يتحول ميدان التحرير بالقاهرة في نص الروائي المصري إلى مطهر يغسل أوجاع المصريين من شتى الطبقات حيث، يصبح ملجأ للخلاص من المحن الاجتماعية والفقر، ويزدهر فيه حلم الحرية والعدالة الاجتماعية، والنص أحاط بالأحداث في مرحلتها الأولى تاريخياً في مبني رمزي يجعل من الثورة معادل الخصب في الحياة.

أشياء عادية في الميدان (رواية)

السيد نجم

الفصل الأخير
-1-
لحظة أن انسلخ من باب غرفة النوم بقوة لا تتناسب أبدا مع سلاسة انزلاقه، ارتطم الباب بجبهته وسال الدم، قطرات قليلة، لكنها كافيه لأن يتذكر ما حذره به الطبيب.. "إياك أن تجرح"!

فلما دفع باب الحمام، دفعه بحنيه، ليس فقط حرصا على نفسه، لأن الحمام هو المكان الوحيد في هذا العالم الذي يشعر معه بالاطمئنان، فيه يحقق كل رغباته الدفينة الغامضة والشائنة أحيانا!

لأن زوجته "رسمية" ما زالت نائمة،

وصنع "سرى" ضجيجا لا يرغبه ولا يتمناه،

كان الضجيج كفيلا لأن تستفيق زوجته البدينة، وبصوت أجش لا يدرى من أين يأتيها؟

كان أشبه بصوت أصحاب حنجرة ألهبتها سخونة "الحوزة" وأنهكتها أبخرة الحشيش الطازج:

"ما هذا الضجيج؟"

انتفض..

دفعته قدماه لأن ينزلق إلى أغوار الحمام المتسع، ليقف في مواجهة المرآة، تلك التي بطول وعرض جانب كامل من جدران الحمام الأربعة..

لم يشأ أن يعقب، ليس ترفعا، ولا هي لا مبالاة بما تنطق به "رسمية"،

انشغل أكثر برؤية "سرى" المنحوت في المرآة..

مؤكد عامدة متعمدة رفعت زوجته الستار القماشي الذي يحرص على بقائه أعلى المرآة،

فهانت ابتسامة منه، والصق قبلة لها صوت مصمصة نخاع عظمة "كوارع"، فوق ظهر كف يده اليمنى بفرح، فوق كفيه.. اليمنى واليسرى.

فسر سلوك زوجته بدلال هكذا، بسر بركة ليلة سعيدة أمضاها معها، بعد طول غياب، وقلة حيلة!

بحلق وحدق مليا،

يبدو أن الخبيثة زوجته مطمئنة، أنه لن يغضب اليوم ويفتعل سببا للاعتراض والصياح والجعجعة..

هي حالته وأحواله منذ زمن، بعد كل ليلة سوداء من غير قمر، يفشل فيها الولوج إلى هضابها ووديانها وشق النهر على خريطة جسدها الممتلئ البض..

صدق حدسها،

بدلا من أن يجعجع قبل ظهر كفه، الكفان معا!

لم يشأ أن ينظر إلى مرآة دولاب الملابس المصنوع من خشب الزان، المكسو بالقشرة الأرو، لحجرة نومه التي اشتراها منذ فترة غير قصيرة.

حيلة راودته، لعله مل مشهد حجرة نومه التي تزوج بها، منذ ثلاثين سنة.

لعل الأثاث الجديد، يشفيه من حالة غامضة انتابته منذ زمن، لم ينجح في تفسيرها..

فلم يعد يغفل له جفن، وانتابته الكوابيس..

ارتضت ووافقته "رسمية"، شفقة عليه ورغبة منها وأمنية، أن تبيت لليلة واحدة، دون أن تنتفض من فزعة زوجها وهلاوسه الليلية،

تلك التي لا يتذكرها أبدا،

حتى أنه أحيانا ينكر عليها، أنها استفاقته وتجرع من يديها الماء،

لولا بعض الألم الذي يستشعره، بعد يقظته، لأنكر عليها الأمر كله!

لم تكن حيلة استبدال غرفة نومه وحدها، هي التي حرص على تنفيذها، وهو يسعى لأن يشفيه الله من العنة التي قبضت على كل أوصاله وعقله، وليس على عضوه الذكرى وحده.

بات على يقين جازم أن الأشياء الصغيرة، قادرة على صنع المعجزات،

حتما سوف تشفيه جرعة من مخلوط شراب "حبة البركة أو الحبة السوداء" مع "الزعفران" و" مغلي أوراق شجرة الجوافة"..

ولا تكتمل المحاولة إلا مع التهام قطعة وافرة من "الحلاوة الطحينية" وسبع تمرات، قبل الذهاب إلى مرسى زوجته وملاقاة جسدها النافر.

لم يكل من المحاولة لسنوات طالت، ولم تنجع!

لولا ما حدث منذ عدة أيام قليلة، قضاها في ساحة ميدان التحرير، على غير خطة دبرت، ولا حيلة تبناها، قذفته قدماه وألقت به الأقدار إلى هناك، ولم يندم.

وبقى أمام المرآة لبرهة طالت، كأنه يتمنى، لو يرى "سرى" جديد ينسلخ من خلف جلد قفاه وقدميه وبطنه وفروة رأسه الصلعاء، من خلف كل الحدود التي رسمت كرشة البارز، وقامته القصيرة، وقدميه المفلطحتين، وأنامله الفئرانية التي لا تتناسب أبدا مع جسمه الربعة.

المدهش.. هو ما تحقق، وتابعه برؤية العين، شهده بعيني رأسه، مع تلك الجرادة اليتيمة، هناك.. أثناء بقائه في ميدان التحرير!

بقى لساعات طالت، يوما بعد يوم، معلقا بمشهد الجرادة، تلك التي اكتشف مخبأها ومكمنها السري، منذ أن وصل ميدان التحرير، وحتى لحظة رجوعه إلى بيته.

اكتشفها بجوار ماسورة المياه الملاصقة للجدران الخلفية لمسجد عمر مكرم.. بجوار ثقب هين في ماسورة المياه. ثقب لا يرى، لكنه كان كفيلا بأن يشق أخدودا لامعا مع أشعة الشمس، من مياه لامعة تتسربل، لكنه صنع عالما ودنيا، هناك.. بعيدا عن ضجيج المتظاهرين، والمستشفى الميدان المجاور الذي يعج بآهات المصابين والأطباء معا..

المصابون يرددون الآهة لأنهم يعانون من إصابة ما، أما الأطباء فيرددونها لكثرة المصابين مع نقص في العدة والعتاد.

الثقب ينتح قطرات مياه تكاد لا ترى، لكنها كفيلة وحدها أن تزرع الحياة من حولها..

ها هي ذي أنواع من الفطر الأخضر والأسود والأبيض يكسو الماسورة،

بقعة ندية على الأرض لا تجف، تجذب الكائنات الغامضة كلها.. نمل لا يرى إلا في جماعات، وبراغيث،

زروع وعشب غامض يكبر أسفل الماسورة عند موضع ارتشاقها بالأرض، ما بين العشب الغامض كانت الجرادة وحدها، تابعها "سرى" تتجدد وهى تنسلخ وتلقى بقبضتها القديمة بعيدا!

انقضى زمنا لا يعرف مقداره هناك، في ميدان التحرير، والى جوار المسجد،

فلما رجع إلى سريره، شعر بنشوى كانت نسيا منسية..

لم ينم على ذمة اليقظة..

لم يفزع، ولم تفزع رسمية طوال الليل..

ولأول مرة منذ زمن، يعتلى الهضاب ونتوءات الجبال والتلال البراح والخور الضيقة، التي يشكلها جسد زوجته،

لم تقل له: كف المحاولة،

بل قالت له، بالأمس فقط:

إن كان الأمر هكذا، لم أعد غاضبة منك.. عد للميدان ثانية!

فاحتوته النشوى،

تلك التي لا توصف بكلمات، يكفى أن تعيشها فتدرك معناها وترسم أوصافا تخصك وحدك.

 

-2-
فى طفولتي وشيخوختي، لم أحب الحشرات، أبدا.. لأن منها الصراصير المقرفة، والذباب المزعج، والبق الذي يمتص الدماء، والدبور الذي يلدغ.. كلها تنقل الأمراض والعلل.. أما أن بعضها يحمل حبوب اللقاح من طلع نبتة إلى متاع أخرى، فيخصبها لنرى زهرة جميلة أو ثمرة نأكلها،

لم أتعامل معها، ولم أرها تفعل.. ليكن!

رأيت رؤية العين جرادة وحدها تسعى.. في أول مرة لم أبرحها، لم أحبها ولكني لم اشعر بأنني أكرهها! الجراد وحده، من شعبة مفصليات الأرجل التي تعيش في جماعات هائلة.. مثل جموع الناس. الجراد وحده، القادر على منافسة البشر، قدرة التتار على غزو الآفاق! تكفيه الزروع كلها، يلتهمها.. فلا يجد بشرا ما يأكله! يطير فى جماعات عصية عن الحصر، ما لفت انتباهي أن أجد جرادة وحيدة هناك.. شعرت بالشفقة عليها، لم تكن مشاعر الوحدة وحدها سببا، لأنني شعرت بمقدار الألم الذي تقاسيه، يبدو أن للحياة ثمنا تدفعه الأحياء.. كل الأحياء، ومنها جرادتي الوحيدة تلك.

الألم، تدفعه الجرادة عند انسلاخها.. كانت تسعى، تتشوق لأن تكبر.. وتنضج.. وتصبح قادرة على الخصب، ذكرا كانت أم أنثى! هذا ما رأيته مع الجرادة التي بدت وكأنها تحارب وحدها.. وكأن ما يدور في الميدان، هناك، لا يعنيها.. لعلها اختارت أن تحارب بطريقتها الخاصة جدا.. يكفيها صبرها على ألم الانسلاخ.. وان رأيتها بعد ذلك أقوى وأكبر وأنصع!

