اشياء كثيرة جمعت بين الصديقين وتوطدت الصداقة بينهما على مر سنوات طويلة لكن راوي القاص التونسي يخوض غمار علاقة مع فتاة تزلزل كيان تلك الصداقة ويواجه بكم من الاسئلة التي تصعب الاجابة عليها.

خائن رغم كلّ شيء

خير الدين الطاهر جمعة

 

(1) صباحات الطفولة:
لم أكن أعلم أنني في لحظة خاطفة سأخسر فتاة  " قطار منتصف الليل" التي تسرّبتْ إلى حياتي خلسةً و أغدر بأعزّ صديق لي..وإلى الآن لا أعرف أأنا الحقير الخائن رغم أنفه أم أنني الأبله المغدور به عن طواعية؟؟!

كان خالد صديق الطفولة المعتَّق..نشأنا في حيّنا صغارا نكتشف ألوان الحياة بشغف، وكان حيّنا صغيرا تتوسطه ساحة مستطيلة نلعب فيها الكرة و هناك كان خالد يستعرض مهاراته في اللعبة  و كان كل أصيل يخرج من بيتهم القريب ليصفّر بفمه تصفيرة لا يتقنها إلا هو ويعرفها كل رجال الحي ثم يتبعها بصوت قوي مناديا " دايسكي..دايسكي يا جاري " أطلق عليّ هذا اللقب لأنه أحبَّ شخصية دايسكي في مسلسل كرتوني للأطفال بعنوان " غزو الفضاء" و الذي كان يعرض في قناة تونس اليتيمة في ذلك الوقت و كنت إذا سمعت صوته أدعوه للدخول فلا يستحي من ذلك لأنه لم يكن لديّ أخوة من الإناث أما إذا خرجتُ أنا قبله آخر النهار فإنني لم أكن أستطيع مجاراته بالتصفير   و لكنني كنت أناديه بصوت قوي " خالد..يا خالد جورداوJordao.." منحْتُه لقب لاعب البرتغال الشهير في ذلك الوقت لأنه كان فنانا في كرة القدم، أما أنا فبعد مناداته أنتظره حتى يخرج  لأنه كان لديه أخوات يكبرنه في السن...كانت طفولتنا تلهو مع رياح الخريف و ترقص مع نسائم الصيف حين كنا نذهب إلى البحر على الدراجة الهوائية و نشتري أشياء بسيطة لنأكلها، هناك اكتشفت معه جنون البحر  فعرفت ُ أن للرونق أفقا و  للأمواج هوى و للرمال رياحين...معا كنا نسرق الثمار من بساتين القرية و كانت ألذّ الثمار تلك التي كنا نسرقها من بستان جده الذي كان يكرهه لأنه بعد موت جدته تزوج امرأة أخرى...أتذكر مرة ذهبنا إلى ذلك البستان فلم نجد ثمارا نسرقها فقد كان مليئا باليقطين، أما أنا فشعرت بالخيبة و أما هو فقد هجم كالمجنون على ذلك اليقطين يدخل فيها ساقه و يركلها كالكرة..في النهاية أخذ إحدى اليقطينات الصغيرة لوّح بها في الهواء و ضربها برأسه ففوجئت به يسقط على الأرض مغشيا عليه عند ذلك نهضت من على الطابية مسرعا و أخذت أهزه في هدوء حتى استفاق ثم لُذنا بالفرار و أنا أساعده على الركض لأن ساقه قد تورّمت..

 

(2)  نشرب الليالي ونسكر بالذكريات:
يوما بعد يوما كبرنا معا و تدرجتْ بنا الحياة من شذى الطفولة المزمن إلى رياح الشباب الأهوج، صرختْ دماء الشباب فينا فأصبحنا نذهب إلى مقهى الحي بخيلاء وتعلمنا لعب الورق belote و برعنا فيها، لم يستطع أي ثنائي أن ينتصر علينا كنتُ أفهمه جيدا من نظراته الثاقبة و حركاته الخفية والتفاتاته الموحية، كنا لا نُغلب أبدا إلى درجة أن بعض رواد المقهى دعا إلى تفريقنا عن بعضنا البعض في اللعب لكننا رفضنا رفضا قاطعا...و مرت الأيام وظل تصفيره يملأ أذني و كبرنا و ظلّ ينظر إليّ على أنّني " دايسكي الهادئ" و ظللتُ أرسم له صورة " جورداو الطيب                                "...

