احتفاء بذكرى مرور مئة سنة على مولده، تستعيد "الكلمة" مقالة للأديب والناقد رئيف خوري (1913-1967). نشرت المقالة في مجلة "الحديث" الحلبيّة سنة 1933، وفيها يتبدى سجال كاتبها حول المفاهيم الفارقة بين العلم والفن، ودور العقل والمخيلة، إضافة لطبيعة خطاب ووظيفة كل منهما.

حديث في الفن

رئيف خوري

إعداد أثير محمد علي

 

1- بين العلم والفن
لو جئنا بكتاب الهندسة لأقليدس والإلياذة لهوميروس وتساءلنا أيهما علم وأيهما فن لما صعب علينا أن نجيب كتاب الهندسة لأقليدس علم والإلياذة لهوميروس فن.

وكذلك لو جئنا بكتاب الحيوان لأرسطو وخطب دموستين وتساءلنا أيهما علم وأيهما فن لما صعب علينا أن نجيب كتاب الحيوان لأرسطو علم وخطب دموستين فن.

إذن هناك ميزات جلية قريبة المتناول نعرفها لأول وهلة تميز العلم عن الفن والفن عن العلم وقبل أن ندخل في بحثها لنتسآءل عن تصرف مؤلف العلم تصرف مؤلف الفن ولنأخذ لنا مثلاً كاتب سفر الكيمياء وناظم قصيدة.

يجوز عالم الكيمياء عتبة مختبره وقد ترك خارجاً كثيراً من خصائص نفسه، يجوز عتبة مختبره وقد نزع منه جميع ميوله لأنه لا علاقة للميول في تجاربه العلمية، واستعد أن يقبل كل ما يلاحظه من اختباراته كانت معه أو عليه. قد يستجمع مشاعره كلها ويصلي الصلاة كلها ليمنع الكمَّين من الهدروجين الموضوعين إلى كمّ من الأكسوجين أن يتفاعلا ويولدا ماء فلا يفلح. إلا أن ناظم القصيدة يتصرف غير هذا التصرف. إنه لا يترك ميوله خارجاً إذا دخل ينظم، وكيف يتركها وهو بذلك إنما يخرس صوت نفسه وصوت النفس مصدر الشعر الأوحد في الإنسان. بل تراه يستنفد كل ما لديه من خوالج وكلما جاء بها أفعل وأنفذ كلما توفق وتفوق.

يستنتج من جميع هذا أن العلم يرتكز على قاعدة والفن على قاعدة أخرى.

العلم يرتكز على العقل والفن على النفس. وليس لنا سبيل إلى بحث وجود النفس أو عدم وجودها لأنه إذا لم نؤمن بحقيقتها أنكرنا الفن بكامله.

العلم يرتكز على  التحليل الهادئ المجرد من جميع التعصبات والتحزبات، والفن يرتكز على الثورة النفسانية بكل ما فيها من أشواق ونزعات.

ولنتساءل لماذا تكون الآثار الفنية أخلد على وجه الدهر، وأثبت اعتلاقاً بقلوب البشر من الآثار العلمية.

هل تعرفون أن هناك آلافاً من الكتب العلمية طواها الزمان فهي نسي منسيّ لا يرجع إليها إلا المتخصصون أو من يهمهم أمرها لسبب أو لآخر؟.

هل تعرفون أن كتاب اقليدس في الهندسة لا تدرسه جامعة في العالم إلا لقيمته التاريخية؟، ثم هل تعرفون أن هناك آلافاً من الآثار الفنية شاب الزمان عليها وهي لا تزال في شبابها يتذوقها البشر ويتلونها في أنديتهم؟

هل تعرفون أن الإلياذة لا تزال تعد من أعظم كتب العالم إلى جانب التوراة رغم ما مر عليها من القرون؟.