.. لأن الميدان مكتفيا بذاته، كان من الطبيعي أن أجد من بين الحشود الخبير في علم الحشرات، سألت عن الانسلاخ هذا، فقالت:

"يعتبر الانسلاخ عملية أساسية للنمو في شعبة مفصليات الأرجل في الحشرات.. ذلك بهدف التغلب على صلابة وقوة وهيمنة الهيكل الخارجي، لأنه سياج يمنعها لأن تكبر وتنضج، سياج يتحدى سر الله فيها، لأن تصير الأنثى والذكر يتلاقحان، وتعيد الحياة دورتها.
قبل أن تتابع دكتورة "نهى" أسرار عملية الانسلاخ ومراحلها، مالت نحوى، مالت بشدة حتى ظننتها تسعى لأن تقبلني.. دعني أشرح لك وأبسط الأمر كله.. أومأت، تابعت التي تبدو جميلة على الرغم من تلك اللفافة التي تكسى بها رأسها، كما فلاحة جهزت نفسها ليوم الخبيز.. على الرغم من السترة المترهلة التي تخفيها لافتة كبيرة مكتوب عليها "ارحل".. على الرغم من بنطالها الذكورى، قالت:

أنا هنا منذ الساعات الأولى، يوم 25 يناير، وكانت الشعارات والهتافات.. سلمية.. سلمية.. سلمية عيش.. حرية.. كرامة.. عدالة اجتماعية لا توريث ولا ملكية

هي مرحلة تشبه المرحلة أولى في الانسلاخ.. عندما تتمرد خلايا بشرة الحشرة الخارجية، وتسبق الطبقة الداخلية لجليد الحشرة وتنفصل.. وبدلا عن الهتاف، تفرز تلك الطبقة الداخلية سائلا، تماما كما يلين الهتاف ويحمس بقية الناس..

عادت وتابعت بثقة تقول: في مرحلة التالية تشجعنا أكثر، وكثر عددنا، هتفنا: مش هنخاف.. مش هنخاف.. صوتنا العالي يهد جبال مش ساكتين.. مش ساكتين.. إحنا خرجنا ومش راجعين عللي، وعللي، وعللي الصوت.. واللي ح يهتف مش ح يموت

وهى تشبه مرحلة تكوين الجليد الجديد، وان بقى تحت الجليد السطحي القديم.. ما زال!

ثم جاءت مرحلة حماسية وعنيفة، وهتفنا نقول: ثورة، ثورة حتى الموت، اللي يهتف مش ح يموت اقتل خالد واقتل مينا.. كل رصاصة بتقوينا ارحل.. ارحل زى فاروق.. شعبك منك بقى مخنوق.
كما مرحلة بداية رحيل أو انشقاق الجليد السطحي القديم، ويبدأ على امتداد الرأس والصدر.

وتأتى المرحلة الأخيرة الحاسمة، عندما هتفنا: الشعب والجيش ايد واحدة مش ح نمشى.. هو يمشى الشعب يريد إسقاط النظام يسقط.. يسقط.. حسنى مبارك..

في بداية عملية الانسلاخ يكون الجليد الجديد، ليناً.. مع مرور الزمن تحدث عملية تصلب الجليد الجديد، ثم تميزه إلى الطبقات المعروفة للجليد.
قبل أن تغرب "نهى"، فقد استدعاها أحد الشباب لأمر لم يفصح عنه، فقط لوح لها فانتفضت تقول:

"عطلتني" لم تبرح بعيدا عن خيمة الإسعاف التي أقيم فيها، أدارت وجهها وقالت: "لا تنسى هذه المعلومة.. نحن العلماء وجدنا أن الجليد الجديد المتكون، يصير صلبا، غير قابل للامتداد الواجب لنمو الحشرة الجرادة.. ثم تدخل حشرة الجراد، مرحلة جديدة لانسلاخ جديد، عدة انسلاخات حتى تنضج وتصل مرحلة النضج أو adult! الآن، هل فهمت سر الانسلاخ، أرجو ذلك، لنا لقاء قريب؟!

لأنني من جيل عواجيز الميدان، كما عواجيز الفرح.. ضبطت نفسي دهشا يتساءل.. سألت رأسي: أي داع هو ما يجعل جميلة مثل "نهى" تفعل في نفسها فعلتها تلك.. وتشق علي نفسها كل تلك المشقة؟! لعلها جاءت تبحث عن عريس ثوري مثلها.. من أين سيأتيها بعيدا عن ميدان التحرير؟!

 

-3-
الآن، لا أدرى لماذا راودتني صورة الجميلة"زينه"؟! وجهها الأبيض المستدير كما القمر في تمامه، وشعرها الفحمي الطويل تعقده في مؤخرة رأسها فيبدوا كما ذيل الخيول العربية الأصيلة، وعينيها السوداوات كما عيون الأميرة الافريقة فى الأساطير، وشفتاها المكتنزة شهوة وحياة كما شفاه الأسماك الطاغية فى البحار البعيدة، ورقبة تستحق أن تحمل عليها وتحوطها قلائد العالم كله، ونهدان وافران يكفيان العشيق والوليد ونحات التماثيل الفرعونية، وخصر يحيط العالم، وساقان مبرومتان إن شاءت يعدوان فلا يلحقها بشر.. إلا حبيبها الذي تقابله خلسة، بعيدا عن أبيها، وعن العالم كله.. فوق سطح العمارة!

راودتني "زينة" فى كفاحها وصبرها لملاقاة العشيق، على الرغم من عناد الأب "محروس" الذي يواجهها بصريح أوامره، ويسعى لأن ينهاها عن فعلتها الشائنة تلك.. هيهات، رأيتها صابرة، تتمنى لو ترضى أبيها، ولم تنجح أبدا.. يبدو أن العشق أقوى.. وإلا لماذا أراها تومئ وتبربش وتشير بكفيها موافقة على أوامره، أعود وأراها فى يوم تال تومئ وتبربش وتشير بكفيها موافقة أيضا؟!

 .. فى مواجهة المرآة، لم ينشغل "سرى" بانسلاخ الجرادة وحده، ولا بزينة فقط،

انشغل أكثر بوجهه على المرآة، لم يره منذ زمن بعيد،

وفى الميدان، لم تكن هناك مرآه!

بدا وجهه على غير ما كان يعرف أو يتمنى!

بانت له سحنة مكسوة بالتجاعيد حول العينين، وزاويتي الفم، لم تكن تبين له من قبل، لعلها كانت منذ زمن ولكنه لم ينتبه!

لعله كان يغفلها عامدا متعمدا، تلك الحفر والأخاديد التي تجلت ووضحت أكثر، بينما كان يظن أنه غير كل الرجال، لن تقهره الأيام.

لم تختف رغم محاولات ملحة، وهو يحك المرآة بالمنشفة يمسح بها وجهه.. هزمته المرآة، وخدعته المنشفة، وصلته رسالة زوجته.. عن قصديه وعمديه أو عن غير قصد:

"ماذا فى رأس تلك المرأة؟ ماذا عن ليلة الأمس يا رسمية؟

رفع حاجبيه، الحاجبان معا!

عاد وقال:

"ربما كانت "رسمية" تتوقع أن أرى رأسي كما رأس الجراد، لي وجه غير قاس.. جديد،

ليلة الأمس كانت بعيدة المنال، وتحقق فيها ما لم يتحقق منذ زمن،

ربما أرادت "رسمية" أن تجعلني أتذكر انسلاخ الجراد، ليس أكثر، ربما.. لكن لماذا؟

كم هي خبيثة تلك المرأة.. بعد كل تلك السنين لم أفهمها؟!"

بعد فترة لم يحسبها تمتم:

"غاب عنها مقدار الألم الذي تقاسيه الحشرات عند انسلاخها ..

الآم كبيرة.. ربما،

لكنها بعد هذا الألم الكبير الذي تعانيه، تخرج بصورة أقدر وأقوى،

أنا أيضا فى انتظار سحنتي الجديدة!"

تذكر ما دار بينه وبين زوجته ذات مرة:

"عمليات التجميل شاعت، وتقدمت، يا "سرى".. لم تعد لنجوم السينما وحدهم"

لم يعقب.. فقط ابتسم، ظنا منه أنها تتحدث عن وجهها هي.

عاد وعاتب رأسه لأنه لم يكن ينظر إلى المرآة طوال السنوات الماضية..

عادت وعاتبته "رسمية" مرة أخرى:

"طول عمري كنت أرى أبويا يحلق ذقنه أمام حوض الحمام.. أو عند الحلاق، نصيبي وقسمتي جعلني أشوف من يضع الستار على المرآة، ولا يحلق ذقنه عند حلاق؟! أعرف أنك لست بخيلا، أعرف عنك الكثير.. لكنني لم أعرف سر كراهيتك لرؤية وجهك، ولا سر كراهيتك الذهاب إلى الحلاق؟!"

"لأن الحلاقون يخدعونني، يخدعون كل الزبائن..

 يعملون فى مؤخرة الرأس وفى قفا الزبائن، بينما يضعون مرآة كبيرة جدا ليرى الزبائن وجوههم!"

تمتم إلى أذنه:

"عامدة متعمدة فعلتها الملعونة "رسمية".. فهمتك، لكن ماذا عن الأيام القادمة؟!

.. مع ذلك، هذه التجاعيد من ثمار ضحكاتي وبكائي، وقدر غير هين من النفاق.. لا يهم"،

أدار "سرى" وجهه،

لم يترك شعر ذقنه، هكذا طويلا، غير مهذب، إلا أيام الحرب.. ياه، كم هي الأيام خادعة.

بدأ يحلق ذقنه، مبحلقا فى المرآة عامدا متعمدا هذه المرة.

شرد وهو يمنى نفسه بمكافأة أنفه، يبحث عن رضاها، وقد قنصت روائح فنجان القهوة الذي يعشقه صباحا كل يوم..

"ليكن فنجان قهوة هذا الصباح فى مطعم "الامفتريون"..

كم أنا فى شوق إليه، والى "مهدي" الكافتيرى، والصموت "عم صالح".. غائر العينين، وكأنه يزداد حكمة وهيبة كلما أبحرت عينيه إلى الداخل، وكأن عينيه ترى من قعر أمفوخه، ولا ترى مثل كل البشر بالشبكية والبؤبؤ..

