يقدم لنا الناقد الفلسطيني المرموق أحد أحدث الكتب لصحفي إيرلندي تابع أحداث الثورة السورية من بدايتها وكان قريبا لأدق تفاصيلها، في بلد تحكمه الشبيحة ويسكنه الخوف والتحدي يستقرأ المقال ملامح بلد فقد هويته ويتساءل عن رهانات المستقبل. ومعه نقترب من كثير التفاصيل التي تكشف لنا صورة أخرى لما يحدث اليوم في سوريا.

ثورة في سورية: شاهد على الانتفاضة

إبراهيم درويش

اعترف بأنني شعرت بالخوف على مستقبل سورية وأنا اقرأ كتاب الصحافي الايرلندي ستيفن ستار "ثورة في سورية شاهد عيان على الانتفاضة"، وهو الصحافي الذي تابع احداث الثورة من بدايتها وتواصل دفعها العام الماضي وحتى الاشهر الاولى من العام الحالي 2012، حيث كان اثناء الثورة يتمشى في شوارع دمشق يتحدث الى المواطنين والمثقفين والعاملين في الفنادق والمصارف والشباب في سوق ساروجة، ويسافر الى عمان في سيارة كان فيها مهرب “للصور ولقطات على التلفون” للقتل الذي صار يوميا في سورية. 

الكل يتحدث عن الوضع
في كتاب “ثورة في سورية” اصبح الحديث عن “الوضع” اي التظاهرات والانتفاضات والمواجهات بين الجيش والمعارضة المسلحة امرا عاديا وجزءا من الحديث اليومي، وعادة ما يتسيد احاديث السكان في المدينة، في المقاهي والاعراس والمطاعم الراقية، التي تأثرت من توقف قدوم السياح الى دمشق والازمة الاقتصادية ـ ارتفاع سعر العملة السورية ومنع الاستيراد، وغير ذلك من المصاعب التي يعاني منها الاقتصاد السوري. 
ستار يقدم صورة عن مجتمع فتح له “الوضع” مساحة من الحرية لم يكن يحلم بها، ففي سورية، الدولة البوليسية لم يعد المواطن يلتفت للوراء ان اراد مناقشة القضايا السياسية، ولم يعد رواد المقاهي يتهيبون من وجود المخابرات وعيون النظام، صحيح ان المخبرين موجودون في كل مكان ليس لانهم حريصون على جمع المعلومات، بل لان خبزهم اليومي هو من مراقبة المواطنين، فالحالة المعيشية جعلت من سائق التاكسي يتنصت على احاديث ركابه كي يحصل على مال اضافي من الاجهزة الامنية التي تحكم البلاد بشكل عملي. ستار يقدم بانوراما من الاخطاء والفرص الضائعة للنظام تحديدا والمعارضة، ويتحدث الى لعبة الدعاية والاكاذيب التي وقعت فيها قنوات تلفازية عالمية واصبح بعضها صوتا لما تقوله المعارضة، وألبت المواطنين الذين لا يدعمون النظام في الحقيقة عليها وعلى ما تعرضه من افلام ولقطات. ولم يترك ستار وهو الذي عمل مدة اشهر في الآلة الاعلامية السورية خاصة في صحيفة “سيريا توداي” ومنها عرف الطريقة التي تتم فيها تغطية الاحداث، وكيف تتم مراقبة ما يكتب من مواد، ويضيف ان الاعلام “المستقل” ممثلا بـ”الوطن” التي اصدرها ابن خال الرئيس بشار الاسد، رامي مخلوف هي صحف تملكها الدولة ولهذا تعبر عن سياساتها مقارنة مع الصحف الرسمية التي تمثل النظام مثل “تشرين” و”الثورة” و”البعث” وهي صحف تكتب عناونيها واخبارها من كادر “صدئ” يتعامل مثل بقية موظفي الدولة مع عمله الصحافي كوسيلة يتعيش منها.

