يلقط القاص المغربي في لحظة الفجر المتأرجحة بين الحلم واليقظة وسكون الكون والروح ليشيد حدثا متكررا عن مصائر المخلوقات الجديدة التي تولد سرا في مجتمعات القمع والتخلف والفقر فيصور أجواء الفقر والتسامح لدى الطبقات المسحوقة.

الشيخ والرضيع

محمد الدواس

عثر الشيخ الضرير عل رضيع مرمي على قارعة طريقه إلى المسجد لأداء صلاة الفجر ، كان بكاؤه يخترق أذني المسنّ المتضعضع، فيصل إلى قلبه الخاشع قبل الهزيع الأخير من الليل بقليل، بعد لحظة ذهول وتأوه تجاذبته الأفكار والهواجس حتى أنسته ما خرج من أجله، ربما لهول المأساة التي استحضرها ، والتي ستطوق عنق هذا الطفل إن كتبت له الحياة ، قرر الشيخ أخيرا أن يؤجل الصلاة ، ويعود بالصبي البريء إلى بيته المتواضع، حمل الصبي بيديه المرتعشتين ، ولامس بأنامله وجهه الصغير الذي تتدفق منه الحرارة رغم برد الليل ، حرارة تحقنها في الجسم كثرة البكاء ولا من راحم، ولا من يد تهدهد الغريب الصغير . قرّب الشيخ الرضيع  بيسراه إلى قلبه ، وأحكم قبضته بيمينه على عصاه الغليظة ، وكم كان المشهد مؤثرا في نفسه، ممزقا لقلبه أن يرى الصبي يشد بقوة على طرف " سلهامه " يدفع به إلى لسانه فلا يجد ماهو بحاجة إليه، فيستأنف البكاء المرير. مد الشيخ في خطواته المترنحة المقهورة بإجهاد نفسي خلف خورا في جسمه واصطكاكا في ركبتيه اللتين يدفع يهما دفعا وئيدا إلى الأمام محاولا ألا يهويان به إلى الأرض عاجزا عن المشي، تحامل كثيرا على نفسه وعلى عصاه حتى قطع الأمتار القليلة التي تفصله عن البيت المركون في زاوية مظلمة من مشارف حي " ظهر القنفود " إحدى الأحياء المهمشة بضواحي مدينة طنجة.

لم يكن بيته سوى غرفة من طوب أسود مسقوفة بالخشب وصفائح الزنك ، مفروشة بحصير من الدوم لا تخلو من طرافة في الصنعة وتناسق الألوان، وعلى جنباتها دكك خشبية وضعت عليها مراتب من ثوب خشن محشوة بالحلفاء، والغرفة موصولة بفناء عار محاط بسياج من أسلاك شائكة تلتف حولها نباتات مخضرة طحلبية ، وأرض الفناء متربة تأخذ حظها من المطر في فصل الشتاء ، ومن أشعة الشمس الحارقة صيفا ، وفي الزاوية اليمنى للفناء مطبخ صغير من خشب به قنينة غاز صغيرة ، وبعض أوان متعبة تثلمت أطرافها، وبجوار الغرفة يسارا كنيف صغير لا باب له .

طرق الشيخ الباب بعصاه طرقات عنيفة فانفتح عن وجه اختلطت فيه الصفرة بالأدمة، وبدت تجاعيده كبالون الأطفال سحب منه الهواء ، كانت " السعدية " أو المنارية كما يناديها أهل الحي زوجة الشيخ الأعمى

المشهورة بتوليد نساء الحي مقابل  بعض ما يتوفر من مال بدون شرط ولا تحديد، حرفة ورثتها عن أم توفيت منذ زمن بعيد، كانت تطلّ بنصف وجهها من باب خشبي نصف مفتوح، بقامتها المقوسة وجسمها النحيف وأسنانها المتناثرة من بين شفتيها الزرقاوين على غير نظام ، وأنفها الطويل المعقوف كمضرب كرة الغولف. خاطبت الشيخ بلهجة تخفي وراءها غير قليل من الطيبوبة والود:

- رجعتي بكري اليوما ، ياك ما الفقيه صباح ناعس ؟!   

 تلعثم الشيخ ولم يجد جوابا غير إشارة نحو الصبي الذي بدا مستغرقا في نوم عريض بعد إحساسه بالدفىء في حضن الشيخ الرحيم.

- أَوَعْدي شِنّو هاد الهمّ . صرخت العجوز وحملقت بعينين غاضبتين في وجه الرجل ، فلمحت دمعتين تتلويان على أخاديد وجهه ، وتختفيان في ثنايا لحيته الكثة الشمطاء، دق قلب المرأة العجوز دقات كادت تخور لها قدماها القويتان المسمرتان في الأرض ك " مِركزين " من حديد يربط بهما أعتى الفحول، لولا أنها تماسكت ثم قالت:

- بعد كل هذا العمر يا الحاج الحْمِيمَرْ

لم ينبس الرجل ببنت لسان ، ودلف إلى البيت فوضع اللفافة فوق المرتبة وهو يقول:

- لا حول ولا قوة إلا بالله ، فعايل النساء بحال عقولهم، لكنهن قدر لا بد منه. ثم استرسل في الإقامة فالتكبير، فأطال الصلاة حتى طلع النهار وله خنين كخنين المزكوم.

وهكذا علمت السعدية أن عليها أن تعيش عمرا آخر بجوار ولد ينمو وشيخ يزحف نحو القبر، وكانت كلما تذكرت الشيخ والرضيع تقول:

- يعملوها الرجال ويسلكو ، و تحصل فيها المرأة شي بالنّعلة ، تقصد: اللعنة، وشي بْتَمَارا.

 

15\03\2011