو فوق موج من الزهور، ستنقضي الأيام سريعاً وتعودين إلى أمك مكسورة الجناح، معك شيء من المال وكثير من المتاعب، تنتظرين زوجاً جديداً أظنه لن يأتي!

- ولم لا يأتي؟!

- سيخاف من سلطة ابن وكيل الحاكم. هل تظنين أنه سيقبل أن يحتل غيره خلية العسل التي كانت له؟ سيكون سيف الانتقام مشهوراً أمام عيني كل من يفكر في الارتباط بك!

- انصحني! 

- سيشيد أخي منزلاً مستقلاً له، وسيخلو مكانه لي، وربما أتعلم منه كيف أحصل على المال مثله.

- أنت طيب القلب.

- إذن فاسمحي لي بتقبيل عنقك كما تلثم الفراشة الغصن الطري الجميل.

- أنت خيالي تحب الألوان والفراشات، وهذا يقلقني.

تحركت المظلة وهي تحتها تصحبها الإشراقات. ماذا سأفعل لكي أكون واقعياً؟ هل يمكن أن يتزوج أخي ويترك لي القارب فأصطاد عليه ويشتري هو قارباً جديداً؟ إن أخي يصطاد في المنطقة المحرمة بين القنطرتين، كثيرة الحراس، يشرف عليها الأغراب من بعيد. ماذا يفعل بالضبط؟ هل أخي يدفع لأحدهم فيغض الطرف عنه أم إنه عين لهم؟ وأخشى إن فعلت مثله أن يطلقوا الرصاص على قدمي!

وعندما ذهب لمقابلة أخيه كان هذا مشغولاً تماماً في ملكوته الخاص أو ربما وهذا احتمال بسيط، يتدبر أمر بناء البيت. نقل الأحجار على الحمير والاستعانة ببعض البنائين من المدينة. وبالفعل عندما وصل الشابان إلى المكان كانت هناك كومة هائلة من الحجارة البيضاء في انتظار البدء في الإنشاء. المكان جميل وقريب من نقطة حراسة وهذه ميزة كبيرة. فهم أن أخاه يريد أن يقول: سأصادق الأفذاذ الحارسين، وسأطمئن على بيتي. تشجع وقال لأخيه:

- علمني كيف أصطاد في المنطقة المحرمة يا أخي!

- هذا خطر كبير.

- ولكنك تفعل.

كأنما يريد أخوه أن يعزو الأمر إلى العلاقات الوثيقة وتبادل المنافع.

- هل النقود هي كلمة السر؟!

بالتأكيد ألمح إلى أن النقود عنصر هام ولكنها ليست كل شيء، وكأنما قال له أيضاً: سأعلمك كيف تكسب ثقتهم، وكيف تعطيهم دون أن تسبب لهم أي حرج: ستدخل من البوابة واثق الخطى. عندما تقع تحت بصرهم أخرج النقود من جيبك. ضعها على الأرض. سيرونها.غطها بقطعة الحجر. سيرونه. لوح بيدك ثلاثاً ثم انزل لتصطاد فهمت؟!

ربما يكون دنجو قد فهم، بل إنه فهم بالفعل، أو قل أراد أن يكون قد فهم .كرر الأقوال على سمع أخيه فأمن عليه. سأله:

- هل آخذ قارباً معي؟

أشار إلى أن قواربهم هناك مركونة يمكن استخدام أحدها.

- عظيم، كم النقود؟

بأصابع يده أخبره أن المطلوب خمسة.

- أليس هذا مبلغاً كبيراً؟

أشار أنه معقول لأنه سيربح الكثير.

- ومتى أذهب؟

- قبل الغروب.

عصر اليوم التالي، وبعد أن دبر دنجو المبلغ المتفق عليه انحنت الشمس وبدأت تهبط. القنطرة الأولى ظهرت. أريني وجهك يا منطقة الخطر! قلبه يدق كالطبل وهو يقترب من الأرض الممنوعة. الشبك في سبت كبير معه. حاول أن يبتسم فربما محت ابتسامته خوفه. اجتاز البوابة ثم أخرج النقود من جيبه.عدها ليتأكد من عددها.خمسة. مبلغ يرهقه. وضعها على الأرض متعمداً أن يراه الحراس وهو يفعل ذلك .غطاها بقطعة الحجر ثم لوح بيده ثلاث مرات وتقدم نازلاً إلى النهر. حاول أن يستقل قارباً.. و.. كأن الماء مليء بالسمك المغري. هذا مؤكد .سأصير غنياً... و...

لمح الكلاب السوداء. لمحها بعد أن لفحه لهاثها المطارد له  ثم دوى نباحها ذو الأصداء. كانت في سلاسلها الحديدية لكنه خشيها. توقف في دوامة أدارته بقوة. لمح حارساً فأمل أملاً. أشار الحارس بأصبعه إلى البوابة أن عد من حيث أتيت. لهجته قاطعة لا تعرف الجدال أو المراجعة. لماذا؟ ألم يرني وأنا أضع النقود؟ لقد رآني! رآني لاشك. أقسم أنه رآني!

همّ بالعودة لأن النباح علا. أدار ظهره ومشى يتعثر والسبت مليء بالشبك، والشبك يشتاق إلى السمك. مر على قطعة الحجر ورفصها بقدمه. النقود لم تعد مكانها. أخذها الحارس فلماذا يطارده؟ حاول أن يتكلم لكنه لم يجد صوته. اتجه إلى البوابة وقدماه لا تجيدان استلام الأرض.النباح يطارده.الكلاب تعلن انتصارها عليه.

كان ما يزال مضطرباً عندما رآه أخوه الذي هدأ من روعه وأعلن بابتسامته البلهاء: ليس لك حظ!

- هل من تفسير لما حدث؟!

تعبيرات الوجه ممسوحة لكن دنجو فهم أن أحد قادتهم الكبار كان على وصول!

 

الفصل الثاني: بين النهر والجبل
النهر هناك والجبل هنا وبينما دنجو يحب باتولاتي. هو في طريقه إلى النهر لأنها ستلقاه عند انحناءة الموردة. يقول زملاؤه في الدراسة إنه يحب بعمق ويكره بعمق ويموت فجأة!. الأولى هي المؤكدة.أما الثانية فلا يدري ما إذا كانت صحيحة، بينما الثالثة في المستور المتخفي فمن أعلمهم بها؟ أتى ماشياً رغم طول المسافة ليتجشم في حبها الصعاب. والحبيب الصادق من يكتب اسمه على صدر محبوبته. فمتى يزيح القميص عن الصفحة المرمرية المضيئة ويبلل أصبعه بريقه ويكتب على اليسار ( دنـ ) وعلى اليمين ( جُو )؟ فإذا أعطته شفتيها فإنها إذن توءم الروح ونصفه الذي يبحث عنه. هذا هو الاقتران الحقيقي، أما الارتباط بأجل، وهو الساري هذه الأيام، والذي لا كتابة للأسماء فيه على الصدور فهو شيء يزري بأصحابه.

ملاءة بلون الأرض ذات نقوش بلون العشب، قامت بفردها وتثبيت أطرافها الأربعة كي لا تثنيها الريح ثم جلست: لعلك أحضرت الموقد؟

- أجل، وبراد الشاي وكوبين نظيفين.

قام بجلب ساتر لحماية النار من الريح. تخير صخرة ضخمة ربما لاستعراض قوته بحملها، وضع الموقد بين الريح والصخرة.تشممت وحدست: سمك مدخن؟

- أتحبينه؟

شهقت: هات! سأشويه أنا. ثم تذكرت أن يديها ستكونان في حاجة إلى صابونة جديدة، فابتسم كأنه قرأ أفكارها وأخرجها من جيبه فشهقت: لا يفوتك شيء!

يتفتق جلد السمكة النحاسي عن لحم أحمر يستجيب للحرارة وينقط الدسم على النار فتزداد اشتعالاً.البنت تحرك جسمها وتتلوى وهي تحرك السمكة فأيهما على لسان اللهب. أشتاق أن أضمك يا غزالتي وأتشرب طراوتك لأرطب جسدي الساخن بليونتك الفاتنة.

- ألا يوجد سمك في النهر؟

- الأسماك هنا قليلة لكنها هناك تتراقص بين القنطرتين. لهم وليس لنا.

- حتى السمك في الماء من نصيبهم؟

- ومن أراد منا أكل سمكة غير ملوثة  لن يجد. عليه إذن بالمستورد المجمد.

- إن أخاك يأتيكم بالطازج الحي.

- لا يفعل ذلك إلا نادراً. الناس ينتظرونه وهو خارج من البوابة ويخطفون ما معه خطفاً.

طوحت رأسها لتبعد عن عينها قصة شعرها المتمردة: لعله أصبح ثرياً بسبب ذلك.

- سيشيد بيتا حديثا.

بين لقمة وأخرى يكون قد قشر لها أصبع موز وقربه من فمها وغرسه.

- لولا الموز لكرهت الدنيا. أجمل شيء في العالم أصابعه الصفراء!

- تصوري يا باتولاتي، رغم أننا في العراء إلا أنني أحس كأن الخيمة الزرقاء تسترنا وحدنا. تنازعني النفس أن أجذبك إلى صدري وأنام.

- صح النوم يا دنجو!. دائماً تحلم بالألوان والفراشات. تكاد تفلق رأسَك صخرة الواقع. ألم تعدني أن تفعل مثلما يفعل أخوك؟

- وعدتك.

- ومتى تقوم بالتنفيذ؟

- لقد حاولت بالفعل!

أعطته سمعها ورشقته بعينين تقتلان!. لو صارحها لتوقف الموز في حلقها. هل فشلت المحاولة؟ قرأت الإجابة على وجهه فشجعته: كل المحاولات الأولى للفشل ثم يبدأ البناء. أبعدَ أول محاولة تستسلم؟

رأته يقشر أصبعاً آخر فنهرته: كفى! ..وغير بعيد عنهما استلقى رجلٌ على ظهره، رافعًا ساقيه فوق كرسي، يلعبُ طفلان حوله، بينما أمسك جريدة يومية جعلها بين وجهه والشمس. استطاع أن يقرأ العنوان الأحمر العريض: الوعود الصادقة. قال لها: دائما نسمع عن وعود لا تعود علينا بشيء. وضعت يدها على فمه ليسكت أو يغير الموضوع. تمتم: لو كان عندي مالٌ لحققت رغبة أبي والتحقت بمعهد الحراس الخصوصيين، مدته سنة واحدة ولكن مستقبله مضمون.

- أنواع هذه المعاهد متعددة، في إمكانك اجتياز اختبارات أي منها.

- ماعدا الفحص الأخير، لا يجتازه إلا المرضيُّ عنهم.

- وأنت المغضوب عليك؟

- لا، لكني كالراقص على السلم، في منزلة بين المنزلتين.

- لا تكن متشائماً هكذا. قبل اليوم الموعود بعشر ليال تعال اغتسل في النهر قبل كل فجر. ارقب الشمس وهي تغسل شعرها في اللولو وحدثها بما تريد.

- لو عندي مال لدفعته ودخلت وأنا أضع ساقاً على ساق!

- افعل وصمم! ودع عنك الوهم القاتل!

 قميصها المفتوح من أعلى يشي بالأخدود الساحر. تمنى لو كتب اسمه وانتهى. لو التحقتُ بهذا المعهد سأتخرج خلال عام واحد وتصبحين لي.

-عدني أن تحاول وأنصحك ألا تصدق كل ما يقال. أخوك ميادو مثلاً، أتدري ما يقال عنه؟

هز رأسه مستفهماً وبدا عليه الضيق. سألته:

- هل أصنع لنا الشاي أم تفعل أنت؟

- ماذا يقولون عن أخي؟

 حاولت تغيير الموضوع لكنه تبدى كترباس. 

- ألا تعرف؟ يقولون إنه... وبحثت في قاموسها عن كلمة غير جارحة فلم تجد. ولذلك يتركونه يجتاز بوابتهم. سأصنع لك الشاي وأنصرف.

- من يتقول عنه السوء؟.

 حاول معها لكنه لم يصل منها إلى شيء. أحقاً يقال عنه ما يشين؟

شرب الشاي وهو نار. تحب هي ارتشافه بارداً. أغمض الرجل النائم على ظهره عينيه فسقط الجرنال إلى جواره. التقطته ابنته. راحت تجري وتتقافز. ناداها وطلب منها الجريدة ليقرأ العناوين.هو لا يشتري الجرائد. علم أن ولي النعم سيلقي بيانا يسر السامعين. هذه صورة باسمة له وهو في الستين. عمرها الآن يقارب الأربعين. ويبتسم. وصورة أخرى أصغر حجما لطارندو، ولم يتساءل لا هو ولا غيره عن العلاقة بين صاحبي الصورتين. من هذا الشاب الذي يخشاه حتى حكام الأقاليم السبعة؟ لم يبلغ الخامسة والثلاثين بعد.  دلى قدميه في النهر وهو جالس على الحافة. هز رأسه لها بإيماءة فهمت مغزاها ولكنها لم تفعل مثله. أخذ يضرب قدماً بالأخرى لتقلده. يريد منها عهداً مبدئيًّا أمام اللولو لكنها لم تفعل.هيا يا باتولاتي عاهديه على الحب والإخلاص حتى تزدهر العزيمة في غصونه. ولما لم تستجب ظل يرجوها حتى أنزلت قدماً..ثم ...قامت بإنزال الأخرى. رقص ماء النهر وامتلأت صفحته ببجعات بيضاء وإوزات. الأجنحة تعزف مع الماء موسيقى السعادة المنشودة. ضرب قدماً بقدم لتفعل مثله لكنها تمنعت. ظل يتوسل بالعينين والملامح والإيماءات وأيضاً بالبسمة التي أشحبها الترقب حتى رآها تكاد تفعل فانفجر:

- اشهد على حبنا يا نبعنا المقدس!

لكنها في لمح البصر أخرجت قدميها دون أن تصفق بهما مثله. زمجر: لم تخبريني من يروِّج الأكاذيب. كان وجهه منقبضاً وعيناه حمراوين. قالت وهي تهم بالرحيل وأصبعها تشير إلى الجريدة:

- فلننتظر الوعود الصادقة!.

لم يرها أسبوعاً كاملاً ثم فجأة لمحها فانتفض قلبه. كانت هي وغريمه! هي وموسكاف ابن الحاكم المحلي. نودي أن  يا دنجو، يا ابن الرجل الطيب!

هل يذكره بعمل أبيه؟ سألته الفتاة متعجبة:

- أنتما صديقان؟

لا يستطيع دنجو أن يتهمها بالخيانة فهي لم تعاهده في حضرة النهر. لقد أخرجت قدميها من الماء قبل اللحظة الحاسمة.

- بل زميلا دراسة.هيا اركبي خلفي على الحصان!. وضحك عالياً. ولماذا خلفي؟ بل أمامي.

- سأركب خلفك.

- بل أمامي لأحافظ عليك من السقوط.

- بل خلفك وأتشبث بك.

- كما تشائين. عاونها يا دنجو! عاونها! أجل هكذا..هيا ضميني إليك. لا تخافي! لن تسقطي ما دمت متشبثة بي.

الملابس التي يرتديها، والحذاء العجيب الذي في قدميه، والحصان الذي يركبه! يا لها من عظمة تغري الحسناوات! ماذا لديك أنت؟ انطلق بهما الجواد، وعلى صخرة جلستَ أنت تبرق عيناك، تتابعهما يبتعدان وهي مشدودة إليه بقوتها أو برغبتها أو بنشوتها أو بكل عذابك!!

كالسهم اختفى الحصان في جسد الغابة، وبقبضتك تضرب فخذك بحنق. تقرش بأسنانك. تصفع الصخرة براحتك حتى تكاد تدميها. الوقت يطول. الصدر يضيق. الصبر ينفد.

بعد زمن لا يمكن تحديده عادا. الفتاة أمام الفتى وليست خلفه. توقف الحصان لاهثاً إلى جوار الصخرة. جمال الكائن الضخم الرشيق، الذي لا يفهم شيئاً، متفوق. عينه الحوراء الواسعة لا تشي بأي شيء. ساعدها يا دنجو.

قام يعاونها على النزول. صدرها يعلو ويهبط. خدها يبكُّ الدم. جمالها لا يقاوم. لكن الخذلان يملأ الهواء. ثمة شامة سوداء على طرف الحاجب الأيمن كعصفور فوق غصن كأنما يلحظها للمرة الأولى. غردي أيها الشامة فقلبي يصغى. غردي أو فنوحي فأحياناً يكون في النواح تسرية. وإذا أمكنك فاحكي لدنجو: هل قبَّلها واعتلاها؟ احكي أو فاصمتي! سيكون الدور عليه الآن. ترجل موسكاف وقفز هو دون الاستعانة بالصخرة. ومن على صهوة الجواد رمقها وسألها:

- ستركبين أمامي أم خلفي؟

صوبت عينيها تجاه ابن الحاكم المحلي وهي ساكتة. صاح وابتسامته لا تغيب: لا. أتركبان وتتركاني وحدي على الصخرة أنتظر؟! أنا لا أحب الانتظار. اركب أنت يا دنجو وانطلق بالحصان. أرني فروسيتك ودعها تؤنس وحدتي.

نظر إلى الأرض خذلانَ وقفز نازلاً. تحولت ابتسامة غريمة إلى السخرية.

- فلنعد!

قالتها وأدارت ظهرها. صوته يلاحقها:

- احذري الشراك المنصوبة في دروب الجبل!

انطلق الحصان بصاحبه يسابق الريح فناداه دنجو بأعلى صوته فاستدار، وبعد لحظة كان أمامه. سأله إن كان سيكمل دراسته أم إن والده سيعينه في وظيفة مرموقة!

- والدي يرشح لي الالتحاق بمعهد الأفذاذ الفائقين.

- لم أسمع بهذا المعهد من قبل.

- غير ممكن! إنك متخلف!

- ألا يوجد معهد للأفذاذ الشعبيين فيلتحق به أمثالي؟

- سل والدك فربما كان باستطاعته فعل شيء من أجلك.

ماذا يعني هذا المغرور؟ هل يسخر؟ ولماذا السخرية؟ أما كان باستطاعته معاونتك إن أراد؟ ألا يعرف من هو أبوك؟ وما هي عائلتك العريقة؟

- نحن لسنا أغنياء لكننا عريقون. وأنت ماذا تريد أن تكون؟

- لقد كان المخرج فامنكوده في زيارة لأبي، ورآني، وقال إنه يرشحني لدور في فيلمه الجديد.

- أهذا ممكن؟

- والدي اعترض أما أنا فأبديت استعدادي للقبول. من يدري فقد آخذ الممثلة راوندا في أحضاني وأفعل معها مثل أفلام محطة الشهوة الزرقاء.

- ما عاد أحد يشاهد هذه المحطة منذ ألغيَت الصحون. أمازلت تشاهدها؟

- نحن لا نخضع للقوانين يا دنجو.

- أجل أجل، اللولو لا يصعد الجبل. أعرف ذلك، ولكن مادام كل منا يفتح قلبه للآخر اسمح لي أن أسألك: هل عرضت على باتولاتي الزواج محدود المدة؟

انطلقت ضحكاته كطيور بيضاء كبيرة: بل هي التي سألتني ذلك! أجل هي. وكررت سؤالها اليوم وأنا معها في الغابة. كنت حريصاً على تقبيل ما بين نهديها فقالت لي: تزوجني ولو لمدة ثلاثة أشهر! قلت لها: شهر واحد. قالت: ذلك لا يسمح به القانون. قلت: نحن القانون. أشاحت بوجهها عني ومنعتني فأمسكت بها وجعلت أتغلغل بيدي بقوة بين ثيابها حتى أمسكت شعر عانتها وجذبته فدوت صرخاتها تستغيث.ألم تسمع؟! وحين نهضت مستاءة أركبتها أمامي وعدنا كما رأيتنا.

ما أشد بؤسك يا دنجو! عندما شاهدتها أمام غريمك كان وجهها يبك الدم. رأيت الشامة على طرف الحاجب كعصفور فوق غصن،  وموسكاف أصابعه بين اللحم والشعار تندس حتى الوصول إلى المكان الخفي يجذب وهي تصيح. يجذب وهي تصيح. غردي أيتها الشامة أو فنوحي! اصفعني على وجهي. اصفع. اصفع. اصفعني حتى تفصل رأسي عن عنقي. اغرس مديتك في خاصرتي! اجعل دمي يصل إلى اللولو!

 

الفصل الثالث: نوبة حراسة أخيرة
ثلاثة أعوام قضاها زايادان في دائرة الحاكم المحلي. كان من بين الذين يتولون حراسة القصر الشرقي المطل على الخليج. لم يكن من حاملي البنادق فهذا شأن الأفذاذ العاديين أما هو فأقل من ذلك. عصا غليظة لها رأس أسد بيده يقبض عليها، بينما يتدلى من عنقه حبل رفيع به صفارة يطلقها عند اللزوم فيسمعها حراس الماء فيهرعون على اللنشات المجهزة للدفاع. وكان حراس الليل أمثاله يتعاركون عليه. كل يريده في نوبته فهو الذي يجعل الليل جميلاً رائقاً. إنه كالبقع اللامعة التي تفرش القبة السوداء في غياب القمر. ما أمتع السير التي يحفظها والحكايا التي يرويها. والمعروف أنه  طويل اللسان. هو الوحيد الذي يجرؤ على انتقاد الصفوة الذين يضعون فوق رأسهم ريشة رغم علمه أن أذناً قد تكون مدسوسة عليه. الجميع يحبونه، حتى الآذان المنصتة يضحك أصحابها لسماع أقواله اللاذعة كأنما لا يخشى أن يقطعوا لسانه! .. يخرب بيتك! هل ورث أحدُ أبنائك مثل هذا؟

- ابني الكبير صياد، والثاني يحب العزلة ويعشق الجبل لكنه لم يحفظ شيئا ذا قيمة، أما دودو الصغير فهو الأمل.

- من أدراك؟ ربما يصبح الأوسط شاعرًا حالمًا يؤلف سيرًا يبدعها قلمه.

- تاريخنا الغني لا يحوجنا إلى تأليف!

يتفتق ثوب الليل عن موسكاف على ظهر حصانه الأبيض محاطًا بثلاثة من الأفذاذ. تلتقط أذناه صوتًا رخيمًا ونغماتٍ تتماوج مع النسمات ربما صدرت عن أرضنا وانعكست على النجوم قبل أن تستعيدها الأرض مرة أخرى وقد ازدحمت بالجمال..

- ما أعجب هذا!

أشار إلى من معه لكي لا تصدر عنهم نأمة، وتمنى لو لم تفشِ السنابك مقدمه، وتقدم. انطبق الذعرُ على الحراس وقد فاجأهم الجواد الأبيض وفوق ظهره من؟ ابن الحاكم المحلي شخصيًّا محاطًا بثلاثة من الأفذاذ الحقيقيين، مسدساتهم تتدلى من أحزمتهم. جمدت اليد المعروقة عن تحريك الوتر الجارح. انهمرت آخر النغمات قبل أن تجف السحابة الباكية: عفواً وصفحاً أيها السيد المبجل!.عفواً وصفحاً يا حضرات السادة!. صاح أحدهم ناهراً :

- تحرسون أم تلهون وتلعبون؟

أشار إليه موسكاف فصمت. كان القمر بدراً واندفقت من ذؤابة الجبل هبة ريح باردة تنعش الروح كأنها الحرية. أحس الجميع بأجسادهم خفيفة كأنما تهم للطيران. تطلع زايادان إلى وجه الشاب الذي ترجل في خفة ووقف ممشوقاً بينما ينسكبُ الحليب السماوي فوق جبينه. أقسم أحدُ الحراس لنفسه أنه لمح ابتسامة الشاب وأيقن أنها ليست دليل سخرية. لهذا صاح: لن يغضب لن يغضب!!

- أجل. لن أغضب. روِّحوا عن أنفسكم ساعة! وأنت أيها المغني تناول معزفك وأطلق لإبداعاتك العنان.هيا! ولكن عرفني بنفسك أولاً.

- خادمك زايادان.

- أسمع عنك. أنت إذن والد دنجو.

- أو تعرف ابني؟

- إنه زميل دراسة. هل عندكم بن؟

- سأصنعها لكم بنفسي. قهوة زايادان لا يعلى عليها.

وما هي إلا دقائق حتى فاحت رائحتها واستعذبت نكهتها.

- أنت رائع يا أبا دنجو  

- خادمك أيها السيد الشاب .

وتناول المعزف ثم بهدوء طعن الفضاء المصفى، ومن فمه البسام أخذ يطلق حمامَ النشيد:

في منامي، جاءتني القرَدة طويلة الأنف، في منامي،

بلساننا الناصع رجتني: احمنا ولا تخذلنا،

قل لبني جنسك ألا يفتكوا بنا، ألا ينتهكوا حرمة غابتنا،

راقبنا، راقب قفزاتنا التي لا تخطئ، وستنسى الهموم.

أولا تعرف علاقتنا بالشمس؟

ألم ترنا ونحن فوق الصخور المقدسة نلهو؟

راقبنا واترك أحزانك جانباً.

ثم يضع معزفه ويتشقلب مقلداً حركات القرود طويلة الأنف، والسعادين، بينما يضحك موسكاف بتلقائية ضحكات كأنها أوزات تسبح في الليل المقمر. الأفذاذ جامدون من حوله ومازال زايادان يريهم عجين الفلاحة ونوم الأعزب. ثم ... دق الأرض بقدميه. اعتدل واقفاً وحرك يديه في الفضاء. جاور بين كفيه. أكمل:

أيها الإنسان

قارن بين كفك وكف أخيك السعدان

كم هما ... متشابهان!

إياك أن تنسى هذا

وإياك أن تتناسَ شجرة الــ ....

لا أحد يدري هل تعمد أن يجهش أم إن الموقف كان أقوى منه خصوصاً بعد الجهد الذي بذله في القفز والتنطيط والتمرغ على الأرض ثم دفاعه البليغ عن القردة طويلة الأنف والسعادين وظلم البشر لهم. احترقت أكف زملائه بالتصفيق، حتى الأفذاذ صفقوا إذ رأوا ابن الحاكم المحلي يصفق فعلوا مثله. تقدم موسكاف من زايادان وبصم على خده قبلةً صادقة.

جلس ليلتقط أنفاسَه. استراح لحظاتٍ قلائلَ لكنَّ زملاءه استحلفوه أن يُسمع السيد موسكاف شكوى الثعبان!!

- وهل للثعبان شكوى هو الأخر؟

- أجل يا سيدي. هيا يا زايادان. أسمِع السيد المبجل شكوى الثعبان.

كان ما يزال القمر يسكب حليبه على ملامح الشاب الذي استحث الرجل على الإنشاد فاعتدل وأخذ يتلو على نغمات صفير أطلقه أحد زملائه. يتلو ويتلو ثم يتقرفص حول عصاه الغليظة وبعينه أشار إلى صاحب الصفير فأخذ المعزف ومهد له بتجريح السكون الذي يتحد به في البعيد حديثُ موج الخليج إلى شاطئه. ومازال السكون يتجرح حتى يدمى جسد الليل وبعدها يحرك زايادان عصاه في الفضاء ثم يتسلل النشيد:

         في منامي،  شاهدت الضخم الفخم الثعبان الأخضر

 كان كعادته ملتفاً حول ذؤابة شجرة باسقة.

 وزوجته صفراء الإهاب، مسترخية على غصن مجاور

 لابد أنه توقف عن مغازلتها إذ رآني

 آثر أن يحدثني من بين أنيابه المعقوفة

 إنه يشكو ويتألم.. من ظلم أهالينا قساة الأكباد

 إنهم يفتكون بأنثاه صفراء الإهاب

 عالية السعر والسعرات كما يقولون

  أنت تعرف أيها الإنسان أنك أخطر منا ألف مرة

  وتعلم أننا مسالمون!

  لا يسكن السم أنيابنا كالكوبرا الشرسة، فلماذا الاغتيال؟

          الرحمة ..أيها الإنسان، بأخيك الثعبان .

فيردد الزملاء: الرحمة مطلوبة!

وإذ لاحظ أن أحداً من الموجودين لم يتعاطف مع الثعبان ولم يستحسن ما قاله تناول المعزف وألقى بالعصا التي كان يتلوى حولها ثم قال بعد أن ضرب الأرض برجله بقوة: وحمار الوحش حدثني!!!

فتهللت وجوه زملائه لأنه سيحكي أمام السيد الشاب هذه الحكاية بالذات. إنهم يحبون سماعها منه ودائماً يطلبونها ولكنه يتأبى!! فهل سيجرؤ أن يمثلها دون حذف؟ هل سيجرؤ؟

        في منامي ، جاءني حمار الوحش ذو الخطوط الناطقة بالتباين

        وحدثني بلغتنا التي نحبها، سألني: لماذا تطاردونني؟

        ألا يكفيكم مطاردة الوحوش الأخرى لنا؟

        أنلاقيها منكم أم من الأسود؟ أم من النمور؟

        أم تحسدوننا؟

ثم ... ثم كور قبضته ومد يده على آخرها ففهم زملاؤه أنه لن يحذف شيئاً فماتوا من الضحك.. أما موسكاف فلم يفهم الإشارة إلا بعد أن أوضحها زايادان: أتحسدونني على قوتي وجبروت انتصابي؟!

وأخذ يلوح بذراعه الممدودة، وقد كور قبضته بينما استلقى الزملاء فطسانين من الضحك إلى أن توقف واعتدل واقفاً ليكمل:

          أم تحسدونني على الحرية أيها الأذلاء ؟!

وصدرت صيحة استهجان عن أحد الأفذاذ فاستدرك المنشد وعلق معترضًا على نداء الذل: الحمار ابن العبيطة يقول عنا أذلاء ويريد منا حمايته!! حقاً إنه حمار!

عاد زايادان إلى بيته بعد انقضاء الليل لينام ويستريح. داهمته الكوابيس، وكان مع ابن الحاكم كرباج سوداني منقوع في الزيت يلوح به ويلسع الهواء، وزيادان يتلوى كما كان يفعل وهو يمثل دور السعدان، يتلوى والسوط يجرح جسد الليل فيدميه، وكان هذا سيكون عادياً لو لم تسقط اللسعة على جسده فيصرخ. مفزوعاً ينهض من نومه مباغتا بما جرى وما سيجري. رجع إلى عمله في المساء التالي بعد غروب الشمس فوجد قراراً ينتظره: استغنينا عن خدماتك!.

بكى زملاؤه وهم يودعونه. تجرءوا وعانقوه رغم علمهم أنه مغضوب عليه!. عاد بالخطاب مطوياً في جيبه وقال لنفسه: لابد من تأجيل الأحزان إلى أن يمر الليل. وأخذ يضحك بعصبية: أين أنت يا طانيو؟ يا بني البكري! تركتَ لهم المكان ولجأت إلى الغابات منذ تأكدت أن أحدهم يخطو خلف خطواتك كلما تحركت. أين أنت الآن أيها الغالي؟

وخطر للرجل أن ينام هذه الليلة في حضن زوجته ثم يصحو مبكراً ليرى الصباح ويستمتع بمرآه. أجل. لابد أن يطلع الصباح ولابد أن تشرق الشمس وترتفع إلى سقف القبة الزرقاء، وعلى جانب الكوخ وتحت ظله وقف زير ماء مغطى بقطعة خشب مستديرة بللها كوز. الزير ينقط ومشمشة تتلقى بلسانها هذه القطرات الصباحية العذبة بينما تحت الزير عشب نديان. وغير بعيد كانون فوقه حلة غمرها الهباب عدا غطاها، وألسنة النار تتراقص خلفها وقدامها، ورائحة التوابل الممزوجة برائحة اللحم المسلوق تهيج الأمعاء في البطون الخاوية.استجابت امرأته عندما طلب منها فطوراً مميزاً بعد ليلة مميزة! الكلب دادار يمد رقبته بين ذراعيه بينما ذيله مشغول بطرد ذبابات ملحة. ترى هل ينتظر زايادان إنزال الحلة من على الكانون أم إن براد الشاي الذي في يده لن يصبر على التأجيل؟ قالت زوجته التي تناولت ملامحه في عينيها: اصبر وسأصنع لك ركية نار مناسبة. ولم تكن تعلم شيئاً عن آلامه. رشف أول رشفة ثم أخذ كفها بين راحتيه وتمتم: أقالوني من خدمتي الليلية! لا سهر بعد اليوم.

وسقطت عيناه على مشمشة تلعب مع دادار. لا يوجد بينهما حقد، لقد تربيا على ذلك.

 

الفصل الرابع: من ليالي العمر
في البداية لم يدرك دنجو لماذا يشرق وجه تسلاف مدرس التاريخ الشعبي كلما التقيا عرضاً، وقليلاً ما يلتقيان. تسلاف لا يقوم بالتدريس في فصل دنجو. انتهز فرصة مقابلته في الفسحة وتكرمَ وعزمه على فنجان شاي في مكتبه. انهال يكيل المديح لأسرته العريقة، فأدرك التلميذ أن الملاحم والبطولات الموروثة هي ما يربط بين الأستاذ الذي يهوى ما تناثر من آداب لا مكتوبة، وأسرة تتوارث هذه الآداب التي لا تقدر بثمن. هذا المعلم لم يتجاوز الخامسة والعشرين، عذبة لفتاته السمراء خصوصاً إذا كان يتحدث في موضوع يهواه، مخلص محب لعمله، يقبل عليه تلاميذه بالوجوه والقلوب. يترنم أحيانًا ويدوي كالطبل أحياناً أخرى. يرق كالنسمات الوديعات ثم يهدر كشلال هائج وهو يصور مشاهد البطولات. بأجمل الصفات وأعذب النعوت يتحدث عنه الطلاب. أما الذي يدرس هذه المادة لفصل دنجو فمعلم آخر، يؤدي ولا يطرب. يلقي الدرس كأنه يتخلص من حمل ثقيل فإذا دوت الإشارة بانتهاء الحصة تناول أدواته وأسرع يغادر الفصل. يتشرب دنجو ملامح تسلاف ولا يرتوي:

- يقول الطلبة إنك أفضل مدرسي التاريخ الشعبي على الإطلاق.

- والدك أفضل مني يا دنجو

- والدي ليس أستاذاً لكنه حارس من حراس الحاكم المحلي. أما أنت فإن ما أسمعه من زملائي في الفصول الأخرى يفوق الوصف.

- ربما يبالغون.

- الطلاب لا يبالغون في المديح أبداً وإنما تكون المبالغة في النقد والتجريح؛ بل ويسخرون من كل شيء.

وعندما صدر قرار وجوب استخدام الكاسيت في تدريس اللغات صار معلمو هذه المواد لا يدخلون الفصول إلا وفي يدهم جهاز تسجيل. وسواء شرحوا أو لم يشرحوا فإن وجود هذه الأدوات في الحصة هو كل ما يبحث عنه المتابع الذي يزور المدرسة حتى إن بعض الأولاد يصحبون معهم شرائط ديسكو، ويطلبون من المعلم إذاعتها في الحصص فأغانيها أجنبية، وكله تعليم. رفه عنا يا مستر!. وذات يوم، وهذا حدث فعلاً في فصلنا، دخل المتابع فجأة فوجد تلميذاً  يقف على الطاولة ويرقص على نغمات تنبعث من المسجل الذي يمسكه المدرس بيده. لم يهتز ولم يتلعثم بل صاح بأعلى صوته بهذه الجملة وهو يكتبها على السبورة: إنه يرقص جيداً. تأملوا معي الفعل يرقص لأننا سنقوم بتصريفه في الأزمنة المختلفة. ولا ندري هل انطلت الحيلة على المتابع أم إنه ابتلعها أمامنا كي لا يحرج الأستاذ.

قال تسلاف وعينا دنجو تستريحان على ملامحه الوديعة:

- مادام المسجل في يد المعلم فلا لوم عليه بعد ذلك سواء فهم التلاميذ أم رقصوا، لكن قل لي هل هذا المتابع هو الأستاذ مراماح كروي الهيئة؟

- ليس هو.