تدمير البلاد
وينقل الكاتب الطريقة التي يعمل فيها الاعلام ويديره عاملون غير مؤهلين موجودون على رأس هذه المؤسسات وفي قلبها لمجرد انهم يعرفون هذا ومن اقارب ذلك، ولانهم من الطائفة العلوية ومن الاقلية المسيحية ممن يتسيدون كل قطاعات الدولة، الامن والجيش وقطاع المال والاعمال والبيروقراطية. واهم ما ينقله ستار هو الدمار الذي حصل لمؤسسات الدولة والتي تبدو من الخارج جميلة ومن الداخل متداعية لم يتم تجديد داخلها منذ اكثر من ثلاثة عقود، اي انها ظلت على حالها منذ انقلاب الاسد الاب، والدمار الذي اصاب بنى الدولة يقرأه بوضوح في وضع العاملين في البنك المركزي السوري، الذين لا تمكنهم رواتبهم من شراء سيارات، ولم يذهب معظمهم، ولا يحلمون بقضاء اجازة في تركيا او لبنان، ينقلون الى مكاتبهم في حافلات سقط زجاج نوافذها وابوابها مخلعة، يعانون حر الصيف وبرد الشتاء. 

ويشير الى الطريقة التي حدث فيها انفصال بين الدولة والمجتمع، على صعيد المعاملة في الوزارات، فبعض العاملين ينتظر نصف ساعة كي ينزل المصعد المتداعي، فيما يصعد الوزير او المدير مكتبه بمصعده الخاص الى مكتبه الفاره. ويرسم صورة كئيبة عن وضع الحمامات والمكاتب المتداعية والملفات المتراكمة لدرجة ان الموظف او موظف الاستقبال يعمل والصراصير تدب الى جانبه.الموظفون مثقلون بمهماتهم، بعضهم يعمل سبعة ايام في الاسبوع ولا يحصل على علاوة في رمضان، كي يشتري الهدايا والكعك والملابس لابنائه المحرومين من متاع من يعيشون في كفر سوسة وبقية الاحياء الراقية. ومع ذلك تخرج ابواق النظام الاعلامية تشكر الرئيس على المنحة العظيمة التي تفضل فيها على رعاياه. والدمار الذي تم لمؤسسات الدولة واصاب المواطنين يبدو في البطالة المقنعة ونسب العاطلين عن العمل في الاحياء الفقيرة. 

وقد ادت سياسات الاهمال للقطاع الزراعي وقنوات الري الى تدمير الاراضي الزراعية والجفاف الذي ادى الى رحيل جماعي من الريف للمدن بحثا عن عمل في سيارة اجرة او في قطاع البناء او بيع بعض المواد في الشوارع وفتح اكشاك غير قانونية. سورية الثائرة يحكمها الفساد، فالمواطنون يعلقون امام الاشارات الضوئية فيما يتجاوز المسؤولون الكبار ومحاسيب الدولة الخطوط الحمراء. يتحدث ستار مع التجار الذين عانوا من قرارات الدولة المتضاربة والمتعجلة “استورد لا تستورد”، ومع ذلك فان التجار الذين يعتمدون على الاستيراد لا يبدأون البيع وتحقيق ارباح الا بعد رحلة من الرشاوى لكل مسؤول عن مرور البضاعة، للشرطي، للعامل في الجمارك، للموظف في المنطقة الحرة، ومن فوقه من المسؤولين. ويقول له تاجر انه حتى لو اشترى بضاعته وحاول تهريبها عبر الجبال من لبنان لدفع للمهربين نفس ما يدفعه من رشاوى. 

الكل يشغل عائلته
ستار يقول انه في سورية اليوم الكل يشغل الكل، فالحاكم على المدينة يشغل اقاربه ويقضي مطالب ابناء عموته وخؤلته، بحيث يتحول مكتب الحاكم الى مكتب تديره العائلة، فان كانت الدولة تديرها الاسد العلوية فلماذا لا يدير المسؤولون مناصبهم من خلال العائلة. وضمن هذا السياق تحول قطاع الاعمال الى تجارة خاصة، ففي مشاهداته من قلب الثورة السورية عن تجارة تديرها العائلة، مشيرا الى مظاهر الاختلاف بين التجار المعروفين ـ العائلات التجارية التي تعمل منذ قرون، والعائلات الثرية التي استفادت من النظام والمزايا التي منحها لهم، جزاء الولاء. 