ولماذا يكون ذلك؟

تذكرون أن العلم مرتكز على العقل وأن الفن مرتكز على النفس، وأن أولى خصائص العقل البشري التطور والنمو بل التغيير والانقلاب، خلاف النفس البشرية التي هي واحدة في مشاعرها. وبهذه التغيرات والانقلابات التي تعتور العقل يموت كثير من الآثار العلمية.

أضرب لكم مثلاً على ذلك. جاء غاليله وذهب إلى أن الأرض تدور وبرهنت الأزمنة صدق مذهبه فماتت جميع المؤلفات التي تذهب إلى أن الأرض ثابته لا تدور. وحاء هرفي الانكليزي فأثبت أن الدم في الجسم يدور فدفنت جميع المؤلفات التي تقول خلاف ذلك في زوايا النسيان. ولكن جاء في مختلف العصور الأدبية مئات الكتاب والشعراء كهوميروس وشكسبير وبيرون ولامرتين وغيرهم ممن تعرفونهم فلم يغن أحد عن أحد؛ فنحن نطالعهم جميعاً بملء اللذة لا على سبيل الرغبة التاريخية. وذلك لأن الخوالج النفسية التي مثلوها لا تزال حية نابضة فينا. من منا لا يأسف لطفل ميت أو يتوجع لحب فاشل؟ أعني بذلك أنه إذا كان العقل متبدلاً يتراوح بين جديد وقديم فالنفس ثابتة غير جديدة ولا قديمة، تشتعل في فضاء هذا الأبد ولا يقوى عاصف على اطفائها.

ها قد بسطنا المميز الأكبر بين هذين الفرعين من الإرث الإنساني؛ المميز الأكبر الذي تتفرع منه جميع المميزات الأخرى. ولا بد لنا في ختام حديثنا أن نلقي نظرة على هذه المميزات الثانوية فلعلها تزيد في فهمنا للفن.

إن أفق العلم محدود؛ وليس للعالم أن يتعدى هذه الحدود. أجل ليس للعالم أن ينفذ ببصيرته إلى كل ما لا تلمسه العين المجردة. فإذا كان يصف وردة لا يستطيع حسب حدود العلم أن يزيد شيئاً على ما يستكشفه بالحس. أضف إلى ذلك أن جميع الملاحظات العلمية يجب أن يكون معترفاً بها عند الجميع وكل ملاحظة لا يؤيدها هذا الاعتراف تنبذ.

وهذا بعيد جداً عن روح الفن. فالفنان الذي لا يستطيع ما وراء الظواهر المادية ويجتلي ما لا يجتليه غيره من أسوار لا يقدر فنه بل ينكر عليه.

ثم إن العلم لا يعرف قيماً ولا يلقي مسؤوليات. وأعني بأنه لا يعرف قيماً إن كل الحقائق سواء لديه في المرتبة. وعلى هذا تأذنون لي أن أقول لكم إن الجراح في اختباراته عن القلب مثلاً لا يهمه كان تحت مبضعه جسد راهبة أو مومس. وأعني بأنه لا يلقى مسؤوليات. إن كل الكيان لديه متساو طبق نظام تام يقع عليه كل اختيار، فالجوهر الفرد الذي تتكون منه مادة الكون كل التسيير وليس على المسير مسؤولية.

وهذا بعيد جداً عن روح الفن إذ سره أن يميز بين قيم هذه العناصر المتضاربة في الحياة ويوزع المسؤوليات على قدر الطاقة. إلا أن لي كلمة عن تعاضد الفن والعلم في سبيل صلاح الإنسانية توحد بين مقصد هذين الفرعين من الإرث الإنساني ليس هذا محلها فانتظروها في مكانها.

