تقدم (الكلمة) في هذا العدد الرواية الجديدة للروائي العراقي الكبير، يعود فيها إلى مرحلة عصيبة من تاريخ العراق الحديث حينما دمر الحصار الظالم شيئا حوهريا فيه وترك جرحه التي لاتندمل على الإنسان العراقي.

اللاسؤال واللاجواب (رواية)

فؤاد التكرلي

 

-1-

الأحد – كانون الأول 1994          

{استيقظ من نومه فجرا. أيقظته قشعريرة هزت جسده كله. كان مغموراً بظلمة ثقيلة أنهدت عليه فكادت تكتم أنفاسه؛ وكان يحس بنفسه منكمشاً في زاوية من غرفة نومهم، مفترشاً الأرض الباردة يرتجف بشدة وهو يعقد ذراعيه على صدره، ويطوي ساقيه إلى جسده. لم يغمر النور الحليبي المنصب من النافذة، إلا مساحة صغيرة من الغرفة. لم يدرك ما كان يحصل له ومن رماه هكذا من فراشه على الأرض الثلجية. كان منزوياً في الجانب الآخر من الغرفة، تستحوذ عليه ارتعاشات غريبة متصلة. رأى بغموض زوجته ما تزال مضطجعة على جهتها المعتادة من السرير. ناداها بصوت متذبذب متقطع: "زكية، زكية، زكية". لم تجبه. فك ذراعيه عن بعضهما وتمسك بالحائط خلفه ثم حاول أن يقوم، فخذله جسمه. نادى مرة أخرى: "زكية، أنت يا زكية" فرفعت رأسها المضطرب الشعر ونظرت إلى الجهة التي كان فيها. لم تره أول الأمر. "ماذا؟ من هناك؟" "أنا عبد الستار، تعالي ساعديني. لا أدري ما حصل لي، أسرعي" قامت تنزل من السرير فتعثرت في أول خطوة تخطوها، ثم تراكضت نحوه" ما بك؟ ماذا جرى لك؟ لماذا تجلس هكذا على الأرض؟" سحبته من ذراعيه اللتين مدهما إليها فقام على ساقين مرتجفين مستنداً عليها ومشى ببطء نحو السرير فارتمى عليه.

كان ذلك فجر يوم الأحد}.

* * *

الأحد:

لا يمر كل شيء في الحياة المعيشة هذه، مروراً عابراً. هنالك، على مدى السنين، حالات ومواقف تصهر نفس الإنسان وتختمها بختم لا يمحى. فجر اليوم، انحفرت في ذهني حالة من هذه الحالات؛ حالة غريبة وشاذة ولا تفسير لها.

استيقظت، قبيل طلوع النهار، لأجد نفسي متكوماً كالفأر على أرض الغرفة، ارتجف برداً ورعباً.

ماذا يُعمل بي؟ ولماذا؟ ومن هذا الذي انتزعني من نومة الفجر العميقة، من دفء الفراش اللذيذ، ليرمي بي هكذا على التراب؟

استنجدت بزوجتي، كنت واثقاً من عجزي عن الوقوف، فاستندت عليها لأعود إلى مكاني قربها. ولأننا، نحن الاثنين، أدركنا بأننا بعيدان جداً عن فهم ما حدث لي، وتجنباً لإيقاظ الفتاتين هيفاء وكوثر، فقد لزمنا الصمت وأخلدنا إلى نوم هو كالغياب عن العالم.

استيقظت بعد العاشرة بقليل؛ وكانت الفتاتان قد تركتا البيت إلى المدرسة بعد أن دبرت لهما زكية زوجتي كسرتين من الخبز اليابس تبلغتا بها مع قدح من الشاي دون سكر. حرصناً أن نجعلهما تأكلان شيئاً ما قبل الذهاب إلى المدرسة. لم ننس ذلك اليوم الذي فقدت فيه هيفاء وعيها أثناء الدرس بسبب عدم تناولها فطوراً. حدث ذلك منذ أسبوعين، أعادها إلى البيت جمع من زميلاتها التلميذات وهن على حافة البكاء. كانت مثل خرقة بالية لا حياة فيها.

قررت، بعد هذا الحادث، أن أشتغل مع جارنا حيدر عبد الحسين أبي سلمان، وأشاركه في سياقه سيارة الأجرة التي يملكها. يسوقها هو منذ الساعة السابعة صباحاً حتى السادسة مساءً، واستلمها أنا منه بعد ذلك، لأبقى اشتغل في سياقتها حتى منتصف الليل، بأجرة اتفقنا مقدماً عليها. كان هذا الاتفاق حلاً غير متوقع لحاجتنا المستديمة إلى الطعام والشراب واللباس.

كنا منذ بداية هذه السنة 1994، قد وصلنا القاع في عوزنا المادي، مثلنا مثل الجميع، وكنا، قبل ذلك بحوالي السنتين، قد بدأنا، بعد أن عجزنا عن الاستدانة، ببيع ما اعتبرناه، في وقته، زائداً عن الحاجة. ضحت زكية أولاً بالقليل الذي تملكه من القطع الذهبية الصغيرة مخفية، في أثناء ذلك، حزنها. وعدتها، دون إيمان، بشراء مخشلات لها أثمن وأغلى مما ضحت به. كانت تطيل النظر إليّ، متذكرة ربما، ما جرى بيننا قبل أعوام وكأنها تسألني بعينيها ... أتكفي هذه التضحية منها؟

لم يكن زواجنا مثالياً ولا كانت ظروف هذا البلد المدان مثالية؛ ولكن ذلك موضوع آخر ليس هذا وقت الخوض فيه. ما أريد أن أستقصيه، ليس هو هذا الإحباط الذي يلازم كل عراقي هذه الأيام، ولا الانغلاق التام للآفاق أمام شعب بأكمله، ولا، بالأحرى، نوع المستقبل الأسود الذي ينتظرنا، بل هو المعنى المبهم الذي يدفعني دون إرادتي، أنا الإنسان الفرد، نحو مصير مجهول. إذ لا مظهر واضحاً دون سبب يتخفى في باطنه أو خلفه، مثل المرض المميت، يبدأ بحمى خفيفة أو لطخة صغيرة حمراء أو وهن عابر ثم يحث خطاه، خلال الزمان، ويتقدم ببطء لينقض، في لحظة، فيضرب ضربته القاضية.

المظهر المخيف هو الذي رماني، هذا الفجر، على الأرض وأرجفني وزعزع كياني كله. إنه مظهر واضح وخفي في الوقت نفسه. ما المعنى إذن؟ ما الإشارة إذن؟ أين تكمن الحقيقة؟ ولماذا تكمن، إذا كانت هي الحقيقة؟ لِمَ لا تظهر؟ ولماذا؟ الليلة الماضية، ليلة السبت على الأحد، بقيتْ مسيطرة علي بسبب ما حدث لي فيها. أردت أن استجمع أفكاري لأصل إلى نتيجة ما، فمكثت مضطجعاً في الفراش وطلبت من زكية أن تتصل بمدير المدرسة وتخبره بأني مريض ولا أستطيع الحضور للتدريس. خرجت من الغرفة بتردد ومضت لتستعمل هاتف الجيران، ولبثت بمفردي.

بعنا، في فترات متعاقبة، قطع السجاد الثلاث التي تبقت لدينا مما خلفه والدي. اتفقنا أن نترك مكتبته جانباً في ذلك الوقت. لم يكن للكتب ثمن مرتفع. لا أحد يهتم بشرائها ومعدته فارغة، فإذا اجتمع فراغ الرأس مع فراغ المعدة، فالنتيجة هي ضد الكتب بشكل كامل وأكيد.

مع ذلك، فقد صعدت في وقت ما إلى غرفة المكتبة تلك. كانت مخصصة للأثاث القديم الذي كنا لا نأبه بالتخلص منه، وهو، واقعياً، لا قيمة له. كانت الكتب مرصوصة على جهة، فصار الوصول إليها متعذراً بعد أن تراصت الأشياء القديمة في جوانب الغرفة. إلا أننا، بعد أن بدأنا ببيع كل ما يمكن أن يُباع، خلت الساحة للكتب فبدت في أكوام متفرقة على الأرض، مثقلة بالغبار.

زرت إذن غرفة المكتبة هذه في وقت عصيب، بعد منتصف الليل، كما خيل إليّ. لست متأكداً متى، أمس أم قبله أم بعده، ولكني أشعر بأني زرت المكتبة في زمن ما. كان لي وقتاً عصيباً، بُعيد منتصف الليل. ماذا كنت أروم من تلك الزيارة الليلية الغامضة؟ لم يكن لدي أي جواب. كان أبي يصعد إلى تلك الغرفة حين كانت مهيأة للجلوس فيها براحة. كان يستكن إلى نفسه بعد ... ولكن بعد أي شيء؟ وهل أنا مثله؟ أأكون مثله؟

كان يعتدي على والدتي، تلك المخلوقة البالغة الضعف. دون سبب وبشكل لا يحتمل، وكانت تكتم صرخاتها وتتحمل ضرباته باكية بسكون. لم أفهم الأسباب. كنت في الرابعة عشرة من عمري. كيف يمكن لهذا المتعلم، أستاذ اللغة العربية في الثانوية المركزية، أن يقترف مثل هذا العمل الوحشي! كنت أرتجف وأنا مختبئ في زاوية نائية من دارنا. كنت أرتجف خوفاً وخزياً، ولم أستطع التدخل.

أتبقى هذه الذكرى في أعماقي، لتظهر على الشكل الذي عانيته فجر هذا اليوم؟ وما دخلي أنا في ذلك الموضوع البشع؟ كان ينزوي في غرفة المكتبة ساعات وساعات؛ وحين كان يخرج منها بعد تلك الساعات الطويلة، كانت يتجه مباشرة إلى حيث تجلس والدتي فيقبلها بصمت في صدغها ثم ينصرف خارجاً من البيت.

حسناً، ماذا كنت أريد، أنا البائس، أن أفعل وأنا أصعد، مثله، إلى غرفة المكتبة؟

لم أقم بأي عمل شنيع مما كان يفعله، وكنت عائداً من ليلة سوداء ومتعبة قضيتها في سياقه سيارة الأجرة. كنت مضطراً لهذه الممارسة الليلية المؤسفة، من أجل ألا نموت جوعاً، أنا وعائلتي.

قبل أشهر، بعنا بعض الملابس الزائدة وعدداً من الصحون والملاعق والسكاكين، وعادت زكية إلى الخياطة وزرعت الحديقة الخلفية الصغيرة ببذور الطماطة وبعض المخضرات، واقترحت أن نحاول شراء دجاجة لعلها توفر لنا البيض. وجدت الفكرة جنونية، من أين لنا ثمن دجاجة؟ قالت إنها ستوفر ثمنها من أعمال الخياطة. كانت، في الواقع، خياطة ماهرة، تركت عملها ذاك منذ سنوات حين تزوجنا. لعلها شعرت بأن في إمكانها الاعتماد على راتبي. هي ابنة عمتي، وكنا رفاق طفولة سعيدة رغم فارق السن، وكان الأهل يرون فينا زوجين مثاليين. كانت في العشرين من عمرها، كما أظن، متفتحة للحياة بعد نوالها شهادة معهد الفنون البيتية وبدء ممارستها للخياطة، حين دبرت والدتها وعمتها لها زواجاً فجاً وسريعاً من شهاب أحمد، سائق قطار في مديرية السكك الحديدية وقريب بعيد لوالدها.

كنت آنذاك قد وفرت من راتبي مبلغاً مهماً، كرسته لزواجي، لكن عمة زكية ووالدتها أحبطتا خطتي للزواج. لم يكلم والدي شقيقته، عمتي، بعد تلك الزيجة وتوفي قبل أن يصالحها. كانت عمتي غبية وحمقاء في الوقت نفسه.

إلا أنني أزوغ عن طريقي، طريق البحث عما حدث ويحدث لي. أردت أن أبدأ بفكرة بسيطة ... لا يأتي المظهر الذي عشته من فراغ. أبداً، أبداً، ماذا إذن وراء المظهر العجيب الذي تلبسني فجر اليوم؟ هذا هو السؤال، وهذه هي فكرته؛ فهل يرتبط كل هذا بوالدي الذي توفي منذ سنوات؟ أم أني أربطه به قسراً واعتباطاً بسبب زيارتي اللامفهومة لغرفة المكتبة المهجورة؟ كنت، في الحقيقة، جباناً في دخيلتي. هذا صحيح. شعرت وقتها بأن علي أن أدافع عن تلك المسكينة الضعيفة والدتي حتى لو أدى ذلك إلى هلاكي. ولكني كنت أخاف منه ... من بطشه بي وأنا ابن الرابعة عشرة. أيجب أن أعاقب، بعد كل هذه الأعوام، لأني لم أتدخل؟

سيكون ذلك عدالة من نوع خاص، لم يعرفها البشر من قبل ولا أوحت بها الآلهة.

عادت زكية من مهمتها لدى الجيران. أخبرتني بأن مدير المدرسة تضاحك معها ساخراً مني ومن وزارة التعليم التي عينتني، ومن الدولة المفلسة ومن العالم كله، ولم يقل شيئاً محدداً مفهوماً.

لم يهمني ذلك، كنت جائعاً كالعادة، لا أملك أي نشاط للقيام من الفراش ولحلاقة وجهي. خطر لي أن علي أن أقابل أبا سلمان وأسلمه الدخل الذي جمعته أمس، ثم تذكرت أنه لن يعود إلى بيته إلا حوالي السادسة مساءً. أعلنت زكية بأن لديها بيضة واحدة وكسرة خبز، يمكننا أن نتقاسمها في فطورنا مع قدح شاي أقل مرارة من المعتاد. كانت في ملابس خفيفة لا تلائم برودة الجو هذا الصباح، وكانت، رغم نحافتها، ذات صدر عال تحاول باستمرار أن تخفيه عن العيون. جلست قربي على الفراش على حين غرة. كانت بشرتها البضة قد غمقت مع الأيام ومع سوء التغذية والقلق المستمر، لكن عينيها السوداوين الواسعتين، بقيتا جميلتين تعبران عن أعماقها وأفكارها. كانت عيناها هاتان هما اللتان شرحتا لي قبل سنوات، دون ثرثرة زائدة، ما حدث لها مع زوجها ومجمل حياتها معه، اعترفت لي بعينها أنها أخطأت وأنها نكتت بغباء، ما تعاهدنا عليه ... وأنها تعتذر. ولأن حديث العيون يفهم ولا يجاب عليه بأية لغة أخرى، فقد تقبلت منها ذلك الحديث بصمت ولم أجبها؛ إلا أني وجدت نفسي لا أستطيع إلا أن أكون معها وأن أغفر لها كل شيء. جلست قربي على السرير إذن، تشد قميصها على نهديها البارزين، وتسألني برخاوة عما يمكن أن تصنعه بتلك البيضة الفريدة وبقطعة الخبز اليابسة. ثم أردفت:

ـ  ما بك، ستار؟

ـ  لا أدري، أحاول أن أفهم ما جرى لي هذا الفجر.

ـ  ماذا حدث؟

ـ  حقاً!؟ ألم تريني .. مرمياً كالمجانين على الأرض، لا أقدر على الوقوف على قدمي؟

ـ  كنت متعباً، هذه نتائج الإرهاق الشديد. لقد أثر التعب على أعصابك.

ـ   بالله عليك، لا تحكي بهذا الشكل.

لبثت تتطلع إلي بعيون فارغة. قلت لها:

ـ  هذه ليست مظاهر تعب أو إرهاق. أبداً، ألا ترين؟

تغيرت نظراتها بشكل مفاجئ، وبدأ عليها كأنها مندهشة بعض الشيء، تكلمت ببطء وتردد:

ـ ولكنك، ألا تتذكر؟ في الليلة الماضية.. ألا تتذكر؟ عدت متأخراً وكنت بحالة غير طبيعية، أعني لم تكن.. لا أدري كيف، ألا تتذكر؟ هذه الليلة الماضية..

ـ  كلا، كلا، لا أتذكر شيئاً، أبداً. ماذا حدث؟ تكلمي.

ـ  هذا غريب. ألا تتذكر كيف أيقظتني من النوم وأنت ... وأنت بحالة هياج لم أعهدها منك قبلاً، وفي ظلمة الليل عملتها. صحيح, ألا تتذكر؟ قتلتني بعنفك وشدة هياجك. ثم وقعت بجانبي هامداً، ونمت دون كلام؛ وكنت تلهث، لا أدري كيف، كنت تلهث بشدة.

تشاركنا في أكل البيضة المسلوقة وكسرة الخبز ونحن جالسان في غرفة الخياطة نتجرع الشاي القليل المرارة. لم أعلق بشيء على ما سردته زكية علي، اكتفيت بقولي:

ـ  لا أتذكر، لا أتذكر.

ثم قمت أقصد الفراش مرة أخرى. كنت متعباً أشعر بارتخاء في ساقيّ، فاضطجعت أنشد بعض الراحة. كان صوت ماكنة الخياطة يأتيني من بعيد، وكنت أحاول أن استذكر، أن أعيد لذاكرتي حيويتها. شعرت بأن في ذهني فجوة غريبة، حفرة عميقة من الفراغ كأنها ثقب أسود. هي فجوة مظلمة فحسب، لا تؤلم ولكنها تفقدك التوازن، كيف يمكن إنارة خفايا دامسة الظلمة من هذا النوع؟

غلبني النوم ساعة وبعض الساعة. قمت أخرج مدخول الليلة الفائتة وأحصيه. أعطيت زكية بعضاً منه وحفظت ما تبقى إلى حين عودة أبي سلمان. خرجت زكية تشتري ما تعد به غذاء لنا جميعاً ومكثت بمفردي في الدار. لم أنته في تأملاتي إلى أية نتيجة أو تفسير لما حدث. على العكس، صرت أتساءل عن أي تفسير أبحث، وماذا يمكن أن يُفسر في الإنسان؟ كلنا كأفراد، محاطون بظروف وأزمنة تجعلنا كدودة القز، منغلقين داخل شرنقة لا فكاك منها. لسنا مجوعين من قبل سلطتنا العراقية فحسب، بل أن العالم كله، دولاً وشعوباً، صمم أن يقتلنا جوعاً وخوفاً؛ وسيُنسى كل هذا ولن يسجله التاريخ.

عادت الفتاتان هيفاء وكوثر من المدرسة، فبعثتا الحيوية في الدار. صبرتهما وأوعدتهما أن تجلب لنا أمهما ما يملأ بطوننا الخاوية. ولم تتأخر زكية لحسن الحظ وبذلت جهدها لتعد لنا طعاماً كان عبارة عن صحن كبير من شوربة العدس مع قطع طازجة نسبياً من الخبز. بعد ما شعرنا كلنا، كأننا شبعنا.

أردت أن استرخي قليلاً لكن أبا سلمان جاء مع سيارته للأجرة، كعادته كل عصر، فأخذ حصته من الدخل وسلمني المفاتيح. أضاف أنه ملأها وقوداً وتمنى لي ليلة جيدة، وقبل أن ينصرف عاتبني برقة لأني نسيت، ليلة أمس، أن أربط السيارة بسلاسل الحديد حفاظاً عليها مثلما نفعل كل ليلة. اعتذرت وأبديت له أسفي فأخذ يقص علي آخر حوادث سرقة السيارات التي حدثت في الجوار. قال أن صاحبه أبا جواد استيقظ في منتصف الليل على أصوات مشبوهة فحمل بندقيته المحشوة وفتح الشباك المطل على المرأب وأضاء المصباح الكهربائي. رأى أحدهم يعبث بالسلاسل الحديدية المحيطة بالسيارة فصرخ به مهدداً إياه بإطلاق النار عليه. هل تتصور؟ لم يهتم اللص بصراخ أبي جواد ولا بتهديده واستمر في عمله فعاد أبو جواد يصرخ ويهدد، فرفع اللص رأسه وقال له بكل هدوء إنه إذا أطلق النار عليه فسيشتعل بيته ويُقتل هو وأهله جميعاً، وطلب منه أن يلقي نظرة على جهة الحديقة، فالتفت أبو جواد وإذا به يرى ثلاثة رجال مسلحين برشاشات كلاشينكوف، يختفون بين الأشجار. حينذاك أدرك أبو جواد أنه في وضع الخسران والا فائدة من المقاومة فعرض على اللصوص أن يمنحهم مائتي ألف دينار نقداً وقال لهم خذوها بالعافية واتركوا لي السيارة لأنها مصدر رزقي؛ فاجتمع اللصوص وتناقشوا فيما بينهم ثم وافقوا على عرضه، هل تصدق؟ سلمهم المبلغ ورجاهم أن يتفضلوا ويشربوا الشاي، لكنهم اعتذروا لضيق الوقت، فقد كانوا على موعد لإتمام عملية سرقة أخرى! هل تظنني أبالغ يا أبا هيفاء؟ لا والله.

كررت عليه اعتذاري وعدت إلى البيت منزعجاً، ماذا جرى لي لأدخل في هذه السلسلة المتلاحقة من النسيان الفجائي ومن الكوابيس وممارسات الجنس الهمجية؟ أكنت مريضاً؟ أأنا الآن مريض بشكل خفي؟ ولِمَ لا؟ ولِمَ لا؟ خرجت أتجول قاطعاً، طولاً وعرضاً، شوارع بغداد وأنا أسوق سيارة الأجرة تلك، غارقاً في بحر أفكار شتى لا حدود لها ولا معنى. أسعدني الحظ فقمت بنقل أشخاص عديدين من أماكن لأخرى. كان البرد شديداً ومزعجاً والسماء تنث باستمرار مطراً ألجأ الكثيرين إلى الهروب لبيوتهم. أمس، أمس أيضاً، كنت أسوق هكذا. لم أكن مضطرباً ولا ناسياً نفسي. كنت في مستواي المعتاد ... روحياً وعقلياً وجسدياً؛ ولم يخطر لي أمس أن حدثاً غير مألوف سيداهمني. كأني خرجت، فترة، من عالمي هذا ومن زمني الخاص، إلى عالم آخر وزمن آخر، و لما سمح لي بالعودة لم أكن سالماً ولا شاعراً بنفسي الحقيقية ولا متذكراً أي شيء، كنت قبل ذلك في هذا العالم حين سمعت أذان العشاء وحين أوقفتني سيدتان طلبتا إيصالهما إلى الكرادة/ خارج. استغربت، كم أتذكر ذلك! أن أشم، بعد دخولهما السيارة، رائحة عرق نفاذة. كانتا تتساران بأصوات خافتة وتضحكان باستمرار. وأتذكر جيداً أني أردت أن أتدخل بينهما في الحديث وأن أداعبهما للترويح عن نفسي قليلاً، لكني أحجمت. لا يمكن أن تتوقع أي باب سينفتح عليك من جراء فعلة تافهة مثل هذه. منحتني إحداهما بخشيشاً كبيراً حين نزلتا وصفقتا باب السيارة خلفهما بشدة.

كنت استرجع بصعوبة تلك الصور، وأحاول جاهداً أن أتابع بذاكرتي الحالية ما جرى بعد ذلك. مكثت أسوق تلك الليلة ساعات وساعات مثلما اعتدت أن افعل دائما، ومثلما أفعله الآن. نقلت أشخاصاً من جهات متباعدة إلى وجهات أخرى. لم أكن مشوشاً. كنت جائعاً ولكني لم أكن مشوشاً. حوالي منتصف الليل أو ربما بعده بقليل، توقفت في ساحة "الأندلس" قرب إحدى المستشفيات الخاصة. أردت أن آكل لقمة واشرب قدحا من الشاي في مقهى صغير اعرفه، يقع على الجهة الأخرى من الشارع، إلا أني وجدته مغلقاً فعدت إلى السيارة.

كنت قريباً من السيارة أروم أن أفتح بابها، حينما سمعت شخصاً يخاطبني بكلمات ممطوطة يشوبها التردد. أتذكر ذلك جيداً. لفت سمعي رخاوة صوته. لم أره بوضوح، فقد كان واقفا في دائرة الظلام على مبعدة مترين مني. إلا أنه بدا لي نحيلاً بقامة متوسطة. أراد أن أنقله إلى حي "الشعلة". خطر لي أن المسافة إلى حي "الشعلة" بعيدة والوقت متأخر نسبياً وأنا متعب بعد أكثر من ست ساعات من السياقة المستمرة، لكن الأجرة كانت تستحق تحمل العناء، فوافقت بعد أن اتفقنا على أن يدفع لي ألفي دينار. دخلنا السيارة، أنا وهو، كل في مكانه كنت خالي الذهن تماماً، فقد كان التعب قد بلغ مداه عندي، إلا أني شعرت، حالما تحركت بالسيارة، بأني انتقلت لا أدري بأية كيفية إلى عالم آخر، عالم من الضباب والذهول والضياع.

لم يحصل لي شيء وأنا أسوق بهدوء؛ لا أتذكر أن شيئاً حصل لي آنذاك، غير أن حادثاً مريعاً قلب موازين العالم من حولي وغيّر من تركيبة الماضي بشكل غير مفهوم. كنت، كما قلت، أسوق السيارة بهدوء، ذلك ما أنا واثق منه، ولكنه انقلب بعد ذلك، بسبب ما حدث وغرقتْ تلك الحالة الطبيعية التي كنت فيها، بحال من اضطراب الحواس وفقدان الذاكرة. كنت أسوق وأسوق طوال الطريق، شاعراً بوجود ذلك الشخص المجهول في السيارة، وجود مريب وغريب ومخيف، كأنه ذئب يتخافى في الظلام ورائي. ووصلنا وأوقفت السيارة على جانب شارع ضيق شبه مظلم، ولما أردت أن أستدير ناحيته، انفجر رأسي ونزلت أمام ناظري ستارة سوداء كثيفة. فقدت إدراكي لعالم الحواس ومعه ذاكرتي. تهاوى الجسد إلى درجة الصفر وبقيت الروح أو الذات الأساسية التي هي أنا، تمارس وظائف هذا الجسد المتخاذل. كنت أشعر بألم في ناحيتين من نواحي رأسي، وكنت جالساً مرة أخرى في مقعدي أمام المقود أسوق ببطء شديد وأنا غير عارف وجهتي بالتحديد، كأنني في حلم طويل لا ينتهي. ثم وبشكل آلي وجدت نفسي أدخل شارعنا بالسيارة وافتح باب المرآب وأركن فيه السيارة ثم أغلقه وأقصد دارنا. كنت إنساناً اصطناعياً تحركه أياد خفية من بعد. دخلت الدار وأغلقت الباب ثم جلست على مقعد في الصالة. كنت كمن يحلم، كمن يعيش حلماً. نعم، كنت في حلم، قمت بعد دقائق وصعدت لغير سبب ظاهر إلى المكتبة. كان الألم في رأسي خفيفاً، لا يؤبه له. لم ابق في المكتبة إلا فترة قصيرة، قلّبت فيها بعض الكتب بشكل عشوائي، ثم عدت انزل درجات السلم ببطء شديد. توقفت هنيهات في الصالة، أمام النافذة، أتطلع إلى ظلام الليل ومصابيح الشارع. كنت متعباً ومتشنجاً في الوقت نفسه. قصدت غرفة نومنا، كان ضوء الشارع الشاحب يسمح بتمييز موقع خطواتي ورؤية السرير. لم أتعرف على زكية، بل على جسد امرأة نائمة تنضح أنوثة ودفءا. لبثت واقفاً فوق رأسها استمع إلى صوت تنفسها. كنت دائخاً ومضطرباً، ثم بعد لأي، وجدتني أرتمي قربها وأتشبث بها. لم أدر بالضبط ما كنت أريد أن أفعل؛ إلا أني، بعد فترة وجدتني أقوم عنها وأتملص من ذراعيها وساقيها التي تشابكت مع جسدي العاري.

