تضامنا من (الكلمة) مع شاعر البحرين الكبير في مواجهة الهجمة الظلامية عليه، ننشر هنا تلك القراءة العاشقة لعالمه الشعري ومفرداته الإبداعية الشيقة.

قراءة عاشقة.

قاسم حداد بين مرايا الشعر والنقد

نورالدين بازين

قاسم حداد شجرة وارفة تضرب بجذورها في أرض البحرين، فيما تمتد أغصانها الجميلة نحو كل الأرض العربية وغير العربية. وهو شاعر أشهر من نار على علم، لأنه جاب أطراف هذا العالم وعرف كيف يتسلل إلى أشيائنا وهو يريد أن يكون مشاكسا للموجودات ظاهرها وخفيها. وهو ينتصر لتوهج القصيدة وغرائبيتها، تفصح عن ذلك تأليفاته الكثيرة منها: البشارة، خروج رأس الحسين من المدن الخائنة، أخبار مجنون ليلى، نهروان ... إن تأمل تجربة قاسم حداد الشعرية يفضي بنا إلى انه شاعر مسائل محاجج في حالة نضال أبدي مع البياض والفراغ والدوامة ونتوءات الكائن الإنساني. يقول الناقد والباحث البحريني عبد الحميد المحادين "الشاعر مسكون بقارات من رؤاه، ولديه في عالمه الجواني عشرات المشاريع المختلطة، ولأنه يفترض أن الآخرين يعايشون ما يرى، يجدهم يقفون بعيدا عن تجربته، حين يتبين أنهم غير ملمين إلا بجزء منها، هو ما أعلن عنه، وأما الذي ما يزال في زوايا غيبياته فهي ليست مرشحة لأن تعرف، لكن الشاعر يرى أن ما يراه ينبغي للآخرين إدراكه، وذلك لأن الشعراء، وهم لا يريدون أن يكونوا حكماء، يظنون أن مسألة الحكمة ليست خيارهم بل هي هم، ومن هنا يرون أن ثيابهم قصيرة لأن قاماتهم طويلة، ولعلهم على حق في ذلك."

هل الشاعر قاسم حداد من هؤلاء..؟ إن إبداع الشعر يعود بالأساس إلى الملكة، وقراءة نصوص الشاعر قاسم حداد تفترض بعدا ورؤية قيميتان لهذه النصوص، كما أن هذه القيمة تصادف القارئ والمتلقي كثيرا في قصائد الشاعر، حيث تتجلى مسألة التلقي أهمية تأسيسية كمنهجية للتواصل بين هذه المكونات، وقاسم يكتب الكلام غير الكلام، لأنه يدرك أننا في حالة سقوط لغوي، فهو يريد كما قال الباحث عبد الحميد المحادين أن يكتب الشعر كلاما، وبالتالي فهو يحرر اللغة أو الكلام من كبريائها الذاتي، ويدخلها في كبرياء الرؤية، وهذا لا محالة يؤدي إلى كتابة شعر الكلام. وقاسم حداد هو شاعر الرؤية المتغلغل في حقائق تنبع من الذاتية. ولهذا نجد بعض الشعراء ومنهم شاعرنا، يستثمرون ويمارسون سلطتهم الذاتية عوض السلطة الموضوعية، كذلك يتجلى ذلك من خلال عناوين القصائد و الدواوين، يقول قاسم حداد في حوار مع جريدة الزمان "الكتابة سلاحي الوحيد والشعر شريكي في الحياة" وهذا ما يجعله من أبرز الشعراء المعاصرين، وكذلك من أبرز الشعراء الذين كان لهم الفضل في تطور قصيدة النثر، يخلق نصوصا لا تتشابه مع صورة الآخرين، وحتى مع نصوصه السابقة، تجربته لا تستقر على صنف واحد من الكتابة، يتجدد في شاعريته معتمدا على الرؤية والخيال، ينطلق عند كتابة نصوصه من خاصية الانفتاح محاولا المزاوجة بين الكتابة القولية وبين الكتابة غير القولية.

