يكشف لنا الناقد المصري في تناوله لهذه المجموعة القصصية كيف يخرج كاتبها بنصوصه بعيدا عن عالم المدينة، ويعود بها لعالم القرية وبشره المهمشين، ولكنه يكشف فيه أيضا عن نفس الأوضاع المرفوضة، وانسداد الأفق، وتبدد الأحلام البسيطة في التحقق واستعادة براءة الطفولة التي تبدو الآن نائية ومستحيلة.

حٌلمْ «إمرأة أسفل الشرفة»

شوقي عبدالحميد يحيى

في نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي، سكنت الرواية المصرية وسط المدينة، وسط الصخب والمظاهرات والاحتجاجات. وكأنها تعلن الرفض المباشر للأوضاع المرفوضة في البلد، فجاء حديثها مباشر فاضح. فظهرت "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني، و"تغريدة البجعة" لمكاوي سعيد، و"لذات سرية" لحمدي الجزار، وغيرها كثير. فخرج محمد إبراهيم طه بروايته "دموع الإبل" خارج النطاق وخارج المدينة. ثم جاء بمجموعته "الركض في المساحة الخضراء" تحمل نفس الحس الهادئ، ظاهريا، لتعود إلي براءة الطفولة، وما لم يزل أخضرا غضا في حياة الإنسان.

وها هو ياتي في مجموعته الجديدة "امرأة أسفل الشرفة"(1) مرتدية نفس الألوان الهادئة المنسجمة، تاركا صخب ثورة زاعقة مزلزلة، باحثة عن الحلم النابت الأخضر، حلم الطفولة المكبوتة الدافعة للغضب وللإصرار، وللتصميم علي تغيير ما هو كائن. وكأن محمد إبراهيم طه، يبحث عن الجذور الدافعة لثورة الإنسان المصري. خاصة وأن شخوصه في أعماله السابقة، وفي مجموعته الجديدة، نابتة في طين أرض الريف، في الأرض المهملة المهمشة، لتبحث لها عن دور، لتعلن أنها موجودة، وأن من حقها أن تعيش، لتعلن رفض الواقع، وتحلم بيوم أفضل. وهو ما يتفق تماما مع شخصية محمد إبراهيم طه نفسه، ويؤكد أن (الكاتب هو ما يكتب)، وأنه إذا أردنا التعرف علي كاتب، فعلينا البحث عنه فيما يكتب.

فمحمد إبراهيم طه، هو الشخص الريفي الهادئ الطباع، ولكنه الهدوء المتأمل، الباحث عن فلسفة الأشياء في جوهر الإنسان. حتي عندما نزل إلي الشارع وسط الصخب والغضب، إلي مظاهرات يوم الغضب في ثورة الخامس والعشرين من يناير، كان اشتراكه [رمزيا] في أخر قصص المجموعة "جمعة الغضب" فكان مثل الكثيرين الذين حركتهم الحركة غير المسبوقة للكثيرين الذين [تمر أعمارهم هكذا دون أن يخرجوا في مسيرة واحدة، أو يدلوا بأصواتهم في انتخابات] وانتقي من بين آلاف المتظاهرين ذلك الألدغ بائع الكتب علي سور كلية طب عين شمس، والذي كان له فضل عليه في تحديد مساره، ليشير إلي تلك الفترة التي كان فيها الراوي أو السارد إلي تلك المرحلة المتواضعة اجتماعيا، فكانت الكتب المستعملة، هي الزاد والزواد لمثله، ممن لم يكن باستطاعتهم شراء الجديد، ليضمد جرحه، قبل أن ينصرف إلي عيادته، وكأنه يضمد جراح تلك المرحلة، ليتعرف عليه في اليوم التالي كجثة في ثلاجة المشرحة.