يحدث ما يحدث في سورية، ولكن ما يكشفه الكاتب هو تناقضات المجتمع السوري ومعه تناقضات الاعلام الدولي الذي لا يفهم ان القصة ليست مجرد قيام نظام قاس ووحشي بقتل شعبه، لكنها معقدة يتحمل فيها الطرفان المسؤولية، قطعا النظام والجيش مسؤول عن استخدام اليد الحديدية في قمع المتظاهرين، لكنه يدخل بعض المناطق بعد ان يقوم متظاهرون بحرق او تكسير المحلات وتهديد التجار، ويقسم مسؤول قابله الكاتب المتظاهرين الى ثلاثة انواع، من له مطالب حقيقية، ومن يريد فقط ان يرشق الامن بالاحذية والعلب الفارغة ومن يدفع للمتظاهرين للخروج من المساجد. 

حرية التدخين ام حرية الكرامة؟
وهنا يشير الكاتب الى غموض كلمة “الحرية” ومعناها الذي يحمل حسا ساخرا ومطالب بحرية “حقيقية”، فحسب مسؤول، المثقفون والناشطون المتعلمون ممن قرفوا من حكم العائلة واختطافها لفكرة الوطن (سورية الاسد)، فهؤلاء يريدون تحولا في الحكم ونهاية لنظام العائلة وتغييرات جذرية، اما من يريدون حرية فوضوية فهم بعض الشباب، فحسب مسؤول، والعهدة عليه، فقد طلب من شيخ مسجد وبعض قياداته الحضور لمناقشة “الوضع” وطلب منهم احضار مجموعة من الشباب لمعرفة مطالبهم. وعندما سألهم ماذا تريدون، قال احدهم انه “يريد ان تكون له حرية التدخين امام والده، وان يكون له الحق في عدم الذهاب للمدرسة وعصيان اوامر مديره”. هذا الفهم التبسيطي للحرية يشبه الطريقة الساذجة التي يفهم بها العالم الخارجي طبيعة الصراع، فلا ينظر اليه الا من خلال لقطات الفيديو التي تنتشر على اليوتيوب، وهذا الوضع تتحمل الدولة جزءا منه لانها منعت الاعلام الخارجي من العمل في سورية، كما انها خسرت الحرب الاعلامية ولم ينفعها جيشها السايبري الذي انشأته لمواجهة حملات الانترنت. والاخيرة اصبحت بطيئة في محاولة من الدولة منع التواصل بين الداخل والخارج، ولم يبق من وسيلة للمواطنين الا “سكايب”. 

من يقول الحقيقة؟
ويظهر الكتاب ان في قلب الثورة السورية “روايتين”، رواية المعارضة المبالغ فيها احيانا، التي تجد من يصدقها في “الجزيرة”، ورواية الدولة التي ظلت تؤكد انها تواجه “عصابات ارهابية” حتى اصبح المواطنون في المدن، يكتشفون ما يحدث في المدن الثائرة، فمن هنا بدأت تخامرهم الشكوك، وبدأت “الغالبية الصامتة” تتساءل عن مصيرها وعلاقتها مع النظام. فلم يعد عبدالحليم خدام، نائب الرئيس السوري المنشق او سعد الحريري او بندر بن سلطان ولا السعودية او تركيا الذين تقول الدولة انهم وراء المشاكل مقنعا للسكان، كما لم يقتنع السوريون برواية القنوات الخارجية. ونواصل القول ان “رواية” الثورة هي صناعة تتنافس عليها “الجزيرة” و”العربية” و”بي بي سي” وقناة الدنيا والتلفزيون الرسمي. وهنا يقول انه في الوقت الذي قد “يستسيغ “ البعض تقارير “العربية” التي تعبر عن نظرة السعودية وامريكا الا انهم او الكثيرين منهم يرون انها مقارنة مع قناة “الجزيرة” محايدة لانها اي “العربية” تعطي مجالا للطرفين لتقديم وجهة نظريهما، ومثل ذلك بي بي سي، وبالمقارنة “الجزيرة” التي خرجت مظاهرات تطالب باغلاق مكتبها وطرد العاملين فيه. فالسوريون الذين اعجبوا بوقفتها مع الفلسطينيين في غزة ولبنان اثناء عدوان 2006 بدأوا يعيدون النظر بتغطيتها لسورية، فهي كما يقولون مهتمة بعدد القتلى، وانها تعيد عرض لقطات قديمة وتزعم انها حصلت عليها من الداخل وتتصل بأي شخص تصدق ما يقوله من دون ان تتفحص صحته. وقال احدهم انه ان كانت الجزيرة تستمتع بنشر الاكاذيب فكيف نصدق تغطيتها لمصر وليبيا. ويقول اخر انه لا يصدق ما يقوله اعلام النظام وما تقوله الجزيرة واخواتها فمن يصدق اذن؟ 

