يؤطر الناقد المصري بورتريها خاصا حول علامة ومفكر جغرافي، حقق بمشروعه البحثي والأكاديمي تراكما تنبع أهميته اليوم في الواقع المصري الجديد بكل حراكه وآماله وإخفاقاته. وهو ما يجعل من تحذيره الرجوع الى الماضي بوصلة اليوم لاستشراف المستقبل، ويدفع اتجاه التفكير الاستفادة من طروحاته النظرية والفكرية.

جمال حمدان فارس المكان وبوصلة عشق الوطن

بليغ حمدي إسماعيل

إنه جمال حمدان ، باختصار لا يشوبه التقصير وباختزال لا يتعريه طول التفسير هو فارس المكان ، وهو البوصلة القادرة على التحشيد بغير انتفاضات شعبية نحو عشق الوطن وافتراس تفاصيله الجميلة بجنون ، جمال حمدان حينما نتكلم عنه فإننا لا شعورياً نتجه باتجاه الوطن ونلامس أراضيه، وتأبى اللغة أن تتحدث عنه بلغة نثرية علمية جافة بل تجبرنا كتاباته ومسيرة حياته أن نتخلى ولو نسبياً عن جفاف اللغة العلمية ونلجأ إلى اللغة الشاعرية التي بحق تناسب مقامه ومكانته وتوازي عشقنا وعشقه للوطن.

والمدهش أن قراءتنا بغير تأويل أو عقد نقدية تجرنا لمساحات بعيدة عن الوطن ، لكتابات المفكر الجغرافي الدكتور جمال حمدان هي قوة إجبارية تفرض علينا التفكير في واقعنا المصري المتسارع سياسياً والبطئ نحو النهضة والارتقاء ، فجمال حمدان من خلال ما سطره من كتابات مثل الموسوعة العبقرية شخصية مصر ، والقاهرة ، والعالم الإسلامي المعاصر ، واستراتيجية الاستعمار والتحرير، وكتابه المتميز عن اليهود كلها تؤكد أولاً نظرته العميقة للمستقبل وكأن ما سطره كان أشبه بصيحات التحذير لما نحن فيه الآن من أزمات ومثالب سياسية واجتماعية.

فمكانة مصر التاريخية والاستراتيجية الراهنة تجدها في هذه الكتابات المتميزة ، التحذير من فوضى التعصب والتطرف تلمسها في سطور متناثرة خطها بقلمه حينما تحدث عن وسطية هذا الوطن العظيم ، فهو يقرر أن مصر لموقعها الجغرافي المتوسط بين قارات العالم اتخذت لها موضعاً أكثر وسطية ، ونجحت بالفعل لسنوات بعيدة أن تحافظ على هذه الخصوصية التي تحتوي متناقضات ومتضادات عجيبة في صورة أعجب وأبلغ ، وإذا استقرأنا مهاد مصر لاكتشفنا أنها لم تعرف أبداً طوال تاريخها الضارب في القدم أنصاف الحلول أو المغالاة في التمايز لطرف في أقصى اليمين أو أقصى اليسار ، بل كانت وسطاً دائماً في النظرة والتفكير والاختيار ، وربما هذه الوسطية هي التي أفرزت لنا قاماتنا الفكرية بتعددها الأيديولوجي كالشيخ محمد عبده وطه حسين والعقاد وسلامة موسى وزكي نجيب محمود وغيرهم مما تحفظهم الذاكرة .

كما يشير عبقري المكان الدكتور جمال حمدان إلى أن هذه الوسطية التي تميزت بها مصر حفظت لها وحدتها السياسية ، مع وجود مساحات متفاوتة زمنيا من الجدال السياسي لا كالذي نشاهده ليل نهار إما في برلمان المرجعية الدينية المنحل، أو في برامج الفضائيات المكرورة التي توصف دوماً بأنها فراغية الجوهر ،كالفراغ الذي الذي لا حيز له ونحترف في إهداره بمهارة فائقة تشبه إضراباتنا واعتصاماتنا ومليونياتنا الثورية التي تصيب جسد هذا الوطن بسهام نافذة مميتة .

