بمناسبة تكريمه في مهرجان الاسكندرية السينمائي الدولي 29

قراءة في سينما فيليب فوكون

عن «العرب» و«خطاب الإرهاب» و«الإسلاموفوبيا» في السينما الفرنسية المعاصرة

صلاح هاشم

عندما طلب مني الاستاذ أمير أباظة رئيس مهرجان الاسكندرية السينمائي الدولي أن أرشح مخرجا فرنسيا معاصرا ليكون محلا لتكريم وحفاوة المهرجان في الدورة 29 في الفترة من 11 الى 16 سبتمبر2013، فكرت في المخرج الفرنسي الكبير فيليب فوكون الذي يعيش في مارسيليا في التو، فقد كنت ومنذ أن بدأت أتعاون مع المهرجان منذ أكثر من عشرين عاما خلت حريصا على أن يقدم المهرجان في كل دورة ملمحا أو بعدا خاصا ومتميزا من ملامح السينما الفرنسية العريقة المتنوعة- السينما الثالثة في ترتيب الدول الأكثر انتاجا للافلام في العالم بعد أمريكا والهند-- وقد يكون هذا التنوع DIVRSITE يقينا أهم وأبرز ملامحها على الاطلاق، وذلك من واقع معايشتي للاجواء السينمائية الفرنسية،ومتابعاتي لمهرجاناتها السينمائية (أكثر من 300 مهرجان سينمائي كل سنة) لفترة تمتد الى أكثر من ربع قرن. وكنت حريصا أيضا علىأن يعرض المهرجان ليس فقط لتاريخها وعمالقة الاخراج فيها من عند جورج ميلييس مرورا برينوار وجودار ورينيه وتروفو والموجة الجديدة " نوفيل فاج "وحتى عبد اللطيف قشيش. بل وأن يقدم أيضا لمواهبها وموجاتها السينما الفرنسية الجديدة الشابة المتميزة، التي تطور أيضا من "فن" السينما ذاته، وبكل ابتكارات واختراعات الفن المدهشة، في ما يمكن أن نسميه "النظرة الخاصة" REGARD التي تجعل لكل مخرج بصمته أو سينماه الخاصة وتصنع له شخصيته الفريدة.

فيليب فوكون.. لماذا؟

وقد تفرد مهرجان الاسكندرية في هذه النقطة بالذات على مهرجانات مصرية وعربية كثيرة أهتمت على مايبدو في السينما الفرنسية بماهو " تجاري " وجماهيري كاسح على مستوى شباك التذاكر وعرضت له. في حين تركزالاهتمام هنا في الاسكندرية– ومكتبة الاسكندرية العريقة ليست بعيدة- ومن خلال اختياراتي للمهرجان ، تركزعلى ما هو " فني " و" معرفي " و"فكري " أي يطورمن معارفنا بثقافات مختلفة،والخارج لتوه من المعمل السينمائي التجريبي الفرنسي،ومن دون إقصاء بالطبع لما هو " تجاري " لكن بشرط أن يكون مثيرا للجدل،وباعثا على الاحترام،وبعيدا عن السوقية..

المخرج الفرنسي الكبير فيليب فوكون

من هنا انحازت اختياراتي من خلال "تفويض" كامل وتحت اشراف الاساتذة مدراء المهرجان الأجلاء الذين توافدوا عليه من أمثال احمد الحضري ورءوف توفيق وأمير أباظة .. انحازت الى قائمة طويلة من المخرجين والسينمائيين الفرنسيين الذين تشرفنا في المهرجان وخلال عقدين وأكثر بحضورهم وعرض أفلامهم،من ضمنهم : الروائي والمخرج الفرنسي الكبير آلان روب جرييه، وكانت هذه هى المرة الاولى التي يحضر فيها الى مصر بدعوة من مهرجان الاسكندرية.والمخرجين والنقاد والسينمائيين باسكال فيران واوليفييه السايس واندريه تيشينيه وماشا ميريل وسيرج لو بيرون واسماعيل فروخي وسيدريك كان وفيليب جالادو وفلورانس كولومباني والان ريو والان ماسون وغيرهم،وحتى فيليب فوكون هذا العام ..لكن لماذا فيليب فوكون؟ .لأن العرب،أوالمهاجرين العرب في فرنسا،أو الفرنسيين من أصل عربي، سمهم ما شئت،سوف تجدهم موضوعا وأبطالا لجل أفلامه،ومنذ أن شرع هذا المخرج الفرنسي الكبير (من مواليد مدينة وجدة المغربية في 26 يناير 1958)يخرج فيلمه الروائي الأول " الحب " AMOURالذي يحكي عن قصة حب في أوساط شباب المهاجرين العرب الهامشيين المعذبين،ضحايا الاقصاء والعزلة في مدن الضواحي الفرنسية الاستهلاكية الموحشة التي تعبرها الريح،والبعيدة جداعن فرنسا لكنها ،ياللعجب،في قلب بلاد الغال !..