هذا هو اذن جوهر الحقيقة الضائعة في سورية، فالحقيقة متناقضة مع نفسها، والسوريون موزعون بين الخوف من المستقبل لما سيحدث ما بعد الاسد والمشاكل التي ستطرأ اثناء التحول، كما انهم يتساءلون من سيحكم سورية بعد السقوط، وهم ايضا خائفون من الحرب الاهلية، وهي البعبع الذي استخدمه النظام واحيا في النفوس سيناريو الحرب الطائفية ـ اما انا او الطوفان ـ وهو نفس الشعار الذي رفعه مبارك والقذافي وبن علي ـ انا او الفوضى.

الخوف من الاسلاميين
هناك في سورية من يريد رحيل الاسد لكنه خائف من الاسلاميين. ويظهر في الروايات ان هناك رهبة من حكم الغالبية السنية، التي تعمم الحكم الاسلامي عليهم. وهنا يجب ملاحظة ان الكاتب قدم رؤية عن مواقف الاقليات التي تجعل من فهم الوضع السوري امرا معقدا، فالمسيحيون خائفون من نهاية النظام، فقد تمتعوا برعايته واستفادوا من المزايا التي حققوها، فهم مع العلويين تحولوا الى النخبة التي تحكم البلاد، وهذه الاقلية تصدق رواية النظام عن العصابات الارهابية، كما ان العلويين المضطهدين تاريخيا والحاكمين حاليا، الذين يرتبط وجودهم بالاسد وهم اقلية كبيرة العدد مع المسيحيين في دمشق يمثلون عصب النظام، وهناك الدروز الاقلية التي لا تريد الانتفاض، والاكراد الذين يخشون من المستقبل والذين حرموا من حقوق المواطنة، وسارع النظام لمنح البدون منهم حقوق المواطنة مباشرة خوفا من تغير موقفهم. معروف ان العقد الذي ظل قائما بينهم وبين حافظ الاسد انتهى في الاحداث عام 2004 مع قتل النظام للشيخ معشوق الخزنوي وما الى ذلك، فالقمع الذي مورس على الهوية الكردية، مثل الحرمان من تعليم لغتهم في المدارس، واهمال الدولة لمدنهم بحيث حولتهم لعمالة رخيصة يعملون في المطاعم وقطاع البناء في دمشق. وينقل عن كردي خوفه على الهوية الكردية التي ان جاءت الغالبية السنية ستحرمهم منها، ومع ان الاكراد في غالبيتهم سنة الا انهم يغلبون انتماءهم العرقي على الهوية الدينية، تماما كما فعلوا في العراق، وفي تركيا، فهم في العراق لعبوا دورا مهما في مشروع الدولة الوطنية، الذي ولد على انقاض الدولة العثمانية. ويقول كردي انه لا ينتمي للدولة، فكيف ينتمي لسورية تطلق على نفسها “الجمهورية العربية السورية”، هم عرب ونحن اكراد. واخيرا هناك الشيعة الذين على الرغم من اختلافهم الثيولوجي مع العلويين الا انهم متعاونون ومثل الكفين، وموالون للنظام. ويضافالى ذلك الطائفة الاسماعيلية، وضمن الفسيفساء السورية لا بد من الحديث عن الشركس والارمن وكلا الاقليتين عانتا من الاضطهاد. ويفهم من شهادات ابناء الطوائف انها موالية للاسد او تقف على السياج، لكن يجب ان لا نذهب بعيدا في التعميم لان من ابناء الاقليات من يدعم المعارضة، فهناك قسس في حماة يدعمون الثورة، وهناك مسيحيون خائفون ليس من النظام بل من غضب طائفتهم، فجورج صبرا احد اقطاب المعارضة تلعنه طائفته، وعارف دليلة العلوي يعاني من نفس الامر. وقد قابل ستار عددا من المؤيدين للمعارضة ومعظهم من المتعلمين، فهناك طبيبة اسنان اسماعيلية وعلويون حانقون على النظام، ويقول ان هناك دروزا معارضين وليس طائفة معارضة. وفي داخل المعارضة السورية هناك الفلسطينيون في مخيمات اللاجئين الذين حاول النظام دفع اطراف منهم للذهاب الى الجولان من اجل حرف الانتباه لحرب خارجية. ويقول ان احدا لم يلتفت او ينتبه لحقيقة ان فلسطينيين قتلوا منذ الايام الاولى للانتفاضة تعاطفا مع اخوانهم السوريين. في الماضي جمع النظام كل هذه الطوائف ضمن هوية وطنية واحدة، حيث قامت ايديولوجية الدولة على مواجهة اسرائيل ودعم الفلسطينيين، وكانت الغشاء الذي ابقى على الدولة متماسكة، لكن ماذا نفعل او سيفعل السوريون ان تمزق الغشاء، هل ستعاني الاقليات من انتقام الغالبية المهمشة، ام انهم سيعيشون في ظل دولة سلفية تطبق الشريعة، اسئلة من الباكر طرحها، وعلى حيويتها الا انها لا تأخذ التاريخ واحداثه بالاعتبار، اعني تاريخ سورية الحديث، فالسنة محرومون من الحكم منذ عقود.