لم أعد إلى وعيي إلا برهة فتحت فيها عينيّ فعاد لهما النظر، وإذا بي جنب زوجتي وهي مندسة بي مهمهمة بما لم أفهمه، قبل أن أغرق في محيط نوم لإقرار له. حين عدت إلى عالمي المألوف، كنت منكمشاً على نفسي، في زاوية باردة من زوايا الغرفة، أرتجف هلعاً مع إطلالة الفجر.

هكذا كانت الأمور اذن. هل حدثت بهذا السياق أم بسياق آخر؟ لا أدري. كل ما أعرفه هو أني، بعد كل شيء، ما زلت أسوق سيارة الأجرة في ليل بغداد، وأحاول عبثاً أن أعيد لنفسي ترتيب صور محاها من ذهني حادث غامض لعين. أم لعل من التجني على الحقيقة أن ادعي حصول حادث لا أعرف عنه شيئاً ولا أعرف هل وقع أم لا، كما أني لا أتذكره قط. إنه يشبه تغييراً وقتياً في مستويات الحياة المعيشة. نحيا، تارة، بذاكرة ثم نحيا، تارة أخرى، بدون ذاكرة. نحيا في زمن يسلسل الأمور منطقياً، ثم نحيا والزمن غائب، وقد غابت معه سلسلة الأسباب والمسببات.

رجعت أسوق السيارة والليل يقترب من منتصفه، حين وجدت أن الحصيلة كانت مجزية وكافية، وكنت منهكاً من أثر الأعصاب المتوترة والذهن المنشغل، والسياقة، فقررت العودة. حينما كنت أربط السيارة بسلاسل الحديد، عاد لذهني، بغتة، إحساس بالغثيان رافقني طوال ذلك المشوار الغامض الذي سلكته مع الشخص المجهول أمس. كانت هناك رائحة ثقيلة مغثية، هي خليط من رائحة العرق الزحلاوي والبصل وقذارة جسد نتن. كانت رائحة مريعة، عادت إليّ لحظة وأنا مشغول بعملية ربط السيارة بالسلاسل، ما الذي أعادها، في ذلك الوقت العسير؟ زاد ذلك من حيرتي واضطرابي، وخطر لي وأنا أفتح باب بيتنا وادخل محاذراً أن أحدث صوتاً، بأن من السخف واللامعقول أن أرجع سبب ما حصل لي فجراً، إلى حالة غريبة أخرى تحتاج هي أيضاً إلى تفسير والى تقص للوقائع.

دفعني الجوع للذهاب إلى المطبخ باحثاً عما يمكن أن أجد من الطعام. وجدت حبة بطاطا مسلوقة وشريحة صغيرة من الطماطم وقطعة أصغر من الخبز، تركتها زوجتي ملفوفة بعناية, إشفاقاً منها علي. كان طعاماً مباركاً، تافهاً، ازدردته بغير عجلة وبحنق، وأنا لا أدري كيف أبدأ شتائمي وبمن.

* * *

الاثنين – كانون الأول 1994:

{أحس بلطمة قوية تصيبه في القسم الخلفي من رأسه، ففتح عينيه. لم ير شيئاً. لحظات مبهمة وغائمة ثم أحس بنفسه يضرب برأسه الحائط وراءه ويصرخ متوجعاً. أنقشع الضباب عن بصره قليلاً. كان جالساً على الأرض الباردة، على مبعدة من السرير، يشابك ذراعيه على ساقيه الملتصقتين ببعضهما؛ وكان يرتجف. شعر بنفسه ينزع إلى ضرب رأسه بالحائط مرة ثالثة، إلا أنه توقف خائفاً من الألم الذي يصدع جمجمته بشدة. أن أنينا طويلاً وأراد أن ينادي طلباً للنجدة، فلم يستطع. كان جسده متجمداً شبه مشلول، وخذلته أنفاسه وجفاف حلقه وارتعاشه.

تأوه عالياً ثم صدرت عنه حشرجة "يا ربي". كانت الغرفة ما تزال مظلمة وبرودة ثلجية تحيطه من كل جانب ... حول ظهره وردفيه وأطرافه وصدره؛ كأنه غارق في مستنقع من الثلج "أخ.. يا ربي" حل ذراعيه عن ساقيه ثم راح يزحف ببطء قاصداً السرير. كان مثل دبيبة تزحف على أربع. ملكته عبرة وهو ينتبه إلى ما يجري له. كالكلب المسحوق المهان، يا ربي. ولما أراد أن يصعد إلى السرير، خانته ساقاه المرتعشتان فسقط في مكانه فاقداً قواه. سمع أنفاس زوجته الثقيلة فنادها فلم تستجب لندائه. عاد يتحامل على نفسه، فاستطاع أن يرفع جسده قليلاً وأن يتشبث بالسرير ثم ينهد على الفراش.

كان ذلك فجر الاثنين}.

* * *

الاثنين:

كنت أعرف بقلبي طرقاتها على بابنا الخارجي. طرقات خفيفة، خجولة مثلها؛ فأسرع افتح لها الباب. كانت، أغلب الأحيان، تأتي إلى بيتنا ظهراً، حاملة صينية تتراكم عليها صحون الأكل اللذيذ الذي تطبخه لنا أمها ... عمتي. كم كان جميلاً أن أراها وكم كان جميلاً أن نبقيها معنا لتشاركنا طعام الغداء. حتى أبي كانت سحنته تتفتح حين يرى ابنة أخته الفاتنة تبتسم بحياء، وهي تسلم حملها إلى والدتي وتهم بالانصراف فيناديها بحنان:

ـ أين تذهبين يا زكية؟ هذا بيتك وطعامك، فلا تتركينا هكذا.

ثم يلثم وجنيتها والسعادة تفيض من وجهه. وتريد الصغيرة أن تعتذر فلا يترك لها مجالاً. كانت في الثانية عشرة وكنت صبياً جاوز المراهقة في السادسة عشرة من عمري. كنا بذرتي حب بريء لا تشوبه أية شائبة. وبسبب ذلك الجو السحري من الدفء والحنان الذي كانت تنثره تلك الفتاة الصغيرة علينا، اعتقدت، رغم صغر سني، بأني من المحظوظين القلائل الموعودين بسعادة مقبلة طويلة الأمد. كان مفروضاً علينا أن نكون خطيبين وأن نتزوج حالما تسمح الظروف بذلك. وكم كنا سعداء، نحن الاثنين، باستسلامنا لهذا الواجب العائلي.

انتقلنا إلى منزلنا هذا في محلة "رأس الساقية" من تلك الدار الكبيرة في "رأس الجول" التي سكناها طوال عشر سنوات والتي ولدت بها كما قيل لي. لم أعرف سبب انتقالنا، ولكني سررت به لأنه يقربنا من بيت عمتي أم زكية، فهي تسكن داراً صغيرة في محلة "التسابيل"، لا تبعد إلا حوالي مائة متر عن محل سكنانا الجديد. وهكذا بدأت أعوام سعادتي الطفولية.

كانت زكية وهي في الثالثة من عمرها، تشبه شبهاً مدهشاً، دمية جميلة دقيقة الملامح، رأيت صورتها مرة في إحدى المجلات. كان والدها معاون شرطة لا يأبه، كالعادة، لمسميات الضمير أو النزاهة أو الأمانة الوظيفية، فاستطاع لذلك أن يؤمن لعائلته عيشة مرفهة بشكل من الأشكال، لا تتناسب وراتبه الضئيل؛ حتى أنه تمكن من شراء دار صغيرة في محلة "التسابيل" سجلها باسم زوجته وابنته مناصفة. كان في حوالي الخمسين، ولم يكن استثناء في ذلك العهد الغابر، ولكنه في أعماقه، كان يخشى غدر الزمان الذي لم يتأخر عليه كثيراً. إذ ـ بعد مضي سنة على ثورة 14 تموز 1958 ـ عادت لمراتب الشرطة الثقة بأن الأسس التي تقوم عليها الجمهورية الجديدة لم تتغير، وإن العود إلى ممارسة النشاط القديم سيكون أحمد. وهكذا وقع أبو زكية في فخ نصبه له أعداء مجهولون. قبض عليه بالجرم المشهود وضبطت بحوزته تلك الدنانير المؤشرة التي سلمت له كرشوة قبل ساعات. لم يفصل من الوظيفة فحسب بل حكم عليه بالسجن سنتين، قضى منهما عشرة شهور ثم قتلته نوبة قلبية غير متوقعة.

كانت زكية في الثامنة من عمرها. بكينا معاً في جهة من حوش منزلهم الضيق، وسط عويل النساء وصراخهن، وهن يلطمن ويضربن عل صدورهن حول التابوت. ترك والد زكية لها ولأمها تلك الدار، ملكاً صرفاً، وترك لهما شقيقته العانس التي كانت عالة عليهما. كن ثلاث نساء، زكية وأم زكية وعمة زكية، أصغرهن كانت زكية، أما أضعفهن شخصية وعقلاً فكانت أمها، ويتبقى للعمة العانس التسلط وطول اللسان والحقد على البشر. لكن الأمر، في تلك الأيام، كان خفياً علينا؛ وكانت العانس الداهية تختبئ تحت مظاهر عديدة من المسكنة وحب الخير وخدمة الآخرين، فاستطاعت بذلك أن توجه إلينا، وإليّ خصوصاً، ضربة قاصمة كادت تصيبني في مقتل.

كان همي الكبير حينذاك، أن اعتني بتلك الزهرة المتفتحة التي كرست مستقبلي لها، وكان بودي أن  ننجح نحن الاثنين في دراستنا وان نعيش حياتنا المستقبلة، بعد ذلك، ونحن مزودان بسلاح الشهادة العالية الذي ظننته يفتح لنا أبواب النجاح والعيش المرفه. لذلك صدمت برسوب زكية في امتحان البكلوريا للدراسة الابتدائية. كنت بذلت جهداً كبيراً في تدريسها المواد التي استصعبتها قبل الامتحان بأسابيع. ورغم المتعة التي كنت أجدها في مجالستها وتدريسها ومداعبتها أحيانا، إلا أنني، أتذكر جيداً، لم ألمسها عن قصد وبسوء نية. وحين علمت من والدتي، بعد عودتي يوماً من المدرسة، بأن النتائج ظهرت وأن زكية رسبت بثلاثة دروس ركضت لرؤيتها في دارهم. كنا في أواخر حزيران، وكان الحر منهكاً والشمس تلاحق البشر بأشعتها المضنية، فتحت لي والدتها الباب واستقبلتني بما يشبه النحيب اللامتوازن:

ـ  شفت، ابني ستار، شفت هذه الزكية، لا تفهم شيئاً من أي شيء.

ـ أين هية، عمة؟

ـ  تبكي هناك، هذا ما تتقنه جيداً.

كانت على فراشها، جالسة تبكي بانكسار في جو الغرفة المشتعل حراً. قفزت أول ما لمحتني واقفاً في إطار الباب وركضت نحوي. تلك اذن هي اللحظة التي بقيت مضيئة كنجمة الصباح في مخيلتي. احتضنتني بلهفة ويأس، كأنها كانت تخشى أن نتفارق. ارتجفتُ وأنا أضمها إلي واشعر لطفاً انثوياً ينبعث منها. أخذت تبكي بشدة وهي تدفن وجهها في صدري، فلبثت ساكتاً لا تحضرني اية كلمة مواساة أو تهدئة. كنت أجدها تحسن صنعاً ببكائها، وكنت أتمنى أن أبكي مثلها دون حياء.

كانت حادثة رسوبها، في ظني، عثرة في طريق حياتنا المستقبلية ولم يكن سهلاً علي أن اسمح بأن تقع لنا. كنت غراً، إذ كنت أحسب أني كنت الملاذ الوحيد لزكية ولآمالها وآمالنا القادمة، ولم يكن بمقدوري مطلقاً أن انتظر أو أن أتنبأ بما ستعمل بي هذه المخلوقة الهشة التي تحتمي بي من غدر الزمان. كانت هي بالذات، بذرة السعادة المثلى ومنبع الشقاء الأقصى. فإذا ما علمنا بأن سعادة البشر تأتي وتروح مثل فراشة تحملها نسمة ربيعية عابرة، فإن التعاسة تقبل تدريجياً بأقدام ثقيلة ثابتة وراسخة.

مضت الأيام رتيبة ومختلفة في الآن نفسه. كانت علاقتي بزكية المراهقة التي كانت تسرع نحو النضوج الأنثوي، علاقة أخذت تصير حساسة ذات حدود معينة. كنت، وهي ايضاً، أشعر بأننا مراقبان من الجميع، حتى الحيطان كانت لها عيون تحدق بنا حين ننفرد لوقت قصير ببعضنا. نجحت زكية واجتازت امتحان البكلوريا والتحقت بمعهد لتعلم فنون التدبير المنزلي. قالت لي إنها تعبت من الدرس والحفظ والنسيان. كنت اتملاها بنظري كلما حانت لي الفرصة. بدأت تلوح عليها معالم الأنوثة بصورة مبكرة وظاهرة. برز نهداها وطالت قامتها وأخذت حنايا جسدها تتشكل. ومع هذا التقدم الأنثوي الحثيث، ازداد حرص العائلة، عائلتها وعائلتي، على التفريق بيننا بكل الوسائل.

ثم اقبل ذلك اليوم المشؤوم في أواخر آب 1970 حين اخبرنا أبي بأنه نقل إلى ثانوية الكرخ للبنين وان علينا أن نسكن قريباً من المدرسة بشكل معقول. كنت آنذاك قد تخرجت من معهد إعداد المعلمين وأنهيت خدمتي العسكرية وتعينت معلماً في مدرسة "التسابيل" الابتدائية للبنين، انكمش قلبي وأنا استمع لوالدي يحدثنا عن محاولاته إيجاد بيت للإيجار في منطقة الوشاش أو الحي العربي، إذ كانت تلك المناطق بمستواها شبه الشعبي ملائمة لدخلنا الشهري أنا وهو.

هكذا ابتعدنا كل واحد منا عن الآخر. هي لم تقل شيئاً فقد كانت تخشى أن تفسر أمها أو عمتها أقوالها بما هو مناف للأصول. كان احتضاني لها حين رسبت، هو آخر تماس جسدي بيننا، ولذلك بقي حياً في ذاكرتي، أكملت زكية دراستها في المعهد وتخرجت منه خياطة من الطراز الأول. كنت قبل انتقالي من مدرسة "التسابيل" الابتدائية إلى مدرسة "الوشاش" الابتدائية القريبة من دارنا، أداوم على زيارة بيت عمتي يومياً. كنت اكتفي برؤيتها والسلام عليها وتبادل بعض الكلمات العادية معها. فلما انتقلت إلى المدرسة الأخرى، و بدا علي انشغال الفكر واضحاً، قالت لي والدتي يوما:

ـ ابني، اسمع مني، ابنة عمتك بلغت وصارت امرأة ناضجة، فلا تلح كثيراً على زيارتهم وانتظر بعض الوقت، فهي لك أولاً وأخيراً.

وكم كانت على خطأ‍!

ولما كنت اشعر، في أعماقي، بأنها على خطأ فقد بقيت مثابراً على زيارة بيت عمتي رغم بعد المسافة. كنت أجد الحجج المقنعة دائماً، لرؤية تلك الفتاة التي صار تولعي بها قانونا صارماً. كن يتظاهرن بالسعادة حين اطرق الباب وادخل؛ ولكنها كانت، تحت رقابة أمها وعمتها، تضع مسافة بيننا أكثر مما تفرضه الحيطة والحذر. غير أن نظراتها كانت، بين لحظة وأخرى، تكلمني كلاماً ناعماً يبعث الطمأنينة في قلبي المشوق. ولكني.. ألست مخبولاً بشكل من الأشكال وفاقداً للتركيز الذهني وغير مدرك لما أريد أن أعبر عنه آخر الأمر؟

إذ، ما سبب تمكسي برواية كل هذه السلسلة التافهة المملة من حكاياتنا الماضية التي اندثرت؟ لِمَ أسردها جميعها هكذا من اجل أن أعيد إحياء لحظة واحدة من الزمن، فترة قصيرة لا تعدو أياماً قليلة؟ لم لا استعجل واطوي كل قذارات الحياة.. حياتنا، لأجل أن أصل إلى ذلك اليوم الذي دخل علينا فيه والدي بعد الظهر محمر الوجه مرتجفاً، لا يقوى حتى على الكلام؟ كنت جئت من المدرسة قبله وكنت سعيداً وقلقاً في الوقت نفسه؛ سعيداً لأني قبضت راتبي ومررت على المصرف فأودعت فيه مبلغاً معيناً وعدت سيراً على الأقدام إلى بيتنا. كان الربيع سنة 1973، كم أتذكر ذلك جيداً، ربيعاً ضاجاً بالحياة. بدت لي الأشجار من حولي في الطريق، كأنها تتهيأ لرقصة عنيفة جياشة بالحب والحياة. وكنت قلقاً، تداخلني سويداء غامضة.

جلست مع والدتي ننتظر عودة والدي لنتغدى سوياً. ولم يزعجنا تأخره ولا أقلقنا، وكان علينا أن ننزعج وأن نقلق. دخل بضجة غير مفتعلة فرمى الإضبارة التي كان يحملها ثم ارتمى على الأريكة القريبة من الباب. كان مصفر الوجه متعرقاً. أسرعت إليه والدتي، إلا أنه أشار إليها بذراعه ألا تقترب؛ وكان يلهث وهو يريد أن يتكلم بصوت عال كالصراخ فيخونه صوته:

ـ الكلبة.. ابنة الخراء عمته ...

وأشار إلي:

ـ زوّجت ابنتها.. هل تسمعان؟ زوّجت ابنتها زكية، وممن؟

ثم تنفس نفساً عميقاً فأسرعت والدتي تحمل إليه كأس ماء رفضها بشدة:

ـ خليني... خليني بحالي. تريد أن تبيع شطارة برأسي تلك الكلبة، تريد أن تقول لي ... طز بك وبابنك وبأجدادك. ولذلك.. ولذلك زوجتها من شهاب ابن احمد السايس. أعطتها إلى شهاب احمد سائق قطار ... سائق عربة قطار فقط، هل تسمعان؟ مستخدم بأجرة يومية، يعيش بين التراب والفحم والدخان، ميزته الوحيدة انه احد أقرباء السيدة العانس عمة زكية ... الدكتاتورة عمة زكية، هي التي تتحكم برقاب عائلتي. يا الله.. يا الله.

          لفظ اسم الجلالة كمن يستعين بأحد لنجدته، وكان قلبي يدق بجنون. منذ ذاك، بدأت أتلقى من تلك الفتاة العذبة سلسلة من السهام المسمومة بغير انقطاع.

          تزوجت رغم انفنا جميعاً. خنعت لأوامر عمتها فزوجتها هذه لأحد أقربائها البعيدين. لم يكن يملك شيئاً، وأنا الذي كنت أجّد مثل بغل واجمع الفلس على الفلس من اجل أن ارتب حياتي المستقبلية معها، تُركت مثل غصن مكسور. تزوجت من شهاب بن احمد سائس الخيل، الذي جاء ليعيش معهن في البيت، معززاً ومكرماً ومدللاً.

لم ترد أن تراني، رفضت بإصرار أن ترى وجهي المعذب.

قالت لي والدتها:

ـ استر علينا يا ابني، هجم بيتنا أبوك ذلك اليوم.

وحكى والدي لنا:

ـ لم أتمالك نفسي. فقدت أعصابي تماماً. عملوا كل شيء خلال أيام نكاية بنا. اخذوا منه مائتي دينار ... مائتي دينار فقط ثمناً لزكية، هذه التي كنا نضعها على رأسنا، وهيأوا لهما غرفة وادخلوه عليها. خلال أيام فحسب، نكاية بنا. جننتني تلك اللعينة ابنة الخراء عمتك، جننتني. ووالله لم ادر كيف عملت ما عملت. والله. لتقل ما تقول ولكني لم أسيطر على أعصابي، نزعت حذائي هذا وأمسكت بها من شعرها وأشبعتها ضرباً عل كل شبر من جسمها. أرحت فؤادي قليلاً، ولم يتسن لي أن أجد تلك العوراء العانس. هربت من البيت واختفت تحت الأرض، هي وتلك البضاعة التي باعوها.. زكية.

الآن ,.. يا ستار يا ولدي، لا تقف هكذا أمامي بوجه البؤس هذا وتزيد من عذابي. دعنا ننتظر رحمة الله، لعلها آتية عن قريب أو بعيد. ماذا بإمكاننا أن نعمل في حفرة البراز هذه التي شاء القدر أن نقع فيها؟ قل لي!

لم اجبه. اختلى كل واحد منا بنفسه. كنت محزوناً، مجروحاً، مهاناً، مطعوناً في حبه. لم أدرك مدى حبي لها حتى فقدتها؛ وبقيت في غرفتي أياماً وليالي، متقلباً في الفراغ، لا أجد أي بصيص نور أمامي. وكانت الخواطر الغريبة الشاذة تتراكض في ذهني كأفراس هاربة. اقتلها واقتله وانتحر. انتحر أمامها. اقتلها. اقتله. اقتل أمها. اقتل عمتها. اقتل الجميع وانتحر. اقتل الجميع فقط دون انتحار. وهكذا عشت أسابيع لا حد لطولها ومللها.

إلا إنني لا أريد أن استرجع كل هذا لغير سبب معقول، لدي أكثر من سبب معقول سأذكره حالاً. هذه السيدة التي استطاعت أن تعمل بي ما عملت، والتي ارتني النجوم يوما في عز الظهر، والتي ما همها مطلقاً أن احترق جسدياً ومعنوياً في سبيل أن تهنأ بزوج سخيف؛ هذه السيدة التي عادت بعد سنوات لتركع تحت أقدامي طالبة المغفرة. ألا تستطيع، منطقياً وبحسب الطبائع البشرية المعلومة، أن تعيد أعمالها كرة أخرى، وتمارس معي الدهاء والخبث نفسيهما، فتحيل حياتي جحيماً لا يطاق؟ أضرب رأسي بالحائط كل فجر. أفترش الأرض الباردة ليلاً. أتشنج وأتكسر وأفقد الجنان. أيمكن أن يكون كل هذا بدون سبب مباشر قريب؟ من يعمل بي هذه الأعمال؟ من يدفعني للقيام بها؟ من هناك غيرها يريد إنزال كل هذا الأذى بي؟

وهكذا اذن، أمسكت بها صباح الاثنين هذا، وأجلستها أمامي. وكنا بمفردنا ذلك الصباح بعد ذهاب البنتين إلى المدرسة. كانت نحيلة الجسد بارزة عظام الكتفين، ولكن صدرها العالي منحها مظهر امرأة ممتلئة. كان في عينيها ذلك الخوف الغريزي الذي بتنا نشاهده في عيون بعضنا هذه السنوات. لم اعرف كيف أبدا بالكلام، أريتها أولاً موضعاً في مؤخرة رأسي كان متورماً.

ـ هذا الفجر ضربت رأسي بالحائط حتى كاد ينفجر، ولم تشعري أنت بي. ناديتك فلم تستيقظي. أردت أن أقوم فتهاويت على الأرض؛ وأنا الآن ضعيف لا استطيع الوقوف على ساقيّ. ما هذا؟ ولم هذا؟ وماذا عملت؟ وماذا تعملين أنت أو ابنتك لكي أقاسي أنا هذه الأوجاع اللامفهومة؟ حدثيني، حدثيني قبل أن أفقد عقلي.

كانت ترتدي سترة قديمة مهترئة، مرقعة في عدة جهات. بقيت تتطلع إليّ بعينين فارغتين وهي تضم يديها في حجرها. لم تفه بكلمة. عدت اكلمها والشك يملؤني في جدوى هذا الكلام:

ـ أعندك شيء تخفينه عني؟ أنت زوجتي، لقد تزوجتك رغم كل ما عملت بي، وابنتك هي ابنتي، اعتبرتها دائماً مثل ابنتي كوثر ما الأمر اذن؟

فتحت فمها ببطء وسألتني:

ـ ماذا بك. ألم تأت وتفعلها بي.. بقوة وشدة، وأنا لم أقل شيئاً؟ ماذا حل بك؟ ماذا تريد؟

حسبت أنها، بشكل غامض، على حق. إنها بعيدة عني، بعيدة جداً. ليس في إمكانها أن تفهم ما يحدث لي وان تستوعب ما أقوله لها. إنها غير قادرة على التواصل معي، لأنها خارج دائرة عيشي. ألحّ علي خاطر فسألتها:

ـ هل لديك شيء، أمر ما، تخفينه عني؟ لِمَ تتركينني فريسة سهلة لوحش مرعب يكاد يقتلني كل فجر وأنت لا تكترثين ولا تسرعين لنجدتي؟ ماذا تخفين عني؟

بدا عليها بعض الاضطراب والدهشة، ثم رفعت إحدى يديها من حجرها:

ـ لا شيء غير هذه البيضة التي جلبتها من الجيران، باضت دجاجتهم بيضتين فرجوت الجارة أن تعطيني واحدة.. لك.

كانت في الواقع تمسك بين الأصابع النحيلة، بتلك الجوهرة البيضاء التي يمكنها أن ترد الجوع عنا بعض الوقت. شعرت بهبوط في كياني النفسي؛ وتملكتني حال بين الرغبة في الضحك والرغبة في البكاء، فأخفيت وجهي براحتي. لمحتها تقوم وتتقدم نحوي وتحتضنني ثم تضع خدها على رأسي. همستْ:

ـ لا تعذب نفسك هكذا بغير داع. يمكنك أن تراجع طبيباً بشأن ما يجري لك. سندبر أجرة الطبيب، ولكن لا تعذب نفسك الله يخليك ستار. استرح بعض الوقت، إذا أردت ذهبت اخبر أبا سلمان بأنك لن تخرج هذه الليلة بالسيارة.

أنزلت راحتي وهززت رأسي:

ـ كلا، كلا، سأرتاح قليلاً بعد الغداء، دعينا نتشارك في أكل البيضة، وسأعود من المدرسة بعد وقت قصير، هل لديك ما يكفي لغدائنا جميعاً؟

لبثتْ تعصرني إلى جسدها لحظات دون كلام:

ـ اعرف أنك من الشهامة والكرم بحيث لم تفرق بين الفتاتين، لا تعد علي ذلك أرجوك، دعنا نعش بهدوء فيما بيننا.

سحبتها من جانبي وأجلستها على الكرسي أمامي مرة أخرى. كانت عيناها محمرتين بعض الشيء:

ـ لا تتكلمي هكذا، زكية، أنا أحدثك وأسألك لأني لا أعرف كنه ما يحصل لي، هذه حالة غريبة. هل تجدينه أمراً طبيعياً أن أضرب رأسي بالحائط وأكاد أفلقه؟ قولي.

