يتقصى الباحث المغربي في هذه الدراسة جوهر العلاقة الخصبة والمعقدة معا بين الذاكرة والزمن، ويقارب هذا التقصي عبر المنهج الفينومينولوجي، لأنه بعد أن يقدم لنا الاستقصاءات الإغريقية الباكرة في هذا المجال يتريث عن أعلام المنهج الفينومينولوجي في تناوله من هوسرل وميرلو بونتي وحتى بول ريكور.

الذاكرة والزمان: مقاربة فينومينولوجية

يوسف أشلحي

لمّا دأب الهم الفلسفي في تصيُّره، تحصيل نظر سديد في جملة من تمام الشواغل الفكرية، مع إبصار أصيل لمسائلها الكيانية والكائنة، وتأصيل النظر في عين المسائل النابتة والمنشرعة أمرها على قصدية مفتوحة. قد تكون الذاكرة، شأن غيرها من المفاهيم، من قدامة ما أنهم به تفكير الفلاسفة تفكيرا. وبدءا من أعماق وعتاقة هذا التفكير، سيشرع النظر والقول من صميمه بخصوص الذاكرة في ربُّو مسترسل. رب مفهوم أصيل، تُلمس جدّته في ضرب التجديد الحاصل جهة آلية النظر وطرائق المناولة. وإن لتقصي منزلة الذاكرة في مختلف الدروب التي فتحتها الفينومنولوجيا، لمن شأنه الكشف عن عمق ودقة السهم الذي رام إصابة الذاكرة في مقتل. فسداد كل منهج يكمن في تلك المكنة القويمة التي له، والتي على أساسها يتم إخصاب وإفتاق المفهوم، فتراه بحسب ذلك في بُدّو لافت وغُدّو عجيب.

فعبارة الفينومنولوجيا Die phänomenologie، تُحمل في دلالتها الأولية على مفهوم الطرائق، فهي لا تنهم، في إقرار لصاحب الوجود والزمان، بالمحتوى الموضوعي، ولا هي بالمرة معنية بموضوع البحث الفلسفي، بقدر ما هي مستحكمة لصيغة "كيف؟". فالمفهوم يطوي في رهانه الأقصى، رهان التوجه قبلة "الأشياء عينها"(1) zu den sachen selbstوإنه لمن العناصر الحاسمة التي تقّوم المنهج الفينومنولوجي وتُحصّل له نجاعته، نجد القصدية؛ التي تحمل في دلالتها "الحرفية" على الوجهة نحو. فكل معيش، وكل سلوك نفساني يتجهه جهة شيء. فالتمثل يراد به تمثل شيء، كما أن التذكر يراد به "تذكر شيء ما". وبالإضافة إلى القصدية، يحضر الحدس المقولاتي، بمعية المعنى الأصلي للقبلي.(2) وهو نفس الموقف الذي سلف وأن أبداه مشرع ومؤصل الفينومنولوجيا، «الوعي بالمعيش القصدي، هو وعي ماهوي بشيء، مثل ما هو شأن التذكر والحكم والإرادة... فكل معيش قصدي، يمكن أن يعبر عن لحظى ذهنية (neotischen) راسخة».(3) إن مأتى كل فهم سديد للفينومينولوجيا، لا يقوم بحسب هوسرل إلا حين أخذها جهة فحص مسدد جهة فحص الجوهر(Essence)، وكل الإشكاليات التي من خلالها يتحدد الجوهر: على سبيل المثال جوهر الإدراك (Perception)، جوهر الوعي (Conscience). فالفينومينولوجيا هي إذن، بمثابة فلسفة تعمل على موضعة الجواهر في الوجود، كما أنها لا تقيم مقاما بديلا للتفكير في الإنسان وفي العالم خارج مقام "واقعيته" (facticité). وإن هي حصلت رتبة فلسفة ترسندنتالية، تنحو نحو فهم حصيلة إثباتات الموقف الطبيعي les’affirmations de l’attitude naturelle، من خلال إعمال فعل التعليق (suspens). فإنها بالمثل، يحذوها طموح المُقام مقام "العلم الحق"(science exacte). كما أنها تعد بمثابة تقرير واف لمكان وزمن العالم «المعيش» (vecus). إنها محاولة جادة لتوصيف مباشر لتجربتنا كما هي، من غير مراعاة للتكوين النفساني والتفسيرات العلية التي اعتاد عليها العالم، والمؤرخ، والسوسيولوجي. فالفينومينولوجيا تجسد وتعرف بمثابة طريقة أو أسلوب، فهي قبل أن ترتقي إلى رتبة الوعي الفلسفيconscience philosophique التام، فقد سلف أن حازت وجودا بمثابة حركة.(4)

ومن يتمعن في إسهامات كل من هوسرل وميرلو بونتي وريكور، يقف على عمق العناية الفينومينولوجية لموضوعات الذاكرة، وما يتعلق بها ويتقاطع معها من إدراك وخيال وصورة، وذلك في إطار إشكالية الزمان. فإذا علمنا على أن الذاكرة تنتمي إلى الماضي، وكيف أن هذا الأخير هو حاضر في الآن بوصفه حدث ماض يتم استحضاره من خلال الذاكرة، فكيف يتم ويستقيم إحضار الزمن في الزمن، بواسطة الذاكرة، بمعنى تزمين الذاكرة؟

1. النبذة الفينومينولوجية الأولية للذاكرة: تداخل الذكرى والصورة
لقد أوتي موضوع الذاكرة معاصرا من النظر الوفير والتحليل المتشعب والدقيق، وبالخصوص من قبل الأبحاث السيكولوجية. بيد أنها كانت، ومنذ عهد الإصباح الفلسفي محط استشكال فلسفي في إطار ارتباطها بمفهوم الزمان، فضلا عن المفاهيم المرتبطة بكليهما أو احداهما جملة أو منفصلة، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة؛ من قبيل الصورة، الإدراك، الخيال. وما صاحب مفهوم الزمان من أفعال تسعى نحو الإمساك به وذلك في أبعاده المختلفة؛ من خلال مفاهيم الترقب، الحضور والغياب. ولعل تداخل وتشابك خيوط هذه المفاهيم شكل أبرز ميسم ساد السياقات الفلسفية الأولية. تكشف الفلسفة اليونانية، وبالخصوص مع أفلاطون وأرسطو على الصيغة التداخلية للذاكرة والزمان؛ سوءا تعلق الأمر بالنظرية الأفلاطونية التي رمت تمثل الحاضر لشيء غائب من خلال الصورة (الأيقونة)، أو تجلى الأمر في الإقرار الأرسطي من كون الذاكرة هي ذاتها زمان. ونفس الإشكالية سيتم معاودة النظر فيها وذلك في سياقات وبوادر فلسفية بديلة، وبالأخص مع الإشكالية الأوغسطينية؛ والمتمثلة في إستحضار الزمن في الزمان (التزمين)، وذلك من خلال فعلي الذاكرة (التّذكر والترقب).

