تقربنا الكاتبة والناقدة السورية من نص روائي جزائري استطاع أن يتجاوز تلك النظرة الضيقة لهيمنة صوت المرأة كي يصبح صوتا لشجون الوطن وانكساراته، خصوصا أن الرواية تتطرق لحقبة سوداء في تاريخ الجزائر وهو ما يجعله مفتوحا على القراءة والتأويل.

سيرة ذاتية لآلية الفساد

ماجدة حمود

ثمة ظاهرة تدعو للتأمل في الرواية النسوية، وهي هيمنة صوت المرأة وهمومها على الفضاء الروائي! إذ قلما نجد كاتبة عربية تنطلق بروايتها إلى فضاء أوسع يتجاوز هذا الصوت، فنعايش عبر  شخصياتها هموم الوطن وانكساراته! لهذا بدت لنا الروائية الجزائرية ياسمينة صالح صوتا متميزا، يحاول البحث  عن فضاء أوسع للرواية العربية، فقدمت عن وعي أو ربما عن غير وعي نبض الحياة اليومية للإنسان العربي البسيط وهو يصارع الفقر والإحباط والتسلط، فيدمر هذا الصراع إنسانيته، ويودي به إلى مسالك مظلمة، لا أمل فيها! فنحس بأنه محاصر بالقهر والفساد دون أمل بالخلاص منهما!

بدأنا اليوم نلاحظ تحرر الرواية النسوية العربية من تلك اللغة التي تسجن الشخصية، التي غالبا ما تكون امرأة، في عالم الأنوثة والقهر الذكوري! وأصبحت تعي أن سيرتها الذاتية هي جزء من سيرة الوطن، إذ بدأت تنتبه إلى أن القهر الذي يمارس على الإنسان العربي تصيب شظاياه المرأة والرجل معا! صحيح أن ياسمينة صالح في روايتها ("لخضر" التي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2010) اختارت تغييب صوت المرأة،  لتقدم صوت رجل، كي نعايش عبره هم استباحة الوطن، وقهر الفقر وانكسار الأحلام، وآلية تحول الإنسان الفقير إلى مفصل مهم من مفاصل الفساد ومن ثمّ الإرهاب! هنا نتساءل: لماذا لم نجد المرأة شريكة للرجل في هذا التحول؟ هل تنـزّه الكاتبة المرأة من الوغول في حمأة الفساد! ترى هل الفساد حكراً على الرجل؟

لقد باع (لخضر) روحه لشيطان السلطة المستبدة مثلما باع فاوست روحه لمفستوفيلس! فشكلت هذه الصفقة خلاصا لـ(لخضر) من الموت جوعاً وقهراً، خاصة بعد أن داس على رأسه (أحد رموز الاستبداد) وهو ضابط في الجيش بعد أن خطب حبيبته نجاة!

إن هذه الصفقة لن تحرر (لخضر) وإنما ستوقعه في مستنقع العبودية، إذ سرعان ما يكتشف المتلقي أنها دمرت إنسانيته، فقد أصبح (لخضر) آلة تخدم الفساد وعينا للسلطة المستبدة، لا هدف له سوى كتابة التقارير، التي تسيء لكل الناس الأحرار! وهكذا تصاب الشخصية بعمى الانتقام، وطغيان فكرة (أنا ومن بعدي الطوفان) فتكون النتيجة تدمير الذات قبل الآخرين! 

تضع الكاتبة (لخضر) ضمن ظروف بائسة، تضمن في البداية تعاطف المتلقي مع الشخصية، فقد دمر القهر الأسري والمادي روحه، فاختل توازنه! إذ فقد أمه منذ كان طفلا صغيرا، فتولت زوجة الأب الإمعان في قهره، لم يعرف شيئا من فرح الطفولة، فقد تمّ إخراجه من المدرسة، ليعمل مع والده حمالا في الميناء، الذي يستولي على راتبه، كي يعيل أولاده من زوجته الجديدة! سيزداد إحساسه بالقهر إثر فشله في الحب، لهذا كان من المنطقي تحول الشخص المقهور الذي داسته الأحذية إلى آلة للقهر والدمار، يدوس الآخرين، وبذلك باع إنسانيته لشيطان السلطة والمال! وداس كل القيم، حتى إنه يتزوج (من فتاة عرجاء، مريضة القلب) من اجل أن يرضي رؤسائه في العمل، فيضمن له ممارسة عمله المخابراتي على أهل زوجته وأقربائها! ولعل هذا الزواج يحقق له انتقاما من ماضيه، ومن حبيبته (نجاة) التي خذلته، لذلك يبدو اسم الزوجة هنا (نجاة) أحد الروابط الفنية بين ماضي الشخصية وحاضرها، لهذا شكل عاملا جاذبا لإتمام صفقة الزواج! لعله يحقق نجاته من ماضيه وعاره!

