هاهو الشاعر المصري الكبير يعود إلى عالمه الأثير: عالم القرية المصرية بتصوراتها التحتية العميقة حيث يتحدث الطمي وتبوح الصور والخرافات ليضيف بعدا جديدا لتجربته الشعرية المتواصلة الخصبة.

رعويات عبدالله

محمد عفيفي مطر

رّعّوية الكهف

وحيد ، ليس يصحبني سوي كلبي ،
وظلٌ عصاي أخْتِل خلفه علٌِي
أراوغ وقدّةّ الشمس التي
حّبّكّتْ عمامّتها علي رأسي .

وحيد ليس يرعاني سوي غنمي التي
اختبأت ورائي وهي لا تثغو ولا تجترٌ،

كان الأفْق ينخل جمرّه
والرمل ينفخ صهدّه
والريح تنسج من طنين دمي
وّخّفْقِ خطايّ موٌالي .

وحيد والسراب يلفٌني بالموج والأشباحِ ..
حتي لاح لي سّرّب وكهف غائر في الرملِ ،
قلت: الجن ؟ أم هو طائف مما جننْت بهِ ؟
أم الطرق استبانتْ عن أواخرها ؟!
وحيدا كنت أدخل.:
ظلمة خثراء، كنت أزيحها
وأشقٌها بيديٌّ ،

رائحة تهبٌ عليٌّ ،
هل هذا هو الكهف الذي جمِعتْ بهِ
أزهار كل الأرض من يومِ الخليقةِ !!
سرب نحلي هائج كالعصفِ يخْرج من مكامنهِ ، يطنٌ طنينّه الرٌعٌّادّ

(كان النحل أم كانت هوائج رعبيّ المكتوم،
أم كانت وحوش هواجسي ؟!)
أوغلت في الظلماتِ ،
عثرة خطوة عشواءّ ..
وانقدحّ الشرار،
رأيت أحجارا تضوٌِئ
والحصي يرفّضٌ بالذهب المبعثّرِ


والجميلة فوق عرش نعاسِها استرْخّتْ
وغطٌّتْها عقود الزهرِ
والتفٌّتْ من الجميز والصفصافِ أوراق
وأحزمة يكاد الطل يقطجرج من نداوتها وبين لفائف الكتان والنهدين أضغاث من
اللاوند والنعناع والحناء تنبض
من روائحها الزخارف،
قلت: أحرس نومّها
حتي إذا شبعتْ من التٌّجْوال في أحلامها
انتّبّهّتْ ..
القاهرة 15/10/2006
 

رّعّوية الفتي الغريق

ريح مقلاع ،
والشمس حصي جمر،
والأرض تراب مشتعل
وثلاثة صبيان تتسع دوائر ملح أبيضّ
في القمصان إذا اتسع البّلّل
وتشفٌ عن الجسد المشويٌِ ،
وقطعان تجترٌ الصمتّ الحارقّ .
قال الأكبر
سوف أفرٌ إلي بئرِ الساقيّةِ المهجورةِ
أنزل فوق سلالمها الطينية حتي الماء أبترِد وأطفئج جمرّ دمي .


قال الأوسط :
تحتّ الماء اسْتوطنت الجنٌِيّة بين
صغاري في هيئة سمكي وثعابينّ
فلا تذهب .
قال الأصغر
سوف أبلٌِغ أمٌّكّ وأباكّ
فلا تنجو من عض أو ضرب أو
توشيحةِ رّجْم باللعنات
فلا تذهب .


ذهبّ الأكبر
وتبعناه نكاد نولول من حسد وضغينةِ عجزي وفضولْ
ووقفنا ننعق ـ ­ مثل غرابِ البّيْنِ ­ ـ
كأنٌا نغريهِ ونرعِبه حتي نزلّ  ـ بطيئا ـ­ أربعّ درجات
وانهار السلٌّم تحتّ خطاهْ
وانتشر الأهل،
وخرجّ الغواصونّ
علي أكتافهم الجسد العاري المبلولْ .
 
رملة الأنجب   20/11/ 2006

 رّعّوية الدخولِ إلي إِرّم

رمل وراءّ الرملِ
سبعة أبحر نفدّتْ بها سبعون من عمر الصبيٌِ وليس ينفّدج من سوافيها المددْ
سبعونّ من عمر الصبي تضفٌّرتْ فيها
المسالك بالمهالكِ
والرؤي ينْهشْنّه،
صبواتج شِعْري كنٌّ يستهْرِقنّه
فيسيل في الرملِ الجسدْ
وفتوق رعب ليس يّلأّمجها سوي رعب أشدْ .
قال الصبيٌ :
     لو انني استقبلت ما استدبرت
     من عمْري وأحوالي لألقيت القياد إلي
     السوانحِ من قطيعِ الغيم والأطيارِ
واستأنست بالنظر البعيد والانتظارْ
لكنني استأنست بالذؤبان والحيٌاتِ
والركض المولول والسباحة في السرابْ
من ضربةِ الشمسِ انكفأت علي خطايّ
وظللتني أمْنّة الإغماءِ ،
ثمٌّ رأيت فيما يرتئي اليقظان صفا من
جلاوزة علي باب المدينةِ
قلت: أين أنا ؟! ومن أنتمْ ؟!
فقالوا : هذه إرم،
ونحن جنود شدٌادِ بن عادْ