- إن مراماح هذا، وهو زميلي، مستعد أن يرقص في الفصل إن كان هذا يكسبه المزيد من الزبائن؛ فهو تاجر من الدرجة الأولى. أنا سعيد جداً بمعرفتك يا دنجو، وبالمناسبة، أنا أعتبر أباك أباً لي، لعلك تبلغه هذا. كيف حال والدتك الست الطيبة وبقية العائلة..طانيو وميادو ..و..

- أنت تعرف كل شيء عنا يا أستاذ ....

- الذي يحب أحداً يعرف كل شيء عنه، ومن يدري فربما أزوركم زيارة محبة!

- صحيح؟ سنتشرف بزيارتك؟ كم أنا مندهش لمعرفتك أخي طانيو

- أجل أعرفه..إنه في مثل سني، مغامر شجاع ميت القلب..أمه ليست أمك لكن أباكما واحد..طانيو هذا يرمز عندي للحرية والانطلاق الذي ينشده الكائن الحي ومكامن الخطر حوله.. لقد رفض حياتنا الوديعة هذه وانطلق إلى الغابات الوحشية الغامضة. بل وأعرف أنه تزوج فتاة من قبيلة البكانكي التي كان من أبرز رجالها البطل الشهير بفك التمساح!

- معلومات هائلة. إنك تعرف عن أخي فوق ما أعرف.

- والدك حفظ الملاحم عن جدك أما أخوك طانيو فيجسد الملاحم دون أشعار.

لم تمض أيام حتى جاءت والدة تسلاف في زيارة محبة استعدت لها أسرة زايادان بترقب وفارغ صبر. إن الشاب يريد تاتولا زوجة له مدى الحياة لا يشرك معها غيرها. قامت الضيفة بمعاينة الصبية والوقوف على إمكاناتها ومواهبها، والبنت في غاية الدماثة كسبتْ ثقة المرأة وعطفها. أعطتها الأم حلقاً ذهبياً عتيق الطراز تدلى من أذنيها وحشياً خاطفاً للأبصار بينما كانت أذنا أختها بادوالا عاطلتين منهزمتين. في اليوم التالي جاءت السيدة محملة بالهدايا في صحبة ابنها الذي أشرق وجه الصبية لرؤية محياه.

- هذه يد كادحة أحب صاحبها.

- بورك فيك يا بني.

- إن صلة قوية تربطني بك يا سيد زايادان؛ فأنا أعشق الأدب الشعبي أما أنت فقد ورثت كنوزه أباً عن جد.

أشارت الضيفة لابنها فصمت مفسحاً المجال لها لتأخذ الكلمة:

- اسمح لي أيها السيد الطيب زوج السيدة الطيبة ووالد الأنجال الطيبين ذكوراً وإناثا، اسمح لي نيابة عن زوجي المتوفى والد وحيدي تسلاف ...

وأشعلت بخوراً بدأت تموجاته تتهادى في المكان وهي تتمتم وتوجه حديثاً مبهماً إلى الروح الهائمة لتسكن وتهدأ:

- اسمح لي أن أطلب ابنتك تاتولا زوجة لوحيدي.

- نحن يا سيدتي لا نزوج بناتنا إلا مدي الحياة

- وابني يريدها زوجة له لا يشرك معها أخرى مدى الحياة! 

- سنتعشى ثم نكمل حديثنا. نحن سعداء بوجودكم بيننا ..هيا يا زوجتي مارانا أعدي لنا دجاجاً مشوياً على الفحم وخضراوات طازجة وأكثري من الفاكهة احتفالاً بـ .....

ودق قلب الشاب لأن الكلمة الآتية ستحدد مصيره:

- احتفالاً بأهلنا الجدد.

صفقت أم الشاب وأم الشابة طرباً وقالت إحداهما:

- أختي الجديدة، مرحباً بك.

ونادتها الثانية: تعالي معي نعد الطعام يا أختي الجديدة.

وقال زايادان محذراً امرأته:

- اختاري الدجاجات السمينة واتركي الدجاجة الحمراء كيلا يحزن دودو.

ثنا وسادة فوق فروة خروف مشمشية اللون وتقرفص فوقها فانتصب ظهره متخشباً. إنه يفضل ذلك عن الجلوس على الكراسي،  بينما استقر تسلاف في كرسي خيزران مجدول، إلى جواره آخر شاغر ستشغله تاتولا. إنها تنتظر إشارة والدها. جاء دنجو وتربع إلى جوار أبيه على حشية خشنة بينما الصغير دودو يتوسد ساق الوالد ويتمدد على كليم أزرق جديد يتوسط المكان. أعطى الرجل الإشارة بهزة من رأسه فملأت الفتاة وجهها بابتسامة وتقدمت في عظمة والعيون تضحك لها فملأت الكرسي الشاغر. أما أختها فقد كان الأمر يقتضي أن تكون أقل جمالاً وتألقاً في تلك الليلة. لم تجلس مثلهم وإنما ظلت واقفة طوال الوقت تنتظر إشارة من أمها أو أبيها أو أختها لتأتي بشيء أو تفعل شيئاً يريدونه. وأخيراً ذهبت بادوالا إلى حيث المرأتين. قال تسلاف: أنصتوا أنصتوا. هذا عصفور العسل!

- جاء في وقته. أوتعرفه؟ سأله الأب.

- إني من عشاق العصافير لأنها تعشق الحرية، ولهذا أعتبر أخي الجديد طانيو عصفوراً كبيراً.

- طانيو أشجع من أسد. لكني أتعجب لمعرفتك صوت عصفور العسل.

- يقولون إنه يرمز إلى الأخبار السارة؛ بل قل إنه يرشد إلى مكامن الخير ومواطنه مهما كانت خافية، لذلك تفاءلت بمقدمه وأسعدتني زقزقته. كم أنا سعيد بقربك يا تاتولا الحبيبة ويشهد عصفور العسل على ما أقول.

ضحك زايادان وقدم النصيحة:

- احترس منه يا تسلاف فهو كما أعلم بارع في حياكة الشراك، والإيقاع بالصيادين في مكائد لا يستبعد أن يكون هو مدبرها!

- أهو شرير إذن؟

- بل يجمع النقيضين كليهما، وبارع فيهما معاً. والآن يمكنك أن تقبِّل فتاتك قبلة الوفاق. لا أقف عائقاً وعزولاً بل أبارك دفقة المحبة الغامرة. لا عليك يا فتى إن قبلتها باستماتة وسأحكي لك عن عصفور العسل. لقد حكا لي ابني طانيو عنه الشيء الكثير. يقابلك هذا الطائر في الغابة فيرحب بك، بل ويبالغ في الترحاب كأنما يعرف من أنت بل وكأنه صديقك القديم، صديقك الحميم. هاهو يذهب ويجيء، يصعد ويهبط متموجاً متهادياً.أجل قبلها ولا حرج. متراقصاً يزقزق ويلقي بالألحان على الزهور والأغصان. ما أسعدكما! ما أجمله وهو يحرك ذيله ناصع الألوان يميناً ويساراً، وما أنشطه وهو يناديك. يا لها من قبلة طالت!.أجل إنه يدعوك إلى شيء يبشرك ويستنهض همتك أم إنه يستعطفك ويتوسل ثم يرجوك ويتبتل. يدعوك إلى أن تتبعه إلى حيث ينطلق. هيا اذهب معه!

تنهد تسلاف وهو يترك وجه حبيبته الذي صار وردة:

- لو دعاني للذهاب معه إلى أجمل بقاع العالم ما تركت هذا المكان الذي يخفق فيه قلبي سعيداً بالحياة.

- جميل. جميل. هذا هو الرد المناسب على نداءاته واستعطافاته. انتظر ودعه يذهب وتأكد أنه عائد عائد.

تأمله جيداً وانظر كيف يتحرك الآن .هل يعتصره الألم بعد أن وخزه النحل فهو يحاول برأسه الصغير أن يزيل الأوجاع عن جسده الضئيل؟. وهاهو يدعوك أكثر من الأول ويكاد يصرخ لتتبعه إلى خلية النحل التي اكتشفها، وعندما لم تذهب معه ذهب وحده وسيلدغه النحل ويعود متألماً.

قالت تاتولا: لقد ذهب إلى الخلية وعاد إليك ملسوعاً لكي تعينه فماذا أنت فاعل؟

- إن أمرت عيناك الساحرتان فسأقتحم المكان وأتحمل الأذى في سبيل الوصول إلى الشهد. وماذا أبتغي في الشهد وعندي منه بحيرتان في عينيك يا تاتولا؟!

- مهلاً مهلاً. قال الوالد. بل خذ فأساً وإناءً وثقاباً ثم اتبع العصفور الذي سيتحرك أمامك من شجرة إلى شجرة ومن غصن إلى غصن. وعلى موسيقى الزقزقات ستهتدي إلى مكانه.

- سوف يستمر هكذا. قالت الفتاة. حتى يقف بك على فم الخلية. فماذا ستفعل يا بطل؟

- حدثيني يا أشهى من عسل الجبال والغابات، ماذا سأفعل ؟

- ستشعل النار في القش.

- لماذا؟

- ليطرد الدخان النحل ثم بالفأس توسع فم الخلية. بعد ذلك تجني من الشهد ما تشاء.

- والعصفور؟

- لن يتركك إلا بعد أن يشبع من العسل. ألستما شريكين؟

اتجه تسلاف ببصره نحو مصدر الصوت المغرد وتساءل:

- هل كان الغناء يصدر عنك؟

لاشك أن الأب مرتاح للحديث عن شيء يعرفه تمام المعرفة؛ لذلك يود ألا يتغير الموضوع؛ بل هو سعيد لأن قبلة الوفاق مرت على خير. قالت تاتولا : أما إذا عاد العصفور إليك ورأيت أنه لا يتألم بل ينطلق إلى اتجاه ثم يعود في الحال ثم يرجع مسرعاً فكيف تفسر ذلك؟

- هذا لغز عويص يا حبيبتي. أليس عندك أسئلة أسهل؟

- إن الأمر أيسر مما تتصور. إنه يريد أن يوقع بينك وبين حيوان مفترس!!

قال زايادان : إنه كما قلنا يجمع بين الخير والشر. يريد إشعال فتنة ومعركة بينك وبين وحش كاسر. إنه يخلق الصراعات ليتفرج عليها. هيا خذ سلاحك واتبعه حيث يذهب.

- هل أفعل حقاً؟

همَّ بالنهوض لكن الفتاة جذبته وهي تصيح: مثلاً مثلاً.

- وبينما أنت في صراع مع الوحش بسيفك سيهبط العصفور السعيد ليشرب من دم الحيوان المجندل على أرض الغابة! إنه حقاً عصفور العسل والدم كما قال طانيو.

- تربية غابات صحيح! هذا هو صوته فماذا يريد؟

قال تسلاف:

- ربما يريد مني أن أجني العسل الذي أمامي، وتحدثه نفسه أن يكون له نصيب..ووصل ميادو وعلم بالخبر فاستبشر خيراً وأشار إلى الطبلة الكبيرة في ركن الحجرة ووجهه ينطق بالفرحة فكأنما يسألهم لماذا لا تدقون الطبول؟! هذه ليلة من ليالي العمر.

- بعد تناول العشاء.

- بل الآن أفضل. هل تاتولا سترقص وبطنها متخمة بالطعام؟ لا. الآن أفضل. هيا يا أختي قومي وارقصي. أرينا الرقص على أصوله.

ثم اتجه إلى تسلاف ليفهمه أنها طالبة في معهد الرقص. وترجم والده الكلمات المبعثرة

- أعرف عنها كل شيء. وإن كانت سترقص فليس عندي مانع أن تفعل ذلك على دقاتي! 

قال الأب مشجعاً ابنته:

- هيا يا تاتولا. أرينا البراعة. اجعلي الفضاء الساكن يترنح على هزات خصرك النحيل. المجد هذه الأيام للراقصات المتعلمات.

 ونادى على ابنته بادوالا: قربي الطبلة من النار. نريدها مشدودة على الآخر. واستعدت تاتولا حيث غيرت ملابسها وجاءت بادوالا بالطبلة وقدمتها لتسلاف الذي يعرف كيف يستخرج من تحت جلدها المشدود أصواتاً تسرع وتبطئ وتتجسم. وكان عصفور العسل والدم قد سكت!

- سأدق بهدوء ليكون الفرح لنا وحدنا. من يدري فقد يجيء الطائر العجيب ويسامرنا. أعندكم بعض الشموع؟ أريد أربع شمعات متجاورات في ركن واحد واتركوا بقية الأركان بلا شمع. أريد أن أشرب ظلال تاتولا، وأراقص الضياء المرتعد فوق ناحية واحدة من الجسد الناطق بالجمال. هل أوقدتم الشموع؟ إذن أطفئوا المصباح ليظهر نور القمر.

تناول زايادان القصبة المثقبة من يد ابنته وبدأ ينفخ. أخذ الشجن الذي يحمل على أكتافه إيقاع السنين يغمر المكان، وهدأت الطبلة لتفسح الفضاء للقصبة الشجية، وظهرت في الخلفية زقزقات العصفور والفتاة تتثنى برفق ثم تميل وتهتز وتكتب بجسدها لغة يجيد الحس المرهف قراءتها. كانت ترقص بأصابعها أيضاً، تقبضها على هيئة رأس طائر وتبسطها على هيئة زهرة دوار الشمس. وفجأة ظهر العصفور كقطعة ظِل حيناً وكقبضة نور حيناً آخر وحول الراقصة يحوم ثم يحاول الوقوف على كتفها فتعلو دقات الطبلة لتهشه عنها فيحط فوق كتف الباب ثم يعود إليها وهي رافعة وجهها إلى القمر ليغمرها بنوره، ثم تميل برأسها إلى الخلف وجيدها ممتد كنهر الفضة، يتماوج صدرها ويتموج العصفور حولها كأنما يراقصها، أما نهداها فهما الآن في مواجهة القمر يتحديانه بينما يدخل ضوء الشموع من بين ساقيها. يثور الصدر على القماش فهل يغريان العصفور ويدلانه على مكامن الشهد؟ شفتاها أخذتا في العمل لتصدر عنهما أبجدية غير مفهومة وكأنها صوت الزمان الغارق في الأبدية فهل هذا تمهيد مبتكر للغناء؟. وتدحرجت كرات التطبيل رويداً رويداً ثم علا الإيقاع وتسارع، فولِّ هارباً أيها الكائن الهزيل!. وقامت أم تسلاف لترقص هي الأخرى في هذه الليلة السحرية. إنها من ليالي العمر التي لا نضيعها.

لكن . بعد تناول الطعام ودون سابق إنذار دوت صرخة كالسكين الحامية أطلقها دودو لأن أخته بادوالا همست في أذنه:

- هل أعجبك لحم دجاجتك الحمراء؟

- أحقاً أكلناها؟

- لقد انتهينا من كل الدجاج.

ويصرخ صرخة أخرى فتضع يدها على فمه لتسكته: أنا أداعبك. إنها ما تزال حية. كل الدجاج موجود ماعدا الديوك الثلاثة. اذهب إلى العشة لتطمئن.

 

الفصل الخامس: عـيــن للبيــع
مقتنعًا بالشاب لا يريد زايادان أن يفلته، فهل يستطيع – وهو الحريص على التقاليد–  أن يتساهل مع زوج ابنته؟ وإلى أي حد؟. بدون وعي ظل يحدق فيه.

جمع ملامحه وملامحها وزاوج بينهما ليتوقع شكل أبنائهما المرتقبين.

- نحن نشرب القرفة بالزنجبيل أم نصنع لك قهوة؟

- كما تشربون أشرب. اليوم أصبحت أحدكم.

فليبدأ بتمهيد مناسب: سأدبر لكما مبلغاً من المال يعينكما على مواجهة أعباء الحياة. يجب أن يكون لكما مسكن مناسب. لا تقلق. يدي في يدك. لكنك لم تخبرني ماذا ستقدم لعروسك دليلاً على كرمك وشجاعتك؟

- أقدم لها قلبي وحبي يا والدي الجديد.

- هذا ما يقوله شبان هذه الأيام.

- سأصطاد لها غزالاً أذبحه تحت قدميها في اليوم الموعود.

- ولماذا لا تصطاد أسداً؟

- أسداً  حقيقيا؟!

- ولم لا؟

- أو أستطيع ذلك؟ ثم... هل أحد يأكل لحم الأسود؟

- ليس للأكل ولكن دليل شجاعة وقوة.. لا تتردد. إذا وافقت أعنتك. سأدلك على مكان ابني طانيو وسيرافقك إلى أعماق الغابات ويدربك على اصطياد الوحوش. ومن يدري؟ فقد تأتي لنا بجلد أسد مدبوغ يكون تحفة رائعة ينبهر بها كل من يزور بيتكما. انظر إلى حجرة الجلوس عندنا. نحن نضع فوق أرضيتها جلد حمار وحشي.

- تعني حجرة الأولاد الذكور؟

- إنها أحياناً حجرة الضيوف. ولكن أطمع أن تضع أنت على أرضية حجرة ضيوفكم جلد زرافة أصفر جميلاً ذا بقع غامقة ناطقة بالجمال.

- إذن فأنت تريد زرافة لا أسداً. ما تطلبه مني سأفعله، اطمئن يا والدي الجديد.

وتدخلت تاتولا وقلبها ينبض حبا له وخوفا عليه:

- أنت عندنا أغلى من أن نجازف بحياتك. افعل ما تقدر عليه.

- اطمئني. سأفعل ما يجعلك تفخرين بي.

لابد من حوار بين زايادان وابنه ميادو. الرجل يريد أن يعرف رأسه من رجليه.

 سائرين باتجاه اللولو يجمع كل إمكانات السرد عنده ليختار مدخلاً. وكان الهواء يساقط كشلال من ناحية الجبل ويفرد أجنحته على النهر.

- يا له من منظر نادر! منظر ساحر! ينحني الماء على الماء فتتخلق موجات كحملان بيضاء تملأ المدى، تتهادى مبتهجة.

رآه يغمغم. ماذا يريد أن يقول؟! أيعجبه مثل هذا الكلام أم لا يعقله أصلا؟. آه أيها النهر! لكنه كلام. مجرد كلام لا يقدم ولا يؤخر. ما زال يتمتم ويحرك ذراعيه حتى فهم أبوه أنه يعتذر عن المشاركة بالمال فهو مقدم على الزواج بل إنه سيبني منزلا: اسمح لي أن أعتذر عن المشاركة بالمال لأني مقدم على الزواج وتأثيث بيت.

- لكني وعدت الشاب بالمساعدة.

فهم من الإشارات أنه يريد أن يقول إن أباه الجديد لم يعده بشيء كما فعل هو مع ابنه الجديد. تنهد الرجل: فلنعد! بدأت أشعر بالبرد ينسرب في عظامي!

وظل يفكر ليلاً طويلاً. ولماذا الكلب دادار يرسل عواءه المتواصل هذه الليلة؟ هل تعابثه الأشباح اللعينة؟ كان من المفترض أن تكون هذه الليلة من الليالي السعيدة لكنها بالأرق موسومة فماذا أفعل؟ الشاب أكثر من مناسب. لم أكن أحلم لابنتي بمن هو أحسن منه فكيف أظهر أمامه كالتائه الضائع الذي يخرج حبة قلبه مكسورة البال كأنما يتخلص منها؟ آه يا زايادان! كان يمكنك أن تكون غنياً كل الغنى لكنك احتقرت النقود ما وسعك الاحتقار. والآن ومن أجل ابنتك يمكنك أن تبيع يدك أو ساقك أو كليتك. هل قررت حقاً أن تتصل بالأغراب؟ لقد حان موسم قدومهم السنوي إلى البلاد. بعد أيام قلائل سيأتون لابتياع الأعضاء. لماذا لا أبيع إحدى كليتي وأنفق على جهاز تاتولا وأدفع ليلتحق دنجو بأحد معاهد الأفذاذ؟. أريد أن أرى ابني سيداً بحق. كابن وكيل الحاكم سواء بسواء. إنه زميله في الدراسة ولا ينقص عنه شيئاً. وجه ابني وسيم، وإذا ركب الحصان ازدادت وجاهته. وإذا وضع الريشة على رأسه  فيا لسعادتنا جميعاً! لماذا لا يكف دادار عن العواء الكئيب؟ هل أوافق  السيد فاروكو وأسلمه ابني دودو ليعمل عنده من الصباح حتى المساء؟ إن فاروكو يؤكد أن العمل بسيط جداً ومريح. كل ما سيفعله الولد أن يجمع زجاجات البلاستيك الفارغة من البيوت أو أماكن القمامة. سيستلم شكائر يجمع فيها تلك الفوارغ وكلما ملأ شكارة أخذ نصف عمله فضية. يمكنه في اليوم الواحد أن يعود بعملتين أو أكثر. دودو !! كيف أجرؤ على التفكير في تسليمك للسيد فاروكو البغيض؟! إن مجرد أن يخطر ذلك على بالي جريمة. إنني أدخرك لحمل الأمانة للأجيال القادمة.

تطارده أحيانا صورة متخيلة لدودو يحمل شكارة كبيرة قذرة والعرق يتدفق من فوديه على خديه إلى رقبته الرهيفة وقد نفر منها عرق أزرق بينما قدماه تندسان يبن تلال القاذورات باحثتين عن زجاجة بلاستيكية. يهز رأسه بقوة ليطرد الصورة البشعة.

بعد ثلاثة أيام جاء الأغراب إلى مقرهم السنوي في الناحية الجيدة من الجبل. تلك المطلة مباشرة على روح الوادي. وترك زايادان عصاه الغليظة وتخلص من دودو الذي كان مصراً على الخروج معه ثم تخلص من دادار الذي تمسح به كثيراً آملا في ملازمته، واتجه إلى حيث يعرض إحدى كليتيه للبيع. إن المطر يساقط خفيفاً ولم يحاول الرجل أن يقي نفسه منه، بل كان تماماً كالأطفال الذين يطلبون من المطرة أن تزخ عليهم. ربما لأنه كان يأمل أن يجرف الماء حشرات الكآبة العالقة بجسد الروح أو أن يرطب الماء هذه الأحاسيس المتناحرة. يلقي نظرة إلى الوراء ليرى إن كان أحد يراه ويطلع على خباياه.  وكان ثمة بعض المعوزين المضطرين قد سبقوه. خجل رتيب يتهادى في مجراه المتشقق. خجل لزج يجب ألا يلمسه أحد وإلا التصق به. لكن ماذا يقول الحارس الذي ظهر أخيراً ويده الممدودة على آخرها تشير إلى الحائط؟: انظروا إلى اللافتة التي هناك. هذا العام خاص بالعيون فقط!

تعالت همهمات السخط. لا أحد يريد أن يصدق. وكالة بادامات الطبية العالمية لا تريد شراء أعضاء هذا العام سوى العيون. من أراد بيع إحدى عينيه فلينتظر!. ومن أراد بيع عضو آخر فلينصرف مشكوراً. وكأنما ذر التراب في وجوههم فغامت الدنيا أمام العيون. والغريب أنهم في موقفهم ذاك إذ دخل عليهم متسول يطلب إعانة فاحتاروا أينفجرون ضاحكين أم يطرحونه أرضاً ويدوسونه بالأقدام الحافية! لن يقبل الأغرابُ هذا العام سوى العيون. انفجر أحدهم:

- أنا الذي أخطأت إذ لم أحضر إلى هنا العام الماضي!

وانفجر الآخر فشق جلبابه المرقع نصفين:

- أما أنا فأستحق القتل! لقد أتيت ولكني ترددت!!

- يا أحمق!.

 له سنتان إحداهما فوق على اليمين والتحتانية جهة اليسار. نهره: الكلية داخل الجسم مستورة وواحدة تغني عن أختها، أما العين فهي أمام الجميع تفصح عن الحاجة المرة والخنوع أمام العواصف.

وارتفعت أصوات: يا ظلمة! لن نبيعكم ما تريدون.

سحن مقلوبة وأقدام مدسوسة فى أحذية مهترئة تبرز منها أصابع غليظة متمردة. وأين تقودك قدماك يا زايادان؟ هائماً على وجهك ستصعد الدروب. لا تدري إلى أين تذهب. ستجيء الأيام التي يأتي فيها الأثرياء والواصلون ويزرعون الجبل أبراجاً شاهقة يطلون من شرفاتها على عورة المدينة النائمة في العسل أو في الذباب. أسوار طويلة تحيط أرضا استولوا عليها بأبخس الأثمان، وربما بلا أي ثمن. اقتطعوها اقتطاعا وسوروها وزرعوا لافتات تحمل أسماءهم. هبط إلى النهر وأسلم قدميه للماء آملاً أن تتهادى إلى رأسه الحلول. لكن لا حل. أنزل يده وأخذ يحرك المياه ذهاباً وجيئة ثم أنزلها أكثر حتى أمسك الطين فاغترف منه كتلة سوداء مائلة للصفرة رفعها إلى شفتيه وتذوق طعم طمي اللولو لأول مرة منذ ساد التلوث. لكنه لم يجرؤ على ابتلاع شيء. ألقاها من يده دون وعي ودون تقدير للعواقب؛ فكيف يمكن للأفكار الصائبة أن تأتي إلى رأسه؟! كان يظن أنه سيستريح، لكنه يضرب الأخماس في الأسداس دون الوصول إلى نتائج. فليعد إلى مقر وكالة بادامات!.

عاد بالفعل. تلقى صوتَ حارسها يكرر نفس الكلام كلما أتى زبون والناس ينصرفون متذمرين لكنَّ رجلاً أعور تقدم من الحارس وقال بصوت مسموع: سأبيعكم عيني!. خبط زايادان قبضة يد ببطن يد وهو لا يصدق ما يسمع. غير معقول أن يتنازل رجل عن عين فما بالك إذا ما كان لا يملك غيرها! حتى الحارس فغر فاه: أنت؟! دخل ودلف خلفه زايادان يقوده الفضول: بكم تشترون هذه العين؟

تأمله الموظف مليا ثم نطق بحروف ممطوطة:

- بخمسة آلاف. ألم تقرأ اللافتة؟!

- لقد بعتكم أختها العام الماضي بهذا الثمن. كل شيء يزداد سعره فهل بعد عام كامل تظل أسعار العيون كما هي؟

- هذا هو السعر الذي حددته الوكالة لهذا العام. ولكن أخبرنا لماذا بعت عينك العام الماضي؟    

- لأنني بعت الأعضاء الأخرى العام قبل الماضي. ياناس، إن عيني الوحيدة الباقية تساوي أكثر من ذلك بكثير. فلا يعقل أن تكون العينان متساويتين! العين الأولى أخذتموها ومازلت أرى. لم أحس بفارق كبير فالأشياء أمامي واضحة كما كانت تقريباً. الطريق الذي أسلكه واضح ووجوه الأصدقاء هي هي رغم أن نظراتهم إلي تغيرت كثيراً! أما العين الثانية فحين أفقدها ستظلم الدنيا في وجهي وسأهوي في بحر الظلمات، فهل يمكن أن تتساوى العينان في السعر؟. (لم يتلق سوى ابتسامة) ألا يوجد أي حل؟ إن هذا المبلغ تافه بالنسبة لكم ولكن هام جداً بالنسبة لي. إن العين التي ستأخذونها ستربحون من ورائها مائة ألف أو يزيد

- أنت زبون قديم للوكالة وتعرف أسلوبها، وعموما دعنا نقترح عليك اقتراحاً فإن أسلوبك مقنع. قم بإقناع الناس وسنعطيك ما يرضيك. ستزين لهم عملية البيع وتأتي بهم واحدًا واحدًا!

انتفض كأنما لدغته عقرب: أبيع عيني ولا أبيع ضميري!. وخبط على المكتب فكاد يكسر الزجاج، أبيع عيني ولا أبيع ضميري. وأعطاهم ظهره وعينه الوحيدة لا تذرف دمعها.

أطلق زايادان آهة طويلة. كان وعد ابنه الجديد بالمساعدة فهل سيخلف وعده؟ ثم إن ابنه الثري تخلى عنه. ثم إنه حتى اليوم رفض المال من أجل المبادئ. ثم إنه أتى إلى هنا ليبيع عضواً من أعضاء جسده فهو يضحي! إذا امتلأ ضميره أشواكاً سينزعها واحدة فواحدة. سيقنع الناس بطريقته الخاصة ويجعلهم يبيعون. كم سيكون حافزي؟ خمسين!. وساومهم على أن الذي سيبيع عينه سيخصمون منه مائة وخمسين أخرى بحجة ضريبة أو تمغة أو مصاريف شحن أو أي شيء آخر وهي ليست إلا عمولة أخرى لزايادان تضاف عليها الخمسون المتفق عليها فيكون الناتج مائتين عن كل عين. وسوف يخبر الناس أنه أيضاً سيبيع عينه ليشجعهم! ما رأيكم؟

- اتفقنا، وقل لهم ما تشاء!.

وخرج متهلل الوجه مكتئب الشعور. إنه لم يأكل رواسب اللولو بل تذوقها فقط فهل ثمة علاقة لذلك بما حدث الآن؟ هيا يا رجل. دع عنك التساؤلات وابحث عن ثلاثين أربعين رجلاً ممن ضاقوا بالحياة وضاقت الحياة بهم، وأقنعهم بالفكرة. خدرهم موضعياً وأجر لهم عملية الإيحاء ونل نصيبك الوافر دون تعب أو آلام. سابق الزمن. قل للواحد منهم: ستبيع عيناً وتشتري أرضاً أو عقاراً وتصبح من ذوي الأملاك وسترى بأختها ما ترى بهما. وعندما يقتنعون سيكون عليكم الاجتماع والجلوس إلى النهر تتدلى أقدامكم في مائه ويصفق كل منكم بقدميه ثلاثاً بعدها تصيحون: اتفقنا.

تقوم بإحصائهم ثم الذهاب إلى شركة بادامات وتخبر المسئول المالي أن لديك من العيون عدد كذا تود بيعها إليه.

- لي طلب أخير يا سعادة المدير لكي تسهل لي العملية: أن تعلق لافتتين بدلاً من هذه اللافتات. تكتب على الأولى: ثمن العين أربعة آلاف، وعلى الثانية يمكن زيادة السعر إلى أربعة آلاف وثمانمائة وخمسين إن كان عدد المتقدمين خمسين على الأقل.

- أنت خطير جداً يا زايادان.

- أنا من اليوم شرير جداً يا مندوب بادامات!

- لا عليك، أنك تخدم الناس وتجعلهم أثرياء!

وخرج غير مصدق ما قال وما سمع، وعند عبوره بوابة الشركة تعثر في رجل نائم على الرصيف فكاد يسقط. تأمله الرجل باستغراب وعينه الوحيدة تستنكر، لكن زايادان لاحظ ابتسامة تفرش الوجه المغضن وتمتد حتى العين الحائرة

- فتّح عينك يا أعمى!

- أنا؟.

تسمرت قدماه. ليس سهلا ذلك الرجل الذي يبيع عينه الوحيدة ولا يبيع ضميره. وجد ورقة جريدة قديمة. وضعها تحته وجلس إلى جواره. سأنصحك أيها الرجل العفيف. لا تبع عينك ولو بكنوز الدنيا. تريد مالا؟ قم، تعال معي!

لم يصدقه الرجل النائم على الأرض. مع ذلك طاوعه.

وصلت الكارتة فصعد وقال له: اصعد!.

شاربُ الحوذي طويلٌ مضفورٌ، مبرومٌ من طرفيه المرفوعين إلى أعلى.

- إلى أين؟

- إلى روح الوادي.

لسع السوط جلد الحصان الهزيل. انتفض الرجل:

- ليس معي أوراقي وسيوقفونني.

- جازف! ألديك ما تخاف عليه؟

تأمل الحوذي حالته وحذره: أي تعطيل محسوب عليك. إن لم تكن أوراقك معك، تظاهر بأن صاحبك ينقلك إلي المشفى.

كان جهمًا لكنه أعطاهما الفكرة الصائبة. كثيرا ما يستوقفون الكارتات وغيرها ليتثبتوا من هوية الركاب! عم يبحثون؟ إنهم يذكرون الناس أنهم شوكة في الحلق مايزالون. وصلوا إلى زحام المدينة، وسياراتها التي بلا عدد. أمسكه الرجل من يده، وعبر به ثلاثة شوارع فوصلا إلى محطة الباصات. اختار له مكانا وقال له: نم هنا كما كنت تنام أمام مقر شركة بادامات. ذراعك تحت رأسك مثنية. افرد الأخرى على طولها. راحة يدك مفتوحة وملتصقة بالأرض. وجهك ماثل إلى أسفل. واتركني أتصرف. أطاعه وتكوم عند باب الخروج، وتركه يستعطف قلوب المسافرين والآيبين:

- هذا الذي لم يعد يقوى على الحراك

هذا الذي كان ذات يوم كريمًا، وأذله الأخساء،

كان ذات يوم عزيزًا، وكسره الجاحدون،

باع أعضاء جسده الداخلية، عضوًا عضوًا

وأيضا عينه العسلية،

وينوي بيع أختها ليغرق في الظلام

هذا المسكين لا يقوى على استعطافكم

أعطوه لتطيب له الحياة

أعطوه وخففوا بلواه، هذا الذي كان ذات يوم كريمًا.

وبدأت الأجساد تنحني والأيدي تعطي.  كلما امتلأت اليد أسلمت ما فيها إلى الجيب الكبير. تفرغ لتمتلئ من جديد. هذا الذي كان ذات يوم عزيزا.  تحكم فيه الأوغاد.

كاد صوته أن يبح، لكن الأمل في تقاسم المال مع سندير جعله يتحامل ويتقوى. لكن الصوت راح. لم يعد يستطيع مواصلة الإنشاد. جلس علي كرسي خارج مقهى قريب يشرب الشاي ويتابع. مازالت اليد تمتلئ وتسلم ما فيها إلى الجيب الكبير. هذه هي الكارثة. ظنه لن يستغني عنه ولن يقدر على هذا بدونه، لكن سندير استغنى. قال سأعطيك شيئا لأنك علمتني. وعندما غضب منه قال اذهب إلى شركة بادامات بعد أن تجمع لهم العيون التي يريدونها وسيعطونك عمولتك. كنت خلف الباب وسمعت كل شيء!!

ومد يده إلية ببعض الفكة فبصق على الأرض متأففا.

 

الفصل السادس: فراراً من وجه مازوكا
كرة قدم فوقها كرة مضرب. هكذا نعته تلاميذه عندما كان ما يزال معلماً. صار الآن أكثر ضخامة بعد أن ترقى إلى وظيفة مراقب تربوي وامتدت أوقات فراغه واستطالت. حوَّل بيته إلى متجر كبير، مكدسة فيه البضائع من أدوات كهربية وكل ما يهم المقبلين والمقبلات على الزواج، وعرفه الناس وصاروا يبتاعون منه نقداً وتقسيطاً ويتلقون منه النكات اللاذعة. يقول عن نفسه إذا هدده أحدهم أن يشكوه إلى الضرائب: أنا موظف بسيط غلبان أستحق العطف والمساعدة، أو يقول: أنا ولا مؤاخذة مجرد معلم، أو يقول: اخبط دماغك في الحائط، أنا رجل واصل ولا أخاف، وحتى إذا جاءوا للمعاينة سأقول إنها أشيائي وليست للبيع. في الماضي وهو بعد يدرِّس، كان يعمل سبع ساعات في اليوم يعود بعدها منهكاً، يأكل لقمته ثم ينطلق إلى حيث ينتظره تلاميذه فيعيد عليهم شرحَ بعض الدروس ويأخذ منهم بعض النقود. أما الآن فقد صار شيئاً آخر. يكفي أن يمر على المدرسة ساعة أو نحوها في اليوم ليكتب تقريره وملاحظاته التي لم يلاحظها وفي اليوم التالي إلى مدرسة أخرى وهكذا. ثم إن الطلبة صاروا ينقطعون عن المدارس قبل نصف العام. وعندما يلمحه مدير المدرسة داخلاً فخماً ضخماً من البوابة يقول لمن حوله: متابعنا اليوم هو السيد مراماح. حسناً. إنه أليف!. وإذا حدث ووجد بعض القصور في سجل من السجلات يهتف بالمسئول: تعال يا حبيبي، سجلاتك زفت. هل أحيلك إلى الشئون القانونية؟ هــه؟ نسيت أن تكملها كما نسيت دفع قسط الشهر الماضي!