2. التصور اليوناني: فاتحة الإشكالية
تُعدّ الكلمتان اليونانيتين "mnémé" (منيمي) و"anamnesis" (وأنامنيزيز)، وجها التدبير المتداول للذاكرة والتذكر في سياق الفلسفة اليونانية. فكانت القصدية المتحصلة عنهما بادية في صورتين للذكرى: الذكرى بما هي أمر يتبدى بطريقة سلبية في الحالة القصوى، فجعلوا أمر ورودها إلى الذهن مجرد تأثر وانفعال (pathos). ومن جهة ثانية، نجد الذاكرة بوصفها موضوعا لمطلب يسمى عادة إستذكار، تفكر، إسترجاع. كما أن صيغة السؤال التي تنبني عليه المنمي "mnémé"، تتخد هيئة "ماذا؟". في حين أن صيغة السؤال الذي تستوي عليه الأنامنيزيز "anamnesis"، تتخذ هيئة "كيف؟ّ".و بالنتيجة، تتحصل الذكرى في صورتي الحضور والغياب؛ بحيث تكون مرة موجودة ومرة مبحوثا عنها، تقع على مفترقات دلالية وتداولية. فأن يتذكر المرء؛ يعني إما تملك ذكرى أو البحث عن الذكرى.(5)

لقد كان الهم الأفلاطوني من وراء الاهتمام الفائق بالصورة (الأيقونة)، منحصر في تدبر إشكالية حضور شيء غائب. كما أنه تبنى ضمنا إدخال إشكالية الذاكرة في إشكالية الخيال، كيف ذلك؟: فمفهوم الصور(الأيقونة)لوحده، أو مقرونا بمفهوم الخيال، لا يتضح إلا من خلال الحوادث التي تعنى بالسفسطائي. وبالنتيجة فإن، الصورة وضمنا الذاكرة هما منذ البداية محاطتان بالشبه بالنظر إلى محيطهما الفلسفي اللذان تفحصان فيه. كما أن إشكالية الصورة إرتبطت منذ البداية بإشكالية "السمة أو البصمة"tupos ((6. وقد تمثل الدور الحيوي الذي اضطلعت به الصورة (eikon) في محاورة السفسطائي، في حل لغز حضور الغائب الذي كان مطروحا في محاورة ثياتيتوس. إن المهمة الأصيلة التي انطوت عليها مقولتي الصورة والبصمة عند أفلاطون، كامنة في تبيان "إمكانية وجود السفسطة ووجود السفسطائي عينه وهو في موقع معاكس بالنسبة إلى نظرية التذكر التي لم تتعامل إ لا مع الذاكرة السعيدة للعبد الشاب عند(مينون)"(7). وتجدر الإشارة إلى كون الطرح الأفلاطوني الذاكرة، وعلى الرغم من أهميته فإنه لا يخلوا- بحسب بول ريكور- من صعوبات، من أبزها:
الصعوبة الأولى: تتعلق بغياب الإحالة الواضحة إلى السمة المميزة للذاكرة، والتي هي أسبقية (السمات)،الإشارات التي فيها تتلقى كل دلالاتها جميع انفعالات الجسد والنفس المتعلقة بالذكرى.
الصعوبة الثانية: فتتناول نوع العلاقة القائمة بين الصورة وبين العلامة الأولى كما تعالج بإختصار في فنون المحاكاة بالطبع.(8)

أما الحال لدى أرسطو، فلا يخلو بدوره من إسهام معتبر لإشكالية الذاكرة والزمان، وبالخصوص في نص ذو عنونة لافتة (في الذاكرة والتذكر) "De memoria et reminiscentia". وإن كانت جملة من النصوص الأرسطية الأخرى تكشف بدورها نفس العلاقة، وبالأخص مفهوم الصورة، كما هي حاضرة في القول الأرسطي من كتاب النفس، والذي فيه يصرح" تفكر الملكة الذهنية في الصيغ من خلال الصور. وبالمثل، فإنه من خلال المحسوس يتحدد بالنسبة لها، ما يتعين مسايرته أو تجنبه"(9). كما يُوكّد أرسطو على أن تجربة الذهن ذاتها، تقتضي بالضرورة وجود صورة، تكون مشابهة للإحساسات شريطة أن تكون غير مادية.(10)

إن الإشكال المطروح ضمنا في مقال (الذاكرة والتذكر)، هو كيف يمكن تذكر صورة معينة، مع تذكر مواز لشيء مختلف عنها؟ إن كان الحل الأفلاطوني استند في حله للإشكالية التي عالجها على مفهوم البصمة، فإن الحل الأرسطي سيحتكم إلى مفهوم الرسم أو التسجيل، بالاستناد إلى المفهوم الأخير يقع الإحالة إلى الأثر الآخر دون حصول التأثر بما هو كذلك، أي إعتبار الغياب بوصفه آخر الحضور. يضرب أرسطو مثلا يتعلق بالشكل المرسوم للحيوان، بحيث يمكننا أن نقوم بقراءة مزدوجة لهذه اللوحة؛ إن اعتبرنا حالها مجرد رسم مرسوم في حد ذاته على ركيزة معينة، أو اعتبرنا ها صورة(أيقونة). وكلا الأمران يستقيمان، لأن التسجيل يقوم بتنفيذ المهمتين معا.(11)

بيد أن المساهمة الأساسية لأرسطو، تكمن في التمييز بين الذاكرة (منيمي) وبين التذكر، وهو نفس التمييز الذي سنجده حاضرا فيما بعد تحت صيغتين بديلتين وهما؛ صيغة الاستحضار البحث، وصيغة المجهول المنذور للاستذكار (التذكر). الشيء الذي مكنه من إقامة خط فاصل بين حضور الذكرى وبين فعل التذكر، كما نمّ الحل الأرسطي عن أول وصف عقلي مقبول للظاهرة الذاكرية للتذكر (الاستذكار)،الذي يقف في مواجهة الاستحضار المحض الآتي إلى الذهن. هكذا تمكن أرسطو من تبيان طريقة عمل الذاكرة اليومية، من خلال مقولتي الصورة والبصمة . بشكل لم يعد يشكل استعصاء، بقدر ما يجد هذا الأخير حله في صميمه.(12) وإجمالا للموقفين الأفلاطوني والأرسطي، يمكن القول أن اللمسة البارزة التي جاد بها أفلاطون؛ تكمن في حمل الصورة (الأيقونة) إلى نطاق المحاكاة، وذلك من خلال التمييز بين إيمائية خيالية خادعة في استهدفاها وبين إيمائية أيقونية مستقيمة، صحيحة وحقيقية. بينما عمل أرسطو في مقاله حول الذاكرة والتذكر، وصف الاستذكار بأنه بحث، في حين رأى في الذاكرة مجرد تأثر. فلا عجب أن يشكل تراث هذين الفيلسوفين الكبيرين حسب بول ريكور- جهدا تأسيسيا لما سيرد عند اللاحقين، من قبيل مجهود الذاكرة عند برغسون، وعمل إعادة التذكر عند فرويد.