من ألفِ عام لم يجئْ منكم أحدْ
خذ من أطايبها نصيبّكّ
أنتّ موعود بها من ألفِ عامْ
بل أنت موعود بها من يوم أن سّفِيّتْ
بك الأرحام في كفٌِ البدّدْ
تفني كما تفني المدينة ثم تبْعّث مثلّها
فادخل ..
دخلت .. أهذه أعجوبة الصخر الممرٌّدِ
أمْ بها بشر سيندلعون من صمت الرخامْ ؟!
كانت خطاي تدبٌ في أصداءِ حيرتها ووحشتها ،
وكان المرمر المنحوت ينبت من فّراهةِ أرضها
عمدا وأروقة تقود إلي جنائنّ من
قصوري زيٌّنّتْ أبهاءّها أجيال نقاشينّ ،

واستصرخت: هل أحد هنا ؟!
فارتدٌتِ الأصداء : هل أحد هنا !!
حدٌّقت في وجه السماء القاحلة
ليستْ سماء الله والإنسان هذي ،
ليسّ من تاريخها أن رفرفتْ فيها
عصائب من دخان العائلةْ
لم ينعقدْ فيها نداء أو غناء أو
تقشٌّرّ صمتها بصلاةِ ملهوف
وصرخةِ ثاكلةْ

لم تّنْجدِلْ أحوالها بنزول آي
واستراقِ السمع من جني
ونقشِ سنابِكِ الإسراءِ والمعراجِ ،
تحتّ أديمِها لا ظلٌّ لي
والأرضج ليست من تراب السعي والموتي
الذين توشٌجتْ بيني وبينهم الخطي والخبز
واشتبكت عروق الطمي والماءِ ،
المناجل والفؤوسْ
لا حرفّ ينطق من كتابتها بأسمائي وأسماءِ الحصادْ
ناديت واسْتصرّخت: هل أحد هنا ؟!
فارتدت الأصداء أسرابا من الرعب المجنٌّحِ
قلت: أرجِع قبل أن تتخطٌّفّ الذؤبان أغنامي
استدرت فلم أجد بابا لأخرجّ
فانكفأت علي خطاي ..
 
القاهرة  29/ 11 / 2006

رعوية العبور في الخوف

 لم أكنْ أحلم ..
شق في حِرّامِ الصوفِ مفتوح علي شقي
عريض في فضاءِ الليلِ
يهوي منه صوت الكروان
في نعيبِ البوم في غوغقة الغربانِ في صوتِ
انطفاءِ النيزك الحيران فوق الثّبّجِ الأسودِ ،
رعب في دمي يفتح عينيٌّ علي الفجرِ الوليد
وأنا أنفخ شبٌورةّ دفء بينّ كفيٌّ
وأغنامي ورائي
وأمامي  "سيٌِدي عبٌود"  في صمتِ المقام
نائم،
أو علٌه يقظان في أكفانه الخضرِ ،
لعلٌ الموتّ آخاه فأبقاه،
لعلٌّ الأرضّ أبلتْه وأبقتْه الصبايا والنساء
راحلا بين السما والأرضِ ..
في شبٌّاكِهِ من خرق الأثواب والخيط
رقاع النفث بالأسرارِ
والأحلام والأوهامِ من عشق
وجوع وانتقامْ
لم أكن أحلم ..
والغبْشة من شقٌ الفضاءْ
تلقّف الأنْجمّ والصبح علي وشْكِ الطلوعْ



سيدي عبٌود خلفي
وأمامي مّدْفّن القريةِ مهجور
ومهدوم السقوفْ
سقطّتْ جدرانه وانكشف الموتي ..
عظام بليتْ تّصْفِج فيها نسمة الصبحِ ،
تراب سّبِخ يلمع بالدهنِ ،
تجاويف عيوني حدٌّقتْ من غابِرِ الموتِ ،
بقايا ضحكي فوق بقايا من صراخ هالع
قد غالها الصمت المهان
لم أكن أحلم ..
دبٌّتْ من ورائي خطوة الموتي ،
عظام قّعقعّتْ وانخلّعّت

 والتفٌ حول الكاحِلّين
كفن بال وأيدي دونما لحم
وعضٌّتْ قدمي جمجمة مشروخة
وانهملّ الصبح بأصواتِ الرميم
لم أكن أحلم ..
بل كان المنامْ
سكٌّةّ الرؤيةِ في قلبِ الظلامْ ..

 
رملة الأنجب  12/ 12/ 2006