و بقيتْ تجمعنا الأصوات حتى فرّقتنا السّبُل......

إذ بعد المرحلة الإعدادية  درس خالد التعليم المهني القصير و دخلتُ أنا مدرسة التعليم الثانوي الطويل شعبة الآداب  و ولكن الحي ظل يجمعنا..حصل خالد على شهادته في الكهرباء الصناعية و أوفد في بعثة إلى فرنسا و عاد بعد سنة ليعمل في قسم الصيانة بصندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية  بالعاصمة في حين كنت أنا أتم دراستي الجامعية بمدينة صفاقس وحتى نلتقي كنتُ أذهب إلى تونس لملاقاته فأركب قطار  منتصف الليل كل يوم سبت لأمضي الأحد معه و لم يكن المال يعوزني لأن خالد لم يكن بخيلا عليّ أبدا...

كان كل شيء يسير بشكل متناسق حتى جاء اليوم الذي رأيت فيه فتاة جلبت انتباهي بشعرها القصير بخصلاته المشدودة المتمردة الفاحمة و جسمها الممتلئ و بسمتها البهيجة التي تنثرها بكل ود و ثقة وشموخ  غير أن ما يبهرك حقا هو بريق الليل في عينيها  فيُخيَّل إليك و أنت تنظر إليهما و كأنك ستغرق في شجرٍ من الأهداب..أو قمرٍ من الياسمين..... ببساطة كانت عيناها قبسًا من الظلمة في بحيرة من الثلج...فيذوب الناظر إليهما تيهًا و بردًا وسلاما...وزاد اهتمامي بها لأنها كانت تركب معي القطار كل أسبوع إلى أن وجدتُ نفسي أنتظرها كل سبت بكل تدفّق و شوق...و في إحدى المرات ساقَها القدر إليَّ... ساقها القدر مثل برد الشتاء العنيد... كنتُ جالسا في إحدى عربات القطار حين أحسستُ بوهج جسد يُلهب كتفي الأيمن..إنها هي.. تحاول وضع حقيبتها الثقيلة في مكانها المخصص أعلى العربة  و هي في سعيها ذاك كانت تتمطّى بجسدها رافعةً يديها إلى أعلى وواقفةً على أطراف أصابع قدميها...كان منظرها من الخلف خرافيًّا..أتذكر جيدا بنطال الجينز الملتصق بساقيها بشكل سافر وقح...أما كنزة الصوف الخضراء القاتمة فقد كانت تصعد عند أسفل ظهرها الثلجي كاشفة عن نهر من العطر واللبن و الحرام اللذيذ....لا أدري كيف قمتُ من مكاني و ساعدتها على وضع حقيبتها في مكانها....التفتتْ إليَّ بدرًا من الياسمين و هي تدثّر عبارات الشكر بابتسامة دافئة أنيقة  ثمّ جلستْ إلى جانبي...و أخذ برد القطار يشيع الدفء في الكلام  فتجاذبنا الكلام و عيونه.....اسمها  " ليلى" كانت رائعة تتحدث دون عقد أو مركبات قالت لي إنها تعمل محاسبة في تونس وأنها كل يوم جمعة تعود مساء إلى أهلها في صفاقس تقضي يوم السبت هناك و في الليل تركب قطار منتصف الليل لتصل يوم الأحد صباحا إلى تونس...كانت تقول إن يوم الأحد في صفاقس مغامرة خطيرة......كان الليل حالكا في الخارج وصفحة وجهها تنعكس بألق على زجاج نافذة القطار و في منتصف الطريق لم تجد حرجا في أن تسند رأسها على كتفي و تنام مثل طفلة صغيرة...بدت وهي نائمة صوتا من الوداعة وسرًّا من البهاء و لكن الطريق بدا لي قصيرا جدا...قالت لي وهي تضع حقيبتها في سيارة الأجرة a samedi prochain  "إلى السبت القادم "..كان أسبوعا مملاًّ..أفعوانيا.. طويلا..والتقيتُها مرة،  وأخرى و أخرى.....و شيئا فشيئا وجدتُها  ملكت زمني وروحي و لم أستغرب جرأتها حين اقترحت عليّ أن نقضى يوم الأحد في مدينة صفاقس وفي الليل تركب القطارإلى تونس... وافقتُ على الفور.... وهكذا أصبحت تعرف شقتي التي أتقاسمها مع صديقين لي في شارع الجزائر وسط مدينة صفاقس. كنا نطبخ طعامنا ونلهو...نلعب السكرابل scrabble و أحيانا تلفظنا المدينة إلى السينما أما في الليل فقد كنا نعانق الفجر ونرقص مع الصباح... لقد اخترقت حياتي و ملأتها من حيث لا أعلم فأصبحت جزءا من عالمي و ربيع العمر وشوق الحياة الصاخب كانت ذات روح أخرى لم أعهدها لدى الطالبات اللائي عرفتهن....لا أنسى صورتها وهي تسند رأسها على كتفي و عسل مشمشها مندلق في لذة عليَّ...و واصلت تمردها المتوتر المثير حين قالت لي إنها تريد أن ننفق نهاية الأسبوع كله في صفاقس و أن لاداعي لذهابي إلى تونس..و مرّة أخرى لم أمانع  و بذلك أصبحتْ تأتي بحقيبتها يوم السبت مساء و لاتسافر إلا الأحد ليلا...قضينا أياما رائعة..ننضو فيها أردية الأيام الماطرة....،  كان الليل معها عاريا بلا أناشيد.... تغتسل فيه حبات العرق على جسدٍ من نبيذ....و يثمل  الحب على سرّة من رخام   و يسدل الفجر على الشفاه مطرا من حرير وملح و سكّر...