أرغب لو أقص على مسامعه ما كان خلال الأيام الماضية..

لن أذهب إلى المصلحة، لن أخسر كثيرا أن يزيد عدد أيام غيابي التي قضيتها فى الميدان.. ميدان التحرير.. يوما جديدا..

وكم هي لهفتي أن أقص على مرؤسيى، عن كل أشيائي الصغيرة التي اكتشفتها وعشقتها هناك!

*****

الفصل الأول
-1-
منذ بضعة أيام، قرر "سرى" ألا يذهب إلى المصلحة!

انقضت عليه رائحة القهوة، تغزو أمفوخه وخياشيمه غزوا.. أكثر من كل صباح،

يشعر أنه أكثر شوقا لفنجان القهوة المحوجة بالبهار المحبب إليه، تناول إفطاره على عجل.. تغزوه روائح "حديقة جروبي" و"البن الالبرازيلى"، بينما عنده قهوة "مطعم امفتريون" أفضلها جميعا.

قوس ظهره، حمل رأسه بين تجويف راحتيه، وهو يعتلى القرصة البلاستيكية لسلطانية المرحاض الباردة.. لوي شفتيه، واتته الأفكار التي لم تشغله من قبل.. والأسئلة؟

لماذا لا يسمع أصوات راديو الجيران، من خلال نافذة الحمام المطلة على منور العمارة..

لم يسمع أغنية "يا صباح الخير ياللى معانا"، ولا الموسيقى المميزة لبرنامج "طريق السلامة".. انتبه أنه لم يسمعها منذ زمن؟

 بدا كما لو كان يقول لنفسه:

"هكذا سحلتني الأيام"..

"بل لماذا لم أنتبه من قبل؟!"

ابتسم بسمة لا توصف، ربما لو لمحها أحدهم يفسرها.. لم تكن بسمته بلا معنى، كان يبدو وكأنه يتوعد للجيران، أو لهيئة الإذاعة وللأيام!

يبدو وكأن الراديو فقد سطوته الصباحية، والمسائية وفى كل الأوقات!

وأن برامج التلفاز، لا يعنيها الغناء لكل صباح جديد!

"يا صباح الخير ياللى معانا.. كل الكون صحي وصحانا.. يا صباح الخير، يا صباح الخير.. يا صباح الخير.. "

"هي اسطوانة مشروخة يا "سرى".. الأفضل تحفظ الأغنية بكلماتها؟!"

سمعها فصمت، انه صوت حنجرة زوجته التي لم تتصيد كل أفعاله وأفاعيله!

اضطر أن ينتبه أكثر إلى الأصوات الزاعقة التي تواتيه من خلفه، من نافذة الحمام، أغاني حماسية تزعق.. لا أكثر؟!.

يعلم أن مثل تلك الأغاني لا تذاع إلا والبلاد فى حالة حرب أو تستعيد ذكريات حربا!

توقف عن الغناء، ثم توقف عن الانتباه للأغاني، قال:

"واضح أن المظاهرات زادت وأصبحت حربا!"

عاش الرجل الربعة منذ سنوات بعيدة، مكتفيا برأسه مستمتعا بانتفاخ شحمه ولحمه تحت جلده، لا يتابع أخبار الدنيا ولا البلد، إلا ما يأتيه عفوا من شباك الحمام كل صباح، وهو يعتلى سلطانية المرحاض لقرابة نصف الساعة. يرفض حوارات زملاء العمل السياسية دوما.. قديما لأنه المرؤوس المهذب الذي لا يخالف رئيسه أبدا.. ومنذ فترة قريبة لأنه الرئيس أو المدير الذي يرى لا جدوى من الحوارات السياسية، لأن رئيس البلاد والساسة من حوله، عندهم كل الخيوط والأسرار و.. والحكمة. بدا "سرى" طوال تلك السنوات، وكأنه عالم وحده.

منذ أن وقع "أنور السادات" اتفاقية "كامب ديفيد"، دون إذن منه، و"سرى" يملأه الغضب!

هذا هو بالضبط السبب الحقيقي وراء عزلته، ورفضه الاستماع إلى الراديو والتليفزيون، ولا يشترى الجريدة الصباحية.

هو السبب الذي أعلنه بثقة يحسد عليها..

كثيرا ما سخر منه زملائه، وضحكوا على ما يبرر به أحواله وعزلته، فاتهمهم بالجهل..

حتى لا يغضب أكثر عما هو عليه، زاد من انشغاله بعمله ونفاقه لرؤسائه، حتى أصبح أصغر المديرين فى المصلحة الحكومية كلها.

منذ أن أصبح مديرا، رفض أن يناقشه مرؤوسيه فى قراراته، وأتهمهم بالجهل، لأن ما يملكه من معلومات وتفاصيل لا يعرفونها.. ولن! على يقين هو، أن المديرين والرؤساء يملكون من المعلومات ومعرفة الأسرار ما لا يملكها ولا يقدر عليها المرؤوسين..

هذا هو الدرس الايجابي من وراء خلافه مع السادات.. ربما الرجل لم يسأله الرأي، لأنه يعلم ما لا يعلمه غيره.. وهو المبرر الوحيد الذي أقنع به رأسه، فهدأ روعه وغضبه قليلا، وان لم يتراجع عن قراره فى مقاطعة الجميع وعلى رأسهم "السادات"..

وعندما أصبح مديرا، تبنى ما فعله "السادات" تماما، ولم يسمح لمرؤوسيه مناقشته!

لا يدرى بالضبط كم انقضى من الوقت؟

كيف ارتدى كل ملابسه، وتناول إفطاره وحده، بعيدا عن "رسمية", التي سرعان ما عادت إلى سباتها تشخر. لكنه يدرى وبوعي وعن عمد أنه دفع باب الشقة خلفه وبقوة، لم يعبأ معها بصوت أصداء رجرجة أبواب شقق الجيران الذي واتاه حالا..

فابتسم!. البسمة نفسها، التي هي وحدها "رسمية" التي تعرف معناها.

كان "سرى" من قبل، فى كل صباح فائت ، عامدا ينزلق إلى باب العمارة، يمر أمام صياح "زينة" وشجار أبيها، لم يسع أبدا لأن يقتحم غرفتهما ويتدخل لحماية الجميلة.. ربما لأن الأمر لا يعنيه من قريب أو بعيد..

ربما لأنه يعرف الأسباب والنتائج!

 -2-

أيقن أنه على حالة واتته لم يدركها من قبل.. لم يدهش، لم يفرح، لم يحزن، لم يتألم.. ولم يقرر قرارا يعفيه مما هو فيه، فقط أقسم أن يحتسى فنجان القهوة صباحا فى مطعم امفتريون وليس فى المساء كعادته،

مهما كانت العواقب، لن يذهب إلى المصلحة!

اندفع نحو باب المصعد، فورا دس كل أصابع كفه نحو الزرار الأحمر، وانتبه قليلا، لم تنقض ثوان خالها ساعات، وأعاد المحاولة..

اكتشف أن المصعد هامدا فى انتظاره، فى الدور الرابع، حيث يقيم!

هبط وتوقف المصعد فى ثوان، أحدهم لم يترك له فرصة أن يفتح الباب، سحبه إلى الخارج ثم دخل قبل أن يخرج هو، نظر نحوه مليا، بان له أن المقتحم يكاد لا يشعر بوجوده..

أسرع بكامل جسده يشق فجوة باب المصعد الموارب، يكاد يهم بالانغلاق ثانية.

سمع المقتحم يتمتم:

"الدنيا هايجة، وانقلب حالها.. لن تصل إلى محل عملك"

أومأ شاكرا مع بسمة هينة، وهو يردد فى نفسه..

"الجن أخبرني.. لن أذهب!"

 بان مشهد الممر، حيث باب العمارة فى نهايته.. طويلا طويل. فعل كل ما فعله ولا يدرى أنه انتهى من طقوس يومه الصباحية، ولا يبقى سوى أن يذهب، ويحتسى فنجان القهوة.. الذي خاله أمنية يدعو الله أن يحققها.

فلما بلغ عتبة باب العمارة، توقف.. هرش قفاه.. عاد وأخرج المنديل الأبيض،

حاول أن يتمخض، دون حاجة لأن يتمخض.. وضع كفه اليمنى فى جيب بنطاله وهزهز بعض العملات المعدنية، أخرجت صوتا مكتوما، لم يسمعه، وان شعر بفرقعاتها على جلد فخذه.

أخيرا تساءل:

لماذا العجلة؟ فنجان القهوة فى انتظاري وقتما أصل؟!

.. "لن أقابلة.. لن أراه.. وحياة الغالي عندك كفاية ضرب.."

"قلتيها من قبل.. وقابلتيه من جديد.. وسطح العمارة شاهد.."

على غير عاداته، تمنى "سرى" بصدق أن يتدخل بين "زينة" وأبيها حارس العمارة، كثيرا ما سمعهما من قبل ولم يفعل.. كما فعل حالا،

شجار البنت الجميلة مع أبيها لفت انتباهه منذ زمن، ما كان يسعى للمصالحة بينهما،

كثيرا ما كان يكتفي بالتلصص من خلف باب حجرتهما المرمية هناك!

بجهد جهيد تابع الحوار المتقطع، ثم سعى أكثر لأن يفهم ويفسر فى فضول لم يكن عليه أبدا من قبل.. كان صراخ "زينة" الباكي هو الغالب.

يعلم "سرى" كل التفاصيل!

"أمر هين وبسيط.. دقائق تحول بيني وبين فنجان القهوة المنتظر.. لن تضيرني كثيرا،

بكاء البنت يؤلمني"

يعلم أن "محروس" حارس العمارة يضرب ابنته على غير رغبته، يضربها بسبب الحب..

يتمتم "سرى" مبتسما:

والله كبرتى وعرفتى الحب يا "زينة"؟!