3. أوغسطين: الزمان النفسي
ترتبط الذاكرة عند أوغسطين، ارتباطا وثيقا بمفهوم مخصوص للزمان، بما أن الصور الذاكرة هي استعادة صورة زمنية ما داخل الزمن، أو قل هي استحضار لصورة زمنية داخل الزمن . مع ذلك، فإن هذا الاقتران يطرح حرجا أساسيا عندما يُستفسر عن ماهية الزمان "tempus". بفعل الخلفية الأنطولوجية المفارقة للغة، تبقى الدلالة الزمنية متأرجحة بين خاصيتي الإيجاب والسلب، الوجود والعدم. من خلال استحضار أحوال، "المستقبل ليس بعد" و"الماضي لم يعد موجودا" و"والحاضر لا يلبث"، نستحكم الخاصية العدمية. ومن خلال استحضار صيغ، " الكانية" و"والكائن" و"ما سيكون"، نستحكم المعطى الوجودي. يحمل أغسطين دلالة الزمن على الحاضر، بشكل يقطع مع زمن الأفعال الثلاث، (المضارع، الماضي، المستقبل). من خلال هذا الحاضر وحده، يكتسي الزمن أبعاده الثلاثة، "الزمن الحاضر للأشياء الماضية، والزمن الحاضر للأشياء الحاضرة، والزمن الحاضر للأشياء المستقبلية". وما يقترن مع كل ضرب من الزمن من اقتران ضروري بين الذاكرة (الماضي)، والتجربة (الحاضر)، والترقب (المستقبل)(13). ما لبثت مفارقة وجود الزمان وعدمه، أن قادت أغسطين لطرح مسألة أخرى جد مركبة، وهي مسألة القياس"measure". لئن كان قياس الوجود بالأمر المعقول، فكيف يمكن قياس ما هو غير موجود. لكن سرعان ما سيتنبه أغسطين، أن أمر القياس ما عاد يرتبط بالماضي والمستقبل في حدهما، بقدر ما يتم استحضارهما معا في الحاضر من خلال فعلي التذكر والترقب. بفضل ذلك "سيتمكن من تخليص هذا اليقين الأولي (يقين قياس الماضي والمستقبل) من نكبته الظاهرة، عن طريق فكرة المستقبل الطويل والماضي الطويل إلى توقع وذكرى"(14). وتجدر الإشارة أن الحاضر لم يستثنى من إشكالات؛ ترتبط بالأخص بعدم الثبات والإمتداد، وإمكان إدراكه في ذاته باعتباره آن instant، لا ينقسم إلى أجزاء أصغر وأدق. ونفس الأمر حين يكون حاضرا لا تكون له ديمومة، كما أن حل إشكال وجود الزمان وعدمه، من خلال فكرة الحاضر ثلاثي الأبعاد ظل دائما مطروحا، مادام أن لغز قياس الزمن لم يتم فكه، وأن مسألة امتداد النفس "distentio animi" لم يتم الحسم فيها.(15)

إن كان اقتفاء كيفيات وماهيات الإنعطاء وظهور الزمن وعناصره، خلّف ما خلف من الإشكاليات. فإن توجيه فكرتي التذكر والترقب على دفة سؤال وجيه "أين؟"، يكمن مسعاه في تعيين موضع الأشياء في الزمن، بما من شأنه تحصيل أفاق حيوية. فمن خلال فعلي التذكر والترقب، يتم تحصيل نمطين من الصورة؛ وهما الصورة المنطبعة (الماضي) والصورة المتصورة (المستقبل)، كيف ذلك؟ فالتذكر يحيل على معنى يفيد تملك صورة عن الماضي، لكون الصورة هي الانطباع الذي تركته الأحداث، والانطباع العالق في الذهن. كما أن التنبؤ ذاته لم يعد بالأمر المستعصي، فبفعل توقع الحاضر تكون الأشياء المستقبلية متاحة بوصفها أشياء ستأتي، وخصوصا أنه يوجد من الإدراك السابق ما يمكّننا من تحصيل التنبؤ بها وسبقها. هكذا فإن التوقع هو نظير الذاكرة، بما أنه يكمن في صورة توجد سلفا على نحو سابق لحدث غير موجود بعد. مع هذا فإن الصورة ليست انطباعا يترتب عن الأشياء الماضية، بقدر ما هي علامة أو أمارة على أشياء مستقبلية، يتم على هذا النحو أو ذاك استباقها، أو التنبؤ بها، أو تصورها، أو توقّعها، أو تخيّلها سلفا. فمن خلال ارتهان الذاكرة ؛ سواء جهة الأشياء الزائلة، أو جهة الوقع الأشياء القادمة، يقع تلافي المأزق الذي كان مطروحا آنفا، عندما تم حصر الذاكرة والتوقع في حاضر ممتد وحده.(16)

ويمكن إجمال القول في أصالة المعالجة الأوغسطينية، في كتاب الحادي عشر من "الاعترافات"، في الرابطة الكائنة بين الموضوعتين الأساسيتين للبحث: بين حاضر ثلاثي الأطراف، والذي حل لغز الكينونة التي تفتقر إلى الكينونة. وقضية امتداد النفس، لتي أتت لتحل اللغز الثاني المتعلق بامتداد شيء لبس له امتداد. ليتبقى من ذلك، إدراك الحاضر بأبعاده الثلاثة بوصفه انتشارا، وإدراك الانتشار بوصفه انتشار الحاضر بأطراف ثلاثة. وفي ذلك- حسب بول ريكور- مكمن العبقرية الأوغسطينية، التي سيقتفي في بعض منها الأثر المعني، كل من هوسرل (Husserl) وهايدغر(Heidegger)، وميرلوبونتي(Merleau-Ponty).