ويستمر في الكشف عن قضيته الأساسية، في الحديث والكشف عن معاناة الطبقة التحتية. ففي وسط المظاهرة الحاشدة، تتعلق بيده فتاة السنة الثانية التجارية، التي خرجت للمظاهرة دون أن تخبر أهلها، ربما بدافع الرفض لحالتها الاجتماعية، فهي التي [تسكن الحي العاشر مع أسرة من خمسة أفراد، هي الكبري .. وأتأكد أنها لن تترك ثانية ثانوي تجاري بسبب المصروفات]. وكأن المظاهرات قد خرجت للرفض والاعتراض علي ها الوضع الاجتماعي المتدني. والذي يعيش أهله في حلم الخروج عنه. وما عبرت عنه معظم قصص المجموعة. وما كنت معه أتمني أن توضع هذه القصة "جمعة الغضب" في بداية المجموعة، لتصبح مدخلا لما تلاها، ولتصبح الثورة بداية لتحقيق حلم تلك الطبقة التي ظلت سنين تحلمه، علي نحو ما وضح في تلك القصص.

ففي أولي قصصة المجموعة "ريم تعود إلي البحر" نتعرف علي طالب الطب فقير الحال، الذي ينظر لمن يجلسون في [كافتيريا المحلاوي التي تشرف علي فناء الكلية] تلك الكافتيريا التي لم يكن صاحبنا يستطيع دخولها، وينظر إلي من يرتادونها علي أنهم من طبقة غير طبقته، ومنهم تلك الجالسة إلي جواره علي شاطئ الأسكندرية الآن، بعد أن بدأت علامات السن تظهر عليها. ولم يكن صاحبنا في عداد الفقراء، أو المحرومين ماديا فقط، فقد كان محروما حتي من الجنس الآخر، حيث منعه اسمه الذي وضعه في (سكشن المحمدات) من وجود طالبة معهم.

إلا أن صاحبنا، كلن يحلم بالخروج من تلك الطبقة التي فٌرضت عليه ولم يتخيرها لنفسه، فبعد التخرج، سعي لشراء سيارة عميد الكلية، وكأنه يصعد بها إلي طبقة العميد. سعي للتعرف ومصادقة زميلة الكلية، مرتادة كافتيريا المحلاوي، وكأنه بذلك يصعد لطبقتها، إلا أن علامات السن كانت قد بدأت خطوطها علي رقبتها، فكانت "ريم" طفلة الزميلة هي محط اهتمامه، وجوهر حديثيما، حيث [كان التماثل بينهما حادا] ويعود ويؤكد [هالني التشابه الهائل]. فهما (الزميلة وطفلتها) قد تماهتا في شخصية واحدة [ولم تكن الرغبة في ضمها إلي صدري قد خفتت بعد] وكأن صاحبنا يعود بزميلته، متمثلة في ابنتها، إلي تلك المرحة، وكأنه يحاول إلغاء تلك الفترة من حياته. تلك التي خجل منها في يوم من الأيام. حيث كان مع آخرين يلبسون البلوفرات المتماثلة من صيدناوي، وكان ذلك محل سخرية [هو صيدانوي فتح وللا إيه يا جدعان؟ الملحوظة كانت جارحة].

ويشعر صاحبنا، إن لم يكن بالانتصار، فبتحقيق الحلم، تركب الزميلة إلي جواره في سيارته المرسيدس، سيارة العميد، بل وقبل أن تدخل شقتها رن تليفونه ليسمعها صاعدة لم تزل علي درجات السلم، و[مع وضع المفاتيح في الباب صار (الصوت) مكتوما ومرتبكا، ومع صوت الارتماء علي أقرب مقعد، تحول الصوت الذي أعرفه إلي نشيج مكتوم]. وإستخدام (الذي أعرف) هنا، تحمل الكثير وتفجر ذلك الشعور المدفون، فالصوت أولا محفور بداخله، له وجود ويعرف نبراته، يحمل تاريخ في الأعماق، ثم أن يتحول هذا الصوت (الذي كان) إلي ما هو الآن، إلي (نشيج مكتوم)، فهو، من جانبها، نشيج البكاء علي ما كان نشيج البكاء علي ما هو كائن [في كليهما آثار غياب رجل] وكلمة رجل هنا، بدون التعريف (ال) يبعد التأويل عن الماضي، ماضيها مع والد "ريم" ويفتح التأويل علي المستقبل، وكأنها تشير إليه هو. فأخيرا تحقق الحلم، و"عادت ريم إلي البحر"، وليس "ونزلت ريم إلي البحر" فالعودة، هي الاسترداد، أي عودة المفقود إلي الحضن الهادر، والأعماق الصاخبة التي بداخله.