اقتحم حجرة الحارس وابنته، فورا نال لطمه من قبضة الرجل المرتعشة، وان ألامته كثيرا، لم يتململ، تابع المهمة وتنفيذ قراره..

حاول أن يحيل بين الرجل وابنته، ظل معلقا بليونة جسد الغضة البضة بين ذراعية، يطلب من أبيها أن يكف عن ضربها ويهون من غضبته..

ولا يتمنى أن يسقط ذراعيه، أحاطته شرنقة هالة دافئة ناعمة يستشعرها.

لم يدهش أن يرى "محروس" يهدأ فجأة، وهو يصيح متهدجا:

"حرام عليك.. حرام عليك يا بنتي!"..

تحقق ما توقعه، ما يعرفه عن معاملة الرجل لابنته اليتيمة!

لم يجد ما يقوله للرجل ولا لابنته.. فقط رمى نظرة فاحصة وربت على عضدها وهو يهزهز رأسه، فانتشى بدفء يتجدد فى هذا الطقس البارد..

مال إلى إذن البنت "زينه" هامسا بهمسة لم يسمعها الأب المصلوب على قدميه:

"حبي يا بنت.. الحب حلو"

كادت البنت "زينة" أن تصرخ بقهقهة من القلب، نجحت فى حبسها، فتحولت الضحكة المقهقه إلى محاولة لافتعال الكحة والسعال الجاف!

يبدو أن كلماته كانت على غير توقع الجميلة الصغيرة، وان بدت على هواها..

حدقت طويلا إلى هناك، إلى أي شيء، بعيدا عن عيني "سرى"،

انفرجت أساريرها، عادت وانقبضت على هيئة بسمة هينة،

ما فتأت أن انفجرت على هيئة صرخة ضاحكة لم تهب حضور أبيها، ولا غضبته، ولا الدنيا كلها!

شعر "محروس" بالارتياح، أن وجد "سرى بيه" أمامه.. لم يشأ أن يستفسر، بدا وكأنه يريد أن يضربها، ضربا لا يؤلمها، يتمنى ألا يراها تبكى، وان فعل عكس ما بدت عليه انفعالاته..

ربت على كتف الأستاذ "سرى" شاكرا حضوره لأول مرة.. ثم رمى نظرة إلى سقف الحجرة المرمية فى جوف العمارة، شاكرا ربه فى صمت أن عادت البسمة إلى ابنته!

عاد وأدار وجهه، افتعل الحمية قائلا:

"آخر مرة يا زينة.."

ردت زينة بصوت مشروخ:

"آخر مرة يا بويا، حرمت أطلع سطح العمارة!"

ترك "سرى" الحجرة، تملؤه مشاعر لم يستشعرها منذ زمن..

كأنه اكتسى بغلالة لا تبين لأحد، جعلته أقل وزنا وأكثر نشاطا، وإلا بماذا تفسر تلك الخطوات المندفعة السريعة نحو باب العمارة؟

من جديد وقف أمام عتبة باب العمارة، صامتا.. كما كان منذ قليل، ناسيا أو متناسيا ما كان بين محروس وابنته.

*****

الفصل الثاني
-1-
وكما كل الصباحيات، بعدد أيام عمره، كان صموتا مطأطأ الرأس والرقبة شاردا..

عرف من اللغة، الصمت، وفحيح حروف الكلام أحيانا،

كان الصمت لغته.. حتى جاهد نفسه طويلا وشق سكان المدينة إلى شقين،

الناطقون بالصمت، وهم الحكماء والجبناء معا..

والناطقون بالحروف الثرثارة المواربة، من أفواه الفجرة.. لا يستحون من أفاعيلهم.

لم يكن الصمت أخرسا، كانت مفرداته.. من دموع ونحيب وخوف ووجل وترقب واستفهام وإنكار وتنكر ومشاعر لا تعرفها الكلمات، إن حاولت التعبير عنها.

أتساؤل هو؟.. ربما،

أتحفز وترقب وانتظار؟.. جائز،

أتمرد واستنفار، لا يعرف الاستقرار؟.. يحتمل،

الأكيد المؤكد أن الصمت صنع أضغاث حلم طويل أو كابوس أو حتى رؤيا نبوية.

كلمات خطها "سرى" على قصاصة ورق ملقاة بإهمال فوق منضدة مطعم "أمفتريون"، في انتظار فنجان القهوة.. انتظره طويلا ولم يأت!

أكثر ما يتعلق به "سرى" فى هذا المطعم، كوب المياه النظيف جدا إلى جوار فنجان القهوة!

كم من مرة يسخر الأصدقاء منه كلما برر عشقه للمكان بسبب كوب المياه، ولا يرد عامدا، مقتنعا بمبررات فى رأسه وحده.

شغل رأسه باللافتة التي تحمل اسم المطعم باللون الأزرق، لم تكن مضيئة..

انه "أمفيريون" إذن،

ذلك الذي تجرأ أن يطلب يد الأميرة، فرفض الإله زيوس وخصها لنفسه..

حين عاد العاشق منتصرا، وجد المسكين أن حبيبته، مارست الزنا عنوة بقوة زيوس.. أو استسلاما برضاها ورغبتها، ما عاد يهم..

أنجبت طفلان، هرقل ابن الزنا، والأخر ابن نطفته..

نصيب هرقل من الخطيئة، أن يعيش على ذمة طبول الحرب، عله يبرر وجوده بين الجميع..

وعاش مع بكرة شبابه، يدفع ثمن خطيئة لم يرتكبها!

قدره أن يحارب سطوة اله لم يره..

يأمره فحسب، يجد نفسه فى ساحة معركة..

استسلم لتنفيذ اثني عشرة معركة.

ابتسم "سرى" حينما ضبط نفسه يتذكر ما قرأه يوما:

"كم هي الأساطير جميلة وان كذبت.. أو لأنها كاذبة تبدو جميلة!

.. أظن يقينا أن هرقل كان راغبا فى أن يقول كلمته..

وإلا قتله الملل والخوف قبل الأعداء"

بان له انقضاء الوقت بينما الفنجان المنتظر لم يأت..

بقعة أشعة الشمس بدأت تغزو الساحة هناك من حوله،

وجوه كثر زادت فى الشارع أمامه،

امتلأت خياشيمه برائحة القهوة التي يرجوها تأتى ولا تأت..

تمتم:

"ما لي أشم روائح كاذبة؟!"

تأخر النادل إذن، يبدو أن العم صالح يشارك فى المؤامرة؟!

دفع المقعد الخيزران وتقدم، يسبقه صوت حذائه يزحف ببطء ولكن بانتظام وإصرار،

فانتبه له العم صالح وعمد أن يختفي عن ناظريه، مما استفز صاحبنا وزادت سجحات حذائه على الأرض،

بلغ مخبأ الرجل، رآه منزويا فى أوفيس المقهى من الداخل.

قبل أن يسأل سؤاله المتوقع، رفع صالح رأسه، قال:

"كل شيء جاهز، لا تقلق!"

.. صمت "سرى" وان زادت حيرته بعد أن سمعه يقول:

"ابن الكلب لم يصل.. هه، الغائب حجته معه!"

.. لم ينبس، وان زادت بحلقته، فتابع النادل:

"أقصد الواد مهدي الكافتيرى"

غلب الصمت، فاقترب منه العم صالح بشدة، اقترب أكثر كثيرا مما يشي بسر يشينه:

"اسمع.. يقولون أن الطرقات تملأها الحناجر، والغضب ملأ الدنيا كلها..

اسمع.. سوف أجهز لك فنجان القهوة بنفسي، أنت زبون المكان ولن نخيب ظنك فينا"

لم يجد "سرى" ما يعقب به، كل ما شغله، الأمل فى احتساء فنجان قهوة يعشقه.

وهو فى طريقه إلى المنضدة ثانية، رمى ذراعيه فى الهواء معاتبا، يؤنب نفسه:

"كيف لم يستنتج أن المكان لا تعبؤه رائحة القهوة أو النسكافيه؟!

يبدو أن الروائح قادرة على الكذب!

ربما أنفى هو السبب.. أمر هين وبسيط!"

ولم ينتبه أن المطعم يخلو من رواد الصباح؟!

فلما هلت رائحة كنكة القهوة حالا، وبحق..

شكر الرجل طويلا، وان لم يعقب العم صالح بكلمة واحدة امتنانا بما صنع، اكتفى بتأمل الفنجان وطبقة أكثر عتامة تعلوه، دليل حنكته فى صنع القهوة التركي، وأنه لا يقل مهارة عن "مهدي" الكافتيرى.

على غير توقع، وقبل أن يدير وجهه،

لعن المظاهرات وأيامها، صانعيها وروادها، أسبابها ونتائجها.. ووقفة الحال معها!

لاحقه "سرى" قائلا:

"هل سمعت جديدا؟"

"أنا مع أكل عيشي"

ولم يترك له فرصة لكلمة واحدة ينطقها،

وان نطقها لن يسمعها العم صالح الذي اختفى!

 

-2-
يظن البعض أن مطعم الأمفتريون بلا باب، لأنه يطل مباشرة على الشارع، ولا يوجد حائل خشبي كان أو حديدي..

أنا منهم، كنت أظن ذلك، الآن بان لي عكس ما أعتقد أو يعتقدون..

لأنني تخيرت المنضدة الأولى عند زاوية سور يطل على الشارع وسور جانبي يحتضن أربع درجات سلم،

تأكدت أن للمكان بابا يكاد يكون موصدا إلا لمن يقتحم الدرجات الأربعة برغبته. يبدو لي أنني رأيت اليوم ما لم أره من قبل، هذا الباب الخفي يمنع المارة من اعتلاء درجات السلم الأربع، عشرات المارة يغبرونه على عجل.. ربما لانشغالهم بوجهتهم التي سيذهبون إليها،

لأن المكان لا يروق لهم، الباب الحائل فى رؤوسهم.. داخل عقولهم،

كم من الأبواب الموصدة فى رأسي..

فانشغلت بالبحث عن تلك الأبواب التي واتتني عنوة، لعلى أسرى عن نفسي وحشة المكان غير المعتادة.