بهتت بشدة:

ـ متى؟‍

ـ الآن، مرة أخرى. مع من كنت أتكلم؟ هل أكرر ما قلته لك قبل قليل؟ هذا الفجر، قبل ساعات، ألا ترين هذا الورم خلف رأسي؟

ـ وأنا لم أسمعك؟ يا الله، هل ناديتني؟

سؤالها هذا أعادني إلى الوراء سنوات وسنوات، حين ابتعدت عني بعد زواجها الأول ومكثتُْ محروق النفس، أتابع دون إرادتي، أخبارها وتصرفاتها وما يعمل بها زوجها، وكيف يعيشان، وكيف ولدت ابنتهما هيفاء وكيف كن، هي وأمها وعمتها، يتجاهلن وجودي ووجود أبي ووالدتي، كأننا متنا حين دخل ذلك السائق العامي بيتهن. ما كان يغيظني، ليس تصرفاتهن وغبائهن وصفاقتهن فحسب، بل حالتي أنا وكيف أُبتلعت بهذه السهولة وجرى تقييدي، فكرياً ونفسياً بوضع مهين عطل حياتي وشوهها إلى الأبد.

تسألني الآن هل ناديتها؟

كأنها منحشرة في ركن مظلم لا يصله نور ولا صوت. أهذه هي طبيعتها وتركيب وجودها؟ ولكن.. ألا يبدو سؤالها متلائماً مع طبيعتها هذه البطيئة؟ وأنا أتطلب منها الكثير الكثير في حين أنها، آخر الأمر، لا علاقة لها بأي شيء من الأشياء الملغزة التي تتعابث بخشونة معي. أهي، كما كان يقول أبي أحياناً، مثل "ما" الزائدة التي لا محل لها من الإعراب؟ ولكم هناك من البشر مثل "ما" هذه، يثقلون على الأرض الطيبة بوجودهم الزائد الذي لا معنى له!. قمت بصمت ورجوتها أن تدبر لي ولها فطوراً يمكننا من الصمود بعض الوقت، فقفزت من مكانها ببعض المرح وانصرفت.

مضيت أحلق ذقني والألم خلف رأسي، مثل مسمار مغروز في عظام الجمجمة، يوقفني بين لحظة وأخرى. كم كان عملاً سخيفاً مني أن أبحث في طوايا ماضييّ مع زكية، عن أسباب أعمالي اللاواعية تلك. صحيح أنها كانت خلال سنوات طويلة، مصدراً لقلقي وحزني وألمي، لكنني أنا الذي كنت أتشبث بصورتها، عاجزاً عن إخراجها من دائرة قلبي وعواطفي. وولدت لها ابنتها هيفاء، فتاقت نفسي لرؤيتها، وامتزج الفرح والأسف والحسرة في أعماقي، ثم جاء حادث وفاة زوجها فاختلطت مشاعري اختلاطاً غريباً لم أعهده قبلاً. وقف والداي بجانب نزعة الخير في ذاتي، ونبهاني، عدة مرات، أن أترك ورائي عواطف الشماتة والحقد نحوها. كانت هي بقايا من امرأة، تبحث بيأس ألا تغرق هي وابنتها في بحر الحياة. لم تستطع أن ترفع نظرها إلي حين زرت بيتهم. كانت تحتضن ابنتها هيفاء بمسكنة، وكانت أعوام انتظاري التي مرت، تشعل في صدري نيران الرغبة والعطف والميل إليها.

وتزوجتها. قبلت بها وكانت سعادتي مثلومة. جاءت هي وابنتها هيفاء ذات السنوات الخمس، وأخذت تعيش في بيتنا وسط عائلتي، أبي وأمي، وهي منكسرة النفس تتصرف تصرف الخدم. ورغم أن والدي حرّم على أخته، أمها، دخول منزلنا، إلا أنه لم ينصحني بمنع زكية من زيارة بيتهم القديم في محلة "التسابيل"، ثم بدا لي، بعد ولادة ابنتي كوثر حفيدته، كأنه تناسى كل شيء. كنت حين تزوجنا، أقوم بالتدريب في الجيش الشعبي في الوشاش بعد انتهاء الدروس، وها أنا أتذكر وأنا أحلق ببطء وحذر جوانب شاربي، كم كنت قلقاً وأنا أعود إلى البيت. لم أعرف بالضبط نوع هذا القلق ولا سببه، سوى أني، بشكل غير واع ربما، لم أكن واثقاً بها ولا بصدقها أو إخلاصها لي. كانت مشاعر سخيفة ذلك الوقت، فهذه المرأة كانت من المسكنة والانشغال بشؤون بنتيها وأعمال البيت بحيث لا يتبقى لها الوقت للتفكير بخيانتي. لكن ذلك لم يمنع عني القلق، متى استطاع العقل أن يوقف عواطف البشر؟ وها هو، ذاك القلق، يعود دون مبرر منطقي. لعله الإرهاق، ولعلها طريقة حياتنا بالغة التعقيد التي نعيشها هذه الأيام. الحرب، الحصار، الجوع، الفقر، المستقبل الأسود، الوقوف منفرداً أمام العاصفة.

كان والدي هو معلمي ومعيني في المدرسة والحياة، رغم أنه لم يكن إنساناً مثالياً بالغ الرفعة. لم يهمه ألا اكمل دراستي الجامعية، كما أراد، وكان يردد علي أحياناً ونحن على انفراد. حاول أن تكون سعيداً. حاول أن تتمسك بما يمكنك من الحياة السعيدة، أما ما تبقى فهراء في هراء. إلا أنه لم يكن يتبع مثل هذا الرأي في حياته أو ـ على الأصح ـ في ممارسته الحياتية. أشقاه بشكل خاص ما اعتبره خيانة من شقيقته حين زوجت ابنتها زكية من ذلك الشخص الواطئ والمجهول الأصل. وهد من أعصابه وقواه أن يرى، بعد ذلك، زكية في بيتنا، مهيضة الجناح، فاقدة لبهجة الحياة. سرته ولادة حفيدته كوثر سروراً ناقصاً. تمنى أن تكون ولداً ذكراً يحمل اسم العائلة كما يقولون، إلا أنه أحبها حباً شديداً وتولع بتدليلها. لم أنس يوماً أنه حذرني من ابنتها هيفاء التي كانت آنذاك طفلة عادية في الحادية عشرة من عمرها. لم أفهم قصده وفسرته بوجوب الاعتناء بها كأنها ابنتي.

تلك الأيام ـ قبل وفاته ـ فقد الكثير من اتزانه، خاصة بعد إحالته على التقاعد لبلوغه السن القانونية. أراد يوماً أن يعتدي على والدتي أمامنا جميعاً. أنا وزكية والبنات. وجد سبباً تافهاً في زيادة الملح قليلاً في الطعام. رفع صحن المرق ورماه باتجاه تلك المرأة الهرمة والدتي، وقام كالمجنون يريد أن يضربها. لم أقف ساكناً هذه المرة. أسرعت أتشبث بذراعيه النحيلتين المرتجفتين وأنا أكلمه مهدئاً ومطيباً من خاطره ومعتذراً له عن خطأ غير مقصود. كانت والدتي أشد مرضاً منه وأضعف بنية، ولو استطاع أن يضربها تلك الساعة لوقعا سوية على الأرض ميتين.

لم ينج أبي من تلك العاصفة العصبية، ووقع طريح الفراش فاقداً القدرة على الكلام. كم صدمت لحالته تلك! كان ينظر إلي طويلاً بعينين فارغتين مليئتين بالدموع، تخفيان حديثاً لا ينتهي يريد أن يفضي به إلي ... دون جدوى. ولم نفرح مثل بقية العراقيين بيوم انتهاء الحرب مع إيران، وكان الصيف علينا شديداً وعسيراً. قيل لنا أن الوالد أصيب بسكتة دماغية، قد تتركه يعيش شهوراً أو أسابيع.

توفي في يوم 6/2/1989، فهل كنت أضرب راسي بالحائط هذا الفجر، لأني لم استطع إنقاذه، أو لأنه، بسبب شلل لسانه، لم يكمل حديثه معي عن السعادة في الحياة ولا عن المحاذير التي أرادني أن أتلافاها؟ أم أن السبب الخفي هو والدتي، التي لبثت بعد وفاة خدنها، كالروح الهائمة تبحث عن مخرج سريع لها من هذه الدنيا؟ لم يتسن لي الاعتناء بها كما يجب، فقد حدست بأنها تريد أن تلحق بأبي مهما كان الثمن. ولم يطل بها الزمن، ولا أدري لِمَ بكيتها بكاء مراً نابعاً من القلب، حين خابرتني زكية لأسرع بالعودة إلى البيت. وجدتها مرمية على ارض المطبخ فاقدة الحياة. كان ذلك بعد أشهر من وفاة أبي.

الآن أدرك أن انطفاء الحياة في تلك المخلوقة البريئة، المسامحة، الطيبة، المحبة بدون حدود، المتحملة لكل الشرور كان هو سبب بكائي المرير المستطيل الذي لم يفهمه أحد. ولعل القسوة التي عوملت بها تلك المرأة العزيزة مدى حياتها، والتي شاهدتُ طرفاً منها، هي التي ـ ربما ـ جعلتني اضرب راسي بالحائط حزناً وأسفاً وندماً وحباً بالانتقام لها من شخص ما، لا يهم من يكون. أنا أم غيري، لا يهم. كنت أتطلع إلى وجهي في المرآة أمامي .. مصفراً وممصوصاً، كأني أنطوي على ألم لا يحتمل. كانت عيناي حمراوين، فأخذت أغتسل بالماء البارد، تخفيفاً لهذه المشاعر التي تهجم دون سابق إنذار. ثم جهدت كي أرتدي ثيابي بما يمكن من سرعة. سألت زكية قبل أن أخرج عما إذا كان لديها من النقود ما تدبر به غذاء لنا جميعاً؟ سكتت. أخرجت ما لدي من أوراق نقدية فسلمتها لها ثم خرجت. كان تلك الأوراق النقدية هي كل ما تبقى لدي من وارد أمس. عجلت في مسيري، شاعراً أن الوقت فاتني على الدرس، وأن المدير لن يتراخى معي هذه المرة. لم يكن موجوداً، لحسن الحظ، وكان الطلاب يهرجون على قدر ما تسمح به أحشاؤهم الخاوية. وبسبب إني كنت صارماً معهم في بعض الأحيان، فقد استكانوا بهدوء وراحوا يبدون اهتماماً بدرسهم. كانوا، على الأغلب، مصفري الوجوه، ناحيلها، تبدو عليهم الرثاثة بشكل لا خفاء فيه. أخبروني بأن المدير قصد سوق المنصور لشراء البيض واللحم بعد أن اتصلت به زوجته تطلب منه ذلك. ارتحت لهذا الخبر. كان المدير إنساناً مسكيناً مثلنا جميعاً، لا يعرف بأية طريقة ناجعة يفرض بها شخصيته كمدير وكمسؤول ينتمي إلى المنظمة الحزبية في المنطقة.

عدت إلى البيت منهكاً بعيد الساعة الواحدة. لم أجرب معايشة الجوع هكذا من قبل، وكنت أفكر، أثناء إلقاء الدرس بشكل آلي، بأن هناك سداً منيعاً من فراغ المعدة وتقلصاتها، يمنع هؤلاء التلاميذ المساكين من الفهم أو حتى من نصف الفهم. فهل فكر العالم وهو يحاصر شعباً بأكمله بناء على رغبة حقودة من دولة معينة، بمثل هذه النتائج؟ أم أن هذا العالم كان يسعى بإصرار إلى تجهيل هذا الشعب، لأنه يجد في ذلك، عدا المتعة والانتشاء، فائدة جلى مستقبلية؟

كانت أفكاري هذه أفكار جوع؛ كانت أفكاراً جائعة، مهتزة ولا تقوم على أساس؛ ولا أدري لماذا شعرت بهذا الأمر، مع أني كنت على يقين بأنها أفكار صحيحة. كنت آخر الواصلين إلى البيت، وكنّ، زكية وهيفاء وكوثر، يتحركن بما يشبه المرح في أرجاء الدار، ورائحة طعام خفية تملأ الجو. نزعت ملابسي في غرفتنا وغسلت يديّ ووجهي ثم قصدت أريكة في زاوية من الصالة فارتمت عليها منتظراً أن نتشارك في الغذاء. كنت متعباً كما يجب، وقد جلست على الأريكة مثلما تنشر خرقة مبللة كي تجف، وكنت أراقب الفتاتين، عن بعد، تتحركان بتمهل لتحضير ما أعدته لنا زكية بجهودها الغامضة. كانت هيفاء في السابعة عشرة من عمرها، أطول وأكثر متانة جسدية من أختها كوثر. كانت في ملابس المدرسة، تملك شيئاً مبهماً يجعلها أكثر من طفلة وأقل من امرأة، وكانت كوثر نحيلة وقصيرة، وعلى الأصح، قميئة بشكل من الأشكال. كانت هيفاء هذه تتمتع بأجمل ما كان لدى أمها من محاسن جسدية. الصدر العالي وانسجام الخصر والردفين ورشاقة الحركة. كانت زكية هكذا في بداية شبابها، وحينما عادت إليّ بعد سنوات، كانت قد ضيعت رونقها وشذاها وألوان شبابها الزاهية. كانت حياتها الزوجية مع ذلك الإنسان المتدني، عملية جراحية في الروح والجسد، خرجت منها شبه معوقة، تتأرجح بين البشر الأسوياء والحيوانات. لم يكن ذلك بإرادة حرة منها، وهذا ما جعلني ويجعلني، أغفر لها وأقبل منها شخصها ذاك.

نمت بعد لقيمات الغداء التي ابتلعناها بشراهة. كان عليّ أن آخذ قسطاً من الراحة استعداداً لعمل الليل المضني. أخذ المطر يتساقط حالما استلمت السيارة من أبي سلمان. سلمني المفاتيح وركض عائداً إلى بيته، يحمي رأسه من قطرات المطر بجريدة قديمة. ورغم انزعاجي من السياقة أمام زجاجة أمامية مبللة، تجعل الرؤية عسيرة علي بعض الشيء، إلا أن كثرة الناس الراغبين بالوصول إلى بيوتهم تفادياً للبلل، جعل الدخل يرتفع بشكل ملحوظ. كنت أقطع شوارع بغداد الطويلة من جهة لأخرى ومن طرف بعيد إلى آخر أبعد منه. ولم أكن أشكو ولا شعرت بأي تعب. كانت بعض الأفكار تستحوذ عليّ مع اندفاع السيارة ومع الأصوات المألوفة التي تصدرها العجلات وهي تدور بسرعة على أرض يكسوها الماء. كانت البقعة خلف رأسي ما تزال تنبض بين الحين والآخر، وكنت أسترجع خلال فترات السياقة الطويلة، تلك الليلة المفقودة من ذاكرتي، محاولاً بجهد أن أجد أسباب علاقتها بزيارتي لمكتبة أبي شبه الفارغة، وبعملية الجنس العنيفة التي مارستها مع زوجتي. وبقي فراغ ذاكرتي على حاله. لا شيء يعينني على تذكر أي شيء؛ وكل هذه الشكوك الباهتة حول زكية وخياناتها لا تستند إلى أساس. هنالك ابنتها هيفاء. ماذا تعملان معاً خلال ساعات غيابي الطويلة عن الدار؟ هي، كما تقول، تعمل في انجاز خياطة ما تطلبه منها نساء الجيران. وهيفاء؟ تلك الفتاة المتفتحة.. أين تستقر وماذا تعمل في ساعات الليل هذه؟ ولنقل إنهما، الاثنتين، تخونان ثقتي بهما كل يوم، بل كل ساعة، حسناً. أية علاقة لفقدان الذاكرة ولعمليات التعذيب الصباحية التي أتعرض لها كل يوم، بهذا؟

أوقفني رجل على جهة من ساحة التحرير في الباب الشرقي. رأيته يتمايل قليلاً ولا يخفي رأسه من المطر. أراد أن أذهب به إلى شارع فلسطين. كنت أكلمه عبر زجاج الشباك نصف المفتوح. لا أدري ما الذي أخافني فيه. بدا لي سكيراً مسالماً لا خطر منه، إلا أن ذعراً غريباً استولى علي فضغطت على دواسة البانزين وتركته يشتمني على مزاجه. هل أخافتني صورة ذلك السكير المجهول الذي واجهني أول أمس؟ ذلك الذي توقفت ذاكرتي دونه ولم يعد بمقدوري استرجاع أي شيء عنه؟

بقيت الأفكار والهواجس تتوارد علي وتتراكض في ذهني، وأنا أسوق السيارة تحت المطر ناقلاً أولئك البشر من مكان الآخر، دون أن انتبه لمرور الوقت حتى صادف أن رأيت إحدى الساعات في ساحة الكرادة. كانت قد تجاوزت منتصف الليل بقليل. أدهشني ذلك ولم يخطر لي أن أعود إلى المنزل. كنت أشعر برغبة دفينة في الاستمرار بهذا التجوال العبثي، بقصد جمع مدخول مادي أكثر. إلا أن هذا العذر لم يصمد طويلاً بعد أن انتابني التعب الشديد. كنت في جهة من علاوي الحلة، غير بعيد عن الوشاش، ولكني كنت متردداً في العودة. انتبهت إلى أن تلك الرغبة الدفينة في البقاء في الخارج، كانت، في الحقيقة، تعني خشية مبهمة من الاستسلام للنوم، وما قد يعقب ذلك من أمور غامضة بعيدة عن التفسير. إلا أني، بشكل آلي، كنت اتجه بالسيارة نحو البيت. لا مجال للبقاء طوال الليل، تائهاً هكذا على غير هدى. كانت الساعة قد جاوزت الواحدة والنصف صباحاً، وشوارع بغداد تحت المطر، بدت خالية موحشة. الناس يختبئون في بيوتهم جسداً لجسد، طلباً للدفء ونسياناً، ربما، للجوع. أدخلت السيارة في المرآب وربطتها بالسلسلة الحديدية كالعادة، ثم أحكمت إغلاق باب المرآب، وأحصيت ربح الليلة فوجدته مضاعفاً تقريباً، مما سيسر أبا سلمان كثيراً.

دخلت دارنا ملتزماً الحذر، فوجدت أن زكية تركت ضوء المطبخ مضاء إشارة منها إلى شيء ما. وجدت صحناً مليئاً بالرز وبعض المرق مع كسرة خبز صغيرة. لابد أنها عملت المستحيل لتدبير هذه الوجبة البائسة. أشعلت ناراً وسخنت الطعام ثم أكلته بشهية حيوانية. كنت في غاية التعب، ولكني لم أشته النوم أو أفكر فيه. كنت متوترا لغير سبب ظاهر، عدا ما يمكنني أن انتظره فجراً. خطر لي أن أراجع طبيباً نفسياً كما اقترحت زكية، إلا أن الطبيب سيستنجد بي، قبل أي شخص آخر، لمعرفة الحقيقة. إذن، ما الحاجة إليه، إذا كنت سأبدأ بنفسي مثلما يفعل هو! ولكنه، عادة، أكثر علماً مني، وأنا قد أفهم أموراً معينة عشتها، ولكني، بالتأكيد، لن أفهم ما يختفي وراءها من أسباب.

قمت ببطء أغتسل وانظف مائدة المطبخ وأتمشى من هنا إلى هناك. كان العالم ساكناً وكنت ما أزال متوتراً. بعد دقائق طويلة، أطفأت ضوء المطبخ وسرت بخفة قاصداً غرفة نومنا. توقفت في منتصف الطريق قرب السلم المؤدي إلى الطابق الأول حيث مكتبة والدي. بزغ في ذهني سؤال عن سبب زيارتي لهذه الغرفة قبل ليلتين. كانت زيارة مشوشة لا أتذكر منها شيئاً كثيراً ولا تبدو لي ذات معنى. ذلك إني بعت جلَّ كتب والدي منذ أشهر، ولم يتبق الا القليل. بضعة مجلدات تضم روايات أجنبية مترجمة كنت أمني نفسي بقراءتها يوماً ما. بعت بسهولة الكتب الدينية وكتب التفاسير القرآنية وكتب البلاغة العربية والقواميس وبعض المؤلفات الفكرية. كم كان دورها عظيماً في إنقاذنا من جوع مكين!

أما الليلة فلا سبب يدعوني لإعادة النظر في تلك البقية الباقية من الكتب. كومتها على الأرض بعد أن بعت يوماً المكتبتين الخشبيتين ذات الواجهة الزجاجية وبقية العوارض الخشبية التي اشتراها أبي مؤخراً ليصف فيها كتبه المتكاثرة. لم يكترث يوماً بأن يدعوني لقراءة تلك الكتب. أكان يائساً مني إلى هذا الحد، أم كان يائساً من فائدة الكتب والقراءة لأي إنسان؟ تراجعت عن فكرة زيارة المكتبة واتجهت بهدوء إلى غرفة نومنا. لم أدخلها. قصدت غرفة البنات. كانتا غارقتين في نوم عميق والضوء الأزرق الخفيف الذي اعتادت زكية إضاءته، لا يظهر منهما غير الشعر وقسماً من الوجه. مكثت واقفاً استمع التي أنفاسهما الهادئة. إحدى هاتين الفتاتين لا علاقة لي بها، وهي في سنها تلك، قد تعمل أموارً لا أقرها عليها. أمها فقط تستطيع أن تمنعها. وهذه الأم الضعيفة المتهاوية، من يمكنه أن يعتمد عليها في الاحتفاظ بشرف العائلة سليماً؟

لم أرد أن أنصرف. كانت كوثر تغطي وجهها باللحاف وتلتم على نفسها تحته؛ أما هيفاء فقد تمددت تحت غطائها بطولها، كاشفة عن وجهها المغطي بقسم من شعرها الكثيف. كانت دقيقة الملامح، عكس كوثر. لبثت دقائق أتأملهما، غير راغب في الانصراف. لم تكن الغرفة دافئة وكانت رائحتها عطنة وغير مستحبة. ومع جمودي ذاك سألت نفسي:

ـ أأخاف أن استسلم للنوم؟ وما العمل؟

كان هذا هو السؤال، ولم يكن لدي مهرب منه. تراجعت بسكون وأغلقت باب غرفة البنات ثم دخلت غرفة نومنا. كانت منارة بضوء مقبل من مصباح الشارع الكهربائي، رأيت زوجتي مختفية تحت غطائها السميك. كنت اشعر بالبرد، فبدلت ثيابي بسرعة الا إني لم أتعجل الاندساس بجوارها رغم تعبي الذي لم اعد استطيع تحمله.

ـ ماذا سأعمل؟ ماذا سأعمل؟

* * *

الثلاثاء – كانون الأول 1994

       {كان محشوراً بقوة في زاوية ضيقة تحت السرير، منكمشاً كالعادة، على نفسه؛ ضاماً ساقيه وذراعيه إلى جسده وهو، في ارتجاف دائم، يهمهم همهمة حيوان حبيس. كان السرير منخفضاً، يضغط على رأسه ويجبره على الانحناء. شعر بنفسه يفتح عينيه في الظلام ويحاول أن يتكلم، أن يخاطب أحداً. كان كلامه حشرجة مختلطة "تلك رور رافع سيوران قلو قلو كور كور زو.. زوهي.. هي كور" ثم واتته طاقة فصرخ. ظن انه هز العالم بصرخته تلك، لكنها كانت همهمة كالهمس، لم تسمعها حتى زوجته النائمة تتقلب فوقه. كان الضوء الشاحب المنصب بخجل من النافذة، لا يكاد يسمح له برؤية يديه اللتين رفعهما ليدفع عنه الفراش المنخفض. كان رأسه مكبوساً ومضغوطاً على صدره بسبب ضيق المكان. ضرب الفراش فوقه هاتفاً مرة أخرى بتلك الألفاظ اللالغوية "كروكرو.. جور خرقي يا.. يا.. يا" شجعه ذلك، لا يدري لماذا، فصرخ مرتجفاً "ياه .. ياه .. ياه" حينذاك تعالت أصوات زوجته، تقوم من رقدتها باضطراب وتناديه بصوت مرتعش يملؤه الخوف والقلق. أرادت أن تنزل من السرير فوقعت على الأرض وهي ما تزال تنادي باسمه. لم تره أول الأمر، ولم يستطع هو بسبب شلل لسانه، من مناداتها. قامت فأضأت المصباح الكهربائي ونادت ابنتيها بذعر تطلب النجدة. أعاد إليه الضوء شيئاً من إنسانيته، فتماسك موقفاً ارتجافه المستمر وزحف ببطء خارج السرير. نادها بلسان شبه ميت: "يا.. يا زك.. يا زكية.. يا" رأته آنذاك. أصابهن هي وهيفاء وكوثر، رعب لا يوصف. كان شعره الرمادي الكثيف منكوشاً وفمه معوجاً بشكل غريب. سحبنه بمشقة من تحت السرير وهن يبكين ويتعايطن، فوضعنه برفق على الفراش. ارتمى وهو ما زال على ارتعاشه، فغطينه باللحاف السميك. أسرعت زوجته إلى المطبخ تعد له مشروباً حاراً وجلست البنتان جواره. مررت هيفاء يدها برقة على شعره تعيد ترتيبه، ثم احتضنته باكية. وحين عادت زوجته بقدح من الزيزفون الساخن، كان هو قد استغرق في نوم عميق لم يصح منه الا حوالي الثامنة والنصف صباحاً. كان ذلك صباح الثلاثاء}.

* * *

الثلاثاء:

          حين استيقظت عاودتني حمى الكلام، قلت لهن: "اتركنني.. أتركنني. لا أريد أن أرى أحداً ولا أريد أن يراني أحد". كنت خائفاً أن يعوج فمي مرة أخرى، ويفقد لساني حركته المعتادة. قلت لهن "ابقين هكذا دون كلام" ثم طلبت من زوجتي أن تخرج من جيب سترتي دخل الليلة الماضية وتسلمه مع مفاتيح السيارة إلى أبي سليمان "خذي منه ما يعطيك. لا تناقشيه. خذي ما يعطيك" كانت البنتان ما تزالان جالستين على طرف من السرير. هيفاء وحدها كانت تبكي باستمرار. تسيل دموعها بسكون وبشكل غريب. نظرت إليها "ماذا بك؟" لم تحر جواباً. كانت ينبوعاً تختلط فيه شتى المشاعر. حثثتها على الإسراع للذهاب على المدرسة. رأيتهما تأكلان ما لا أعرف كنهه. كنت مشوش الذهن، أخشى أن تخونني، مرة أخرى، طاقة الكلام أوأن يعوج فمي. استعدت، مذعوراً، تلك الألفاظ التي انبعثت من ظلمات نفسي ولم يكن لها أي معنى. لم أرد أن أفكر فيما حدث لي ولا ما يمكن أن يحدث. وإذ تأخرت زكية في العودة، قمت بمشقة من فراشي قاصداً المرحاض. صدمت بشدة حين اكتشفت أن ملابسي الداخلية جميعاً مبللة تماماً، ناديت زكية فأقبلت بعد حين، أخبرتها بما جرى لي فجلبت لي ملابس نظيفة يابسة. قالت أن أبا سلمان أعطاها نصف الدخل بعد أن أخبرته بحاجتي لرؤية طبيب.

ـ "أي طبيب يا مجنونة"؟ لم تجبني، ولكنها كانت على حق.