وتلعب "ريم" أيضا دورا تحريضيا في العودة للماضي في القصة التي منحت المجموعة اسمها "امرأة أسفل الشرفة"، فقبل أن يعرف صاحبنا أن اسمها الفعلي "ريم" كان قد خمنه، ليترك في وجداننا أن هذا الاسم يعود لذكري معينة. وريم هذه هي الطفلة أيضا التي تصطحبها أمها، التي نتعرف علي اسمها فيما بعد وأنه "حنان"، المحور من الحنين. ذلك الحنين الذي يثيره محمد إبراهيم طه، في نفس بطله، وفي عقولنا للتأويل، عبر الوصف غير المجاني [لمحت علي امتداد البصر بيوتا لم أكن رأيتها من قبل، أبعد بكثير من الحنفية العمومية التي كانت نهاية العمار من قبل، وفيما بدا السكون أقرب إلي الركود، تأكدت أنني لم آت إلي هنا منذ زمن]. فضلا عن تحديدات الوقت (انتظرتها أربع دقائق، [وقفت في ذهول تسع دقائق وعشرين ثانية] ليلفت محمد إبراهيم طه، نظرنا لأهمية الوقت، وأن له دورا في القصة. وكأنه يعطينا أحد مفاتيحها.

 و"ريم" تصطحبها أمها في اليوم مرتين، لتودعها الروضة، ثم تعود لتأخذها آخر النهار. تطيل الأم الوقوف أسفل شرفة صاحبنا هذا اليوم، لتكمل سماع الأغنية المتصاعدة من مسجله. فيقرر أن يسير وراءها. وتسفر المسيرة، عبر الطرق القديمة، محفوفة بالذكريات، وكأنها مسيرة الزمن [سارت باتجاه البلدة القديمة، فبدت دور كامل الطبال وعبد الفتاح البط وأولاده "هَيّص" وعشة "أبو النوم ودكان عبد أبو دراع الخياط أصغر بكثير مما بذاكرتي].

يصل صاحبنا خلفها إلي بيت ناظر مدرسته الابتدائية، الذي أخذ عنه الجلوس في الشرفة والاستماع إلي المسجل، بما يعنيه ذلك من رسوخ وجود الناظر بداخله. و [لم أجرؤ علي دفع بوابة السور الصغيرة إلا عندما سمعت من خلف الشباك المغلق موسيقي أعرفها] أي عندما تأكد عدم وجود الناظر، الذي لم يكن يجرؤ علي اقتحام منزله من قبل، وحيث أن الناظر لم يكن يستمع إلا إلي سورة الكهف، وتحديدا، آيات الخضر.

يدخل صاحبنا بيت الناظر، الذي لم يعد موجودا إلا صورته الأبيض والأسود المعلقة، وبعض من معالمه، كالكتب. وتصدح موسيقي راقصة، وتخرج امرأة ترقص رقصا [وكأنها تتعبد، في انثناءات تبعث علي الشجن، وأخذت نفسا عميقا ثم أفلتته في حرقة .. العيون الكواحل سابوني .. ولذيذ المنام أحرموني] رقصا منزها، كأنما لإخراج حزن قديم، أو تفصح عن شوق غامض لا يمكن التعبير عنه بالكلام، فانصرفت حواسي عن الكلمات والترديدات إلي إيماءات الجسد المتدفق بالنشوة والوجد] ومن خلال الوصف، غير المجاني أيضا، والربط بين ما كانت تلبسه المرأة [كانت بقميص ساتان] وبين لمحة سريعة للمرأة التي تصطحب " ريم" [وبين الأم القادمة من أول الشارع تخبئ بإصبعين رفيعين حمالة قميص ساتان من فتحة العباءة] لنتبين أن الأم "حنان" ليست سوي المرأة التي كانت ترقص [كأنما لإخراج حزن قديم، أو تفصح عن شوق غامض لا يمكن التعبير عنه بالكلام] وليست إلا ابنة الناظر الذي لم يكن يجرؤ علي اقتحام بيته في وجوده أو في سنه في المدرسة الابتدائية، وهي ذات الفتاة التي كان يشتهيها في تلك السن ولكنه لا يجرؤ النظر إليها. فهي حلم طفولته، الذي ظل مكبوتا، ومحرضا.