.. جدي، هو الوحيد فى هذا العالم، لم يكن له باب.. خفي كان أو ظاهرا. اقتحمه فى أي زمان أو أي مكان كان، فلا يردني أبدا!. اعتدت أن أولى وجهي شطر ظله، أينما ذهب. أتابعه وأحوم حوله فى السوق، وفى مجلسه المعتاد بجوار المنبر الخشبي الصغير المتهالك لمسجد صغير بجوار المنزل. كان جدي يجلس وحده على أريكة خشبية، بينما أرى الجميع من حوله، يفترشون الأرض، تشرئب رقابهم، ويعلقون أبصارهم نحوه.

يفضل جدي الجلوس على طرف الأريكة, مشدود الجزع والرقبة, مائل الذقن للأمام قليلا وإلى أعلى، ويظل على هيئته تلك لساعات طويلة، بلا كلل أو ملل.. بسبب هيئته تلك، ولأسباب أخرى لم أكن أعلمها، أطلقوا علية لقب "سيدنا". لكنني أدركت جيدا، أنه كثيرا ما يلتف الجيران من أهل الحارة، والحارات البعيدة، حوله، ينصتون فى صمت لكل همساته وخلجاته..

أدهشني أنهم يفهمون عن جدي أكثر منى، ففي صمته ما يعنيه عندهم، وفى ثرثرته!

يأمرهم باحتساء القرفة والجنزبيل شتاء والينسون صيفا.. وتناول سبع حبات من التمر فى كل صباح، إن صيفا أو شتاء.. ووصايا أخرى ويفعلون..

أكثر ما سمعته يوصى به، احتساء فنجان من القهوة التركي فى كل الأحوال.. فى حالة العلل والأمراض، وحالات النشوة والانشراح!. فكانت الوصية الوحيدة التي تعلقت بها، ورفضت وصاياه كلها!.

لم يكن صوت جدي الرخيم خفيضا مهما حاول، فكنت أتسمع همسه الزاعق بنصائحه العجيبة التي أدهشتني.. سمعته يهمس فى أذن أحدهم، يأمره أن يعتزل زوجته المتمردة حتى تسعى إليه نادمة..

تجرأت وسألته مستفسرا؟!

فضربني برفق بسواك قصير فى يده، لأنه لا يسير بل لا يبدأ حديثا فى ساحة المسجد الصغير، إلا بعد أن يسوك أسنانه. كانت ضربته على رأسي هينة، لكنني لم أتقبلها، ولم أفهم لماذا ضربني؟!، لولا أن ابتسم وقال:

"غدا سوف تعرف"

لولا تلك الجملة، ما كنت صمت، أمر هين وبسيط، تعلمت الدرس جيدا، أن أسعى لأن أعرف وحدي.. كلما شئت، وقتما شئت، أينما كان موضع الإجابة، منذ ذلك اليوم، قررت أن أعرف بنفسي ما أشاء!

وفى الأيام التالية عرفت عن جدي، ما لم أكن أعرفه عنه، كان من مجموعات الفدائيين، يهاجمون جنود الانجليز فى معسكراتهم على خط القناة، إلا أنه كان دوما يختم حكاويه وأقاصيصه بجملة واحدة:

"إحنا أصحاب الثورة، حتى ولو كان العسكر هم من أعلنها"

لم أكن أفهم ما كان يعنيه وحتى بعد أن سألته، سؤالا محددا.. لم يجب، فقط ربت على كتفي قائلا:

"غدا سوف تعرف!"

منذ تلك الأيام البعيدة، ظننت أن ما يجب أن نعرفه حتما سوف يأتي مع مرور الوقت، وهو ما تأكدت من كذبه، وخداع جدي لي بمضي الأيام. ألا أراهن على الوقت أبدا.. أراهن على نفسي.

.. أما أبى فقد كانت له أبواب كثيرة، ليس بابا واحدا!. وان كان قصير القامة نحيف القوام، كان مهابا بلا مبرر إلا لكونه أبى!. على النقيض من جدي، لم يكن محبا أو كارها لواحد من رجال السياسة، أراه يخشى الحديث عن أيهم، وان اضطر، أسمعه يرمى بلقب يشير إلى أي منهم:

"الزعيم كان مخلصا وحسن النية حتى ولو عانينا من أخطائه.. والرئيس المؤمن خاف من اليساريين وجلب اليمينيين من تحت الأرض.. وصاحب الضربة الأولى ثم يصمت ليضيف، كان معذورا، اضطر أن ينشغل بنفسه ولنفسه، لم يجد من يتشاور معه، ولا من يصلح لان يكون نائبا له وعنه!"

مرت الأيام، كبرت وناطحته رأيا برأي.. لم يتحمل رأيا يخالف رأيه، وان كنا نتحدث حول طبخة "محشى" بالأرز والفلفل!. فيما بعد أخبرتني أمي، كلما سمعتني العنه والعن اليوم الذي جعلني من نطفته:

"أبوك يحبك.. لكنه يخاف عليك؟!"

لم أفهم إلا بعد سنوات ماذا كانت تعنى!. .. المصيبة التي ألمت بى، أن وجدتهم كلهم مثل أبى، من ذوات الأبواب الموصدة.. مديري فى المصلحة الحكومية، محصل الأتوبيس الموصل إلى مقر عملي، بائع رغيف الخبز فى الفرن المجاور، جندي الحراسة أمام باب قسم الشرطة،

التمرجي الهمام فى المستشفى الحكومي، مدرسو الحضانة وأساتذة الجامعة.. وكل من قابلت، كلهم!.

 

-3-
"مهدي" وصل! كمن شقت عنه الأرض وقذفته، هكذا استقبل العم صالح، الشاب الكافتيرى.. بينما أرى الشاب العفي المجهد مبتسما بسمة عريضة، لم أفهم سرها! يبدو البعض ذات مرة.. أغبر أشعث وعليه كل أوصاف اللغة العربية المقعرة، تلك التي تصف أحدهم لتخبرنا أننا أمام شخص ما، ربما لم ينم منذ فترة طويلة، ولم يغتسل، كرب الطلعة، كئيب السحنة، غامض، ومثير.. تغلب عليه الحيرة والتيه والشرود ثم الضعضعة والوهن.. إلا أن يكون هكذا حاله، ويبدو باسما بثقة غريبة غامضة، هكذا كان الكافيتيرى!. اقتحمتنى رائحة "مهدي"، عبأ أجواء المكان والهواء أعلى المناضد الخاوية من الزبائن إلا اياى، كانت رائحته ملساء ناعمة، لكنها نفاذة غير مقززة. ما أن رآني، حتى انقلبت أحواله، فبدا: نشطا، فرحا، كما لو كان يريد الثرثرة مع طوب الأسوار الوطيئة أمامي، وبلاط أرضية المكان من تحتي، لم أعرف عنه الثرثرة، لم يعتد الحديث معي أو مع الزبائن، لسبب بسيط.. لأنه الكافيتيرى، ذلك الكائن الخفي هناك خلف نصبة تخصه وحده.. يمضى يومه واقفا يعد المشروبات الساخنة أو الباردة، إن صيفا أو شتاء هناك. تلك النصبة الخاصة التي لا يعرف أسرارها أحد، ولا مالك المطعم أو المقهى ذات نفسه!. إلا من عمل خلفها ومارس تلك المهنة، كفيلة هي وحدها، أن ترفع من مكانة مقهى أو ملهى أو حتى الفنادق خمس نجوم عن أخرى، ومع ذلك لا ترى الكافتيرى، ولا يسعى أحد أن يراهم.

كان الشاب كما كل "كافتيرى" لا يعتني بهندامه وحلاقة ذقنه وتلميع حذائه، إلا ما ندر.. ولا يسعى لأن يكون خفيض الصوت، مهذب الحديث، باسم الثغر، كما زميله الجرسون الذي عليه مسئولية مواجهة الزبون والتعامل معه.. الآن رأيته متوهجا، وان بدا شاحب السحنة.

لم أجد لمشهده هذا تفسيرا، وقد عهدته صموتا، بعينيه يرسل رسائله كلها، وان بدا لي أنها لا تسعى لإرضاء أحد، ولا معاداته..

 هاج وماج العم صالح، ولعن جد أجداده لغيابه طوال الأيام الفائتة، لم يحدد عددها، لكنها ليست طويلة، لم تكن أسبوعا مثلا، ولا هي ليوم واحد..

لم يدر بيننا حوارا من قبل، وان حرصت كثيرا ولأسباب تخصني، أن أذهب إليه فى مكمنه خلف النصبة.. تلطمني الروائح والرطوبة والأبخرة وسحنته المحايدة.. بعد كل مرة انتهى فيها من احتساء فنجان القهوة، أسعى لأن أثنى على مهارته وجميل صنعه، لم أره لمرة واحدة حريصا بأن يرفع رأسه من أعلى الكنك المرصوص، والى جوارها براد المياه الساخنة، ثم قطع الفحم المتوهجة لزوم الشيشة.. فقط يومئ، واكتفى بأن عبرت عن امتناني، حتى ظننت أنه لا يعرفني!

ما حدث الآن، رأيته يقتحم باب المطعم الخفي ويحتوى درجات السلم الأربع فى خلفه، يتجه نحوى غير عابئ بصياح وسباب "صالح"، وينظر إلى، يقول..

.. صدقني يا سرى بيه، ما حصل وكان منذ يوم خمسة وعشرين يناير، لحد الوقتي، شيء ولا فى الخيال، ولا فى الأحلام، ولا يصدقه عقل.. تعرف أنت يا سرى بيه.. "

هل تعرفني وتعرف اسمي؟!"

 لم يجب وتابع وحده.

.. تعرف أنت، أنا عمري بالعمر ما كنت مصدق أنى أقدر أنجز عملا، لا فى حياتي ولا حتى فى عملي وأكل عيشي هنا.. أنا عامل كافتيرى كل همه إعداد الشاي والقهوة والينسون والشيكولاتة باللبن، وآخر الليل أرجع بيتي أو بالصحيح لبيت أبويا، مهدود الحيل منكود.. لا أنا قادر على توفير شقة، ولو فى حجم عشه فراخ، وأتزوج.. (بعد فترة صمت) ولا قادر أحب، ما هو حتى الحب محتاج فلوس!