لماذا نتجاهل مظالم الغالبية؟
وما لفت انتباهي انه عندما يتم الحديث عن مخاوف الاقليات من اغلبية لا زالت تحكمها اقلية يتم تجاوز فكرة ان الغالبية محرومة من حق التمثيل وبالتالي الحكم، ففي الثورة يتم الحديث عن مظالم الاقليات ومخاوفها من المستقبل، لكن ماذا عن مظالم الغالبية التي دفعت الثمن وتدفع اليوم ثمن انتفاضها على النظام، فالغالبية تختصر بالبعد الاسلامي والمتطرف، فدمشق ليست اكثر محافظة من عمان التي قال انها اكثر محافظة من دمشق وان امله خاب عندما وجد مدينة ترتفع فيها صورة الملك والابن والحفيد ولي العهد تماما كما في سورية التي ترفع فيها صور الاب والابن واخيه. ونقطة اخرى في النقاش، لم تطرح فكرة الخوف من تولي الشيعة الحكم في العراق على انهم الغالبية ـ فقد تم تفهم وصولهم للسلطة على انه حق بعد 15 قرنا من الحرمان، وكأن العراق كان تحكمه الدولة الوطنية منذ الفتنة، لم يخف احد من الشيعة الا من خلال ممارساتهم ضد السنة. 

ما علينا يجب ان يتفهم من يريد التعامل مع الثورة السورية تعقيدات هذه الانتفاضة، والا يتسرع للحكم على ما يجري فيها، مع ان الكاتب يشير الى لعبة اللوم التي تتبادلها المعارضة مع النظام، وحتى لو اردنا استحضار التاريخ، فالسنة يقولون ان كل من حذر من انتقام السنة بعد خروج الفرنسيين لم يحدث مع ان العلويين ودولتهم التي اقامها لهم الفرنسيون من 1922- 1936 ناشدوا الفرنسيين الا يتركوهم يواجهون مصيرهم، لم ينتقم السنة من العلويين كطائفة. والثورة الحالية التي تستلهم علمها من ثورة العشرين، والتي قادت للاستقلال انما تستلهم الهوية الجامعة التي قاد فيها جبل العرب وسليمان باشا الاطرش وصالح العلي الثورة. وفي هذا السياق يمكن ان نفهم موقف التجار في دمشق وحلب فهم مثل الطوائف ليسوا كلهم مع النظام ومنهم معارضون، خاصة العائلات التجارية التقليدية التي تعمل في التجارة منذ مئة عام او يزيد، وهناك تجار يعارضون ولكنهم خائفون على مصالحهم، ولا بد من الاشارة الى ان النخب البرجوازية في المدن عارضت الثورة ضد الانكليز في فلسطين وفي سورية، لانها تؤثر على مصالحها، كما ان التجار اثناء الثورة ضد الفرنسيين كانوا يعانون من ممارسات الثورة ـ تهديد وحرق مصالحهم، كما انهم من جهة اخرى خائفون من قمع النظام. وعندما نتحدث عن المجتمع السوري علينا ان نتذكر ان غالبية السكان يعيشون في تجمعات حضرية، مما يعني ان الغالبية الصامتة الموزعة الان بين دعم النظام ودعم الثورة يضيف الى ازمة الثورة نفسها.