- سأدفع، سأدفع وأشتري ثلاجة جديدة، هل عندك؟

- عندي كل شيء. خذ أكمل سجلاتك وهاتها لأوقعها.

ورغم أن العمل المكلف به السيد مراماح ذو أهمية بالغة إلا أنه لم يعد يهتم إلا بالشكليات، ويطمح أن يجعل من كل العاملين في المدارس زبائن عنده، فيضاحكهم: دولتكم دولة أوراق. لماذا لا تجمعون سجلاتكم ويأتيني بها أحدكم فأقوم بالتوقيع عليها بدلاً من أن أحضر إليكم وأعطلكم!

- تعطلنا؟ .... ويضحكون.

- المدارس يا حبيبي لم يعد لوجودها تبرير. فقدت مصداقيتها. تحولت إلى سجلات وتوقيعات. إنها عبء ثقيل على الدولة وعلى التلاميذ الذين يضيعون فيها ساعات ثم يذهبون إلى المدرسين في البيوت. اسأل أي تلميذ: تستغني عن المدرسة أم عن منزل المدرس؟ سيقول لك: عن المدرسة! (يضحك فتهتز بطنه) لقد كانت تراودني فكرة سابقة لعصرها: إلغاء المدارس ويذهب التلاميذ إلى بيوت المعلمين، ونحن أيضاً نذهب لنتابع. أطرق الباب: أنا المراقب. وأدخل. وبدلاً من شاي المدارس الذي يوجع البطن أتناول غداء شهياً وأكتب التقرير التمام. والمباني المدرسية؟ ستستفيد بها الحكومة فائدة عظيمة. تخيلوا هذه المساحات والمباني وقد تحولت إلى مصانع أو نوادٍ أو مساكن أو حتى كازينوهات أو إلى مقاهٍ إلكترونية. ألا يساعد ذلك على إيواء أو تشغيل المتعطلين المتسولين الغلابة؟!

ولا يتوقف عن الضحك، ومن حوله يراقبون وجهه المتورد ويضحكون. وزمان عندما كان يعطي دروساً للأولاد في كوخ غير نظيف سألته إحدى التلميذات: ألا يوجد من ينظف لك هذا الكوخ العفن يا أستاذ؟

ظن زملاؤها أن كلمة العفن ستضايقه وتجعله يثور عليها لكنه قال بهدوء: أنا أحب العفونة ورائحة العفونة وأحب التلميذة العفنة. أتفهمين يا حبيبتي؟ ولهذا أرجوك ألا تستعملي هذا العطر لأنه يقززني!.

وبعد أن أصبح مراقباً تربوياً، واتسع وقت فراغه، قرر أن يمارس هوايته التي ورثها عن والده: التجارة. استأجر منزلاً ملأه بضائع. ويقبل عليه هواة الشراء بالأجل وخصوصاً النساء فيتلطف معهن جميعاً، بل ويزداد تودده للعفنات منهن يغازلهن فيتهافتن عليه وعلى بضائعه. حتى مازوكا التي تنزح براميل الفضلات من أكواخ الصفيح وتحمل على رأسها الوعاء الذي يقلب حال الطريق ويجعل المارة يسدون أنوفهم، ذهبت إليه وابتاعت منه وصار لها صفحة في السجل، وأضحت مفتونة بمغازلاته لها: أنت الرجل الوحيد الذي يفهمني!

ولا تمل من تكرار ذلك على مسامع أصحاب الأكواخ التي تدخلها، فتقول لها زميلتها: طبعاً هو يختلف كثيراً عن زوجك المجفف.

- لو برك فوق زوجي لأزهق روحه في لحظة. كمية الدهن التي يحملها تكفي لملء ثلاثة براميل.

إنها لا تخفي إعجابها به، وهي طبعاً بالنسبة إليه مالٌ يأتي أول كل شهر؛ فهي حريصة على سداد الأقساط في مواعيدها. وعندما قال لها: هذه آلة تفيد في تقشير البطاطس وتخلق منها أشكالاً مغرية يا مازوكا ردت عليه:  هات البطاطس وأنا آكلها بقشرها.

- مطبوخة؟

- ونيئة إذا أحببت.

وتضحك ضحكتها أم ذيل فتنهرها ابنتها الشابة:

- استحي يا أمه!

- تركت الحياء لك ولأبيك.

ويعجب مراماح من مرح المرأة التي تقضي حياتها في ذلك العمل القاتل للبهجة. فما بالها لا تكف عن الضحك؟ يسألها:

- كم مرة تنامين مع زوجك كل قمر؟

- اليوم الذي أعمل فيه لا يقربني أسبوعاً بعده. ولأنني أعمل كل أسبوع مرة أو مرتين فإنه لا يقربني إطلاقاً. وعموماً لقد أصبح ناشفاً لا ماء فيه!

- استحي يا أمه!.

- اذهبي واتركينا نتكلم على راحتنا. لا خير فيكِ ولا في أبيكِ.

سألها: هل عثرتم إذن على ابنتكما تحت شجرة الكيمارو؟

- لا تحاسبني على الواحدة. أفهمت يا رجل؟. حدثني عن نفسك.

- دعك مني وحدثيني أنت عن أحوالك.

- أنا نظيفة أغسل يدي بالصابون السائل الذي اشتريته منك وأستحم كل يوم وأجعل صابرا تدعك لي ظهري بأعواد الريحان. شم!

- عندي زكام. أبعدي يدك عني. لماذا لا يقوم هو بدعك ظهرك بدلاً من صابرا؟

- وجهك يا مراقب يشبه القمر عندما يتسكع فوق الجبل.

- والآن يا روح العفونة حددي بالضبط ماذا ستشترين؟

- أنا روح العفونة؟! إنك تشتمني من وراء قلبك.

وقالت لها إحدى النسوة وكانت تعمل في كوخها:

- إن زوجك المجفف يتحذلق ويتأنق ويقول يا أرض انهدي ما عليك قدي!

- هو دائماً هكذا يهتم بمنظره وجماله

- لا أدري كيف يجمع بينكما سرير واحد؟

- لا أدري سر اهتمام النساء بزوجي؟! كلهن به شغوفات،  فهل هن مفتونات بصحته الضعيفة أم بهزاله الواضح أم بعينيه اللامعتين أم بشعره السائح؟. إنه ريشة يكاد يطير في الريح!

قيل لها إن زوجها يتقابل سراً مع المرأة لوكادي وبأصبعه الرقيق يمس شفتها المتحرقة فتزداد اشتعالاً حتى تكاد تلتهم ملامحه المتداعية ويحدثها الحديث العادي فكأنما يلقي في قلبها كل القصص والأساطير الشعبية فيسحرها. تقول له: أنا أحب الزهور يا منجال وأجب مداعبة القمر وخصوصاً عندما يستقر وجهه في قاع اللولو، ولا أحب فحولة زوجي ورغبته التي ينفضها في جسدي كأنما يطعنني بخنجر. انظر إلى كلام المرأة! تقول: لقد زهدته من لقائنا الأول بعد الزواج. طلبت منه مرات أن يسمعني الكلام الحلو لكنه مشغول بتقطيع جسدي. أنت المثل الأعلى عندي، فقط أرجوك أن تزداد بريقاً. يقول لها:

- لو ارتبطنا بالرباط الدائم سأداعبك كما يداعب العصفور زهرة طازجة أو برعماً يهم بالطيران.

تقول له:

- لكني أخشى من الثور الهائج فقد يقتلني

- سأتدبر هذا الأمر.

- سيقتلك أنت أيضاً!

- أموت فداءك وأعيش في قلبك إلى الأبد يا لوكادي.

- لا أريدك أن تموت. وليمت هو!

ولأنها تحبه، ورغم كونها متزوجة، إلا أنها فعلت معه كما يفعل العشاق المراهقون. كشفت له عن صدرها الذي يغار منه القمر فكتب جهة اليمين(من) وجهة الشمال(جال) وقال لها أنتِ حبي الأبدي!

جاء زايادان ليعرض عليه أن يبيع إحدى عينيه للأغراب على اعتبار أن مازوكا تستحق أن يهرب منها زوجها، وأغراه: سنبيع لنشتري أرضاً جديدة ونسكن في النظافة ونشم الهواء الطازج. من يدري يا منجال فقد تتزوج فتاة بكراً تعيد إليك العافية

- لا أريدها بكراً. لا أريد سوى لوكادي التي تعشقني!!

أجل سننتقل إلى الأرض الجديدة ونذهب إلى البعيد ولن يصل إلينا الثور الهائج، زوجها!

لكن غصة في حلقة ألجمته:

- وهل ستقبل بك لوكادي وأنت بعين واحدة؟

- أن يرى الإنسان شيئاً جميلاً بعين أفضل من رؤية أشياء قبيحة بعينين اثنتين، ما نفع العين إن لم تر ما يسر؟! سأبدأ من الآن وأضع نظارة غامقة عاكسة للأشعة حتى تتعود وجهي هكذا، وبعد إجراء العملية سأظل أضع هذه النظارة ولن تلحظ هي أي اختلاف

قال زايادان :

- فكر في الأمر وعندما أتفق مع الباقين سنتقابل عند الموردة لكي نشهد اللولو على عهدنا.

- فليكن اللولو عوناً وبركة!

وتنهد زايادان تنهيدة طويلة وهو عائد إلى بيته. وضع يده على ضميره حتى أمسك بالشوكة فنزعها بأظافره. كانت مدماة. ألقاها على جانب الدرب ومضى يبحث عن شخص آخر ليوقعه في مصيدته.

 

الفصل السابع: النار في المخزن
لا تتوقعوا خيراً إذا لم تتقدموا إلى الوراء!.. وبدلاً من أن تستخدموا أدواتٍ تجعلكم أكثر راحة، عليكم تدمير هذه الأدوات متى وجدتموها. البغل الحارث والحمار الحارث والبقرة الحارثة أفضل من تلكم الآلات التي صنعها لكم الأغراب ليوقعوكم في قبضة الراحة. حيواناتكم إذا حرثت الأرض تركت فيها السماد الطبيعي؛ وبذلك تكون المنفعة مزدوجة. ستكونون أصحاء لأن العمل يقوي أبدانكم وأعصابكم. ارفعوا الماء من القنوات بالطنابير بدلاً من مكن الري. وفروا الفرص للراغبين في العمل فالآلات تقضي على الفرص المتاحة مما يتسبب في تراكم العاطلين. ألستم معي في أن الأسمدة المصنعة التي يأتي بها الأغراب ذات أضرار حتى على التربة الزراعية؟ 

هب زميله مكورا قبضته مبرزا عضلة ذراعه:

- فلينضم إلينا من ينضم لنقضي على هذه الآلات الشريرة، بل وإذا اقتضى الأمر نهجم على مخازن الأسمدة الكيماوية هجوماً كاسحاً.

فغر فاه واتسعت عيناه خلف العدسات:

- نستخدم العنف؟ أليس هذا منافياً لطبيعتنا؟

- لكنه لا ينافي طبيعتهم.

قال ذو لحية كشلال فضة: لم لا نستشير السيد سلمتول؟ لقد تجاوز المائة وصار بالغاً حكيماً بورك في عمره وحكمته.

- أحقاً تجاوزها؟ فكيف إذن لم نحتفل به؟ وأين هو الآن؟

- انتقل منذ شهر للإقامة مع غيره البالغين الحكماء تحت شجرة الكيمارو.

- فلنذهب إليه! لم أكن أعلم أنه انتقل إلى هناك. أما كان الواجب أن نقيم له احتفالا لائقا؟

على ظهور الحمير والبغال كان الترحال، وفي الطريق دار الحديث حول بعض أحوال روح الوادى والجبل واللولو. إن هذا البلد يتغير بسرعة عجيبة.

- أنا سعيد بالقرار 2913 الذي أصدره الحاكم بورك في حكمه.

- أي قرار تعني؟

- قرار محاربة الصحون ومقاضاة أصحابها إذا لم يزيلوها. كادت محطة الشهوة الزرقاء تفتن الشباب.

- وهل تم تطبيق القرار على الجميع؟

- لا قرار يتم تطبيقه على الجميع كما تعلم. ثم إن أتباعه يتحسسون الأخبار وكل من يقع يعاقب.

- وتقول إنك سعيد بهذا؟ إن هذا القرار يفيد الأتباع الذين يرأفون بحال الأهالي ولا يبلغون عن تجاوزاتهم. إنهم لا يفعلون هذا مجاناً طبعاً.

- الرزق ينهال عليهم انهيالاً

وما زال المجرم صاحب مقهى الشفافية يعرض قناة الشهوة الزرقاء على زبائنه في أوقات معينة. يدخل الشبان ليروا العري الفاضح والمباريات الجنسية الماجنة، ويدفعون. بعد ساعة يخرجهم ويدخل غيرهم ويجمع الثروات!

- ولا أحد يحاسبه؟

- قل لي يا أخي، أأنت مع إزالة الصحون وعدم استقبال المحطات الغريبة؟

- بالتأكيد أؤيد إزالتها. لكني أرفض التبرير الذي أعطاه القرار لمنعها. قال إنها مظهر غير جمالي.

- هذه الصحون خطر على الحكومة. إنها العين التي بها نرى ما يخشون. بها نعرف كيف يمكن للمواطن العادي أن يقف وجههاً لوجه أمام وزير ويجادله دون خوف . حتى الـــ ... نفسه يمكن أن ينتقدوه جهراً دون خوف من قطع اللسان، بينما نحن لا يمكننا انتقاده سراً؟ آه يا بلد!! غير جمالي؟. وهل بيوت الصفيح والأكواخ العفنة مظهر من مظاهر الجمال؟

- على أي حال. الصحون لا تهمنا في شيء. عليها اللعنة هي والجرارات وأدوات الرفع والحفر وكل الآلات التي بها يستغنى عن اليد البشرية العاملة.

 لاحت شجرة الكيمارو من بعيد تفرد جمالها وجلالها على المكان. طلبوا مقابلة السيد البالغ سلمتول. جاءهم صبيه ووعد بأن سيحضر إلى الحجرة الملاصقة للبوابة ليقابلهم، وأوصاهم ألا يرهقوه بالحديث. دارت عيونهم في الأرجاء كلها. مهيئين تماما لاستقبال الفيوضات راحوا يترقبون. تقدموا من حضرة الشجرة أكثر فغشيت السكينة القلوب. رفرف الأمان وملأت أطياره الجواء. أطيار ريشها أخضر سندسي تبرق في الشمس. هاهي الشجرة في شموخها الأزلي تنتصب كالجبل الأشم! يمكن هنا الحديث أمامها – وهي مازالت بعيدة وإن تبدت قريبة لضخامتها–  بشيء من الحرية. تساءل إن كان عمر الحاكم قد اقترب من المئة!

- احذر فهذا السؤال من المحرمات ويمكن أن تفقد لسانك بسببه!

- أهو سؤال خطير إلى هذه الدرجة؟

- إن كان ذلك فمعناه أنه سيترك الحكم مرغماً ليعيش مع البالغين تحت شجرة الكيمارو المباركة! هذا إن كان يعتقد فيها!.كل حكام البلد قبله ماتوا دون الستين أما هو فمنذ أعوام كف عن الاحتفال بعيد ميلاده، وصارت المناسبة تمر دون أي تنويه! فهل معنى ذلك أنهم لا يريدون لأحد أن يحصي عليه السنوات؟. انتفخ جيبان تحت عينيه طبقا لرواية من أقسم أنه شاهده في محطة عالمية، أما المحلية فتطالعنا بصورته التى التقطوها له منذ أربعين عاما؟!

 ملأهم حبور جارف وظلال الشجرة تسكرهم، لكن دهشة بالغة غمرتهم إذ رأوا خروفاً أخضر يدخل المنطقة المحرمة ويختفي في أحد دياميسها العميقة! إذن فالإشاعة صحيحة، والخرفان الخضر ظاهرة محققة!! هذا المكان لا يسمح بدخوله إلا للبالغين من الناس الطيبين وصبيانهم وكذلك للمخلوقات الأخرى فلا حرج عليها.

لحيته تمتد إلى سرته بيضاء ناصعة. شاحباً تبدى لهم وإن كان النقاء هو السمة المميزة لمحياه. عانقوه واحدًا واحدًا وقبلوا عظام كتفيه. قدم لهم التحية مشروباً دافئاً. فاحت رائحة القرفة والزنجبيل. انساب حديثه عذباً مقطراً. لم يكن حديثاً. كان تمتمات ودعاء وغمغمات. كأن اليمام يسكن في فيه. كأن القمر يعشش في صدره ومرائيه. بدأ يتغنى أغنية شعبية عن القمر رغم أن الشمس كانت ما تزال تنحدر: 

              يا أيها القمر ، كنت أراك تعلو،

              يا أيها القمر، وأشرب حليبك الدافئ

       أين اختفيت؟ يا أيها القمر

       هل انزلقت قدماك؟ وهويت؟  

رددوا جميعاً خلفه: يا أيها القمر، يا أيها القمر،

وحدثوه فيما جاءوا إليه من أجله فوافقهم على أن البقرة والبغل والحصان والحمار إذا عادت للعمل فإنها ستستعيد شيئاً من احترامها، وهذا أؤيده تماماً.

 كانت الشمس الغاربة تلقي آخر شعاع لها على شمسه شبه الغاربة بينما كان وجهه عندما استلقى على حشية بسيطة يتجه إلى ذؤابات شجرة الكيمارو الباسقة ويحملها في عينيه. هز صبيه الرأس مؤمناً على كلامه وتمتم: كانت ذات مكانة في ماضي أيامها!.

وصمت لأن السيد البالغ الحكيم فيما يبدو سيتحدث:

- آه.  لعلك تقصد تلك الأيام التي كانت تؤكل فيها. كان الإنسان يحترمها لأنه يأكل لحمها. يدللها ويعلفها لتسمن. ثم صدر القرار بمنع التعدي على حياتها ففقدت الكثير من مصداقيتها وأصبح الناس يعاملونها بخشونة ويضربونها بقسوة كأنما هي أجساد لا روح فيها. ثم جاءت الوسائل الحديثة فأقيلت الحيوانات المسكينة من وظائفها. أصبحت مهملة تماماً. لقد أخطأ الحاكم المؤسس حين أقالها!

والمؤسس ليس الحالي. ومع هذا دارت الرءوس على الأعناق بحثاً عن وجه مريب أو غريب. ثمة أناس كثيرون غير معروفين لكن لا شيء يدعو للريبة هنا. ثم إن المؤسس فارق الحياة منذ خمسين عاماً فهل في مراجعة قراراته جرم لا يغتفر؟

- هل أنت معنا أيها السيد البالغ في أهمية أن تعود هذه المخلوقات إلى وظائفها؟

- أنا أنير الطريق فقط لكني لا أقوى على المسير.

- هل توافقنا على أن نحطم الآلات وندمرها؟

- أخشى عليكم من الأنياب والأضراس. أنتم طريون كأعواد الصفصاف!

- هل ...

أشار السيد البالغ بيده أن كفى! حان وقت تأملاتي، مضطر إلى العودة إلى بقعتي المباركة. غادروا مشكورين تصحبكم البركات!.

وقدم لكل منهما عود ريحان يانعاً.

وإذ اشتعلت النار في المخزن الذي يضم الجرارات الأربعة التابعة للمستثمر داولو سرت موجة من الفرح والسرور وشرحت صدور المجموعة الوليدة. لكن في سكون الليل وهدوئه داهمت مجموعة من الأسنان الحادة بيوت ثمانية منهم وتم تكتيف الرجال وإلقائهم في العربة الجيب ونقلهم معصوبي العيون إلى القلعة الغربية وقال كل منهم لنفسه : هلكنا ! 

وفي القلعة انقضى يومان وليلتان وهم في الظلمة الدامسة، الظلمة اللزجة والخوف الحارق. الخوف الأبكم. وفي الجوع الكافر. ثم في اليوم الثالث بدأ السؤال والجواب.

لم يجرؤ أحد على زيارة أهاليهم خوفاً من الشبهة، لكن سرت شائعة مفادها أن العين الساهرة تمكنت من إيقاف الجاني الحقيقي الذي كان غير هؤلاء. وعلى هذا فسوف يرون النور اليوم... وفي اليوم التالي: سيخرجون اليوم... وفي الذي يليه: بل اليوم على الأكثر.... وفي اليوم الثامن: لقد خرجوا!

تشجع الناس وزاروهم خفية لاستطلاع أمرهم، وتهنئتهم بالبراءة، وأيضاً للسؤال عن المعاناة. قالوا: أقل شيء وضع رءوسنا في البراميل حتى الغيبوبة. براميل مازوكا!

ثبتت البراءة. ومع ذلك: أسماؤكم عندنا. سنأتي بكم لدى أي اشتباه.

زايادان يتساءل إن كان هؤلاء الثمانية يمكن أن يوافقوا على اقتراحه: عين مقابل أرض جديدة في البراري المستصلحة. قد تحاول الصحراء التهامهم لكنها أرحم من الأسنان الحادة. آه يا بلد. سأقابلهم وأملأ رأسي بالشوك. أين اختفيت يا قمر؟ أين اختفيت؟ هل انزلقت قدماك وهويت؟ هل سقط رأسك على قنفذ فانغرزت فيك أشواكه الحادة ؟!.

زارهم والهلال هزيل تائه. تحدث إليهم وسمع منهم وتركهم يتفكرون، ثم خرج شبه موقن أنهم سيلبون دعوته ويصبحون من أصحاب الواحدة. سيبيع كل منهم عينا! أكد لهم أنه سيكون معهم، ويقنع الأطباء أن يقتلعوا العين ضعيفة الإبصار!

لم يكد يخطو خطوات حتى استشعر أنه مطالب بالنظر إلى الخلف.

استدار فرأى من يراقبه. توقف فتباطأ الرجل فناداه: ألا تعرفني؟ أنا من حراس الحاكم المحلي!!

- بل كنت منهم!

- معك حق يا أخي!

- ألا تعرف ما في زيارة هؤلاء من خطورة؟

- لو عرفتم ما أفعله لاثبتموني! إنني أحاول إقناعهم ببيع كل منهم عيناً من عينيه لشركة بادامات، ويشترون أرضاً بعيدة، ويتركون المكان وينزحون، وتتخلصون من قرفهم!

- لو لا أني أحب محفوظاتك الشعبية لأصبتك بالأذى!!

- لكنهم ثبتت براءتهم!

- لم يمر على ثبوت البراءة عام كامل. ألا تعرف ذلك؟

 

الفصل الثامن: فقدان التوازن
وعدت مارانا وحان الوفاء. لم تكن تصدق أن ابنها سينجح فيما أخفق فيه الآخرون. سُمح له أن يبني بالطوب الأحمر والأحجار القوية. أصرت على المشاركة في أعمال البناء الخاصة بمنزل ابنها الصياد.

- سأحمل الأحجار على رأسي وأصعد بها على السقالة!!

وجنتاها عاليتان تتحديان الزمن. صدرها مشدود فوق قامتها شديدة الاعتدال. لها ابتسامة اللولو أيام شبابه الغض.

- هذا غير ممكن يا أمي وأنت في هذه السن!، قال دنجو.

بكل ابتسامات البرق وأقواس قزح ونجوم الصيف المندهشة في البعيد، بكل نوّار الزهور البرية، تطلعت إليه متعجبة من عدم إدراكه، وافتر ثغرها عن ومضة سحرية تشربها فؤاده البكر:

- هذه السن؟!

- أعني عندنا العمال كثيرين. ستأتين يا أمي وتجلسين في الظل معززة مكرمة تشاهدين إعمار المكان.

- تمنعني من المشاركة في بناء بيت ابني البكري؟

وكانوا قد فجروا أخاديد ليزرعوا فيها قواعد الجدران التي ستنهض متينة راسخة ونصبت السقالات عندما وصل ارتفاع البناء إلى قامة الإنسان. وهاهو الحائط يعلو قامة الزرافة. لم يتبق إلا مدماك واحد ثم ينصب السقف بعد أيام قليلة. مدماك واحد يا أم ميادو

وكانت قد ناولت أكواب الشاي للعمال وقفزت الفكرة إلى رأسها من جديد فأشارت بيدها كأنما لتعزف اللحن الأخير:

- انتظروا!

أمسكت بجزء من ثوب قديم وأدارته وصنعت منه كعكة وضعتها فوق رأسها. رفع أحدهم قالب حجارة بيضاء وضعه بالطول فوق الكعكة.

لكنها لم تتحرك. رفع قالباً آخر ووضعه بالعرض فوق القالب الأول ولم تتحرك فرفع ثالثاً ووضعه بالطول فوقه وهو ينصحها:

- إنك تثقلين على نفسك يا ملكة الزهور!

انتصبت تماماً. سقط الشعاع عمودياً فغطى ظل جبينها عينيها. غطى ظل خديها ما تحتهما. أشرقت شفتها التي تقلصت يمنة ويسرة تحت ضغط الثقل فرفعت يدها لتسند وتوازن. هاهي تتحرك وتضع قدمها على السقالة ثم تردفها بالأخرى وتعلو. تدفعها الأنظار وترفعها بينما ذراعها الخالية مفرودة على آخرها متكئة على الهواء، والخطوة تنادي الخطوة، والنظر إلى الأفق دائماً إلى أن وصلت إلى المكان. همَّ أحد الشبان بإنزال القوالب من فوق رأسها واحداً بعد واحد، ولم يرَ أحدٌ ساقيها وهما ترتعدان، ولا الدوار الذي سارعت معه بإغماض عينيها كي تنغلق على ذاتها فلا تسقط. لكن الجبل راح يدور والنخيل، وأشجار الصمغ العالية تدور، والسقالة لم تعد مكانها، والأفق غص بطيور الدراج تتموج أجنحتها الهائلة وتدور، وأولادها هي وزوجها أيضاً. العالم كله يلعب لعبة الدوران الطاغي. قام اثنان بمحاولة إمساكها لكنها أفلتت من الأيدي الممتدة وتحولت إلى ريشة كبيرة جرفتها الريح وألقتها. لم تصدر عنها صرخة واحدة.

فتحت عينيها في المنزل على وجه ميادو الذي عاتبها لأنها ركبت رأسها وصممت على رفع الأحجار على السقالة، ولولا أن البركات حلت عليهم لكانت الآن في عداد الأموات.

- أردت أن أشارك في رفع البنيان عسى أن تتذكرني كلما دخلت أو خرجت، نمت أو صحوت. أنا أمك وأنت ابني.

بالبخور كان يطوف حول رأسها وعند قدميها. قالت إحدى جاراتها:

- أقترح أن ينقلوك إلى المشفى الكبير.

- نحن لسنا من المشتركين

- ادخلي ضمن الفقراء. شيء أفضل من لا شيء.

- أحياناً يكون اللاشيء أفضل من الشيء!

أخذت الشهامة ميادو الذي قالت إشاراته إنه سيوقف العمل في البناء ويصرف على علاج أمه. لكنها رفضت بإصرار. كانت أمنيتها أن تشارك في البناء فكيف تقبل المشاركة في تعطيل العمل؟!

باس زايادان يدها مرتين ثم نظر في عينيها ورأى صورته. إنها زوجته وحبيبته وأم أولاده: لا تقلقي يا إوزتي العراقية، سأذهب إلى الحاكم المحلي وأستعطفه أن يعطيني ورقة أذهب بها إلى المشفى الكبير وستنالين الرعاية الكاملة

- أنت يازايادان تتنازل من أجلي؟! لقد أقالوك من عملك ولم تستعطفهم. كرامتك فوق كل اعتبار

- لكنني سأفعلها من أجلك يا إوزتي العراقية، يا مهرتي الوحشية، يا نرجستي الباكية مع الفجر.

وأخذ يفتش في أوراقه: لو أن موضوع بيع العيون كان تم إنجازه لصرفت عليها من عملة واحدة لألف عملة، لكن الأحداث لا تنتظر الوقت ولا ينتظرها. وقبل أن ينام تلك الليلة سأل زوجته المستلقية على ظهرها لا تستطيع حراكا إن كانت فهمت من ابنها أنه عرض إيقاف البناء ليصرف على علاجها فأكدت له ذلك. راوده سؤال: إن كان على علاقة "بهم" أما كان يمكنه أن يطلب منهم العون في علاج أمه؟

***

- اجلس يا زايادان!

كان الذي استقبله في القصر الكبير المطل على الخليج هو موسكاف الذي رفته من وظيفته فمقابلة الحاكم المحلي شخصياً أمر نادر الحدوث. أعرف أنك نادم على ما بدر منك وتريد العودة إلى العمل عندنا، ولو جئت من يومها لأعدناك. إن مخاطبة الأسياد يا زايادان ليست بمثل هذا التهريج الذي أطلت فيه، وعموماً فإن عصاك ذات رأس الأسد التي تركتها منذ تركت الخدمة مازالت تنتظرك.

- إنما أتيت لأمر آخر يا سيدي. سقطت زوجتي على الأرض من مكان عال وأصيبت برضوض أو كسور. إنها ترقد على ظهرها وتنتظر عطفكم ومساندتكم لإدخالها المشفى الكبير في الدرجة نصف الراقية.

سأله أين يقع تحديداً هذا المكان الذي شهد الحادث فكاد يرتبك. لو انكشف أمر البناء المخالف سيكون هو السبب!، لكن إحدى الشغالات في القصر أطلت، وقالت بعد أن انحنت:

- سيدي الكبير يطلبك يا سيد موسكاف

تضاءل القلق على وجه زايادان لكن قلقاً آخر برز خشية أن يتركه الشاب وينسى قصته، وكيف له أن يذكره بها؟ لكن ابتسامة على وجهه جعلت من الممكن استبشار الخير!

- إذن فأنت ترفض العودة للعمل حارساً ليلياً عندنا!

- لم أقل إني رفضت ياسيدي!

- وهل أنتظر إلى أن تقولها؟، وتريد أن نساعدك في إدخال زوجتك إلى المشفى الكبير. اعلم أن أمر عودتك للعمل عندنا قد ألغي تماماً وبلا رجعة فنحن لا نعطف على من لا ينحني لنا، ومع ذلك فلن أبت وأنا غاضب في مسألة العلاج بل سأسمح لك أن تدخل لتعرض الأمر على والدي بنفسك. أتريد كرما فوق هذا الكرم؟.

انحنى وبالغ في انحناءاته وهو يعرض الكيفية التي اخترعها مصوراً سقوط زوجته من على سلم المنزل، والحاكم المحلي يتشاغل بتصفح عناوين الجرائد اليومية والأسبوعية، ثم أطلق الصوت المجسم من فمه المتأهب لارتشاف القهوة باللبن:

- أعرف أنك تعمل عندنا حارساً ليلياً. سمعت عنك. اذهب إلى قلم شئون العاملين وهات إفادة بذلك، وسأحولك إلى المشفى الكبير لعمل اللازم. انتهى.

حاول أن يتكلم فصدمته الكلمة القاسية من جديد: انتهى!.الحاكم المحلي لا يعرف أنك مبعد عن الحراسة الليلية، ومع ذلك ستجرب الأمر مع الباشكاتب سيدون فهو صديق قديم. رأيته يربط رأسه بمنديل ربما بسبب صداع طارئ. أصر أن يقدم لك القهوة السوداء ولم يسألك شيئاً عن أخبار الشغل، بل أعطاك ما يثبت أنك حارس ليلي تمارس المهنة بأمانة وأنك مثال الانتماء وحسن الأداء، وتوجه بنفسه إلى الحاكم المحلي حاملاً الورقة في جملة الأوراق المعروضة – بعد أن خلع المنديل طبعاً – ونال التوقيع الكريم، وفي نفس اليوم قدمت المستند إلى المشفى فألحقت مارانا بالدرجة فوق النصف راقية!

كان هذا فوق مستوى الطموح.

لكن الأخبار حملت إلى تسلاف، ابن الحاكم المحلي، أن أم دنجو تعالج مجاناً في الدرجة تحت الراقية، وكان يمكنه أن يعديها إكراما لدنجو، لكنه تذكر عدم خضوع زايادان فقرر تصعيد المسألة. راجع أباه في الأمر وأطلعه على تقرير الباشكاتب سيدون. هل أخذ رشوة؟ هذا مستبعد لأن المال لو كان متوفراً لدفعوه للمشفى. سيدون أهمل ولم يرجع إلى سجلات الحرس الليلي ليتأكد ما إذا كان المذكور ما يزال في الخدمة...  صباح اليوم التالي جاءت مكاتبة خاصة إلى سيدون الذي ارتعدت أصابعه وهو يفض غلافها قبل أن تبظَّ مقلتاه: استغنينا عن خدماتك!

ظل يحملق فيها وتغيم الرؤى في عينيه . كاد يصيح في زايادان: هل تعالج امرأتك وتخرب بيتي؟!

طمأنه وأكد له أن في إمكانه أن يصبح من الأثرياء، وأن يشتري بيتاً وأرضاً ويعيش عيشة كريمة إذا فعل كما سيفعل الكثيرون. ماذا أخذت من العمل الحكومي؟ أفنيت عمرك وقبضت الريح. مشوار صغير إلى شركة بادامات الطبية وتحل كل مشاكلك يا صديقي القديم. فكر في الأمر وإذا وافقت سأعاونك على الوصول إلى المراد. إن لك عينا لا تكاد ترى بها. بعها لهم!!.

قبل أن يغادره لاحظ أن المنديل الذي يلف به رأسه صار مبتلاً تماماً ورائحة عرقه بدأت تنتشر.

 

الفصل التاسع: مؤامرة اغتيال
ما الذي دفع الفذ الوحيد الذي أنجبته هذه الضاحية العشوائية من ضواحي روح الوادي إلى سلوك هذا المسلك الغير مأمون العواقب، وركوب هذا المركب الوعر، فانضم- كما يقال- إلى مجموعة من الأسنان وضرس كبير، وقاموا بمحاولتهم الانقلابية الفاشلة؟ يقف شعر الرأس واليدين وحتى شعر الصدر لمجرد التفكير في ذلك. إنهم لا يجرؤون على التحديق في صورته فكيف تحدق البنادق في سحنته؟! الذي حدث أن رصاصة طائشة دوت، وأن الذي ظن أنه مطلقها استقبل جسده أربعا وتسعين طلقة، ولم يجرؤ المتآمرون الآخرون على إطلاق رصاصة أخرى، بل تواروا فارين. ومع هذا استطاعت العين الساهرة وعين الذئب والعين التي لا تطرف، كل هؤلاء تمكنوا من توقيف باقي الخلية!. حدث ذلك في الإقليم الخامس، لدى إعادة افتتاح جسر الوفاق. يعلم الجميع أن افتتاحه كان منذ عشرين عاما. هذا الجسر الهائل الذي يلتف حول نصف المدينة تم إعادة طلائه، وأدرج ضمن المشاريع الجديدة. أكدت الجرائد أن عظمته شخصيا سيفتتحه. كلما قرر زيارة مكان احتشد الأمن في المكان، والأماكن المحيطة بالمكان، وعصره عصرًا، قهره قهرًا، ومشطه تمشيطا. كل المباني القريبة يتم احتلالها. التفتيش الهمجي للشقق والأسطح والمحلات والمداخل والمخارج، ثم يتم ترحيل سكان الأماكن الأكثر قربا، وكذلك القبض على كل من لهم ملفات أمنية، والذين اشتبه فيهم ولو من بعيد، وبعد ذلك في كل شرفة يقيم أحد الأفذاذ العاديين إقامة دائمة، وحظك سيء إن كنت في طريقك لأداء امتحان أو لموعد هام: لن تصل. وعند مرور الموكب لا يظهر في الشرفات إلا أفذاذ في ملابس مدنية يلوحون بالأعلام ويهتفون. حدثت أشياء من هذا لكنها توقفت قبل الافتتاح بيومين؛ لأن العيون الساهرة والأضراس الماضغة أعطت أوامرها بأقصى درجات التخفيف. لا معنى لهذا إلا أنه لن يشارك بعظمته في الافتتاح، ولن يقص الشريط ولن ينحني ليقبل البنت الصغيرة والولد الصغير، ويربت بكل حنان على أكتافهما. لم تكن تدابير السلامة محكمة تمامًا لأن الوزير الأول على ما يبدو هو الذي سيؤدي الغرض، أما المتآمرون الذين لم يعلموا فقد وقعوا في القبضة الحديدية. ذاقوا من ألوان العذاب ما تعرفون وما لا تعرفون. طلبوا الموت فامتنع عليهم. ماجت روح الوادي وغيرها من المدن بالمظاهرات الهاتفة بحياة الحاكم الذي تب شانئوه. أما في العاصمة الكبرى فحدث ولا حرج!. بل إن كثيرين كتبوا بدمائهم: نحن الفداء والموت للأعداء. بل إن رجلا ألقاه أعداؤه من نافذة في الدور العاشر تم حفظ القضية، وأعلنت الصحف والإذاعة أن ذلك الرجل ألقى بنفسه ظنا منه أن الفدائي الأول أصابه مكروه.