وفي ثاني قصص المجموعة "شرفة مٌسَمّرة من الداخل" نتعرف علي رجل يحمل علي كاهله عبء السنين، وطيبة القرية، يصطحب زوجته التي عانت كثيرا، من واقع كمية الروشتات التي تعرضها علي طبيب قد يئس من وجود مرضي يرتادون عيادته، حتي فكر في إغلاقها. ويحدد لها الطبيب موعدا للإستشارة، متوقعا ألا تأتي، ويفاجأ بمجيئها وقد تحسنت حالتها، لتسأله سؤالا مفاجئا [لماذا تكتب علي اللافتة كلمة "طب عين شمس" بعد "بكالوريوس الطب والجراحة؟" قلت : وهل تفرق؟ فاجأها ردي فاستغربت: إزاي متفرقش؟]. ويصبح الرجل صديقا للدكتور، ثم يتحول إلي تنظيف العيادة، ويكشف للطبيب أن زوجته "أم خالد" شفيت دون أن تصرف أي علاج، وقد أخفيا عليه ذلك، وأنه أيضا شفي مما كان فيه دون أن يصرف هو أيضا أي علاج. ويمرض أبو خالد، فيعوده الدكتور في بيته، فيخاطبه:

[ - تعبت نفسك ليه يا دكتور خالد؟

كانت المرة الأولي التي يخطئ فيها في اسمي. حركت عيني في الغرفة التي لم أكن دخلتها من قبل، فرايت مكتبا نظيفا عليه جهاز ضغط وسماعة طبية وميزان حرارة وقم ودفتر روشتات مفتوح و..... كان باب الشرفة من الداخل مسمرا بنصف لوح سوليتكس مدهون بالأسود، مكتوب عليه بالطباشير بخط ثلث: دكتور خالد جودة – بكالوريوس الطب والجراحة – طب عين شمس.]

تذكر الطبيب "خالد" زميله الذي توفي بعد الثانوية العامة. وقد انتظر والده ظهور النتيجة، وبعدها قدم له في كلية طب عين شمس، وسدد المصروفات، واستخرج له كارنيه الكلية.

وعاش الرجل وزوجته علي حلم ابنهما الذي مات قبل دخول الكلية. لكنهما أبيا أن يموت الحلم. صنعوا ما يشبه الحقيقة، وما أن وجدا الطبيب، حتي تصوراه ابنهما، وعاشا الحلم الحقيقة، في نظرهما.

وفي "كشف خارجي" حَلٌمَ "محمود أبو طبيخ" بأن يعود إلي الشباب. تزوج من هي في عمر ابنته، تناول "الحبة الزرقا"، وربما بأكثر مما يحتمل، فأدت لوفاته.

المستوي الثاني
نستطيع أن نميز، في مجموعات محمد إبراهيم طه، بين ثلاث مستويات، الأمر الذي يوضح، بصفة عامة، أهمية أن يحدد تاريخ كتابة كل قصة، لتسهيل دراسة المراحل الكتابية للكاتب، وعناصر التغيير في كل مرحلة. فإذا ما تأملنا القصص السالفة، نجد لذة القراءة ومتعة الاندهاش, الناتجة عن تداخل الشخصيات، ولا محدودية الرؤية، الأمر الذي يتطلب من القارئ فيه الإنصات لرنين الكلمات، وتأمل أشعتها المنبعثة في أكثر من اتجاه، وعدم الانسياق وراء غواية السرد وبساطته، ووراء القدرة علي التشويق التي قد تدفع القارئ للهاث وراء الظاهر من الحدث.