4. الذاكرة والصورة: تأويل المختلف
لقد تبين من خلال استقصاء جزئي لتاريخية إشكالية الزمان والذاكرة، بنية المناظرة وعمق الأجوبة المقدمة؛ منذ المرحلة اليونانية، وتوسطا بالمرحلة السيكولائية. كما أن الإشكالية ستطرح ضمن هيئة تفكير مستحدثة، تمس مفاهيم الإدراك، الحس، الخيال والذاكرة وما قاربها (ديكارت، هيوم، لوك، كانط ...إلخ). كما ليس بخاف عن الأنظار المدققة لعين الإشكالية، من الإنعطاف الذي لحق بهيئات النظر إليها وطرائق إنارة ذات المفاهيم بعدة فلسفية فائقة الجدة، شأن التأويل الفينومينولوجي الذي إبتدره هوسرل، ليستأنف على منواله كل من لافيناس، وميرلوبونتي، وريكور.(17)

5. التزمين الداخلي للذكرى وضروب تصور الوعي:
 
في سياق تحليلاته الفينومينولوجية المترامية النظر، سيحظى التذكر وما يرتهن به من موضوعات الإدراك، وأصناف الإحضاروالتخييل، بنظر حصيف من قبل هوسرل، وذلك بالارتباط مع تحليله لتبديات الزمن الموضوعي في كتاب (فينومينولوجيا الوعي الباطني بالزمان). فقبل تدقيق النظر في حيثيات الوعي وأنماط الوعي، يتعين التمهيد للقول بقول وجيز حول الزمن، ومعالم الاختلافات الماهوية بين الصورة والذكرى.

يؤكد هوسرل منذ وهلة الأمر على سمتين أساسيتين للزمن، وهما الموضوعية والمفارقة. فالسمة الأولى تقتضي حمل الزمن ليس جهة المماثلة بينه وبين زمن العالم، كما هو حاصل في التجربة. بقدر ما يتعين حسبه ضمن مدار الزمان الباطني، أي زمن صيرورة الوعي. ومثل ذلك، الوعي الحاصل بحدوث حدث صوتي معين، أو الحدوث الحاصل عن حدث نغمي معين وارد لسمع حاضر. إنه من شأن ذلك، حدوث تعاقب بديهي وحقيقي، مستعصيا عن الشك وممتنعا عن النفي. أما السمة الثانية فهي تحصيل حاصل عن الأولى، فالزمن الموضوعي شأنه في ذلك شأن موضوعية المكان، ومعهما عالم الأشياء الموضوعي، وعالم الحدوث الواقعية، تكون موسومة بميسم المفارقة. وليس هذه الصفة تُحمل جهة "النومن"(الشيء في ذاته)أو تشحن بمسحة نسكية، بقدر ما هي تحمل على طابعها ظاهري؛ مثل ما يقال : المكان الظاهري، والواقع المكاني الزمني الظاهري، والصورة المكانية الظاهرة، والصورة الزمانية الظاهرة، بحيث لا واحدة منها نستطيع أن تكون معيشا Erlebnis.(18)

أما استحضار الصورة عند هوسرل، فيرتبط بشكل وثيق بالإدراك المعطى في الحاضر. فكل تصور معطى، يكون بدوره موضع ارتباط لمتصل من التصورات، بحيث يكون كل تصور يستعيد فحوى تصور قديم، بالموازاة مع الطرح المتتالي كل تعلُّق سالف على ذلك التصور." فحين يتكلم هوسرل عن الصورة فإنه يفكر في نمط الاستحضارات التي تصف شيئا معينا بصورة غير مباشرة: مثل رسم شخصي، لوحات، تماثيل، صور فوتوغرافية .. وهذا الضرب الفينومينولوجي للصورة، طرح في صورته المبسطة مع أرسطو، عندما بين إمكانية قراءة اللوحة أو أي رسم، بوصفهما صورة حاضرة أو كصورة تدل على شيء غير واقعي، غيرحقيقي، أو كشيء غائب".(19)

وبخصوص المنزلة الإجمالية لتصور هوسرل للذكرى، فهي ترد كتعبير نوعي للمثول، وبالأخص كذكرى أولى أو استبقاء. مع التأكيد على النمط العملي الذي يميز بين الإنتاج وإعادة الإنتاج، الحاضر والمستحضر، الوصفي من اللاوصفي. بفعل الترابط الموضوعاتي( الشيئاني) للمعيوشات التي تم إستنطاقها، تم استبعاد كل احتمال وارد للكلمة بين الذكرى وبين الصورة بالمعنى المعطى للكلمة Bild. مع هذا الترابط، فإن بول ريكور يبرز بعض الفروقات الكائنة بين المجلد العاشر والثالث والعشرون من "الهوسرليانا"؛ ففي هذا الأخير تبرز الاختلافات بين أعضاء أسرة الاستحضارات، وبالتالي التغييرات التي تلحق بالحضور للترابط الموضوعاتي. كما أن مفتاح الحضور الحالي يظل مغايرا لمفهوم الحاضر الزمني، وكذلك تبقى موضوعة الآن yetzt غائبة من دون تأثير على التحليل الموضوعاتي للذكرى. فيما يلحق الثاني (فينومينولوجيا الوعي بالزمان الباطني)، الاختلاف على الأنماط الزمانية الخاص بمثل هذا النوع من الاستحضار الذي هو الذكريات.(20)

نمضي في تحليلنا، جهة استقصاء الوعي وما يتعلق بالوعي في علاقته بإشكالية الزمن. نجد أنماط ظهور الوعي، يتخذ محتوى حقيقيا متعلقا بالآن الحاضر، قد يكون مشتملا على أصوات محسوسة، يكون وضعها في الأخذ المصيّر موضوعيا بأنها أمور حاضرة ومدركة، دون إمكان لها بوصف الأمور الماضية. أما الوعي المسكي، فإنه يشتمل اشتمالا حقيقيا على وعي حقيقي لماضي الصوت، دون إمكان تجزيئه إلى معطى حسي وأخذ تذكّري. لهذا فإن التذكر (المسك) يختلف تمام الاختلاف عن كل وعي بالصورةالآنية، فالذي يكون موضوع تذكر على التحقيق لا يكون موجود في الآن، وإلا كان حاضرا وما صار ماضيا. وفي التذكر لا يعطى على أنه لآن، وإلا صار التذّكر (المسك) إدراك؛ أي انطباعا أصيلا.(21)