قاطعته متعمدا: "وهو الحب محتاج مساند ودعامات، ما لك حق؟" بدا وكأنه لم يسمع، وربما عامدا لا يريد أن يسمع.. ثم تابع: .. "أنا حاصل على دبلوم تجارة منذ عشر سنوات، ومسئول عن أبويا العاجز، وأمي اللي أكلها مرض السكر، واخوتى الأربعة كلهم فى المدارس.. وكل ما أتحصل عليه، أنفقه عليهم .. يومان فقط، بعدهما ولأول مرة أشعر أنى عملت حاجة، أو بالصحيح أقدر على عمل ما، غير إعداد المشروبات الساخنة!"

"لا عرفت حكايتك، ولا أنا فاهم؟" بان العم "صالح"، يتابع كل كلمة دون أن انتبه، كلانا لم ينتبه لوجوده، حتى صرخ فى "مهدي" بحنجرة ما كنت أعرف أنه يملكها: "وأكل عيشك يا مجنون يا بن المجنون، الجوع لا يرحم، وهو أنت أحسن منى.. أنا حاربت فى ثلاثة وسبعين، واليوم الحرب مع لقمة العيش.. بسرعة على النصبة يا مخبول يا ابن المخبول.. وقفت حالنا؟!" بدا المشهد أمامي محيرا وغبيا، أو هكذا رأيتني أمامهما وهما فى حوار يندر أن أسمعه، ولو عشت مائة سنة أخرى!

احتقنت أذني صالح واشرأب برقبته يقول: "وهو أنت بتكسب قليل، السر دفنه معك، وأعرف كل أسرارك" "مصاريفي كثيرة وأنت تعرف.. أجرى على عيلة" "أنا كل ما أعرفه، على قد لحافك مد رجليك" "وأنا لحافي قصير، وهمي ثقيل.. أبويا طلع على المعاش المبكر، وانصرفت كل المكافأة بعد سنة واحده على علاج الشلل، وقاعد على الكرسي المتحرك إلى اليوم.. أمي بجهل وبقلة حيلة، لا هي نظمت السكر فى دمها، ولا العلاج نافع معها.. واخواتى.."

قاطعه الرجل وبنظرة تحدى وقد اقترب منه أكثر: "ما أنا كمان عارف وساكت.. توفر فى السكر، وآخر الليل تخبيء الكيس بين رجليك، وتبيعه للبقال جاركم.. ومنه تشترى أكياس البن المحوج، وأكياس الشاي، وتبعها طلبات لحسابك.. وعلى يدي مكسرات السحلب الأصلية تسرقها، وتستبدلها بالفول السوداني المحمص.. وعلى يدي.."

بهدؤ غريب وثقة لم أتوقعها عقب "مهدي" وقال: "تنكر يا عم صالح، تنكر أنك مشاركنى، النص بالنص يا عم صالح.. فيفتى فيفتى!"

غلب الصمت، على قدر ما رأيت من غرائب فى أحوال الناس مع عمري اللي جاوز الخامسة وخمسين، لم أستوعب ما أرى وما سمعت.. لست قسا فى كنيسة فوق كرسي الاعتراف، لم أجد تفسيرا إلا عندما مال العم صالح نحوى أنا هذه المرة..

"تصدق بالله يا سرى بيه، ولا مكفى، والشكوى لغير الله مذلة!"

لم أجد ما أعقب به.. إلا بالصمت، هو الصمت الذي لذت به، وكما أفعل كلما عجز عقلي عن الفهم، أو عجز قلبي أن يرق أو حتى ينتفض غضبا.. الصمت الذي تشرنقت داخله، كان كفيلا بأن أذهب بعيدا، فلا أتابع ما يثرثر به صالح بأكثر مما سمعت.. لم أنتبه لاختفاء مهدي من أمامي! فقط انتبهت لعم صالح يصرخ فى وجه الشاب العفي ويسبه، ثم ضحك.. ضحك يشده، وهو يقول:

"عامل فيها هرقل؟!"

ربما يمكن سماع مثل تلك الكلمات ولا تلتفت إليها، ما شد انتباهي حقا، أن رأيت الشاب "مهدي" يتوقف عن السير، يدير جسده دورة كاملة، يقول:

"أنا هرقل.. أنا فعلا هرقل ابن الحرام، وسوف أحارب كل من ظلموني!"

دهشت،

هل حقا عملهما فى مطعم "امفتريون" يبرر معرفتهم بالأساطير؟!

لم أصبر، أزحت المقعد الخيزران، حتى صنع ضجيجا بلا معنى، اقتربت من "مهدي".. سألته،

فأجاب:

"والله ولا قرأت عنه.. لكن صدقني، أنا أشعر أنني أصبحت أقوى منه.. أنا أعرف أنهم يضربون به المثل!"

 

-4-
فلما عاد "مهدي" بدا أكثر هدوءا، غير مبتسم، قطرات من المياه تقطر من بين شعر رأسه، لم يكن مضطربا، وان تزحزح لخطوة للخلف عن موضع قدميه، قبل اختفائه.. فلم يتبين "سرى" احتقان عيني الشاب، ورطوبة جفونه، رغم أنه وضع رأسه تحت سيال من المياه الباردة، هكذا المياه فى شهر يناير.

لم يشأ "سرى" أن يكتفي بالصمت، صمت المجهد أو الحائر، ليس تعقلا وحكمة. لكنه تشجع عندما تأكد أن الشاب مضطربا ووجلا، لا يدرى كيف يبدأ ويعبر عما يهم بالنطق به؟ هل من الحكمة ألا يعبر عن اعتراضه، ويتابع بلا مبالاة، ويستمع فى صمت ما يقترفه الكافتيرى فى حق صاحب العمل، إنها سرقة؟! أم هي الحكمة التي يجب أن تدفعه لأن ينصح الشاب؟ على الأقل دفاعا عن مكانته بينهم، وقد وضعه صالح والشاب فى مكانة متميزة.. "لكن بماذا أنصح؟!. لست واعظا ولا شيخا فى مسجد، كلنا لصوص يا ولدى، كيف أقولها صريحة وأعترف كما فعلت أنت منذ قليل؟! ماذا أقول؟! كف يا مجنون، لا تتكلم فى السياسة.." ربما عن غير عمد، أتاح "مهدي" الفرصة ل "سرى"، كي يجيب على كل الأسئلة التي حيرت رأسه.. بسبابته رشق "مهدي" رأس الرجل وقال: "أعرف أن كل ما قلته حقيقة، وأعرف أنه خطأ.. لكنني أعرف أيضا، أنني مضطرا.." صمت "مهدي" وكأنه يريد أن يسمع كلمه تعضده، أو غير عاتبة.. لكنه لم يسمع.

وحده قرر الكافتيرى، أن يدير دفة الحديث إلى حيث يشاء، يبدو أنه التقط ملامح "سرى" المنتبه، فتشجع:

"مبارك حكمنا ثلاثين سنة، هو السبب، عاش لنفسه ونسينا.. كفاية عليه كده!" لم يكن "سرى" راغبا عن الذهاب إلى المصلحة، وعامدا جلس ها هنا فى المكان الذي يعشق

رائحته، كي يحتسى فنجانا من القهوة.. ما كان يفعل كل هذا حتى يأتيه حديث المظاهرات ووجع الرأس ثانية!

انتبه عن غير رغبته، ذاك الذي يعلم سر الدربكة، التي استشعرها فى الشوارع، وهو فى طريقه إلى المصلحة.. ما كان يسمح، ولن يسمح للموظفين بمخاطبته فى تفاصيل ما يرونه، أو فى أية موضوعات بعيدة عن موضوعات العمل، لأنه حديث الجهلة المغررين الذين لا يعرفون قدر أنملة فى أمور السياسة.. "السياسة لها ناسها، وما يعلمه السياسيون لا نعلمه نحن العامة من الناس"..

كان يقولها بالصوت العال عامدا متعمدا، حتى إذا ما كتبت عنه التقارير السرية للترقي، يقال عنه أنه من غير المعارضة، وربما يصفونه بالمنتمى للنظام، وان لم يلتحق بالحزب الحاكم "الحزب الوطني".. على الرغم انه يعلم أن المدير المنتمى للحزب أعلى درجة من أن يقولون انه مطيع ومنفذ للأوامر ومنضبط.

يعلم أنه مهما فعل فهو ما زال على درجة أقل، وربما يحتاج إلى المزيد من الرسائل كي يعلمون عنه انتمائه وولائه.. يسعى حثيثا أن يحتل درجة أعلى من الممكن أن تضعه على رأس المصلحة الحكومية يوما ما.. وغدا لناظره قريب، هكذا كان دوما يمنى نفسه، ويعد العدة ليوم ولايته لشئون المصلحة.

منذ أن خدعه "أنور السادات" وفعل فعلته!، يوم أن تجاهله، ولم يستعن برأيه فى اتفاقية "كامب ديفيد"، سافر وتفاوض ووافق ووقع وعاد.. ولم يبعث إليه أو حتى فى اتصال تليفوني، لكي يستنير برأيه؟! يظن "سرى" أنه كان من الواجب على "السادات" أن يفعل ذلك.. لأنه من محاربي أكتوبر.. وعليه بعد ذلك أن ينفذ ما يراه، ويوقع كما يشاء.. فهو المسئول الأول، ليتحمل مسئوليته، وما على "سرى" وأمثاله، إلا النصح والإرشاد!