فقد رأينا، علي سبيل المثال، كيف أن "ريم" لعبت دورا مزدوجا في كل من قصتي "ريم تعود إلي البحر" و "امرأة أسفل الشرفة"، وتأثير ذلك علي تحديد بوصلة الرؤية، وصولا لمحطة الارتياح المرجوة بعد السفر عبر الكلمات. وكيف أن غموض الطفلة ريم ووالدتها، يمكن أن يوجه رؤيتنا نحو سعي السارد، خاصة أنه لم يحدد لنا أنه مرتبط مثلا، أو أن أحدا في حياته، فمن الممكن أن تتجه وجهة القارئ إلي مغامرة يسعي السارد إليها. وإن كان ذلك قد يساعد الكاتب في إطلاق خيال القارئ، وحضوره الدائم، كما يمكن أن يساعد في تعدد التأويلات. وكلها من الأمور التي تحسب للكاتب.

أما إذا انتقلنا إلي قصة "فتنة الصيد"، والتي قد تمثل حالة منفردة في المجموعة، نستطيع فيها أن نتبين ما يشبه الروايات البوليسية، حيث الغموض الظاهر منذ البداية، والجريمة المرتقبة التي تحبس أنفاس القارئ. حيث يتكرر، مثلا، في البداية الإشارة إلي الدائرة [ولأنه لم يقدر أنه سيفقد الاتجاهات من كثرة المضايقات خاصة مع قدوم الليل. فقد أصابه الهلع عندما اكتشف، وقد صار مرة أخري في مواجهة النهر، أن ما قطعه حتي منتصف الليل لم يكن سوي نصف دائرة] [وجذب المعداوي الجنزير العابر للضفة الأخري دون أن يتكلم، فارتبك حين أدرك أنه بذلك سيكمل الدائرة ويعود إلي نقطة البداية، لكن من الجانب الآخر من النهر] [لئلا يطول شعوره بالأمان، قال أحدنا بصوت مسموع: إنه يكمل الدائرة] [فأدرك أنه تسرع بالأخذ بنصيحة المعداوي، وأن كلمة الدائرة التي سمعها منذ قليل، لم تكن صدفة] الأمر الذي استخدمه الكاتب في التلاعب بقارئه وإدخاله في دائرة التساؤل. إذ أن هذا التكرار المتعمد، لابد أن يكون إشارة، أو مفتاح للدخول. غير أننا نتبين في النهاية أن الدائرة المفصودة ليست سوي الدائرة المنصوبة حول الشخصية الرئيسة في القصة، والتي حاول الخروج منها... ولم يفلح.

ونظرا للتحول إلي الهم الجمعي العام في المعالجة القصصية، فقد تحول السرد من ضمير المتكلم الفرد (أنا) إلي ضمير المتكلم الجمع (نحن). حيث يبدأ السرد [كنا قد سربنا له]. و"فتنة الصيد" هي القصة الوحيدة في المجموعة التي تتناول الهم الجمعي، بصورة مباشرة، ولا أعني بالطبع بالمباشرة، الصراحة والوضوح، فهي من الأشياء البعيدة عن نهج محمد إبراهيم طه، وإنما أعني بها غياب فرص التأويل، فما تقدمه القصة، هو ما يرمي إليه الكاتب. حيث ترمي إلي كشف دائرة المفسدين حول الرئاسة، أو القيادة العليا. وهو الموجود علي كافة المستويات الإدارية. فكما تصدق علي مستشفي، فهي تصدق أيضا علي الدولة، حتي يمكن تصور المجموعة، التي من بينها السارد، هي أمن الدولة.

