المسرح «ديالهم» والمسرح «ديالنا»

محمد أبو العلا

على امتداد فسحة زمنية قاربت الأسبوع، حلّت تباعا فرق مسرحية بمدينة خنيفرة متجشمة وعثاء السفر، لتأثيث نسخة ثانية من مهرجانها المسرحي المحتمي من صهد الوقت بأرز "أكلمام " وحب أناس طيبين. تواطأنا فرقا وباحثين لنحدث حدث تصالح عابر، مع قاعات تحن لتصفيق آخر، ولكائنات أخرى تستوطن الروح كما الركح، أجيال مختلفة حلّت بالمكان فأنساها المتخيل شظف زمن رديء، ومكر جغرافيا صنعت للمسرح في المركز مركبات وأبراج مكيّفة؛ تكيّفت معها ثلة (مع الاستثناء طبعا)؛ من أشباه كتاب ومخرجين وممثلين وباحثين عن ظل ظليل، في حين تركت للهامش ؛ هامش تدبير فرجة عصيّة خذلها الدعم، فدعمها غيورون وبسطاء شدّوا على أيدينا لحظة التنكر وطرق الأبواب لاقتراف شغب جميل.

وعلى امتداد دورتين؛ كان السؤال المعاد على هامش عرض أو ندوة، ما الذي ينقص عرضا مسرحيا باذخا أن يكون هنا بخنيفرة؛ القنيطرة، وجدة، أسفي ... ويكون هناك بمكناس؟ هل مواصفات مشروع مسرحي متكامل تفقهه لجان الدعم فقط ويعدمه جمهور صفّق واقفا هنا بكل أطيافه لأعمال ممهورة بمداد أسماء قامات عربية ومغربية مديدة، كعبد الرزاق الربيعي؛ رشا فاضل؛ علي سالم ؛ أحمد لعبيدي وسالم كويندي، وعرق ممثلين شمخوا عاليا؛ كفاطمة الزواني؛ نزهة عبروق؛ عبد الرحمان بن دحو؛ عبد الإله العبدي وفؤاد شبابي .. بعد أن نذروا الجسد قربانا للحظة التماهي؛ ليصنعوا من ليل الأطلس الطويل عرسا مضاء بحكايا وطن عربي ثخين؟ ما الذي يسوّغ إدراج عرض/ عروض هناك تلوك الألسن حد السخرية هشاشة متخيلها؛ وفقرا فنيا مدقعا في إدارة ممثليها حتى إذا انفض الجمع وتفرقت بفرقهم السبل؛ انبروا شاحذين الأقلام لنشر غسيل مقرف على أعمدة صحف سيّارة؛ ذمّا لممدوح أو مدحا لمذموم لم يسعفه حظه العاثر في لحس كعكة التتويج الأخير، وإن كان قد اقتنص من جيوب الشعب إقامة باذخة في نزل من خمس نجوم؟

لقد سالت مياه كثيرة تحت جسر مسرح مغربي معطوب؛ ليفيض "المنسوب" بمسرحيات / حوليات لا تشبهنا، تجهَّز على مضض؛ ليشدّ بها الرحال كل حول نحو قبّة المنوني؛ تيمنا ببركة موسمه الصالح ؛ وتضرُّعا في حضرته بصلاح الركح؛ ودوام المنح وعود ميسّر بحول الله. في حين يعود حضور مغرّر به؛ لاجترار ما تبقى من بقايا حلم ؛ حوّله واقع فرجات خائبة إلى غصّة بطعم بيض فاسد، تمارين مكرورة لكسر جسد جامح، ارتجال كومبارس؛ ومليشيات في القاعة لردع نفر نافر؛ أو ترويض عنيد غنى خارج سرب مخدوع عما تبقى من قيم.

مسرحيات عديدة تقتبس على عجل، أو تختلس بالليل لتعرض بالنهار، سمة من سمات مغرب مسرحي نافع؛ تفنّن بعض فنّانيه في انتفاع سريع؛ فجاءت العروض على مقاس الجيوب بمخيّلات ضحلة؛ فهمت في الحداثة وما بعدها ؛ عريا عاريا من الإمتاع ولغة متحدّرة من أسفل الدرك لا من أعلى الإدراك، متوهمة أن العالمية حائط قصير يكفي تخطّيه للّحاق في خمسة أيام بركب الكبار، في جهل تام أن العالمية؛ هي المحلية وقد صارت متخيلا يخترق الحدود بعبق تراب الوطن، كما "خميائي" رواية أمبيرتو كويلو؛ الذي ساح ضاربا في الأرض بحثا عن كنز، بيد أن كنزه الحقيقي لم يك مدفونا تحت أهرام مصر؛ بل تحت شجرة الانطلاق، مدركا بعد تيه أن الكنز كنزان: كنز معرفي منذور للسفر في سفر الدنيا، وكنز رمزي لا يدركه ناقل؛ بل باحث حقيقي عن معنى أن تكون أنت؛ لا أن تسطو على كنز مطمور خارج تخوم الوطن.