إلى جانب التذكر الأول (المسك)، يتحدث هوسرل عن التذكر الثانوي أو ثان التذكر؛ إذ أنه إذا انقضى أول التذكر، فقد ينبثق انبثاقا ثانيا تذكّر ما لعين الحركة، أو عين النغم. كما إذا علق بالإدراك الفعلي أول التذكر، وذلك أثناء السيلان الإدراكي، أو في فعل جمعي متصل بعد انقضاء السيلان الإدراكي كله، فلا يذهب إلى حمل التذكر على جهة الخيال (كما حصل الأمر مع برنتانو Brentano: عندما جعل الإدراك الفعلي منشأه الإحساسات، أما التذكر فمنشأه الخيالات)، إذ كما يمكن أن يعلق بإدراك ما إحضار ما ثان تعلّقا أوّليا. فقد يكون حدوث ثاني الإحضار حدوثا منفصلا عن الإدراك، ولا يكون موصولا به، وحينئذ يكون الحادث ثاني التذكر. ويضرب هوسرل بالنغم أمثل تعبير عن ذلك "نجد أن تذكر النغم هو عبارة عن متصلات زمنية وأخذية، فليس النغم المحضر ثاني الإحضار يتصرم حتى يتعلق مسك بهذا السماع، ليبقى صوته لآن ما، كما ستبقى الإتصالية الأخدية، ولكن ليس بما هو أمر مسموع. إن النغم أول ما ينقضي يبطل إدراكه وحضوره، ولكن لا يبطل وجوده للوعي".(22) لهذا فالحاضر الزمني في ثاني التذكر، فهو حاضر محضر ثاني الإحضار ومتذكر ثاني التذكر. كما أن الماضي، هو ماض محضر ثاني الإحضار، ومتذكر ثاني التذكر. ولا يكون ماضيا مدركا، أو معطى، أو محدوسا حدسا أوليا. وثاني الإبداع هاهنا ليس بمحض تكرار، والفرق بينه وبين أول التذكر ليس يتعلق مثلا بأن الثاني إنما هو فعل إبداعي ثاني الإبداع فحسب، والأول إنما هو فعل إبداعي ثاني الإبداع لثاني الإبداع. بل الفرق الموجود بينهما فرق في المحتوى ضروري. وتجدر الإشارة أن الإحضار ثاني الإحضار، فهو فعل متعلق بالمشيئة؛ بحسبها يمكن تحصيل الأمر المتصور فيه إما تحصيلا عاجلا، أو تحصيلا بطيئا، وإما تحصيلا بينا، أو تحصيل غير بين.

 أما ما يخص الإدراك في تمييزه وتمايزه عن المسك وثاني التذكر، فيبسط هوسرل الكلام فيه من خلال نفس أمثول النغم؛ فهذا الأخير يوصف بالنغم المدرك، وليس يدرك منه حقا إلا الآن الحاضر. فإذا كان القصد يشير إلى النغم بوصفه موضوعا كليا، فليس هناك حينئذ سوى الإدراك. وأما إذا كانت إشارته إلى الصوت المفرد بمجرده أو إلى جزء منه، فسيكون هناك إدراك ما كان المشار إليه مدركا، وفي حالة انقضائه سيكون هناك مجرد مسك(23). فالإدراك (الانطباع)، إنما هو عبارة عن طور في الوعي يكون مؤسسا للآن المحض، أما التذكر فهو عبارة عن كل طور غير ذلك الطور الأمثل. بيد أن ظهور الآن ليس بنفس السوية؛ فظهورها في ثاني التذكر ليس هو ظهورها البتة في الإدراك. فالآن في ثاني التذكر لا يكون آنا مدركا، أي معطى في شخصه، بل يكون محضرا إحضارا ثانيا.

فالمقصود بالإدراك، إنما هو فعل شأنه أن يجعل شيئا ما بعينه ويحضره لنا في شخصه، أي فعل شأنه أن ينشأ موضوعا ما إنشاء أصليا. ومقابل الإدراك بهذا المعنى، هناك ثاني الإحضار الذي ليس شأنه أن يحضر الموضوع في شخصه، بل يحضره إحضارا ثانيا؛ إما على نمط صورة، أو ليس على نمط الوعي بالصور حقيقة. على خلاف التذكر، الذي بهتم بالحدث الذي مضى، أي الماقبل. إذ لا سبيل إلى حدسه حدسا أوليا إلا في التذكر؛ على معنى أن حقيقة أول التذكر إنما تدفع إلى أول الحدس، هذا الذي قد مضى من قريب. كما كانت حقيقة إدراك الآن إنما تدفع به إلى أول الحدس. أما ثاني التذكر، ونفس الأمر بالنسبة للتخيل، فليس يدفعان إلا بأمور محضرة إحضارا ثانيا.(24)

أما بخصوص دور التخيل، فيحدده هوسرل كالآتي" التخيل هو قوة مولدة على نحو مخصوص ... إنه بحق الوحيد المبدع لجزء تصوّري هو بحق جديد، أي الجزء الزمني". لذا لا يتوانى هوسرل من مقارعة كل إدعاء من شأنه أن يضفي كل صفة تجديد على التخيل، وأن هذا الأخير محض تكرار وإظهار للأمور التي تقدم وأن أدركها. فلنا أن نتلمّس الجانب الإبداعي للتخيل أثناء التفاته إلى الذاكرة الظاهرة ظهورا آنيا، فيأخذ منها ما قد يصنع به تصورات المستقبل على نمط يشبه نمط التصور الخاص بأنواع لونية ولحنية جديدة، انطلاقا من نماذج وعلاقات مدركة سلفا.(25) فالتخيل إنما هو وعي موصوف بكونه فعلا محضرا ثاني الإحضار، أي مبدعا ثاني الإبداع. ولا أحد يجادل في وجود زمن محضر ثاني الإحضار، ولكن هذا الزمن يرد اضطرارا إلى زمن معطى إعطاء أصليا، بما أن التخيل ليس البتة بوعي شأنه أن يعرض موضوعا ما على أنه معطى في شخصه. وفي مرمى تحصيل قصد مفهوم للتخيل، عمل هوسرل على جعل فعل التخيل موضوعا في حد ذاته للإدراك؛ فإدراك التخيل هو وعي معطى إعطاء أصليا لتحصيل معنى ما المتخيل. وهو في إدراك هكذا إدراك، إنما ملاحظة المتخيل ومعاينته في وعي لما يكون معطى في شخصه.(26)