يبدو "سرى" جادا فى كل كلمة نطقها، الزملاء من صغار الموظفين جعلوه سلوتهم.. منهم من قال عنه أنه حكيم وناصح.. ومن لقبه قائلا "سرى المجنون"!. فكف سرى الإعلان عن رأيه.. وكف متابعة أخبار الاتفاقية.. حتى انتهى به الأمر إلى أنه كف متابعة الناس والإعلام!. لكنه لم يكف عن ترديد مقولته لنفسه فى الحمام.. ولم يهمد، بدأ يدير معركة جديدة ومختلفة مع نفسه وحده، وجعل من طرقات وحجرات ومكاتب المصلحة هي أرض معركته.. معركته التي أعلنها فى سرية تامة، وأعد الخطة وبدأ التنفيذ.. وأصبح شعاره: "معركتي هي لقمة عيشي، وكما انتصرت لهم فى حرب 73، وعلقوا النياشين على صدورهم ، مقابل عرقي وجهدي ودم الشهداء المجندين من رفقاء القروانة.. كم نالوا من المكاسب بسببي، سوف أنال أنا وحدي أيضا، بعرقي وجهدي ودمى وأعصابي أيضا.. إن غدا لناظره قريب"، صحيح، الغد لم يكن قريبا، حتى اليوم لم ينل من المكاسب الكثير، لم يصبح على رأس المصلحة كما خطط منذ ثلاثين سنة، لكنه على الدرب يسير والى هدفه يعدو بصبر دءوب!

لا تدهش لو علمت أن حربه حددها بوسيلتين.. الورق، والدسائس!. أما الورق، لأنه يعلم تماما بخبرة الأيام والسنين فى عمله الوظيفي، أن كلمة فى ورقة أصدق وأبقى من القسم بالله العلى العظيم أمام محقق؟!. كانت الوقائع الملفقة، يحصل من مديره على توقيعه على غير تعليمات المصلحة، بأن يدس ورقة وسط كومة الأوراق التي يطلب من مديره أن يوقعها، أو يحصل على توقيع مديره، بدس ورقة بيضاء، وسط كومة الأوراق نفسها، ويوقع عليها المدير عن غلة منه أو لثقته فى "سرى" المبتسم.. وغيرها من الحيل والدسائس التي لا تتحقق إلا بالورق!

بمضي الأيام والسنين، تمكن "سرى" من إعداد أرشيفا لكل الرؤساء والمديرين طول حياته الوظيفية السابقة والى اليوم.. أعد لكل منهم ملفا يحتفظ به فى بيته.. يضم سيرة حياة هذا المدير أو ذاك، أية معلومات عنه، بل وصور من الموضوعات التي عليها توقيعه.. أي ورقة رسمية، سيأتي لها يوما، ويستطيع أن يوظفها "سرى بيه" فى الوقت المناسب.. حتى أن "رسمية" لعنته ذات مرة وهى تضحك تقول: "عملت بيتنا أرشيفا للمصلحة يا سرى.. وغلبتني الصراصير بسببك وبسبب ورقك!"

أما الدسائس فحدث ولا حرج -فهو السلاح الخفي، والظاهر للجميع- أفضلها، تلك التي تمكنه من وثيقة ورقية تضاف إلى أرشيفه الخاص.. قد ينجح بسببها فى إعاقة ترقية زميل، أو أن ينجح فى اعتلاء مركزا لم يكن له.

 يعلم سرى أن التقارير السرية ترسل يوميا، ورجال أمن الدولة تستطيع أن تصل إلى حجرة نومه، بل وعلى يقين هو.. أن مستقبله كله مرهون بسلوكه فى هذه الأيام.. كما يدرك سر الظاهرة التي عمت المصلحة، نصف الموظفون لا يحضرون إلى المصلحة، وهو ما جعله بكل الهمة والإخلاص لمهام وظيفته ينفذ التعليمات بإرسال أسماء الموظفين وحركة الحضور والانصراف من العمل، فى نهاية كل يوم، حتى يتعرفون على هؤلاء المشاغبين، الذين يتركون أعمالهم ويتظاهرون مع بعض الشباب المتهور والبقاء فى ميدان التحرير!

يعرف ويعي، لكنه يدعى الغفلة، ويظهر ملامح الابتسام.. ولأنه مارس السياسة وخرج فى المظاهرات أيام الجامعة.. فهو يرى بخبرته القديمة إن ما يحدث من الشباب الغر لن يجدي، وأنه غير مبالي بكل تلك الدربكة. عامدا متعمدا لا يشترى الصحف الصباحية وخصوصا المعارضة منها، ويحرص على إعلان ذلك.. إنه لا يتابع مشاهدة قناة الجزيرة أو قناة العربية، حتى لا يقولون أنه يشاهد قناة تحرض على قلب نظام الحكم، ومثل تلك التهمة كفيلة بأن تعطل مستقبله المهني كله..

 

-5-
للحق والحقيقة، فى شوق هو لأن يعرف أية معلومات من أي أحد، خصوصا أنه الآن بعيدا عن المصلحة!. انتهز فرصة انفعالة "مهدي"، فنظر إليه موافقا ومشجعا لأن يتكلم ويقول كل ما عنده.. لم يعر اهتماما بنظرات العم صالح.

تحفز "مهدي" يقول: "كل ما حصل أنه فى ليلة خمسة وعشرين، وأنا راجع بيتنا فى بولاق، مر الأتوبيس على ميدان التحرير، كان الميدان هادئا، لأن الناس فى بيوتها والساعة متأخرة بعد نص الليل.. لمحت من شباك الأتوبيس.. المقاهي والمحلات مفتوحة، خصوصا قهوة "وادي النيل".. لكن لاحظت والأتوبيس واقف فى المحطة، طلع شابان فى العشرين أو أكبر من العشرين ، شباب زى الورد.. سمعتهم يتهامسون بكلمات متقطعة عن مظاهرة فى الميدان مع الفجر!

حاولت أن أسمع تفاصيل الكلام، كان صوتهما غير واضح.. وبعد محطة أو اثنتين، همس أحدهما قبل ما ينزل وقال:

"سوف نجعل من عيد الشرطة عيدًا للحرية".. لحظتها لم أفهم، لكن شيء غريب صحانى، قول نمت صاحي، يعنى نوم اللي عنده ميعاد سفر بالقطار.. ومع شروق الشمس كنت فى الشارع ومشيت!. وصلت منطقة كوبري الجلاء، ظهرت لي عربات الأمن المركزي، والعساكر محشورة فيها، بملابسهم السوداء والعصي، الكوبري مقفول والمرور محول للزمالك.. المهم وصلت لشارع قصر النيل، ومشيت حتى ميدان التحرير. لاحظت أن مداخل الميدان أصبحت بوابات من غير أبواب.. عند كل مدخل نقطة شرطة، لكن العساكر سمحوا لي بالمرور، ووصلت لحد مبنى "مجمع الإدارات الحكومية".. ماشى أتفرج، وأحاول أن أفهم إيه الحكاية؟!. الآلاف من شباب شكلهم يفرح القلب الحزين، احتلوا كل الميدان، وميدان عبدالمنعم رياض، وكورنيش النيل، ومع كل دقيقة يزداد العدد، مئات الآلاف أتجمعوا، شباب وتصور بنات زى القمر!، كانوا من كل لون وعلى كل شكل، والأعلام على كل لون وعلى كل شكل وبكل الأحجام، حتى اليفط مكتوبة بالعربية والانجليزية.. شوية شوية عفريت ركبنا وحفظنا التعويذة، زى تعويذة أمي اللي حفظتها عن أمها.. وغطينا السما بصراخنا وإحنا بنادي ونقول:

"يا حكومة هشك بشك.. بكرة الشعب ينط فى كرشك"..

 "آه يا حكومة هز الوسط.. أكلتونا العيش بالقسط"..

"آه يا حكومة هز الوسط.. كيلو اللحمة بقى بالقسط"..

انقضى النهار، لا أدرى كيف؟

لكن أدرى أننا بعد نص الليل، وإحنا مرميين على الإسفلت، فى حالة تشبه الإغماء من شدة التعب.. فى لحظة واحدة، وفى أقل من خمس دقائق كان الميدان كله بالآلاف فوق أرضه، يجرون ناحية كوبري قصر النيل، وشارع قصر العيني.. الشرطة سمحت لنا بمخرجين فقط.. وكأنها أبواب الجنة، جريت وغيري جرى، وأنت وحظك، تنال لك ضربة عصا تكون محظوظ، ضربوك برصاص مطاطي تصبح فى هم وغم ليوم تالي.. أما أنا كرهت بشدة مدافع المياه.. كانت باردة، لا أكره شيء فى الدنيا أكثر من الإحساس بالبرد!. فى اليوم الثاني مع شروق الشمس بدأنا نرجع الميدان، والموبيلات اشتغلت وأتغطى الإسفلت من تأنى بشباب زى الورد.. مع ساعة الظهيرة، قول تقريبا فى الثانية عشرة والنصف، بلا سابق إنذار بدأت تنطلق صفارات، وبدأت القنابل المسيلة للدموع على المتظاهرين من كل مكان، بدأت أدمع وأعطس، تشبثت بصديق، تعرفت عليه فى الميدان، يقيم على بعد أمتار قليلة من الميدان، هرعنا لشقته، أول ما رأيت فيها، كانت صورة زيتية كبيرة على الجدار لزعيم ثورة52 "جمال عبدالناصر".

كثيرون احتموا بسلالم العمارة وصعدوا.. من خلف الزجاج تابعنا انقضاض القوات على المتظاهرين، سحل بعضهم، وقاوم بعضهم، تقدمت العربات المصفحة لاحتلال الميدان، وهرينا من تانى، كل الشباب هربوا بسبب القنابل المسيلة للدموع، والرصاص المطاطي.

وبسرعة تعلمنا اللعبة.. نمل ونزهق من الشقة، أول ما نشعر بمعاودة العساكر للتجمع، نخرج ونهتف، يضربونا، نجرى! وأكون أول من يدخل الشرنقة، أقصد الشقة! وجلسنا نترقب اقتحام رجال الأمن للشقة، ونتكلم.. فرصة لأن نتعارف. وهكذا مرت الثوان والساعات ولا أدري كم من الوقت انقضى. كلما هدأ الميدان، نخرج ونصيح، فتهيج العساكر وتضربنا، نتجمع ونجرى فى حوش عمارة أو دكان.. كانت لعبة قطة وفأر مع العساكر حتى انهد حيلهم وحيلنا!