فشاعرية قاسم حداد تحتوي على رؤى لا تعترف بالحدود أو المقاييس، شعره صار ينظر ما لاتراه عيناه، اللغة والشعر والرؤية ثلاثية أساسية تهندس حياته و تحتل شخصيته، هذه الأخيرة تكونت من خلال الجدية وتناول الأشياء بمنطق لا هزل فيه .. كما أن تجربته الشعرية تختلف من ديوان لآخر، فديوان (البشارة) يحتفل بالغنائية والأناشيد، وديوان (خروج رأس الحسين من المدن الخائنة) يمتح من التراث، ومن خلال هذه اللغة التي احتواها هذا الديوان كان قاسم يمرر الخطاب الثوري المحرض، و القارئ لهذا الديوان سيجد نفسه محاطا بخطابين وهو شكل يوضح من الكتابة المزاوجة التي تطرح أسئلة عديدة. أما في ديوان (القيامة) هي تجربة استطاعت توجيه القارئ إلى شكل شعري تطغى عليه شعرية التفعيلة، وأمام هذا الديوان نجد أنفسنا أمام خصوصية شعرية مغايرة عما سبقتها من تجارب قاسم حداد. ولأن الشعراء دائما شعراء. فقاسم سيغير هندسة مفهوم الديوان السابق، ويخطو بنا نحو قصيدة النثر في ديوان (قلب الحب) وهو ديوان سيؤكد للنقاد والمتلقي أن هذه التجربة، هي تجربة تجيب عن كل الأسئلة التي ظلت عالقة في التجارب السابقة، والتي طرحت مسألة القصيدة النثرية وإشكالاتها، وهذا ما سيأسس لكلام ورؤية في مستقبل شعرية قاسم، وسيكون الجواب مؤكدا عن هذه إشكالات دواوين (النهروان) و(أخبار مجنون ليلى) و(المستحيل الأزرق) إنما هي تجربة زاوجت بين التشكيل والفن حررت الشاعر من أشكال التجارب السابقة المورثة الماضوية، وكيف لا وهو الذي يقول في بيان (موت الكورس) الذي أصدره مع القاص أمين صالح في ديسمبر سنة 1984 "الكاتب ليس عبداً للأشكال، بل خالقا وخائناً لها في آن واحد".

من هنا نستطيع القول أن الشاعر قاسم حداد وضعنا أمام نظرية جومبريش في كتابه "الفن والوهم"، والتي حللها الكاتب مقترب ظاهراتي في عملية القراءة في كتاب " نقد استجابة القارئ، من الشكلانية إلى ما بعد البنيوية" فقد أبرز: "على الرغم من أننا نعي عقليا الحقيقة القائلة بان أية تجربة معينة ينبغي أن تكون وهما، فإننا لا نستطيع ... أن نشاهد أنفسنا تحوز وهما ما، والآن، فإذا لم يكن الوهم حالة مؤقتة، فهذا في الحقيقة، يعني أننا نستطيع أن نكون لصيقين به، وإذا ما كانت القراءة حصرا، مسألة إنتاج وهم... فسوف نجازف بالوقوع ضحية خدعة فادحة، ولكن من خلال قراءتنا بالضبط، نكتشف تلك الطبيعة المؤقتة للوهم إلى حدها الأقصى" ص 128. ومن هذا المنطلق، فإن النظرية التي أتى بها قاسم حداد حول الكتابة والأشكال في بيان (موت الكورس) فقد اعتبره رأيا ليس اعتباطيا، وإنما تأسس على أسس تناولت نظرية أن كل شيء قابل للتغيير مع مرور الزمن، وان مسألة القداسة والقدسية في الأدب والكتابة هي مسألة خاطئة، باعتبار أن كل عمل أدبي يخضع لعملية التأويل، حيث يقول تيري إيغلتون في " نظرية الأدب" والتي ترجمها ثائر ديب: " أن كل الأعمال تعاد كتابتها ولو بصورة لا واعية من قبل المجتمعات التي تقرؤها، وكل عمل قراءة لعمل ما هي في الحقيقة إعادة كتابة أيضا."

لقد حرص الشاعر قاسم حداد على أن يظل مبدعا مخالفا لكل التجارب السابقة أو التي عاصرته، فهو يتناول الصور الشعرية بجهورية تختلف عن التصاوير الشعراء الآخرين، متأثرا بروحه التي تزاوج بين روح الحماس وبين روح الغناء، وهذا يتجلى في ديوانه " أخبار مجنون ليلى"، حيث أقحم الشاعر قصة قيس في شخصيته دون أن يختلف معه، وكما اقتبس في ثنايا حديثه عن قيس والجنون، ليدرج بنا في تاريخ ومجال أدبي كهيكل يأرخ لحياته هو مع ليلاه .. إنه التحايل على القارئ بصوره خلابة، تجعله مبدعا خلاقا .. يقول قاسم حداد في قصيدة " عن قيس"