ودفعا لكل خلط بين ثاني الإحضار والتخيل، نلفي تمييزا هوسرليا يميز بينهما. فليس كل ما يقال عليه اسم ثاني الإحضار في معناه المجمل جدا، يقال عليه اسم التخيل في معناه المجمل جدا والمتواطئ تواطؤا ناقصا. يمكن الإقرار بوجود ذكريات لا حدسية، وثاني إحضارات أخرى لا حدسية، لا تسمى مطلقا بالخيالات. وثانيا أنه إذا كان الفعل الإحضاري ثاني الإحضار فعلا حدسيا، فمن الجائز القول بأن التذكر إنما هو يعرض للتخيل، ولكنه يمنع ضرورة جعل التذكر بعينه شيئا وحدا هو والتخيل. بحيث أن الإحضار ثاني الإحضار قد يكون إما ثاني إحضار لشيء في شخصه، وقد يكون تصويرا ما له في الصورة؛ أي في المشابهة. حينئذ قيل أن المحضر ثاني الإحضار إنما يعرض في هيئة الصورة التخيلية، أو قيل أنه مصور في ظهور ما تخيلي. وآنذاك تكون الصورة إنما أمرها راجع إلى التخيل، أما فيما يتعداها؛ أي في علاقتها بالشيء المصّور بالصورة، فهذا الأمر لا يدخل ضمن مشمولات التّخيل.(27) بالرغم مما يوحى من تقارب بين التخيل وثاني الإحضار إلا أن هناك ظهورات إدراكية وأخرى تخيلية، والثانية إنما تنطوي على مادة أخذية هي الصورة الخيالية، أو الإحساسات المغيرة على جهة الإحضار أو الإحساسات المغيّرة على جهة الإحضار لها ثاني الإحضار. ويمكن إجمال القول عن الوعي، على انه عبارة عن إحساس يأتي في صورة خيالية. وكل وعي كما هو في معناه الواسع، فهو أمر مدرك ومستدل عليه؛ أي هو متذكر، ومجرب بنحو من الأنحاء. ولكن هذا الوعي بما هو كذلك، فإنه لم يقم له صنو في الصورة الخيالية.(28)

تتميما لما سبق، نعرض الآن لضروب الوعي بأفعال الزمن، وكيفيات الاقتران، ووصف الموضوعات الزمنية وإنشائها. فيما يخص أنماط الوعي بالزمان نجدها بادية في ضروب ثلاثية: يظهر في المقام الأول الإحساس الذي هو فعل إحضاري، والمسك ومقبل المسك المتداخلين تداخلا جوهريا مع الفعل الأول، ولكن هما مما يمكن عدّهما بالمنفصلين. أما الإحضار ثاني الإحضار، فهو ظاهر في هيئتين؛ إما الإحضار ثاني الإحضار الإثباتي (التذكر) والإحضار ثاني الإحضار لما يمكن أن يصحب أو يلحق (الترقب). وفي المقام الأخير نجد ثاني الإحضار الخيالي.

وفيما يتصل بالاقتران الزمني، يرفع هوسرل كل تطابق بين زمنية الإدراك وزمنية الأمر المدرك، فالموضوع المدرك يوجد قبل وجود الإدراك، ويبقى موجودا بعد ذهاب الإدراك. غير أنه من الجائز القول بأن الموضوع الإدراكي هو متعلق الإدراك ممكن متصل بكون مساوق له من أول زمنه إلى آخره. ويتضح هذا الفصل الزمني أكثر بين الحد الأصلي للإدراك والحد الأصلي للموضوع، غداة بيان الشروط الخارجية الجارية أحكامها على ظهور كل معطى إحساسي، كما هو متمثل في الإثبات الطبيعي. كما أن التحري الباطني عن حقيقة الإدراك والأمر المدرك، يضع مرتبة الإدراك في وضع لاحق للأمر المدرك، وليس مقترن به اقترانا زمنيا.

هكذا تصطف منازل الموضوعات الزمنية، في صيغة الإدراك المشهور المتعلق بالموضوعات التجريبية الماثلة. وفي ثاني الأمر النظر الفينومنولوجي، الآخذ بالموضوع بنحو الظاهرة، والإلتفات إلى الإدراك وتعالق الظهور والظاهرة معا؛ بحيث يكون الموضوع الإدراكي إنما ظهوره في الزمن الذاتي، والموضوع التذكري إنما ظهوره في زمن ذاتي متذكر، بينما الموضوع التخييلي(الموضوع الترقبي) إنما يكون ظهوره في زمن ذاتي مترقب، والموضوع التذكري إنما ظهوره في زمن ذاتي متذكر، بينما الموضوع التخييلي (الموضوع الترقبي) إنما يكون ظهوره في زمن ذاتي مترقب.(29)

وبخصوص بُدوّ الصورة في سياق التصور الفينومنولوجي للزمن، فتظهر في صيغة انسياب متصل من الصور؛ بحيث أن كل طور للصورة في هذا الانسياب، إنما يناسبه الطور الموضوعي الظاهر لزمن الموضوع أو بعبارة أدق، يناسبه الطور الموضوعي لجهة ما في الموضوع الذي يكون حضوره في الصورة. كما أن الصور في نمط هذا الظهور إنما هي تُحضر المكان الموضوعي بطريق ما قد انطوى عليه هذا الظهور من معنى المكانية، ويحظر شكل الموضوع بطريق ما انطوى هذا الظهور من معنى الشّكلية. وتحظر معنى المقدار بطريق ما انطوى عليه من معنى شبه المقدارية، كذلك فهي تُحضر الزمنية الموضوعية بطريق ما قد انطوى عليه هذا الظهور من معنى الزمنية.(30) كما أن كل حد مخصوص في الصورة فوضعه الزمني هو عين وضع كل حد آخر يكون مقترن الوجود به في الصورة. والصورة بأسرها هي ذات وضع زمني، وكل صورة غيرها هي ذات وضع زمني آخر. ومن الضروري أن يكون كل وضع زمني مختلف في انسياب الصور المتقدم عن كونه تجريبيا، كما أنه يحضر وضعا زمنيا مختلفا أيضا، وإلا امتنع ظهور الشيء الزمني على أنه سلسلة زمنية موضوعية.(31)