أما المتآمرون فصرخوا: اقتلونا، أجهزوا علينا!، فكانت الإجابة:

- عمر طويل من العذاب سيمر قبل أن تظفروا بالموت!.

لم يتخيل أحد أن مثل هذا كان يمكن أن يحدث. شخص ما ينتمي إلى هذه الأرض، ويجري في عروقه ماء هذا النهر يمكن أن يضغط على الزناد ليقتل حاكم البلاد؟ مستحيل. وهل مثل هذه الأحداث تجعل الأغراب يشعرون بالشماتة؟ انطلقت الرصاصة وطاشت وكان لابد أن تطيش. حتى لو كانت الأعصاب من فولاذ فلابد أن ترتعد اليد. لماذا لا تحدث مثل هذه التمردات في بلاد الأغراب؟ سقطت دهشة مائتة على وجوه الناس الذين بدءوا بعد الصدمة يغادرون المكان. أين اختفوا؟ انشقت الأرض وابتلعتهم؟

فعلت الصحون رغم تحريمها وتجريم مستخدميها، فِعلها في قلوب وعقول مَن شاهدوها، ومع ذلك لم يجرؤ أحد أن يحكي ما رأى أو سمع خشية أن ينكشف أمره، أما الشاشة الصغيرة المحلية فأوردت أناساً جرحوا أيديهم وكتبوا بدمائهم مبايعة حارة للحاكم المفدى. كان منظر الدم ناطقاً بالحب المقارب القداسة. هاهي الساحة خالية فالذي استقبل جسده أربعاً وتسعين رصاصة نقلوه كالغربال إلى المشفى ليتأكدوا من موته، فمن إذن هذه الفتاة الملقاة بالقرب من المكان جثة هامدة؟. انفضوا وتركوها تحتفل الخنازير بها. تنقض تنهش العينين والأذنين وتمضغ أطراف الأصابع، بل وتغرس أنوفها الكبيرة في الجراح الفاغرة. لابد أنها تتلذذ بذلك، والفتاة رغم تصميم الكائنات الشرهة، على الأرض في استرخاءة الموت، انقطع سروالها في منطقة الركبة اليمنى فأطلت بيضاء شاحبة، أما الرصاصة فغائرة في الرأس. تقدم جندي وقذف الخنازير بفردة حذاء ليبعدها عنها، وشلح قميصها ليغطي به وجهها ورأسها الذي بلا أذنين ولا أنف فبرز أحد نهديها متكوراً في شموخ قنبلة بيضاء تتحين الفرصة لتنفجر. وفي المنطقة الشمالية الشرقية للثدي كانت شامة كبيرة كدب قطبي أسود يرقد فوق صحراء الجليد الشاسعة. ربما لم تكن شامة وإنما بقعة دم متيبسة. أعاد تغطية هذا الجزء من الجسم، ذلك الذي لم تكتشفه الخنازير بعد. بعد القبض على المتآمرين تبين أن هذه الفتاة ليست متآمرة ولا متورطة فسمح لأهلها باستلام  جثتها، وكان والدها قد تبرأ منها فعاد ورضي عنها وسمح لعينيه أن تبكياها بحرقة.

سقط أعضاء التنظيم في القبضة الحديدية واحداً تلو الآخر، وتمنوا الموت فامتنع عليهم...

لم يعترف أحد بما نسب إليه من اتهامات. وفي البداية لم يحدث أي تعذيب صريح، فهل كانت عينٌ سحرية تراقب الأفذاذ حتى إنهم نفوا عن أنفسهم تهمة استنطاق المتهمين بالقوة المفرطة. لم يستخدموا – في البداية – الصدمات الكهربية، ولا حتى العصي المشحونة، ولا التعليق من القدمين والجسم مشبوح، ولا حتى تغطيس الرؤوس في بالوعات المجاري ...ولا وضع الكفين في الماء المغلي، ولا ...

لم يفعلوا – في البداية – شيئاً من ذلك.

حتى النفخ لم يفعلوه ...

فقط أخذوا المتهمين إلى معسكر قرب البراري. أجلسوهم مكبلين على الكراسي الثابتة، عراة الصدور والظهور. لم يغطوا وجوههم ولا حتى أعينهم. دهنوا أجسادهم بالعسل. سلطوا عليهم ضوءاً ساطعاً، وقالوا لهم:

- سنترككم حتى الصباح لنعيد عليكم نفس الأسئلة ونتلقى إجابات أخرى. ناموا مطمئنين وادعين.

لم تمر لحظات حتى أقبلت وفود وحشود الحشرات الطائرة أشكالاً وألواناً، صاروا يتشنجون محاولين تخليص أيديهم من قيودها ليدافعوا عن حرمتهم المنتهكة. الحشرات كريهة المنظر تحط على الرقاب والآذان وتجد لها مأوى تحت الإبط، وبعضها يلبد في البشرة كالقراد يمص الدم بعد أن التهم العسل، أما ما يتنزه منها فوق الجبين والقفا ويتحرك فوق الجفون فإنه ينتزع الصرخات من الأفواه التي ما تكاد تفتح حتى يلتقم الفم المفغور شيئاً طائراً. وفي الصباح كانوا قد استووا تماماً.

ثم في مساء اليوم الرابع ضحك كبير المحققين وفي يده ورقة قرأها مرات قبل أن يهتف: أبشروا، سيعفو عنكم حاكم البلاد، سيقابل إساءتكم بإحسان.

وهذا شيء لم يخطر على بال ولا يمكن أن يصدقوه. كل ما يتمنونه التعجيل بمغادرة الحياة. أبشروا. أبشروا!.

ثم خاطب الجلادين آمراً إياهم بالانصراف، وعاود مخاطباً المارقين: أيها الأشقياء، لن يمسكم بعد اليوم سوط ولا سلك كهربي. وهذه المناشير ذات الأسنان الحادة لن تبعثر لحمكم. لماذا أنتم صامتون هكذا؟ هل أذهلتكم المفاجأة؟ إذن فاعلموا أن عظمته سيأتي ليطمئن عليكم. هذا ما يرشح عن ورقة الحياة والعفو الذي وصلتني. أريد أن أسمع منكم هتافاً ترددونه في تلك اللحظة لتي لا تتكرر. هيا رددوا ورائي: عاش الحاكم الإنسان والموت لأمثالنا!. كرروا ذلك لأدربكم على حسن الأداء! نريد لعظمته أن يسمع منكم هذا الهتاف. هيا. من القلب وبكل صدق كرروا خلفي .......

من أين تنبع الأصوات ليستخرجوها؟ إن أصواتهم مقروحة مدماة. كيف يمكن لأمثال هؤلاء النطق فضلاً عن الهتاف؟

- إذن كرروا خلفي: عاش الحاكم الأعظم والموت لأمثالنا.

- عاش الــ.....حا....كم....

- والموت لأمثالنا.

- والمو....ت....لأمثا...لنا.

- صوتكم من تحت الأرض يجيء. فليأت الهتاف من القلب. أيها الحارس، قدم لهم الماء ليرتووا. قدم لكل منهم نصف تفاحة. هيا!.

التفت خارج المكان فعلم أن عربة نقل المساجين ذات النوافذ الحصينة الضيقة قد وصلت. سيتم ترحيل الأشقياء إلى معسكر الحرية. هو أيضا سيكون هناك. يقال إن الفدائي الأول سيشرف المعسكر! سيناله من الشرف ما يناله. قبل أن يؤخذوا إلى السيارة القاتمة أوصاهم وهم يدفعون دفعا إلى جوفها ألا ينسوا النشيد كيلا يضيع تعبه هدراً!. وهناك، بعض المعاونين ومعهم أصص أزهار يتقدمهم مشرف يتخير الأماكن المناسبة. مجموعة من الفراشين معهم البسط والسجاجيد الفاخرة والكراسي المذهبة. أوامر وتوجيهات تتردد في المكان. تحركات سريعة وحازمة. كل شيء يوحي بأمر هام سيحدث. صورة ضخمة للحاكم الأعظم التقطت له منذ أربعين سنة تتصدر القاعة..

- أرأيتم؟! في حلم أم في علم؟ سوف تتشرفون برؤية عظمته شخصيا. إنكم لم تحاولوا القتل إلا أنكم كنتم في غيبوبة لا تدرون ماذا تفعلون. كنتم فاقدي الوعي والبصيرة، أليس كذلك؟!

دخل بعض الأطباء تسبقهم الممرضات مع إحداهن جهاز قياس الضغط، أما التومرجيون فبأيديهم أوعية بها سوائل وأقطان طبية، فاحت روائح مختلطة والأطباء يحاولون بث الحياة في الأجساد المتهاوية، تشممت الكلاب كل ركن في المكان، وقف الحراس شاهرين أسلحتهم ثم دوى النقير. دقت الطبول وقد ظهر الموكب محاطاً بأفذاذ بلا عدد. انتشر الصحفيون في ستراتهم المميزة والفلاشات تبرق. تم إجلاس المتآمرين على دكة طويلة متجاورين متلاصقين ليسند بعضهم بعضاً فلا يسقطون وقد شدت يمين الواحد منهم بيسار الآخر وأحكمت الكلبشات.  وسوف يعزف النشيد الوطني مصحوباً بالكلمات التي تهز القلوب:   

اللولو الأسمر يسقينا    ..   والحاكم دوماً يحمينا

الجميع وقوف أثناء ذلك إجلالاً لما يسمعون باستثناء المتراصين على الكنبة الطويلة. ظهروا للعيان. أهذا هو الحاكم الأعظم وعن يمينه من؟ ليس الوزير الأول الذي أطلقت النار على موكبه وإنما طارندو الرهيب. كان واقفا بينما هم جلوس!! أهذا ممكن؟! الجوقة تغادر المكان ولم يجلس صاحب العظمة بل توجه في خطى لا بد أنها ثابتة، متأنية، نحو المطرودين من رحمة الوطن. فهم طارندو أنه يترك له الكلام مع هؤلاء الرعاع. طارندو الطويل النحيل، الرهيب، راح يخاطبهم بهدوء:

- والآن، أسمعونا صوتكم، لماذا تآمرتم أيها الخاسئون؟

فصاح بهم المحقق: من القلب. أريد أن يخرج الصوت من القلب.

- عاش ...الحاكم ... الأعظم .

- عظيم .. عظيم . أعيدوا أعيدوا!

ظلوا يكررون الهتاف والمحقق يتمايل ثم طلب منهم إكمال النشيد: الموت لأمثالنا. الموت لأمثالنا. يكررون ويتمايل يشير إليهم بعصاه إلى أن أمرهم صاحب العظمة بإشارة منه أن يكفوا فكفوا. ثم اتجه إلى الصحفيين بطلعته التي تغالب الزمن:

- أسمعتم؟ هل يكفيكم مثل هذا الإقرار بالذنب؟ ماذا تقولون عن نزاهة الحكم في بلادنا؟ المجرمون هم الذين يصدرون الحكم على أنفسهم وهذا منتهى العدل. هل طلب منهم ذلك أحد؟ كلا!. الموت لمن يا هذا، ويا هذا؟

- لأمثالنا. واحداً واحداً أقروا بذلك. ونبه طارندو الصحفيين:

- إنهم يقرون أن الموت ليس لهم فقط أي ليس مقصوراً عليهم وإنما لكل من تسول له نفسه من أمثالهم فيفعل ما فعلوا. سجلوا ذلك على الصفحات الأولى أيها الصحفيون الأحرار!.

وبهدوء أخرج مسدسه من جرابه فران السكون. ابتسم وأعلن: كلفني صاحب الأيادي البيضاء والمنن التي لا ينكرها إلا جاحد، أن أحمي الوطن من الدهماء وأنفذ الحكم الذي اختاروه لأنفسهم وبأنفسهم؟ أنفذه بنفسي!.

رشقهم واحداً واحداً فأخذوا يساقطون. وحدث أن الفذ ابن روح الوادي سقط قبل أن يأتي دوره، وهذه عجيبة! أي قبل أن يأخذ نصيبه من الرصاص؛ ولهذا نال وحده عدد ما تلقى غيره مجتمعين.

عاش أهله منبوذين لا يجدون عملاً فتسولوا، أما منزلهم فتم إحراقه ثم هدم ما لم تأكله النار منه. لم تأخذ الشفقة أحداً على أهل ذلك الفذ لأن الخوف كان يلجم الناس ويكبح جامح عطفهم. مات والداه من الحرمان والكمد، أما شقيقه الأكبر فسيعرض عليه زايادان بيع إحدى عينيه، وكذلك خاله، وابن خاله أيضاً.

ثمة رواية أخرى تؤكد أن ذلك الفذ لم يكن شريكاً في المؤامرة، ولم يكن من بين الجالسين متلاصقين على الدكة ولم يكن من بين الذين أنشدوا النشيد. لم يكن من بين من تعذبوا وأصابهم ما أصابهم. لا. بل كان أحد الأفذاذ الذين دخلوا القاعة مشرفين على الأمن؛ فقد كان موثوقاً به كل الثقة. أليست هذه رواية غريبة؟ فماذا كانت جريمته؟! يؤكد هذا السيناريو أن كل الذي فعله أنه– بعد أن أفرغ طارندو مسدسه في صدور المتمردين– همس صاحبنا في أذن فذ آخر، زميل له:

- أقسم أن عظمته ليس هو الواقف أمامنا وإنما هو الشبيه.

- ماذا تعني؟

استدعاها الحاكم شخصياً فهو لا تخفي عليه خافية وعلى فمه ابتسامة من نجحت شبكته المطموسة في صيد فريسة نادرة: من أي الأقاليم أنت؟

- من روح الوادي، خادم عظمتكم.

- أعرف. أعرف. من روح الوادي قلت؟

- أجل يا سيادة الحاكم الأعظم، من ضواحيها

- لولا ما أحمله في صدري من شفقة ورحمة لطمست معالمها، وأزهقت أرواح أهليها جميعا!! ألم تقل منذ قليل إنني لست أنا وإنما غيري يتنكر في صورتي؟ ألم تقتلعني من ذاتي؟.

ليمونة صار وجه الفذ. لم ينطق فصعق سؤال آخر زميله:

- ألم يقل لك ذلك؟ قل: بلى وإلا قتلتك!.

- بلى يا صاحب العظمة.

كان المسدس الأبيض ما يزال في القبضة الحديدية. ماذا سيفعل الرهيب؟ طلب منه أن يؤدي التحية العسكرية فأداها واستقبل في جانب رأسه رصاصة حارقة خارقة. هذه الرواية يتهامس بها الناس في روح الوادي وضواحيها. هل يمكن لزايادان أن يذهب إلى أهل هذا الفذ ليقنعهم ببيع عين لشراء أرض في المناديح البعيدة؟ ظل يفكر ويتردد. إنه سوف يحميهم من الموت جوعاً. لماذا تتحرك الأشواك أمام عينيه كالذباب الأخضر؟ الأشواك تئز وتحوم حول رأسه ثم ..آه! هذا الألم دليل انغراسها في المخ العليل. هل سيتمكن من نزعها يوماً ما؟ إنك يا زايادان تهوي كل يوم دركاتٍ في بئر بلا قاع.

 

الفصل العاشر: زاميــل و رائيــل
منذ ثلاثة أعوام، عندما وقع المارقان زاميل ورائيل بتهمة أكل لحم الحمام في شهر السلام، عندما وقعا في قبضة العدالة سألهما المحقق وهو يزهو بالنياشين التي تزين نصفه العلوي، إن كانا سمعا عن أحد مات جوعا من قبل.

- لا يا حضرة المحقق فمازلنا نعيش.

- هل ادخرت حكومة العهد السعيد جهداً في محاولة رفع المستوى المعيشي لأفراد الشعب ليرتفعوا فوق حد الفقر؟

- معذرة يا حضرة المحقق فالسؤال طويل.

- أعني: هل بدر من الحكومة أي تقصير؟

- أبداً لم تقصر. كل يوم في إذاعاتنا المحلية نسمع المسئولين يؤكدون أنهم يركزون على محدودي الدخل. يركزون يركزون يركزون حتى يزهقوا أرواحهم!!. قالا الجملة الأخيرة بلا صوت!

- أعني: ألم تستورد الحكومة لحوم طير بكميات وفيرة؟

- بلى. لقد استوردت أوراك وأكباد وقلوب طيور غريبة على مجتمعنا. تلال من القلوب، وتلال من الأكباد، وتلال من القوانص، أما الأوراك فأبراج عالية!

نفخ في وجه زاميل: ألم تأكل منها؟ إن سعرها ميسور للجميع.

- لم أقربها!. بكل تأكيد لم أفعل. وظهر على ملامحه قرف!

- ولمه؟ هل منعك أحد من ذلك؟

- أنا صحيح لم آكل شيئاً من لحم الحمام في شهر السلام، ولم أخالف القانون، لكني لو خيرت بين أكل الحمام في شهر السلام وأكل لحم البطريق لاخترت الأول!

- تقول البطريق؟

- أظن، بل وأكاد أجزم أن ذلك اللحم الآتي من بلاد الأغراب كان لحم بطريق.

ابتسم المحقق ابتسامة المنتصر وعلق حازماً: لقد وقعت في التناقض أيها الكاذب. كيف عرفت أنه لحم بطريق وأنت تقول إنك لم تذقه ولم تطعمه؟

- لأني أرى البطريق على الشاشة وهو يخطو كآدمي، وأظن  تلك أوراكه وأكباده.

- أيها الأحمق، ألا تعرف أنك بكلامك هذا تثير فتنة وتوقع بين الشعب والحكومة؟ وتظهر الوطن كأنه يدعو للحرب والعدوان؟

- الحرب والعدوان؟

- إنك لا تؤمن بالسلام!

- يا سيادة المحقق، أنا هنا بتهمة أكل حمامة وليس بتهمة عدم أكل لحم بطريق.

- تقولها وتصر عليها. ألا تخشى أن يكون عقابك على التصريح بكلمة بطريق أشد من عقابك على التهام حمامة وديعة؟

- يبدو أني محبوس محبوس!

يستدير المحقق ويلقي نظرته العميقة في عيني رائيل:

- وأنت يا متهم، ما قولك في لحم الطير الذي تستورده الحكومة؟

- لولاه علينا لهلكنا يا سيادة المحقق. دام عز الحكومة وأيدت بالنصر والظفر، وأسعاره زهيدة، فهل بعد هذا ..هل بعد كل هذه التسهيلات تسول لأحدنا نفسه فيأكل أي لحم آخر تأباه العادات وتأنف منه التقاليد فضلاً عن نظام الحكم؟ إن المسئولين يصرحون دائماً أنهم يركزون على أصحاب الدخل المحدود ويركزون ويركزون وهم لاشك صادقون في التركيز! 

تهلل وجه المحقق، ورشحت قسماته النور. قال لزاميل بعد أن رشف آخر رشفة من الفنجان، وقلبه وتفحص داخله: انظر إلى البراءة التي تبدو في وجه المتهم رائيل. ألا تخجل أنت من ملامحك الفظة، ومن نظراتك الشريرة، وتقاطيع وجهك العجفاء؟ يا لك من مارق! تدخل المحكمة بتهمة واحدة فتقع في براثن تهمة ثانية، وما ذلك إلا لأن دمك ملوث بأكل لحم الحمام الوديع المطيع!

- والدجاج، أليس وديعاً مطيعاً؟

- ها أنت تعترف بالجرم ولا تحاول تبرئة نفسك! حكمنا عليك بناء على اعترافك بالحبس ثلاثة أعوام مشددة تقضيها في العناية بأبراج الحمام، واعلم أنه طوال تنفيذك للحكم ستظل تعتني بهذه الطيور وتنظف المكان الذي تترك فضلاتها فيه، ولن يكون لك طعام في العشرة أيام الأولى من العقاب إلا تلك الفضلات فهي خير لك من الموت جوعا، وإياك إياك أن تسول لك نفسك أن تتذوق لحم حمامة لا في شهر السلام ولا في سائر شهور السنة! لأنك في هذه الحال ستعدم شنقاً. مفهوم؟

وبعد أن مرت السنوات الثلاث، خرج زاميل إلى الحياة التي لم تستقبله بترحاب، بل ارتسم التقزز على الوجوه والشفاه  فقابل الجفاء بجفاء، وامتلأ حقداً وكراهية. من أجل هذا سيقتنع سريعاً ببيع إحدى عينيه. سيقول لزايادان: قضيت من عمري أعواماً غاليةً متهماً بأكل حمامة، وقلب لي الناس سحنهم وأظلمت الحياة في وجهي. رغم أن عقوبة أكل لحم الحمام في شهر السلام غير واضحة إلا أنهم عادلوا الجرم بسنتين و أضافوا سنة ثالثة لتلفظي بلفظة بطريق واصفاً بها الطير الذي استوردت لنا الحكومة لحمه لغريب. أليس هذا ظلماً بشعاً؟ أجل يا زايادان سأبيع إحدى عيني لأنظر إلى الوجود بعين واحدة فقط .

 

الفصل الحادي عشر: كائنات بقع الدم
مارانا ترش الزهور بالماء، والأغصان المستحمة تتمايل. ثمة حوار لا شك تتبادله مع الأزاهير كل صباح، لكنها الآن تنظر إلى الصفيح الذي يغلف الخشب وتتمنى لو أعيد بناء هذا المنزل. ترفع بصرها إلى قرني الثور وتستطيع تجاهل شيء في هيئتهما. ينفتح شباك في قلبها يطل على شجرة الكيمارو. ترى اللولو كتنين من فضة يسري في الآفاق، ماؤه الطهر والعذوبة، لا يحده شاطئان ولا يتبدد ماؤه في الجواء، وإنما يتحرك متموجا كالتنين رادونجا. هنا اكتملت اللوحة فشهقت وتمنت بيتاً جديداً لها ولزوجها وخصت من الأبناء دودو الصغير. كان حافي القدمين يلعب بحجرين يثبت أحدهما ويقذفه بالآخر وكلما أصاب النشان صفق بيديه السمراوين متعاجباً مفعماً بالسموّ!.

هذا الصباح، عندما أيقظته اشتكى لها من كائنات صغيرة تهاجم يديه وقدميه وهو نائم فيصحو يتهرش. ضحكت وقالت له:

- إنك تريد أن تعود للنوم إلى جانبي أيها الماكر الصغير! منذ استغنوا عن خدمات أبيك وأنت زهقان لكنك ستتعود!، أم إنك تريد أن تنام مكانه ويرحل هو إلى حجرة ميادو ودنجو؟!

- بل أريده أن يعود إلى عمله الليلي!

وفي الليل اقتحم حجرة والديه وزحزح أمه فأيقظها، جلست في السرير وفغرت فاها. كرر شكواه وصمم على رفض تفسيرها لكنها في الصباح جذبت يده إلى الشمس وحدقت في ظاهرها ورفعت حاجبيها!

- إنك صادق يا دودو!!

تمكنت من رؤية بقع حمراء متقاربة في ظاهر اليد الصغيرة. باسَتها وقدمت تفسيراً لم يعجب الولد: جلدك رهيف جداً أيها الملاك!!

ضرب حجراً بحجر، ثم اعتدل وتطلع إلى قرني الثور وشكا إليهما: هناك من الكائنات الصغيرة ما يلدغني! هل يتمكن صاحبكما أن يبعدها عني؟!

ولاحظ شيئاً مختلفاً فيهما لكنه عاد إلى حصواته ليلعب. أكدت له أمه: الليلة سأطلق البخور بكميات كبيرة ولن تشكو من شيء صباح الغد!

لكن يده الصغيرة ظلت تضرب باب حجرة والديه النائمين ففتحت له.  جمعته في حضنها، وتوسلت إليه أن يكون ولداً طيباً، وألا يعود إلى فعل ذلك، لكنه أصر على عدم العودة إلى سريره: لن أنام إلا هنا!!

أدخلته إلى المضجع الدافئ فتقلب والده على جنبه الآخر وعينا الطفل ترقبانها. رآها تفرد فرشاً على أرض الحجرة لتنام. همَّ أن ينزل إليها لكنها أشارت إليه أن الزمْ مكانك! ونهضت وطبطبت عليه ومررت يدها من رأسه حتى قدميه فتثاءب واختفى بريق عينيه تحت الجفون المطبقة. في نور الفجر تطلعت في يديه فأكلها قلبها. دخلت لتسوي الفرش في حجرة أبنائها الذكور. فتحت الشباك لشمس الضحى التي فرشت المكان. تنبهت إلى دودو وقد وضع رأسه الصغير بين يديه وحدق في المرتبة ثم صرخ: انظري يا أمي إلى بقعة الدم المتحركة هذه!

- أين؟

حملتها على راحة يدها وذهبت بها إلى الشمس ثم شهقت:

- حقاً إنها كذلك! يا للخزي!!

رفعت الملاءة التي كانت فردتها فكومتها جانباً، وبعينين تدققان وتنفذان إلى العميق تأملت في ثنايا المرتبة، وبإصبعها شتتت هدوء الكائنات المتخفية وشهقت من جديد: حقاً إنها بقع الدم، يا للخزي! وصارت تجمعها واحدة واحدة وتفجرها، والبقع تحاول الهرب لكن أصابع مارانا كانت تعمل في سرعة وإنجاز. أمسكت يده وقبلتها، وتساءلت كيف سهرت هذه الكائنات على هذه اليد الصغيرة واخترقتها. يتابع بعينيه القلقتين بقعة تتحرك وتمرق وكأنها بلا أرجل فيمد أصبعه ليفعصها، لكن أمه تنهاه كي لا يوسخ السرير. تستخلصها وتقضي عليها. وكانت تاتولا وبدوالا  قد أحستا أن شيئاً غير عادي يحدث فأقبلتا على أمهما التي غير القلق تقاطيع وجهها وهي تشير إلى بقع الدم المتفجرة تفوح رائحتها الكريهة: يا للخزي! وأصدرت أمرها:

كل ما في هذه الحجرة ينقل الآن إلى خارج المنزل ويتم تنظيف المكان ورش الأركان. سيحدث هذا يومياً حتى أقول لكما: يكفي!

- مهما فعلنا يا أمي لن نفلح لأن البقع تتخفى في تجعدات الجدران وثنايا الطلاء القديم و .....

ولم تسمعهما لأنها كانت مشغولة تفتش في ذاكرتها عن سبب هجوم البقع على هذا البيت الذي لم يعرفها من قبل!، وكان زوجها منذ استغنوا عن خدماته يخرج يومياً ويمكث ساعات طويلة خارج المنزل ولا تدري ماذا يفعل ولا إلى أين يذهب، وتسأله فيقول لها: أعمل!.ورغم ذلك لا يأتي بنقود وإنما يتمتم: سأتقاضى مبلغاً كبيراً دفعة واحدة! الصبر يا مارانا! جلست على صخرة مستوية. ترى أي جرم ارتكبته وتخفيه عنى أيها الرجل؟! رأسها في ظل شجرة، أما قدماها ففي الشمس. لمحت دودو واقفا عند مدخل المنزل، استولى عليها إحساس أنها ظلمته، وأن الكائنات استفردت به وحده! بقع الدم تجاهلت أيدي وأرجل أخويه، وهجمت على لحمه الطري. أشارت إليه فطار إليها كحمامة. احتوته في حضنها، ثم طلبت منه إحضار زجاجة الطيب من الداخل. بللت يدها وسغسغت رأسه. تضوع العطر في المكان وتبادل التحية مع الزهور. تخللت شعره الناعم بأصابعها. هو الوحيد بين أبنائها الذكور يتمتع بنعومة شعرها هي!. رفعت وجهه لتفرش عليه عينيها. تأملت البحيرتين الواسعتين. في أطرافهما شيء من العماص! لم تغسل وجهك جيدا أيها المهمل! تعال!.أمالته وأراقت سيال ماء على رأسه. ينفرق شعره إلى جهتين والمياه مندفقة. الشمس تجعل ما تفعله أمه محببا. برزت بالمشط وقالت أي وزر ارتكبته من وراء ظهري يا رجل؟ لا تحل بنا المصائب إلا جراء وزر عظيم.

ظنها الطفل تقصده، فشهق: أنا ؟        

 

الفصل الثاني عشر: ذَوُو العين الواحدة
لماذا ظهرت كائنات بقع الدم في منزلنا؟ لست أنا السبب الوحيد، هذا مؤكد. ابني ميادو تتحوط الظنون سلوكه المشين!؛ عين للأفذاذ منذ أعوام والبقع ظهرت في حجرته!. لم تظهر في حجرتي أنا. إن كنت السبب كانت ملأت سريري!. تنهد بوجع وضرب دماغه بقبضته ضربتين!: يا لي من شرير أتهم ابني لأنجو بنفسي! لا تقلقي يا امرأتي سنترك هذا المنزل عاجلاً أم آجلاً بذكرياته وكائناته الدموية!

- عن أي منزل تتحدث؟ دع عنك أوهامك وحل هذه المشكلة!. كأنما تنذره إن تقاعس. قال: تعالي! وسحبها من يدها. طاوعته مترددة. انكفأ إلى الصندوق القديم، وتوقف كأنما نفد وقوده. وقفت ترقبه وهو يرفع الغطاء. سحبت يدها: ماذا ستفعل؟ شمر ذراعيه وأزاح الغطاء الثقيل فظهرت الكتب الدفينة مثقلة بالزمن وغبار الوحشة. كادت ترمقه باستهزاء وهي لم تستهزئ به أبدا.  استخلص مجلدا، مسحه بكم جلبابه فقامت وأحضرت له قطعة قماش. تناول كتابا آخر ثم توقف عند ثالث منزوع الجلد، ورقه أصفر. تأمله مليا ثم ابتسم لها: هذا هو!! به كثير من الفوائد. إنه من أدبنا الشعبي الحقيقي. وعندما رأي اندهاشتها أخبرها أن بالكتاب فائدة لطرد الحشرات من المنازل. لوت بوزها وقالت اذهب لشراء مبيد حشري وادفن كنزك في تربته!

إنه يعرف سر تمردها المفاجئ. ذلك لأنه حائد عن الدرب القويم. هذه علامة واضحة! لم يحدث أبدا أن تنكرت مارانا للأدب الشعبي. أما آن له أن يعتبر؟ انظروا! بعد أن اشترى لها البودرة ذهب إلى حيث كثيرون استجابوا له، أولهم منجال زوج مازوكا، ثم المتهمون بحرق مخزن الجرارات، ثم أقارب الفذ المغدور ابن روح الوادي، بلدتنا عاصمة الإقليم السادس، سنترك روح الوادي والإقليم السادس بأكمله، ثم زاميل آكل الحمام في شهر السلام، وغيرهم وغيرهم، حتى وصل العدد إلى اثنين وتسعين عيناً يراد بيعها، ثم هناك فريق آخر وهم المرضى شبه الميئوس من شفائهم كالمصابين بسرطان الرئة لكثرة الدخان أو حاملي الفيروسات الشريرة، وهؤلاء احتار زايادان هل ستقبل شركة بادامات التعامل معهم أم إنهم يشترطون السلامة؟ وعين المريض بالسيدا إذا نقلت إلى شخص ما تنقل إليه المرض؟ اكتفى بالاثنين والتسعين الذين يعنون بالنسبة له قرابة العشرين ألف عملة، وهذا مبلغ كبير سيرفع رأس ابنته تاتولا وسيجد لابنه دنجو مكاناً مرموقاً في المعهد الذي يرغبه. سيبيع البيت ويشتري أرضاً هناك في البعيد إن قرر ذلك.

واتفقوا على موعد حددوه يتواجدون فيه على موردة اللولو لأداء القسم، وكانت طيور بيضاء تحوم فوق ماء النهر كأنما تتابع صورتها المعكوسة ولا تنقضُّ إلا فيما بين القنطرتين.

- إن الطيور خير شاهد على أن النهر لم تعد به أسماك.

- إلا في المنطقة المحرمة علينا!

- إن كان ذا صحيحاً فماذا يفعل هذا الرجل الجالس وبيده صنارة ؟

- إنه يصيد القمر الغارق في الماء!

- فلنتحدث بصراحة عن سر انعدام الأسماك في النهر؟ بصراحة مادمنا مقبلين معاً على عالم نصف العمى!

- بل نصف الإبصار!

- ربما يا إخوتي لأن ماسورة ضخمة آتية من المصنع الضخم الذي لا أجرؤ على اتهامه، هذه الماسورة يقال إنها تصب في النهر

- وبعض مواسير المجاري أيضاً!

- لا تردد الإشاعات!

- أقسم بعيني الاثنتين في آخر يوم يمكنني فيه ترديد مثل هذا القسم أن ما أقوله صحيح.

- ومع هذا فنحن مازلنا ننظر إليه بقداسة بحكم التاريخ الطويل والموروث الرائع والأمل في الغد عندما يحين موعد الزلزال الأبيض!

- بلا شك. هذا الزلزال لن يصيب أحداً على الإطلاق. لن يضار منه إنسان ولا حيوان ولا بنيان، بل قد يعيد إلينا العين التي سنفقدها.

انتفض زايادان كأنما هب من كابوس: إعادة الأعضاء المفقودة سيكون في مرحلة لاحقة.

وفي المشفى الخاص الذي أقامه الأغراب أجريت العمليات، وبعد الإفاقة من المخدر بدءوا يتجاذبون الحديث ويتسامرون رغم الحزن الكامن. قال أحدهم الذي يبدو أنه سيتزعمهم: لن نقطن قنوطنا! سنخرج من عباءته السوداء!

وكان زايادان – هو الآخر–  في سريره الأبيض! عينه مربوطة بالشاش يبتسم لهم ويحذرهم: لابد أن يأتي اليوم الذي يظهر فيه التنين رادونجا بعد سبات آلاف السنين. الأتباع في انتظاره فهو على وشك الظهور! علاماته موجودة وواضحة!

- تقول علاماته؟ أنر عقولنا!

- عندما يشكو نهر اللولو من الشوائب التي تدنس نقاءه انتظروا عودتي!.. ذا هو صوته

- كأني أسمع ذلك لأول مرة!

- وها أنتم ترون .. المصنع الذي لا أجرؤ على تسميته يلقي بما في أحشائه إلى النهر، وبعض أنابيب الصرف تنصرف إليه. سيستيقظ رادونجا ويبتلع ماء اللولو حتى لا يبقي فيه قطرة واحدة، ثم، من تحت جذور شجرة الكيمارو، ستنبثق الينابيع وتتفجر، أما السحب فستتجمع في صف طويل فوق المجرى وتنهمر انهماراً. أجل سيأتي الفرج ماءًا نظيفًا نقيًّا ينزل إليه الناس كلهم بلا استثناء ومعهم أعواد الريحان فيغسلون أجسادهم ويطيبونها. كل واحد يغسل جسد الآخر، ويتسامحون ويتعاهدون على الإخلاص والنقاء، بل ويتحاضنون

- رجالاً ونساءً؟

- انظر إلى انصراف ذهنك إلى الجسد. تطغى عليك الغريزة وتجذبك رغم آلام عينك المفقودة!

- الغريزة لها عين واحدة هي الأخرى!

لأول مرة يضحكون حتى اهتزت السرر، وأكمل زايادان:

- سيكون الأمر على غير ما تتخيل. ستخلي الغريزة كرسي عرشها للسمو الأخلاقي. حتى الذي لا أجرؤ على تسميته سيأتي إليَّ وإليك وإلى كل من أصابهم الضرر بسببه فيستعطفه ويستسمحه.