2- تحديد الفن ومعانيه
للفن تحاديد كثيرة كما هو الواقع في جميع الأمور التي تنصرف إليها العلماء، ولو أردت أن أسرد لكم ما جاء من التحاديد منذ زمن أرسطو أقدم المفكرين المعدودين في الفن إلى يومنا هذا لأزعجتكم وأزعجت نفسي على غير طائل. فمن النقاد من يقول الفن هو اقتناص الجمال وإذا سألتهم ما هو الجمال قالوا التناسب والتناسق. غير أني لا أرضخ لهذا التحديد كثيراً إذ لا أريد أن أعرف أمراً صعباً كالفن بأمرٍ أصعب منه كالجمال، ولا أريد كذلك أن أرسل جملة قصيرة قد تكون بارعة جذابة ولكنها مبهمة مضللة. طريقنا طويل ولا نستطيع أن نقطعه إلا خطوة خطوة.

القضية الأولى التي نبدأ بها ما قلناه منذ هنيهة أن الفن قائماً بالإحساس أيضاً.

والقضية الثانية ما ألمعنا إليه منذ هنيهة أيضاً أن هذه النفس واحدة في عنصرها تامة، ولما كانت مشتركة بين جميع البشر وجب أن يكون تذوق الفن مشتركاً بينهم أيضاً.

ألا ترون أنا قربنا إلى المحجة؟ الفن مرتكز على النفس والنفس أمّ الإحساس، فالفن قائم بالإحساس، والنفس واحدة في عناصرها ثابتة ومشتركة بين جميع البشر فتذوق الفن مشترك بينهم أيضاً، بل هو ترجمان الإحساس من نفس إل نفس وهذا تحديده الأصح.

وفي هذا ما يدخل في نطاق الفن أموراً عادية نصطدم بها كل يوم ولا يخطر في بالنا أنها فن.

خذوا مثلاً قداس الأحد في إحدى الكنائس المسيحية. تذكرون الكاهن ببدلته من القصب الماع والمبخرة برائحتها الزكية والشموع الشاحبة بفلذ نورها المذابة على الجدران ورخام المذبح وتذكرون المرتلين. لا شك أن هذه قطعة من الفن غايتها ترجمة إحساس الخشوع الذي في الكاهن والكتاب المقدس إلى الحاضرين وقيسوا على هذا المثل كثيراً غيره.

بقي علينا أن نتلمس مصدر هذا الإحساس الذي يترجمه الفن من نفس إلى آخرى. يولد الطفل وفيه إحساس على أنه ساذج بسيط، ثم ينمو وكلما نما دق إحساسه وزاد إلى أن يصير رجلاً بكل ما في الكلمة من معنى، ترى من أين استجمع إحساسه بل إحساساته هذه؟

استجمعها من الاختبار أولاً في العائلة بين أمه وأبيه، ثم في الملاعب بين أترابه ثم في العالم بين أصدقائه وأعدائه ومسالميه ومنافسيه. وإذا ذكرنا أن الإنسان قابل التعليم من اختبار غيره أدركنا ظلاً مما يستطيع أن يستجمعه في هذه الحياة الهائجة بكل العناصر المائجة بكل الألوان.

إذن فالإحساس من الاختبار، وعندما نقول الفن ترجمان الإحساس من نفس إلى نفس، نعني بذلك أنه ترجمان اختبار إنسان إلى إنسان آخر. ولا نكران أن الفن على طبقات فأدناده ما نقل الاختبار وحده معرى من الإحساس الذي طبعه. مثال ذلك رؤية شجرة زاهرة ونقلها كما هي لا أكثر ولا أقل وفي هذه الحالة لا يكون الفنان أكثر من مرآة أو آلة تصوير. وأسماه – أي الفن – ما نقل الاختبار والإحساس وفي نقل الإحساس هذا سر الموهبة والبراعة.

كل إنسان يرى القمر، فلسنا بحاجة إلى من ينقل هذا الاختبار إلينا ولكنا بحاجة إلى فنان ينقل إحساسه نحو هذا القمر فلعله يعلمنا شيئاً جديداً. وكلما ازدحمت الإحساسات وعمقت كان الفن أبرع، وكلما ترقت هذه الإحساسات ونبلت كان الفن أرفع!