أصبح ذهابي إلى تونس أمرا نادرا و لكنني في كل مرة أذهب إلى خالد ألامس السعادة معه، كنتُ أشعر بشيء يشدني إليه أقوى من الصداقة كان جزءا مني...و  فصلا من حياتي... هناك في تونس كنا نتذكر أزقة القرية و جرأة الريح تلفح أزقتها.....كنا نشرب الليالي و نسكر بالذكريات و آخر الليل حين تحمرّ عيناه يمجّ هولاً من سيجارته و يرتشف من كأسه ماء الحياة على مهل و حين يناديني " دايسكي..يا جاري...اسمع..."

عند ذلك أعرف أنه سيحدثني عن زميلته في المؤسسة " ليلى " و عن تعلقه بها و جمالها المثير و أحيانا يطلق النكات ويقول كل هذا نتيجة لعبة الورق belote أصبحنا نفهم بعضنا البعض إلى درجة  أنه حين عشقنا عشقنا نفس الاسم " ليلى" أيّ صدفة غريبة هذه يا " دايسكي "؟!...ثم  يقول لي إنه لم يتعلم في فرنسا إلا العلاقات العابرة..علاقات الفراش..إنها المرة الأولى التي يعرف فيها الحب  ثم يسألني ببراءة غريبة " جاري أمتأكد أن هذا هو الحب؟؟"فأؤكد له أنه عاشق حتى النخاع..عند ذلك يرقص فرحا و يشرع في ضرب رأسه بكلتا يديه كالمجنون و هو يغني أغنية كاظم الساهر " عبرت الشط على موجك وخليتك على راسي ".

 

(3) لن أنسى دموعك أبدا:
قدم  الصيف بحرارته الصاخبة و لياليه المنفلتة..جاء بوهجه الجريء ليلفح ما بقي فينا من أهازيج الطفولة ... وجنون الشباب...

كان لدي إحساس أن هذا الصيف سيكون سكينا من المرارة والألم...كنت أشعر أن هناك شيئا عظيما سيحدث..وبالفعل كانت نتائج امتحانات نهاية السنة كارثية ولم أصدق أني نجحت فقد فشل أغلب أصدقائي وهكذا وجدت نفسي أواسي أغلبهم وأودعهم و لأنني لم أنتظر حتى نهاية الأسبوع لأودّع ليلى فقد عدت إلى القرية بسرعة يقتلني التوتر والحزن..في نفس اليوم كان خالد يقف على باب بيتنا بتصفيرة ذابلة على غير عادتها..بدا وجهه متغيرا...كان متخما بالكلام...أحسستُ أنه يريد أن يسرّ إليّ بأمر ,,ولكنه بدا مترددا فاقترحتُ عليه أن نذهب إلى البحر وافق على الفور وركبنا السيارة التي اشتراها قبل أن يحصل على رخصة القيادة بقرض عقاري من أجل بناء بيت حصل عليه من المؤسسة التي يشتغل بها، أتذكّر حين أخبرني بذلك قلتُ له " لا يمكن أن يفعل ذلك إلا خالد جورداو..خالد المجنون..." هناك على شاطئ البحر المتلفح بالظلمة الهادئة ومع أصوات الموج الخرافية جلسنا نترشف الحكايات الثملة بطعم الجمال..اتكأ بمرفقه على الرمل الندي وقال لي بدون مقدمات:

-جاري..ليلى  ستتزوج ابن عمها القاطن بجزيرة قرقنة هذا الصيف......و لهذا الغرض انتقلتْ  للعمل في صفاقس..لقد فاجأتني بذلك...."

 خنقتْه كلماته اليابسة التي صفعتني فلم أجد ما أقوله و لكنه أمام ذهولي واصل قائلا:

-"هي مازالت تحبني لقد أجبروها على الموافقة..

تنهّد ثم واصل:

-" كل علاقاتي النسائية في فرنسا كانت كذبة والمرة الوحيدة التي أحببت فيها وجدت نفسي أطارد كذبة..أنا لا أدري ماذا أفعل..."

وجدتُ نفسي أضرب كتفه بقوة و أنا أقول:

-" يوم غد سأذهب إلى صفاقس لأنني سأبدأ امتحانات الشفاهي ما رأيك أن تذهب معي وتقابلها هناك.."

التمعت عيناه فرحا رغم الظلمة ثم قال لي بصوت خافت:

- " لا..لاأستطيع...ربما إن رأيتها سأنهار أمامها اذهب إليها أنت..قل لها إنني مستعد أن أتزوجها في أيّ لحظة تريد وأنني سأظل أنتظرها..أنت أخي وصديق العمر و تتكلّم أحسن مني و لك قدرة على الإقناع..أنا ستفضحني أحاسيسي وحبي الكبير لها..آخر مرة قتلتني حين قالت لي " إن كنت تحبني حقا فاتركني....اسمع يا طارق...أحسن حل أن أكتب لها رسالة أضمنها رقم هاتف بيتنا لقد اشتقت إلى صوتها ولن يهمني إن علم أبي بقصتي معها لأن الأمور أصبحت جديّة و قد أضحيتُ مستعدا لأفاتحه في شأنها..يعني دورك أن توصل الرسالة و تضيف إليها شيئا من  الكلام الذي تحذقه أنت....ما رأيك يا طارق؟؟".

كان يوما حارا أغبر...نائما في سكون الحريق....كنتُ أقف فيه أمام مبنى صندوق التقاعد و الحيطة الاجتماعية بوسط مدينة صفاقس،سألتُ أول موظف قابلني عن موظفة اسمها ليلى...ابتسم في استغراب فواصلتُ قائلا " إنها انتقلت من تونس منذ مدة قصيرة...فكر قليلا ثم طلب مني التوجه إلى موظف  الاستقبال فذهبتُ إليه وكررتُ سؤالي...أشاربإصبعه إلى رجلٍ  وراء الشباك فتوجهتُ إليه، كان هناك موظف يقضي حاجات الناس المصطفين في طابور ووراءه تماما وقفتْ فتاة قد أدارت ظهرها لي لقد كانت تمسك ملفًّا في يدها..راودني شعور غريب في تلك اللحظة فقد خُيِّل إليَّ أنَّ هذا القوام و هذا الشعر القصير الفاحم بخصلاته المتمردة أعرفه جيدا و أن هذا الجسد بشواطئه وتلاله وأشجاره ليس غريبا عني...

و في لحظة خاطفة التفتتْ فرأيتُ وجهها....كدتُ أسقط من هول المفاجأة وغامت الدنيا في عيني، شعرتُ كأن سحبا سوداء تلطخ وجه الأرض و آلاف المطارق تنقضّ على رأسي ضربا وكسرا وتهشيما....رأيتُ عينيْها تنفتحان وكأنهما ستخرجان من محجريهما..لمحتُ الثلج يذوب ظلاما وكذبا...كانت تقترب شيئا فشيئا وكأنها صورة أو شبح..لم أتبيّن جيدا ماذا قالت أو ماذا تفعل هناك أصلا؟!.....وصلني صوتها وكأنه قادم من عالم آخر أو من هوة سحيقة:

-طارق؟؟؟ ماذا تفعل هنا؟؟؟؟

كانت رسالة خالد بيدي و قد بدت لي ثقيلة وكأنها دليل إدانة أو شاهد على جرمي تداخلت الأفكار في ذهني ولم أجد ما أقوله لها، في النهاية خرجتْ كلمات من فمي نافرة باهتة كريهة:

-هذه رسالة خالد إليك..خالد.....