يفلح لخضر (السكرتير والعميل) في رسم صورة نقيضة له، إثر مرض رئيسه في العمل (مدير الجامعة) بسبب سجنه، بعد أن كتب تقريرا عنه، يورط المدير بما هو بريء منه! فنجده يزوره يوميا في المشفى، ليثبت له ولاءه، وليتجرأ ويطلب يد ابنته العرجاء، كي يتابع عمله، ويبرر زيارته له في المنـزل بعد خروجه من المشفى وإحالته على التقاعد!

تتابع ياسمينة صالح في هذه الرواية حقبة سوداء في تاريخ الجزائر، توزع فيها الكثير من أبنائها بين قاتل ومقتول! فكان الصراع بين قوى تدمر الوطن وتتاجر باسمه، سمعنا صوتها وآلية تفكيرها، وبين قوى تريد الحفاظ عليه نقيا، قويا، يقاوم تلك الردة التي تزكي نار الصراع، وتجعل من أبنائه حطبا له! فكان تجار الوطنية من الأغنياء والفقراء الحالمين بالخلاص من فقرهم بأي ثمن، هم من تربّع رأس السلطة، وخطط للعبث بالوطن! لهذا وجدنا الفقير (لخضر) يحدد وجهة طموحه بامتلاك السلطة، التي تعني الجاه والمال! 

صحيح أن ثمة أصواتا في الرواية تعي حقيقة الصراع (المدير: الطيب، الصحفي:الباهي، السكرتير: جمال)  تشكل بدلالات أسمائها وأفعالها نقيضا لـ(لخضر) الذي تصدمنا تصرفاته السوداء، التي تنأى بالشخصية عن كل معاني الخضرة والنماء، التي توحي بها دلالات اسمه، لتفسح المجال للدلالة النقيضة للاسم (السواد) خاصة أن معاجم اللغة تخبرنا أن كثافة الخضرة تدل على السواد، فتنبذ الشخصية كل المعاني الجميلة للخضرة، لتغرق ممارساتها في ظلمة تدمر تلك البذرة النقية التي تكمن في أعماق كل إنسان! وتفسح المجال لحياة متوحشة، تنتـزع منها معاني إشراق القيم، ونبض المشاعر التي تهب الحياة معناها، فتبتعد الشخصية عن كينونتها، حتى إنها لا تصغي لنداء الطبيعة والأبوة، بل تهرب منها، لعلها لا تريد أن تلوّث ابنها، فتفسح له العيش في هواء نقي بعيد عن قذارتها! أو لعلها تريد ألا تتأثر بمشاعر الأبوة، التي تعيد لها إنسانيتها، وتجعلها تفكر بأبناء الآخرين، الذين كانت تخطط لاغتيالهم!

هيمن صوت (لخضر) في الرواية على الأصوات الأخرى، كنت أتمنى لو أفسحت الكاتبة للأصوات النقيضة لـ(لخضر) المجال للتعبير عن ذواتها، فنتعرف على خلجات نفسها مثلما أتاحت الكاتبة للبطل! حتى ابنه (حسين) سرعان ما يتعرض لعمل إرهابي، يدخله في غيبوبة، فيختفي صوته، مع أنه مرشح للمواجهة الفكرية والأخلاقية! فقد أدى ظهوره في حياة (لخضر) إلى تغييره، وعودة إنسانيته إليه، بعد أن ضيّعها في زحمة الكراهية والانتقام وجمع المال، فقد أيقظت مشاعر الأبوة إحساسه بالآخرين مثلما أيقظت ضميره الذي جمّدته أيام القهر والرغبة في امتلاك السلطة!

وكذلك كان صوت المرأة سطحيا، فبدت لنا ملامحها باهتة، وأفكارها مكبوتة، كأنها وجدت لخدمة بشاعة الشخصية، وتأكيد قهرها! حتى إن الكاتبة جعلت المرأة العرجاء عقوبة لـ(لخضر) فنـزعتها من سياقها الإنساني! خاصة حين لم تمنحها الفرصة للتعبير عن أعماقها! كأن كل الشخصيات في الرواية، سواء الذكورية أم النسوية، تدور في فلك (لخضر) تابعة له، فلم نجدها تواجهه، أو تقف ندا له، بل كانت تؤدي دورا مرسوما مسبقا يعزز انتصاراته، أي خساسته!

لقد أنقذ الرواية من شبح الملل لغة الكاتبة الحارة، التي أمعنت في رصد أعماق الشخصية وقلقها، وتحولها من الحالة الإنسانية الطبيعية إلى الحالة السلطوية التي تدوس كل القيم، ثم ترصد حالة العودة إلى إنسانيتها مع ظهور مشاعر الأبوة! خاصة أن الكاتبة أجادت لعبة التشويق منذ البداية تلمح إلى التغيير حين يرى صورة ابنه، ويكتشف بشاعته، فيردد "هل أنا مخيف إلى هذا الحد" فيتحمس المتلقي لمعرفة أسباب بشاعتها، فتأخذه الكاتبة في دهاليز نذالتها، كي يصل إلى حقيقتها في الفصل الأخير من الرواية!

 

* ناقدة وأستاذة الأدب المقارن في جامعة دمشق