- أنا لن أسامح أحدًا ممن ظلمني. ولكن قل لنا: أأنت من أتباع الزلزال بلانكال الأبيض أم التنين رادونجا؟

- من أتباعهما معاً. الزلزال الأبيض سيأتي حتماً أو  ترتج الأرض دون أن تسقط البنايات ولكن أرواح الإنسان هي التي ستتزلزل حتى يأتي الظالم ويستسمح المظلوم ويسترحمه. يحدث ذلك قبل أن يجتاز الناس النهر ماشين على صفحة الماء، والظالم الذي لن يسامحه المظلوم لن يستطيع اجتياز النهر. سيغرق إن لم يأخذ خصمه بيده ليوصله إلى بر الأمان.

- أنا لن أسامح أحداً ممن ظلمني!

- بل ستفعل؛ لأنك لا شك ظلمت غيرك، ومن لا يسامح لا يسامح

- وماذا عن شجرة الكيمارو؟

زايادان يشعر بالفخر أمام الأغراب الذين يتابعون الحديث؛ لأنه هو الذي يتحدث عن تلك الموروثات، ويشيد بتلك الأعاجيب المأمولة، ولولا خوفه من انكشاف أمره لنهض ونزل من على السرير وأخذ يتشقلب ويتقافز أمام الجميع.

- شجرة الكيمارو التي قد لا ترون ثمارها ولا أوراقها بل تسكنها الطيور حيث آلاف الأعشاش وملايين الزقزقات، إنها على الناحية الأخرى من الجبل، لكن جذورها لاشك متصلة بماء اللولو، تسللت من تحت عجيزة الجبل ووصلت إلى ماء النهر ربما في المنطقة المحرمة؛ ولذلك هي غنية بالأسماك.

- المجد للشجرة المباركة!

- البركة لمن يستظل بظلها ومن يقتات بثمرها الذي يظهر مرة واحدة كل خمسين عاماً!

- سمعنا أن نجماً في السماء يظهر كل نصف قرن ويلقي عليها بوميضه الفضي فتزدهر!

- هل ذاق أحدكم تلكم الثمار؟

- أنا، صاح زايادان، أطعمني منها أبي لأنه كان يعلم أسرارها. الثمار لا توجد إلا في الأعالي وبالتحديد في ذلك الجانب المواجه للنجم. أيها الناس، خافوا عليها من الذين يتآمرون للظفر بها، ويدعون أنها لهم وليست لنا، أقيموا حولها سوراً لحمايتها منهم!

- ولكن الجزء الشمالي الغربي استولى عليه الطامعون منذ ثلاثة قرون، وهذا الجزء لن يكون باستطاعة أحد منا أن يمر عليه بالسور.

- يمكننا شراؤه منهم.

- أنشتري مالنا بمالنا؟

- أهناك حل آخر؟

- الزلزال الأبيض ... قد يطهرهم أيضاً

- لن يطهرهم إلا إذا نزلوا النهر، ولن ينزلوا لأنهم يكفرون بقداسته

- أما من وسيلة أجدى وأنجع؟

- السلاح.

- سلاحهم أقوى!

- عزيمتنا أشد!

- لا أظن ذلك؛ فليس فيكم من يبيع نفسه من أجل شجرة!

صدمهم بالحقيقة فلم ينطقوا. عليه أن يواصل الحديث؛ فالعيون المحدقة تعلن رغبة الوجدان في سماع بقية الحكايات.. قال إن رادونجا سيبدأ ظهوره من منطقة الشجرة، ربما من بين جذورها القوية. تحدث  عن إشاعة تسري هذه الأيام، عن خراف خضر تمرق من البوابات. تدخل إلى منطقة الشجرة. تختفي تحت الأرض!

- إنها من العلامات!!

- أخشى أن تكون من الأمور المهلكات!!

- وأنت أيها الطبيب الذي أظنك تصغي إلى أقوالنا، لن نسامحك لأنك سلبتنا جوهرة لا يمكن تعويضها.

- أنتم الذين بعتموها وقبضتم الثمن!

وفي الأسبوع التالي وأقدامهم في النهر، قال زايادان ونظارة سوداء تغطي عينيه إن أبناءه ثاروا عليه وهددوه بالمقاطعة إذا لم يقدم طلباً لاستعادة عينيه، بل إن ابنه ميادو ذهب وقابل رئيس الفريق الطبي لوكالة بادامات واتفق معه على إعادة الخمسة آلاف مضافاً إليها ألفٌ سادسة ثمناً للعملية الأولى، وأخرى سابعة ثمناً للعملية الثانية التي يعيدون بها العين إلى موضعها.

- معنى ذلك أنك ستستعيد عينك؟ ومن أين لابنك بهذا المال الذي لا يحصى؟ ثم كيف تمكن شخص مثل ميادو من هذا الحوار؟!

- عموماً سأقاوم لأبقى كما أنا، ولكني أعتقد أن كل من في البيت مصممون على إعادة عيني إلى مكانها.

- هذه خيانة!

- كان من الممكن أن أخفي ذلك عنكم!

- وإذا أردت أنا أيضاً استعادة عيني هل أدفع ألفين إضافيتين؟

- ثمناً للعمليتين!

- إذن واحدة تكفي. واحدة تحل محل أختها. اعتنقنا آراءك يا زايادان وخلوت بنا !!

وهمس أحدهم: هنيئاً لابنك بالأموال التي يملكها!!

- ماذا تعني يا رجل؟

- لا شيء! أتمنى أن يكون كلامي خفيفاً عليهم!  

بعد أسبوعين تطلع ذوو العين الواحدة إلى وجه الرجل الذي خلع نظارته السوداء. رمقوه مشدوهين.  يتحدثون إليه وعيونهم في عينيه وسؤال صارخ لا يجد إجابة: أيهما المعطوبة؟ وصرخ زاميل:

- لا أثر لأية جراحة!

- الفضل لعملية تجميل إضافية كلفتني الكثير!.

- كان ابنك من الأعيان ونحن لا ندري!.

حاول التقرب منهم بكل وسيلة لكنه لاحظ أنهم لا يولونه القدر السابق من المودة فكأنهم اتفقوا على معاداته.

ها هم يجمعون الرأي على شراء أرض جديدة مستصلحة؛ فأسعارها أقل كثيراً من الأرض التي تروى مباشرة من المجرى الرئيسي للنهر. جمعوا أموالهم معاً وسلموها لأقدمهم سناً وأكثرهم حكمة وهو ناهلدو ذو الشارب المجدول، الذي قابل المسئول في العاصمة وعاد ليخبرهم أن المبلغ يشتري تسعين حوضاً صالحة تماماً للزراعة فتمنوا لو كانت تزداد حوضين!  أخبرهم أن الأحواض متصلة كأنها حوض واحد وسيتم تقسيمها بالعدالة وإن كان يرى عدم تقسيمها الآن إلا بعد أن تزداد ثراء وإنتاجاً فتهللت أساريرهم برهة قبل أن يسأل أحدهم: ولكن أين سنقيم؟!

- اطمئنوا. ستتسلمون منازل للإقامة الدائمة.

فملكتهم الفرحة! جلسوا أمام المسئول في مكتبه الفخم، وبعد أن وزع عليهم السجائر الفخمة ناولهم الأوراق وابتسامته تشرق. أمرهم أن يوقعوا! اندهش ناهلدو وقد لاحظ أنهم سيوقعون على  شراء مئة وثمانين حوضاً!

- لا نفهم!.

- العدد لفعلي تسعون لكنكم ستوقعون على شراء الضعف 

- وما معنى ذلك؟

- بعد توقيعكم على الشراء ستقومون ببيع نصف الأرض إلى المشرف الأول على عملية الاستصلاح، بيعاً صوريّاً.

- من هو؟ وأين هو؟

- هذا لا يهمكم في شيء. إنه إجراء شكلي. لماذا تترددون وماذا سيضيركم؟

- إنك تسلمنا نصف عدد الأحواض!

- أما رضيتم وفرحتم عندما علمتم أنها تسعون؟

- بلى!

- إذن هي تسعون

- ولكنها في الحقيقة مئة وثمانون.

- ليس هذا من شأنكم، وأنصحكم إذا أردتم العيش في أمان دون أن يتعرض لكم إنسان أو شيطان ألا تفتحوا عينكم على آخرها!

قال ناهلدو لزملائه: لقد رضينا أيها الأحباب بنصف البصر، أفلا نرضى بنصف الأحواض؟!. مع هذا لم يأيسوا، وكان ناهلدو بارعاً حقاً إذ تمكن من إقناع المسئول أن يسلمهم حوضين إضافيين. إذن سيوقع كل منهم على استلام أربعة أحواض يبيع حوضين منها بيعا صوريا؛ أي دون ثمن. مع هذا كان لا بد أن يفرحوا، بل واندفعوا نحوه يعانقونه.  كانوا سعداء وهم يوقعون أو يبصمون ولكن السؤال الذي كان يتردد في كل رأس: لو كل أرض تباع يوهب نصفها للمستصلح الأول الذي لا يسمى، فكم ستبلغ مساحة أراضيه؟ لكن هاجساً كان بالمرصاد: من أدرانا أنه سينال شيئاً؟!

- أيأخذ كل هذه الأراضي وهو لا يدري؟!

- ومن أدراكم أنه هو الذي سيأخذها؟

- فمن إذن؟

جاء من أقصى الحجرة صوت كالتهديد: إنها ليست له! أيرضيكم هذا؟! أتريدون أن أقول لكم إنها ستؤول إلى- وتلفت حواليه- طا...ر...ندو؟!

- اخفض صوتك! لم نسمع منك شيئاً أيها الرجل!!

وكثرت تعليقات: أصحاب هذه الأراضي كلهم من ذوي العين الواحدة، فما تفسير ذلك؟ أهكذا ولدتهم أمهاتهم؟ تقاربت الأقوال ولا أحد من الجيران الجدد يجرؤ أن يسأله؛ لأن المبدأ الأساسي للمعيشة الهانئة هنا هو عدم التدخل في شأن أحد. مع هذا فإن ناهلدو الحكيم، وبعد تفكير عميق، اخترع تفسيراً قدمه للناس دون أن يسألوه: هل تسمعون عن منجاروكالا الرهيب الذي كان يحكم الإقليم السابع؟ لقد رأى فيما يرى النائم أن أحد أطفال قرية زنعا سيكبر ويقتل أحد أحفاده!

- أحفاد من؟

- أحفاد منجاروكالا، ويقال إنه رأى هذا القاتل وعيناه تطلقان شرراً، فقرر الانتقام من أطفال قريتنا جميعاً، وخافت أمهاتنا علينا ففعل بنا آباؤنا ما ترون لأن الذي لا يسمى قال: وعيناه تطلقان الشرر!.أما وقد صار كل منا بعين واحدة فإن الشك فينا لن يتطرق إليه وبذلك نجونا من قبضته!

- إذن فأنتم من قرية زنعا ؟ ظنناكم من روح الوادي!

- لم نسمع عنها!

- أن يفقد الإنسان عينه خير من أن يفقد حياته كلها.

أعجبت هذه القصة المخترعة كل أصحابها، وقال منجال:

- أحسنت يا ناهلدو، إن فقء العين في الصغر يعيب آباءنا، أما بيع العين في الكبر فيعيبنا نحن. أن يعاب غيرنا أفضل من أن نعاب نحن.

- غيرنا؟!

- ليس لدينا وقت فنضيعه في الكلام. سنسترزع هذه الأرض أشجار فاكهه، ولا مانع من أن تتمدد تحت الأشجار مدادات بطيخ. ثم نجلس في الهواء الطلق لنجمع آراء الناس المجاورين لنا، ونقلم أفكارهم ثم ننشئ حزباً نعبر فيه عن طموحاتنا.

- حزب أصحاب الواحدة؟

- لم لا؟! هلموا يا رجال!

- إلى العمل أم إلى الكلام في السياسة؟!

 

الفصل الثالث عشر: ذلك الزلزال الأبيض !
سرت تكهنات مفادها أن السيد لونامون سيؤسس حزبًا جديدًا يجعل من العلم جناحًا يحلق بالإنسان إلى آفاق المستقبل. هذا الرجل الذي وهب نفسه لمحاربة الخرافات والخزعبلات: استيقظوا! هبوا! انفضوا تراب الجهل عن كاهلكم!. تلامذته في كل مكان يروجون لأفكاره، بل إن بعضهم يستميل أناساً من أحزاب أخرى للانضمام إلى الحزب الوليد؛ لذا كان على شائعات بعينها أن تسري وتتردد من فم إلى أذن، واندهش الذين سمعوا أن السيد لونامون لا ينكر الزلزال الأبيض؛ بل إن شائعة تنسب إليه أنه قال إن ذلك الزلزال لا يتنافى وروح العلم. عندما كان يختار الموقع الذي حلم به لإقامة تلسكوبه الخاص لم يكن هناك أفضل من جبلنا الشاهق. من يريد أن يسبح بعينيه في الملكوت فليأت إلى هنا وسوف يرى ما لا يراه الآخرون. قال تلميذ: العلم لا يتعارض مع التاريخ الشعبي في النقطة الخاصة بالزلزال الأبيض، وأيد تلاميذ آخرون هذا القول، وعلى كل مؤمن بذلك التاريخ ضرورة العودة إلى الماضي العريق، وإن كان المشككون لم يسكتوا، واتهموهم باستمالة هؤلاء الرعاع من أجل أصواتهم فقط.

- هل يمكن أن يكون لونامون محتالاً أو دجالاً؟!

- لم نقل عنه ذلك، إنه عالم جليل وكفى. فليترك تاريخنا لنا.

- ربما يكون الحديث المنسوب إليه عن الزلزال الأبيض صحيحاً، وفي هذه الحال تجد موروثاتنا الشعبية سندًا من العلم يقويها ويجعلها تصمد في وجه التيارات الوافدة. لقد عاش لونامون سنوات عدة في بلاد الأغراب، ثم عاد ومازال تاريخ بلاده يعيش تحت جلده. هل تحدد موعد الاجتماع التمهيدي للحزب؟

قال أحد التلامذة:

- حتى الآن لم يحصل السيد على ترخيص، لكنه يريد أن ينعقد أول اجتماع بعد ثلاثة أيام، وتحديدًا يوم الحادي والعشرين من الشهر السابع

- تحديد مقصود؟

- لا أدري لذلك سبباً. فلننتظر وسنعرف.

- وإذا لم يحصل على الترخيص قبل ذلك التاريخ؟

أكد أتباعه أنه قال: سينعقد الاجتماع!، فعلى كل منكم أن يخبر غيره لنضمن كثرة عددية ترفع الروح المعنوية للسيد وتجعله يحس أنه ليس وحده المتحمس للعلم. هل ستحضر يا دنجو؟

- نعم سأحضر أنا وأبي وكذلك تسلاف أخي الجديد.

السرادق الكبير شبه ممتلىء. في الصدارة صورة هائلة للفدائي الأول، لا يجوز أن يحرم منها مجتمعون.  توجد أيضا لافتة كتبت بماء الذهب، علقت تحت الصورة مباشرة: تحت ظل حكمتك نتلاقى يا حكيم الزمان.

يتوافد جمع من محبي العلم وعشاق التقدم الحقيقي. انضم إليهم حشد هائل من عاشقي التاريخ الشعبي جاءوا على أمل أن يحدثهم لونامون عما يطيب خاطرهم تجاه أفكارهم الموروثة. إن هذا أول عالم يربط العلم بالموروثات الشعبية. حانت الساعة ولم يظهر العلامة بعد حتى قلق عليه الأتباع وسرت شائعة تقول إن الاجتماع لن ينعقد والدولة لم تعط التصريح بعد. لكن التكهنات أفسحت المجال للحقائق عندما ظهر محاطاً بأتباعه العلماء. التهبت الأكف بالتصفيق. مال تسلاف على أذن والده الجديد ليسأله إن كان يعرف ذلك الذي يجلس على يمين السيد؛ إنه فارادو أستاذ التاريخ الشعبي بالجامعة. كل شيء اتضح الآن،  أليس كذلك؟

هدأ التصفيق وران الصمت فلم يرد زايادان؛ ربما لأنه لم يجد ما يقول. تناول أحد مقدمي البرنامج المايك وشكر الحضور على تلبيتهم الدعوة، ثم أخذ يطري شجاعة لونامون وإصراره على إقامة المهرجان في موعده رغم المعوقات. شكرهم على رغبتهم الأكيدة في الرقي والازدهار، ولم ينس أن يقول إن الوعود الصادقة التي ينتظرها الجميع تجعل نسائم الحرية تسري وتملأ الصدور بالآمال. علينا تمحيص الماضي وأخذ ما يتفق وكرامة الإنسان، وأن ندع كل كريه لا طائل من ورائه. أما العلم أيها الأحباب فلنغترف من بحره ما أمكن الاغتراف. لا تتوقفوا عند حد. الأغراب لا يتفوقون علينا إلا بالتفكير العلمي، فلماذا لا نواجههم بنفس السلاح؟. نهض رجل ضخم عرفوه فأغلبهم زبائنه، إنه الكرة الكبيرة التي فوقها كرة أخرى صغيرة، إنه المتابع مراماح. ما الذي أتى به إلى هنا؟

- ربما ليروج لتجارته!

وقف كوتد غليظ ليقول: اسمحوا لي أن أدلي بدلوي. إن الأغراب متفوقون علينا في كل شيء، ليس في العلم فقط كما قال الأخ، ولكن حتى في المباريات الرياضية.

- لا داعي للمقاطعة أيها الأحباب، ثم إني لم أقل إنهم متفوقون علينا في العلم وإنما في التفكير العلمي، وأحب أن أوضح للأخ المعترض أن الأغراب يستخدمون هذا النوع من التفكير حتى في الرياضة ذاتها. والآن عليكم بالهدوء. حان وقت اللقاء بالرجل الذي وهب حياته للعلم، أيها الأحباب إليكم العالم النابغة البروفيسور لونامون.

هدرَ التصفيق ثلاث دقائق متصلة قبل أن يأخذ الكلمة ليحيي الجمهور المتعطش وهو يحاول جاهداً أن يبدو مبتسماً رغم أن الابتسام غريب على شفتيه. ملامحه حازمة، حادة، قاطعة. لكن هذا وقت لا بد فيه من بشاشة ..

-  باسم اللولو في مجده الذهبي ،

      باسم شجرة الكيمارو الخالدة التي هي لنا وليست لغيرنا

      باسم الفكر الحر والتفكير العلمي أبدأ كلمتي طالباً منكم إلغاء التصفيق نهائياً من اجتماعاتنا، لا تصفيق ولا هتاف، فهما متعارضان مع روح العلوم!

اشتعل المكان هتافًا وتصفيقًا!. كفى كفى! هذه آخر مرة يحدث فيها مثل هذا. وتقلصت ملامحه. في مثل هذا المكان هل يفسد حياتنا شيء كالتصفيق والهتاف؟. لانت تقاطيع وجهه قليلاً. كفى أيها الأحباب. نريد أن نتحدث في هدوء. اسمحوا لي أن أوجه إليكم هذا السؤال البسيط: هل تعرفون لماذا دعوتكم اليوم بالذات وخاطرت بنفسي وحددته مسبقاً؟ هل هذا اليوم يذكركم بشيء؟

انسكبت الحيرة من العيون، ونظر كل إلى جاره متسائلاً: ترى هل مات أحد العلماء في مثل هذا اليوم أم جاء إلى الدنيا أحد من نوابغ العلم؟ أي المعارك الكبرى أو الاكتشافات العظمى حدث في مثل هذا التاريخ؟

- ألم يعرف أحدكم الإجابة؟

كان زايادان يتمنى لو عرف وقام وأجاب؛ ليري ابنه الجديد مواهبه. هرش رأسه واستعرض أحداثاً بعينها ولم ينطق. سمع: لا بأس، إنكم تعرفون ولكن النسيان ومتطلبات الحياة القاسية، كل ذلك يجرف اللحظات الهامة من عمر البشرية ويلقي بها إلى العدم، لكني أيها الأحباب أبعث هذا التاريخ في نفوسكم بعثاً جديداً. أقول لكم إنه تاريخ انتصار الإنسان على أعتى العوائق والتحديات، إنه يوم الإنسان وانطلاقته الكبرى، يوم الإنسان وإحساسه بالعز والفخار. أيها الأحباب، إن البشرية كلها يجب أن تحتفل بذلك اليوم. أيها الأحباب، اشتقتم إلى المعرفة؟ في مثل هذا اليوم هبط أول إنسان على سطح القمر. إياكم أن تقولوا: ما لنا وهذا؟! أو تقولوا إن هذا من عمل أغراب نواياهم غير مفهومة وربما معادية، بل قولوا إن بشرًا مثلي ومثلكم استطاع أن يفعل هذا! إن لم يحتفل بذلك كل البشر فوق كوكبنا الأرضي فمن إذن سيحتفل به؟ البقر أم الجاموس؟ أم سكان الكواكب الأخرى؟ إن إنسانا مثلنا استطاع أن يطأ بقدميه أرض ذلك الذي يبدو وهاجًا مضيئا. فليكن هذا اليوم يوما للسمو والرفعة. وهبوط إنسان فوق سطح القمر جعلني أقيم تليسكوبي هذا وأسميه لونا مون فأطلق عليَّ أحبائي هذا اللقب الذي هو ليس اسمي الحقيقي كما تعلمون.

وقف مراماح كحائط فلم يستطع أن يتجاهله:

- هل يدوس الإنسان على سطح القمر بينما نحن نعيش في أكواخ من الصفيح؟ القمر ليس به قطرة ماء ونحن هنا نلوث اللولو!.

يتحدث وكأنه فقير معدم، كأنه لم يجن ثروة طائلة من البيع بالأجل واستغلال المعلمين. أشار البروفيسور إليه بيده فجلس. إن ما قاله السيد المحترم منطقي جدا، ومع هذا فلنا أن نتساءل عن سر تقدم غيرنا بينما نقبع نحن في التخلف. لقد تحرروا من الجاذبية الأرضية أما نحن فنخاف أن ننطق كلمة كيلا ندفع ثمنها قطع اللسان، إنهم يطيرون بأجسادهم في الفضاء السحيق ونحن لا نستطيع أن نطير بأفكارنا في رحابات الفكر.

هل لاحظ أحد تلعثم العلامة لونامون وهو ينطق كلماته الأخيرة؟

ها هو أحدهم يقدم إليه كوب ماء. هل لمح أفذاذا يدخلون القاعة؟ شبه مؤكد. لكنه واثق أنهم لم يلتقطوا تعليقاته لأنهم دخلوا بعد أن قالها وإلا انقضوا عليه انقضاضاً. كيف جازف بإقامة المهرجان اليوم رغم عدم وصول الترخيص؟ هل أتوا بالترخيص معهم أم إنهم بالشرور أتوا؟

- يا أحباب اللولو، نحن هنا نعلن للعالم أجمع أننا نعتبر حاكمنا المفدى مثلنا الأعلى، نقتدي به في كل شيء. ورفع عقيرته. أيها الأحباب، باسمكم جميعا أرحب بالأفذاذ الذين وصلوا الآن وشرفونا بحضورهم، لهم منا التحية والتقدير. لم يكن هذا اجتماعًا بالمعنى الحقيقي بل هو مجرد لقاء عابر للتعارف ليس إلا. انصرفوا الآن على خير موفقين دائمًا إلى ما فيه خير الوطن والمواطن على أمل اللقاء بكم قريبا عندما نحدد لذلك موعدًا.

كأن القوم ملتصقون بالكراسي فلم ينهضوا حتى بعد أن طلب منهم مقدم البرامج أن ينصرفوا. وكيف لمثل زايادان أن ينصرف دون أن يسأل العلامة سؤالا يؤرقه:

- من فضلك عندي سؤال ملح!

- يمكن تأجيله إلى لقاء آخر.

- بل يجب أن يسمعه مني السيد لونامون.

نظر مقدم البرامج للسيد الذي اضطر للإصغاء. أما السائل فصلب  طوله وحاول جاهداً أن يسمع صوته لكل الحاضرين. لم يدخل في الموضوع مباشرة، وإنما مهد بمقدمات شعبية متوارثة. ثم طلب أن يعرف موقف العلم من الزلزال الأبيض! وهل لسيادتكم رأي قاطع في هذا الموضوع؟. لم يتمالك مقدم البرامج نفسه فصرخ: أي زلزال أبيض أو أسود تعني يا رجل؟ إن أرض اللولو محروسة من كل الشرور. ووادي نهرنا آمن من كل الهزات، بيضاء كانت أم صفراء، آمن من كل الدسائس الد\نيئة. ما هذا الذي يشغل تفكيرك؟

لم يجلس زايادان بل ظل منتصباً كنخلة. لا شك أن لونامون قد لاحظ الأفذاذ وهم يغادرون. يبدو أن الاجتماع سيمتد وما زال صاحبنا يصر: أريد أن أتشرف بسماع صوتك أيها العلامة الجليل!

صفق الناس وزاطوا، وطالبوا بأن يتحدث السيد، وكانوا قد اندهشوا لتراجعه المفاجئ لكن الرجل نهض واقفاً وقد ملأ التصميم هيئته وأمسك المايك وقربه من فمه ثم أعلن وكأنه يترنم:

يسعدني أن أبشركم أن الزلزال حقيقة علمية، وكل دارس مبتدئ يعرف لماذا تنشأ الزلازل، أما ما يقال عن الزلزال الأبيض وتسمعون عنه في التاريخ الشعبي فإن أبحاثي التي أجريتها أنا وزملائي وأنفقنا فيها أعواماً طوالاً، هذه الأبحاث تؤكد أنه ليس وهماً ولا سراباً، إنه نوع خاص جداً من الزلازل ليس له أضرار بل كله مزايا. إنه متى حدث طهر النفوس من أدرانها فلم يعد ظالم ولا باغ ولا طاغ ولا مختلس فهل أحد يكره ذلك؟ ولكن... وسكت لحظات: ولكن إذا كنا نعيش في بلد أبعد ما يكون عن هذه الآفات الاجتماعية، ينعم بالأمان ولا غش فيه ولا ظلم ولا طغيان فلماذا أيها الأحباب تحلمون بالزلزال الأبيض؟ دعوا هذه الأحلام لغيرنا من الشعوب المقهورة، إنكم تعيشون أزهى عصور المساواة والحرية فلماذا التحليق في أجواء الانتظار والترقب؟. كونوا واقعيين وعيشوا الحياة في ظلال الحاكم المفدى وسوف تجدون أن لهفتكم على الزلزال الأبيض ليست أصيلة.

هل عاد الأفذاذ أم إن السيد تأكد أن بعض العيون ترصده خفية؟ وهذا الأمر أصبح مقبولاً لدى الشعب؛ فكل من يلمح شيئاً من هذا عليه أن يمجد الحاكم ولا لوم عليه.

- نريد أن تحدد لنا أهو حقيقة أم خيال؟

- أبحاثي تؤكد أنه ممكن الحدوث، وليس هناك ما يمنع ظهوره!

- وعلاماته ألم تظهر بعد؟

- مسألة العلامات هذه لا تخصني أنا، فأنتم أعلم بها مني.

انتهى الاجتماع وانفض الناس فقال زايادان لابنه الجديد تسلاف:

- اعترفَ الرجل بأن الزلزال الأبيض حقيقة.

- لكني لا أفهم سر هذا التذبذب في كلامه.

- لقد باغتوه بمجيئهم فحاول إرضاءهم ، ولكن ...

- هل علمت أنت بوصولهم في حينه؟

- لم أعلم إلا بعد أن سألت سؤالي، ولو رأيتهم قبل ذلك ما فعلت.

- لقد تلجلج الرجل ولهذا أتساءل: أين شجاعة العلماء؟

- توارت خلف حنكة الساسة فهو الآن سياسي أكثر منه عالماً.

وسأل دنجو والده إن كان قد وجد عملاً بعد انقطاعه عن الحراسة في دائرة الحاكم المحلي، فقال تسلاف متحمساً:

- دع والدك يا دنجو فهو الآن بحاجة إلى الراحة بعد عناء العمل أعواماً طويلة. والدك هذا لا تعرفون قيمته الحقيقية.

لكن زايادان تكلم: لقد وجدت عملاً أفضل منه. لقد أرسل إلى السيد فوسكاي صاحب السوق الأسبوعي لبيع المواشي، أرسل إليَّ لأشرف على عملية قطع التذاكر. هناك من يقاومون عملية قطع التذاكر ويتهربون منها. هذا عمل سهل فضلاً عن أنه فترة صباحية فقط.

- والأجر؟

- الأجر مناسب جداً، وهذا أفضل من الحراسة الليلية.

مازال البروفيسور لونامون في مكانه محاطاً بأربعة من أتباعه رغم انصراف الناس. مازال ينتظر قدوم الأفذاذ ولكن أحداً منهم لم يظهر بعد. هَمَّ أحد الأربعة بالوقوف وهو يتساءل: لماذا لا ننصرف أيها الأستاذ؟

- انتظر قليلاً!

جلس يقول:  لقد انتظرنا طويلاً فهل تظنهم سيأتون؟

- لو كانوا ينوون ذلك لما تأخروا كل هذا التأخير.

- أن نذهب معهم من هنا أفضل من أن يدقوا أبواب منازلنا قرب الفجر...

- ولماذا يأخذوننا؟ هل فعلنا شيئاً؟ إن البروفيسور لم يدخر جهداً في امتداح الحاكم الأعظم وعهده الذهبي غير أنه ذكر الزلزال الأبيض.

- وماذا يضايقهم أو يقلقهم في الحديث عن مثل هذا النوع من الزلازل؟ ثم إنه قال إن بلادنا ليست في حاجة إليه؛ فنحن نعيش في أكمل العهود، فلا ظلم ولا طغيان ولا شيء يدعونا إلى الانتظار.

- هل ترون إذن أن في الإمكان أن ننصرف؟

- هيا بنا صحبتك السلامة يا بروفيسور.

 

الفصل الرابع عشر: زيارة مفاجئة
بلغني أنك تركت العمل لدى الحاكم المحلي. حسناً. أريدك تنضم إلى حراس السوق الأسبوعي للمدينة الذي أملكه. ستجلس على البوابة تراقب الخارج فقط وتتأكد أنه قطع تذكرة، أما الداخل فلا شأن لأحد به. ومن ناحية الأجر فلا تقلق، سأعطيك أجرًا مناسبًا. غمرت الفرحة وجه زايادان فاهتز شاربه موسعاً لابتسامة نابتة. أحس أن الدنيا لم تكد تظلم حتى ظهرت تباشير إشراقها. وفي يوم السوق ذهب مبكراً وعصاه الغليظة في يده. جلس تحت شمس دافئة. حرك أصابع قدميه موقعاً لحناً شعبياً. لن يبدأ عمله إلا بعد أن يشتري الناس حيواناتهم أو يبيعون ثم يراقب خروجهم من السوق. ترى لماذا جاءت إلى ذاكرته أنشودة عن ذلك الشاعر الذي صار حاكماً لبلاده؟ بينما هلَّ وجهُ قاطع التذاكر الشاب وفي يده كوب شاي ناوله لزايادان وأتبعه بسيجارة ثم بقوله:

- أنت لا تدري كم أنا سعيد بوجودك هنا أيها الرجل الطيب، لقد سمعت عنك الكثير وتمنيت رؤيتك، لا تجلس بعيداً، هات كرسيك واقترب مني يا بركة!

لكنه انتفض واقفاً إذ لمح صاحب السوق قادمًا في عربته المكشوفة، وإلى جواره امرأته الشابة الحسناء التي تهوى التجوال على قدميها إلى جوار زوجها لتستمتع بمرأى الفلاحين في بيعهم وشرائهم حيث يبدءون المساومة من أدنى نقطة ثم يرتفعون بصعوبة بالغة رغم أن السعر لم يصل بعد إلى نصف المعقول. قد يجف حلق البائع من ترديد النفي والرفض، والمشتري ما يزال يصر على عرض نصف القيمة المعقولة، ومع هذا فصاحب الدابة لا يثور ولا ينفعل فهذا هو الأسلوب وتلك هي الطريقة. سأل عن زايادان فهرول إليه وفي يده عصاه صائحاً: خادمك المطيع يا سيد فوسكاي.

- بعد أن نتناول الفطور، سيدتي وأنا، ستسمعنا آخر أناشيدك، لقد حدثتها عنك!

- أليس الأفضل أن أصنع لكما القهوة يا سيدي فأنا....

- عظيم عظيم! وإن كان هذا لن يعفيك من إسماعنا شيئاً ممتعاً

- والبوابة؟

- لست وحدك الذي يشرف عليها.

السيدة والسيد فوسكاي في شرفة الاستراحة يراقبان المكان وابتسامة تضيء وجههما حيث يقضيان وقتاً ممتعاً تحت الشمس الدافئة، لكن ملامح فوسكاي تجمدت فجأة إذ لاحت عربة سوداء حديثة الطراز كأنها خارجة لتوها من مصنعها، توقفت أمام بوابة السوق وخلفها عربة جيب بها أفذاذ وحراس. تطلعت السيدة إلى حيث اتجه طرف زوجها بفضول. ترجل سائق العربة الأولى وفتح بابها الخلفي وأحاط الأفذاذ والحراس بالشخصية الهامة التي لم يرها أحد من سكان هذه المنطقة من قبل. من يكون هذا؟! تحركت أسلحة الحراس في همة ونشاط لتأدية التحية، وقام أحدهم بإبعاد القرويين عن المكان. يبدو أنهم مصرون بفضول جارف على الاقتراب لكن إحساساً بالخطر جعلهم يتراجعون. الرجل الهام واقف الآن تحت شجرة كافور وحوله الأفذاذ يحيطون به كدرع بشرية، يبدو أنه أصدر أمراً فهرع أربعة حراس إلى داخل السوق وتحدثوا مع قاطع التذاكر فأشار إلى الداخل فهرعوا ناحية الاستراحة حيث السيد والسيدة اللذين لم يتناولا إفطارهما بعد. همس حارسٌ باسم الشخصية الهامة فملأت علامة استفهام كبيرة وجه صاحب السوق. غير ممكن، لا أكاد أصدق! لحظات وأكون في شرف استقباله. انتظري أنت يا عزيزتي!. ولم يكد يهبط سلم الاستراحة حتى عبر القادمون البوابة والأضواء الزاعقة تبرق فوق العربة الجيب.

- مرحباً بك سيدي!. لو علمنا أن سعادتك ستشرفنا لفرشنا أرض السوق بالزهور ورموش أعيننا!

- ليس عندي وقت، ومع ذلك سنشرب سوياً من مشروبي المفضل!.

وأشار بيده فظهرت الصينية المذهبة وعليها الفناجين الأنيقة، أما اليد التي تحملها فيد فتاة مكشوفة الكتفين لا يدري فوسكاي متى ظهرت فقام وقرب منها المنضدة هو يغمغم: السوق كل السوق، بل روح الوادي كلها ستفخر بهذا اليوم الذي لا ينسى، بل الإقليم السادس بأكمله!

كان صاحب السوق مضطرباً حقاً وهو يصحب ضيفه إلى الاستراحة.

وكان يحيط بهما الأفذاذ. تساءل: ترى لو رأى زوجتي وبهره جمالها أتنشأ مشكلة؟ هل يطلب مني أن أتنازل له عنها؟ أجمل شيء أن الأفكار لا تظهر للعيان وإلا فقدت عنقي! لكنه الآن فوجئ بمثل جمال هذه الخادم فاطمأن قليلاً. تحاك حوله الأساطير. راوده القلق من جديد: كم سأدفع ثمن القهوة التي سأشربها معه في مثل هذه الفناجين؟ الشمس اليوم في أبهى رونقها ورقتها يا سيد طارندو، هذا يوم جميل حقاً!

- أشكرك!.

إنه يشكر الناس!!

أشار فوسكاي إلى أحد الحراس وطلب منه أن ينادي زايادان الذي جاء من عند البوابة مهرولاً، وكانت الفتاة قد وضعت الصينية والأكواب ثم انسحبت بظهرها. سأل فوسكاي إن كان السيد طارندو يسمح لزايادان أن يعد القهوة.  لكن زوجته تحدثت لأول مرة وبسمتها تملأ وجهها: كيف يحدث هذا وأنا موجودة؟ لن يعد القهوة للسيد الكريم إلا أنا.