كنت ضعيف الجسم بشكل لم أتوقعه، فعدت اضطجع على الفراش. طلبت من زكية أن تستعمل هاتف الجيران لتخابر المدير وتعلمه بأني مريض ولا قدرة لي على التدريس. انصرفت فوراً. كنت دائخاً، أشعر بثقل في لساني وشفتيَّ. لو ارتحت هذا الصباح كله، لأمكنني أن أخرج بالسيارة مساءً. إنها موردنا الأساس كيلا نموت جوعاً. أغمضت عيني. كان الانحشار تحت السرير أمراً جديداً. كنت مسحوقاً ومفتتاً مثل صحن زجاج مكسر. دمعت عيناي. لا يعمل أقسى الأعداء قلباً مثل هذه العملية. كانت أنفاسي متقطعة، وقلبي يكاد يتوقف عن الخفقان. كنت داخلاً في قوقعة، خارج المنطق الطبيعي للإنسان. وإلا... فلِمَ تخونني اللغة والنطق والحركة؟

عادت زكية لتنقل لي سخافات المدير وتعليقاته الساخرة، ولتجلب لي قدحاً من الشاي والحليب المحلى مع قطعة خبز وجبنه، فنظرت إليها باستغراب. أي ترف هذا! أكلت وشربت دون سؤال ودون انتظار لشرح، ثم وأتاني نوم عميق وأنا وسط الفراش الدافئ. كنت مستلقياً على وسائد من القطن الناعم، وكنت مخدراً بمتعة راحة لا حدود لها وأنا منغمر بهذا اللطف والشفافية؛ وحين لمست جبهتي برفق يد رقيقة طرية البشرة، فتحت عيني. كنت سعيداً، راضياً، مطمئناً. رأيت هيفاء تقف قرب السرير وخلفها كوثر، وهما، بنظرات قلقة، تهمسان بشيء لم افهمه أول الأمر. كانتا قد عادتا من المدرسة قبل قليل ولم تجدا أمهما في البيت. لم استوعب ما كانتا تقولانه، فأعادتا علي القول بأن زكية ليست في الدار ولا هي لدى الجيران. آنذاك، وحين استطعت أن اجلس في الفراش مستغرباً هذا الحديث، سمعنا خطواتها تقبل من الباب الخارجي. كانت الساعة قاربت الثانية بعد الظهر، والكل جياع ينتظرون أن تنجدهم زكية بما يتيسر من طعام. كانت تحمل صرتين في يديها. هتفت حالما دخلت الغرفة:

ـ ذهبت ازور أمي وعمتي، كانتا مريضتين. أخرني انتظار تكسي ليعود بي إلى هنا بسعر معقول. إنهم مجانين. كأنهم يبيعونني سيارتهم، مجانين.

سألتها عما خطر لها كي تزور أمها في هذا اليوم بالذات. لم تجب. طلبت من الفتاتين أن تغسلا أيديهن فخرجتا. قالت وهي تجلس جنبي على السرير:

ـ كانتا مريضتين.. هي وعمتي، فذهبت لرؤيتهما، كما إني تذكرت فساتين لي قديمة تركتها لديهم. كذلك.

ثم أخرجت بخجل غريب من حقيبة يدها سواراً ذهبياً رفيعاً، وهمست:

ـ تذكرت أيضاً أن والدي اشتراه لي، واني وأودعته لدى عمتي. لم ترد أن تعيده لي، لكني ... لو تعلم يا ستار ما قلت لها وكيف حدثتها. أفرغت ما في قلبي ... تلك العجوز الشرهة، على حافة القبر وتريد أن تستولي على ذهب غيرها، ثم أن أمي ...

وأخذت تفتح إحدى الصرتين:

ـ طبخت لنا طبخة لذيذة ... تمن على باقلاء. عملتها بسرعة من أجلنا جميعاً. قلت لها إنك مريض وإن البنات اصفرت وجهوهن مثلي.

كنت هادئاً، فارقني التعب، وبد لي كأن ما حدث فجراً إنما حدث لشخص آخر لا أعرفه. كانت زكية محمرة الخدين منتثرة الشعر، يعلو نهداها كثيراً من خلال فستانها فيبرزان بشكل مثير. انجذبت إليها:

ـ   هل تفكرين ببيع ذهبك هذا؟ إنه لا يساوى شيئاً.

ـ  ولو، ألسنا نحتاج نقوداً لأجل طبيبك؟

ـ  كلا، لا طبيب لي، لا طبيب.

ـ  لماذا؟ هل تريد أن تبقى تعاني من حالتك العجيبة هذه؟ تتعذب كل يوم، كأن ما لدينا من هم لا يكفي.

ـ  نعم، اتركي الأمر لي، سأعرف كيف أداوي نفسي. لن يعالجني الطبيب دون معونتي أنا. أنا المسؤول الأول عن نفسي، أنا أحس هكذا. أنا المسؤول عن كل شيء، أنا، تأكدي.

ثم، ولغير سبب ظاهر، أخفيت عيني بيدي وتنهدت بصوت مسموع. كنت أحس في أعماقي بأني أجهل كل شيء وبأن طاقتي على التحمل تصل حدودها القصوى، وبأني لا أستطيع حتى أن أوجه سؤالاً، وأن أنتظر جواباً. إنني في موقف اللاسؤال واللاجواب، محاط بالظلام الكثيف، تنغرز في جسدي من كل الجهات مسامير حادة حقودة. وأنا، مع ذلك، أصرخ بصفاقة عن ثقي بإمكان الخلاص. شعرت بزكية تحيطني بذراعيها وتضغط بصدرها على يديّ، فأنزلتهما واحتضنتها، تملكني شهوة قوية لهصر نهديها. ثم تبادلنا قبلة طويلة. كانت دموعها تسيل وتبلل خدها وخدي، ثم أخذت تحدق في وجهي هنيهات بعينين مبتسمتين:

ـ  دعنا نتغدى أولاً، ثم.. بعد ذلك.

نمت جنبها بعد العملية، نوماً يشبه الموت اللذيذ. شعرت كأني أصل قعرها العميق، وكأني أدسها داخل أحشائي. كانت ملتاعة برغبتها، مضطربة وهي تتلقاني كأنها كانت تخشى أن اخترقها. بدت لي سعيدة، محبة لسعادتها تلك معي. أعدت لي الشاي مع قطعة من الكعك جلبتها هيفاء من دكان قريب. جلسن حولي في الغرفة الدافئة، يتطلعن إليّ كأني أحد الآلهة الحية. وقبل أن تقترب الساعة من السادسة مساءً، قمت بنشاط فارتديت ثياب الخروج. رجتني زكية أن استريح الليلة ما دامت قد جلبت لنا ما يمكننا بيعه غداً. كانت تحدثني بطريقة فبها غنج وضعف. كأني استعبدتها بتلك العملية الجنسية الفذة التي مارسناها قبل ساعات. كانت منسحقة بلذة تحتي وكنت أحب ذلك دائماً.

جاء أبو سلمان يسأل عني وعن صحتي وعما إذا كنت مستعداً لجولتي الليلية. استقبلته بابتسامة مرحة أسعدته، وقدمنا له قدحاً من الشاي زاد من سعادته. حذرني من الحوادث التي قد أصادفها في الساعات الأخيرة من الليل ومن السكارى خاصة. قال انه لا يعرف من أين يأتون بالمال ليسكروا ويعتدوا على الناس، والبشر يموتون جوعاً في كل مكان. أردت، بعد انصرافه، أن أصعد إلى غرفة المكتبة، ابحث لهيفاء عن كتاب في النحو العربي أتذكر إني احتفظ به اعتزازاً بإهداء المؤلف إلى والدي، غير أني ترددت وأقنعت هيفاء بالبحث عنه غداً. كانت في ثياب سميكة تشدها إلى جسمها وهي تثرثر معي دون انقطاع، شعرت بوشيجة غامضة معها، كأنها صديقة شابة لا يعوزها الفهم والإدراك.

حالما تحركت بالسيارة وبدأت أشق ظلام الليل خلال الشوارع الخالية، حتى هاجمتني مجموعة من الهواجس والأفكار على حين غرة. كانت الفكرة الأولى هي إني لا بد أن أكون ممسوساً بشيء ما. روح شريرة أو شيطان حبيس. من يدري، ولعل أحدهما يريد أن يخرج من جسدي على طريقته الخاصة قد تؤدي إلى تحطم هذا الجسد. كان الأقدمون يؤمنون بمثل هذه الاستيهامات؛ إلا أني الآن. هذا غير معقول. لعلها هواجس واستبطانات، ومشاعر أكثر منها أفكار رصينة ومحترمة. من يدري، فلا أحد يسأل عن طبيعتها وهل هي محض خرافات ام هي وقائع خارج نطاق العقل والفهم.. لا أحد يسأل. لا سؤال. هناك من يؤمن بها إيماناً أعمى فيتعذب ويعاني ويلاقي الأمرّين ويبقى على إيمانه.. دون سؤال. أوقفتني سيدة قرب باب المعظم، تضع عباءة وتكشف وجهها الجميل. فتحت الباب بجانبي ثم جلست:

ـ  خذني بعيداً من هنا.

ـ  إلى أين؟

ـ  لا أعلم، ألا تعرف محلاً بعيداً عن هذا المكان، خذني إلى هناك، لا تفكر بالنقود.

كانت مزوقة الوجه بشكل مبالغ فيه، تشدّ العباءة على كتفيها وتتطلع إلى الأمام وهي تتكلم. لم تكن لهجتها معروفة لي، بغدادية ربما او من البصرة او من أي مكان آخر في العراق. وكانت رائحة نفاذة مدوخة تنبعث منها وتملأ خياشيمي وجو السيارة. أخرجت من حقيبتها علبة سجائر وأولعت واحدة ثم نفثت الدخان دون أن تنظر إلي. كنت اختلس النظر إليها بين ثانية وأخرى وأحاول أن أبقى منتبهاً إلى مسار السيارة. لبثنا ساكتين دقائق اجتزت فيها شارع الرشيد ودخلت في شارع أبي نؤاس. كانت تدخن بشراهة وتنفخ الدخان بصمت. لم يعجبني هذا الموقف الغريب. كلمتها بعد أن وصلنا نهاية شارع أبي نواس:

ـ اسمعي يا هانم، أنا إنسان متزوج وعلى باب الله. لا تورطيني في ورطة لا أستطيع الخروج منها، صح؟

ـ  لا تتفلسف برأسي، سق السيارة ولا تتكلم. سأعطيك أجرتك كاملة. من تظنني؟

لم أجبها. رأيتها ترمي سيجارتها ثم تولع ثانية، وتعاود نفث الدخان بقوة. استدرت نحو شارع الكرادة، ولما أردت الانحراف يميناً لعبور الجسر المعلق منعتني وطلبت مني الاتجاه نحو الجادرية ثم إلى ساحة الحرية. كانت أضواء المخازن تجعل الشارع كأنه في احتفال ليلي. أوقفتني أمام إحدى العمارات الجديدة والتفتت الي. كانت جميلة بشكل يبعث على الدوار, ذات نظرات قرمزية تختلط فيها البراءة والدعوات القذرة. أخرجت من حقيبتها رزمة من النقود، أمسكتها بيدها:

ـ متزوج أنت؟

هززت رأسي بالإيجاب وشكرت ربي في السر لأني جامعت زوجتي قبل ساعات، وإلا ما استطعت أن أقاوم سحر هذه الأفعى الرائعة. رأيتها تبتسم ابتسامة خفيفة جداً. كانت شفتاها ممتلئتين، قانيتي الحمرة.

ـ  كم تأخذ عادة على هذه المسيرة؟

ـ  كما تشائين، ألف.. ألف وخمسمائة.

لبثت صامتة لحظات، تنظر إلى النقود بين يديها، ثم فتحت باب السيارة وخرجت بعد أن رمت ما في يدها على الكرسي. مضت مختفية داخل العمارة.

أدهشني أن أجدها قد تركت لي حوالي عشرين ألف دينار. إنه مبلغ لا أحصل عليه الا في ليلتين. خطر لي أن اختصر رحلتي هذه الليلة وأن أعود إلى البيت مبكراً، لكني فضلت أن أستمر في عملي وأن أحتفظ بالزيادة لنفسي. لا شأن لأبي سلمان بهاته النسوة المغامرات. لعله لم يكن يتوقف حتى لحملها، إنه إنسان حذر، يفضل أن يموت بسلام ودون سؤال أو استجواب. أن الستر لديه هو كل شيء في هذه الدنيا، يردد دائماً "الله يسترنا، اللهم انك الستار العظيم" وهكذا دواليك.

لم أرد أن أعود، كانت العودة تعني، بغموض، أمراً مخيفاً. النوم، وما قد يعقب هذه العملية. وكنت، في سري، خائفاً ولا أريد أن أتذكر. ولذلك لبثت أتجول وأسوق وانقل بعض الناس خلال ليل هادئ تشوبه برودة منعشة. لم يفارقني وجه تلك المرأة اللغز. يا للوجه الجميل، إنه يستعبد الرجال حالاً‍‌! أشار إلي قرب ساحة الجندي المجهول، رجل إشارات وجدتها مبالغاً فيها فلم أتوقف. لا أريد سكيراً آخر. يكفيني واحداً كل سنة. كانت سياقة السيارة، خلال الظلام في شوارع بغداد شبه الخالية والساعة تقارب الحادية عشرة أو تتجاوزها، تمنحني أو على الأصح تدخلني في دورة سميكة شبه مفرغة من أفكار تشبه الهواجس ومن عواطف ذهنية لم يسبق لي أن جربتها. كنت أتجنب أن يقترب ذهني من ذلك الموضوع المحرم، وكنت أجهد كيلا ينتابني التعب. فإن انتابني التعب أو تراخى جسدي من جرائه كان معنى ذلك هو الإخلاد الإجباري إلى النوم. النوم. النوم! يا للأمر المخيف! وكأنما استجابت أطرافي لهذه الكلمة السحرية، فأخذت تتراخى قليلاً قليلاً.

أوقفني لحسن الحظ، ثلاثة أشخاص قبيل ساحة الأندلس وطلبوا نقلهم إلى الأعظمية، محلة السفينة. اتفقت معهم على أجرة مقدارها ألف وخمسمائة دينار. نشطني الإصغاء إليهم. أخذوا يثرثرون ثلاثتهم عما يعانونه من شظف العيش، ومن تعنت الإدارات وتفشي الرشاوي والسرقات. بدوا لي من فئة الموظفين الصغار الذين يزداد انسحاقهم يوماً بعد يوم. كانوا يتمنون أن توافق الحكومة على مشروع النفط مقابل الغذاء، وكانوا يشكون مر الشكوى من أولئك المتسلطين على رقاب العراقيين الذين يشربون أرقى أنواع الويسكي، في حين يسقط الأطفال مرضى الجوع ونقص التغذية. تجنبوا ذكر الأسماء، إلا أنهم كانوا يتكلمون بأصوات عالية. لم أتدخل في أحاديثهم ولم يسلني أحد منهم عن رأيي.

تقاسموا الأجرة فيما بينهم، وبعد أن أغلقوا الأبواب، لاحظت أن الساعة قاربت الثانية عشرة والنصف. كم يمضي الوقت سريعاً حين تريده أن يتوقف! وصلت الوشاش حوالي الواحدة، وبعد أن أكملت مراسيم تقييد السيارة، وغلق المرآب تناولت خمسة عشر ألف دينار ووضعتها في ناحية من جيب سروالي الخلفي، بينما احتفظت بالدخل في جيب سترتي كالعادة. لم يكن لأبي سلمان حق في الهدية التي قدمتها لي تلك المرأة. ومع ذلك أضفت خمسة ألاف دينار إلى الدخل من هديتها تلك. كان ذلك اعترافاً مني بجميله علي. لو كان مكاني لما توقف لنقلها. ولو كان توقف لما جلست قربه ودخنت سيجارتين على سجيتها ثم ابتسمت له ومنحته ذلك المبلغ. كان سيتحاشى رؤيتها ونقلها خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى هتك السر الوهمي الذي يحافظ عليه.

وجدت المطبخ ما زال مضاء فقصدته متأملاً بمفاجأة طعامية من زكية. كان هناك صحن صغير مليء بالرز على الباقلاء، مغطى بصحن آخر. لا شيء آخر. حسنا،ً إنها مفاجأة على كل حال، إذ يبدو أن هذا هو كل ما تبقى مما طبخته أمها لنا لعنة الله عليها. أكلت ببطء شديد صحن التمن ذاك دون أن أسخنه. ما فائدة وضعه في الطاوة ووضع الطاولة على النار ... الخ فتضيع منه حبة رز أو حبة باقلاء ثمينة. بعد أن غسلت يديَ وفمي خطر لي أن اغسل قدميّ ايضاً. قرأت، لا أدري أين، بان نظافة القدمين تجعل الدماغ مرتاحاً، والنوم عميقاً. لنأمل أن تكون هذه المقولة العلمية صحيحة. كان الماء بارداً جداً، ولكنه أنعشني بشكل من الأشكال. لعل الانتعاش يأتي من طرد الدم من الساقين وإرساله إلى الأعلى.. إلى الدماغ! من يدري.

أطفأت الأضواء جميعاً ووقفت في الصالة ذات الأنوار الشاحبة الآتية من الشارع. كنت متردداً في الدخول إلى غرفة نومنا. لم أرد أن استلقي على ذلك السرير اللعين. يمكنني أن أنام هنا، على هذه الأريكة، لِمَ لا؟ لم لا؟ ثم تذكرت، في وقفتي الغريبة تلك، كتاب النحو الذي طلبته مني هيفاء، فارتقيت السلم بسكون نحو المكتبة. كنت اخفي مفتاح الباب داخل ثقب خفي في الحائط المجاور. أضأت الغرفة وأغلقت الباب. كانت هنالك ثلاث كومات من الكتب الموضوعة على الأرض، الواحدة منها جوار الأخرى. لم تكن أعلاها تحوي أكثر من عشرين كتاباً، وكانت كلها مغطاة بطبقة خفيفة من الغبار، مثل أرض الغرفة. وقفت مستنداً بظهري إلى الحائط. تأملت الأكوام الثلاث وآثار الأقدام على الأرض وبقايا الحفر وثقوب المسامير على الحيطان.

كم كان والدي معتزاً بهذا المكان! كان يظن نفسه في جنة من نوع خاص وهو جالس في محبسه الصغير هذا! وكنت الوحيد الذي يسمح له بالدخول عليه والتحدث معه. ظنني سأغدو إنساناً متميزاً، يفيد من هذه الكمية الهائلة من المعارف. لم يخطر له البتة بأن تدمير جنته الصغيرة تلك سيكون على يدي ... على يد ابنه المميز! أردت أن أجلس قليلاً. تملكتني رغبة طاغية بالجلوس، فحملت بعض الكتب الضخمة ووضعتها أرضاً ثم جلست عليها مستنداً بظهري إلى الحائط. كنت متعباً، لا أريد أن أرتاح كما يرتاح البشر. لاحظت فجأة كتاب "في النحو العربي" للدكتور مهدي المخزومي يبدو لي ضمن كومة الكتب الأخرى. جذبته من مكانه مسرورا. كان مهدى إلى والدي بخط المؤلف، ولهذا لم أرمه في السوق. تصفحته وكنت سعيداً. ستسعد هيفاء به ايضاً، إذا قدرت على فهم محتوياته جيداً.

كنت لا أزال في ثياب الخروج فاستخرجت قلماً واخترت صفحة أخيرة فارغة في الكتاب. كنت أريد أن اكتب سطراً أو سطرين. أصف فيهما حالي تلك. أصف كيف كانت هذه الغرفة تزهو بما تحتويه من مجلدات ثمينة ومن عصارات ذهنية لكبار معلمي الإنسانية، وكيف كان أبي يجلس إلى مكتبه اللامع النظيف، في تلك الزاوية تحت ضوء المصباح القوي، يقرأ بلذة أو يتحدث معي بفخر عما قرأ وعما يخطر في باله عن تلك القراءات، وأنا أصغي إليه متظاهراً بأني أفهم ما يقول. غير إني كتبت ما يلي على تلك الصفحة المغبرة الحائلة اللون من كتاب "في النحو العربي" للدكتور مهدي المخزومي:

"الكتابة فعل خطير. اكتشفت ذلك الآن، في هذه الساعة الضائعة في الليل. أنا خائف ولكني لا أدرك ذلك، لا أعرفه. كنت أعيشه وأنا أجهله. لكنني، لحظة أن كتبت إني خائف على هذه الورقة، شعرت بأطرافي ترتجف خوفاً وهلعاً. أنا أكتب باني خائف، إذن فأنا في الحقيقة خائف".

توقفت عن الكتابة. لم أدر لماذا. لم أرد أن اكتب هذا الكلام، ولكنه انبثق من قلمي هكذا. بتلقائية لا سابقة لها عندي. لبثت أتأمل تلك السطور التي كتبتها على الورق القديم المتّرب، فشعرت بحيرة تتملكني. أأنا الذي يعقد أموره هكذا ويعظم من أشياء بسيطة لا تستدعي التعظيم، أم أن الواقع هو على هذه الحال المستعصية؟ أغلقت كتاب النحو، مصمماً ألا أترك هيفاء تطلع على ما كتبت، ثم حاولت القيام من جلستي اللامريحة. كانت الساعة قد شارفت على الثانية والنصف صباحاً، وكنت أهم بالخروج من الغرفة حين لفتت نظري كومة الكتب الثالثة. كانت محشورة في زاوية على مبعدة، وموضوعة كأنها تشكل سقفاً مثلثاً. لم أتذكر أن من عادتي أن أرتب الكتب على هذا المنوال. كانت تركيبة جديدة تلفت النظر، غير أني لم أجد في نفسي الحماسة والرغبة لاكتشافها، فاتجهت نحو الباب وأطفأت الضوء. وقبل أن أضع المفتاح في القفل، توقفت. هنالك أمر غير مألوف. هذه الكومة الغير عادية من الكتب، تبعث في نفسي صدى غريباً. إنها مألوفة لي وهي، في الآن نفسه، غير مألوفة. كلا، إنها ذات دلالة.

عدت وأضأت الغرفة مرة ثانية وتقدمت نحو الكومة. رفعت الكتاب الأول والثاني والثالث. كانت هذه الكتب الثلاثة تشكل السقف الذي يخفي فجوة تحتها، وكان كيس القماش الأسود السميك موضوعاً في تلك الفجوة ومخفياً بطريقة ساذجة. سحبته. كان كيساً متوسط الحجم من القماش الأسود السميك، مغلوقاً بخيط متين. بدا لي، بشكل غاية في الغرابة، يعني لي شيئاً أعرفه. سحبت الخيط وكأني أتوقع ما فيه. كان يحتوي على مخشلات ذهبية متعددة وثقيلة الوزن وعلى عدد كبير من الأساور والخواتم المرصعة بمجوهرات كبيرة تتلألأ مثل شموس ساطعة. لم أصدم ولم أدهش كثيراً. كانت أموراً غير غريبة عني، ولكني لا أعرفها. لم أرها قط. لم أرها قط. من أين جاءت هذه الثروة الطائلة؟ إنها تقدر بملايين الدنانير، وهي ليست لنا. لقد بعنا كل ما نملك من ذهب ومقتنيات أخرى. وهذا السوار الذي جلبته زكية من عمتها، لا يسوى شيئاً مهماً. من أين.. إذن؟ أتعملان في السر أعمالاً لا يرتضيها الشرف.. هي وابنتها هيفاء تلك؟ وكيف يمكن ذلك؟ وأنا لم اسمع شيئاً؟ لا إشاعة ولا قولاً عابراً ولا تلميحاً؟ والناس، هنا، يراقبون ويحصون الحركات والسكنات ولا يسكتون، كيف اذن ومن أين؟ ولمن يمكنني أن أشكو أو اشتكي أو اعترف، وهذه الغرفة لا يعرف احد مخبأ مفتاحها، فأنا أغير مكانه كل مرة. هل يمكن أن يراقبني أحد ... أن تراقبني إحداهن؟ ولم يجب أن يخفين محصول أعمالهن القذرة بين كتب والدي؟ أهذا أمر معقول؟

أعدت الكيس الأسود إلى محله وكذا الكتب الثلاثة. لاحظت بلفتة غير مقصودة، أني أعدت الكتب إلى ما كانت عليه بالضبط. كأني.. كأني.. يا إلهي.. ما دخلي في أعمال كهذه؟ أطفأت الضوء وغادرت الغرفة مغلقاً الباب خلفي ومخفياً المفتاح في ثقب جديد. نزلت بهدوء ونزعت عني ثيابي في غرفة نومنا بعد أن أخرجت الدخل ووضعته على مائدة الزينة العائدة لزوجتي. تذكرت إني نسيت كتاب النحو ولم اجلبه معي. طويت سروالي المحتوي على الخمسة عشر ألف دينار ووضعته على الكرسي خلف السترة. ثم توقفت أمام السرير. كنت مشوش الفكر والروح والوجود. كنت كتلة من تشوش لا حد لها. أيقظت زكية من نومها العميق. هززتها بخشونة فقامت مذعورة بعض الشيءو سألتني عما بي. بدا عليها إنها تظنني أريد أن أجامعها مرة أخرى. طلبت منها أن نبدل مكان نومنا وأن أنام محلها جنب الحائط. كنت أحتاط لتلك المفاجآت الصباحية العنيفة. لم أكن متأكداً من شيء، ولكن التعب والاضطراب والتفتت النفسي الذي كنت أعانيه، جعلتني أحاول، مثل الأطفال، أن أسلك طريقة سهلة للنجاة.

الأربعاء – كانون الأول 1994:

 {كان صوتها المشروخ يأتي من بعيد.. بعيد جداً. كانت تصرخ صرخات مبحوحة، تتناهى إلى سمعه كأنها همسات خافتة، والألم والغضب والهياج لا يتركون له أن يتوقف. أراد أن يفتح عينيه فلم يستطع وكان يصدر حمحمة وحشية حيوانية. ليس من فمه بل من صدره وكيانه كله. والألم يزداد وكفاه تحترقان، وهو في قبضة حديدية لا فكاك منها. كأنه في صندوق مغلق مظلم. ثم ارتفع الصراخ وتعددت الأصوات، كلها تتعالى إلى عنان السماء. تصرخ وتصرخ. وهو، في سورة الحمحمة تلك، يريد أن يفتح عينيه وان يهرب مما لا يدري ما هو. كان مرة أخرى، مشلولاً مختل التصرفات. ثم.. ثم وعلى حين غرة سكنت روحه وشعر بنفحة من البرودة تغطي وجهه وجبهته وقمة رأسه.. ففتح عينيه.

كن حوله.. زكية وهيفاء وكوثر، وهو على جانب الفراش الملاصق للجدار، متكوماً ويداه تتسايل منهما الدماء والزبد الأبيض يحيط بفمه. رأى هيفاء أول ما رأى. تحمل كأس ماء فارغ. كانت شبه ملاك هبط من أجله من السماء. كان ذلك فجر يوم الأربعاء}.