6. الإرادة والذاكرة: فحص تأويلي
يرتبط الطرح الفينومنولوجي للذاكرة لدى بول ريكور، ارتباطا شديدا بخلفية فلسفية تستحكم مفهوم الإرادة، بوصفه فعل أساسي مقوما لقصديات الذاكرة، وكيفيات ظهوها في تعالق الوحدات الذهنية (noese) والمستذهنة (noeme)،" تفتح فينومنولوجيا الذاكرة قصدا بتحليل يتجه نحو موضوع الذاكرة، الذكرى الماثلة أمام الذهن. ثم نعبر مرحلة التماس الذكرى والسوابق والتذكر، وأيضا من الذكرى المعطاة والممارسة، إلى الذاكرة المتفكرة، ذاكرة الذات عينها".(32) وابتنى ريكور فحصة الفينومنولوجي للذاكرة على ضوء سؤالين هاديين؛ ممن هناك ذكرى؟ ولم هي الذاكرة؟ على خطى مضادة من أخذ وجهة البحث على خطى السؤال الفلسفي الذي يميل إلى تغليب صيغة "من؟"، فإن ريكور آثر استشكال الأمر مُنطلقا من سؤال "ماذا؟". فعلى الرغم من وجهة تقليد فلسفي يميل إلى تغليب الطرح الأنوي للذاكرة، من خلال إعطاء الأولوية للصيغة الأولى من السؤال. فكان من وخامة هذا التصور جرُّ الظاهرات الذاكرية إلى طريق مسدود؛ بحيث ما أن يتم إدخال مفهوم الذاكرة الجماعية حتى يبدأ الحرج، فإذا كان موضوع الذاكرة هو الأنا بصيغة المتكلم المفرد فإن مفهوم الذاكرة الجماعية لا يمكن أن يكون سوى ضمن مفهوم تماثلي، بل ضمن جسم غريب في فينومنولوجيا الذاكرة، تبعا للمنزلة التي تتخذها ضمن المعمار الفينومنولوجي. لهذا يتعين في كل مذهب فينومنولوجي أصيل، أن تأتي المسألة الأنوية، بعد كل سؤال قصدي، والذي هو بالضرورة سؤال الترابط بين الفعل noese، وبين الغاية المستهدفة noeme.( (33

وإزالة منه لكل التباس لإشكالية الصورة والزمان، ونقد نقد المقاربة المعطاة للذاكرة من خلال ربطها بالخيال. فإن الحضور الذي سيشكل قوام تمثيل الماضي يتبدّى في هيئة حضور صورة. فحينما يتم تمثل حدثا ماضيا أو أننا نتصور؛ بمعنى تحصيل صورة، فإن هذه الصورة يمكن أن تكون شبه بصرية أو سمعية. ولا يخفى حجم الإحراج الذي ترتّب عن إلحاق الصورة بالخيال، والذي يبدو أن تخطيه ليس بالهوان في شيء، وذلك راجع إلى تجذّر هذا التقليد الفلسفي، والذي يتصل بالأخص بصورة مذهلة بالتأثيرات الآتية من التجريبية الإنجليزية، وكذلك العقلانية الكبرى المستمدة من الديكارتية. مما جعل الذاكرة محض مقاطعة تابعة للخيال، الذي كان قد عُومل منذ أمد بعيد بكثير من اللبس. لذا سيعمل ريكور إلى تدشين صيغة حاسمة ضد هذا الطرح الموجود" علينا ضد تيار هذا التقليد الذي يحط من شأن الذاكرة ويعاملها على هامش نقده للخيال، أن نقوم بعملية فصل بين الخيال والذاكرة إلى أبعد ما نستطيع أن نذهب في هذه العملية. إن الفكرة الرئيسية هنا هي وجود اختلاف نستطيع أن نقول عنه أنه جوهري استهدافين قصديتين: إحداهما وهي قصدية الخيال، التي تتجه نحو الجانب الوهمي، القصصي، غير الحقيقي، غير الواقعي، الممكن واليوتوبي. والثانية، وهي قصدية الذاكرة، والتي تتجه نحو الحقيقة السابقة، الواقع السابق، والتي تشكل السبقية السمة الزمنية بإمتياز "للشيء المتذكّر" و"المتذكر" بوصفه كذلك".(34)

لهذا نجد ريكور يتخذ المسافة اللازمة، ويقارب الإشكالية بكل حذر، يقف على تباعد من موقف العديد من المؤلفين الذين يعملون على معالجة الذاكرة انطلاقا من قصورها، بل وحتى من توقفها بقيام بوظيفتها. ولتجاوز هذا القصور السائد، "من المهم في نظري أن نقوم بوصف الظاهرات الذاكرية من وجهة نظر القدرات التي تشكل الظاهرات تحقيقها الفعلي "السعيد" من أجل التوصل إلى هذا، فإني سأعرض بالطريقة الأقل حذلقة للظواهر التي توضع في الخطاب العادي، أي خطاب الحياة اليومية، تحت عنوان الذاكرة".(35) فأول تعبير للطابع المتناثر للفينومنولوجيا يعود إلى الطابع الغيري الفرضي للذاكرة عينها. بهذا المعنى يتعين التمييز بين الذاكرة كاستهداف والذكرى كشيء مستهدف، فكل ما يتم تداوله تحت عنوان الذاكرة والذكريات، يتم اختزاله تحت أنظار فينومنولوجيا الذكرى. إن أهم ما يستتبع التمييز في الذاكرة-الذكرى بين الماضي- الحاضر، هو إمكان التفكير حرّا بأن يُميز داخل قلب فعل الذاكرة بين مسألة "ماذا؟" وبين مسألة "كيف؟" وبين مسألة"من؟" وذلك تبعا لإيقاع الفينومينولوجية الثلاثة. وبلغة هوسرل التمييز بين noese الذي هو إعادة التذكر، وبين noeme الذي هو ذكرى.

 إن أهم سمة توسم به نظام الذكريات، تتمثل في التعددية والدرجات المتنوعة في التمييز بين الذكريات. إن الذاكرة هي بصيغة المفرد كمقدرة وتحقيق وتنفيذ، أما الذكريات فتأتي في صيما الذكريات فتأتي في صيغة الجمع. كما يمكن اعتبار الذكريات كأشكال خفية لها تشعبات دقيقة أو قليلة الدقة، تبرز ممن خلال خلفية مكنّاة "خلفية ذاكرتية". غير أن أهم سمة، هي تلك التي تتعلق بالإمتياز المعطى عفويا للأحداث من بين كل الأشياء التي يتم تذكرها.(36) ومن أجل حل إشكالي المسافة، نجد ريكور يضع زوجي العادة والذاكرة في إرتباط في الصلة بالزمان، بوصفها فرصة سانحة للتطبيق على قضية الذاكرة.