الشبيحة
هناك بعد مهم في طريقة سرد النظام للاحداث، فهو يتحدث عن عصابات ارهابية تقوم بترويع السكان، وان الجيش يقوم بواجبه لحماية المواطنين، لكنه لم يعرض ايا من هؤلاء ليثبت روايته، وهنا يقول الكاتب ان بعدا مهما في الثورة لم يتم الحديث عنه الا حديثا بعد المذابح في الحولة والقبيرات وتريمسة، وهذه الطائفة من ابناء النظام او الاجهزة الامنية هي التي تقوم بالفظائع فقد تم استخدامها من اجل تأكيد الحل الامني للقضاء على المقاومة وتكرار درس السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي، عندما سحق حافظ الاسد وشقيقه رفعت الاسد الاخوان المسلمين، ويضاف للشبيحة القتلة والمجرمون ممن اطلق النظام سراحهم في العفو العام فهؤلاء اصبحوا اداة للقضاء على الثورة. والسؤال من هو المسؤول عن الشبيحة. ففي الوقت الذي يشك فيه الكاتب ان تكون للاسد يد في الجرائم التي ترتكبها الشبيحة لكننا لن نعرف من قتل 120 جنديا في جسر الشغور او من قام بتفجير مقرات الامن في كفر سوسة وتفجيرات حلب، مما ادى الى اطلاق الشبيحة من عقالها كي تقطع وتذبح وتقتل بطريقة وحشية، ولكن ما نعرفه انه في دولة تحكمها الاجهزة الامنية فان اي قرار لن يتخذ بدون موافقتها، بل ما لا يمكن استبعاده انه في قصر ماهر الاسد، شقيق الرئيس في دمر تم اتخاذ قرار منه ومجموعة من المسؤولين الامنيين لاطلاق النار على المتظاهرين في درعا، متبعين السياسة الواقعية التي اتبعها حافظ الاسد في السبعينات، وقد برروا عملهم من اجل مكافحة المتطرفين الذين يهددون الدولة ولمنع سقوطها في ايديهم مما يعني خسارة مميزاتهم، ولكي يبقوا في السلطة ويظهروا ان سورية قوية قادرة على الدفاع عن نفسها. 

من يحكم سورية اليوم هم عصابات الشبيحة ولهذا نفهم انه كلما اتفق الاسد مع عنان او وافق على خطة جاءت الشبيحة بمجزرة تحبط الاتفاق، وهذا لا يعني ان بشار لا يتحمل المسؤولية مثل ماهر والنخبة الملتفة حولهما. المفارقة الاخيرة ان ارادة التغيير تحت التهديد كانت سريعة فلم يحتج الرئيس الوقت الطويل للدعوة للانتخابات واصلاح الحكومة واعادة المواطنة لمن حرموا منها، لو قام الرئيس بهذه الخطوات اثناء “ربيع دمشق” لما شهدنا الفصول الدموية الان.

في بلد يفهم فيه المسؤولون الحرية على ان السكان يشترون بطيخة كاملة فيما يشتري المواطن في الدنمارك “سير” واحدا، ويتوفر الخبز للسوريين باسعار معقولة مقابل اثمانه المرتفعة في لبنان، وفي بلد يفهم فيه الشاب الحرية بانها التدخين امام والده، تغيب اصوات الداعين للحرية ويسيل دم الابرياء وينزف الوطن، ويصبح كل شيء فيه مسلحا حتى الوردة تصبح مسدسا كما قال الدمشقي نزار.


Revolution in Syria Eye Witne to the Uprising , Stephen Starr, Hurst& company, London، 2012


 
ناقد من اسرة »القدس العربي«