حدثتني زكية، بين شهقاتها ودموعها، عما جرى لي، عما كان يجري لي. كنت انظر اليها غير فاهم ما تقول. تناولت منديلاً وأخذت تمسح أطراف فمي وقمة رأسي ووجهي. ثم تكلمت هيفاء بصوت هلوع:

ـ كنت تضرب الحيطان بقبضتي يديك. كنت تصرخ وتضرب الجدران. ماذا أصابك يا أبي؟

لم أكن أباها، خطر لي ذلك وأنا انظر إلى كفيّ الملوثتين بالدماء. أشرت لزكية أن تأتيني بما انظف به جراحي وأضمدها، فانصرفت بسرعة. قلت ببطء لهيفاء:

ـ أنت.. أنت، سكبت الماء.. عليّ؟

فهزت رأسها بحياء إيجاباً.

نمت بعد أن لفوا لي يديّ، وبعد أن أوصيت زكية بأن تعطي أبا سلمان ما في سترتي من مال مع المفاتيح وان تعتذر له بعدم استطاعتي الخروج للسياقة هذا المساء. لم يهمني أن اتصل بمدير المدرسة وفضلت الراحة والنوم. لم يكن من المناسب أن اظهر أمام التلاميذ مشدود اليدين بأربطة بيضاء. كان الألم في كفيّ الجريحين لا يطاق. كأنهما احترقتا ولا تزالان تحترقان. جلبت لي زكية مرهماً من أبي سلمان، قال انه يستعمله في مثل هذه الحالات. لم يفدني كثيراً ولكني شعرت بحاجة إلى النوم. ذهبت البنتان إلى المدرسة وحكيت لزكية قصة المرأة التي منحتني عشرين ألف دينار وطلبت منها أن تستخرجها من جيب سروالي. تملكها سرور كبير وأسرعت تحصي النقود ثم أخبرتني بأنها خمسة عشر ألف دينار فحسب، قلت لها إني أعطيت قسماً منها إلى أبي سلمان، فقالت انه لم يزد إلا قليلاً في حصتنا مع أن المحصول كان وفيراً. أشرت إليها بالا تهتم بتفاهات مثل هذه. كنت جائعاً فتراكضت زكية لشراء الخبز والبيض والشاي وبعض اللحم. كنا، بشكل ما، أغنياء على طريقتنا الخاصة. ما أن بقيت بمفردي حتى ارتسمت صورة الكيس الأسود والمصوغات الذهبية في ذهني. هل يمكنني حقاً أن أشك بزوجتي وبهيفاء؟ وماذا يمكن أن تعملا من أعمال كي تستطيعا جمع هذه الكمية الهائلة من الذهب؟

أمر لا يصدق؛ إذ حتى لو باعتا جسديهما ليل نهار خلال أكثر من سنة كاملة لما استطاعتا توفير نصف هذا المبلغ. ما الأمر إذن؟ وما علاقتي به؟ ولِمَ يجب أن يكون مخبأ في تلك الزاوية من المكتبة، وهي الغرفة التي تخصني أنا وحدي؟ أم أنها تلك الليلة المجنونة التي التاثت عليّ فيها الأمور وفقدت التركيز والذاكرة؟ ذلك ما بدا لي اقرب إلى العقل والمنطق، ولكن.. لمن أتوجه بالسؤال وممن انتظر جواباً مقنعاً؟

عادت زكية تحمل لي على صينية معدنية كوباً من الشاي والحليب المحلى جيدا،ً مع قطعة خبز شبه بيضاء وبيضة مسلوقة. كانت سعيدة بحملها سعادة تطفح من كل كيانها. كيف يمكنني ... كيف يمكن لأي ذي وجدان سليم أن يتهم امرأة مثل هذه بكل تلك الموبقات التي تمر في ذهني؟ فطرت بشهية حيوان مشرف على الموت جوعاً، وكنت في أثناء ذلك قد نسيت آلام كفي وما حدث لي صباحاً. سألت زكية عن مقدار النقود التي أعطاها لها أبو سلمان من دخل أمس، فأجابت بأنه نفس المبلغ، لم يزد ولم ينقص. أدركت أني كنت على حق في استقطاع الخمسة عشر ألفاً من هدية تلك المرأة الغامضة. لا مكان في هذه الدنيا للاعتماد على ضمير الآخرين، فأبو سلمان عرف حالاً وبالتأكيد أن محصول الليلة الفائتة كان مضاعفا،ً ومع ذلك.. مع ذلك. طلبت من زكية أن تقترب مني وأن تجلس على السرير، كانت بنفس ملابسها الرثة التي ترتديها منذ الشتاء الماضي.

سألتها.

ـ   ماذا ستعملين بثمن السوار؟

ـ   سأبيعه ونشتري بعض الحاجيات.

ـ   أعلم، أعلم. ألا تفكرين في نفسك لحظة؟ ألم تضجري من لبس هذا الثوب البالي منذ أشهر؟ لماذا تعملين بنفسك أعمالاً كهذه؟

نظرت إلي نظرات دهشة واستغراب، ثم أخفضت، بعد لحظات، رأسها ونظرها عني وهمست:

ـ  ليس لدينا ما يكفي للأكل ثلاث وجبات، ألا تعلم ذلك؟ راتبك وعملك في الليل، وعملي في الخياطة، وكل الأثاث الذي بعناه، لا يكاد يسد رمقنا. الا تعلم؟

لمعت في ذهني هنيهة، صورة المخشلات والخواتم؛ ثم تملكني شعور بالعطف الشديد على هذه المخلوقة البائسة.. زوجتي. أشرت لها أن تقترب مني، فتحركت على استحياء وصعدت إلى السرير مندسة بجانبي تحت الغطاء السميك. لم تهمني رائحة الطعام المنبعثة منها، واحتضنتها ثم قبلتها في فمها. أحاطتني بذراعيها وشدتني بقوة إلى جسدها. ارتجفت رغبة فيها، ولما أردت نزع ثيابها منعني الألم من كفيّ، فهونت على الأمر مبتسمة وبدأت بالتعري وبنزع الثياب عني. كنت، خارج حدود الشكوك والاتهامات، غارقاً في شهوة عارمة، أبعدتني عن عالم البؤس والحصار الذي كان يحيط بنا.

أخذني نوم عميق حالما انتهينا من عملية الحب السحرية المفاجئة تلك؛ وكان منظر زكية العارية وهي تقوم مهتزة النهدين والردفين آخر ما تذكرته قبل أن أغرق في النوم. استيقظت بعد الواحدة ظهراً. كان البيت ساكناً، لا يبدو أن فيه أحداً. قمت فانتبهت إلى يدي الموثقتين. ذهبت أنادي زوجتي ولكن دون جواب. لم تكن ساعة ملائمة لغيابهن بهذا الشكل، تملكني القلق قليلاً. ثم خطر لي أن أصعد إلى المكتبة لأتحقق من أمور الليلة الماضية. كان المفتاح في ثقبه المعتاد وكيس القماش الأسود كذلك. أقفلت الباب من الداخل ثم استخرجت محتويات الكيس ووضعتها أمامي على الأرض. كانت هناك سبعة أساور ذهبية ضخمة مطعمة بما لا أعلم من جواهر ولؤلؤ، وخمسة أحجال ذهبية ثقيلة جداً وحوالي عشرة خواتم من الذهب والبلاتين، كلها مزينة بأحجار كريمة ذات أحجام مذهلة. من يملك كل هذه الكمية من الذهب والمجوهرات؟ أتكون حصيلة سرقة قامت بها إحداهن وأرادت إخفاءها في المكتبة أبعاداً للشبهات؟ ومن يمكن أن تكون هذه لاحداهن؟ أو واحدة أخرى غير هيفاء؟ ما دامت زكية وكوثر أعجز من أن تعملا عملاً من هذا النوع!

أعدت المخشلات إلى الكيس وأخفيته بين الكتب جيداً؛ وقررت، وأنا أغادر المكتبة وأقفل بابها، أن أواجه هيفاء بالأمر مواربة أولاً، فإذا بآن لي اضطرابها أو أي دليل على علمها بالموضوع، هاجمتها صراحة. ليس من المعقول أن تحدث لي مثل هذه الأشياء وتبقى تعذبني طوال حياتي. عدت انزل وأنادي زكية والبنات.. دون جدوى. ذهبت إلى المطبخ فرأيت بعض المخضرات والفواكه مرمية على الأرض. أول شيء بعناه وندمنا عليه هو الثلاجة، كم كان عملاً غبياً! كانت ثلاجة جيدة اعتقدنا إنها ستجلب لنا مبلغاً محترماً، وكانت تلك إحدى أفكار الوهم.

سمعت باب الحديقة يفتح، فأطللت من شباك الصالة فرأيت زكية وهيفاء وكوثر يدخلن وقد ظهر عليهن المرح. كانت هيفاء أطولهن، تسير بكبرياء رافعة نظرها إلى الأعلى. لم يكن أبوها اللعين بهذا الطول ولا بهذا الشكل. سررن برؤيتي وقبلنني وهن يرين يديّ المشدودتين. تمتعت لحظات بتلك الشفقة الأنثوية. انفردت بي زكية لتخبرني عن بيعها للسوار بثمن معقول، ثم لتقول لي بعد ذلك إنها اشترت لنفسها فستاناً جديداً ومشداً لصدرها. كانت مبتهجة بخجل، كأنها ارتكبت جرماً بحقنا لأنها صرفت بعض النقود على أشياء هي بأشد الحاجة إليها. أثنيت عليها واستحسنت منها ما عملت، فقامت تحتضنني وتقبلني عدة قبلات. شكوت لها من الجوع الذي يفترسني، فقفزت منادية البنات لمساعدتها. كنت نويت أن أحدث هيفاء، ولكني لم اكن متأكداً من نفسي ومن نوع الحديث الذي يجب أن أبدأ به أو أنتهي إليه. عادت زكية فجأة لتسألني عن موعد ذهابي لرؤية الطبيب فاستولت عليّ الدهشة، وسألتها بدوري عن أي طبيب تتكلم. قطبت حاجبيها:

ـ  أتريد أن تجن في أخر حياتك؟ أتكلم عن طبيب يفحصك ليشخّص أن استطاع، شغلتك هذه في القيام فجراً بتدمير نفسك والهروب من الفراش، هل نسيت؟ قل لي هل نسيت؟

سكت لحظات. كانت ظاهرياً على حق، ولم يكن باستطاعتي أن أقول لها بأني ألمح من بعيد أسباب حالتي تلك. كان عليّ أن أمارس التزام الصمت في الوقت الحاضر، ولم يكن ذلك أمراً سهلاً. قلت لها امنحيني يوماً أو يومين أفكر فيهما ولا تقلقي أكثر مما يجب. كل إنسان يمكن أن تحصل له أمور عجيبة لا تفسير لها. صبراً، إذن، ودعينا نأكل ما قسم الله.

لم استطع الاختلاء بهيفاء الا بعد ساعات. قبل ذلك جاءني أبو سلمان يستوضح عما جري لي. فرأى يدي المغلفتين بالأربطة فاستغرب حالي وزاد فضوله. لم اخبره بشيء معين، أراد أن يتأكد بأني لن اخرج هذه الليلة بسيارته، فلما شرحت له بان الأمر صعب علي وأنا في هذا الوضع بقي صامتاً متردداً. ثم قال لي إنه لا يستطيع أن يسوق ليلاً لأن نظره لا يساعده على ذلك، وهو، في الحقيقة، ممنوع من السياقة الليلية ولا يحق له إعارة سيارته لأحد، لذلك فإننا، هو وأنا، سنخسر مبلغاً محترماً نحن بأشد الحاجة إليه. أبديت له أسفي وأخبرته بأني لم أدوام في المدرسة ايضاً، واني بحاجة إلى الراحة هذه الليلة فقط، ورجوته أن يعذرني. بدا عليه الحزن وقام ينصرف متمنيا لي الشفاء العاجل سائلاً عما نحتاج اليه في البيت، فشكرته.

كانت زكية في الغرفة الصغيرة القريبة من المطبخ التي وضعت فيها ماكنة الخياطة، وكان ضجيج الماكينة يصلني وانا في الصالة. ناديت هيفاء. كانت في غرفتها مع كوثر، فجاءت تمشي ببطء. كانت ثيابها خفيفة لا تلائم الجو البارد. سألتها لم لا ترتدي ثياباً أخرى لتدفئة جسدها، فأجابت بأنها لا تشعر بالبرد ابداً، وهذه الثياب تكفيها. لم أدر أي نوع من الاضطراب ساورني وأنا أراها أمامي، شابة متفتحة للحياة، لا يهمها حتى أن تخفي ما يظهر او يتلامح من تقاطيع جسمها، تبدو عليها البراءة بجلاء مشبوه. قلت لها أمام نظراتها المتسائلة:

ـ اسمعي هيفاء، أنت مثل كوثر ابنتي وانا اخاف عليك أكثر منها. وأنت في سنك هذه وذكائك تستطيعين أن تكوني صريحة معي وصادقة، أليس كذلك؟

بقيت ساكتة برهة وهي تبتسم ببعض الحيرة:

ـ  نعم، بابا، ما الأمر؟

ـ  حسناً، أنا كما تعلمين اخرج كل ليلة وابقى عدة ساعات اشتغل بالسياقة، أنت.. أنت.. هل تنامين مبكراً؟

ـ  طبعاً

كان المزعج أن نهديها الناضجين مثل نهدي أمها، كانا يبدوان من وراء الثوب الخفيف، وكذلك أجزاء من جسمها.

تابعت:

ـ  وأنت، لا تعرفين أحداً، أعني يضع عينه عليك ويهديك بعض الهدايا؟

بدا ما يشبه الفزع على وجهها.

ـ  لا، بابا، لا والله، ما هذا الكلام؟

خجلت من غبائي وشعرت بأني، ربما، أسخف من يحاول أن يتحقق من أمور لم تحدث. قلت لزكية قاطعاً عليها عملها:

ـ  هل خرجتما انت والبنات في احدى الليالي؟

ـ  الله أكبر، واين نذهب وبطوننا فارغة؟

لم ارد أن أقصد أي مكان، وندمت لأني لم أخرج للضياع في شوارع بغداد. كانت الساعة قد جاوزت الثامنة فذهبت إلى غرفة النوم. لم أكن حائراً، بل تائهاً يمتلكني، خفية، فزع كلما اقترب وقت الاخلاد إلى السرير. طلبت من زكية أن تضع عدة مخدات بحذاء الجدار جواري، فمكثت تنظر إليّ بغباء، ثم أخبرتني بأننا لم نعد نملك إلا هذه المخدات التي ننام عليها.

أكلنا ما تبقى من طعام الغداء، وبعد أن التجأن إلى الفراش صعدت، مرة أخرى، إلى المكتبة. جلست على كومة كتب اتطلع إلى تلك الجهة حيث أُخفيت المصوغات الذهبية، التي قلبت حياتي. لم أستخرج الكيس الأسود. كنت متأكدا انه يرقد في مكانه وكنت على مبعدة خطوات منه أكابد. تمزقاً نفسياً وذهنياً. لم يكن لدي سؤال محدد، ولا كنت أبحث حقاً عن جواب. كنت أخفي عن نفسي ذلك التروع الحيواني للاستيلاء على كل شيء يقع تحت يدي. لا فرق، أن كان لي أو كان لغيري. لم أكن في الواقع مدركاً بالضبط نوع الحاجز القانوني الذي يفصل بين الملكيات. كنت أشعر، أشعر فحسب، بلك النزوع الأعمى للتملك يتراءى لي ثم يختفي في اعماق ذاتي.

تناولت كتاب "في النحو العربي" ومزقت الورقة التي سطرت عليها بعض الكلمات الجوفاء، قبل أن احمله معي واقوم، متعباً، واخرج من المكتبة. كن نائمات بسكينة. دخلت غرفة البنات التي يصلها ضوء الشارع ووضعت الكتاب جنب سرير هيفاء، ثم أحكمت الغطاء على كوثر وخرجت. لم أقصد غرفة نومنا. خرجت إلى الصالة ووقفت أمام الشباك العريض المطل على الحديقة. كانت السماء فوق أضوية الشارع سوداء تتغامز عليها النجوم، ونباح الكلاب التائهة متواصلاً. فكرت بأن ربط تلك الحوادث المجهولة التي فقدت صورتها في الذاكرة، مع وجود هذه المصوغات الذهبية، قد يكون استنتاجاً مجحفاً. أردت بالحاح شديد أن استرجع شيئاً مهماً يكن ضئيلاً عن الهوة الظلماء في ذاكرتي. ذلك السكير والشارع الكابي الأنوار .. ثم انقطاع كل شيء، مثل فيلم سينمائي تقصه، أثناء اشتغاله بمقص. والعودة العجيبة إلى البيت. كنت أسوق سيارة بعيد منتصف الليل في شوارع أعرفها ولا أعرفها وأنا مصاب بصدمة جعلتني خارج عالمي المألوف. تذكرت، فجأة، أمراً صغيراً .. تفصيلاً تافهاً. كنت أتألم في موضع خلف رأسي وآخر في فكي، هل قصدت أن أنساهما؟ كانا مؤلمين ولكن مثل الم مخدّر، ألم خفيف لا ينقذ إلى الأعماق العصبية، وما معنى ذلك؟ وفي تلك الحالة المستعصية على الفهم، كيف أمكنني أن تواتيني القوة والرغبة الجنسية لمجامعة زوجتي بعد إيقاظها من نومها؟ قالت كنت متوحشاً لاهثاً، تعمل الأمور، على غير طبيعتك، مثل حيوان. ويكون عليّ بعد ذلك كله أن أصير فريسة لقوة ضارية تنتزعني من فراشي مثل جرو صغير وترميني أرضاً ثم تترك في أن أمارس جنوناً معذباً من نوع خاص. مرة أخرى.. ما معنى ذلك؟

كانت أصوت طلقات نارية عشوائية تختلط مع نباح الكلاب ومع ظلمة السماء وأنوار الشارع الصفراء، وكنت ألتمُ على نفسي شاعراً برجفات بسيطة تواتيني بين الحين والآخر. إذا كنت مريضاً هكذا فيجب أن أقصد طبيباً كما تقول زوجتي، ولكن .. أي نوع من الأطباء .. يا إلهي! مكثت واقفاً أمام الشباك العريض، لا أتحرك ولا أريد أن أتحرك. فتحت الضمادات فوجدت رضوض يديّ ما تزال حمراء ومنتفخة. عدت ألفّ يديّ واشبكهما على صدري. ثم جلست على كرسي من الخيزران ابقيناه بعد أن بعنا البقية. لبثت جالساً هكذا والتعب يغلق أجفاني بين الحين والآخر. جاوزت الساعة منتصف الليل وصار وقت النوم أمراً محتماً. لم أكن خائفا. كنت أريد أن أبكي خوفاً فقط. تلك حالة خاصة جداً. كانت أنفاسي متسارعة وأنا أحاول أن أكتم هذه العبرة في صدري.

ماذا يمكنني أن أفعل كإنسان، للقاء مصير محتم ومظلم ولا راد له؟

الخميس – كانون الأول 1994:

       {كان ممدداً بطوله على الأرض الباردة، يحس بظهره وأردافه وساقيه وما خلف رأسه، تكاد تتجمد، وكانت ذراعاه مرفوعتين إلى الأعلى. فتح عينيه، لحظة، وهو يلهث فاغراً فمه، فلم ير شيئاً ولم يع أين كان وماذا يفعل وفي أي زمان هو.

رأى عَبر غشاوة سميكة، ذراعيه الملفوفتين بالضمادات تضربان الهواء أمامه، كأنه كان في معركة مع شخص يجثم فوقه، وكانت الغرغرة في حنجرته تبدو كمحاولات للكلام غير مفهومة. ومع كل ضربة كان يوجهها من ذراعيه نحو الهواء فوقه، كانت الغرغرة تتصاعد، كأنها شتيمة أو تهديد أو شيء آخر لا يفهمه البشر. وكان، بين لحظة وأخرى، يرفع رأسه ويخفضه بقوة على جليد الأرض تحته. عملها عدة مرات, والغرغرة متواصلة وكذلك معركته مع الهواء، حين استفاقت زوجته في غبش الفجر ونزلت من السرير تهرع إليه. هزتنه عدة مرات وهي تصرخ به وتحاول إيقاف حركاته العشوائية اللاشعورية. لم يستجب لها، فأخذت تنادي بنتيها بهلع. ثم عنّ لها فصفعته على وجهه صفعة قوية أوقفت حركة فمه وغرغرة حنجرته. أمسكت بذراعيه وأنزلتهما بقوة إلى جانبه ثم تعاونت مع الفتاتين المروعتين على حمله إلى الفراش. كان ثقيلاً، مفتوح العينين، مرتعش الجسد. غطته زوجته بلحاف سميك وأحضرت له هيفاء كأس ماء لم يستطع أن يشربه. كانت على وجهه المتقلص، أمارات فزع جنوني، كمثل محكوم بالإعدام يقاوم جلاديه.

       كان ذلك صباح الخميس}.

سألت زوجتي عن الوقت بعد أن استيقظت. كانت عيناها محمرتين من أثر البكاء وينبعث منهما بشكل غامض شعاع من الخوف والخشية. قالت إنها السابعة والنصف. سكت برهة ثم قلت لها بصوت خفيض:

ـ  اعتقد اني مصاب بالصرع.

وضعت يدها على فمها. أضفت:

ـ  لعلك على حق، سأذهب لرؤية طبيب مختص.

انحنت علي وقبلتني في وجنتي بسكون. قررت، رغم ضعفي، أن أذهب لأداوم في المدرسة. لم يكن منطقياً أن أغيب طيلة أيام دون عذر مقبول. سيجدون في ذلك سبباً لفصلي من الخدمة. وعلى غير ما توقعت، أعاد لي عملي في التدريس نشاطي وقدرتي على تقبل الحياة، بعد أن عانيت من ضعف شديد حين قيامي من الفراش. كان الدفء قد أعاد لجسدي حالته الطبيعية. كنت مثل قطعة جليد متكسرة حين وضعنني في السرير، وكانت خفقات قلبي بطيئة وضعيفة. ذلك ما أخافني أكثر من أي شيء آخر. ثم جاءتني فكرة الصرع فزادت من شقاء روحي. كل شيء إلا هذا. إنه السؤال الذي لا يحمل جواباً من أحد مطلقا، مطلقاً. كنت مكتئباً وأنا اقترب من بيتنا، حين رأيت شرطياً هرماً يطرق باب جيراننا أبي سلمان. اثار ذلك فضولي، لم تكن السيارة في المرآب كما هو متوقع، فأبو سلمان يجوب الشوارع هذه اللحظة، جامعاً الفلس على الفلس كي يعيش هو وعائلته، ولا يموتوا جوعاً دون أن يحس بهم احد. أردت أن أخبر الشرطي بذلك، لكني رأيت أم سلمان تفتح له الباب، فكتمت فضولي وداومت على مسيري ودخلت دارنا. كانت زكية في المطبخ تعد مما زرعته في حديقتنا الخلفية من مخضرات، شيئاً يشبه المرق، نتناوله عادة مع الخبز وبعض حبات من الرز. استقبلتني بحفاوة واحتضنتي بشدة تسألني عن حالي وما جرى لي في المدرسة، وعن موعد ذهابنا إلى الطبيب المختص. طمأنتها بشكل عام ولم أجبها عن قضية الطبيب، شعرت بالرغبة فيها تتحرك حين التصقت بي وداعبني نهداها الكبيران، قالت إنها تبطخ لنا طعاماً جديداً مغذيا، وإن البنتين ستعودان عن قريب.

كنت متعباً بعض الشيء وبحاجة إلى الراحة، بعد أن خطر لي أن أخرج هذا المساء للعمل في سيارة ابي سلمان. حثثت زكية على الاسراع وقصدت غرفة نومناً لأرتاح قليلاً. كان البرد قد خف بسبب الشمس الساطعة فاستقليت على الفراش. لم أكن خائفاً، فاغمضت عينيّ. كنت اختنق، هذا الفجر، وأنا ملقى على الارض، وكان هناك من يحاول أن ينقض عليّ لإكمال عملية الاختناق. وكنت استنجد واصرخ متوسلاً أن ينقذني إنسان من ذلك المأزق المريع. ولم يكن يخرج من فمي وحلقومي غير تلك الهمهمة والغرغرة الحيوانية. ايقظتني كوثر من غفوة قصيرة جميلة. تضاحكت معي ببراءة وهي تصف لي كيف كنت اشخر، فقبلتها عديد القبل.

ثم جاءت هيفاء متوردة الخدين لتشكرني على كتاب المخزومي، ولتقول لي إنها لم تستطع أن تفهم مقدمته وتحتاج لمن يفهمها لها. أبديت لها استعدادي لذلك. كانت هيأتها انثوية رغم صغر سنها. انها امرأة صغيرة. وعاد لي ذلك الانزعاج وأنا الاحظ بضاضة ذراعيها وارتفاع صدرها ومتانة أفخاذها وأردافها. كان الطعام رديئاً ولا يؤكل، وكان علينا، مع ذلك أن نبتلعه. لم نعد نملك مالاً نشتري به كمية كافية من اللحم او البيض، وكنت افكر بغموض في ذلك الكيس الأسود اللعين.

نمت بعد الاكل. جاءت الي زكية فترة، أخذت أداعبها وهي متمددة بجانبي، لكنها أبدت لي بأن عليها أن تكمل خياطة بعض ملابس الجيران لتقبض منهم اجرتها.

أيقظوني حوالي الخامسة والنصف. كان أبو سلمان واقفاً بانزعاج أمام بابنا الخارجي. قال أن شرطياً حضر لاستدعائه للحضور أمام محقق الشرطة في مركز شرطة الشعلة. قال انهم كتبوا اسمه واعقبوه بعبارة صاحب السيارة المرقمة كذا، وانه لم يفهم ماذا يريدون منه. طمأنته وبينت له بأن من الممكن أن تكون عليه بعض المخالفات، إلا أنه لم يقتنع وراح يسألني عما اذا صادف أن حدثت لي حوادث اصطدام او دهس او امور اخرى من هذا النوع، فاجبته بالنفي، ونبهته بأن ذلك لا يمكن أن يقع دون أن يترك اثراً على السيارة. أعطاني المفاتيح ورجاني أن انتبه لئلا نقع نحن الاثنين في مأزق لا داعي له ولا نحتاجه في هذه الأيام.

ولا أدري، في الحقيقة، لِمَ لم أقلق مما يجري، ولِمَ لم أشعر بأن لي به علاقة ما. أريته الرضوض في يدي وكيف اختف تقريباً خلاال يوم واحد، ثم كررت عليه أقوالي الأخرى المطمئنة. لم أر في عينيه نظرة تصديق لما كنت أتفوه به، غير أني لم أهتم كثيراً بذلك.

استلمت السيارة بُعيد السادسة، بعد أن زودتني زكية بلفافة تحتوي على قطعة خبز صغيرة مع نصف بيضة مسلوقة لا أدري من أين أتت بها. عاد البرد بعد غياب الشمس، قارساً ينخر العظام، خاصة عظام الجائعين. نقلت ركاباً عديدين من جهات بغداد المختلفة إلى أطرافها الاخرى، وكنت أتوق بشدة أن توقفني سيدة من نوع تلك الامرأة الجميلة التي منحتني عشرين الف دينار. كان جمالها الفائق ولا مبالاتها المطلقة وعطرها النفاذ يذكراني دون سبب مفهوم، بسعادة الشباب المنقضية.

