تقدم (الكلمة) هذه المراجعة لكتاب (فقه الأحكام السلطانية) لسببين أولهما أن كاتبها من السودان وهو البلد الذي لايحظى بتغطية ثقافية واسعة، وثانيها أن المجلات العلمانية نادرا ما تهتم بمراجعة كتب الفقة أو الشريعة.

تمرد على القديم

«فقه الأحكام السلطانية» محاولة نقدية للتأصيل والتطوير

عبدالله زكرياء

أصدر الأخ الشيخ عبد الكريم مطيع كتابه حول الفقه السياسي الإسلامي التراثي والمعاصر بعنوان: "فقه الأحكام السلطانية: محاولة نقدية للتأصيل والتطوير"؛ وكان منتظرا أن يسير على سنن من سبقه للكتابة في هذا الفن من فقهاء وفلاسفة قدماء ومحدثين، إلا أنه آثر أن يشق طريقا جديدا فيه من الجراءة والتحدي والجدة ما قد يجلب عليه المتاعب من لدن المحافظين في التيار الإسلامي والحداثيين من التيار التجديدي. لقد كانت المفاجأة في هذا الكتاب أن صاحبه حاول نسف كل ما سبقه من فقه سياسي تراثي ومعاصر، حتى إن الباحث ليكتشف فيه ثورة فكرية تهدم ما تقدمها، وتؤسس لمنهج حكم أكد صاحبه أنه انبثاق أصيل من مرجع واحد ووحيد هو الكتاب والسنة. كيف سار الأخ عبد الكريم في بحثه هذا، على رغم ما يحف به من محاذير، وما يعترضه من مخاطر؟ وما هو المنهج الذي التزمه في التحليل والاستنباط والتجريد واستخلاص الأحكام؟

ينبه الكاتب في مقدمة الكتاب إلى أن هدفه الأول هو معالجة نقطة ضعف في مسار الصحوة الإسلامية المعاصرة، هي أنها ( تدعو إلى نظام تدبير سياسي غير واضح المعالم، مما يبرر لخصومها تساؤلهم عن طبيعة المشروع السياسي في الإسلام) - ص13-؛ إلا أنه في نفس الوقت يحذر القارئ من الذاتية التي يكتسيها البحث، وتتعارض أحيانا مع الموضوعية العلمية، ليكون على بينة من طبيعة الدراسة ومنهجيتها وانتماء صاحبها وعدم حياديته، إذ أن (حيادية المرء في قضية تتعلق بحاضره ومستقبله حكم بالإعدام يصدره في حق نفسه. وخطوة متقدمة نحو إلغاء ذاته وهويته وأمته، إلا أن هذا الموقف غير الحيادي لا يبرر غض الطرف عن السلبيات بدعوى الإخلاص والانتماء، لأن من صميم الصدق والإخلاص للانتماء العمل على الترشيد بالنقد البناء والنصح الأمين) ص20.

لقد انطلق الكاتب من زاوية تعانيها الصحوة الإسلامية المعاصرة، هي انعدام تصور واضح لنظام الإسلام السياسي المنبثق حقا من الكتاب والسنة، برغم رفعها شعار الخلافة التي بشر بها الرسول صلى الله عليه وسلم والتي تملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وظلما، والتي لم تقدَّم لحد الآن في الفكر السياسي لدى المسلمين إلا على شكل (تصورات منحرفة تبشر بالاستبداد وترسخه وتمد له، فران على مجتمع المسلمين ركام تراث مضطرب ومتاهات اجتهادات متناقضة، من أقصى دعوات الحكم الفردي المطلق إلى أشد دعوات التحلل الديمقراطي والانسلاخ اللبرالي من كل القيم) ص18، ( إن تصور الصحوة الإسلامية لطبيعة النظام السياسي غائم ومضطرب، ولئن كان الإجماع يكاد يطلق عليه مصطلح "إمامة" أو "خلافة" أو "إمارة المؤمنين"، فإن مضمون هذا النظام وشكل قيامه وطرق تدبيره لأمر المسلمين مما لم يتضح بعد في كتابات القوم) ص 20