كشف عذرية .. لـ «سامية» الفرنسية !

لقطة من فيلم «سامية»

إن كل أفلام فيليب مثل فيلم"سامية" SAMI  وفيلم "فك الاندماج "DESINTEGRATION" تحكي عن طموحات واحباطات وآمال كبار كثيرة للجالية العربية في فرنسا واغلبها من الجزائريين او المغاربة وهي تتحطم وياللأسف على صخرة الواقع الفرنسي المؤلم العبثي. ذلك الواقع الذي فشل فشلا ذريعا وعبر حكوماته المختلفة منذ فترة الستينيات ولحد الآن في عملية " دمج " المهاجرين العرب في اطار المجتمع الفرنسي المتعدد الاثنيات  والثقافات، كما فشل في مواجهة وعلاج الآثار التي ترتبت على الحرب الاستعمارية في الجزائر ونتائجها وويلاتها كما يكشف فيليب فوكون في فيلمه الاثير (الخيانة LA TRAHISON).

هذا الفيلم لذي نعتبره من أبرز الافلام التي تناولت علاقة السينما الفرنسية بالتاريخ الفرنسي من خلال الحرب التي كان يتجنب الحديث عنها، حتى صار أسمها " حرب بلا إسم) ويعنى بها حرب الجزائر حرب القتل والدمار والتشريد والتعذيب كما نشاهد في فيلم " الخيانة ". فالعربي، ولنتحدث عن الحاضر الفرنسي الراهن، وبخاصة اذا كان من أصل جزائري أو مغربي يشعر من خلال تعامل الفرنسيين معه بأنه أجنبي غريب منبوذ،والويل كل الويل لمن يكون أسمه محمد أو يكون أسمها فاطمة،عندئذ تغلق أبواب العمل والسكن في وجهيهما،وينظر اليهمابنظرةاستعلائية لاتخلومن اشمئزاز واحتقاروبغض،ومن هنا السخط العارم على المجتمع الفرنسي الحالي من قبل ابناء المهاجرين الذين ولدوا في فرنسا والذين يصور فيليب فوكون مشاكلهم من خلال بورتريه لفتاة عربية مراهقة  في فيلمه البديع " سامية " الذي يطرح سؤال الهوية، فسامية تقف  حائرة في المنتصف بين مجتمعين المجتمع الفرنسي الخارجي الذي لايجد انها لاتصلح الا ان تكون مجرد عاملة تنظيف في فندق اوعاملة في سوبرماركيت ويلفظها، ويظهر ذلك في أول مشهد من الفيلم حين يتحدد مصيرها بتعليم مهنة ولايترك لها هامشا للاختيار، والمجتمع العربي  المحافظ التقليدي الديني المتزمت المتقوقع على ذاته في انتظار العودة الى البلاد (الجزائر) ويعيش في وهم العودة التي لاتتحقق ابدا،في حين يكبر الاولاد والبنات وهم  مشدودين لى تقاليد تعزز من الانطلاق والحرية والتمرد والعصيان المدني وهنا تشعر " سامية " بأنها غريبة ومجرد " خادمة " جد مستلبة،و مكرسة فقط لخدمة الأخ الأكبر حارس القيم والتقاليد التقليدية التي عفى عليها الزمن..هذا الاخ الذي يصفعها بقسوة،ويضربها ويراقبها أينما ذهبت،ويقمعها، تشعر بانها خرقة او ممسحة للكنس والغسيل والطبخ والاعمال المنزلية المهينة التي تحط من قيمتها،بانتظارالاهانة الكبرى،حين تساق كما تساق الاغنام للذبح الى عيادة أحد الأطباء لكي يجري عليها " كشف عذرية " حتى تهنأ أمها ويرتاح بالها !! لكن " سامية " تقلب الطاولة، وتضرب كرسيا في الكلوب،وترفض أن يكشف عليها لأن عذريتها أمر يخصها وحدها، إنها مسألة مبدأ،وشرف،وتكبر سامية في نظرنا في التو، وتشمخ بكرامتها.