ثم انتهت الليلة بسلام، ولما انتصف الليل لم اكن قط متعباً، وكنت أكلت لفافة الخبز والبيض بشهية لا توصف لكنني، دون ارادتي، لم ارغب بالعودة إلى البيت، ولذلك تجنبت النظر إلى الساعة. الليلة الماضية، حين دخلت غرفة النوم وجدت زكية ترقد في مكانها جنب الحائط فلم أرد أن أوقظها، فكان أن وقعت في المصيدة منطرحاً على الأرض مرة أخرى. هذه الليلة، سأحاول أن أتحاشى النوم بعيداً عن الجدار. دعني أعارك الحائط، فذلك خير من التمدد على التراب الجليدي. ثم تذكرت زكية وصدرها ومنظر أردافها حين قامت ذلك اليوم وهي عارية، فاستجمعت أطراف نفسي ونظرت إلى الساعة. كانت تقارب الواحدة والنصف صباحاً. اتجهت إلى البيت حالاً، في شوارع خالية جيدة الإضاءة وأنا مملوء الروح بشهوة عظيمة. تلك اذن هي الحياة. ليس لديك فيها غير لحظات معدودة ومحسوبة عليك، كي تناول بعض الراحة واللذة.

لم يكن المحصول جيداً، وكان ذلك أمراً مؤسفاً، إذ تبخرت نقود المرأة الجميلة وثمن سوار زكية في أمور لا نكاد نتذكرها. حالما وصلت شارعنا ذا الاضاءة السيئة، حتى لاحظت أن أضوية بيت أبي سلمان وبيتنا مشعلة جميعها في هذه الساعة المتأخرة من الليل. أوقفت السيارة أمام بيت أبي سلمان ثم ضغطت على زر جرس الباب. خرجت لي أم سلمان ومعها زكية مما أثار استغرابي. أخبرتاني بأن الشرطة عادت لتأخذ أبا سلمان حوالي الساعة الثامنة للتحقيق معه، وقد اتصل قبل قليل ليقول أنه في مركز شرطة الشعلة، ويرجو من زوجته أن تخبرني لكي أحضر واخرجه بكفالة. كانت زكية معها لتواسيها في محنتها هذه، وكان ذلك موقفاً مشرفاً منها. لم أتذكر أين يقع مركز شرطة الشعلة، وعدنا نتصل بالرقم الذي أعطاه أبو سلمان لزوجته فأرشدوني إلى المكان.

استغرق ذهابي ومقابلتي لمأمور المركز ورؤيتي لأبي سلمان في حالته الرثة تلك ثم محاولتنا تنظيم الكفالة التي قررها حاكم تحقيق خفر العاصمة بمبلغ مائة الف دينار، حوالي ثلاث ساعات، أضيفت اليها ساعة اخرى حين عنّ لمامور المركز أن يفحص السيارة لعله يجد فيها دليلاً أو إشارة او أي شيء اخر يساعد على تقدم التحقيق في القضية. وانتهى الامر وصعد أبو سلمان جواري في السيارة، وكانت الساعة تشير إلى السادسة والنصف وكنت سعيداً. لم أمر بتجربتي الفجرية المعذبة المعتادة، وكان ذلك انجازاً بعث فيّ بهجة كبيرة لم أخفها عن ابي سلمان الذي جلس أول الامر صامتاً بحزن واستكانة. ثم بدأ يسرد علي ما أخبروه به، قال إنهم يدعون أن صاحب السيارة اشترك مع المجرم الذي قبض عليه سكيراً ومرمياً على الأرض في أحد شوارع الشعلة، وقد ادعى هذا المجرم أن سائق التاكسي اعتدى عليه وسلبه ما كان يحمل من أموال، فلما سألوه عن نوعية هذه الاموال أخذ يتلجلج في أقواله ثم اعترف، بعد أن عرفت الشرطة كيف تتعامل معه، بأنه سرقها من بيت في البتاويين قرب الجندي المجهول، فلما اتصلت الشرطة بمركز شركة البتاويين تبين أن جريمة قتل وقعت قبل ثلاث ليال هناك وان التحقيق مستمر فيها لمعرفة الجاني، وقد قتل الزوج اما الزوجة التي واجهوها بالمجرم فتعرفت عليه في الحال. ادعى هذا المجرم واسمه عباس كروازة بأنه استطاع أن يسجل رقم سيارة التاكسي التي سلبه سائقها ما كان يحمل من مسروقات، لكن الشرطة لم تصدق وتظن أنه أخفاها في مكان ما، خاصة وأن لديه عشرين سابقة بين سرقة واعتداء وقد دخل السجن ثماني مرات. مع ذلك، أخذت أحاججهم. أخبرتهم بأني ممنوع من السياقة ليلاً ومن إعارة سيارتي لاحد واخرجت لهم اجازة السياقة فاطلعوا عليها وسجلوا رقمها وتاريخها. ثم بينت لهم أن هذا المجرم يكذب بالتأكيد، فكيف يمكنه وهو في غاية السكر والدنيا ليل، أن يميز بين الرقم 6 والرقم 9 وبين الرقم 2 والرقم 3، ويبدو أنهم اقتنعوا بأقوالي، خاصة أن جريمة القتل هي التي كانت تشغلهم، وأن القبض على عباس كروازة بالجرم المشهود مسألة مهمة جداً، ولذلك اطلقوا سراحي بكفالة، ورجوني أن أكون تحت الطلب اذا ارادوا الاستماع إلى إفادتي مرة اخرى.

وصلنا شارعنا والشمس ترمي بأشعتها الأولى الحمراء على رؤوس الأشجار، وكان الجميع في انتظارنا. استقبلونا استقبال الابطال العائدين من الحرب، وأصر أبو سلمان أن يعزمنا على أكلة كاهي مع قيمر كفطور لهذا اليوم السعيد. كنت على جهة من الجميع أتحاشى التفكير في تلك الحكايات التي رواها لي أبو سلمان، واتحاشى أكثر تمحيصها والتدقيق فيها. تركت ذلك إلى وقت اخر، وكنت رغم التعب بلهفة للاجتماع بزكية على انفراد. لم يهمنا أن نسهر حتى الصباح، ما دام اليوم هو يوم جمعة ولا مدرسة هناك ولا هم يحزنون. أعطيت أبا سلمان محصول الليل فابتهج به كثيراً، رغم انه كان رقماً عادياً، وأعطاني حصتي كالعادة. كنا ندبر أمورنا حسب طاقتنا، ولم يكن هناك احتمال كبير في أن نموت جوعاً.

حينما اجتمعنا أخيراً في بيتنا، كانت الساعة تشير إلى الثامنة، وكنا حائرين .. أننام أم نداوم على اليقظة والحركة؟ فضلت أن ارتاح رغم أن الساعة كانت متأخرة, واشرت لزكية ترافقني لغرفة النوم.عرفت بغريزتها ما قد يحصل فطلبت من الفتاتين القيام بعمل في غرفة الخياطة. كانت ما تزال في ثوب نومها الخفيف، فنظرت إلي مبتسمة وسألتني ألست متعبا،ً فأجتبها بالنفي فأغلقت باب غرفتنا. كانت الرغبة في زكية زوجتي، تجعل اختلاط الأمور في العالم من حولي، بعيداً وذا تفاهة مؤقتة. وكنت أفضل آنذاك أن أنسى نفسي بكل ثمن. قفزت إلى السرير قبلي ونزعت عنها ثوبها وحمالة صدرها ولباسها. شعرت باطمئنان كبير لا ينال بسهولة، وأنا أحتضنها وأشدها إلى جسدي العاري. لم نكن نملك إلا ما منحتنا إياه طبيعة عاقلة ومتسامحة، وكنا منتصرين.

-2-

أصر حيدر عبد الحسين أبو سلمان أن يرافقه أبو هيفاء عبد الستار حميد زهدي، في البحث عن محام يوكله لمتابعة القضية التحقيقية التي أثيرت ضده. أخبره عبد الستار أن الأمر ليس بهذه الخطورة، غير أن جميع الأصدقاء الآخرين أكدوا لأبي سلمان بأن القضية خطيرة جداً. اقتحام منزل ليلاً وسرقة تحت تهديد السلاح ثم جريمة قتل، هل توجد قضية أكثر خطورة من هذه؟ وهكذا بدأ البحث عن محام ملائم لا يبالغ في أجوره ولا يحتال عليهما أو يخدعهما. كان أبو سلمان يرى في عبد الستار شريكاً له في كل شيء، وكان في دخيلته يشعر بأن أبا هيفاء عمل خلال إحدى الليالي عملاً يستوجب اللوم وأنه يخفيه عنه.

عثرا أخيراً على محام له مكتب قريب من منطقة الوشاش فقصداه. قبل ذلك كان على عبد الستار حميد زهدي أن يجد حالاً لمعضلته الفجرية وان يقرر، مع زوجته, أن كان مصاباً بالصرع أو بأي مرض جنوني آخر، وهل عليه، والحال هذه أن يراجع طبيباً مختصاً أم لا. كان في الخامسة والأربعين من عمره، تساوره، خاصة هذه الأيام، نوازع لعينة لمعرفة أمور غامضة بدأ يشعر بأنه يقترب منها وهي تقترب منه ولا بد أن يلتقيا. كان بوسع عبد الستار أن يتحمل تخطيه كل فجر، حدود طبيعته البشرية وأن يصير فريسة ضعيفة لقوى غاشمة لا معقولة؛ لولا أن اتفقت زوجته زكية وابنتها الشابة هيفاء على حل واقعي لمعالجة وضعه، لا يتطلب الكثير من الجهد. عرضتا الفكرة عليه فوافق عليها حالاً لأنه لم يجد مجالاً لعدم الموافقة. أحضرتا حزمة من الحبال المصنوعة من مادة غير خشنة، ثم طلبتا منه أن يرتاح  في نومته ثم بدأتا بربطه بالحبال إلى السرير. من أعلى صدره وكتفيه مروراً بوسطه وذراعيه وساقيه حتى نهاية قدميه. تركتا له فمه حراً فشكر لهما ذلك. استطاع أن ينام الليل بطوله. كانت زكية بجانبه مما بعث فيه الكثير من الطمأنينة. كان، يتذكر جيداً، كمن يرقد في تابوت، لكنه اعترف لهيفاء خاصة، وهي التي كانت تشرف على ربطه، بأن هذه الوسيلة اللاانسانية أنقذته وأعادت إليه احترامه لنفسه.

أراد المحامي أن يقبض مقدم أتعابه أولاً وأن يقرأ الأوراق التحقيقية بعد ذلك، ليقرر مقدار أتعابه النهائية. ناقشاه بهدوء. أقرأ يا أستاذ الأوراق وسترى أنها قضية بسيطة، وسيساعدك الأستاذ عبد الستار في الاطلاع عليها، ثم قدّر بعد ذلك أتعابك. رفض بصورة قطعية. كان مكتبه قذراً مكسواً بالغبار وأظافر يديه سوداء الحافة قاتمة. كان واضحاً أنه محتاج مبلغ الأتعاب لكي يبقى حياً ويستطيع قراءة الأوراق التحقيقية. حارا في كيفية البت في الأمر، خاصة أبا سلمان، أراد منهما مائة ألف دينار، يأخذها سواء أغلقت القضية أم لا. اضطرا أن يعداه بالتفكير في طلبه ثم انصرفا. كان عبد الستار يحس بنفسه شريكاً لأبي سلمان بشكل تام، ولم يخطر له أن علاقته به أضعف من أن تجعله شريكاً.

اشتدت هيفاء، إحدى الليالي، في ربطه. وكانت منحنية عليه وأنفاسها تلهب وجهه، وهي تجهد في تثبيت الحبل على صدره، فاضطرت إلى الميلان عليه فتلامس جسداهما في مواضع عديدة، فهمس:

ـ  لا تخنقيني يا ابنتي، أرجوك، اتركي لي فرصة التنفس.

 فابتسمت له ووجها يعلوه الاحمرار.

ـ  لا تخف، بابا، لن أؤذيك هذا لصالحك.

ولما جاءت زوجته زكية بعد قليل تشاهد حاله سألها، وفي عينيه دعوات صريحة، كيف سيدبران القيام بالعملية وهو مربوط هكذا. تضاحكت بسعادة وقالت:

ـ   سبحان الله، انظر أنت في أية حال وتفكر بتلك الأمور.

ثم وعدته بأنها تعرف طريقة تدبر بها أمورهما.

ورغم اعتياده، مع الليالي، تلك النومة التي لا تطاق، فقد بقي، كل فجر، يتقلب بعنف ويحاول أن يتخلص من أربطته، وهو، في حمى الهذيان، يطلق من فمه أنواعاً مختلفة من الألفاظ التي لا يعرفها البشر. كان لديه إحساس أكيد غامض بان علاقته بقضية عباس كروازة ذاك، ليست عابرة، وإن عليه أن يتدخل بشكل من الأشكال في ثناياها ليعرف حقيقة ما جرى؛ ليعرف الحقيقة التي تخصه هو.

اقنع أبا سلمان بأن يدفع مقدمة الأتعاب بعد أن رضي المحامي بتخفيضها إلى خمسة وسبعين ألفاً. وهكذا أمكنهما، هو والمحامي، أن يطلعا على الإفادة التي أدلى بها المتهم أمام المحقق وعلى تلك التي أعطاها لقاضي التحقيق. كانتا متضاربتين تماماً وبصورة ساذجة. كانت تلك الإفادة التي صدقها قاضي التحقيق، أقرب إلى المنطق والحقيقة. ويبدو أن المتهم عباس كروازة خضع لعمليات متعددة من الاستجواب والتعذيب والتهديد والإغراء، بحيث انهارت مقاومته ووجد من مصلحته أن يعترف بحقيقة ما جرى أن كانت هناك حقيقة في هذه الأمور.

 كررت هيفاء فعلتها تلك مرة ثالثة حين أصرت على أن تساعد والدتها في تلك المهمة العجيبة، كانت زكية مطمئنة النفس تماماً؛ فبعد أن ألح عليها زوجها المربوط برغبته في مجامعتها، رفضت أن تحل وثاقه وعكست الوضع الطبيعي للرجل والمرأة، فأمتعه ذلك وأمتعها. لكن تلك الشابة الجميلة المسحورة هيفاء بقيت لأتني، كل مساء، تتحاجج لإتمام ربطه بالحبال، فتلصق أفخاذها الحارة على وسطه أو تضغط بصدرها الناهض العالي على صدره الخافق. ولم يكن في إمكانه ولا في طاقته أن يمنعها أو يعنفها، فهي، على كل حال، تقوم بمهمة إنسانية، تساعد فيها مريضاً قد يقتل نفسه دون قصد في إحدى نوبات خروجه عن طبيعته.

قال عباس كروازة في أفادته أمام المحقق العدلي انه طرق بكل أدب باب بيت القتيل حسب الأصول، بعد أن كاد أن يقتله الجوع فأذنوا له بالدخول، وبعد أن أخبرهم بأنه مكدي جوعان، أطعموه وزودوه بما يكفيه من طعام لأيام مقبلة، فشكر لهم فضلهم وخرج منصرفاً بسلام. استلقى المحقق العدلي على كرسيه غارقاً في الضحك وأخبر عباس كروازة أنه لا يحترم نفسه، وأن الشرطة هي التي تعرف كيف تتعامل معه. وهكذا كان. بعد عشرة أيام أدلى عباس كروازة بإفادة أخرى مختلفة صدّقها قاضي التحقيق هذه المرة. كانت معالم التعب والإنهاك وآثار الكدمات ظاهرة على عباس كروازة لمن يدقق النظر فيه. وكانت أقواله منسجمة تماماً مع شخصه وماضيه الأسود. قال انه راقب بيت القتيل فترة طويلة حتى تأكد من ثرائه الفاحش ومن وجوده منفرداً مع زوجته فقط. لا أحد معهما، لا خادمة ولا قريب أو بعيد من أهلهما. دخل خلسة وكمن عصراً في إحدى زوايا الحديقة الخلفية ذات الأشجار العالية منتظراً أن يحل الظلام، وكان قد شرب نصف قنينة من العرق، أكمل النصف الآخر وهو ينتظر. ثم دبر أمر دخوله إلى غرفة صغيرة ملحقة بالمطبخ انتقل منها إلى الصالة، حيث اخذ الزوجين على حين غرة حينما كانا يتحدثان بهدوء أمام التلفاز. يقول إنه أمسك بالزوج ووضع سكيناً طويلة على رقبته مهدداً بذبحه، وطالباً من الزوجة أن تجلب ما عندها من مصوغات ومجوهرات ومال. وفي سبيل إخافتها عمل بسكينه في رقبة الزوج وجرحه، فأسال دماءه فصرخت الزوجة متوسلة ألا يقتله، وأسرعت تجلب له كل ما عندها من مصوغات ومجوهرات، فوضع كل شيء في كيس أسود من الخام وهم بالانصراف. حينذاك ، يقول إنه رأى في عينيَّ الزوج المجروح إمارة غضب، وحقد فخاف أن يلحقه وينتقم منه، فطعنه في صدره طعنة واحدة وتركه والسكين منغرسة في جوفه. يقول إنه لم يرد أن يقتله، بل أراد أن يؤخره فقط لكي يدعه ينصرف بسلام، وقد خرج راكضاً بعد أن أوثق الزوجة وكمم فمها. كانت الشوارع خالياً تقريباً فسار متظاهراً بالهدوء حتى وصل ساحة "الأندلس" حيث الأضواء المزعجة، فتوقف في جهة مظلمة ينتظر سيارة تنقله إلى بيته، وبالفعل شاهد سيارة تاكسي واقفة قريباً منه فاستقلها محاولا إخفاء شخصيته. يقول إنها السيارة نفسها التي أعطى رقمها للشرطة وظل يؤكد ذلك الأمر. وحينما وصل حي "الشعلة" أراد أن ينزل وينصرف فمنعه السائق، واعتدى عليه ثم سلبه كيس المخشلات بعد أن ضربه وطرحه أرضاً.

طلب برقة من هيفاء أن تخفف من ربط الحبل على كتفه اليمنى، فقد شدتها بقوة أكثر مما يجب. كان وجهها متورداً، محمراً، وشعرها الأسود الكث يتناثر على كتفيها وحول وجهها. مالت عليه فأخذ فخذها اللين ينام على ساقيه وأحس ببطنها تلتصق بجانبه. أخذت، ببطء شديد ترخي الحبل حول كتفه وقد اقترب وجهها من وجهه. لم يدر خلال لحظات ، وهو في خضم ارتجاف لم يعهده قبلاً كيف رفع رأسه وقبلها في خدها. كان ناعم الملمس، طرياً. ابتسمت ثم قبلته هي الأخرى من وجنته، سألته بعد ذلك:

أمرتاح الآن ؟ فأجاب بالإيجاب. عادت تنسحب من قربه وهي لا تزال مبتسمة، وتكمل ببطء ربطه بالحبال. لم يعد لحالته الطبيعية، وحين جاءت زكية تسأله عما إذا أراد شيئاً، نظر إلها تلك النظرة التي تعرفها، إلا أنها أبدت له تعبها الشديد هذه الليلة ورجته أن يترك الأمر لوقت آخر.

أصابته رجة خفيفة وهو يقرأ بدوره إفادة عباس كروازة أمام قاضي التحقيق. استضاء ذهنه فجأة بصورة مبهمة، تشكلت أولاً كغيمة غير واضحة المعالم ثم أخذت تتوضح تدريجياً. إنه نفس عباس كروازة، ذلك الشخص المجهول الذي دخن عدة سكائر وهم في طريقهم إلى حي "الشعلة". حين وصلا نزل من السيارة يترنح وصفق الباب خلفه بشدة وأراد أن ينصرف. بدا في غاية السكر فقدان الاتزان. صاح هو به يطالبه بالأجرة فرماه بشتيمة قذرة، واستمر في سيره منصرفاً. كان ذلك مؤكداً. إنه لم يعتد عليه ونزل من السيارة ولحق به مطالباً إياه بالأجرة. كان أمراً مهيناً، أن تنقله كل هذه المسافة الطويلة فيمتنع عن دفع الأجرة مع دفقة من الشتائم "قواد، ابن القحبة، أية أجرة؟ أنا لا أدفع أجرة لأحد" فأمسك به من كتفه محاولاً أن يتفاهم معه، فاستدار ذلك السكير إليه ووجه إلى فكه لكمة قوية أرجعته مذهولاً إلى الوراء خطوة. لكنه لم يسقط وتماسك، وقد ملكه الغضب والحقد. تلك هي الصورة التي تشكلت من الغيمة. هذا المجرم لا يقول الحق أبداً. إنه لم يعتد عليه أبدا. طالبه بأجرته فقط. استجمع قوته وتوازنه واندفع بركض خلفه ليتشبث به ثانية. التفت إليه ذلك السكير ووجه إلى وجهه ضربة بآلة حادة لم يميزها أو الأمر. انحرف بوجهه متفادياً الضربة فأصابته في الجهة الخلفية من جمجمته فارتج ذهنه رجة كبرى. خيل إليه أن رأسه انخلع من مكانه، لكنه بقي شاعراً بما يعمل. هجم غاضباً على السكير واستطاع أن يلوي ذراعه ويأخذ منه الآلة الحادة ثم يوجه إليه بقوة وشراسة ضربة أصابته في فكه أردفها بأخرى أقوى منها، فتهاوى ذلك السكير على الأرض. كان في حالة من الغضب والجنون، مستعداً لقتل ذلك الشخص. رآه .. يراه الآن بالتأكيد. سيراه على الدوام مسترجعاً صورته ومتغلباً على تجمد ذاكرته التي صدمتها تلك الضربة القوية بالآلة الحادة على قفا رأسه. نعم، كان منطرحاً هناك، رأسه وجسده الأعلى على الرصيف ووسطه وساقاه على ارض الشارع.

ذلك المجرم انتزع منه ذاكرته وقوة تصوره وكاد يقتل فيه حب الحياة. مكث واقفاً هو الأخر، يتمايل مع الهواء البارد، غير عالم ما أصابه. كان دائخاً، يرى العالم مضباً أمامه، والكائنات تتراقص حوله. ثم تحامل على نفسه ودخل السيارة ليستريح. مضت عليه دقائق مؤلمة وهو لا يدري، ما يعمل والى أين يتجه. ثم انتبه إلى كيس القماش الأسود، يقبض عليه بشدة بين أصابعه. كان ذلك هو الآلة الصلبة التي ضربه بها. رماه جنبه ثم شغل المحرك وسار بالسيارة غير عارف بالضبط إلى آية ناحية يتجه. تلك كانت ليلة فريدة مليئة بالرعب والأشباح وبغوامض الأمور. ظنها ليلة خرجت من الزمن ولم يعشها قط الا في الأحلام، فإذا بها تعود إليه حاملة كل متاعب الدنيا ومسؤولياتها.

سأله المحامي عما به وقد بدا شاحباً ذاهلاً عن نفسه، غارقاً في أفكار عميقة؟ فتضاحك عبد الستار وبين له بأنه يسخر من ضعف إفادة هذا المجرم ومن سخفه، وهذا هو كل شيء.

تلك الليلة تعاونت زوجته وهيفاء على ربطه، فهو منذ عدة ليال اتفق مع أبي سلمان أن يرتاح قليلاً والا يخرج للعمل ليلاً. كان الفراش دافئاً وكان في استسلامه لهما يجد لذة غريبة. لم تتوان هيفاء حين انصرفت أمها، على أن تداعبه وتدغدغه في مواضع من جسمه، وحين حرر إحدى ذراعيه وقرصها في فخذها صرخت متظاهرة بالدهشة والألم.

عاد عصراً مع المحامي إلى بيت أبي سلمان بعد قراءة الأوراق التحقيقية. أراد ذلك المحامي ذو الأظافر السوداء أن يضخم القضية فأبدى خشيته من أن تعتبر المحكمة أبا سلمان شريكاً لعباس كروازة في جريمته الشنعاء تلك. أخافت تلك الفكرة المفترضة أبا سلمان وأرجفت قلبه، لكن عبد الستار غمز له أن ينتظر انصراف المحامي، وسيشرح له كل شيء. قال له إنه قرأ أوراق القضية كلها وليس فيها أي دليل ضده، وان هذا المحامي يريد أن يزيد في أجرته عن طريق إخافة أبي سلمان. اطمأن أبو سلمان واحتضن عبد الستار وقبله، وحين وصل هذا الأخير بيته واستقبلته زوجته تسأله عن الأخبار، وصلهم صحن من بيت أبي سلمان مليء بمرق البامية مع قرصين من الخبز الحار.

تعشوا جميعاً ولما أرادات هيفاء أن تربطه استمهلها وطلب منها أن ترتاح هذه الليلة وتترك المهمة لزوجته زكية، فابتسمت ابتسامة ذات معنى وانصرفت. كان الجو بارداً برودة محتملة، وكان البيت مشبعاً بسعادة لا أساس مادياً لها. أراد من زكية أن تنام قربه، ففهمت قصده. جاءت إلى السرير بثوب خفيف وبرائحة عطرة فاندست في الفراش ين أحضانه. أخبرته هامسة بأنها تخشى أن تكون حاملاً، لأن العادة لم تأت في موعدها المحدد. قبلها في فمها مسروراً . لم يكن قلقاً, ولم يكن يدري لماذا لم يكن قلقاً.

أخذها بلطف شديد، كأنه كان يخشى عليها أن تتكسر تحته. لم يقوما بعد انتهاء العملية، وسمع أنفاسها تنتظم وهي تحتضنه. قام مخلصاً نفسه من ذراعيها، ولبس ملابس البيت ثم خرج من الغرفة صاعداً إلى المكتبة. استخرج الكيس الأسود من مخبأه، وأخذ يتفحص تلك القطع الذهبية الثقيلة والمصوغات الأخرى. قدر سعرها بحوالي عشرة ملايين دينار على اقل تقدير. جلس واضعاً كل شيء في حجره. جلس ساكناً، لا يتحرك. العالم يدور، وهو ساكن لا يتحرك. المعلم عبد الستار حميد زهدي، ذلك الحشرة الصغيرة المنزوية في ركن من العالم يسمى محله "الوشاش"، يجلس الآن مفكراً فيما هو مطلوب منه أن يقرره. لندع الجوع والتعري والمهانة والمعاناة والحرمان والذل وانتظار المجهول المخيف وقتل العواطف. كل هذه أمور لا تهم العالم . هي تخص الشعب العراقي فحسب، فليتحمل هؤلاء التعساء إذن. لا خيانة مطلوبة منهم. كلا. لا خيانة ولا طعنات في الظهر ولا سرقات ولا غش ولا تعصب. مطلوب الموت جوعاً بسلام. من الجميع، الموت جوعاً بهدوء وسلام.