وأراد زوجها أن يصرف الحديث إلى زايادان فقال إنه رغم تواضع مظهره علم من أعلام التاريخ الشعبي، وإذا شئتم أسمعكم شيئاً من محفوظاته. كان هدف فوسكاي من قول ذلك أن يبعد أنظار الضيف عن زوجته التي قامت لتعد القهوة. ترى هل يبتسم السيد طارندو؟ لا يعرف صاحب السوق إن كان ضيفه قد قبل أن يقوم زايادان بإنشاد محفوظاته.  هل هو يبتسم موافقاً أم متقززاً أم لا مبالياً؟ أم إنه يفكر في شيء آخر مختلف تماماً؟. أخيراً نطق مشيراً نحو زايادان: هذا؟!

قال الرجل من تحت شاربه الكث:

- لو لم يكن لدى عظمتكم مانع أسمعتكم شيئاً قليلاً مما أحفظ.

يهيأ إليه أن الضيف يبتسم وإن كان لون ابتسامته غريب عن شفاه أهل المنطقة.

لا بأس، ثم هز رأسه قليلاً. اعتدل زايادان وصمم أن يستخرج من القلب خير ما فيه. من يدري فربما يعود إلى منزله بمكافأة. افترض أن القصبة المثقبة في أصابعه فجعل يحرك هذه الأصابع أمام فمه حتى تهيأ اللحن وأخذ يتأوه:

         آه يا قلبي الذي يموج بالصور العجيبة!

         أرجوك أن تسلط الأضواء على ذلك الوجه الحبيب،

         الوجه الأسمر المصنوع من الطيبة والنقاء،

         وجه ذلك الشاعر الذي بين يوم وليلة صار حاكماً!

         جاءت الفراشات والألوان والظلال التي تراقص النغمات

         لكي تودعه                                           

         قال: لن أنساكم يا أحبائي الأوفياء!.

         وأنت يا قوس قزح اجمع ألوان الورود المبعثرة

         وإياك أن تهجر قلبي كلما هطلت الأمطار!.

         فهل الشاعر الذي أصبح حاكماً تخلى دائماً عن ربة شعره؟

         كلا!!

         كان على كرسي العرش وهي تجلس إلى جواره.

         كان يتفقد حرس الشرف وخطواتها على خطواته.

         لم تفارقه لحظة واحدة

         لا يا ربة الشعر الحبيبة إلى قلبي لن أهجرك ما حييت.

         وأصدر قراره الذي رفع منزلته فوق السحاب:

         إلى الشعر أعود فوداعاً للتاج والصولجان!.

         وبحرارة عانقته ربة شعره وطارت به إلى أرفع مكان.

كان زايادان يلقي النشيد وفي أذنيه أصوات استحسان طالما رددها أحباؤه القدامى كلما أنشدهم إياه، فهل ضحك طارندو حقاً؟ لا أحد يدري، ولكن الجميع سمعوا تعليقه المتأفف: صوتك لا بأس به يا ....

- خادمك زايادان.

- ولكن أي حاكم أحمق كان هذا الذي تحكي عنه؟!

وفي الحال أمر فوسكاي زايادان بالانصراف خشية أن يصدر عنه اعتراض فانصرف مبهوتاً.

هطلَ بكاءٌ في صدر حافظِ السير العظيمة. أصاب التلوث مجاري الدموع من قلبه. أليس منحدرًا إلى قيعان لا ترى العين كم هي سحيقة؟!

- المكان كله يموج بعبق تشريفكم لنا!، صاح صاحب السوق.

وبعد ارتشاف القهوة جاء صوته الأجش إلى أذني فوسكاي: هذا السوق ... أريده !

انغرس خنجر في الصدر. أحقاً يمكن لكلمة بسيطة أن تتحول إلى نصل؟ أيمكن لكلمة غير جارحة مثل أريده، أن تحدث كل هذا النزيف الداخلي في جسد فوسكاي؟ هل له أن يستعيد سماع الكلمة ليتأكد من مقصد قائلها أم إنها قيلت ونطقت وسجلت في السجلات الرسمية؟! مع هذا تمكن من أن ينطق ليقول إن أي شيء ليس غاليًا على طارندو لكن لا سوق غير هذا في كل المدينة.

- ما مساحته؟

- ثلاثون حوضا.

- مناسب. السوق لا يهم. أريده لأقيم عليه مشروعا خاصًّا بي....

- هنا في أطراف روح الوادي؟!

- وما المانع؟!

- في الإقليم السادس؟!

امتقع. لاشك أن وجه فوسكاي صار أصفر كليمونة ناضجة. بل كليمونة تالفة!

لويتمكن من النطق لتساءل: وهؤلاء الفلاحون القادمون من القرى المجاورة لبيع مواشيهم؟

- سمعتك تتمتم شيئا أظنه ليس اعتراضا! لا تقلق، سوف أعوضك لاحقًا بعد أن ينهض المشروع على قدميه.

دوت هتافات فاستدارت الرؤوس. ترى من القادم؟ أهو الحاكم المحلي؟

لا، بل حاكم مدينة روح الوادي بأكملها جاء للترحيب بالسيد طارندو.

السيد بورديون يخطو متهللا مشرق الخدين يكاد يتعثر في إقباله. أحقا ما سمعت؟ أحقا ما أرى؟ إن الأمر حقيقة وليس خيالا. السيد طارندو يشرف مدينتي وأنا هناك جالس في مكتبي أتفقد شئون رعاياي؟! ها أنا أيها السيد آتيك طائرًا على أجنحة السعادة.

ثم أصدر أمرًا لأحد أتباعه: اختر من السوق جاموسة شابة نظيفة، وأطر رقبتها ووزع لحمها على الفقراء. وإذا اعترض صاحبها قل له: بورديون سيراضيك. اطلب منه أن يمر علي في مكتبي غدا. هيا. لا تنس!. نريد غداءً فاخرًا!.اعترض طارندو: لن أمكث هنا أكثر من هذا، لدي أعمالٌ تنتظرني. لقد اتفقنا أن يتنازل لي هذا السيد عن السوق ليقام عليه مشروعٌ هام. أليس كذلك يا سيد فوسكاي؟

صاح حاكم روح الوادي: هذا شرفٌ عظيم لنا جميعاً

وكانت قافلة السيارات تهم بالانسحاب من المكان في قلب عاصفة من الصفير المرعب بينما لم تخرج كلمة واحدة من فم صاحب السوق الذي صار وجهه في لون ...أي لون هذا؟ أمسك به بعض الحراس وحملوه إلى داخل الاستراحة، وقالوا لزوجته إنه في حاجة إلى مشروب دافئ!

وكأن كل الموظفين في مجمع مدينة روح الوادي قد تجمعوا خارج السوق يدوي هتافهم ترحيبًا بقدوم السيد طارندو الذي فيما يبدو سيبطئ قليلا ليتلقى فرحتهم به، وتقدم أحدهم من سيارته والأفذاذ يبعدون الأهالي بكعوب بنادقهم: أيها السيد الكريم، إن أهم انجازات بورديون حاكم مدينتنا أنه أتاح لنا هذه الفرصة فرأينا أنوار سعادتكم عن قرب. وانطلقت السيارات في اللحظة التي انطلقت فيها آهة جريحة من صدر السيدة التي حط غراب الموت على وجه زوجها!

 

الفصل الخامس عشر: أصحاب الواحدة
لفتوا الانتباه. عديدون من أصحاب الأراضي الجديدة قصدوهم للتعرف عليهم وسماع قصتهم العجيبة، وكيف فضل أهلهم حرمانهم من عين بدلاً من أن يحرموهم من الحياة. أإلى هذا الحد يستشري الظلم والخوف والهروب إلى الهاوية؟ نحن هنا في الهواء الطلق ولا عيون تراقب ولا ألسنة تُقطع، فلماذا لا نحاول تشكيل جبهة موحدة ضد اللامساواة وضد اللاحرية؟. نبتت الفكرة في ذهن ناهلدو الذي باح لأصدقائه وأيدوه: لماذا لا نؤلف حزباً جديداً؟! سنطلق عليه حزب أصحاب الواحدة! ما رأيكم؟

- التسمية غريبة لكنها منطقية، وإن كنت أفضل تسميته حزب الاستصلاح.

- ما رأيكم أن نسميه حزب النصف؟ إن الأراضي هنا في منتصف المسافة بين الجيد والرديء، والمساحة التي حصلنا عليها هي النصف؛ فقد تنازلنا مجبرين عن نصفها الآخر ولا ندري لمن. ثم إننا نرى بنصف ما في وجوه غيرنا من عيون!

- لا تكرر هذه المقولة كي لا يظن بنا أننا ندرك نصف الحقيقة!!

وفي أول اجتماع بأصحاب الأراضي الجديدة الذين توافدوا من قريب ومن بعيد، وأعلن ناهلدو أن حزب أصحاب الواحدة بعد الموافقة عليه سيكون رافداً من روافد حزب الأمة. دار الاجتماع بين الرمل والطين، وكانت الأشجار النابتة تسر العين وتبعث الأمل في حياة لائقة، أما قطرات الماء التي كانت تساقط عليها فإن القلب قبل العين كان ينتعش بها. أعلن أنه يقبل مبادئ حزب الأمة دون مناقشة وأهمها على الإطلاق أن الحاكم فوق كل نقد؛ وأسرته فوق كل شك، ذاته مصونة لا تمس، ولا يحق لأي مواطن مهما كان أن يلومه على فعل يفعله، أو إعلان يعلنه سواء أكان هذا اللوم سراً أو جهراً فذلك غير مسموح به، ولا أن يذكره بإيماءة قد يساء تفسيرها، وإذا حدث ووجه إليه شخص جملة قد يكون لها معنيان، وتصادف أن أحد هذين المعنيين قد يوحي بعدم الاحترام والتقدير فإن المتحدث يكون اقترف جرماً يعاقبه عليه القانون حتى وإن أقسم آلاف المرات وهو راكع وعيناه معصوبتان أنه لم يكن يعني ذلك المعنى البعيد. وكل عشرة أعوام يذهب الناس لتجديد الثقة في مظاهرة شعبية نابضة بالحب والتقدير. أجل إنهم يجددون الثقة، وإياك أن تظن أن المقصود ثقة الناس به، بل المقصود ثقته هو في الرعية، ثم إنه يختار حاشيته من أعظم أنواع البشر وأكثرهم كفاءة، فإياك أن تنتقد أحدهم حتى وإن كنت صحفياً كي لا تغلق أبواب الصحيفة بالجنازير. حب الأمة هو الأمان لنا جميعاً وقد قبلنا مبادئه مضيفين إليها اهتمامنا الزائد باستصلاح الأراضي، وتلك خصوصيتنا.

- فقط ؟!

- علينا استمالة أصحاب التاريخ الشعبي!

- أمثال زايادان المخادع؟!

- هناك كثيرون غيره، شرفاء.

- فلتكن شجرة الكيمارو أول مكان نقصده حين نؤسس الحزب، ونضع نصب أعيننا التأكد من حقيقة الخراف الخضراء.

- يقال إنها إحدى العلامات!!، وماذا أيضا؟

همس له: رغم انفتاح المدى فلابد من التكتم والحرص.

- لماذا؟

- لو أجبتك لانعدم التكتم والحرص!

- إلى هذه الدرجة؟

وبعد أن انفض السامر هنأ الأصدقاء صديقهم ناهلدو الذي سيتزعم الحزب، وجلسوا حول مائدة للغداء، وإذ لاحظوا أن شخصاً مجهولاً جالساً بالقرب منهم، ظنوه عابر سبيل. استدعوه لمشاركتهم طعامهم؛ فتبين أنه مسئول مكلف بتسجيل كل ما يدور في اجتماعهم!. هنأهم على ما قالوا في حق الحاكم وحزب الأمة، واتسعت ابتسامته وهو يطمئنهم أن أحداً لن يعرف قصتهم الحقيقية التي تتعارض مع الرواية التي اخترعوها، بل أكد لهم أن الويل سيكون لزايادان.

وبالفعل وقفت عربة سوداء قرب منزل المذكور، وداهمَ المكانَ أربعة من ذوي السترة السوداء كثيرة الجيوب، مدججين بأسلحتهم، مثقلين بذخيرتهم، واقتلعوا الباب من جذوره ودوى صراخ: أين هو؟

تشقق جدار الليل وانهار الهدوء وأعشت الكشافات العيون. من يريده؟

- أين هو؟

لا مجال للأخذ والرد. كل شيء قاطع وحازم. قدم لهم نفسك دون نقاش. لا يريدون صوتاً ولا حركة وإلا دمروا المنزل على من فيه. السيدة المسكينة مارانا جرت إلى الحمام لكنها بللت ملابسها. كفها على فمها لتكبت صرخة مذهولة. ضمت صغيرها دودو الذي صحا وجاء من حجرة الذكور واختبأ في ثيابها. ترجاهم زايادان وعيناه لا تريان:

- دعوني أستر جسدي بثوب!

أزيحت عنه الأضواء ريثما تحضر له زوجته ما يستره، ثم جذبه أحدهم فخلع كتفه، ولف عصابة سوداء حول رأسه غطت عينيه، عقدها بغلظة فتألم من قوة ضغطها. أوثقوه، وكانت امرأته قد ألبسته سروالاً وقميصاً، ثم صديرياً من جلد الماعز ليدفئه ليلاً. صار شعره الطويل المصبوغ بالحناء مهوشاً تماماً، وشاربه منكوشاً، أما مكان السنة الخالية في فمه فبدا أكثر اتساعاً. وانطلقت العربة.

لماذا تفعلون بي ذلك؟ إنكم لم تكتبوا شيئاً في آخر الخطاب ينبئ عن غضبكم بل إن صحيفتي بيضاء نقية. خطاب إعفائي من العمل عند وكيل الحاكم، فأنا كما تعلمون كنت أعمل حارساً عنده ثم لم يطردني بل أعفاني، استغنى عن خدماتي. هذا ما كان مكتوباً في الخطاب، ولم توجد في آخره كلمة: احذر، ولا كلمة إياك إياك، ولا أية علامة استفهام حمراء!. لا شيء من هذا على الإطلاق وأنتم تعرفون كل شيء. وعملت في السوق نصف يوم. لم أفعل شيئا سوى إنشاد النشيد أمام الضيف.آه.  تذكرت الآن أن الضيف  تقزز من تصرفات الحاكم الذي تنازل عن الصولجان وعاد إلى فضاءات الشعر. مالي أنا؟ هو الذي ترك الحكم. أنا مظلوم. ابني دنجو قدمت أوراقه بنفسي إلى معهد الأفذاذ. إنكم تعرفون ذلك. لو كنت أكرههكم ما تمنيت أن يكون ابني واحداً منكم. ودفعت لسائق سيارة أحد كبرائكم بضعة آلاف ليسهل الأمور. أهو الذي وشى بي إليكم؟ فلماذا قبلها؟ لقد قال لي بالحرف الواحد إن هذا المبلغ سيصل إلى مستحقه الأول وسيلتحق دنجو بالمعهد، لكنكم تقبضون علىَّ. نصيب السائق؟ بدون شك سأدفع له بعد أن أفرح بقبول ابني. أم يريد أن أعطيه الآن؟ لماذا جئتم بي إلى هنا؟

- ألا تعرف؟ لأنك خدعت زملاءك أصحاب حزب الواحدة المنبثق عن حزب الأمة.

- لا أفهم

- إنك تتغابى. هل لديك القدرة على تحمل التعذيب؟ سنرى إلى كم درجة مئوية!

- أرجوكم. اقتلوني دون تعذيب أفضل من أن تعذبوني دون قتل. سلوني ولن أكتمكم وليس الكذب ديدني، وليس عندي ما أخفيه. سأجيبكم لأخرج وأكمل ليلتي مع المسكينة التي لن ينقطع بكاؤها حتى أعود، ودودو أيضاً...

- ما أقصى أمنياتك الآن؟

- أن أرى وجه صغيري وأنا هادئ

- وامرأتك؟ إن شئت أتينا لك بها!

- لا، أرجوكم

- ما هي انتماءاتك؟

- انتماءاتي؟ أنتمي لوطني فليس ما هو أغلى من تراب الوطن

- جميل.

- الذي يحب امرأته وأبناءه يحب وطنه، هذا أمر طبيعي يا سادة

- ليست الأرض ما يجب الحديث عنه

- إذن فأنتم تقصدون- وأشار إلى صورة الحاكم الكائنة فوق رأس المحقق رغم أنه لا يرى، مسيطرة على جو المكان- اعلموا أنه هو الشمس والقمر، لا اعتراض لي عليه لا سراً ولا جهراً، ولا تتحرك داخلي ريح تهز أغصانه.

قال أحدهم: جميل. وقال آخر: ليس جميلاً تماماً. عندما تقول لا اعتراض لي فمعنى ذلك إمكانية وجود اعتراض.

- معذرة، فليس في مقدوري فهم هذه التحليلات العميقة.

- جهلك سينقذك. أكمل!

كلمة سينقذك جعلته يطير مثل سحابة محمولة على أكف النسيم رغم إحباطاته. رغم آلام عينيه المعصوبتين وآلاف الدوائر الحمر التي تتحرك أمامه مبتعدة مقتربة، دوائر كالألم الأحمر المجرد المبعثر في سماء سوداء

- سينقذني جهلي، سينقذني، ألم تقولوا: سينقذك؟

- قلت إن جهلك سينقذك من الهوة التي كدت تسقط في عميقها بجملتك التي لم تفهم معناها. هيا فما زال أمامك تحقيق طويل قد يستمر أياماً وليالي. ما قولك في الماضي وما يتصل به من أيديولوجيات؟ أعني ما قولك في أفكارنا الموروثة عن الماضي؟

- ننتقي الصالح وندع الطالح الذي لا نفع فيه.

- ومن الذي سيحدد ويفرق بين الصالح والطالح؟

- سادتنا!

- هل تؤمن بالخرافات التي تتغنى بها في كل مناسبة؟

- كان أبي دائماً يقول لي: الخرافات ليست عقائد ولكنها تطرح تساؤلات وتلقي الأضواء على مناطق معتمة في الجانب المظلم من قمر الروح!

- وماذا تريد أنت؟

- أقول كل ما تريدون من مثلي أن يقوله.

- حدد موقفك!.

- لم أفكر في مثل هذا من قبل. الأفضل ترك هذه المسائل لمن يقومون بتدريس التاريخ الشعبي.

- جميل.

وساد صمت طويل لم يشأ زايادان معصوب العينين أن يقطعه، ولكنه فجأة أحس أن قدميه تؤلمانه ولا تقدران على حمله، وسمع أصوات ارتشاف ماء وغيره، ورائحة طعام، أجل، هذا طعام يلاك في الأفواه ثم ...  انتفض شعر رأسه الأشعث إذ سمع فرقعة عاليه تبين بعد لحظات أنها ضربة سوطٍ على جسد الهواء. إنها صرخة تهديد مدوية! وفي هوة السكون الذي بلا قاع تردد صوت لم يسمعه زايادان من قبل، صوت عريض مجسم حازم، أكثر حزماً من القتل، صوت هادئ محترم يتدحرج كجبل: اخلع عنه جلد الماعز يا لام، وكل ملابسه، وأنت يا كاف أمسك السوط الأسود في يدك، فإذا أصدرت لك إشارة كهذه ....(ودق على الأرض الخشبية بحذائه الثقيل) فاجعل من سوطك برقاً يخطف دمه الكاذب.

- اقتلوني، اقتلوني دون تعذيب.

- صه. لن ترى الموت الذي تتمناه. هل تسمعني يا ابن اللئيمة؟!

- أسمعك وأعدك أن .....

- صه.

- أريد أن ... المثانة تؤلمني ...أن ...

- ستفعل هذا لا إرادياً فلا تشغل تفكيرك. لا أريد كلمة أكثر من المطلوب. لماذا ترتعد هكذا؟ أوقف هذه الرعدة فوراً وألا أصدرت إشارتي إلى كاف. هل أنت بردان؟ حسناً. أنصت إليَّ جيداً. يتهمك المهاجرون إلى البراري المستصلحة أنك أغريتهم ببيع إحدى العينين للأغراب مؤكداً أنك ستكون البادئ وتبيع إحدى عينيك قبلهم، لكن الذي حدث بعد خروجكم من المشفى يبين أن الموضوع من أساسه خدعة خبيثة وحقيرة. ما قولك؟

- كان هدفي رفع مستواهم وهذا حدث بالفعل. صاروا من أصحاب الأراضي ومؤسسي الأحزاب.

- بالمناسبة، لأي حزب تنتمي أنت؟

- أنا؟ لم أفكر في هذا من قبل.

- ألا تذهب إلى لجان الانتخابات وتختار؟

- ليس لي صوت.

- هل أنت محروم من ممارسة الحقوق السياسية؟

- لا.

- إذن لماذا لا تشارك؟

- لم استخرج بطاقة انتخابية

- وماذا تنتظر؟

- نسيت!... أنتظر أن... لم أفكر في هذا. سأتدارك الأمر وأستخرجها بمجرد خروجي من هنا. أجل. سيكون لي صوت في مصلحة حزب الأمة طبعاً. هل هناك غيره؟! كل الأحزاب تتمسح فيه وتتمنى رضاه، بل هو الذي يعطيها مشروعيتها، فكيف لا أعطيه صوتي؟ وإذا كان من الممكن أن أستخرج أكثر من بطاقة لأعطي أكثر من صوت فلا مانع. 

- بعد خروجك من المشفى تبين خداعك وزيف وعودك

- لم أخدع أحداً. كنت أنوي بيع عيني أنا الآخر، ولكن ابني ميادو جاءني في آخر لحظة وقال لي: سأعطيك ثمن عينك فلا تبعها، وبالفعل دفع الذي كان الأغراب سيدفعونه فأعطيت جزءاً كبيراً منه لابنتي التي تتأهب للزواج.

- ولكنك قلت لأصحابك شيئاً آخر

- كنت أحاول إرضاءهم ، ونزع الوسواس من صدورهم فاخترعت لهم أحداثاً لم تحدث..

- مثل ماذا؟

- مثل إعادة عيني إلى وجهي بعد إعادة ثمنها للأغراب مضافاً إلى ذلك تكاليف ...

- تقول اخترعت لهم حكايات؟ فمن يضمن أنك لا تخترع لنا أيضاً؟ ثم لماذا مكثت في المشفى أسبوعاً مستلقياً فوق سرير وعينك معصوبة بالشاش والقطن؟ كنت تخدع زملائك الطيبين!

- أعترف أني فعلت كل هذا، لكن

- إذن فأنت معترف بخداعك لهم

- بل أعترف أني فعلت هذا.

- وما هو هذا الذي فعلته؟

- مكثت أسبوعاً في المشفى معهم كي لا يكتشفوا أني تهربت وبذلك تسوء حالتهم النفسية.

- بقي سؤال أخير: من أين أتى ابنك بهذه الأموال؟

- إنه صياد ومعه مال وفير.

- ومن أين يصطاد واللولو لا أسماك فيه؟

- إنه ....

- ألم تعقد صفقة مع الأغراب؟

- لا.

قالها بثقة كبيرة فهو يدرك تماماً ثمن التلعثم .

- سنرسل إليهم ونسألهم، وأنت تعرف أن بيننا وبينهم اتفاقيات وعهوداً ومواثيق. مالك ترتعد هكذا؟ أجلسه على كرسي يا كاف!

صرخ المحقق: مالك ترتعد هكذا؟! مستنكراً وهو في عنفوان غيظه فضرب الأرض بقدمه دون قصد! وفي الحال انطلق السوط ومزق الجلد الرهيف فانبثق الدم ودوت صرخات لاسعة كالجمر، ولم يشأ المحقق أن يقول إن الإشارة صدرت عفوياً، لكنه أشار بعينه إلى ميم: فك يديه وقدميه، وساعده على ارتداء ملابسه!

- والعصابة التي على عينيه؟

شخط فيه: لا

رن الهاتف فرفع المحقق السماعة، وبعد تحيات ومقدمات بدأ صوته يندهش، وكان زايادان غارقاً في أوجاعه لكنه رغم ذلك تمكن من الإصغاء إلى شطر المكالمة، ومن المؤكد أنه سمع هذا التساؤل :

- أعرف أنه  والده، ولكن...؟ فك عن عينيه يا ميم!

 

الفصل السادس عشر: الخياط ومقطوع اللسان
يأتيه خبر أن ابن عمه مقطوع اللسان يريد رؤيته. كان على وشك مغادرة المنزل عندما وجد ديكادي أمامه وابنها على ظهرها. بصوت لا يسمعه غيرهما أسرت إليه أن... وأشارت إلى لسانها الذي أبرزته قليلاً ثم حركت يدها كمشرط .. يريد مقابلته. حالته خطرة.

لم يخرج لأنه نسي وجهته التي كان يقصدها. سحب الباب ودخل. اتجه إلى المرحاض. ولع سيجارة ونفخ دخانها من فتحتي أنفه. سيظل هكذا إلى أن يصل لقرار. امتلأت رأسه بأفكار شتى. تساءل عما إذا كان في الأمر خدعة. آلمته ركبتاه. سيضطر للنهوض. غادر المرحاض ويده على بطنه. دلف إلى الصالة. لمح ابنه ميادو في الحجرة الواسعة يدس قدمه في البنطلون وهو جالس على السرير. كان فيما يبدو يعالج مقطعًا من أغنية شعبية. دخل إلى الحجرة ويده مازالت على بطنه. انتهى من لبس البنطلون وأحكم الحزام. أخذ يسوي وضع القميص. تطلع إلى أبيه مندهشاً:

- المصارين اللعينة؟

سحب الأب كرسيًّا وجلس عليه. ما زالت يده تحت صدره.

- ابن عمي يريد أن أقابله. ما رأيك؟

توقف المشط في رأسه. نزعه وألقاه على السراحة بجوار الراديو المغلق.

- يبدو أنه يريد رؤيتي قبل أن يموت!

ليس له سوى ابن عم واحد. كان وجيهاً من وجهاء حزب الأمة. كان يظن أنه في مأمن. يلقي النكات اللاذعة وهو مطمئن. ما دام لا ينتقد الفدائي الأول فلا خطر. لا أحد يكرهه ولن يشي به مخلوق. بنى بيتاً رائعاً على خاصرة الجبل فلم يعترضه معترض. عندما نبهه زايادان إلى خطورة نكاته طمأنه: ليس لي أعداء!

ثم يبدو أنه فكر في الأمر جيداً. ربما حذره أصدقاؤه. اختمرت الفكرة واستشعر الخطر فتبرع لحزب الأمة بأموال كثيرة. اشترى صفحة كاملة في جريدة واسعة الانتشار نشر فيها صورة ضخمة للفدائي الأول وتحتها كلمات: من القلب إلى حبيب الشعب. صار نشاطه الحزبي ملحوظاً. أحس برضاهم عليه. كانت له عشيقة يقابلها كلما اشتاقها. يفرغ فيها رغبته ويبوح أمامها بسخرياته من النظام ويؤكد أن في إمكانها أن تحكم البلد خيراً منه. لابد أن يقول وإلا انفجر. يعيش مع الناس بشخصية ومعها يتعرى جسداً وفكرًا. لا يمكن أن تشي به. أغدق عليها. كان يأخذها في الليالي المقمرة إلى اللولو. يركبان الزورق المطاطي المستورد ينطلق بهما كحوت رائع. يقول لها آخر نكتة. تضحك. يتناثر الضحك فوق الماء المفعم بضياء القمر 

- هل أذهب إليه أم ألام على فعلتي؟!

فغر فاه وحدق فيه كتمثال ثم هز رأسه ويده: لا تذهب إليه!

- ما الذي ذكره بي؟ مرت سنوات على قطع لسانه لم أزره ولا مرة واحدة. لعله يريد التأكد من فكرة تراوده. يقال إنه سيموت.

أمسك ذراع والده وضغط عليه: لا تذهب إليه!

نهض واقفاً ويده على بطنه. واجهه متحفزاً: وإذا ذهبت؟! جذبه من كتفه ولوى ذراعه. تقلصت ملامحه وهو يلوي. أحس أن ابنه لا يعي ما يفعل. لانت ملامحه مضطرًّا. ابتسم وهو متألم. طبطب عليه. خلاص يا ميادو! كما تشاء. سند يمناه باليسرى كي لا ينكسر المفصل. وسع ابتسامته المتألمة. كأنما يرى هذا الوجه لأول مرة. يكز على أسنانه في بشاعة. الذراع في وضع حرج. كاد يستغيث بمن في البيت لكن ابنه تركه فجأة. حرك ذراعه ليتأكد أنها ما تزال تعمل. لم ينته الأمر عند هذا. هوى بكفه على الصدغ الغليظ صارخاً: تكسر ذراع أبيك؟!

رآه يتكوم في ركن الصالة وكفه مكان اللطمة. من الأفضل أن يغادر المكان مسرعاً. لم يضرب أحد أبنائه من قبل. ميادو بالذات لم يفعل معه مثل هذا أبداً. تظاهر أن ذراعه أصيبت حتى يشعره بالذنب فلا يقدم على انتقام. يعرف منزل ديكادي التي أبلغته الرسالة. أمها تستلف منهم الزيت والسكر والشاي. سيذهب إليها. بيتها قريب. فتحت له وطفلها فوق ذراعها يرضع بزها الأسمر. أول ما شافته قال: اذهب إليه؛ إنه في أيامه الأخيرة!. بيت أختها مجاور للكوخ الذي "يعيش" فيه جيزيلدو منذ الاستيلاء على منزله الرائع. زوج أختها يعطف عليه. هو جاره الملاصق. كلما أراد شيئا يكتب ورقة صغيرة. ينفذ له طلباته الممكنة. وأهم من هذه الطلبات إعادة الورقة ليمزقها بنفسه!

- ولماذا لم يكتب لي ورقة؟

- لأنه لا يضمن إعادتها إليه. كتبها إلى زوج أختي فقرأها وفهم محتواها، وطلب مني أن أخبرك، ثم أعادها إليه فمزقها مزقا صغيرة بعثرها على الجبل.

هو لا يذكر بيت أختها. لم يقصده مذ حضر زفافها وشارك بأناشيد شعبية هدية من عنده لأمها، جارتهم المسكينة!. سيذهب إلى هناك وسيجد من يدله على كوخ جيزيلدو. منزل الأخت من الخشب المغطى بالطين. أهم ما فيه استقباله تيار الهواء النقي الهابط من الجبل. لم يسمح لخيالاته أن تصور اللقاء المرتقب. ترك الأمور تجري كما تجري. خرج الزوج ليستدعي الرجل. رغم عدم الترقب إلا أن زايادان تخيل الوجه المورد رغم الحزن يهل مشرقا لا ينقصه إلا اللسان!. سمع وهو يرشف القهوة صوت زوج المرأة فتهيأ للقاء. ترك الفنجان فوق المنضدة ذات المفرش الأخضر ونهض متحفزاً. أخرج زجاجة عطر شعبية وأدار بليتها على يديه ومسح خلف أذنيه. انفرج الباب عن زوج الأخت يسند كائنا يتكئ على ساعده. عينان براقتان في وجه ممصوص وقامة محنية. ابن عمي؟!. تحجر في وقفته بينما اقترب منه ومد يده المرتعدة. وجهه ممسوح الملامح. شعره مازال ناعما. أخذ الكائن يده وهم بتقبيلها. تأكد أنه منكسر تمامًا. كان يظن أنه سيسأله عمن وشي به، أو لماذا تبرأ منه أمامهم؟.. لم يحدث شيء من هذا طيلة اللقاء. كتب ورقة. اطمئن لم يعودوا يراقبونني. لماذا يفعل ذلك إن لم يكونوا يراقبوه فعلا؟ بحكم العادة؟. كتب إليه مقاطع من أغنية شعبية مما كان يردده هو!. كان يسترجع الماضي بكلمات. ابتسم له وربت على عظم كتفيه. تناول منه ورقة أخرى. كتب: ستصحبني إلى شجرة الكيمارو. أهفو لمقابلة السادة البالغين قبل أن أموت. هل البالغ سلمتول ما زال على قيد الحياة؟

إذن فهو يريده من أجل هذا. أيمكنه أن يركب حمارا أو بغلا ويقطع الدروب الطوال؟ تردد لحظات فانتقلت اليد العظمية تكتب: كأني أشم عبق أوراقها!، كأني أتسمع زقزقات أطيارها! كأني ... آه! الصحبة الصحبة!. لم يستعد الورقة بعد قراءتها ولم يمزقها.

وعندما فارقه أكد له أنه سيأتي بالركائب قريبا جدا، وسيصحبه إلى تحقيق أمنيته. مد إليه يده. سحبها قبل أن تمتد إليها الشفاه الشاحبة. تمنى في هذه اللحظة لو كان أتى معه بهدية بسيطة أو حتى بأكياس فاكهة. قام المضيف ليوصله إلى كوخه. قبل أن يغيبه الباب التفت خلفه وذبح زايادان بابتسامة. في طريق العودة نظر خلفه طويلا ليرى إن كان أحد يراقبه!

قبل أن يعود زايادان إلى حيث أتى، تخيل شيبازي الخياط. سيمر عليه. سيشتري منه قماشا يفصله ليذهب إلى الشجرة بثوب جديد. انحرف إلى منطقة ضيقة مزدحمة. كان القرداتي يمتع الأطفال ببهلوانية القرد. دخل حارة جانبية ورأى الدكان. لم يكن الرجل هناك. وجد ابنه. تهلل وجه الشاب إذ رآه. 

- مريض. أتريد أن تسلم عليه؟

- آخر مرة قابلته كان موفور الصحة.

- حط عليه المرض فجأة.

أخذ مقاسه وقص القماش. هم بمغادرة المحل.

سمعه يؤكد: والدي يريد أن يراك.

- هو الآخر؟

لم يفهم. البيت في ظهر الدكان. القرد الآن على كتف القرداتي، والأطفال لا يريدون أن ينصرفوا. لن نمشي مسافة. شد الباب فأغلقه نصف إغلاقة. قال: تسلم عليه وتعرف لماذا يريدك. أمس، في عز الليل كان ينادي عليك!

رآه نائما نومة مرض ثقيل. لم يصدق عينيه عندما ألفاه أمامه. قوارير الدواء تملأ الطاولة القريبة. المحلول معلق في أعلى السرير. الأنبوب موصول بذراعه. رجل مسن أمامه كتاب يقرأ منه دون النظر إلى صفحاته. رائحة المرض تجثم على المكان. كأن موعد مغادرته قريب!

- غدًا أو بعد غد!. يتمتم. هل ذهب إليك واستدعاك؟

- بل أنا الذي قادني إحساسي!

- أحاسيسك صادقة طول عمرك يا زايادان الخير!

الخير كان أيام زمان يا شيبازي، أما الآن فأنا أبيع عيون الناس! ترى لماذا يريدني؟ التفت العليل إلى ابنه وأشار إليه ليعود إلى الدكان وأن يغلق خلفه باب الحجرة جيدا. إذن هناك سر سيبوح به. لا أسرار بينهما. تأكد أن سره في بئر. مازال المحلول يتنزل قطرة بعد قطرة.

- كيف حال جيزيلدو؟

- عجيبة! أنا آت توا من عنده!

- صحيح؟! وكيف حاله؟

- تحت الصفر.

- لو كان يمكن أن يأخذ لساني أو قلبي أو عيني!. كنت أريدك لأمر يخصه. كما ترى، حالي أصبح كالعدم. سأفارق الحياة قبل أن أحضر المسامحة العامة عندما يصحو التنين رادونجا ويتحرك الزلزال بلانكال الأبيض، وأذهب إليه وأطلب منه العفو والسماح. سأموت قبل أن يحدث كل هذا..

كان يحاول النهوض والأنبوب الموصول بذراعه يكاد يفصل. قام وربت عليه ليهدأ. مصيبة لو مات هذا الرجل دون أن يبوح بأسراره. كلنا نسامحك أيها الرجل الطيب. إنك لم تخطئ يوما في حق أحد.

- بل أخطأت!

- أنت؟!