وبعد فما هي قيمة الفن ومعانيه؟ لتكن النفس البشرية ما تكون، ولتستجمع إحساساتها كيف تستجمع؛ لينقل لنا الشعراء والرسامون اختبارهم قدر ما ينقلون فأي فائدة لنا في هذا الهذيان. هذا شيء مما يدعيه خصوم الفن وحجتهم أنه مادام في العالم جوع وشقاء ومرض وإثم فحرام أن تنفق ما تنفق عليه. هؤلاء هم الذين لا يرون قيمة أو معنى للفن وعددهم يتكاثر في هذا العصر المادي. غير أن الأكثرية الساحقة لا تزال تقدس هذا الفرع من الإرث الإنساني وتعده من أعظم السلالم الموصلة إلى الكمال المنشود. وهذه طريقة تفكيرهم باختصار. هناك كما قلنا نفس مشتركة وإحساس مشترك بين البشر، وليس كل إنسان بمفرده سوى انبثاقة من هذا الإحساس الأكبر كما أن أشعة الشمس انبثاقات منها. فلماذا لا نستطيع إذن بواسطة الفن الذي هو ترجمان الإحساس أن نتخلص من فروقاتنا الضيئلة ونتحد بهذا الاحساس الأكبر الذي لسنا سوى انبثاقات منه! وإذا سلمتم كما أسلم بهذه النظرية في الفن محونا جميع الحدود التي خططناها بين العلم والفن لأن العلم ليس سوى تفتيح لأبواب الطبيعة المغلقة واتحاد بالعقل الأكبر الذي لا يختلف عن الإحساس الأكبر. ترون أن على نزعتي ظل صوفية.

وهناك معان أخرى للفن تختلف باختلاف أصحابها. وقد رأيت أن أعرضها عليكم من قبيل الفائدة التاريخية.

يذهب البعض إلى أن معنى الفن التملص من حقيقة هذه الحياة القاسية. وأن الآثار الفنية كالرسوم والقصائد والموسيقى ليست إلا وسائل لتخدير النفس وصرفها عن عالمها المظلم إلى آخر مشرق بهج. وكلمة أخرى أن الفن كأس خمر تشربها فتسكر، فتذهل، أو جرعة أفيون تأخذها فتنتشي، فتنتقل إلى نعيم الولدان والحور. ولعل أظهر شخصية ذهبت إلى هذا المعنى للفن شوبنهور الفيلسوف الألماني الشهير بنظارته السوداء.

ويذهب بعض آخر إلى أن الفن تعليم الأخلاق، ونحن على وفاق مع أصحاب هذه النظرية لان ما تمنيناه من اندماج بالاحساس الأكبر يوجب علينا تصفية نفوسنا من ميولها الدنيئة، وقد ذهب إلى هذا المعنى للفن كثيرون من أعاظم النقاد كأرسطو وهوراس ووردذورث وأرنولد وتولستوي.

ويذهب بعض آخر إلى أن الفن ليس لتعليم الأخلاق وإنما هو لأجل الفن لا أكثر ولا أقل. ولا أظننا على اختلاف معهم أيضاً لأن الفرق فرق تعبير فقط. ليس من الضروي أن تكون الأعمال الفنية وعظاً وصلاة لتعدّ أخلاقية. كلا ثم كلا! ولكنه من الضروري أن تؤدي إحساساً يُجنّح النفس ويسمو بها إلى الأعالي. وهذا ما لا أظن أن أصحاب هذا المذهب من بارتر وأوسكارلد ويلد قد قصروا عنه.