كان الموضوع أمامه واضحاً وغير واضح في الوقت نفسه، وكان، في قرارة نفسه، لا يريد أن يواجهه. أي شيء يجبره أن يواجه مثل هذه المواقف الشائكة؟ لا شيء. لا شيء بالتأكيد. خذ ما بدا لك من مواضيع وواجهها, ما المشكلة؟ كانت جلسته متعبة، ولم يكن عشاؤهم كافياً وعميلة الجنس أفقدته ما يحتفظ به من طاقة. ما المشكلة اذن؟ ظل يكرر هذه الكلمة في ذهنه وهو يتلمس بأصابعه كنز الذهب في حجره. كان خالي الذهن، خاوي النفس. لم يعد يفكر كما يفكر الناس، بل ارتاح إلى سهوم خدّره وأنام حواسه. وفي سكون الغرفة تلك، الجرداء إلا من أكوام الكتب البائسة وانغلاقاً في هذه الزاوية المنسية من الكون، ماذا كان يعني القتل والسرقة وتلوث الذهب بدماء الضحايا؟ إنها أمور تخص من يقع تحت وطأتها. تلك هي الحقيقة. حقيقة مشوهة ومقلوبة. نعم. ولكنها هي الحقيقة. فإذا حاول أحد إصلاح هذه الأمور بمحاولات تعيسة وغير مثمرة ولا تعيد العجلة إلى الوراء مطلقاً .. فهذا شأنه. كذلك، فإن حدث ووقعتَ تحت تلك الوطأة المخيفة، فذلك شأنك. تملكته لحظة قشعريرة عابرة. نحن نعيش، هذا صحيح، ولكن الحياة، نوعها ومستواها وجريانها، تصهرك وتصيبك وتعيد خلقك كل مرة. وليس من العدل، في حياة ذات صبغة معينة كحياتنا هذه، أن تطلب من مظلوم، مسحوق، مطحون العظام، مكسور الظهر، منخور القلب والكبد ، أن يعيد الحق لأصحابه. تلك صفاقة وقلة حياء. لأن هناك ما تبدل في العالم، في الكون، في السماوات والأرض والنجوم، في كل مكان. لا علاقة للأمر بالزمان، ولكن بالمكان، المكان تغيرت شؤونه وتبدلت.

كان في جلسته، منحني الرأس لأوياً رقبته نحو صدره، ينظر بغباء إلى يديه تحتضن الكيس الأسود. لم يكن شقياً تماماً ولا كان سعيداً. لم تعد لهذه الكلمات معانيها الصافية البريئة. وها هو، إذ يقوم من مكانه بتثاقل ويخفي كيسه الثمين ثم يطفئ الضوء ويقفل الباب خلفه ويخفي المفتاح في ثقبه المعتاد وينزل السلم بحذر، تتملكه الحيرة في الوجهة التي عليه أن يقصدها. الكل ينام، مستكينون إلى جوعهم وهزال أجسادهم، وليس هناك من يكمل له شقاءه بربطه وتوثيقه بالحبال ومنعه من الحركة لكي ينعم بالراحة .. يا للتناقض!

وقف وقفته تلك أمام النافذة أمام الليل. بماذا يمكن أن تحدثه هذه الظلمات المتلاطمة الخالدة؟ كانت هي الأولى .. تلك الظلمات، ثم اخترع هذا المخلوق الهلوع بصيص النور. كان خائفاً فاستنجد بالنور ليدفع عنه الخوف. إلا أنها، ظلمات العالم، لن تلبث أن تحتويه تحت جناحيها وتخفيه عن الأنظار فيسمون ذلك العدم. العدم القادم لا محالة. ولكن، قبل ذلك، أيها الإنسان الهالك الهلوع، عليك أن تحقق ما تريده منك جموع الهالكين الآخرين. لتكن ما تكون، ملكاً متوجاً أو طاغية مطلقاً أو غنياً فاحش الثراء أو أنسانا حشرة تدب جوعاً على الأرض، كن ما يمكنك أن تكون، إنما عليك ألا تحيد عن قواعد الهالكين تلك. يالمهازل البشرية التي لا تنتهي!  حسناً جداً. هذا حسن جداً، ولكن .. ماذا باستطاعة أولئك المنغمسين في الظلمات أن يفعلوا بإنسان ذي دماء حارة، يملك أن يعمل ما يشاء؟ يأخذونه، بعد أزمان، ليضموه إلى زمرتهم، وهذا حسن أيضاً، فهو يعرف جيداً أن الظلمات آتية لا ريب فيها، فلتأت إذن. دعها تتقدم إليه، ولكن .. قبل ذلك .. اذهبوا إلى الجحيم. كان اتفق مع أبي سلمان اأا يخرج الليلة أيضاً للسياقة، فقد انهكته المراجعات والقلق وقراءة الإفادات الكاذبة منها والصادقة. كانا، هو وأبو سلمان، ينتظران قراراً من قاضي التحقيق بشأن إحالة ذلك المجرم عباس كروازة على المحكمة الكبرى، ولم يكونا قلقين من هذه الجهة، ولكنهما، كما أوحى لهما المحامي، كانا يخشيان أن يعتبر القاضي أبا سلمان شريكاً لذلك المجرم. ستحدث كارثة حينذاك. كان يشعر بأنه مرتبط بأبي سلمان برباط متين، فكل شيء كان مرهوناً بأقواله، وهو بإصرار حفظه ودفع عنه الشكوك، وإلا لوقع الاثنان في ورطة لا مخرج منها. ولكن .. ماذا سيقرر قاضي التحقيق هذا؟ بدا له شاباً رزيناً متعقلاً، لا يمكن أن يخطئ خطأ جسيماً ويعتبر أبا سلمان شريكاً. لا يمكن.

اتجه نحو غرفة النوم. كانت زوجته تنام جنب الحائط وهي ملتفة باللحاف بشكل غريب. أراد أن يوقظها فأشفق عليها، ومكث واقفاً بتردد. ثم، بعد لأي، هزّها بلطف عدة مرات، فاستدارت إليه. اعتذر لها ورجاها أن ينام مكانها، فتحركت بسرعة وهي تهمهم شيئاً عن الحبال والربط والكوابيس. استلقى في مكانها الدافئ وتغطى جيداً. كان في غاية التعب مما رأى وما فكر فيه، وكان الاستسلام إلى النوم، حياة جديدة لم يهمه كيف سيكون شكلها أو نهايتها، على الفراش أو تحت السرير أو فوق الأرض الباردة، لا يهم أبداً، ما دام سينال قسطاً من الراحة.

أيقظته نداءات متعددة، تعالت من بعيد أول الأمر ثم اشتدت حتى أجبرته على أن يفتح عينيه. كنَّ، ثلاثتهن، ينادينهن، كل واحد بطريقتها الخاصة.. زكية وهيفاء وكوثر. كانت زكية قربه على السرير، تحاول جاهدة أن تجعله يخفض ذراعيه المتشنجتين المرفوعتين إل أعلى وجهه، وكانت هيفاء وكوثر مستمرتين على الهتاف: "بابا .. عيني بابا .. بابا عيني بابا .. بابا".

كان في خضم حلم مضحك وعجيب . رأى رجلاً غامض الملامح يتصدى للحديث معه قائلاً "هل تظن أن نظرية أفلاطون في المُثل صحيحة؟ وأننا نماذج مكررة، مثل خيالات لأشياء بعيدة عنا هي الحقيقية؟ هذه فلسفة خراء إذا أردت أن تعلم. لا نماذج هناك، ولا مثل ولا خيالات ولا بطيخ. الموجود هنا، إذا لم تكن تعرف، هم هؤلاء القواويد أولاد الزنا، فلا تتعب نفسك يا ابن القحبة" فاستشاط غضباً وصرخ بذلك الشخص "من أنت يا حقير كي تحقر أفلاطون هكذا؟ قل لي من أنت؟" فهجم عليه الرجل هاتفاً: "ألا تعرفني يا ابن العاهرة؟ أنا عباس كروازة .. ولي أمرك يا قواد" ثم هجم عليه ممسكاً به من رقبته يريد أن يخنقه، فرفع هو ذراعيه يدافع عن نفسه؛ وهكذا استيقظ على تلك النداءات الأنثوية الرقيقة، خافق القلب ولكن مطمئن روحياً. كان ذلك حلماً لحسن الحظ، وكان نائماً في مكانه، لم يتحرك منه ولا حبال توثقه وتشده كحيوان مفترس. ابتسم لهن وضحك ضحكة عالية.

كانت الساعة تشارف السابعة، فارتمين عليه يقبلنه. كانت قبلة زكية على فمه، طويلة مداعبة وكانت بجانبها كوثر التي قبلت يديه، أما هيفاء فاتجهت نحو وجهه وقبلته من خده الأيسر قريباً من طرف فمه. أمسكها من كتفيها واحتضنها برفق فضحكت بسرور.

كان الوقت ملائماً لمرافقة البنات إلى المدرسة، وللاعتذار إلى المدير عن غيابه عن الدروس طيلة الأيام الماضية. وكان الوقت ملائماً أيضاً لثرثرته قصيرة مع أبي سلمان الذي كان في سبيله ليفك رباط سيارته الحديدي. شجعه وذكره بالإيمان بالله وعدالته. كان أبو سلمان على وشك الخروج بسيارته للعمل في شوارع بغداد، فاتفق معه على استلام السيارة حسب العادة، حوالي الساعة السادسة مساءً، لم يدر بالضبط، لماذا كان سعيداً؛ فهو وزوجته والبنات لم يفطروا إلا بكسرات يابسة من الخبز البائت مع الشاي المر. سألته زوجته بانكسار عما إذا تبقى في المكتبة بعض الكتب الزائدة للبيع. آلمه ذلك أكثر من أي شيء آخر. أجابها أن نعم وأضاف بأنه سيستدين أولاً ليدبروا أمورهم هذا اليوم، ثم ينزل يوم الجمعة لبيع الكتب. رأى على وجهها الشاحب علامات رضا ومحبة وشكر واعتذار. كم آلمه ذلك! بقي سعيداً بعد عودته من المدرسة، رغم خشونة المدير وتهديداته وكلماته الفظة، كان محصناً ضد الانزعاج والشقاء، فقد نام ليلته السابقة مرتاحاً واستيقظ ضاحكاً على أصوات حوريات جميلات يحببنه. كانت زكية أسعد حظاً منه، فقد دفعت لها إحدى الزبونات ديناً قديماً ميئوساً منه عن خياطتها لفستان، فاشترت مواداً أولية تكفي لتحضير وجبة غداء معقولة. أخبرها أنه لم ينجح في الاستدانة. أكلوا، مع ذلك، يرفرف عليهم ما يشبه ظل الفرح. رأى في ذلك معجزة صغيرة، ولم تهمه الأنباء السيئة التي سمعها من مدير المدرسة.

قام من نومه بعد الظهر حوالي الخامسة، فصعد إلى المكتبة بحجة عزل الكتب التي سيبيعها يوم الجمعة. أخذ يختار بعض العناوين التي يعلم أنه لن يقرأها يوماً. ابتسم حين وقع بين يديه كتاب لأفلاطون "المأدبة" وتذكر حلمه المضحك. عباس كروازة وأفلاطون، أي تناقضات مثيرة تتشكل في هذا الكون ثم تمضي دون أن تنفطر الجبال أو يحدث زلزال عظيم. وضع "المأدبة" على جانب. لن يبيعه وسيقرأه رغم أنف عباس كروازة القذر. تحاشى وهو يحمل كومة الكتب خارجاً، أن يتطلع إلى تلك الناحية من المكتبة حيث الكتب المصفوفة بشكل خاص والتي علم جيداً ما تخفي تحتها.

بدأ المطر بالهطول قبل أن يحمل له أبو سلمان مفاتيح السيارة. طلب منه أن يتوخى الحذر الدائم وسأله فيما إذا كان يعتقد بأن المحامي كان صادقاً في ظنونه حول القرار المحتمل صدوره من قاضي التحقق .. فأجابه بالنفي. لم يكن متأكدا، ولكنه أراد لأبي سلمان أن يطمئن نفساً ولو لبضع ساعات. أخذته دوامة الأفكار حالما حشر جسمه في مقعد السائق، ووضع بعناية لفافة الخبز والجبن التي أعدتها له زكية في صندوق السيارة بجواره. لم يكن هناك مفر من التأمل ومن زيادة التفكير عن الحد المألوف. ماذا سيعمل وماذا سيتجاهل العمل به؟ وأين تقع ساحة العمل وتلك الساحة التي تتجاهل العمل؟ وهل من المحتمل أن يتجاورا أو يتقاطعا أو يتضاربا؟

أشار إليه أحدهم فتوقف. طلب نقله إلى "الزوية" وراح يتعامل معه على الفلس الواحد. كان شيخاً شبه مهدم، بدا مستعداً أن يقف تحت المطر ساعات وساعات على أن يدفع مائتين وخمسين ديناراً زيادة. رجاه بلطف أن يدخل وسينقله مجاناً إذا أراد، فاستعاذ الشيخ بالشيطان ودخل فجلس جواره واتفقا على السعر. لم يتبادلا الحديث خلال الدقائق الأولى، وكان الشيخ يتنهد بين الفينة والأخرى، ويتمتم "لا حول ولا قوة إلا بالله"، لم يعجبه أن يتدخل في شؤون ذلك الراكب لكنه أراد أن يصبّره فقال:

ـ    الله كريم، عمي، هذا امتحان للعراقيين.

ـ   امتحان؟! ممن؟ من يمتحنهم يا أخي؟

ـ    من الله، سبحانه وتعالى.

ـ    ولِمَ العراقيون فقط، من دون خلق الله جميعاً، هم الذين يمتحنون بمثل هذا الامتحان العسير، يا أخي؟

ـ    إرادة الله.

ـ  كلا، لا تقل مثل هذا الكلام يا أخي. لا تضع على كاهل الرب ما عمله شخص واحد مفرد. تأمل نفسك يا أخي. ماذا يمكنك أن تعمل بعد أن داسك العالم بحذائه؟ داسك وداسنا العالم عن قصد وبإصرار ودون رأفة أو رحمة. العالم كله يا أخي. انظر إلى هذا الشيء. العالم كله يجتمع ليقتل شعباً بأكمله، يقتله جوعاً وحرماناً. هذا ما يجب أن تتأمل فيه يا أخي. هل تعلم؟ العالم لا يمتحن العراقيين، العالم يريد أن يقتلهم، ولقد أعطاه ذلك المخلوق أسباباً لذلك. هكذا يجب أن تفكر؟ هل تعلم؟ والآن، أزيدك علماً، بأن هذا العالم الذي حدثتك عنه، يريدك أن تموت بصمت. دون كلام. دون احتجاج. فماذا ستعمل، يا أخي؟

أراد أن يبدي له انه لا يعرف جواباً لمثل هذا السؤال الصعب، غير انه فضل أن يلزم الصمت ويكتفي بالاستماع إلى تنهدات الشيخ وحوقلته. حين وصلا محلة "الزوية" وفتح الشيخ الباب لينزل طلب منه عبد الستار نصف الأجرة، فتوقف الشيخ متردداً وهو يمسك بالدنانير بين أصابعه.

ـ  ألست محتاجاً مثلي يا أخي؟ أنا لا أريد صدقة، فلماذا تضحي بهذا المبلغ من أجل غريب لم تعرفه قبلاً؟

وأصر على دفع الأجرة كاملة، ثم مضى مختفياً في الظلام. ظل متوقفاً على جانب الشارع، يراقب قطرات المطر المتساقطة على الزجاج أمامه وكيف تمسحها آلتا المسح. غرز هذا الشخص المجهول دبوساً حاداً في جنبه، دبوساً معنوياً أو ربما دبوساً أخلاقياً. كانت قطرات المطر تتسايل باستمرار على الزجاج. من المحتمل أن تكون قطعان البشر مثل هذه القطرات المائية، يتسايلون على الدوام ويمسحهم الزمان هكذا. مثل هذه الماسحة. يستضيئون بالحياة برهة قصيرة ثم يُمسحون. وهم، بالرغم من ذلك يختلقون الشرف والمثل العليا والأديان ورفعة الأخلاق، ويتظاهرون خلال لحظة وجودهم، بأن بإمكانهم أن يمسكوا بالحقائق المطلقة بين أيديهم. بعد ذلك، من يدري أن كان عباس كروازة أسوأ من أفلاطون أم أفضل منه! حرك السيارة ببطء وخرج بها إلى شارع أبي نؤاس، واخذ يسوق محاذياً النهر. كانت الأضواء على جهة الكرخ الأخرى تتلامع بتواتر. شعر أنهم هناك لا يمكن أن يكونوا مثل ذلك الغريب المجهول. إنهم يزدادون تنعماً بكل شيء. دون اكتراث. ولا يبدو أن هذا الأمر يخالف ما يسمى بالعدالة. على العكس من ذلك، يبدو وكأن العالم يعتبره أمراً عادياً.

أوقفته عائلة من خمسة أفراد وأرادوا الذهاب إلى الاعظمية. كانت الساعة قد جاوزت الثامنة، والمطر ينزل دون انقطاع. انحشر مراهقان قربه وجلس البقية في الخلف. كانت رائحتهم عطنه، تخدش الأنف، وكانوا يتصايحون في أحاديثهم دون سبب ظاهر، لم يهمه كل ذلك، وكان اقرب إلى الارتياح منه إلى الانزعاج. ثم ارتفعت رائحة طعام في جو السيارة فرجاهم أن كانوا يأكلون أن يأخذوا الأوساخ معهم. وافقوا على أقواله ضاحكين. كانوا سيدتين ورجلاً وصبيين. ثم ناولته إحدى السيدات قطعة خبز طرية قالت له انه لن يجد مثلها في بغداد كلها. شكرها ووضع الخبز في فمه حالاً. كان لذيذاً حقا، طيباً مثل قلوب هؤلاء البشر.

أوصلهم إلى المكان الذي أرادوه وقبض أجرته، ثم عاد يدور فيما يشبه الحلقة المفرغة، من جهة إلى أخرى، والمطر لم ينقطع والتعب بدأ ينال من جسمه. لم تعد أفكاره واضحة، ولا أراد أن يعاود تذكر ما كان يفكر فيه أو يتأمله. نقل عدة أشخاص من أمكنة مختلفة لأخرى، حتى جاوزت الساعة منتصف الليل. خطر له وهو يأكل لفة الخبز الصغيرة التي زودته بها زكية، أنه قد لا يحتاج الليلة إلى عملية ربط أو توثيق أو شد أو ما أشبه، فأسعده ذلك. لم يدر لِمَ كان يشعر بأنه متحرر، وأن بإمكانه أن ينال قسطاً من النوم بشكل طبيعي ودون قلق. لكنه، في باطنه، لم يؤمن بهذه الفكرة. ما تزال هواجس الماضي القريب تنخر في ذهنه وتذكره بما جرى له؛ وما يزال القلق يتملكه وهو يستذكر جهله بأسباب ما عاناه في الأيام الماضية.

وصل شارعهم تحت المطر، فأسرع يقوم بتقاليد إدخال السيارة إلى المرآب وربطها بالسلسلة الحديدية ثم إغلاق الباب والتراكض إلى داخل البيت. أبقت زكية له المصباح الكهربائي مشعلا في الصالة، فاتجه إلى المطبخ. لم يجد شيئاً يؤكل فعاد خائباً إلى غرفة النوم. لم يرد أن يوقظ زوجته إشفاقاً عليها. كانت نائمة بعيداً عن الحائط، تاركة له مكان الأمس فارغاً. لعلهن اخلدن إلى النوم جائعات. سيحاول هو الآخر أن يعالج النوم بحالة الجوع التي يحس بها تطحن معدته. لم يبق أي اثر لقطعة الخبز الطيبة التي منحتها له تلك السيدة ولا للفة الخبز الصغيرة التي اعتنت بتحضيرها له زكية قبل خروجه. تشّرب جسده النحيل هذا الغداء الباهت بأقصى ما يمكن سرعة.

استيقظت زوجته حين كان يحاول العبور فوقها إلى الجهة الأخرى من السرير، فجلست تسأله عن الوقت ومتى جاء وكيف حاله. كانت نصف نائمة، نصف مستيقظة، ولكنها استعادت كامل وعيها وحواسها بعد لحظات وأخرجت من تحت مخدتها قطعة قماش طويلة وعرضت عليه أن تشّد ذراعيه إلى جسمه، خشية أن يؤذي نفسه بحركاته العشوائية أثناء النوم. تردد، وكان منزعجاً. يعاملونه كطفل صغير. اللعنة. عادت زوجته لتؤكد له أن قطعة القماش لن تؤذيه لأنها عريضة ورقيقة وقد عثرت عليها هيفاء منسية بين ثيابها القليلة. استسلم دون كلام، فلفت ذراعيه بقطعة القماش بكل رقة ولطف. شكرها وسألها هل تعشين فلم تجبه، كرر عليها السؤال أثناء ما كانت تغطيه باللحاف فأجابت بصوت منكسر "كلا"، ثم اندست تحت اللحاف هي الأخرى.

شمل ضعف غريب جسده كله. كان هادئاً، جامدا،ً ولكنه كان يحس كأن أطرافه وبقايا جمسه الأخرى تفقد صلابتها بالتدريج، كأنه يتلاشى .. يتلاشى. تذكر أن غداً هو يوم الجمعة. سيأخذ كومة كتبه تلك ويرجو من أبي سليمان أن يوصله إلى شارع المتنبي. أراحته هذه الفكرة قليلاً. سمع زكية تتنهد وتتقلب فناداها هامساً باسمها، فلم تجبه. أراد أن يستحثها على استيفاء بعض ديونها من جارتها، فليس من المعقول أن يتجاهلن ما كانت تجهد لتعمله لهن من خياطة وغيرها. يمكنهن أن يسددن ديونهن بأشكال أخرى، المقايضة مثلاً . بيض أو قطع من اللحم أو الخبز أو الشاي أو السكر، كل شيء ممكن ومباح هذه الأيام في هذا البلد. إذ ما دمنا نكافح من اجل البقاء فكل شيء مباح ومسموح به. حتى الجرائم. وفي حالة غريبة وغير مسبوقة مثل حالتهم هذه، ماذا تعني الأخلاق القويمة والفضيلة والكرامة الإنسانية والأنانية .. لإنسان يموت بالتدريج جوعاً؟

أخذ حصته من دخل الأمس ورجا أبا سلمان أن يوصله إلى شارع الرشيد قرب جامع الحيدرخانة، فوافق واستعجله أن يأتي لكي يبدأ يوم العمل هذا. أعطى زكية حفنة الدنانير القليلة التي استلمها من أبي سلمان لتدبر حالتها مع الفطور والغذاء، ثم صعد إلى المكتبة فحمل كومة الكتب ونزل السلم بتثاقل. لم ينم، في الليلة السابقة، جيداً. حاصرته الكوابيس من كل جانب، إلا أنه لم يمارس عنفاً يدوياً شديداً. أيقظته زوجته وهو يلاكم الفضاء أمامه في خضم حلم نساه حالما فتح عينيه. كان سريع نبضات القلب، لاهثاً، ولكنه لحسن الحظ، ما زال نائماً في مكانه. خلّص ذراعيه من قطعة القماش فحسب، من أجل أن يلاكم خصماً حلمياً. كان الوضع اذن مقبولاً ولا ضرر فيه.

جلبت له زكية قطعة خبز فأكلها بسرعة مع ماء محلى بالسكر، ثم عجل بالخروج من البيت ليأخذ مكانه جالساً قرب أبي سلمان في سيارته. تشاورا حول الاتصال بالمحامي ليراجع بشأن القضية، لعل القاضي بتَّ بأمره خلال هذه الفترة. لم يكن شارع "المتنبي"، تحت الشمس الضاحكة، طريقاً للمرور، بل سوقاً للكتب. تمنى لو كان باستطاعته أن يختال ماشياً بين هذه الصفوف الجميلة المبعثرة من الكتب، الموضوعة على الأرض في كل مكان، ليختار منها ما يشاء ويشتريه دون جدل أو مناقشة حول السعر، إلا أنه جاء هذه المرة، مثل المرات السابقة، ليبيع ببضع دنانير معدودة، هذه الكتب التي كانت غالية جداً على والده.

كان يعرف صاحب مكتبة اعتاد على التعامل معه بإنصاف، فقصده حالاً. قلّب ذلك المكتبي الكتب بين يديه كما يقلب بضاعة رخيصة ثم أعادها إليه بهدوء. بقي عبد الستار ينظر إليه متسائلاً دون كلام لحظات. أشار هذا إليه بأنها لا تساوي شيئاً ولا قيمة لها. كانت تلك هي طريقته التي لا يحيد عنها، وكانت هذه البداية هي المقدمة. لم يتراجع، وحينما تظاهر بأنه سينصرف أمسك به صاحب المكتبة. أخرج من بين الكومة كتابين أو ثلاثة أراد أن يشتريها ويترك الباقي، فرفض هو ذلك. خطر له أن هؤلاء البشر يتعبون أنفسهم هكذا بغير جدوى ويتعبون الغير، من اجل دنانير قد لا تكفي لشراء بيضة دجاجة واحدة. انتهت، بعد لأي عملية البيع والشراء، ورجع سالكاً طريق العودة، تساوره مشاعر متشابكة من المذلة والحزن والغضب. كانت تلك الدنانير التي قبضها لقاء كتب والده العزيزة، لا تكفي لوجبة غداء واحدة لعائلته. تملكته الحيرة في كيفية العودة إلى بيته في الوشاش. لم يرد أن يصرف فلساً واحداً مما استلمه فقرر أن يعود ماشياً على الأقدام. إلا أنه لم يستطع ذلك. عبر جسر الشهداء فتملكه الإعياء والعطش، فاضطر أن يستقل سيارة تاكسي نفرات أوصلته قريباً من شارعهم.

كان منهكاً، يهده الجوع والعطش والإحباط، وصل البيت حوالي الظهر فسلّم ما لديه إلى زوجته وأسرع إلى سريره فارتمى عليه. لم يدر كيف أخذته سنة نوم مفاجئة، فاستسلم لها بسعادة. أيقظته ابنتاه هيفاء وكوثر وهما تبتسمان، ودعيتاه إلى تناول الغداء. فقام متحاملاً على نفسه، واحتضن الفتاتين ثم ساروا جميعاً إلى الصالة حيث وضعت زكية ما تيسر لها أن تطبخه من مرق ورز. سألها من أين جلبت الباذنجان فضحكت وأجابت بأنها باذنجانة واحدة، نضجت في الحديقة الخلفية وكانت تنتظرها منذ أسابيع. كانت قطع الصمون الثلاث يابسة، مطعوجة، معوجة، تشابه وجوه البشر هذه الأيام. مسحوا الصحنين مسحاً جيداً وأكلوا فتات الصحون ولم يتركوا شيئاً يمكن أن يؤكل.

أفادته نومة ما بعد الظهر تلك، فشعر بالنشاط يعود لجسمه، فصعد إلى المكتبة، بينما حبست البتنان نفسيهما في الغرفة للدراسة وخرجت زكية في عمل لها مع إحدى الزبونات. أغلق الباب عليه خلافاً لعادته واستخرج كيس القماش الأسود من مكمنه. أبقاه في حجره، ولبث ساكناً كالتمثال. كانت الغرفة باردة، قذرة، شبه فارغة. فارقتها تلك السمة التي كانت لها من السناء والرفعة والجلال، حين كان والده يقطن فيها. لم يكن سعيداً إلا بين كتبه، كتبه التي غادرت إلى غير عودة. تراها الآن بين أياد قد لا تقدر قيمتها ولا تحترمها. فتح الكيس الأسود، يتطلع إلى كنزه الثمين. كان جامد العواطف تتوزعه مشاعر غير واضحة. لم يرد أن يتساءل عن المطلوب منه، لا أخلاقياً ولا عملياً ولا قانونياً. تلك مستويات سحقها الزمن بالنسبة إليه.. بالنسبة لكل إنسان جائع مثله. وماذا يتبقى له اذن، بعد كل حساب لكل شيء؟ بوضوح، بوضوح.. لا شيء. إنها ليست مسألة غياب الإله أو حضوره، كما أفتى بذلك بعض المؤلفين، إنها هذه اللحظة المضيئة من الحياة، اللحظة التي لا تملك غيرها، وتراهم ـ هذا المستبد المجنون والعالم وراءه، العالم كله ـ يريدون أن يسلبوها منك، يسلبونها من بين ضلوعك ويصرخون بوقاحة في وجهك: أطفأ ضؤك وكن أخلاقياً ولا تخالف القانون. سمع زكية تناديه من الأسفل، فأسرع يعيد الكيس الأسود إلى مكانه ويقوم فاتحاً الباب يسألها عما تريد. كانت أعدت له شاياً بعد أن دبرت مقتضياته بطريقتها الخاصة.