ملصق فيلم الخيانة

سينما البحث عن الحقيقة

أفلام فيليب فوكون تستحق المشاهدة عن جدارة، ليس لأنها تعالج او تتطرق لموضوعات عربية او تناقش قضايا تهم الفرنسيين كما تهم العرب مثل قضية  "حرب الجزائر" التي يناقشها في فيلمه الأثير "الخيانة" من خلال منطق تأملي بديع على عكس أفلام الحرب من انتاج هوليوود التي تنحو نحو الاثارة والصخب والعنف ولا تكون الا حجة أو ذريعة " رخيصة " للكشف عما تستطيع التكنولوجيا أن تقدمه من خوارق ومعجزات في ما يخص مؤثرات الابهار البصري التي تلحس دماغنا بخبط الحلل. بل لأنها،الى جانب ماتعرضه من " تشريح " للمجتمع الفرنسي وبكل مافيه من تناقضات يكون لها تأثيراتها على انتشارظاهرة " الاسلاموفوبيا " أو الخوف من الاسلام، وقد يؤدي احتقانها أو استفحالها الى خلق أو صناعة " إرهابيين " من الجيل الثالث الحالي من المهاجرين كما يعرض فيليب فوكون لذلك في فيلمه البديع " فك الارتباط " أو التحلل..هي أفلام أو " سينما " تنحاز الى الحقيقة، ولاتجامل أو تتعاطف مع العرب كما يكتب أو يشاع ورغم مافي ذلك من قدر كبير من الصحة. بل توظف السينما كأداة للتأمل والتفكير في مشاكل عصرنا ومجتمعاتنا كما يقول المخرج والمفكر الفرنسي الكبير جان لوك جودار وتكون مرآة للـ " الضمير "السينمائي، وتقربنا أكثر من إنسانيتنا.ويتميز البناء الفيلمي عند فيليب او في أغلب أفلامه باللقطات القصيرة المركزة والطرح " الفكري " المتماسك الرزين، ويبدو ذلك جليا في فيلمه " فك  الاندماج " الذي أعتبره أشبه مايكون بـ " وثيقة اتهام " للمجتمع الفرنسي الحالي والفيلم من انتاج 2011 ..

خطاب الارهاب : وثيقة إتهام لفرنسا

حيث يقدم الفيلم في رأيي أفضل خطاب عن الارهاب في السينما الفرنسية ولحد الآن ويشرح لماذا يتحول بعض ابناء المهاجرين الى ارهابيين، هناك شهادة مرعبة لبطل الفيلم تكشف عن خيبة أمل ومرارة تجاه المجتمع الفرنسي " الظالم "، كما يكشف عن عملية اختراق للمجتمع الفرنسي من قبل الجماعات الجهادية الاسلامية الارهابية المتطرفة،ويبين ان تجنيد البعض، قد لايحتاج ان يكون القائم على هذا الأمر من أصحاب الذقون، بل يمكن أن يكون شخصا عاديا بملابس عادية وبدون لحية ، مثلي ومثلك.. ياللرعب ! . وقد تبدو أفلام فوكون للبعض أحيانا بأنها أفلام  " صادمة "  تخبطك وتكتم على انفاسك وتمضي سريعا الى الهدف المنشود من دون تباطؤ في السير،ومن ثم فإنها لاتترك لنا فرصة أحيانا كما يقول البعض من النقاد بسبب ايقاعها هذا لكي نتعاطف أو نتماهي مع أبطالها،كما في فيلم " سامية " مثلا.الا اني لا أنحاز الى هذا الرأي تماما ، واعتبر ان الاقتصاد في الوصف والسرد،من أهم شروط السينما الجيدة،ويقربها أكثر - كما في أفلام فوكون - من روح الشعر. وأفلامه تتميز بهذا الايقاع،ذلك لأن فوكون لايريد منا أن نحب أفلامه  القريبة من روح السينما الوثائقية ونقبل عليها ،ونعجب بها وبابطالها (الغلبية العظمي من الممثلين في افلام فيليب فوكون هم للعلم من غير المحترفين ! مما يعطيها بعدا واقعيا أكبر ومصداقية أعمق)، بل يريد منا بالأحرى أن " نفهم " أفلامه، ونستوعبها، وندرسها، ونغوص أكثر وأعمق وأبعد في فكرها..

لقطة من فيلم الاندماج أو التحلل

ومن هنا تمثل هذه الافلام لفيليب فوكون في رأيي وعن قناعة " إضافة " حقيقية الى تيار السينما الواقعية الانسانية في فرنسا،من عند شيخ المخرجين الفرنسيين جان رينوارمرورا بتروفو وآنياس فاردا وجان اوستاش وموريس بيالا وإيف بواسيه وروبير جيديديان (من مارسيليا أيضا)، كما انها تبرز بعدا من أبعاد ذلك التنوع الفني الهائلDIVERSITE التي تتميز بهاالسينما الفرنسية العريقة

 التي يجزم البعض مثل المخرج الفرنسي الكبيرالان رينيه شيخ المخرجين الفرنسيين- الذي تجاوزالثمانين من عمره،يجزم بأنها أهم سينما في العالم، واعتقد، أعتقد أنه لم يجانبه الصواب !! ..

 

باريس . صلاح هاشم مصطفى