3- الفن العظيم، الشعر العظيم
ولابأس إذ تحدثنا في ختام هذه العجالة عما يدعوه النقاد الفن العطيم. ولابأس أيضاً إذا خصصنا أحد فروع الفن وتحدثنا عنه لنخلص من التعميمات التي قد لا تجدي شيئاً. فموضوع كلامنا إذن الفن العظيم كما يتمثل في الشعر، وهل هناك قياس محدود نستطيع أن نقيس به كل ما نصادفه من قصائد ونعرف لساعتنا عظيمة هي أم غير عظيمة؟ ولا شك عندي أيضاً أن ما تسمعونه من اختلاف النقاد وتطاحنهم على جمال قصيدة ما أو عدم جمالها أخذ يبعث شيئاً من اليأس في قلوبكم. المسألة مسألة ذوق، يقول لكم النقاد قد يكون مايسر واحداً لا يسر الآخر. فكيف نستطيع أن نضع قياساً نطبقه على جميع البشر، أجل المسألة ذوق ولكن هل نسوا أن الأدب مرتكز على النفس، وان النفس مشتركة، فهذا الذوق الذي يحتجون به قد يكون مختلفاً في بعض لاجوهرياته بين بعض الأفراد ولكنه متفق في جوهرياته بين عموم الأفراد. ولولا هذا الاتفاق لما أجمع العالم على تعظيم هوميروس ودانتي ورافائيل وشكسبير وغوته وبيتهوفن. أنا لا أنكر بأن للوهم يداً في ذلك، فقد كنت في عهد التلمذة – وهو قريب – أنظم القصيدة وأحملها إلى رفاقي من متذوقي الأدب فإذا تلوتها على أنها مترجمة عن شاعر مشهور كشيلي مثلاً هاجوا لها وماجوا، وإذا تلوتها على أنها لي ارتسمت على جميع على قسماتهم كلمة لابأس. أضيفوا إلى ذلك أن ما كان يستحسنه مني الذين في حالة سرور كان يستبرده الذين في حالة حزن وأن من كان يستعذبه الذي في الخامسة عشر كان يمجه الذين في الثلاثين. أجل أنا لا أنكر كل هذا ولكني أنكر أن يكون هذا القياس لسمو أو عدم سموه.

فلندخل في قلب الموضوع. يذهب بعض النقاد إلى أن الفن ليس سوى توفق في استخدام الوسيلة الفنية، وبكلمة أوضح يذهبون إلى أن الرسم الجميل مثلاً ليس سوى توفق الرسام في استخدام الألفاظ التي هي وسيلته، وقد يكون منكم في هذا العصر الذي أنكر فيه مدعو التجديد كل قيمة للصناعة من يتهكم على هذا المذهب. غير أني أحيلكم إلى أجمل رسوم رفائيل وأسألكم كم تفقد من قيمتها إذا استبدلت ألوانها، وأحيلكم كذلك إلى أعلى قصائد المتنبي واسألكم كم تنحط إذا غيرت ألفاظها، فلنضرب هذا المثل من قصيدة البحتري في الربيع:

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً ** من الحسن حتى كاد أن يتكلما

فكم تظنون البيت يهمد بل يموت إذا غيرت ألفاظ "الطلق، ويختال، وضاحك، وكاد أن يتكم"؟ إذن فالصناعة هي أولى أولويات الفن عموماً وصناعة اللفظ والتركيب هي أولى أولويات الشعر خصوصاً، ولا بد للشاعر أن يكون دقيق الحس في اختيار اللفظ والتركيب الموافق لساعته إذ لكل مقام مقال فالنبرة الكئيبة التي ترد معه في الرثاء لا يصح أن ترد في وصف معركة مثلاً. لنتأمل هذا البيت لأبي نواس:

فقرب من نحو الأباريق خده ** وقهقه مسروراً من القرقف الخمر

ألا ترون أن المقام مقام عبث واستهزاء؟ ثم ألا ترون أن تلك القافات المتتابعة لاتلبث أن تمثل لكم ذلك المقام المجوني بما فيه من ضحكات؟ على أن الصناعة مهما كان لها من أثر في قيمة الشعر لا تستطيع وحدها إنهاضه إلى الذروة.