جلس يشربه معها، كانت تمسه بعذر وبغير عذر وتمسك بذراعه أو إحدى يديه، وتبتسم له دون سبب أحياناً. وكانت، دون أن تدرك ربما، تنبعث من عينيها نظرات تشبه موسيقى رقيقة حنون. أخبرها، أنه وأبو سلمان، سيقابلان المحامي ليحثاه على مراجعة القاضي وإنهاء علاقة أبي سلمان بالقضية. أيدت الفكرة وسألته هل سيخرج الليلة للعمل كالعادة، فأجابها بالإيجاب. بقيت تنظر إليه نظراتها الموسيقية تلك دون كلام. كانت الساعة تقارب الرابعة، فأمسك بذراعها البضة وقادها إلى غرفة نومها وأغلق الباب. احتضنته قبل أن يستدير إليها وتبادلا قبلة طويلة. تشابكا بجسديهما العاريين تحت اللحاف. كانا يرتجفان رغبة أحدهما في الآخر، وكانا صادقين، منتصرين مرة أخرى على كل أسباب الشقاء الذي يحيط بهما.

لم يستقبلهما المحامي بترحاب كبير. قال أن مراجعة القاضي، بعد هذه الفترة القصيرة، غير مجدية لأنه سيرفض الطلب بالتأكيد. وهو أي المحامي، تهمه سمعته قبل أي شيء آخر، ثم أخذ يعبث بأذنيه متظاهراً بعدم الاكتراث. أزعجهما بشدة، أرادا منه على أقل تقدير أن يحسن استقبالهما، وان يتلقاهما بوجه بشوش. اضطرا أن يسلما ويخرجا من مكتبه. خطرت لعبد الستار فكرة أن هذا المحامي المحتال يريد أن يضمن دفع ومؤخر أتعابه، وأفضى بهذه الفكرة لأبي سلمان الذي بيّن له بأن بإمكانه أن يدبر مؤخر الأتعاب إذا صدر قرار بالإفراج عنه، فعادا مرة ثانية إلى المكتب. بقي المحامي متمسكاً بوضعية التعالي التي اتخذها، حتى أخبره أبو سلمان بأن مؤخر الأتعاب جاهز وسيدفع له حالما يصدر القرار. زال الانقباض عن وجه المحامي حالاً وابتسم لهما مؤكداً بأنه سيقصد القاضي صباح الغد، ويقدم طلباً بفصل قضية أبي سلمان عن قضية عباس كروازة، لأن قضية هذا الأخير تخص مركز شركة البتاويين، في حين أن قضية أبي سلمان بسيطة ويمكن البت فيها حسب صلاحية القاضي، ثم قام يصافحهما بحرارة.

عادا مسرورين إلى البيت وكانت الساعة تقارب السادسة. استلم عبد الستار لفتة خبزه الصغيرة من يد زكية ومر على غرفة الفتاتين يسلم عليهما ويقبلهما، ثم أخذ مفاتيح السيارة من أبي سلمان وبدأ مسيرته الليلية.

كان الجو بارداً وشوارع بغداد شبه خالية، وكان مملوكاً بحيرة غير اعتيادية جعلته غير متأكد من سلوك الاتجاهات التي يمكن أن يوجد فيها أناس يودون الانتقال إلى جهات أخرى. تذكر أنه نسي أن يسأل زكية عن احتمال كونها حاملاً أم لا؟ وصمم أن يطلب منها القيام بالفحوص الطبية اللازمة للتأكد من ذلك. ليس هذا وقت الإتيان بمخلوق آخر زائد إلى هذا العالم المحاصر. إنها قد تكون جناية كما قال أبو العلاء المعري. ولكن .. هل كان أبو العلاء قادراً على أن يجد امرأة تتزوجه؟ ذلك هو السؤال.

أوقفه رجل بصحبة امرأة وطلب منه نقلهما إلى ساحة الحرية في الجادرية. ملأ عطر المرأة جو السيارة فسره ذلك. كان متلاصقين في المقعد الخلفي، يتهامسان فيما بينهما طوال مسيرة السيارة. أراد أن يرى ملامح السيدة فلم يستطع. كانت تضحك أحياناً ضحكة مكتومة، كأنها كانت تخشى أن تنفجر ضحكاً. هناك، في هذا الزمن البائس، إنساناً بمقدوره أن ينفجر ضحكاً!

كانت شوارع الكرادة / خارج تشع بالأضواء والمخازن مفتوحة رغم هبوط الظلام. وصلوا "ساحة الحرية" فطلب منه الرجل أن يذهب بهما إلى الأعظمية. حينذاك، أوقف محرك السيارة والتفت إليهما طالباً منهما أن يتفقوا على الأجرة أولاً، فالمسافات التي قطعوها والتي سيقطعونها طويلة. كانت السيدة متشحة بثياب سوداء وهي ذات جسد ضخم ووجه جميل ذي ملامح خشنة وبشرة سمراء، وكانت متزينة بكثافة لا تصدق، اتفقوا أن تكون الأجرة سبعة آلاف دينار، فشغّل محرك السيارة وعاد إدراجه نحو الأعظمية. أخذا يثرثان بهمس مرة أخرى، وخيل إليه مرة أو مرتين، أن الرجل يعبث بجسم السيدة ويثير ضحكها بتلك اللمسات. لم يكن شاباً، ذلك الرجل، وبد له ثرياً لا تهمه النقود التي يصرفها في نزواته. وماذا في ذلك؟ ماذا في أي شيء؟ قد تكون هذه النزهة الليلية مع تلك السيدة ذات العطر النفاذ، هي آخر متع حياته. من يدري؟ وقد لا تكون. من يدري؟

سألهما حين وصلا ساحة "عنتر" عن المحل الذي يريدان الوصول إليه، فصمتا لحظات ثم وجه الرجل إليه الكلام:

ـ  أخي العزيز، أنت لست سائق تكسي. هذا واضح عليك جداً، ولعلك إنسان مثقف يفهم أمر الدنيا وما فيها. أصارحك القول بأني وهي نريد أن نبقى معاً أطول فترة ممكنة، فهل تساعدنا، وعسى أن يساعدك الرب؟ أم تريد أن تتركنا نتجول في الشوارع؟ إذا أردت أن ننزل فسنزل حالاً. لا تقلق. هاك هذه العشرة آلاف أجرتك وقل لي ما ترغب فيه.

 لزم السكون لحظات ثم أوقف السيارة في مبدأ شارع عمر بن عبد العزيز والتفت إليهما:

ـ  لست ضدكما يا صاحبي، كلا، لست ضدكما.

كان وجهها الأسمر الجميل، تحت ضوء الشارع الضعيف، يبدو ساحراً مليئاً بالسعادة والحبور، ابتسم وأردف.

ـ والسيدة، إذا سمحتما لي، تستحق هذا العناء، ولكني سأطلب منك عشرين ألفاً أخرى لأتجول بكما حتى الساعة الحادية عشرة، أتوافق؟

كانت الساعة آنذاك تشرف على التاسعة. جذب الرجل من جيبه حفنة دنانير أحصاها تحت الضوء ثم سلمها إليه:

ـ  تفضل، أنت ابن حلال حقاً، خذنا حيثما تشاء، اتركنا فقط لوحدنا.

كان راضياً عن نفسه وهو يضع رزمة الدنانير في جيبه، ويستخرج لقمة الخبز التي زودته بها زوجته فيبدأ بقضمها في الظلام، صاماً أذنيه عن كل صوت يأتيه من الخلف. أوصلهما حوالي الحادية عشرة إلى فندق بغداد، فنزلا، أو تظاهر بالنزول، واتجه هو إلى البيت حالاً، كان المدخول جيداً وكان متعباً بعض الشيء. أدهشه أن يرى زكية في غرفة الخياطة تشتغل على ماكنتها بجد ونشاط. سألها عما أبقاها مستيقظة حتى هذا الوقت، فادعت بأن إحدى جاراتها كلفتها بخياطة فستان كانت مستعجلة لارتدائه. أخرجت له كأساً من المحلبي فتناوله بسرور كبير. أخبرها بأن محصول الليل كان جيداً وحكى لها عن ذلك الرجل والمرأة.

حين صارا في غرفة نومهما نزع ملابسه فارتدى بجامته، وقف متأملاً السرير. كانت إلى جانبه فاحتضنته وعرضت عليه أن يناما كل في حضن الآخر، وليحدث ما يحدث، بعد ذلك. ابتسم بسعادة لهذا الاقتراح ونفذاه في الحال. لم يكن قلقاً أكثر مما يجب، وكانت خشيته الكبرى متأتية من إحساسه بأنه قد يؤذي زكية دون قصد أذا ما حمَّ القضاء وأصابته حاله من تلك الحالات الانتكاسية العسيرة. أراد أن يخبرها بذلك لكنها سبقته باقتراح هزَّ كيانه، قالت:

ـ  اسمع ستار، أمي مريضة جداً وهي وحيدة ولا أحد يعتني بها.

ـ  وعمتك؟ تلك العانس اللعينة؟

ـ  أعوذ بالله، قل يرحمها الله. ألم أقل لك أنها ماتت قبل شهور؟

ـ  كلا، لم تقولي.

ـ  واحد منا إذن مخرف. ماتت وبقيت أمي بمفردها، ما رأيك..

وسكتت مترددة. قرصها:

ـ  تكلمي، ما بك؟

ـ  لا تقرصني هكذا. أقول نأتي بها هنا ونبيع الدار، أنا أملك نصفها والنصف الثاني لأمي وهي لن تحتفظ به طويلاً، ما رأيك؟ سنوفي ديوننا وندفع إيجار هذا البيت وسيبقى لنا ما نستعين به على توفير الأكل والملبس. أن حالنا مزرية يا ستار، مزرية جداً، والبنات. ثم قطعت كلامها واشتدت في احتضانه. شعر بحرارتها تمنحه متعة خاصة، كأنها تحميه من ظلم الأيام.

ـ  نفكر بالموضوع، لدينا الوقت للتفكير.

ـ  نعم، نعم، احضني جيداً، هيا.

لم يتصل بهما المحامي إلا نهاية الأسبوع، طلب من أبي سلمان أن يجلب مؤخر الأتعاب، ويأتي إليه في المكتب. طار هذا فرحاً واستصحب معه عبد الستار مساء يوم الخميس ومعهما رزمة الدنانير الضخمة. انفرجت أسارير المحامي حين لمح أبا سلمان يحمل الرزمة الكبيرة تحت إبطه، وأخرج من درج مكتبه ورقة وضعها أمامهما هاتفاً:

ـ  هذا قرار الإفراج عنك يا أبا سلمان، وغلق التحقيق ضدك في القضية، لقد هلكت تعباً وأنا انتزعه من القاضي، أما قضية عباس كروازة فأحيلت إلى شرطة البتاويين حسب الاختصاص المكاني. مبروك أبا سلمان، ألف مبروك، هلكت وأنا أقنع القاضي بألا علاقة لك بالقضية، وفوق ذلك، اتفقت مع نائب المدعي العام ألا يميز القرار، لأنه صحيح وقانوني، مبروك، هات ما عندك.

فسلمه أبو سلمان رزمة الدنانير وتناول عبد الستار الورقة ليقرأ قرار القاضي. كانت أقوال المحامي صحيحة، وقد افرج القاضي عن حيدر عبد الحسين لعدم توفر الأدلة على علاقته بالقضية وغلق التحقيق ضده وفق المادة 155 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، وإلغاء الكفالة المأخوذة منه وإحالة التحقيق ضد عباس كروازة إلى شرطة البتاويين حسب الاختصاص المكاني لاستكمال التحقيق. كان الاحتفال واجباً تفرضه الظروف ومقتضيات الحال، فاجتمع شمل العائلتين في بيت أبي سلمان وجلس الجميع بارتياح يأكلون بحشمة ما سمح بشرائه مدخول السيارة ذلك اليوم.

          وافقت والدة زكية على المجيء للسكن في بيت ابنتها وابن أخيها، ووافقت، مضطرة على عرض دارها للبيع. كانت عجوزاً بائسة، فاقدة لكل رغبة في الحياة، فأشفق عليها عبد الستار، واسترضاها غافراً لها كل حماقات الماضي التي ارتكبتها بإيحاء من أخت زوجها. رضيت أن تحتل ركناً صغيراً في غرفة الخياطة، تنام فيه وتأكل وتستقبل من يهتم بزيارتها. نقلوا أشياء الوالدة المهلهلة إلى دارهم وباعوا قسماً منها ووزعوا القسم الآخر عل الجيران. وبسبب صغر دار "التسابيل" وميلانها إلى الخراب فقد تأخر بيعها مدة غير قصيرة.

كان عبد الستار حميد زهدي، قد عانى خلال الأشهر الأخيرة من تجارب بإمكانها أن تغير من طبيعة الإنسان بشكل غير مرئي دائماً. وهو إذا ما اعتبرنا شكله وموقعه وتصرفاته العادية، فقد بقي محافظاً على شخصه الذي عرف به، إلا أنه، في الأعماق السفلى، جرت له انصهارات عنيفة أدت إلى تأثيرات مدمرة عليه، لذلك فإن عبد الستار حميد زهدي، هذه الأيام، وهو في الخامسة والأربعين من عمره، صار ذا تفكير مختلف. يبدأ بمسلمات متفق عليها ويختلف بالنتائج. هو يعتقد انه إذا أمكن أن يفيد من مقولة اثنين زائد اثنين لا تساوي أربعة، فسوف يركض إلى آخر نقطة في الدنيا ليثبت هذه المقولة المفيدة. وهو يعتقد, بقي يعتقد، بأن ما هو مشروع في معاناته، هو أنها كشفت له جوهر المصلحة الشخصية، وكان ذلك في اعتقاده، كشفاً عظيماً لا يثمن.

سأل من زوجته عن الصائغ الذي اشترى منها ذلك السوار الصغير الذي جلبته من عمتها، فوصفت له مكانه. أخبرها بشكل غامض أنه عثر على سوار ثمين في إحدى الليالي نسته عرضاً إحدى النسوة وانه يروم معرفة ثمنه. نظرت إليه مندهشة قليلاً ولم تقل شيئاً. أرادت فقط أن ترى السوار فحسب. كان مستعداً لذلك، فاخرج لها واحداً مما كان في الكيس الأسود. ذهلت ذهولاً شديداً وأخبرته حالاً بأن صائغها صائغ متواضع لا يمكنه أن يشتري مثل هذه المصوغات لأنه لا يملك ثمنها، الا أنها ستريه إياها على كل حال.

تلك الليلة التي عاد فيها مبكراً نسبياً ونام هو وزوجته متحاضنين كما اتفقا، مرت بسلام تقريباً. كان مرتاحاً وهو بجانبها، مطمئناً بارد القلب حتى غلبه النوم. لم تتراءى له تلك الكوابيس المرعبة الغامضة، وحين استيقظ في وقت غير معلوم، بين الليل والنهار، وجد نفسه يحتضن زوجته ويمسد على مواضع جسمها الحساسة وهو في حالة هياج غير عادي. ولم تمض إلا دقائق حتى استفاقت هي الأخرى، ولبثت هنيهة تنظر إليه وإلى ما يعمل. ثم احتضنته وأسرعت ترفع ثوبها وتنزع عنها وعنه ملابسهما الداخلية. وبسبب عملية الحب الجميلة الصباحية تلك، عاد عبد الستار ليغرق مرة أخرى في نوم عميق لا تقطعه الأحلام، حتى أيقظته زوجته طالبة منه الإسراع لئلا يفوته الدرس الأول في المدرسة. ومنذئذ، من تلك الليلة التي بقيت حلاوتها في نفسيهما، عاد عبد الستار يمارس حرية النوم العميق على سريره الدافئ جنب زوجته المحبة.

لم تقل دهشة الصائغ حين رأى السوار، عن دهشة زكية. قطب جبينه أول الأمر ثم تناول مكبرته وراح يتفحص بدقة تفاصيل مكونات السوار. وطالت مدة الفحص أكثر من المعتاد، وعندما رفع نظره إليهما، كانت عيناه متعبتين. تراجع إلى الخلف واخذ يتكلم ببطء:

ـ  هذه قطعة ثمينة جداً، بصراحة.. بصراحة...

ثم سكت.. قطعت عليه زكية صمته بقولها إنهما لا يريدان بيعها فهي ورث عائلي لا يمكن التفريط به، ولكنهما يريدان تقويم سعرها من خبير مثله وسيعطيانه ثمن خبرته. أشار بيده:

ـ  القضية لا تستحق سعر خبرة أو غيره، فأنا مع الزبائن أمثالكم مثل شخص مع أهله، إذا كنتما لا تريدان بيعه فهذه مسألة أخرى، نعم.

ثم تناول السوار وعاد يتفحصه بمكبرته ثانية:

ـ  هذه القطعة لا تقدر بالدنانير العراقية ... تقديرها بالدولار الأمريكي. دعني أحسب لكم بالضبط أثمان الألماس الموجود فيه.

ثم تناول الحاسبة من جانبه وراح يدق عليها بأصابعه فترة من الزمن.

ـ  نعم، هذا ما خمنت. ثمنها بين الخمسة آلاف دولار إلى سبعة آلاف، هناك تقديرات مختلفة كما تعلمان تعتمد على الشاري، ولكن السعر الرسمي لها هو خمسة آلاف. وبسعر الدولار اليوم تساوي مليوناً من الدنانير وخمسين ألفاً، هذا أقل سعر يمكن أن تقبلا به إذا خطر لكما أن تبيعاها، قطعة ثمينة وراقية.

كانت يد زكية ترتجف وهي تمسك بكف زوجها مستمعة إلى ما كان يقوله الصائغ. ثم تمالكت نفسها، وسألت الصائغ بصوت يخفي بعض الارتجاف:

ـ  أبو أصلان، نحن لا نحتاج الآن لبيع هذه القطعة، ولكن كما تعلم، قد تضطرنا الظروف لبيعها، لأن في نيتنا أن نشتري داراً ونؤثثها، فمن هو الصائغ الذي تعتقد أن بمقدوره أن يكون مستقيماً معنا ويدفع قيمة القطعة ويأخذ الربح الذي يستحقه شرعاً وقانوناً؟ لقد جئت بزوجي لمقابلتك لأني أثق بك وأنت رجل أمين، لذلك أرجوك أن تنصحنا.

وإذ لم يكونا، في الواقع، بحاجة إلى أية نصيحة بشأن الكنز الذي يعرفان جيداً قيمته وبشأن آفاق الثراء التي سيفتحها لهما، فقد أخذا ما قاله لهما بعد ذلك الصائغ أبو أصلان، مأخذاً خفيفاً وغير جدي. لم تسأل زكية من زوجها عن مصدر تلك الكمية الهائلة من المصوغات الذهبية والمجوهرات، ولم تحقق معه ولا اهتمت بإزعاجه عن مصدرها. كان همها الوحيد أن تنجو، هي وعائلتها مما يقاسونه في حياتهم من ضنك وجوع وحرمان ومذلة. والغريب المضحك في كل ذلك، هو إنها اعتبرت مجيء أمها إلى بيتهم بادرة خير وانفتاح باب الغنى عليهم. رغب عبد الستار أن يمر من الباب الضيق للفقر إلى أفق الثراء الواسع دون أن يلحظ احد هذا التبدل الكبير، ولذلك حذَّر زوجته مراراً وتكراراً ألا تبدي آية بادرة أو تتصرف تصرفات حمقاء، تنبئ بأنهم يملكون ما يملكون. أراد أولاً أن ينتهي من بيع تلك الدار البائسة في محلة "التسابيل" ليمكنه أن يظهر وكأنه يملك مالاً جاءه عن طريق معلوم ومشروع. وهذا ما حصل بعد حوالي الشهر وبصدفة سعيدة. إذ أحب احد مجاوري تلك الدار الخربة أن يضمها إلى داره فعرض عليهم شراءها بسعر بدا لهم معقولاً. لم يكن عبد الستار ولا زكية يهتمان ببضعة آلاف من الدنانير زائدة أو ناقصة، وفي غرفة المكتبة تتجمع وراء باب مقفل ملايين وملايين الدنانير. كانت سعادتهما الخفية المكتومة حتى عن الفتاتين، تكاد تفقدهما اتزانهما لولا انهما كانا يراقبان أحدهما الآخر باستمرار.

بعد بيع دار محلة "التسابيل" بدت رغبتهما في الانتقال إلى دار أوسع مبررة للجيران، فأخذا يبحثان في منطقة "الحي العربي" عن دار للشراء وليس للإيجار كما كان يدعيان. لم يكن السعر عائقاً أمامها، بل سعة الدار وهندستها. وكانا مع الفتاتين والوالدة، يتناولان وجبات طعام دسمة ثلاث مرات في اليوم. لم يكن في الأمر عجب، فقد بيعت دار "التسابيل" بسعر جيد ودفعت الديون وما تراكم من أجرة الدار، وبقي عليهم أن يعتنوا بصحتهم وملبسهم. لم يرد عبد الستار أن يترك الوظيفة بشكل فجائي، فاخذ بالتغيب التدريجي، متمارضاً مرة ومتظاهراً بالعمل في مكان آخر من أجل الحصول على لقمة العيش، مرة أخرى، حتى انذره المدير بأنه إذا لم يداوم بانتظام فسيكتب إلى الوزارة لتتخذ بشأنه ما تراه مناسباً من قرارات، وكان هذا ما يريده.

انتهت جهود زكية للعثور على دار للبيع في "الحي العربي" إلى باب مسدود، فوسعت من دائرة بحثها حتى وصلت محلة "دراغ" وراحت تبحث في المنطقة الواقعة خلف الجامع. هنالك وبصدفة سعيدة أخرى، عثرت على دار قديمة بحديقة واسعة معروضة للبيع. كان السعر عالياً نسبياً ولكنها أدركت أن عليهم الا يضيعوا هذه الفرصة النادرة. رافقها عبد الستار في اليوم التالي، ودخلا فشاهدا الدار وتفاصيلها ومساحة بنائها وحديقتها ومشتملاتها. كان السعر أكثر مما تستحق، قالا ذلك للدلال وطلبا منه أن يسعى لتخفيضه وسيدفعان له أجره مضاعفاً. كانت مساحتها أربعمائة متر، نصفها مبنية بطابقين والباقي حديقة يمكن الاعتناء بها لتكون جميلة وزينة للدار. ثم تم الاتفاق واشترياها باثني عشر مليوناً من الدنانير. كان سعراً عالياً في وقته ولكنه صار مع مرور السنين وسقوط الدينار العراقي سعراً مناسباً جداً. اعتبرا نفسيهما منتصرين. لم ينقص من ثروتها إلا قسم لا يؤبه له، ثم صرفا على تجديد الدار وإعادة بناء بعض المرافق فيها والعناية بالحديقة وصبغ الجدران، ما يقارب الملايين الثلاثة. انتقلا بعد ذلك إلى الأثاث. كان ذلك أمراً ضرورياً جداً، أظهرت فيه زكية بأنها إنسانة ذات ذوق رفيع، لا يهم ما يتطلبه ذلك من نقود.

لم يكونوا، في خضم ذلك كله، موضع مراقبة من الجيران إلا بشكل ثانوي، فالكل يعلم بأنهم باعوا داراً واستأجروا أخرى، وهذا أمر طبيعي. كذلك فإن اهتمامهم بشراء بعض الأثاث لدارهم المستأجرة حديثاً أمر آخر طبيعي جداً. كل شيء اذن تم حسب طبيعة الأمور الطبيعية، وكان عبد الستار وزوجته يتساران بشأن أشغالهما ويحذران أن يناقشا أي موضوع مع شخص آخر غيرهما. الأمر الوحيد الذي لم يجد الجيران له تفسيرا، هو أن زكية قبل انتقالهم إلى بيتهم الجديد الذي لم يعرفوا بالضبط موقعه أخذت تبيع ما تبقى من أغراض البيت بأسعار منخفضة جداً، حتى أنها أهدت الكثير من حاجياتها القديمة المتبقية إلى أم سلمان، شاكرة لها ولأبي سلمان مساعدتهما لهم أثناء تلك الأيام السوداء.

ثم تركوا محلة "الوشاس" غير نادمين. كان ذلك في آخر يوم من أيام مايس 1995، وكانت الفتاتان قد أنهيتا امتحاناتهما، وجاء انتقالهم إلى البيت الجديد بمثابة جائزة لهما، فقد استقلت كل واحدة منهما بغرفة نظيفة ذات ضوء ساطع وأثاث جميل.

أما عبد الستار حميد زهدي....

-3-

شعر قبل أن يفتح عينيه، بجسده يرتعش ارتعاشاً شديداً، من أسفل قدميه مروراً بساقيه وفخذيه ووسطه وصدره الخافق ورقبته ورأسه. كان يرتجف بعنف، ضاماً ذراعيه على صدره وحاشراً ركبتيه في بطنه بقوة. لم يدرك في أي عالم هو، ولم يتجرأ أن يفتح عينيه وكان الخوف الشديد مستولياً عليه وقطرات عرقه تنزل بسكون من جبينه إلى خده وحول فمه، كان يهمهم ويقرض أسنانه ببعضها والعبرة تخنق حنجرته. خاف أن يصرخ وخاف أن يعلم أين هو الآن. ثم ازداد إحساسه بالفزع، فأخذ يرفع صوته بما يشبه البكاء، بكاء هو كالغرغرة القبيحة لشخص مخبول. بدأ بعد ذلك فجأة يضرب رأسه بالحائط وينوح مع حركاته تلك المؤلمة. بكاء كالغرغرة ونواح مثل أنين حيوان جريح. فلما لمسته يد مجهولة، صرخ هلعاً وفتح عينيه.

كان في ضوء الفجر الكابي، متكوماً في زاوية من زوايا الغرفة الواسعة المصبوغة الجدران ذات الأثاث الجديد، ملتماً على نفسه كحشرة قبيحة في مصيدة، لم يكن يرى بعينيه ولم يسمع إلا صراخه ونواحه وغرغرته. لم ير زوجته تقف فوق رأسه باكية نادبة، ولا سمعها ولا رأى الفتيات يلطمن على رؤوسهن، ولا سمع صراخهن وعويلهن.

كان عبد الستار حميد زهدي داخلاً مرة أخرى في عالمه الثاني الذي لم يخرج منه.

عمان – كانون أول 2005- مايس 2006                                          فؤاد التكرلي