"سأقول عن قيس/عن العامري الذي أنكرته القبيلة/عن دمه المستباح/عن السيف لما انتضاه من القلب/واجتاز بي أرض نجدٍ ليهزم كل السلاح/عن اللذة النادرة/عن الوجد والشوق والشهقة الساهرة/عن الخيل تصهل بي في الليالي والصهد يغسلني في الصباح/و يا قيس يا قيس/جننتني أو جننت، /كلانا دم ساهر في بقايا القصيدة"

وفي هذا الديوان أيضا يخاطب قاسم حداد ليلاه، في صورة شعرية ما أروعها، وما أبلغها، حيث يذهب الشاعر إلى الحديث عن المسافر الذي يبكي، وكيف يصبح السحر لذيذا عندما يظهر في عيونها التي تتكلم، وعن عدل ليلى في الظلم، وصف يستمد خياله ليس من العبث، وصف يخاطب العشق بعذرية قائمة في قصص المجنون.. إنها الرؤية حين تنطق صدقا.. يقول الشاعر في قصيدة " عن ليلى".

"سأقول عن ليلى/عن المسافر عندما يبكي طويلا/عن السحر اللذيذ إذا تجلى في كلام عيونها/عن نعمةٍ تفضي لأن أقضي رحيلا/عن مراياها موزعةً تخالج شهوة الفتيان/عن ميزانها مشبوقةً/عن عدلها في الظلم /عن سفري مع الهذيان/عن جنيةٍ في الأنس تنـتخب القتيلا/ليلاي لو يدها علي/ولو يدي منذورة تهب الرسولا/سأقول عنها ما يقال عن الجنون إذا جننت/ولي عذر إذا بالغت في موتي قليلا"

إن أهم ما يميز الشاعر قاسم حداد، هو انه شاعر ينتقد نفسه باستمرار، ينتقد تجربته بعنف جميل، يمارس النقد الذاتي على ذاته، وعلى شعره، يغتنم الفرصة كلما أمعن في وجهه، لا يتركه يستريح، لأنه يعتبر أن للنفس على صاحبها حق في التجريح والنقد. يقول جابر عصفور في كتابه" المرايا المتجاورة"، إن استخدام المرآة بوصفها عاكسا يؤكد " ثبات الأدب إزاء موضوعه، ومن ثم ثبات صورة المرآة إزاء ما تعكسه". أمام المرآة، يصير قاسم حداد حكيما عظيما، حينما يحملق ويسائل نفسه عن هذا الشخص الذي يلبسه، يستعين بعدد كثير من المرايا، وحينها يتتعد الشخص ذاته، يصير شاعرا متصوفا، يقتبس كثيرا من الأوصاف ليخلق شواهد تصف قاسم حداد نفسه.

يقول جلال الدين المولوي وهو يعد من كبار شعراء الصوفية:
تسألني كيف حالك فانظر إلى حالي
خرب بلا عقل ثمل مجنون.

ينمي البيتان ثنائية النقد والمسائلة، وهذا ما سعى إليه قاسم حداد بشكل يثقل نفسه من دون أن يشعر بخاصية الشعراء الصوفيين، مسائلته لنفسه هي دلالة الحضور في المنهاج الصوفي، ليتولد لنا شعرا لا يتكرر حتى وإن أراد هو ذلك، وهي علاقة تكتنز مفهوما تضع حياة الشاعر على مشرحة التوضيح. يقول قاسم حداد معرفا نفسه:
"أضع المرآة على الطاولة. أحملق، وأتساءل : من يكون هذا الشخص ؟ أكاد لا أعرفه. أستعين بالمزيد من المرايا. وإذا بالشخص ذاته يتعدد أمامي ويتكاثر مثل الصدى كاتدرائية الجبال، فأتخيل أنني قادر على وصفه: إنه قاسم حداد.. تقريبا".

يتجسد هاجس المسائلة أمام المرآة في كلمتين: هما الآن والآتي، وهنا يكمن التناقض البين في الثقافة الإنسانية، فبدون الآن التي تعبر عن هذه اللحظة، لن يكون هناك الآتي أي المستقبل، وبين الآن والآتي يخلق القلق، ولهذا نجد قاسم حداد يطرح حنينا تسلل من بين أنامله أمام المرآة، ويكشف الهواجس في بنية تسمى لدى اللغويين كمياء النرجس، يقول الشاعر في هذا المضمار واصفا حالته:
"موهبته في التحول تجعلني في حيرة. ليس له صورة واحدة، ولا تشف المرآة عن شخص أعرفه في كل مرة. كلما ضاعفت له المرايا تكشف عن شخص آخر. فلا أنا أثق في رؤياي ولا هو يسعف توسلي أن يكف عن ذلك. ليس سهلا الحياة مع شخص لا يحسن شيئا مثل تضليل الآخرين عن السبل التي يذهب إليها. يشك في كل شيء ولا يرى في الكتابة سوى قناديل سوداء في يد كائن أعمى يقود سربا من الموغلين في النوم نحو أحلام تضاهي الكوابيس"