ويميز ريكور في كتاب الزمان والسرد، نمطين للصورة تفصح عنهما الذاكرة، ويتعلق الأمر بالصورة الإنطباعية والصورة العلامية. فمن جهة يوجد الانطباع الآن، ومن جهة أخرى نجد أنه يمثل أشياء ماضية مازالت في حد ذاتها موجودة في الذاكرة. وفي ذلك مكمن الالتباس ومصدر لغز جديد في الوقت نفسه؛ إذ كيف تكون الصورة الانطباعية، بوصفها أشياء حاضرة في النفس، متعلقة بالماضي في الوقت نفسه؟. ونفس الصعوبة تنسحب على الصورة المستقبلية، حيث يقال عن الصُّور العلامية أنها موجودة سلفا؛ بما تنطوي عليه من إشارتين: فهي تشير بالإضافة إلى الحاضر للعلامة، خاصيتها الإستباقية. فالقول عن شيء إنه "يوجد سلفا" يعني القول بوجود علامة على شيء سيأتي، قابل للتنبؤ. وهكذا يقال المستقبل مقدما، فالصورة الإستباقية أقل عواصة من الصورة الانطباعية.(37)

ومجمل القول فيما سبق فيه القول، أن إشكالية الذاكرة في إرتباطها بضرب تشكل الصورة وتصوّر الزمان، ظلّت محط العناية الفلسفية منذ اليونان وما يزال. ولقد رأينا كيوف تدبّر أفلاطون لإشكالية حضور شيء غائب، وكيف أدخل إشكالية الذاكرة في إشكالية الخيال. كما أسهم أرسطو بدوره وضع تمييز بين الذاكرة والتذكر، إلى جانب تبيان عمل الذاكرة اليومية من خلال مفهومي الصورة والبصمة. مع الإبصار الفينومنولوجي لهوسرل، توقفا على جملة من ظهورات الوعي، سواء في صيغة الإحساس الذي هو فعل الإحضار أو في صيغة الإحضار ثاني الإحضار في هيئة التذكر أو الترقب، وفي المقام الأخير يظهر ثاني الإحضار الخيالي. وأخيرا تم فحص التصور الريكوري، الذي قارب موضوع الذاكرة من زاوية فلسفة الإرادة؛ بحيث أن فعل إعمال الذاكرة يأتي ليسجل في لائحة القدرات والإستطاعات، والإمكانيات التي تخص مقولة "أنا أقدر" أو "أنا أستطيع". وهو موقف شبيه بموقف هوسرل الذي ربط بين ثاني الإحضار والإرادة.

 

باحث من المغرب

 

هوامش:
(1) -“ der ausdruck phänomenologie bedeutet primär einen methodenbegriff. Er charaktesiert nicht das was der gegenstände der philosophischen forschumg, sondern das wie dieser... . der titel phänomenologie druckt eine maxime aus, die also formuliert verden kann: zu den sachen selbst‘‘ Martin Heidegger: Sein und Zeit, Gesamtausgabe; Band 2, vittorio klosterman, Frankfurt am main, 1977, S 37.
(2) - «
toutes les découvertes décisives; nous en aborderons trois : premièrement l’intentionnalité, deuxièmement l’intuition catégoriale, et troisièment le sens originaire de l’apriori… .intentio signifie : se diriger-sur. Tout vecu, tout comportement psychique se dirige sur quelque chose, représenter, c’est représenter quelque chose. Se souvenir, c’est souvenir de quelque chose». Martin Heidegger: prolégomènes a l histoire de concept du temps, traduit par Alain Boutot, nrf Gallimard,2006.PP 54-55.
(3) -‘’
das intentionale erlibnis bewusstseins von etwas, und ist es seinen wesen nach,Z.B als erinnerung, als urteil, als wille...jedes intentionale erlibnis ,dank sein neotischen momente, eben neotisches‘‘.» E. Husserl: Ideen zu einer reinen phänomenologie und phänomenologischen philosophie, Band3, neu herausgegeben von Karl Schuhman, Martinus Nijhoff, the Hague, Netherlands 1976, S 202.
(4) -
M.merleau-ponty : phénoménologie de la perception,nrf, Editions Gallimard 1945 ,P1-2
(5) - بول ريكور: الذاكرة، التاريخ، النسيان. ترجمة وتقديم وتعليق جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد، بيروت 2009،ص 32.
(6) - المرجع نفسه، صص 35-36.
(7) - المرجع نفسه، ص 54.
(8) - المرجع نفسه، ص 42.
(9) - «
la faculté néotique pense donc les formes dans les images. Et de même que c’est dans les sensibles que se détermine pour elle se qu’il faut poursuivre et éviter » . aristote : De l âme, livre III, 431b, 7. Traduit par j.tricot,Ed vrin.2003,P194.
(10) -«
l’exercice même de l’intellect doit être accompagne dune image sont semblables a des sensations sauf qu’ elles sont immatérielles ».Ipid, livre III, 432 a, 8, P 197.
(11) - بول ريكور: م.س. ص50.
(12) - المرجع نفسه، صص54-55.
(13) -«
it is not properly said that there are three times, past, present, and future. Perhaps it might be said rightly that there are three times: a time present of things past, a time present of things present, and a time of things future… the time present of things past is memory, the time present of things present is direct experience, the time present of things future is expectation».AUGUSTINE: confessions, ,Book 11,XXI 27,P165.translated and edited by albert c,outler, first published mcmlv, library of gongress catalog,1994.
(14) - بول ريكور: الزمان والسرد، الجزء الأول؛ الحبكة والسرد التاريخي، ترجمة سعيد الغانمي وفلاح رحيم، دار الكتاب الجديد، بيروت 2006، ص 28.
(15) - المرجع نفسه، ص 34.
(16) - المرجع نفسه، ص 33.
(17) - وهذا لا ينكر بأي حال من الأحوال، جهود فلاسفة آخرين في عين الموضوع؛ وبالخصوص مع جهود هنري برغسون، وجون بول سارتر... .
(18) - إدموند هوسرل: دروس فيفينومينولوجيا الوعي الباطني بالزمان، ترجمة لطفي خير الله، منشورات الجمل، بيروت 2009، صص 9-10.
(19) - بول ريكور: الذاكرة، التاريخ، النسيان، م.س، ص 89.
(20) - المرجع نفسه، صص 93-95.
(21) - إ. هوسرل: م.س، صص 42-43.
(22) ـ المرجع نفسه، ص 45. أنظر كذلك ص 57.
(23) - المرجع نفسه، ص 49.
(24) - المرجع نفسه، ص 51.
(25) - المرجع نفسه، ص 19-20.
(26) - المرجع نفسه، ص 56.
(27) - المرجع نفسه، ص 124.
(28) - المرجع نفسه، ص 128
(29) - المرجع نفسه ص 139-141.
(30) - المرجع نفسه ص 157.
(31) - المرجع نفسه ص 158.
(32) - بول ريكور: الذاكرة، التاريخ، النسيان. م.س، ص 28.
(33) - المرجع نفسه ص 31.
(34) - المرجع نفسه، ص 34.
(35) - المرجع نفسه، ص 55.
(36) - المرجع نفسه، صص 57-58.
(37) - بول ريكور: الزمان والسرد.م.س، صص 3-43.