فنتعرف علي طبيب ممن لم يزل لديهم الضمير الحيّ. فـ[أثناء النهار كان يستغل الوقت لأداء العمل. ويتجنب نظرات الاستعداء في أعيننا]. وكان له رأي واضح في حيث [اتهم مدير الإدارة المركزية بالفساد، وباننا أذرعه الطويلة ومعاونوه .. و... أننا متغلغلون في كل مكان] فهم في [شئون عاملين وماليات ومخازن وإجازات والختم] تجمعوا جميعا علي في محاولات مستميتة لإخافته و(تطفيشه) بعد ان فشلت كل محاولات النقل المتكرر إلي الأماكن النائية. إلا أنه لم ييأس.[كنا حريصين منذ وقت مبكر علي ان يكتشف بنفسه أثناء تصعيد مشكلته الصغيرة، أن إدلاءه بآرائه في الإدارة المركزية لا يصح، وأن ذلك هو السبب المباشر لما يحدث له، لكنه لم ينتبه، وسار في اتجاه آخر، حيث درس القانون خصيصا حتي يتمكن من تحقيق النصر، وكان قد عثر في هذا التوقيت علي بداية الخيط .... فاضاف إلي القانون دراسة الإعلام وصّد الأمر مستعينا بالصحف ووسائل الإعلام والفضائيات، تحمس له بعضهم وأهمله آخرون، فدرس إدارة الأعمال، وحصل علي الماجستير في الإدارة وتنمية القوي البشرية]. إلا ان الفساد والإفساد كان أكبر من كل ذلك. وفي أثناء مطاردتهم له. وجد نورا مضاءا، نور المسجد. وكأنه يلجأ بعد ما أعيته كل الوسائل الأرضية، يلجأ إلي الله. ترددوا لحظة، وظنوا أن مهمتهم قد تفشل. إلا أنهم بعد أن تقدم الإمام، تقدموا هم إليه وجذبوه إلي الخلف ... واغتالوه ... ويصل محمد إبراهيم طه بهذه الرؤية قمة اليأس في إصلاح المجتمع. ... وربما كان هذا ما أدي إلي التحول الذي بدأ به هذه القراءة من هروب شكلي إلي خارج المجتمع. وهو ما يدعوني إعادة القول بأهمية كتابة تواريخ الأعمال الإبداعية.

المستوي الثالث
تبين لنا قصة "بورتريه لامرأة عابرة" انتماء محمد إبراهيم طه الحقيقي لمهنته كطبيب، فبعد أن صور حرصه علي (الكشف) في قصة "كشف خارجي" واعتباره هدف أساسي، يأتي في هذه القصة ليعيد لنا صورة الطبيب الإنسان، الذي تؤرقه دمعة رآها في عين إنسانة رأي أنها تحمل في أعماقها مأساة إنسانية. الأمر الذي معه نري أن عنوان القصة، كعتبة أو مفتتح أول لها، لم يكن هو المدخل الحقيقي، فالبورتريه- في رؤيتنا – للطبيب، وليس للمرأة العابرة، تماما كما كان عنوان "فتنة الصيد" ليس بالكاشف الحقيقي للرؤية. الأمر الذي أري معه – شخصيا – أن العنوان المعبر الحقيقي كان هو "الدائرة". وتأتي بعد ذلك قصة "مشوار صغير" التي تتحدث عن أب يعاني من مرض ما، وشعور باقتراب لحظة الوداع، بينما يتشبث به طفله الصغير، وكأنه مشوار الحياة، مشوار الأجيال.

ثم تأتي قصة "محمود.. يعيط"، لتشكل مع المشوار الصغير مستوي من القص لا يحمل أي خدعة قصصية، أو فرصة للتأويل، وتتوقف عند الرؤية المباشرة. وتدوران معا في المحيط الضيق للحياة الاجتماعية، بين الأب وابنه الصغير. وليتحول الأب إلي الأم في قصة "الجاموسة تطلب" التي تعرض لحالة إجتماعية أيضا تكشف عن وضع المرأة الفقيرة التي غاب عنها زوجها، وخاصمتها الحياة. فكانت الرؤية واضحة أيضا، فيما لم نعهده في قصص محمد إبراهيم طه، الذي أصبح من الأسماء المعدودة في إنتاج القصة القصيرة الصامدة في مواجهة هجمة الاستسهال، وغياب الموهبة في الكثير مما يقدم اليوم ويعرف ب الـ"ق ق ج".

 

Em:shyehia@yahoo.com

(1) - محمد إبراهيم طه – امرأة أسفل الشرفة – الهيئة المصرية العامة للكتاب – كتابات جديدة – 2012 .