هذا الخلل الفكري ـ كما يرى المؤلف ـ ساهم في تمزيق صف الصحوة المعاصرة إلى شيع متنافسة متناحرة، يخذل بعضها بعضا ويستثمر بعضها جراح بعض؛ وبدلا من أن تتجه هذه الفصائل نحو بناء تصور سياسي إسلامي يوحد ويحرر ويملأ الأرض عدلا ورحمة كما أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ارتكست في حمأة التكتيكات الساذجة الصغيرة، مما أقحمها في حلقة مفرغة لا تكاد تتحرر من إسارها.

هذا هو هدف الكاتب من هذا المصنف الجديد، فما هو المنهج الذي سار عليه في البحث والتنقيب والتجريد والحكم والتعميم؟ وهل وفق في طرحه لهذه الإشكالية ذات الأبعاد العقدية والتشريعية والسياسية المعقدة؟ ولم اختار أسلوب هدم ما تقدمه من فكر سياسي لدى الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة وكتاب السير ومرايا الملوك ومفكري الصحوة الإسلامية المعاصرة؟ بدءا بالفارابي وابن سينا والماوردي والغزالي والتفتازاني والأشعري والرازي ، وانتهاء بالطهطاوي ومحمد عبده والكواكبي والسنهوري والمودودي والترابي، وما ورد في الفقه السياسي لدى مفكري الشيعة ومنظري السلفية المعاصرة موالية وثائرة، وما تداولته المؤتمرات والندوات وأدوات الإعلام المعاصرة في هذا الباب.

الكتاب يجيب على هذه التساؤلات بأسلوب أدبي شيق ورصين ومتمكن من ناصية اللغة العربية وآدابها، فهل كان المحتوى في مستوى التعبير الفني الذي صيغ به؟ وهل مشروع النظام السياسي الذي جعله مضمونا للخلافة على النهج النبوي قابل للتطبيق؟ وهل الكتاب حقا إرهاص بالبشرى المحمدية التي وردت في الحديث الصحيح الذي صدَّر به الكتاب؟ لقد نبه المؤلف في الباب الأول إلى النهج الذي سار عليه في دراسته، وهو نهج يعد أيضا تمردا على نهج فقهاء الأحكام السلطانية قدماء وجددا؛ إذ ميز فيه بين الكتاب والسنة من جهة، وبين الجانب السياسي من الفقه والتاريخ، هذا الجانب الذي أخضعه للنقد القرآني على ضوء السنة الصحيحة ومقاصد الدين العليا، ثم راجع من خلال ذلك كله تاريخ النظم السياسية لدى المسلمين، جاهلية وإسلاما، تطبيقا عمليا وفقها نظريا، مبينا أوجه الصواب والخلل، ومدى التطابق فيه أو التعارض مع الشريعة الإسلامية، مؤكدا أن الدراسة المعمقة التي تجمع بين الفقه والتاريخ وتحاكمهما إلى الكتاب والسنة كفيلة بتوضيح معالم الهداية إلى النظام السياسي الإسلامي الحق. (ولا تعارض مطلقا في هذا، لأن الفقه هو مجرد فهم المسلم للنصوص، والتاريخ هو عمل المسلم وتصرفه تحت عين النصوص، خضوعا لها أو تحايلا عليها أو تمردا ضدها؛ وبين الفقه والتاريخ عملية إثراء متبادلة، يتأثر التاريخ بالفقه لأن الأحكام الفقهية نافذة في التصرفات، ويتأثر الفقه بالتاريخ لأن كل تصرف يستصدر له حكم فقهي خاص ... فهما فرسا رهان الحياة الدنيا، لابد لفهم أحدهما من فهم الآخر؛ ولئن خفي هذا الارتباط الموضوعي بينهما في بعض الحالات، فهو في المجال السياسي أشد وضوحا) ص 35 تطبيقا لهذا المنهج قام الكاتب بعملية مسح نقدي شامل للتراث السياسي الفقهي والتاريخي لدى المسلمين، على أساس أن لدينا نبراسا واحدا للحكم الرشيد مستمدا من الكتاب والسنة الصحيحة، وأسوة واحدة في معصوم واحد هو الرسول صلى الله عليه وسلم. إلا أنه بدلا من أن يستعرض ذلك بأسلوب طردي متتبعا تطور الفقه السياسي من بدء نشأته إلى مباحث الصحوة المعاصرة، آثر أن يسير على نهج عكسي، مبتدئا بدراسة الفقه السياسي المعاصر باعتباره ثمرة أخطاء وتراكمات تاريخية وفقهية عاقته عن التجدد والتطور والاستنارة، ثم عقب على ذلك بالبحث عن جذور الانحراف في مسيرة الفقه السياسي منذ عصر الجاهلية إلى فكر الصحوة السجين في أربعة أقفاص فكرية هي:

أما التراث السياسي لما قبل الصحوة المعاصرة فقد حصره الكاتب في صنفين: تراث مكتوب هو الإنتاج الفكري لفلاسفة العرب المسلمين، وعدَّه ترديدا يكاد يكون حرفيا لتراث اليونان والهند والصين، ثم الإنتاج الفكري للفقهاء والمتكلمين، ما ربط منه بأصل العقيدة واتخذ جذورا له في المعتقدات الفلسفية الإشراقية حول القائد الملهم المتصل بالعقل الفعال، المعصوم من الزلل ملكا أو فيلسوفا أو إماما، كما لدى الشيعة في فلسفة الانتظار أو ولاية الفقيه؛ وما عد منه ضمن فقه الفروع أو الآداب السلطانية ومرايا الملوك مما هو انعكاس لتجربة عرب ما قبل الإسلام، ملكية مستبدة وحكما فرديا مطلقا، كما لدى أهل السنة. أما تراث التجربة العملية فلم يتجاوز تجربتين: إحداهما راشدة كانت في طور التأسيس لخلافة على نهج النبوة، تفيأ بها المسلمون وغيرهم في ظلال العدل والمساواة والحرية، ولكنها كانت في معظمها شفوية لم تواكبها دراسات فكرية سياسية تشرح ركائزها ومنطلقاتها ووسائلها وأدواتها، وهو أمر طبيعي لأن الأمة كلها كانت شفوية الثقافة والتفكير، كما أن هذه التجربة لم تعط فرصة الاكتمال، واعتبطت في شرخ الشباب بانقلاب الملوكية العربية المتأثرة بالنهج الجاهلي عليها.

أما التجربة الثانية فنظام الملوكية العاضة والجبرية، وقد كانت في مبدأ أمرها عربية متأثرة بعادات الجاهلية وأعرافها وتقاليدها، على يد بني أمية وبني العباس والفاطميين، ثم تحولت سلطنة عجمية مملوكية؛ وفي كل الأحوال كانت تغرف من معين واحد هو الحكم الفردي المطلق، المبرر حينا بالنصوص المنتقاة، وأحيانا بمجرد النطع والسيف. إن هذه المحصلة التي وصل إليها الكاتب بينت له بوضوح تام أن الفكر العربي الإسلامي عجز عن وضع تصور متكامل للنظام السياسي الإسلامي الحق، وأنه كان طيلة عمره عالة على غيره استيرادا وأسلمة. وأن عليه ليخرج من هذه الحلقة المفرغة أن يبدأ مسيرة البناء الفكري لنظام الإسلام، قبل أن يجدَّ السير نحو البناء العملي لدولة الإسلام. وأن يتجاوز العوائق والعقبات والحواجز التي تعترضه، ومن أهمها:

السودان