شرط الفن أن يترجم إحساس نفس إلى أخرى، والشعر لا يخرج عن هذا الشرط. والإحساس ينمو بالاختبار فعلى الشاعر أن يختبر كثيراً لينمي إحساسه. ألا يذكرنا هذا بشكسبير أعظم مؤلف مسرحي انكليزي فإنه اختبر كثيراً: أولاً الطبيعة التي ولد في أحضانها في إحدى ضياع انكلترا الجميلة، وثانياً من الهيئة الاجتماعية التي خالطها وراقبها في لندن فلما أخذ يؤلف كان له كنز عظيم من الاختبار فوصف من مشاهد الطبيعة ما وصف وصوّر من أخلاق البشر ما صوّر، ولهذا كنت لا أزال أقول أن الملاحظة الدقيقة لزم للشاعر من المطالعة. نعم، يجب عليه أن يطالع آثار من سبقه من أساطين الشعر ليتعرف إلى اللفظ والتركيب الشعري، ولكن يجب عليه أيضاً أن يفتح أذنيه وعينيه إلى كل ما حوله من أحداث وألوان. جلسة إلى ساقية شحيحة نتلو أغنيتها وهي سائرة في طريقها إلى قلب الأرض تفيد الشاعر اختباراً أكثر من مطالعة كتاب في وصف مشاهد الطبيعة. وقفة على رصيف من أرصفة المدينة والناس متزاحمون في وجوه كئيبة ومشرقة، غاضبة وراضية، مشككة وموقنة تفيد الشاعر اختياراً أكثر من طالعة كتاب في طبائع البشر.

وكلما زادت قدرة الشاعر على اللفظ والتركيب وكلما وسع اختباره زاد اقتراباً من قمة الشعر. وأين هي قمة الشعر هذه! هي في الأفق الذي تزدحم فيه جميع أصوات الحياة المتبلبلة وألوانها المتضاربة وتمتزج في صوت ولون واحد. هي في الأفق الذي لا يحمل ضوضاء وفوضى، الأفق الذي ليس فيه من عنصر إلا وهو لازم لنظامه، الأفق الذي لا يعرف خيراً وشراً، لأفق الذي هو وحدة الإنسانية.

وتأذنون لي في نهاية حديثي لكم أن أقدم شاعراً أجمع النقاد على عظمته. هذا الشاعر لم ينظم قصيدة كبرة كالمهزلة الإلهية لدانتي أو الالياذة لهوميروس أو الفردوس المفقود لملتون وقد يكون من هذه الوجهة أخفق في مهمته الفنية ولكن مجموع ما نظم يتجه في سبيل قمة الشعر ولعله أقرب الشعراء إليها. أعني وليم ووردزورث كبير شخصيات الدور الرومانطيقي في الأدب الانكليزي. وما هي الرومانطيقية على إطلاقها؟

هي ضرب من النبوءة تحاول أن تؤلف بين عناصر الكون وتستشف من ورائها العنصر الحي الأكبر الذي ليس البشر سوى أقسام منه. وعليه فقد خلع الرومانطيقيون الحياة والشعور لا على شجر الغاب وغاره وريحانه فحسب بل على سواقيه وصخوره أيضاً. وهذا ما فعله ووردزورث أليس هو القائل في إحدى قصائده ما معناه:

لقد خلعت الحياة على كل شكل من أشكال الطبيعة: الصخور والأثمار والزهور حتى الحجارة المتوزعة على الطريق. لقد وجدت أنها تشعر، ورأيت أنها نابضة بنفس حية: أجل كل ماشاهدته كان يتنفس بالمعاني السرية.

إذن هناك روح واحدة يقول ووردزورث تتمشى في الإنسان وفي الطبيعة فلماذا لا يتحد الإنسان والطبيعة وروحهما واحدة فتستم إلفة عناصر الكون ولا يبقى مجال للتنافر والفوضى، وهذه هي القمة المنشودة لا من الفن فقط بل من الدين والعلم أيضاً.

(الحديث، س7، ع6، حلب، حزيران 1933)