- في حق جيزيلدو. سامحوني!. لو كنت أستطيع الذهاب إليه لفعلت، وعندما يرى حالي قد يسامحني!

رأى زايادان بقعة دم تتحرك على الحائط ثم تلبد في مكمنها. الرجل يتهيأ لشيء. من المستحيل أن يكون مبتغاه زيارة الشجرة هو الآخر. إنه فاقد للحركة. ربما...

- في يوم من الأيام جاءني أحدهم وفي يده لفافة. ظننت بها قطعة قماش يريد أن أحيكها له. لم يكن باللفافة سوى بضع جرائد قديمة ملفوفة!. قم وانظر إن كان أحد يسمعنا من خلف الباب!. لم تستطع بقعة الدم التي غادرت مكمنها توا أن تأخذ انتباهه. انفتح الفم الجاف ليتحدث عمن لا يسمى: عرفني بنفسه فركبني الذعر. طول عمري أكرههم وأخشاهم.  قم وانظر إن كان أحد من خلف الشباك يسمعنا! مازلت أذكر لهجته وركبي سائبة: جيزيلدو يحيك ثيابه عندك، أليس كذلك؟ قلت: إنه زبوني الدائم. حدجني بنظرة تخيفني حتى الآن. قال: عندما يأتي لتحيك له ثوبا، اتصل بنا على الفور. وأعطاني رقما كتبته على الحائط كي لا أنساه. ثم أضفت له صفرا من جهة اليمين، وصفرا من جهة اليسار زيادة في التمويه كي لا يعرف أحد ماذا يعني. وخرج.

- واللفافة والجرائد القديمة؟

- تركها. لم تكن ذات قيمة. كان يريد أن يوهم من يراه أنه قادم ليحيك ثوبا. تركها وخرج. فهمت؟!

المكان كأنه مظلم؛ ولهذا تتشجع بقع الدم وتغادر مكامنها. تعالي يامارانا وانظري!. أرهقه الكلام لكنه حتى الآن لم يفصح عن شيء.. مازال الكلام يضخ النار في رأسه: وجاء ابن عمك، حبيبي جيزيلدو، ومعه قماشة يريد تفصيلها. اتصلتُ وأخبرتهم فأعطوني قرصا في حجم الزرار، وقيل لي: تضع هذا في الحشو! وإياك أن يحس به! وإياك أن تفشي السر! سنقطع رقبتك!.

 

الفصل السابع عشر: الصول إلى الغابة
في مواجهة الأخطار تنعقد الآمال على الشجاعة؛ لذا يصر تسلاف على التوجه إلى الغابة، وملاقاة طانيو الذي أراد لنهر حياته أن يهدر بين الأدغال والأحراج. لا يمكن للنسر أن يحيا حياة الدجاج. لم يعرف حتى الآن لماذا أرسلوا من يترصد خطاه. قال له أبوه إنهم يفعلون ذلك مع كل الناس. ترك لهم الأهل والمهد. استبدل بالوطن المكبل وطنًا بكرًا تغمره شمس الحرية. يسمع عنه أخوه الجديد ويتوق لمرآه. يتنهد وهو يستعرض الأحداث. علم بما جرى يوم السوق. هذا السوق أريده! تقليعة جديدة مبتكرة تخص طارندو وحده! هذا المصنع أريده ، نصفه على الأقل! هذا السجن أريده! إنه في المنطقة السكنية. انقلوا المساجين إلى الصحراء! أسطول عربات النقل الثقيل هذا أريده! فليكن لصاحبه نصفه ولي نصفه الآخر. قسمة عادلة!،

يتساءل أهالي روح الوادي، بل مواطنو الأقاليم السبعة جميعا عن هذا الأخطبوط. لا يذكرون اسمه صريحا بل يشيرون إليه بلفظ: أريده!.يتمنى فينال. وما أكثر أمنياته!، أم إنه بلا أمنيات مادامت المسافة منعدمة بين الفكرة ونيلها؟!. جاء بورديون حاكم الإقليم السابع ورحب به هو وموظفوه كل هذا الترحيب، ثم أمر بجاموستين يوزع لحمهما على المساكين، لم يأخذ صاحباهما من ثمنهما شيئا! وكيف يأخذان والأمر يخص أريده؟!

بدأ الناس ينتقدون حكام الأقاليم جهرًا ولا ملامَ عليهم ما داموا لا يرتفعون بالنقد إلى الفدائي الأول وأسرته. هل وصلت تذمراتهم وشكاواهم إليه وعلم بها؟ هذا مؤكد وإلا فلماذا أقيل بورديون من منصبه؟ وكذلك حاكم مجمع المدينة تم نقله إلي منطقة نائية ليرضى الشعب. لكن السوق صار في قبضة أريده! تساءل تسلاف في أعماقه السحيقة عن العلاقة الخفية التي تربط أريده برأس النظام. لكأنه ابنه المدلل!

***

كان والده الجديد قد ودعه عند محطة السكة الحديد العتيقة شمال روح الوادي. بكى وهو يوصيه أن يشهد على مدامعه هذه عندما يقابل طانيو. لو كنت أستطيع الوصول إليه لفعلت. وأعطاه بعض المال. تردد في أخذه لكن الرجل الذي كان يبكي أصر على العطاء. في الطريق إلى المحطة فجأهم حشد هائل من الشبان والشابات مغادرين المدارس، فضلا عن القرويين القادمين إلى المدينة، وأيضا الداخلين أو الخارجين من المحطة. تساءل: كم مليون رغيف يلزمهم كل يوم؟!

وكان يتمنى أن يركب القطار لينام. كانت السهرة عند أهله الجدد أكثر من رائعة. وفي خياله ما زالت تاتولا ترقص. يراها فوق الأفق، وعلى سور المحطة، وفوق أسطح عربات القطارات العتيقة. وعندما يقترب وجهها يلمحها تغمز بعينيها بشقاوة. في فمه طعم قبلتها ما يزال معتقا. سمعهم يعلنون عن القطار المتجه إلى الشمال الغربي. رأى القطار المعفر يزفر. اندفع إليه أناس هزيلون على سحنهم كآبة. عانقه والده الجديد قبل أن يعطيه ظهره ليخفي دموعه. كراسي القطار رديئة. كلها من الخشب. معظم النوافذ زجاجها محطم. لا يكون القطار مزدحما في أوله. تمكن من العثور على كرسي خال مجاور لنافذة سليمة. الآن. يغمض عينيه ويسلم الزمام للنوم. ما كل هذه الطيور المنتشرة في رأسه تصيح وتزعق؟ الإوز العراقي ودجاج الوادي وما لا يعرف له اسما ولا شكلا. ما كل هذا الامتداد العاطل للمراعي والمستنقعات؟! تاتولا في انسياب رقصاتها تتملكه، وقدماها فوق الأدغال والكهوف والأخوار. غابات من التين الشوكي ممتدة لكن قدميها تتحركان بخفة وكأنما فوق سجاد موغل في التاريخ والعراقة. ينام ويصحو والقطار في رحلته المتسكعة الشاقة. أكد لها أنه لن يؤوب إلا متوجا ببرهان شهامة وشجاعة. ينام ويصحو والكمساري حفظ شكله وعرف أنه مع القطار حتى النهاية. مرت محطات بلا عدد. استيقظ الفجر وأشرق النهار. خيم الليل وابتسم القمر والقطار في تسكعه الدؤوب. أيقظوه وقالوا إنها محطة النهاية. لم يصدق أذنيه. لا سور للمحطة. انقطع الخط الحديدي تماما أمام مصدات قوية، متحدية قي بلاهة. جمع حاجياته ونزل. لم يكن جائعًا. حمل حقيبته على كتفيه وانتحى جانبًا. فتح بنطلونه ليتبول فوق كومة يابسة. كان نابتا فيها عود يابس ركز عليه ماءه عله يسقيه! المكان مترامي الأطراف، فقير في كل شيء. في ركن بارز كان رجل مسن جالسًا وفي يده علب ثقاب. ظنه يبيعها. رأى شخصًا يتجه إليه ويعطيه دون أن يأخذ منه علبة. علم أنه يستحي أن يطلب إحسانًا. جلس قريبًا منه يتأمله. هبت نسمة هواء لا يدري على أي الأماكن مرت قبل أن تحط عليه. لم يحس بوجوده. مد ذراعه على آخرها وأعطاه. تفحص العملة وأشرق وجهه. في الحال انخلق صف من المتسولين. كلهم يمد يده. كأنه لم ير أجسادهم الهزيلة التي تسد جانبًا من مجال الرؤية، ولا المرقعات التي لا تستر تلك الأجساد. فشل في ألا يتجاهلهم. هل أمثال هؤلاء يسمع عنهم الفدائي الأول؟. بدأت الأيدي الممدودة تتراخى وتسقط يدًا بعد يد. أهؤلاء يضعون قرني ثور فوق أسطح أكواخهم؟ أم إنهم بلا أكواخ؟ أعطاهم عملة كالتي ناولها لصاحب الكبريت. اقتسموها!، وهشهم فانصرفوا. ابتسامة الرجل أشرقت لها الكرمشات في وجهه. سمعه يتمتم:

- أنت غريب عن هذه المنطقة؟

- كيف عرفت؟

- الناس هنا يعرف بعضهم بعضًا.

معك حق. لن أطمئن إلا بعد أن أعرف أين وكيف سأقضي الليل في هذه المجاهيل. هبت نسمة هواء أخرى. أين أنت يا تاتولا؟ للرجل عينان عسليتان ضيقتان. هل تسمع عن منطقة تسمى خور كاتال؟

جاءه الرد بعد زمن طويل كالنسيان:

- انظر إلي الربوة التي هناك في آخر البصر.انظر. هل تراها؟

وجهه غريب التقاطيع، والكرمشات؟ حاول أن يعرف أين تبدأ وأين تنتهي...إذا كنت أنت تراها فلا شك أني أراها أيها العجوز الطيب.

- ومن قال إني ما زلت أراها أيها الشاب؟ أنا أشير إلى اتجاهها فقط.

ثم تنهد كأنما يتحسر!. المسافة من هنا إلى الربوة ثلث المسافة من الربوة إلى خور كاتال. عندما تصل هناك سترى أشباحًا قاتمة تحيط بالمكان، إنها الغابة. عرف الآن لماذا لم يقم أحد بزيارة طانيو!. تساءل إن كان الطريق آمنا!

- ليس آمنا تماما. لكن لماذا تريد الوصول إليها يا بني؟

- أريد أحد معارفي القدامى. اسمه طانيو.

- جميل أن يتجشم الإنسان كل هذه الصعاب من أجل صديق قديم.

- آه! ماذا قلت؟ طانيو؟ جادالا طانيو.. ومن لا يعرفه؟ اذهب ولا خوف عليك. لن يتعرض لك إنسان عاقل!. واتسعت ابتسامته: سأقدم لك خدمة! انتظر هنا حتى يأتي أحد الذاهبين إلى هناك، وسأجعله يردفك على دابته.

تطلع إلى الدروب حواليه. اندهش عندما تبين له أنه لم يتبين الوقت بعد. لم يفكر إن كنا أول النهار أو آخره!، لكنه منشغل بتأمل ملامح العجوز. سمعه يتمتم: جادالا! ذلك البطل! تزوج من قبيلة البكانكي. ومن لا يسمع عنه؟ كاد يسأله إن كان يعرف شيئا من الأدب الشعبي! لم يفعل لأنه رآه منشغلا بالحديث مع رجل ترجل توا عن دابته. هل حانت الفرقة؟. وهذا زنكوده الذي لم تنفرج أساريره إلا بعد أن قال له صاحب الكبريت: ضيفك هذا من أقارب طانيو

- زين الرجال. صهر البكانكي.

- إذن فأنت تعرفه؟

- الآمال معقودة عليه في صيد أشرس أسد ظهر في المنطقة!. ذاق ذلك السبع لحم الإنسان، وأصبح لا يفضل عليه لحم أي حيوان آخر.

عاد إلى دابته وأفسح للشاب مكانا. يظل يقطع الطريق على المسافرين ليفوز بأحدهم!

- أخفتني!

- لا يخاف الرجال!. هو ليس في هذه المنطقة. اطمئن!

- ما أتيت إلى هنا إلا لأكون في صحبته عندما يصطاد الأسد.

- أو كنت تعرف؟

كان يحدثه ويتأمل قفاه الذي يشبه جلد ركبة الماعز. ساعده على اعتلاء الناقة. سمعه يدندن كأنما يحدو قافلة. أين هي الآن لتراه في العلالي؟ وصلا بعد ساعات إلي التلة وتبدى الطريق صاعدًا. المكان تتوحش منه الوحشة. يتلفت حوله متوجسا أن يباغته الأسد رغم علمه أنه بعيد. إنه لا يكتم الخوف بل يستخرجه. يبوح به لرفيق الدرب ميت القلب:

- ماذا لو باغتنا ذلك الوحش؟

- إنه في الجانب اآخر.

- نفترض أنه فكر أن يأتي إلى هنا!

- كيف يترك عرينه كل هذه الأميال

- إن راودته الفكرة لن نقاومه، سنترك له الدابة يفترسها وننفد بجلدنا!

- سيشم رائحة الإنسان و......

والطريق يمتد ويتلوى، وكلما مر وقت هدأت المخاوف حتى قال له: وصلنا! كاد يفرح لولا أنه تأمل المكان. أين هو الوصول؟

- لقد وصلنا إلى باسويقا.

- أي باسويقا تعني؟

- هذه الشجرة الطيبة. نرتاح ساعة ثم نواصل المسير.

- ذكرتني بشجرة الكيمارو

- نسمع عنها!

رآه يتمدد على الأرض الطرية قصيرة العشب وقد وضع حذاءه تحت رأسه. يبدو أنه شم رائحته. عاد ونهض. نزع جلبابه وكوَّرَهُ وأراح عليه رأسه. راح يغط في النوم. تكاثفت الوحشة. تثاءب. هل يمكنه أن يفعل مثله؟ فمه مفتوح كسمكة ميتة والذباب يلهو حواليه. ظلال الشجرة تأتي بالنعاس وتقول لليقظان هيا أغمض عينيك!. تطلع إليه. عف الذباب على فمه فطرده بزفرة قوية. الدابة ترعى. رآها تعاين المكان قبل أن تستلقي على جنبها. هل يوقظه؟ أيغضب إن أيقظه؟. سرحت سحلية لمع جلدها في الشمس. قبَّ شعر رأسه. تبًّا لهذا الهدوء القاتل!. بعد ساعة فتح عينيه وأغلق فاه. نظر في خطوط يده.

- معك طعام؟

أخرج من حقيبته خبزًا وجبنًا وبعض الفاكهة. أكلا معا واستأنفا الترحال. كان قلبه ينتفض كلما فاجأه وجه أسمر فوق رقبة طويلة تلمع عيناه كنجمتين، والحربة الطويلة في يده، يتفحصه ثم يسمح بالمرور. قال زنكوده: إنهم يعرفونني؛ ولذلك لا يعترضون عليك! لو كنت جئت وحدك لتغير الحال.

- كنت سأقول لهم إنني صديق طانيو.

- طانيو أصبح من الشهرة بحيث يتمسح به الكثيرون!

***

لاشك أنها في أوج سحرها الأسمر تلك الغزالة التي أحبها طانيو، ومن أجلها قرر البقاء هنا. يفعل الأعاجيب الحب. يهفو لمعاينتها، والمقارنة بينها وبين غزالته التي خلفها وراءه في روح الوادي، ويغامر من أجلها. تلك التي ترقص أجمل من سمكة معلقة في شص! حدسه إذ رآه. تهيبه. كان بين ثلاثة من أتباعه يحملون أسلحتهم. يمشون. أما هو فيعتلي ظهر ثور هائل ذي قرنين في ضخامة نابي فيل جبار. ملامحه تشي بأنه عرفه. ترجل في خفة واقترب منه غير مصدق. تغيرت خريطة العالم وتبادلت مواقعها القارات!. فدفاده، يا فدفاده! إنه ليس غريبًا. تعالي! لا بأس أن تراه عيناك. يا دنجونه يا ابنتي، هيا أقبلي لأعرفك بصديق والدك!.

البنت الصغيرة تحبو كأنها قردة نشيطة. ضحكت له ثم استدارت.  نهض ليشيلها ويداعبها. توقف فجأة مبهوتًا. رأى مؤخرتها العارية والذباب يعف على بقايا صفراء لاصقة بوركيها. نهرها أبوها ولعن سنسفيل أمها. نادى كالرعد: يا دندرة! يا بنت يا دندرة! يا بنت الخنازير! هكذا تتركين سيدتك الصغيرة!

ظهرت مرتعدة مرتعبة. حملتها ورمحت بها إلى الداخل.

صرخ: سأعاقبك على إهمالك. إذا كانت سيدتك ما تزال في سريرها أيقظيها!. قولي لها تعد لنا الطعام. إياك أن تمدي يدك إلى الأكل يا خنزيرة!

لم يمض وقت حتى ظهرت فدفادة. لم تترك نومها وتأتي. ملامحها صاحية تماماً. من فمها تشرق ابتسامة تضيء ليل غابة بأكملها. كاد يسمع هدير شعرها المتمرد شلاله ليضرب المجرى السحيق. تأمل الطفلة التي كانت تحملها فعرف أنها هي هي. ألبستها ثيابًا موشاة بالقصب وجاءت كزرافة حقيقية. هزت رأسها تحية للضيف وتأسفت على شيء مبهم. ربما على رؤيته قذارة ابنتها. كانت تأخذ حظها من القيلولة... والخادم سأربيها و.. رأى الذباب على عيني الصغيرة فلم يستطع أن يسكت: خلصي عينيها منه! الذباب خطير جدًّا يا سيدتي!

رنت ضحكتها ككرباج: الذباب أيها الضيف! خطير جدا؟ ما أغرب هذا! إن أي طفل يمكنه أن يفعص حفنة منه بيده الصغيرة! ماذا تقول إذن عن الحيات؟ هه؟، والأفاعي ذات القرون والأجراس؟ لا أصدق أنك من البلد الذي أنجب زوجي! حتى فضلات ابنتي لا عيب فيها.  لو أحست بها الدجاجات لالتهمت ما يتساقط من بين فخذيها. أنت غلبان جدا.

- تسلاف هذا صديق قديم يا زوجتي!

- لم نره من قبل ولا ندري أية ريح حدفته علينا!

غضبها صريح. رأته يخشى الذباب بينما زوجها لا يرهب الأسود.  إنها تحتقره بالتأكيد.

- صحيح يا صديقي القديم، ما الذي جعلنا نمر على بالك هكذا فجأة؟ هل أبي بخير؟

- إنه يحملني السلام لك ولأسرتك كلها ويتمنى رؤيتكم. للجميع هناك أمنية: تواجدك معنا في حفل زفافي أنا وأختك.

- أحقا؟. تكسرت ضحكتها فتافيت كرستال. لعلك أخفيت عنهم خشيتك وخوفك من الذباب.

رنت ضحكتها لكنه لم يفعل سوى الابتسام. ربما إذا تحدث زادت الأمور تعقيدا. هي لن تسكت. هل ترى زوجي هذا الذي كان زميلك؟ الجهة كلها تعقد الآمال عليه ليصيد أشرس أسد. ذاق لحم البشر فكره لحم البقر. صار يرعب القوافل المارة، ويؤرق الذين يسكنون أطراف المقاطعة.

قال وهو يضغط على الحروف ليؤكد: إذا قرر أن يصيده سيجدني معه.

- أنت أنت؟!

- نعم وسترين.

- لن أخسر شيئا إذا صدقتك، ولكنك ستخسر الكثير إذا تخاذلت.

وقامت تتهادى وعيناه لا تنظران إلى ظهرها

 

الفصل الثامن عشر: البنت المتوحشة
صينية من النحاس اللامع عليها أطباق أدهشه جمالها غير المستباح. منقوشة، ناطقة بالفن الوحشي. لمح شرائح لحم مقدد وعسل أبيض وخبز غريب الشكل. هذا ما تعرف عليه. لن يمد يده إلا إلى العسل وشرائح اللحم الشهية. فليتابع جادالا وهو يأكل ليقلده. رآه يمسك الشريحة ويغمسها في العسل، ثم يرفعها ويديرها أمام فمه؛ كي لا تنقط، ثم يلوكها. سيفعل مثله.

- إذن فتاتولا كبرت وصارت عروسا.

- صارت غزالة جميلة، تركت التعليم الحكومي والتحقت بمعهد الرقص الشعبي.

في يده شريحة هائلة من اللحم المقدد دفع طرفها في العسل قبل أن ينذره: إياك أن تكون ذقت لحمها قبل موافقة والديها!

- هذا ليس من الأخلاق الشعبية يا سيد طانيو. لم يحدث ولن يحدث إلا بعد أن يضمنا بيت واحد.

- وماذا كنت تفعل معها في زياراتك لهم؟

- نأكل. نتحدث. أحيانا كانت ترقص.

- وأخي دنجو سيتوظف أم سيكمل تعليمه؟

- هو ونصيبه. أظنك سميت ابنتك اسما مقاربًا لاسمه!

- دنجونة؟ نعم هو ذاك. هذا النوع من الطعام لا تجدونه عندكم.

لم يحاول أن يستفسر عن كنه هذا اللحم. لم يتركه طانيو لأفكاره. إنه لحم زراف!. سترى السجادة الجميلة الصفراء ذات البقع الداكنة. أعني جلدها المدبوغ الذي يزين إحدى حجراتنا. لم تقل لي رأيك في الطعام!

- ألذ لحم أكلته، وأشهى عسل تذوقته يا أخي الجديد.

- تقول إنك جئت لكي ..؟ إنك فيما يبدو لم تقدم تفسيرًا لزيارتك.

- لقد وعدت أختك بهدية أقدمها إليها في عرسها. غزال جميل أطير رأسه على عتبة الدار قبل أن أحمل محبوبتي وأدخل بها كيمامة إلى العش السعيد.

- سأعلمك كيفية اصطياد الأيائل أو الوعول الكبيرة. الواحد منها ضخم يملأ العين. جميل يبهج القلب. حركاته تفتنك بالدلال والخفة. أما عيناه الواسعتان كعيني فدفاده. وابتسم وهو يرمق زوجته بإعجاب. لاشك أن أمها تـطلعت كثيرا إلى ذلك المخلوق الرائع وهي تحملها في بطنها!

- أمي؟ شهقت المرأة.

- أجل أمك، وإلا فمن أين لعينيك كل هذا الجمال؟ وعينا دنجونه واسعتان كعيني أيل. اتفقنا يا صاحبي؟ لا تنس موضوع الأيائل!

رأى عينيها تضحكان. لثاني مرة يرى ضحكَ عينين. سمعها تقول إن لصغار الأيائل نظامًا عجيبًا في الحياة. مازالتا تضحكان. لا يمكن أن يظل محدقا هكذا في وجهها دون أن يحدثها.

- إذن فأنت خبيرة في هذه الشؤون؟!

- لا تقاطعني يا أبله!

- أنا أبله؟

- اسمع! الأمهات يخرجن إلى المراعي كل صباح تاركاتٍ هذه الكائنات الصغيرة الجميلة في منطقة كثيرة الحشائش، تندس بينها الصغار متخفية عن أعين الصقور. هكذا تظل في مأمن حتى تعود القطعان في المساء وقد امتلأت ضروع الأمهات باللبن. كل أم تنادي رضيعها بصوت واهن يذوب حنانًا.

 وهنا بدأت تقلد أصوات أمهات الأيائل.  تفجرت في صدره مشاعر. انبثقت وجدانات. هذا الفم الفاتن الذي يشتم أحيانا، تصدر عنه الآن أصوات تدعو وتنادي!. قالت: ينبعث الصغير من مكمنه متجها إليها، ملتقما حلمة ضرعها. لا يخطئ صغير ويذهب إلى أم غير أمه.

لا شك أنها لاحظت شغفه بحديثها، وانسياب النداءات من فيها، وأعجبها ذلك. كان يصبو إلى رضاها. لعلها تنسى خوفه من الكائن التافه الطنان. هم ليعاتبها على وصفها إياه بالأبله لكن ضحكتها رنت فجأة كطائر سعيد. قالت لزوجها:

- اذهب به إلى الحارس فاينده ليرى الثعابين التي يلهو بها أولاده كما  بالقطط الأليفة. أطلب منه أن يجعل..... ما اسمك؟

- تسلاف.

- أن يجعل تسلاف يلعب بالثعابين.

- صبرا؛ فهو لم يتأقلم بعد على حياتنا هذه.

- بل ستذهب به!

خشي أن تحدث بينهما مشادة بسببه. هل سيخضع قاهر الوحوش لفدفاده؟ أطرق الجميع لصوت يرجُّ السكون رجًّا، يطلب حامله مقابلة طانيو. قال للخادم وهو يجمع ذيل ثوبه في يده: أدخليهم!

ثلاثة رجال عراة الصدور وامرأة مغطاة بالسواد، قصيرة منحنية. لمحهم يمرون من أمامه في طريقهم إلى الحجرة المخصصة على ما يبدو للزائرين. بعد برهة انقطعت حبال قلبه لصرخة لم يشك في أن المرأة التي تنوء بحمل السواد والزمن أطلقتها. سمع كلمة من هنا وكلمة من هناك وعرف أن الأسد التهم زوجها. وبعد أن غادروا قالت فدفاده: أبشر يا تسلاف، سترافق زوجي في رحلة صيد العفريت! لا تندهش هكذا. العفريت أسهل من هذا الأسد. سيصيده زوجي بعد أن يكون نهش وسطك أيها الأبله.

- أنا أبله؟

- حاول تنسى ولا تكن حقودًا!

- وإذا جئتك سليما معافى؟

- أكافئك وأزوجك أختي الصغيرة!

- ماذا قلتِ؟

- قلت حاول تنسى ولا تكن غبيا!

- ألم تعلمي أني سأتزوج أخت زوجك؟

- وأختي أيضا إن كنت تستحقها!

شهق دون وعي: أهذا ممكن؟

- ولم لا تتمتع بنعجتين أيها الخروف؟

- لا أريد سوى واحدة!

- فلتكن تيفونده إذا وافقت عليك!

مبهوتا ظل يحدق فيها: إذا وافقت علي؟

- لا بد أن تعجبها أولا، وتملأ عينها، وتقتنع بك وعندئذ قد تصبح مثل طانيو.

- إنني لا أسمع صوته، أين ذهب؟

- دعك من هذا وقل لي يا أخي الجديد ألا تريد شيئا ؟

- ما هذا الذي أسمع؟

- قل لي أولا ألا تريد أن ترش الماء على جسمك المعفر بغبار السفر؟ الماء عندنا وفير، والخير عندنا كثير. يا بنت يا دندره، خذي سيدك وأريه طريق الحمام. بعد ذلك جهزي الموقد الكبير لنعد طعامًا ساخنًا للضيف. هيا يا خنزيرة بسرعة وإلا قطعت ذيلك! تحركي وأحضري الصندوق ليختار منه الملابس التي يريدها.

- معي ملابسي!

- طريق قوافل يمر قريبا من هنا ويهدون طانيو أشياء كثيرة جميلة. زوجي يقدم خدمات لكل من يقصده، بل إن عائلتنا تقوم بتأمين خط سير القوافل. ألم يصلك صيت قبيلتنا؟

مكعب ماء فوق حوامل خشبية متينة. فتح الصنبور وأسلم جسده للماء. ملابسه الداخلية مقرحة من غبار السفر وتدعو للخجل .هل يغسلها أم يتركها لتغسلها دندره الخنزيرة؟ ضحك. هي خنزيرة وأنا جبان وأبله. بل خروف لنعجتين!. الملابس التي أعدها ليرتديها تركها خارج الحمام. هل ينادي على أحد ليدخلها له؟ الماء تنساب على جسده كأنما يتسلل من قارورة عطر هائلة!. فاجأته رغبة في الغناء. استشعر تاتولا قادمة على جناح البخور. تاتولا، رجفات الجسد على إيقاع الرغبة. تاتولا، هل صاح مناديا عليها؟. انفتح الباب فجأة: أنا تيفونده!

براحة يده ستر ما استطاع من العري. رآها وملابسه في يدها. ابتسامتها تسطع بالجراءة. الماء عندنا جميل. أليس كذلك؟ ما يزال مبهوتا لا يدري كيف يخبئ عريه. الصابون على بعض جسده ساتر لكن الرغوة تنحسر. حاول زحزحة الباب فتصدت له: ألا تريد أن أغسل لك ظهرك؟ دندره تفعل معي هذا. أختي وزوجها كل منهما ينظف ظهر الآخر.

واندفعت داخلة وأغلقت الباب بظهرها!. فليحاول تذكيرها: ألا تخشين أن يحضر زوج أختك؟

- دندره تراقب الطريق.

- وأختك؟

- أيها الرجل الجبان! حقا إنك تخاف من الذباب!

هل وصلها الخبر؟. ورنت ضحكتها المبللة بالماء: يا خواف! هيا أعطني ظهرك!

كورت يدها على حجر أسود فحذرها: سيؤلمني!.إنه ناشف!

- بل أنت الطري!. لماذا تضع يدك هكذا؟ أرني ماذا تخبئ؟

أمسكت بذراعه لتحرك يده. صارت تأمره: أرني! أرني ناب الفيل!

***

تناولوا العشاء. كان اللحم المشوي هو فرحة لسانه ومعدته. لم يقرب الخضار المطبوخ. رآه خليطا من أنواع متنافرة الألوان. شم فيه رائحة موز.

- نطبخ الموز مع كل أنواع الطعام .

تناولوا أقداح القرفة بالزنجبيل. شرب مثل ذلك في بيت والده الجديد. عادت إلى ذاكرته تاتولا فكأنما هي التي قدمت له الفنجان. كل شيء رائع، وخصوصا القمر الذي يفرش ملاءته على أكتاف الغابة. الأشجار مسحورة بنوره وهو في العلالي يزهو بجماله. كأنه يقترب ويقترب! رأى تاتولا تتشعلق في حباله. تمسك شعره الأبيض وتجذبه كمظلة وهي تهوي إلى حجره. ناجاها: ألا توجد وسيلة أتحرر بها من كل هذه الحرية وأعود إليك؟

- أريد أن أرقص!

تيفونده الجريئة! هل كانت أختها أجرأ منها عندما استولت على صائد الوحوش وأنسته أهله؟ وهل سأصير مثله؟ دافعي عن حبك يا تاتولا قبل أن تبتلعه الدوامة! من سيدق الطبل؟ أريد أن أرقص؟ ألا تسمعون؟ لا يمكن أن يكون القمر في حجم الغربال المليء بالدقيق الأبيض الناصع ولا أحييه برقصة!! من سيدق الطبل؟

كانت الطبلة معها تحتضنها، ثم قربتها من شعلة النار. خذ يا تسلاف!

- لا أجيد ذلك.

- حاول وسأتجاوب معك.

قال قاهر الوحوش: لا تكسر شهوة البنت. دق لها!!.

لا مفر من التجاوب. بدأت أصابعه تعمل. تحول الصوت إلى طاقة. يا لقوة البنت الوحشية المسكونة بالأشباح! لكأن التنين رادونجا يتقمص جسدها! لم يتصور هذا. بمؤخرتها تضرب ذات اليمين فتجعل أشجار الغابة تنكفئ على الوجه، وتضرب بها ذات الشمال فكأنما تدك الجبل دكا!!، والطبلة تفعل الأعاجيب بالجسد العفي . بأصابعها تطقطق وهي تطعن الهواء الذي أمامها ثم الذي خلفها. كل ذلك بخناجر لا وجود لها لكنها تفعل الأفاعيل. جعلت من ذراعيها ثعبانين يتلويان، ثم مالت إلى الخلف حتى صنعت من جسدها جسرًا مقوسًا، قمة ارتفاعه سرتها. وما تزال تطعن. لم تتعب. وجدها تقصده. أمسكت يده وسحبته إلى حلبة الرقص.. لا مفر!. لن يظهر لهم أنه غشيم. كيف يفر من وجه السيل الجارف؟

داهمته في حجرته والليل ينام إلى جواره، قالت: جئت أودعك قبل أن يقضي عليك السبع غدًا.

- غادري قبل أن تسببي لي فضيحة!!

- ليس عندنا فضائح. الفضيحة هي أن أطلبك أنا وتعطيني ظهرك.

- وإذا فاجأتنا أختك؟

- اطمئن! لقد طلبتك منها. ألا تصدقني؟ طلبتك منها فقالت إنك تخاف من الذباب!

 

الفصل التاسع عشر: ثلاثة رجال في عرين
لم يتوقع أن يفتح جفنيه على وجه طانيو إذ جاء ليوقظه. استأنس المكان ثم سرح في الوجه العريض. جلس قي سريره وهو يردد التحية. تعمد أن يكرر كلمة أخي الجديد مؤكدًا على الوشيجة المرتقبة. فوجئ بالملامح متعكرة. الطلعة الآدمية منقلبة إلى سحنة أسد. كأنما اللبدة الهائلة تسرع في نموها وتكلل الرأس. الفم يتحول إلى حنك عريض. كأن الصوت المجسم سينقلب إلى زئير هائل. قلت إنك جئت لتصيد غزالا تطيح برقبته ليلة زفافك على أختي تاتولا....أحقا جئت من أجل هذا؟

رآه يرفع يده ويعلقها في الهواء كما يتأهب السبع ليلطم فريسته لطمة الموت. يعتصره القلق. أخي الجديد!. ويكررها. شيئا فشيئا تناثرت الملامح الوحشية. سمعه يقول: تعرف أنني جئت إلى هنا منذ سنين. تركت لهم الجمل بما حمل. لم أتساءل عن سر ذلك الشخص الذي أرسلوه يتتبع خطاي. قلت: سأرحل. ورحلت. أتفهمني؟ قال: أفهمك. وإن كان في الحقيقة لم يفهم شيئا.

- إن كانوا أرسلوك ورائي سأطعم جسدك العفن للكلاب الضالة!!

- أنا؟

أخشى ما يخشاه أن تكون البنت قد سببت له مشكلة؛ فأقسم باللولو وبالشجرة وبالتنين أنه مظلوم. ثم استعطف: أنا لست غريبًا عنك، أنا أخوك الجديد. أهذا جزائي لأنني أحببتكم و....

- ربما يكون كل ذلك من تدبيرهم!!

وأعطاه ظهره ليغادر الحجرة فقام يستبقيه. أمسك كتفه فكأنما أمسك بجدار.

- بدد هذه الأوهام فليس لها أساس! ستجدني أشد الناس إخلاصًا لك ولأسرتك.

- هل ستأتي معنا؟

- لاصطياد الأسد؟

لاحت فدفاده كزرافة تتعاجب بعنقها العجيب. شهق عندما رآها: سأثبت للجميع أنني شجاع جسور!

- هكذا؟ إذن هاتي له السيف الساحق يا فدفاده!

- سيف والدي؟

- أجل. وليكن من بطل إلى بطل.

نزع الغمد، فلمع النصل. لأول مرة في حياته يضع يده في يد شيء كهذا، ثقيل جدا يكاد يخلع الذرراع.

- هذا السيف نائم في جرابه منذ أعوام، ونريد أن تكون يقظته على رقبة أسد. ووضع يده على عنق تسلاف!، ثم زأر: فدفاده! أعدي بندقيتي وأحضري سبعين رصاصة. أين دنجونه؟ ما تزال بعد نائمة هذه الكسول؟

- هل سنخرج الآن؟

- في طراوة العصاري.

طانيو ومعه بندقيته، يتبدى شاهقا فوق جمل هائل.

تسلاف وبيده سيفه، فوق جمل آخر. مرَّ ليلٌ كامل وهما يشقان الدروب إلى كدكدات. طلب من تسلاف أن يردد أهازيج شعبية طرب لها طانيو. هي بالتأكيد ما سهل تصرم الليل وتسربه من يد الآفاق. في البداية خرج الصوت متحشرجا يكبله الخوف. هناك ينتظرهما الدليل. متى يصلون إليه؟ فليعترف أنه لم يعد يخشى الأسد وحده! أحيانًا يكبله هاجس أن طانيو سيمد يدا طويلة ويعصر عنقه بأصابعه!. وصلا فوجدا الرجال في انتظارهما. كان الصباح قد شقشق. تناولا إفطارًا جيدًا ثم راحا في النوم ليستيقظا والشمس في عنفوانها. ناولوهما مشروبًا بعد مشروب. كانوا يتسابقون لتقديم التحية للبطل ورفيقه. رأى تسلاف أن يستعرض شجاعته: لن أستخدم بندقية في صيد الأسد. بل سأصرعه بسيفي هذا. سأشطره شطرين!.