لقد كتب موليير وشكسبير وكالديرون ولوبي ديفيكا عن النبلاء وأحوال الملوك ودسائس الحريم، وكتب جان جنيه وسعد الله ونوس وقاوتي وبرشيد؛ عن البسطاء والغوغاء والشحاذين؛ متخطين التخوم والأزمان بإشراقات لا تخطئ رضى القارئ، ولا تدع مجالا لنظر أو مؤاخذة في شأن تيمة أو شخوص أو موقف، فقد حضن القلب قبل العقل هاملت؛ وأشفق على ناتلدي؛ وتأسى لبائع الدبس الفقير؛ وتماهى مع الريّط وابن دعبل؛ لتحدّرها كذوات عابرة للقارات من كينونة نادرة خصّبها حبر نادر.

لم تستو "بغال الطاحونة" ولا "المرتجلات الثلاث" عروضا مبهرة، وقّعها مبدع أحبه الجميع اسمه محمد الكغاط؛ إلا بعد أن شهدوا مثلما شهدت له خشبة مركب القدس؛ و"باب الماكينة "بفاس، تجلّد الرجل زمن الحر والقر؛ وتأجيله حق الصحة والأهل لتشذيب حوار ناشز، أو ترويض حركة طائشة خارج ما هو مرسوم. كنا نفاجئه كطلبة، مستحضرين أناقة محاضر بالأمس، فيفاجئنا متعبا؛ متربا؛ خارجا للتو؛ من شغب التماهي مع كائنات من نحت يراعه، أو منصتا بتواضع الكبار لمن آثروا "الارتجال" لحظة غرور، أو جهل بوجود النص، فالرجل لم يرتجل؛ إلا بعد أن ترجّل عن صهوة بحث؛ صال به وجال في سفر "ديلارتي" و"فرساي"؛ فجاءت "شميسة لالة" و"مرتجلة فاس" و"السمايري" خارج الستار؛ حوارا مقارعا ارتجال القاعات، بفرجة نديّة مستنبتة في مشاتل الساحات.

في أقسى لحظات ضيق ذات اليد؛ باع المرحوم محمد تيمد أثاث مطبخه المتواضع لتأثيث "كاهنة المطبخ "؛ معطيا درسا لمن يبيع اليوم المسرح كله لتأثيث مطبخ الحياة، عنوان تراجيكوميدي واسم لفن خلف؛ تفنن ممثلوه في الضحك على الدقون؛ لا على المسارح بلعب آخر؛ لم يهتد إلى أبجدياته يوربيدس أو يقعّد "جنسه" أرسطو، لعب يفحمك لاعبوه بحجة "الجمهور عايز كده"، مع أن أبسط "سانداج" قد يكون صادما عند تصويت آخر متفرج أجهزوا على انتظاراته. مفارقة غريبة من غرائب مسرح يستنفر الآن كل أعضائه؛ لتحرير آخر عضو من جسد لم تسقط عنه بعد آخر أوراق التوت، في حين لن يحرّر أعضاؤه مجتمعين جملة عربية واحدة مستقلة عن إنزال فرنسي جاثم على الوجدان والفكر.