وثمة كتابات نجدها مطروحة تفتش عن ذكريات أكاديمية للدكتور جمال حمدان ، وأخرى تتناول كيف كان يعيش في قرية " ناي " مسقط رأسه بمحافظة القليوبية ، ومدرسته الابتدائية بشبرا حينما انتقل مع والده معلم اللغة العربية وغير ذلك من القصص التي تشبه رواية الأيام للتنويري المفكر المجدد الدكتور طه حسين ، رغم أنه من الأحرى التأكيد على صياغاته الفكرية عن مصر وتحليلاته التنظيرية التي تؤكد عمق هذا الوطن الضارب في التاريخ بقوة ، والتي تدفع الناشئة والكبار أيضاً إلى زيادة الوعي بماضي هذه الأمة ومن ثم زيادة التوعية والانتباه بمستقبلها الذي بدا بعض الشئ مترنحاً وغامضاً في ظل هذا التصارع السياسي على إسقاط مصر وهي في حقيقة الأمر وطن صعب مراسه.

فجمال حمدان يؤكد في مجمل أعماله ويقرر أن مصر محكوم عليها بالعروبة والزعامة ، وأن من قدرها أن تكون رأس العالم العربي ، وقلبه ، وضابط إيقاعه ، وفي هذا الصدد يقر حقيقة بالغة الأهمية في ظل ظروفنا السياسية الراهنة وهي أن مصر أكثر من عضو ضخم في الجسد العربي ، بل هي رأسه المؤثر ، وجهازه العصبي المركزي الفعال والنشط والمحرك. ولم ينس العبقري جمال حمدان مرحلة أكتوبر بانتصاراتها المجيدة فنجده يعتبر مصر أكتوبر دليلاً قاطعاً على الشعب المحارب ، وتكذيباً دامغاً لنظرية الشعب غير المحارب.

ورغم هذا العشق المستدام الذي يربط الدكتور جمال حمدان بمصر وطناً ومكاناً متميزاً ، نجده شديد التأثر مرارة وحزناً بواقع مصر أيامه والتي تتشابه كثيراً مع واقعنا الراهن المحموم والمستعر غضباً واحتجاجاً ، فهو يرى ـ في وقته ـ أن مصر بحاجة ماسة إلى إعادة التفكير وإطالة النظر بعمق وتدبر في كيانها وهويتها ومصيرها ، وهذا يدفعنا للتأكيد على أن مصر بعمقها وحضارتها وتاريخها وطن يصعب مراسه وتطويعه ولي ذراعه بتيارات وأفكار تسعى إلى إجهاض تنويره واستنارته ، فإن هذا يتطلب مزيداً من العمل الدءوب بشأن تثوير الطاقات المنتجة ، والعقول الأكثر إنتاجاً ، وهذا لا ولن يتحقق إلا من خلال منطلقات ومرتكزات ثابتة نسبياً تشترك في إطلاقها مجموعة من المؤسسات الرسمية والمدنية وبعض الفئات المنوطة بتطوير هذا الوطن ومنتسبيه.

فهذا مواطن عليه أن يغير نظرته لذاته من شخصية سلبية مقهورة إلى أخرى أكثر إيجابية نشطة، يشارك ويمارس نشاطات مواطنته في وطن هو أحد مؤسسيه ، وهذا نظام تعليمي عليه أن يستفيق قليلاً من سبات عميق ، ويدرك أن عليه مهاماً جساماً تقتضي منه اليقظة المستدامة في مستويات إعداد المعلم، وأطر المناهج الدراسية، وتنشئة الطالب، إن كان يريد هذا النظام التعليمي أن يصبح مشاركاً فعالاً في صحوة هذا الوطن.

