توشك هذه القصة للكاتب المغربي عماد الورداني أن تكون نوعا من تفكيك اللعبة السردية ذاتها، أو نصا من نصوص السرد الواعي بنصيته، ولكنها تقدم في الوقت نفسه تجربتها الاجتماعية الشيقة.

زيف

عماد الورداني

 

عاد إلى ذاته المتشظية حاملا بعض أسئلة الخلاص التي لم تسعفه في رحلة أمس العتية، يتذكر كل شيء، ألم المثانة، نشوته الزائفة، غثيانه المرير، الشهادتين وندم الصباح. كل شيء مر مثل استعارة باردة. وفي الصباح لم يبق منه سوى هذه الذكرى التي أصبحت مثل بقايا صور عبرت إليه دونما استئذان.

يلتقون دون موعد، حمقى تنكرت لهم دروب الزمن، فصنعوا دروبا من حبال أحلامهم وتاهوا فيها دون مخرج أو نهاية. وحده الليل شهد احباطاتهم العديدة تنمو كجرح .. فلماذا جميع الآثام ترتكب عنوة في جنح الظلام، هل لأنهم يخافون من الحقيقة، أم الليل للهزائم واستعادة الفوارق التي دمرتها النكبات.

ـ  آه يا رفيق زمانك: جيبك بالكاد يصحو من انهيار أسهمه ليدخل إفلاسا من نوع جديد، هل مازلت تؤمن بالبروستوريكا، وانفتاح الشعير على أرزه.

ـ  تتكلم وكأنك سارد الحكاية، أنت لم تشهد شيئا.

ـ  وليس السامع كمن رأى. ولكن هزائمنا واحدة لا تحتاج إلا سرد أو رؤية منك.

ـ  وأنت يا مسيح عهدنا الجديد، أذاك الجرح لم يندمل بعد. أخجل أن أسمع دموعك تهطل مثل شلالات أوزن. وماذا سأقول للناس، بطلي يبكي لأن فتاة أحلامه أخلفت الموعد، وتأخرت عن الركب، تكبر تكبر عزيزي فمهما يكن من جفاك ستبقى بعيني ولحمي ملاك فتكبر.

ـ  استعاراتك لا تعجبني، ورؤيتك الشعرية أتى عليها الزمن، فهي كأحلامنا، لا تصمد حتى الصباح.

ـ  إذن لنجرب حقول اللذة، قد نجد هويتنا الضائعة هناك .. أو نتوه في صحراء جديدة. هي مغامرة . فليكن، ولكن تذكر الصباح وصمت السارد عن الكلام المستعاد، فتكبر.

يتفقون .. فيشدون الرحال إلى متاهة جديدة، بدايتها معقدة، ونهايتها قد لا تسعفهم ليلة واحدة في الوصول إلى حدودها. يركبون الأوراق الرابحة، ورقتين ورقة، أوراق، انتهيت .. والدور ينتظرك لكي تحكي متاهتك الجديدة، وبدون إطناب لو سمحت.

صوت: خسارتي تثملني، كم تمنيت أن أفوز ولو مرة واحدة في خريف هذا العمر، الذي لم أر فيه سوى الجدب.  قديما كنت أمارس قصتي بمفردي، لا أنتظر إطراء أو تدقيقا إملائيا، أكتب لأعرف حقيقة الآخرين، لكن حقيقتي تجهلني، فأهيم في زرقة لا أعرف مداها، وحده الصمت الذي يقرعني فأفيق من هذا الوهم لأواجه مصيري.

رنين خارجي فيصمت الصوت، ها هي أنثاه قد استجابت لفحولته المفرطة.

أظنك الآن قد ربحت. يحاول بصعوبة جمع صورة ضائعة، يختلط عليه كل شيء رنات الهاتف، غمغمات بريئة، صوت المذياع وقد أنهى حصته اليومية، صوت الابتسامات الصفراء، صوت كل شيء، لقد تأخرت..

يتمعن كثيرا في حنينه المفاجئ إلى الوسادة، هل سيعتلي عرش الخيبة من جديد لتنهمر شلالاته من جديد.

ـ  قلت لك إنك بطل عليل لا تصلح لقصتي.

ـ  وأنت سارد لا تتقن سوى اللعب بالاستعارات الباردة.

يسمع صوتا نرجسيا يتأوه من لذة مفتعلة، مثله مثل هذا الليل المزيف. فارقه انهار تماما لكن جسده مازال كعادته صلبا، سيكرر ذنبه وينام وبدون تشوهات، يقول: لنكرر ذنبنا بصورة أفضل لنرسمه كما شئنا دون زيف أو خداع، وإلا جذعت أنف أمك..تفهمينني طبعا.

لا يعرف ماذا يجري بالخارج، صوته انقطع عن الحكي، والسارد ساهم، لا يسمع سوى أنين تاريخه الضائع، ورقصة أهل الشرق في زلاغ، وبعض نصائح دكتور الأسنان.

أخيرا خسرت الورقة وربحت الحكاية، جاء دوري

صوت آخر: هذه الليلة هاربة كعادتها، لن تمر مثل استعاراتك، فأكيد أننا سننتهي معا. يتخمني الكلام الغريب، لهذا أحببت الهلوسات وفضلت الجنون، نسيت ذاكرة حرماني، لكن أراها دائما في وجوه الآخرين، تتطلعني وتتهمني بالخيانة، لهذا أعجبتني البروسيريكا، فهي لا تعني لي سوى تشدقا، لا يفهمه أمثالك فيحترموني. لكن المآسي تتوالد. نكبة نكبة حتى تعودت على السقوط، فلم يعد يشكل لي هاجسا بقدر ما أصبح النهوض مشكلتي. قررت أن أظل مقعدا مادامت الهواجس تقلقني، جربت كل شيء فلم يبق لي سوى استعاراتك الباردة، فهل سنستمع قصتها أم الصباح بزغ..

صوت أخير من الداخل والخارج يحكي قصته مع الاستعارة الباردة:

حدثتني نفسي فقالت: لما أنأتني الكلمات وطوحتني مجاهلها، فأذاقتني صروفا من التلاشي المر، قررت أن أمارس خدعتي، وأن أزيف صوتي لأصبح أنا أنتما، وأن أرسم حكايتي الباردة باستعارات أشد برودة، ما وقع أنني جربت، وتجاربي في الحياة لا تتعدى حكايات هذا المجلس بأصواته الثلاثة التي ما من شك أن أحد أصواتها صوتي. جربت أصواتكم جميعا، فلم أهد إلى قانون منظم، ولأن هزائمي هزائمكم. لم يبق أمامي سوى أن أتبنى هذه الاستعارات الباردة، وإن كان الجو أشد برودة.

 الحقيقة أنني أضعت صوتي بينكم، بحثت في بيانات الرفيق، ومذكرات المسيح، فلم أجد سوى هذا النوع من الكلام.

  - فما رأيكم يا أصواتي.

   - قالت الأصوات: استعارة باردة.     

عماد الورداني كاتب من المغرب