في دورة المسرح الجامعي الدولي الأخير باكادير؛ ظل أحد أعضاء فرقة جامعية مغربية ؛ يتلاعب ممطّطا زمن العرض؛ بلغة دارجنسية تمتح من قاموس تحت الحزام ؛ تفتقت بها قريحة "المسرح ديالو"، لا نصا حقيقيا جامعا للهذيان، أو تشخيصا منسجما يشفع لإسقاطات سينوغرافية، فقط صوت ميراي ماتيو الرّائع القادم من زمن آخر؛ غطّى على عزف ناشز لثلة من جنس لطيف متحلّق حول مهاجر مغربي أحس بالحكرة زمن الستينات؛ فانتقم لشرفه بغزو ايروتيكي لتمريغ شرف فرنسا في الوحل. كل هذا المتخيل ما شاء الله؛ تم تصريفه "بدراماتورجيا ضجيج مبهر": صراخ غير مبرّر؛ مونولوج مكرور حد الرتابة؛ وشيء ما يشي بعطب ما في تمثل أبجديات التمثيل لتصريفه دون كوارث. الاستثناء حاضر طبعا؛ جسدته الدراماتورجيا الفائزة بأحسن تشخيص: دراماتورجيا الصمت الواسمة لعرض "القطيعة" من الكوت ديفوار، الذي انتزع دون انقطاع تصفيق الحضور؛ لاشتغاله على تيمة حب راق تحقق دون تكلف بتمسرح راق أيضا: لا ديكور أو توابع أو برويطاج أو مساحيق، فالخشبة عارية إلا من دائرة طباشيرية / سياج رمزي لعلاقة حميمية؛ يسعى لاختراقها رنين هاتف. يدخل الزوج بعد شنآن متبوع بغياب طال، حقيبة سفر في يد؛ وورد أحمر في يد ؛ ليقف خارج الدائرة على مشهدِ متودّدٍ يتقرب لتقويض آخر ما تبقى من وفاء امرأة، وفي لحظة اليقظة من شرود، حسبت الزوجة ـ وهي تقترب من خط الدائرة الفاصل بينها وبين الزوج ـ أنها تقف على جرف هار متوسلة بكل لغات الإشارة والقول، بينما وقف هو متصلبا كمانكان؛ متمسكا بباقة الورد. وفي لحظة قاسية زاد من قسوتها إمعان المخرج في تكريس صمت مضاعف منذر باللاتلاقي، يطلق الزوج بدل رصاصة الرحمة كلمة حب مرمّمة لما انعطب، ليتجاوب من في القاعة مع فن نبيل، مقنع بأداء مدهش، حماسا، قياما، بل انحناء لمسرح صاعد من الجنوب؛ تلاه ليلة الختام تتويج مستحق ( جائزة الإخراج وأحسن تشخيص أنثوي) على ما أحيوه في نخب الحضور من حنين لمسرح قوي بعمق متخيله، بأسئلته ؛ وقيمه.

 لن ينسى جمهور ليلة ختام مهرجان مكناس الأخير؛ عرض "الليلة الزرقاء" من تونس، الذي تابعه بما يشبه مشاهدة L'échange de ping pong حوارا لا إسهال أو استسهال في بنائه ؛بلغت الإثارة فيه أن تفاعَلَ متفرج ضرير؛ رأى بالبصيرة واستنفار حاسة السمع ما لم يره غيره في عروض سالفة، فقد ظل الرجل طيلة العرض يصيح موقعا على استقبال جيد لجملة ؛ أو مستفسرا جاره عن مفردة ديكور أو إكسسوار؛ حتى إذا اكتمل العرض في مخيلته وعلى الخشبة؛ وقّع بحماس زائد عن تلق ايجابي لإبداع راق؛ نفذ دون جواز عبور إلى القلب.

لقد آن الأوان اليوم لمسرح آخر أن يتمرّد خارج مثلث "بيرمودا" الرهيب،مسرح لم ينل حقه من الدعم لكن نال دعم واحترام الجميع، مسرح توقّعه أسماء هَدَّتها تجربة الهواة بالأمس، فانزوت في مدينة قصيّة أو مدشر؛ مواصلة في صمت بناء ما تردّم، ومسرح مبدعين كبار وصاعدين من عيار بوسرحان والهنائي والهواس وشكير والضعيف وهموش وآيت الساقل... الذين يتقاسمون مع من أدركتهم حرفة المسرح مؤخرا نفس الهواء دون الهوى / هوى مسرح آخر خاضوا لأجله حروبا يومية ابداعا واحتجاجا لتعديل عقرب ساعته على وقت آخر بدل الضائع. مسرح مغرب عميق ومتعدد بجغرافية إبداعه وموروثه يصنع هنا وهناك، فهو المسرح "ديالنا" الذي تؤدى لأجله فاتورة العشق لربح عشق الناس،أما المسرح "ديالهم" ؛فمؤدى عنه دائما حتى ولو خسروا الوطن، القيم وكل الناس.

 

  باحث ومدير مهرجان خنيفرة المسرحي