أما المؤسسات الرسمية أعني الدينية منها ، فإن دورها الذي اقتصر في الماضي على معالجة الأزمات الطائفية ، والظهور الإعلامي في مناسبات قمع الفتنة لابد وأن ينحسر تدريجياً ، فالدور الحقيقي لها على مستوى الشراكة الوطنية هو قراءة المشهد الثقافي والمجتمعي للشارع المصري الذي يموج بتيارات وأفكار لا طاقة لنا بها هنا ، ومن ثم تجهيز العقلية المصرية لمواجهة بوادر أية فتنة من الممكن وقوعها. وما أحوجنا إلى تثقيف بعض أئمتنا لاسيما الموجودين بالزوايا الريفية ببعض الدروس القيمة المنثورة بكتب التراث الإسلامي ومنها ما خطه ابن الأزرق في كتابه بدائع السلك حينما ذكر ما عاهد عليه الفاروق عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) نصارى الشام ، ومنه ما كتبه راعي الكنيسة إلى عمر فيما معناه أن لا يمنع كنائس الشام أن ينزلها أحد المسلمين ، هذا في الزمن الجميل التي كانت دور العبادة ملاذاً ومكاناً يسع الجميع.

ومنه أيضاً ما ينبغي التأكيد عليه في مدارسنا ومساجدنا بأن بر أهل الذمة مأذون فيه لقوله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديارهم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) . وليت بعض أئمتنا المنتشرين فوق منابر اعتلاها يوما رسولنا الكريم (عليه والصلاة والسلام) يفطنون إلى تفسير المقري لهذه الآية حينما قال إن هذا البر مأذون فيه ، ويقصد به التقرب والإحسان ، وهو مستحب جائز ، والإقساط هو العدل الواجب فيهم ، وهو مستحق واجب.

وها هو عبقري المكان جمال حمدان أو كما يصفه الدكتور محمد عبد الرحمن الشرنوبي بعاشق تراب مصر يكتب عن الخصية المصرية وكأنه يقرأ المستقبل ويستشرفه ، وهي قراءة ملؤها الشجاعة في وقت نرى الشجاعة فيها مجرد أصوات عالية وصراخ غير منقطع وممارسات سياسية تستهدف تقويض الوطن ذاته ، لكنه في قراءته للوطن مكاناً لم يغفل عن قراءة مرتكزات ومقدرات الوطن البشرية من سكان ، ذلك حينما أشار إلى أن الشخصية المصرية تستغل فقط تاريخها حينما تواجه عدواً خارجياً لكنه من الأحرى استغلال والإفادة من هذا الإرث التاريخي في النهوض بالبلاد وفي استثارة عزائمنا الفاترة وفي إدراك مكانتنا والوعي بها باستمرارية بغير انقطاع أو تغييب عمدي ومقصود.

وهو يعمد دائماً إلى استنهاض الطاقات ويحذر من خطر الهروب من الحاضر إلى الماضي، ويشبه هذا الهروب بالمخدرات التاريخية التي تجعلنا أكثر عرضة للافتراس الذاتي لأننا نكون قد تخلينا عن مواجهة الحاضر بإحداثياته ومتغيراته المتسارعة. وليتنا نخجل من أنفسنا ونحن نعيد قراءة الطروحات الفكرية الجغرافية للعبقري جمال حمدان لاسيما وهو يصر على جعل مصر سيدة الحلول الوسطى وملكة الحد الأوسط ، وهي أمة وسط بكل معنى الكلمة، بكل معنى الوسط الذهبي، وليست أمة نصفاً، ومصر جغرافياً وتاريخياً تطبيق عملي لمعادلة هيجل تجمع بين التقرير والنقيض في تركيب متزن أصيل.

وختاماً لا أملك القول سوى كلمات هذا العبقري في موسوعته الجغرافية والثقافية الفريدة " شخصية مصر" : إننا كلما أمعنا تحليل شخصية مصر وتعمقناها استحال علينا أن نتحاشى هذا الانتهاء، وهي أنها فلتة جغرافية لا تتكرر في أي ركن من أركان العالم، فالمكان، الجغرافيا كالتاريخ لا يعيد نفسه أو تعيد نفسها ، تلك هي حقيقة عبقريتها الإقليمية.