وضعتْ يدها على فمها و سقط ملف الأوراق الذي كان بيدها، بدا لي وجهها بلا لون أو حياة، كانت  كأنها تخرج من جلدها أو تلبس صفرة الخريف و شعرتُ كأن مئات العيون تلتهم ما بقي فينا من هشيم:

-خالد !؟؟؟

كان لابد أن أرمي الكلمة الأخيرة التي تثبت إدانتي و جرمي ونذالتي، بدوتُ وكأنني في محكمة والناس ينتظرون أطوار القضية...قلت لها بصوت كأنه فحيح من هواء وعار:

-خالد.....خالد صاحبي يا ليلى..

كانت أمامي خيالا من الذكريات والليالي، لمحتُ في تلك اللحظة خيوطا من أصابع تتحرك نحوي لتصافح أو تأخذ أو تقتل أو تخنق، اختلط الظل بالخيال و القبس بالثلج فأخذني الدوار و لكني رأيتُها تُمسك بالرسالة بيد ترتعش كالوهم.....  راودني عنقها المضمّخ بالعطر المالح و هدهدني صوتها الأفعواني المتصدّع بين الملاءات في الفجر، كنتُ بين أمرين إما أن أعانقها لأطفئ أيام الشوق القاتلة أو أن أصفعها و أخنقها حتى الموت.... و لأنني جبان و حقير تركتها  واقفة وقد جمّدها الاندهاش و خرجتُ لا ألوي على شيء...سمعتُ وقع كعبها العالي على الأرضية و هي تنادي بصوت جريح:

-طارق..طارق استنىَّ...خالد..طارق..خا....

و لكنني كنتُ أجبن من أن ألتفت خوفا من الانهيار خففتُ خطواتي وضاع صوتها وسط الزحام و ضعتُ أنا في جراح المدينة....

نجحتُ في امتحان الشفاهي في الجامعة و فشلت في الامتحان الحقيقي..فعدتُ خواء من الذكريات و غيْما جريحا من الكلمات....

من الغد عند الأصيل  دخل خالد بيتنا هادئا بلا تصفير...ولج غرفتي ظلاًّ بلا وجه..جلس قبالتي على الكرسي...لم أستطع أن أنظر في عينيه..جلس ونظره يبحث في الأرضية عن الخواء...وصلني صوته خاملا مكتوما تجلده الجراح:

-اتصلتْ بي ليلى هذا الصباح..روتْ لي كل شيء..

ظلتْ كلمة "كل شيء" تجول في الحجرة مثل رائحة الإثم أو الصدى.... ساد الصمت الغرفة..بعد قليل أمسك رأسه و غام في نشيج حاد لاقرار له وهو يقول بصوت متوتر:

-علاش يا طارق....علاش؟؟؟؟!

ظل يبكي متوهّجا كالحريق و أنا أمامه جامد كالنسيان والصدى يُفتِّت الجرح بالسكين " روتْ لي كل شيء... كل شيء.."..وبعد عاصفة من الزمن قصيرة... هدأ ولكنّ الصدى ازداد حدّة و أخذ يمزّق أرجاء الغرفة... مسح عينيه... نظر حواليه وكأنه يبحث عن شيء ثم وقف و همّ بالخروج  و الصدى يتعالى أكثر فأكثر و يقطّعني " كلّ شيء روتْ لي كل شيء..."، وضعتُ يديَّ على أذنيَّ وأنا أراه يخرج بهدوء كما دخل و أراني سجين الصدى حبيس الجراح... يخرج... يخرج خالد ظلاًّ أخرس يحمل معه: الأيام و الذكريات و الأسماء: "جورداو" و " دايسكي" و ليلى... و طارق و كل شيء..كل شيء... كل شيء .. كل شيء.

 

أبوظبي 2/10/2011