ليس ثمة من شك، أن التحليل الذي يمكن أن نلقي الضوء عليه، لمعرفة شخصية قاسم حداد من خلال المرآة التي يحاورها، يجعلنا نتناول الوجه الحقيقي للشاعر من خلال اللغة التي استعملها، فقد اعتمد على وصف نظري لساني، وضعه ليشرح لنا حالته وصراعه مع الآنا مع الآخر .. إنه أسلوب فلسفي أضيف إلى الأسلوب الصوفي، فالكلمات عند قاسم حداد كلمات تحدد منهاج التراتبية عند تركيبها. يقول قاسم: "بالرغم من مظهره الذي يوحي بالرزانة إلا أنه عابث من الدرجة الأولى. يرى في أشياء العالم طاقة محبوسة يتوجب إطلاقها من أسرها، لا يترك شيئا على هيئته، ففي النص يتوجب أن تكون النقائض على آخرها. يشتغل على الكتابة كمن يبني جسده وروحه بالكلمات. يضع أمامه خرائط الطريق على الطاولة، وعندما يبدأ الكتابة ينسى ذلك كله ويصوغ شيئا لا يتصل بالخرائط ولا بالطريق، يذهب إلى النص مثل ضائع مفقود في أرض مجهولة. وفي المساء يضع رأسه على كتفي ويشرع في البكاء لأن الكلمة لم تزل عصية عليه. يكتب كأنه يولد كأنه يموت، مولع باليأس كأن الأمل خطر عليه. أقول له أن الكتابة هي ضرب من دفق الأمل في العالم، فيبالغ في تشبثه باليأس كمن يتحصن ضد أوهام لا يراها أحد معه. لا تعرف ما إذا كان يفجر بالكتابة أم تصلي به".

يمتاز قاسم حداد بخصوصية وميزة حينما يعترف، أمام المرآة أن هذا الشخص الذي يحمله وهذا الوجه الذي يرفع العقيرة فيه، إنما يريد أن يطهر نفسه بذمه، فحقيقة إن الشاعر أبدع في وصف شخصيته وتصوير الإخفاقات التي لمت بأمانيه، منتصرا على فضح العلاقة التي تجمع بينه بينه، يتمنى لو يتخلص منه يقول: "تعبت معه وتعبت منه. كلما تقدم في العمر تفاقمت فيه شهوة النقائض وراح يتصرف مثل الفتى الأرعن. لم يعد جسده قادرا على عبء الروح التي تتفلت مثل نار تفيض على الموقد. كثير الادعاء بالمغامرات في حين أنني لم أصادف جبانا مثله. يزعم التوغل في ليل المعنى وهو لا يخاف شيئا مثل رعبه من الأماكن المظلمة. يدعي بأنه منذور لموج التجربة وهو الذي لم يحسن العوم أبدا . مسكون بفقد غامض للأشياء التي يحب". ومن المصادفات الغريبة، أن يكون الشاعر قاسم حداد وهو الذي لا يستقر كما قال على حال، أن تتعرض حياته منذ الولادة إلى اليوم إلى متغيرات وتغييرات في الخارطة الاسمية، فقد حمل عدة أسماء، وهي كما قال ظاهرة لها دلالات تتصل بشهوة التحول والتماهي وغموض الكائن، فيوم ولد سمته جدته رمضان كاسم مؤقت، وعند عودة والده من السفر اقترح تسميته بجاسم، وعندما بدأ الكتابة الأدبية تخلص من حرفي التعريف الذي كان الحداد ليعوض ب حداد، ثم اختار اسم قاسم، وسينشر نصوص كثيرة باسم طرفة بن الوردة إحالة على الشاعر طرفة بن العبد.

إنها المصادفة التي جلب عليها الشاعر والمتعلقة بالتحول والتغيير وعدم الثبات حتى على الأسماء، فكيف يمكنه الثبات على الكتابة والأشكال، و ها أنا أثق بأنني لا أعرفه أبدا. من يزعم أنه يعرف نفسه. وأرجو أن لا يتحول الوقت، لكي يروي لنا قاسم حداد نبتة الشعر والكتابة، والتي يكتنزها قلبه الكبير المفحم بالإنسانية وحب الأخر، والذي لازلنا نشعر انه بقدرته على إنجازها، ونرجو من كلكامش أن يمنحه عشبة الخلود..!

المغرب