هلل الرجال، وزغردت النسوة القصيرات. لماذا هن قصيرات هكذا؟ كأنما يدكهن الزمن دكا! لماذا فدفاده وأختها زرافتان؟ قال رجل لرفاقه: أردتم بطلا واحدًا فجاءكم اثنان. تعالى صياح: لا شجاع يعدل طانيو. اندفع الأولاد والبنات يرددون خلفه، ويتقافزون كالقرود. أناخ الدليل الجمل وداس فوق رقبته ليصعد. بندقيته مشدودة إلى كتفه. ناوله أحد الرجال جديًا مثقوب الأذن. ينفد من الثقب حبل رفيع. تناوله الدليل تعلو مأمآته. ربت عليه ليسكت فأبى. قال له سأغني لك أهزوجة لتنام. ثم تحركوا. الشمس تميل والوحشة تسري. يمر الوقت ناثرًا أشواكه فوق الإنتظار. احمرت السماء واقترب اللقاء. بعد الغروب بساعتين حانت المواجهة. المطايا تتهادى. الدليل في الأمام وهما خلفه. هذا النسيم المتموج الذي تنحني له الأغصان لا يشعر بشيء. هذا القمر المبتسم الحنون لا ينبئ إلا بالسكينة. سقط السيف من اليد لأن زأرة مدوية، ساحبة كالدوامة، هزت المكان واعتصرت القلب. أراد أن يصرخ: أين سيفي؟ لكن صوته لم يخرج. رأى الجمال تبرك فقد أراد لها الرجلان ذلك. لمح سيفه فقبض عليه دون أن يلتفت أحد إلى ما حدث. قيدوا الجمال كي لا يسلمها الرعب إلى الفرار.

- ماذا تنوي أن تفعل الآن؟

- سأهاجم ولن أنتظر!

- ليس هذا من الحكمة في شيء.

- ليس لأحد رأي هنا سواي.

- عفوا يا سيد الرجال، إنك لن تستطيع إصابة هدفك في غبشة الليل، وأنت تعرف أن عدم إصابة الهدف بدقة تجعلنا جميعًا تحت رحمة الوحش الهائج. قال تسلاف الذي تعب من متابعة الحوار: عظيم عظيم. هذا حق. فلننتظر حتى الصباح. الدليل معه حق يا أخي الجديد. زمجر طانيو: كان يتحتم أن أقيدك مع المطايا. كيف نأمن للسبع ونترك له المبادأة؟! ثم بدأ يضغط على حروفه ضغطًا: متى صار الوحش قريبا منا، أطلق عيارين دفعة واحدة لتعمي عينيه.امتثل الدليل. خفف طانيو من لهجته: أترى هذا المكان مناسبا للمعركة؟

وتحرك ليقيد الجدي من قدميه إلى وتد دقهُ في الأرض، ثم عاد ممسكًا بالحبل النافد في أذنه. سيتم جذبه فيتألم الحيوان. سيصدر صوتا باكيًا يسمعه ملكُ الغاب فيسعى عندئذ إلى حتفه. اتخذ طانيو مكمنه على مسافة لا شك أنه حددها بدقة. من خلفه بذراعين كان الدليل ومعه بندقيته محشوة بعيارين، أما تسلاف فمن الجهة اليسرى ومعه سيفه. نسي أن ينزع عنه غمده. أخذ طانيو يصوب تجاه الجدي ليتأكد من الاتجاه الصحيح، والمسافة، ثم غمغم: كل شيء على ما يرام. اجذب الخيط ليسمعنا صوته. حسنا. إنه يتألم جيدًا!.

تظلم الدنيا لحظات حتى يمر جناح غيمة، ثم يفرش القمر المكان بضيائه. هيا اجذب الخيط .اجذب!. مأمأ الجدي، ثم انطلقت زأرات كأنها الزلزلة ضربت الغابة. كأنها هزت القمر غير المكتمل فارتبك ضياؤه. كأنما نثرت الرمال فحجبت الرؤية. جاء صوت الدليل كأنما من تحت صخرة: الهدف على مسافة خمسين ذراعا، هل أضرب؟

- لم يحن وقت الضرب بعد!

يتوقعون أن الأسد يتحرك الآن تجاه جدي الماعز. يجذب الحبل فلا يصدر عنه صوت. شل الخوف حنجرته. اجذب الخيط ، اجذب! لمحوا الكيان الثقيل الواثق يتهادى شامخًا، نظيفًا، مبهرًا. ثم يسرع الخطى باتجاه الفريسة. دوى الرصاص فتردد صداه في الصدور وفي المكان الخالي. هل شم رائحتهم؟. استدار واثبًا تجاه الخطر. دوت رصاصة أخرى ظنوها أصابته وهو مندفع نحوهم. رصاصة أخرى عن قرب سيعلمون لاحقا أنها كسرت ذراعه. صار يصدر عنه عويل ثقيل وزمجرة دامية. رأوه يدير الدفة، يتحرك إلى الجهة الأخرى منسحبًا يتوارى.

- لماذا لم تطلق أي طلقة أيها الدليل؟

- تعطلت البندقية ياسيدي!

- بل نسيت أن ترفع الزناد؛ لذلك لم يطاوعك التتك! لقد شل تفكيرك أيها الهمام!. وأنت؟ تختبئ في ظلي، وتضربني بالسيف؟

- أنا ضربتك؟

- أوجعت رجلي بالسيف وهو نائم في غمده يا بطل! هيا إلى الجمال!، أرجو ألا يكون الخوف قد قتلها!

***

في طريق العودة إلى كدكدات ترنم الدليل بأهازيج النصر. فرح تسلاف بغنيمة الإياب سالمًا، لكنه تذكر أن لا دليل على شجاعته يمتلكه ليقدمه إلى تاتولا عندما يلقاها. سمع طانيو يقول للدليل إنهم سيعاودون في الصباح لاقتفاء أثر الأسد الجريح. تساءل إن كان يتحتم عليه أن يصحبهم. وكان الأهالي قد سمعوا دوي الرصاص فاستقبلوهم بصيحات النصر. فلنؤجل الاحتفالات حتى نتأكد أن الوحش فارق الحياة. نصبت المواقد، ودارت الخرفان فوق النار يساقط شحمها، بينما رائحة الشواء توقد في الحشا نارها. دارت الكئوس، وجاءت غانية لتقول لطانيو: أيها البطل، أنت الليلة ضيفي!. في الصباح استيقظا قبله، وانتظراه حتى أكمل زينته ثم عادوا إلى مسرح العملية. أين الجدي؟ التهمته وحوش الليل. هذه بقايا عظامه. داروا بأعينهم فرأوا الدماء رسمت خطوطا غير منتظمة فتتبعوها. الدليل ينصح أن يعودوا كي لا تهاجمهم اللبؤة. وصلوا إلى العرين. كان يدخل من هنا. بل هو في الداخل. جفل الدليل وتسلاف. انحنى طانيو ليدخل فلم يملكوا إلا أن يحذروه. على يديه ورجليه صار يحبو في مجرى ضيق. فعلا مثله. هما إذن في أمان. أكثر من خمسين مترا قطعوها قبل أن ينحني الممر إلى جهة الشرق. انخضا حين صاح: هذا هو السيد. كادا ينكصان. تماسكا. انفتح الممر على العرين فاعتدلوا واقفين. رأوه ملقى في كوخ أقامته الطبيعة من غصون الأشجار ولحائها. من الناحية الأخرى كان يمكن للملك أن يطل على المجرى المائي والمملكة الفسيحة. تسقط أشعة الشمس على لبدته وهو في نزعه الأخير. يزفر أنفاسا موجعة، كأنما تخرج من قدر تغلي، مكتومة. راقدًا على بطنه، واضعًا رأسه الضخم فوق يديه المكسورة إحداها والذباب يغطي جراحه. لو رأت ذلك فدفاده لعرفت كيف يمتص ذبابٌ دم أسد جريح. هز رأسه وقد أحس بهم لكنه لم يستدر إليهم. ماذا نفعل لك أيها السلطان المهزوم؟ أنت قتلت زوج المرأة التي دوت صرختها في بيت طانيو. هل نسيت؟ وجبت لك الراحة بعد ليلة المعاناة الثقيلة. رصاصة في عينه والأخرى دوت واستقرت عند التقاء الرأس بالرقبة. وتنهد طانيو وقال لتسلاف: ضرج سيفك بدمه كي لا تقول عنك فدفاده إنك جبان. واستقر الرأي على استدعاء بعض الأهالي لسلخه في عرينه. لم تظهر اللبؤة بعد. ربما قتلت أو ماتت فهل هذا هو سر ثورته وهجماته المتكررة على الإنسان؟. انتعش تسلاف وتمنى لو أخذ هذا الجلد الهائل، وعاد به إلى تاتولا، لكنه استدرك: هل ستفلتني اللبؤة المنتظرة على نار في عرين جادالا طانيو؟

 

الفصل العشرون: التسامحات
كانت ليلة حارة من ليالي صيف روح الوادي. لجأ الناس إلى الجبل العالي يستجيرون بنداوته. بعض زملاء دنجو يلهون ويرقصون. تبينهم بصعوبة. القمر غارق في تهويماته الليلية. شراع مركب تائه في ضباب السماء. أقرب عمود نور يقبع أسفل منهم على مسافة. فوق تتدنى الحرارة ويتجلى الضباب. العشاق وقد بللهم الماء المسّاقط يغيبون في القبلات الساخنة. يطفئون الحرارة بالحرارة. اكتشف كم حُرم من ذلك. ندم أنه لم يُحضر باتولاتي، أم إنها تحضر إلى هنا مع غيره؟ تعرف عليه أحد أصدقائه، وسأله إن كان يحمل في جيبه كارنيه الحزب!

- أي حزب؟

- حزب الأمة الحر. كارنيه الحزب الحاكم عليه وجه الفدائي الأول من أيام الكفاح الأولى!

- وهل من الضروري لمن يأتي إلى هنا أن يكون معه هذا الشيء؟

لم تمر لحظات حتى ظهرت الكشافات تسُوط الظلام والشبورة. أضواء صفراء باهرة. دوت صرخات وساد هرج. الأفذاذ يطيحون بالشبان ماجنين وغير ماجنين. ليس المجون هنا هو الممقوت. قال له: لا تخف!، وعندما اقتربت العصا الغليظة منهما أشهر الكارنيه في وجه الفذ صائحاً: وهذا صديقي في الحزب. مالت العصا إلى جهة أخرى لتقع على ناس آخرين. عرف أن هذا الشيء ساحر وهام وعظيم. في اليوم التالي ذهب إلى المقر فقالوا إنهم سيقبلونه بعد أن يحضر ثلاث محاضرات، ويلخصها، ويأتي بالملخص ويناقشوه. حضر المحاضرة الأولى في نفس اليوم. كان متحمسا. أحس أنه سيتكئ على جبل يعصمه. صورة الزعيم القائد في حجم جبل لا تسمح له أن يطرف بعينه. تحدث المُحاضر عن قانون صدر منذ عشرة أعوام عن لجنة التحسينات العليا، بعدم أحقية الآباء في إطلاق أسماء غريبة على مواليدهم. استمع إلى كلام جميل عن كون الاسم لا يختاره الطفل، ومع ذلك يظل عالقا به مدى الحياة؛ لذا يتحتم اختيار الاسم الجميل، المشجع، الآمل، الموحي!. هذا القانون أيها السيدات والسادة، لا مثيل له في أرقى دول العالم. صفقوا كثيرا وإن كان عددهم قليل. على دنجو تلخيص ما سمع. ما أجمل هذا!!. مر على والده. لمحه يشرب الشاي بالنعناع في قهوة على خاصرة الجبل. أشار للبنت أن تحضر الينسون لدنجو. حكى له ما كان فابتسم: اكتب لهم ما يريدون، أتفهمني؟. وعندما قال: كلامهم مقنع يا أبي، رآه يضحك ضحكات لم يسمعها منه من قبل!. كان الماء يقرقر في جوف شيشة، ورجل متهالك حافي القدمين يجذب النفس العميق وينفض الدخان من فتحيي خشمه. أترى هذا الكائن المتهدم، انده عليه!

جاء يجر ساقيه ويهرش. سأله: كيف حال توءميك؟

- بخير، يقبلان يديك!

- قل لابني دنجو ماذا سميتهما.

- الولد فِشل الحمار والبنت بَعرة البعير!

- هل اعترض عليك الموظف؟

- إنهم لا يعترضون علي هذا!! وضحك حتى أدار دنجو عينيه عن المنظر المنفر للأسنان الصفراء.

- على أي الأسماء يعترض مسجلو الأسماء يا باكو؟

- على اسمٍ واحد فقط، أنت تعرفه!

وعاد إلى الشيشة فوجد الجمرات قد انطفأت فأخذ يسب ويلعن وزايادان يضحك ودنجو حائر متلهف على معرفة الاسم الوحيد الممنوع. قال أبوه: هذا القانون كان له هدف واحد أيامها وانتهى: ألا يسمى أحد في هذه البلاد على اسم ذلك المتجبر الذي ناطح الأغراب، ولم يؤمن بالسلام مثلنا. أفهمت؟ إنه الاسم الوحيد الغريب في هذا العالم. وعلا صوته: أفهمت؟! ثم قمع الصوت: هكذا تصاغ القوانين في بلادنا!.  قرر ألا يعود إلى تلك المحاضرات، وألا يصعد الجبل في الليالي الحارة. ليالي الجبل مغلفة بالأسرار. السماء عرقانة بالنجوم. لم يقبلوه في معهد الأفذاذ المتوسطين. أقصوه في الاختبار الأخير. قال أبوه إن الاختبارات في هذا البلد لها هدف واحد: أن يقال للذي يعترض إننا شكلنا اللجان، وبعد البحث والتقصي أخذنا الأصلح ونبذنا الأطلح. أبوه دفع. أعطى سائق الفذ الكبير المبلغ المتفق عليه كاملا، دفعة واحدة. مع ذلك رفضوه ولم يسترد ماله حتى الآن. ليس أمامه سوى الانتظار حتى العام القادم، وإعادة الكرّة. تمنى: لو كان أخي ميادو ذا شأن عندهم!!. هو بلا شك أحد عيونهم وإلا ما تركوه يبني هذا المنزل الرائع في تلك المنطقة. ذات مساء دخل عليهم وباس أمه في وجنتيها، وقال- نعم قال- بصوته الذي عاد إليه بعد سنوات اعوجاج: أنت مارانا ملكة الزهور وأمي الحبيبة!!. أطلقت الزغاريد. حدث هذا بعد اكتمال البناء، واقتراب الزفاف، لكن العروس قالت لأمه إنها لم تسمعه أبدا أعوج الكلمات. فسرت الأم ذلك بأن الحب يصنع المعجزات، لكنه صارح أباه أنهم هم الذين كانوا ضربوه منذ أعوام وألقوا به خارج البوابة لدى القنطرة الأولى وكان ذلك بالاتفاق معه. فعلوا به ذلك عن رضى منه، وأرسلوا إلي أهله!. قيل إن الضرب هو الذي أثر على لسانه!. بكى وهو يقول لأبيه: كنت أريد أن أعيش كبقية الخلق. صرخ فيه: إذن افعل شيئا لأخيك!. قال: لم أصل بعد إلى هذه المرحلة، ثم إنهم لا يريدون أن يلاحظ أحد شيئا.

- لكنك تتحدث معنا الآن .

- لأنني سأعمل في منطقة أخرى بعيدة! وتحت مسمى جديد!

 حدث هذا في اليوم الذي كانوا ساهرين فيه أمام المنزل، وأمامهم التلفاز على دكة خشبية، ينتظرون خطاب الفدائي الأول ولحظة الوعود الصادقة. كانوا متوقعين منه هذه المرة تيسيراتٍ ملموسة. كل الجماهير أمام صورته المتلفزة متحفزون. في البال تحقيق الوعود. مازال شعره الأسود لامعًا برَّاقًا. بدأ فتحدث عن صحافتنا الحرة وإعلامنا الحر. قال إن منع الصحون كان بسبب مظهرها غير الجمالي. قبيح أن نرى أطباقا متراصة فوق المنازل والأكواخ. وعلى أي حال قررت السماح بعودة الصحون بشرط أن يوضع بجوار كل صحن أصص أزهار، ومن اليوم ستصير هذه الأصص بديلا لقرني الثور ففيهما شيء من العنف، ونحن من دعاة السلام. فلتكن الأزهار اليانعة رمزا بديلا!. قال زايادان: في الصباح ستخرج علينا الصحف منددة بقرني الثور، وسيلقى بهذا الرمز من فوق الأسطح وكأنه المنكر بعد أن تربع على الأسطح خمسين عاما. ألم أقل لكم إنه خطاب تاريخي؟ بل سأسمح بالنت!! تلك الشبكة العنكبوتية الكونية التي لا غنى عنها في عالم اليوم. كان يرشف من كأس شفافة كل بضعة جمل ويواصل سعيدًا: أما عن مدة الحكم فأقول بصراحة إنني سأترك هذا المقعد عندما أجد من يستحقه ويقدر على الجلوس عليه. إن وجدته سأقوم وأقول له: اجلس وتحمل المسئولية!. قال زايادان: القانون لن يسمح لطارندو أن يستلم الحكم الفعلي إلا بعد أربعة أعوام. القانون يحتم هذا. فال دنجو: وسيكون ال... قد بلغ المئة وانتقل ليعيش بقية أيامه تحت الشجرة المباركة. تلفت والده حواليه خوفا عليه. ساد الظلام فجأة. انقطع النور. تأسف الجميع على عدم متابعة الخطاب الهام. كثيرا ما ينقطع النور عن سكان هذه المنطقة، لكن زايادان أكد أن رئيس شركة الكهرباء، الذي لم يؤمن للجماهير سماع خطاب هام كهذا، كاملا، لن يكون موجودًا في مكتبه صياح الغد!

قال لدودو: قل لأختك تعمل لنا شايا. دخل وخرج يقول: إن تاتولا غارقة في بكائها. تنهدت الأم: منذ تغيب عنها تسلاف، وانقطعت أخباره، وهي تبكي كلما خلت بنفسها. سأصنع لكم الشاي بنفسي!

هرش رأسه متضايقا: قولي لأختها تجلس معها ولا تفارقها.

بعد ساعة جاء النور. كان الخطاب قد انتهى لكن المحطات الأهلية كلها تشيد به. جاء ميادو ومعه أكياس فاكهة غسلتها بادوالا ووضعتها في طبقين أمامهم. سأله والده إن كان سمع الخطاب حتى آخره ، ثم أخبرهم أن الحاكم شن حملة شعواء على الذين يعبثون بأمن البلاد، وأن الذي قتل الخروف الأخضر سيلقى جزاءه العادل. سيقتل بلا رحمة! صحيح أن الخروف الأخضر لم يكن خروفا، بل هو رجل!، وأن الجاني رآه يفتح السوستة، ويخرج من بدلته الخضراء. قال المتهم: إن الخرفان الخضراء ليسوا منا، بل هم أغراب، أو عملاء للأغراب، يتسللون إلى المنطقة ال.... متكئين على الأساطير، وهم في الحقيقة يتخفون في الدياميس العميقة، ويستخدمون المناشير في تقطيع جذور شجرة الكيمارو. استهزأ الحاكم بهذه الأقوال المزعومة، وتساءل إن كان معه دليل: هل حصل على أحد هذه المناشير وأظهره لنا؟. ثم قال إن بيننا وبينهم عهداً ألا نحاربهم بعد أن عاهدناهم؛ وعلى هذا فإنني سأجعل عقوبة أكل الحمام في شهر السلام تسري على شهر قبله وشهر بعده! ثلاثة أشهر كاملة وليس شهرًا واحدًا، وأقول للجاني إنك ترى بعين واحدة ولا تدرك الأمور من جميع جوانبها!

نزلت الجملة الأخيرة على زايادان فأوجعته. أيكون القاتل أحد هؤلاء الذين ذهبوا للعيش في المناديح البعيدة؟ لو أوقفوهم وعذبوهم واعترفوا أن زايادان وراء سلبهم إحدى الكريمتين، ماذا سيكون مصيره؟!. توعك. تقلص مصرانه الغليظ والتوى. عاد يتحرك في بطنه كالجبل. داهمه خوف غير مستأنس. مرت أيام ثلاثة وهو في سريره والدموع نشفت على خديه الغائرين. وجه امرأته تمثال من طين. تضم فمها بطريقة تجعل كتابة متشابهة الأحرف تنحفر في ذقنها كأنها بصمة الكآبة. تصنع له الشوربة الدافئة. تسنده ليعتدل وبملعقة صغيرة تسقيه. طفلا صيره الوهم القاتل. هو لا يخشى أن يقتلوه. لكنهم سيتركون جثته تنهشها الخنازير!

- تماسك يا زايادان من أجلنا.

- أين البنت؟

- في المعهد. صارت رقصاتها حزينة يا كبد أمها!

- مع الأيام ستنسى.

- التقمت الغابة حبيبها كما التقمت ابنك طانيو من قبل. ابنك راح، وحبيبها راح، ونحن تهب علينا الرياح المتربة. 

شديد الوهن صوته. ركبتاه صارتا تؤلمانه إذا تحرك، بل إنه لا يستطيع أن يدوس على قدميه. ثم إن بعض قطرات بوله تباغته وتتسلل. لم يلتحق دنجو بما أراد. بات يعمل طوال الليالي في مخبز، واقفًا على قدميه أمام النافذة الحارقة المضيئة، يسحب الأرغفة التي نضجت ويرصها على ألواح. ثلاث مرات تم استدعاء زايادان بعد أنصاف الليالي، لكن أحدا لم يسأله عن المظاهرة التي طافت حول قصر الحاكم المحلي، وكأنما لم يكن له بها صلة. ما للتاريخ يقلب أمواجه، ويأتي بالصور البعيدة عندما تمردت زنعا!! حاصرتها الدبابات، وأمطرتها الطائرات، أما الرياح الشتوية فهزت أجساد من تدلوا من المشانق!. أما في روح الوادي فالناس مسالمون بطبعهم، يحلمون بالزلزال بلانكال الأبيض أكثر من غيرهم، وبالتنين رادونجا. لا يصح أن يتمردوا من أجل سوق. حزنهم كبير عليك يا فوسكاي، لكنهم لن يثوروا. السوق مغلق لأن أريده استولى عليه، وليس لأن صاحبَه مات. تمنى زايادان ألا يشتبكوا مع الحراس ذوي الكلاب البشعة. ليت الحوار يكون بالحسنى!. في هدوء تحرك آلاف القرويين يوم السوق يسحبون مواشيهم وبهائمهم في شوارع روح الوادي. كان أربعون رجلا عاقلا قد تعهدوا بحفظ النظام أثناء التحرك. هؤلاء يرفعون صور الفدائي الأول. إنهم يسعون إلى الحاكم المحلي، الجديد. تعالى نهيق الحمير وخوار الأبقار عندما وصلت المظاهرات إلى القصر الشرقي وطاف به كدوامة، ثم... اندلع الهتاف المتفق عليه: عاش الفدائي الأول حامي حقوق الشعب. لا مناص من الهتاف له كارهين. ظهرت حوامة منخفضة فأحدثت ارتباكًا في المظاهرة لأن الحيوانات جفلت، وكادت تفلت من أيدي أصحابها لولا أن الحوامة ما لبثت أن ابتعدت والهتاف يلاحقها.

رأسه ثقيل كصخرة. دقاتٌ هائلةٌ في أم الدماغ. أين دودو؟ لم يخبره أحد أن الصغير صار يعمل في جمع أوعية البلاستيك الفارغة من الشقق ومن أماكن تجميع البلاستيك في أرجاء روح الوادي. يملأ شيكارة، ثم أخرى، ثم غيرها ثالثة. قد يجد أحيانًا شيئًا تافهًا يفرح به ويلهو. ربما وجد شيئا فوضعته يد الجوع في فمه وهو مبتهج. يداه الصغيرتان النحيلتان الجميلتان لم تعودا كما كانتا. أين دودو؟ هذا الولد يلعب طول النهار ولا يسأل عن والده الذي يحن إليه.

- إنه لا يلعب يا زايادان ... سيأتي. صبرًا سيأتي!

كل شيء سيأتي. كل شيء سيضيع!. كيف يمكنه مطالبة جناب السائق بالمبلغ؟ وهذا الذي ينام ويده ممدودة عند محطة الباصات غدر بي هو أيضا. طلب من امرأته أن تسنده لينهض. يريد أن يخرج ويرى الدنيا. أوقفته على قدميه. رأى كل شيء يدور كدوامة خرساء. عاد إلى سكونه المستسلم مغمضًا عينيه حتى تمر السحابة. قال بعض من زاروه من المجربين إن آلامًا في أذنه الوسطى هي التي تسبب له الدوار. أكد لهم أن الجمل برك. رأى أباه في المنام جالسًا على ركبة الجبل. سمعه يناديه ويرغبه في اللحاق به: دع لهم الحوض وتعال!

والذي حدث في الأيام التالية أنه كان إذا أراد أن ينادي تاتولا ناداها باسم أخته التي ماتت منذ عشرة أعوام. تؤكد مارانا أنه يناديها باسم عمته الميتة. فسرت ذلك بأن الراحلين يزورونه ليأخذوه معهم. اشتد المرض عليه. النجوم الحمراء التي كانت تملأ العصابة الضاغطة على عينيه، عندما كانوا يستجوبونه، صارت تلازمه حتى في عز النهار. تخرج الدوائر من مكمنها، وتملأ الحجرة نثاراتها. ابحثي لي عن نظارة يا أمي!. النظارة التي كنت أتصفح بها الكتب أثناء زيارتي للسيد البالغ أنا وأبي. كنت أرى بها حتى الحروف المطموسة. ابحثي عنها في جيب البالطو الذي أكلته السنون والعتة. نعم إنها هذه. نظفيها بقماشة ناعمة. هاتيها. أخذها ووضعها على عينيه. نزعها. ليست هي. إن الدوائر تسكن حتى في عدستيها. من أين جاءت هذه النجوم الحمراء التي تجري وتتشكل وتنهدم وتنبني ثم تتناثر؟ أين دنجو؟ نادي عليه.تعال يا غالي!. سوف تذهب إلى السيد مدافير، الذي كان صديقا لي ولوالدي. إنه مريض كما علمت ولكن بإمكانه أن يفعل شيئا من أجلي. إنك تتثاءب. تريد أن تنام؟ اذهب إليه إنه على وشك أن يكون بالغًا.أعطهِ هذه النظارة، وأبلغه سلامي وسيفهم كل شيء.

- ومن أين له النظارات يا أبي؟ أليست العدسات مقاسات؟

- هو لن يبخل علينا بواحدة. هيا!

وترتعد يده وهو يناوله النظارة. يتناولها منه دون اقتناع. وهناك عندما وصل، ومن خلف الباب، جاءه صوت: السيد غارق في تأملاته، ثم إنه مريض!

- المسألة خطيرة: أبي الآن في حالة صعبة، وطلب مني إعطاء هذه النظارة للسيد البالغ ليستبدل بها أخرى تعينه على الرؤية.

وُوربَ البابُ فتسلل داخلا. رآه في ثوب أبيض، على سرير أبيض. الوجه مصباح. العينان إلى السقف، واهنتين كانتا. لم يشعر بدخوله.

- عفوًا سيدي البالغ! لا قطعت لك تأملاتٌ، ولا حُجبت عنك فيوضاتٌ، لكن رجلا تعرفه ويعرفك يُحتضر الآن. اسمه زايادان، يطلب منك أن تأخذ نظارته هذه وتعطيه غيرها.

مد الوجهُ المرفوع للسقف يداً ناحلة، وأمسك النظارة. وضعها على صدره كقطة صغيرة تقرأ أورادها. تسللت من جفنيه لؤلؤتان، تحدرتا على خديه الغائرين: أأنت ابنه؟ تعال اجلس إلى جواري!. وجاء الصوت من خلف بوابة الحياة: كان جدك صديقا وفيا، ومن الأتقياء القلائل، ووالدك رجل طيب لكنه الآن في كرب. قل له يتماسك.

أبلغه سلامي. قل له إني غيرتها له!

- لكنها هي هي!

- لا، ليست هي!اذهب إليه!

عاد إلى الكوخ فاستقبلته أمه، وسألته فأخبرها بما حدث، فأخذتها من يده ودخلت إلى زوجها تبشره: أعطاك السيد نظارة غيرها، جديدة تلمع!

شهق كأنما سيموت حالا. سكن كأنما مات توًّا. نطق على مراحل: ضعيها مكان الأخرى في جيب البالطو القديم!. ثم ناداها:

- بقطرة ماء واحدة بللي شفتي. ظلي معي!..

ما الذي يحدث في سرير اللولو؟ اكتساح. الماء يكتسح كل شيء. ضجيج الماء يصم حتى آذان الطيور التي تدور في السماء مفزوعة.. الماء يعلو في المجرى. أين القنطرتان؟ اكتسحهما السيل. اختلط الماء بالماء. انطلقت الأسماك من سجنها الصريع..الأشجار الباسقة فوق كتف الجبل تهتز كأنما تستعد لسقوط آمن. الجبل نفسه يرجف. يسمع صفير يغطي على عويل الرياح. اصرخي يا مارانا، اصرخي بأعلى صوت حتى يأتي دودو. ألا تسمعينني؟!. أخشى أن يجرفه الماء. كل شيء يرجف. انظري! الشوربة الدافئة تنسكب على هدومي. هيا يا أمي، استعدي! ساعديني! هيا إلى مجرى النهر! لولو الأزمنة الخوالي!. ها هو! أعرفه تماما! سمعت عنه كثيرًا. تغنيت به  عهوداً!. وهذا هو الزلزال بلانكال، الأبيض، يعرفني ولن يؤذيني. أخذت أموالهم بخدعة؟ لكنني أفدتهم والمال ضاع. أين دودو؟ خذي بيدي! النهر يعلو ويعلو يحمله شبابه المستعاد. آلاف البشر يلقون بأنفسهم فيه خوفًا من غضبة الأرض الصلدة، الراجفة. حنان الماء لا يقاوم. كلهم ينزلون إلى الماء الفوار. أين أصحاب العين الواحدة لأستسمحهم، وأقول لهم لم يبق شيءٌ من المال معي. الحاكم يطلق وراءهم الأفذاذَ يطاردهم منذ قتلوا الخروف الأخضر. هل سينزل هو إلى النهر؟ والأفذاذ أيضا؟ لابد أن ينزلوا. أهذا معقول؟ تعطيني السوط لأرد عليك الضربة الحارقة؟ لا يا أخي لن أفعل بك هذا أبدا؛ كنتَ ترسا في آلة القهر لا تستطيع فكاكا، فكيف ألومك؟ طبعا أسامحك. كل هؤلاء يندفعون ناحيتي؟ هل ظلمت كل هؤلاء؟ أم ظلموني؟ تعالي يا مارانا لأغسل صدرك وظهرك بالريحان. أين الريحان؟ أين الرعراع؟ انتظري حتى أخرج إلى البر وأحضر الرعراع. البر كله يرجف. الناس ينزلقون نازلين. سأنتظر حتى ينزل آخرهم ثم أصعد إلى البر لأحضر الأعواد الخضر، اللينة، طيبة الرائحة. من وراء الجبل مازال يأتي كل هؤلاء، ومن أمامه أيضًا، ومن كل مكان. ألمح الزرافات بأعناقها الطويلة ونقاء سريرتها، ألمحها تتقافز قادمة إلى النهر.. آه يا جاري في الماء، إن معك ريحانًا يفيض عن حاجتك. من؟ السيد ...لم أعد أذكر اسمك، البالغ؟ تعال أضمك إلى صدري! هات ريحانة واحدة مما معك!..

- خذ !. وأعطاه أوراقا عجيبة التكوين. إنها أوراق الكيمارو. أنت في حاجة إلى ما هو أكثر من الريحان. خذها!

- وأنت؟

- سأتصرف. أحبابي كثيرون وسيعطونني.

من؟ ميادو؟ طانيو؟ من؟ تعال أضمك. ادخل في أحضان أبيك!..خذي يا مارانا اغسلي أدراني بالماء الطيب، والنبات الطيب. أنا أيضًا سأفعل معك نفس الشيء، ثم نستقبل سيل التائبين لنعبر اللولو معا. أرواحنا نقية، وابتساماتنا مضيئة. أيدينا متشابكة لنصنع مستقبلا جميلا. أين دودو؟ أريد أن أرى وجهه للمرة الأخيرة. لن أسامح السيد فاروكو إن حجبه عني. من هذا الذي يرد على ندائي؟ أنت يا أبي؟ منذ متى لم أرك أيها الحبيب؟ جئت لتأخذني؟ تعال أضمك في شوق. الماء. الشجرة. سامحوني! ما أكثر الغزالات!

هل لمحتهم مارانا وهم يدخلون إليه؟ فحاولَتْ أن تمنعهم فلم تستطع. كانوا ملثمين وأقوياء. ثلاثة ثيران لم تلمح لهم ملامح ولا حتى عيون. أطبق أحدهم بيده على فمها فبظت عيناها. كانت كلوة يده منبعجة فسدّت فتحتي التنفس. بالكاد استطاع مجهود مضنٍ أن يمرر لها بعض الهواء المراوغ. تريد أن تقول لهم إن زوجها مريض ومستسلم لآلامه. وتخبرهم أنه يهذي ولا يعي ما حوله. تريد... طلقات الرصاص قبضت على قلبها واعتصرته. انهارت. استقبلتها الأرض في غلظة.. عينُ المسدس أمام عينها تماما. التهديد أكبر من حجمها. أغمضت وراحت إلى أماكن وأزمنة سحيقة. رأته هناك يستقبلها وتتسع ابتسامته.. تعجبت لمرآه..كان أصغر سنًّا بكثير..بادرها كأن لم يًصبه أذى: ما كل هذا الجمال يا صغيرتي مارانا، يا ملكة الزهور!

لم تتأكد من صدق إطرائه إلا بعد أن تأملت وجهها في النبع الصافي في عينيه..

 (تمت)

 

السيرة الذاتية

** محمد محمد السنباطي

* من مواليد شبراخيت محافظة البحيرة جمهورية مصر العربية في 22 ديسمبر 1948

*درس الفلسفة بالجامعة ثم الترجمة وعمل في تدريس اللغة الفرنسية.

*فازت روايته: خط النار ممتد بالجائزة الأولى في القصة الطويلة من نادي القصة بالقاهرة عام 1997

*فاز بالجائزة الثانية في مسابقة كتاب اليوم- دار أخبار اليوم  عن رواية اسكندرية شرقًا وغربًا عام 2005

*فازت روايته: ضحكات الخريف بالجائزة الأولى من نادي القصة بالقاهرة عن عام 2008

*جائزة النور للإبداع، دورة الشاعر عيسى الياسري، قصيدة على الشاطئ المسحور، المركز الثاني

*من كتبه المنشورة:

1-السيف والكلمة، عن دار حورس الدولية..

2-شمس الطفولة، طفولة الشمس، عن هيئة قصور الثقافة.

3-موسيقا النار: شعر – طبعة محدودة

4-رواية: اسكندرية شرقا وغربا، دار أخبار اليوم، سلسلة كتاب اليوم

5-رواية عشيقة عرابي، عن سندباد للنشر والإعلام 2009 

6-رواية: خط النار ممتد، عن مركز الحضارة العربية 2009

7- جنتي في صدري: مسرحية شعرية. منشورات الألوكة              

مخطوطات لم تطبع بعد: اعترافات الحجاج بن يوسف : رواية* 

وراء الجبل: رواية* ضحكات الخريف: رواية* شظايا الجريمة: رواية* ديوان السنباطي: شعر* الشعر يأتي من بعيد: شعر مترجم*ديوان السنباطي للأطفال، 4 أجزاء