*****

الفصل الثالث
-1-
"مهدي" الكافتيرى حفز فضولي وآثار ذكرياتي معا.. وان عشت طوال السنين الثلاثين الأخيرة، وأنا على قراري لا أحيد..

عازفا عن كل شيء له علاقة بالسياسة والسياسيين..

قررت قرارا.. أن أحتسى فنجان القهوة أولا، ثم أتركهما يصرخان معا، "العم صالح"، يلعنه ويلعن وقف الحال، و"مهدي" مبتسما منتشيا بما فعل!

لم أفهم تماما ماذا فى رأسه؟..

لماذا ترك لقمة عيشه وذهب مع المتظاهرين؟ أعلم حاجته الملحة إلى كل قرش يكسبه! ما هو غرضه، ما هي أهدفه السياسية، وإلى من ينتمي؟ فلا سمعت عن انتمائه لحزب أو حتى لجماعة فى الخدمة العامة.. ولا هي الأحزاب السياسية وراء المظاهرات؟! ليس أكثر من كونه انضم إلى مجموعة من الشباب من ذوى الدم الفائر، يعلنون تمردهم.. لا هم فئة بعينها لها مطالب محددة ترجوها..! ولا حتى سمعت عن زعيم يلتفون حوله جسدا كان أو فكرة.. لا أرى سوى دربكة عمت البلاد!

أين هؤلاء من شبابي وشباب جيلي،

كم تظاهرنا فى ذكرى تقسيم فلسطين ووعد بلفورد، وبسبب ارتفاع أسعار الأرز خمس مليمات، وللمطالبة بمحاكمة قادة الطيران بعد النكسة..

نعم، كانت عندنا رؤية وتوجه واضح!

الآن أرى "مهدي" مدفوعا بحمية الشباب وفتوته؟! أظن أنه هو نفسه لا يعرف كيف يعبر عن أفكار محددة ليجيب على السؤال:

لماذا تركت عملك وذهبت ميدان التحرير للتظاهر؟! ما هي مطالبك ومطالب المتظاهرين؟!

هل هو وقف الحال الهدف، كما وصف "صالح"؟!

لماذا أتقول عليه هكذا؟

أنا نفسي على تلك الحال من الزهق.. لكن ما الحل، كيف الخلاص؟

الحكمة تخبرني باستحالة تغيير ما نحن عليه!

أراهن أن كل من حولي من العقلاء مثلى،

الكل يسعى، يرجو لو يقدر على توفير قوت يومه وقوت أولاده.. ليس عيبا، ربنا أمرنا بالعمل!

قل ما شئت.. لن نقول بأقوى وأفضل مما تقوله الآن بعض الأفلام السينمائية.. بعض المسرحيات والمسلسلات، وما تخطه وترسمه نكت الكاريكاتير، بل وتردده بصراحة جلية بعض مقالات المعارضة..

هكذا أصبح الحال، كل من عنده فكرة أو خنقه نفس، فلينفثها بسلام كما يشاء!

لا جديد.. ولا من مستجيب؟!

 

-2-
تركتهما يثرثران، يتشاجران.. انسلخت من بينهما، تعلقت بأول باب أتوبيس، اعتليت الدرج بخفة، تلك الخفة التي لم أكن عليها إلا أيام شبابي، وأيام الحرب.. تزاحمت بين أجسادهم المتلاصقة، فقط لأنني لمحت اللافتة، معلقة على الأتوبيس، تشير انه يتوجه إلى "ميدان التحرير".. مر الأتوبيس الأول أمامي، لم أترك الأخر يعبرنى..

فور أن انسلخت من كومة الناس فى الأتوبيس، انزلقت إلى أرض ميدان رمسيس، بينما السائق يصنع ضجيجه الخاص به، كنت بين أناس آخرين، لم يعبأ أحدهم أن سقطت على ركبتي، بعد أن ألقيت بنفسي فى عكس اتجاه سير السيارة.. بسرعة تقدم شاب فى العشرين وبهمته، نهضت، ووليت وجهي نحو شارع الجلاء فورا، كأن لم يحدث شيئا، أو متجاهلا ومدعيا أن الألم الذي ألم بى (عادى جدا!)، متحديا به العرج البسيط الذي قبض على خطواتي. ما أن وطأت قدماي شارع الجلاء فى طريقي إلى ميدان التحرير، ما أن انتويت أن استكمل المشوار سيرا على الأقدام.. نسيت الشيب على مفرقي، ونسيت الحكمة التي افتعلها كلما ضقت من أحدهم..

وإن ساعدتني الحكمة كثيرا فى إنقاذ حياة الشاب العفي منذ دقائق، كنت الوحيد الذي وقف إلى جانب سائق الأتوبيس الذي رفض أن ينقلنا لخطوة واحدة بعد ميدان رمسيس!. فى البداية، تذمر الركاب وتحرشوا بالسائق، فما كان منه إلا أن مال نحو جانبه الأيسر.. لحظات وقبض على قضيبا حديديا أمامه على تابلوه السيارة!. فهم الجميع نيته.. قل السباب وكاد أن يختفي، إلا من شاب عفي رفض عناد السائق، هكذا وصفه، وهكذا وجدتني أحاول إقناع الشاب قبل السائق، بضرورة الحوار، أن يبرر السائق قراره، وأن يصبر الشاب حتى يسمع، وان لزم الأمر بعد ذلك، يمكن خنق السائق وفصل رقبته عن جسده! بتلك الكلمات التي نطقتها بجدية، صدقها الشاب، ولم ينته الأمر. لم ينته الأمر تماما، كان على أن أمارس دور حمامة السلام مع العجوز التي بدت كتلة من اللحم والشحم المنتفض، بينما ظلت بإصرار غريب وهى تحاول أن تمسك برأس السائق لتقبلها وهى تردد: "بنتي على وشك الولادة، وحياة الغالي عندك وصلني المستشفى.. مستشفى الهلال الأحمر على بعد دقائق!"

افتعل السائق الغفلة والانشغال بالطريق الذي يعج بالمشاة على كل شكل، حتى أن الباعة المتجولين، تركوا الرصيف واحتلوا بحر الشارع وطريق السيارات.. لم يستسلم السائق إلا لآلة النفير الذي وضع يده عليها ولم يفكر للحظه أن يرفعها، يسعى أن يستدير بسيارته نحو الاتجاه المعاكس، كاد أن يصطدم ببعض المشاة، وإلا لماذا تعلق ذاك الشاب، فى العشرين من عمره يصرخ، وقد تعلق بنافذة الباب الملاصق للسائق:

"أنت منهم، أنت مع الحكومة والنظام، تقتل الناس فى الشوارع، وتقول قضاء وقدر والزحام السبب؟!".

ابتسم السائق للمرة الأولى..

تابع الشاب الغاضب داخل السيارة، ولقنه درسا فى الوقوف إلى جوار الحق ضد الكذب، والعدل ضد الظلم، ولأنه من المطحونين الغلابة يجب أن يساندهم ضد القطط السمان والحكومة..

هنا فقط انتبه السائق ولم يبتسم:

"لم أفهمك فى الأول، لكن تقول أنا مع الحكومة..!"

ما هي إلا لحظات وبدا لي السائق كما القط الذي قرر أن يتأسد، ترك مقعده بينما موتور السيارة مازال يخور وينفث، ولولا يداي لأصبحت رأس الشاب الغر على كفى!.. واصلت مهمتي ورجوت السائق أن يقف أمام المستشفى "القبطي"، فى الاتجاه المعاكس، وتوصيل العجوز وابنتها الحامل، وعلى وشك ولادة!. استعنت بحكمة السنين وسعيت لأن أهدئ من روعه.. بان لي أن ما أثار غضبه أن اتهمه الشاب أنه إلى جانب الحكومة، بينما هو ينفذ التعليمات من رئيس الحركة أو رئيسه فى العمل، فى أول الخط بمصر الجديدة، ألا يتجاوز ميدان رمسيس لوجود قلق هناك!

 

-3-
لم تكن المرة الأولى التي أسير فيها فى شارع الجلاء، أن أسير في منتصفه بالضبط، فى بحر الشارع عمدا، أجده بلا نفير السيارات ولا حتى جرس دراجة.

ياه.. كم انقضى من العمر؟!

يوم أن خطوت فوقه وسرت عليه هكذا.. فى وسطه وبلا سيارات إلى جواري،

يوم كنت بشعري الأسود قبل أن ينال منى الصلع.. مرتديا بنطالى الجنس، ضمن أعداد معدودة، لم تكن كبيرة ولا هي بالقليلة. كانت صرختهم هي الغالبة، تفوق كثيرا عددهم من شدة التحمس! فى هذا اليوم البعيد فوجئ رجال الشرطة بنا، أحاطونا، وضربونا، ثم عدنا أدراجنا على مهل، ومع ذلك انتصرنا عليهم.. أظن ذلك، وهو ما أكدت عليه، لكل من قابلت فى تلك الأيام، وحتى الآن.

كان ذلك اليوم البعيد، أثناء دراستي الجامعية، سألني زميلي "العسيلي":

"هل هزمنا حقا؟ هل فضوا المظاهرة هكذا بسرعة؟"

قلت:

"انتظر"

لم ينتظر، انقض على أقرب جندي، انهال عليه سبا، رأيت الجندي هادئ السحنة، ينظر بعيدا!.. افتعل الخبيث الغفلة وأهمل سباب زميلي، وفجأة، وجدت صديقي العزيز يهرس هرسا، وقبل أن الحق به وبقية زملاء الكلية، كان الجندي إلى جانب صف جنود الأمن المركزي، وكأن شيئا لم يكن.. فقط ظل مبحلقا إلى هناك بعيدا، ثم أدار وجهه ناحية "العسيلي" يقول:

"لماذا تسب أمي؟!"

لم يتبادلا النظرات، ولا الحوار..

بدا لي أن معركة جانبية بدأت .. تجددت بين الجندي وصديقي وحدهما، بدت وكأن مظاهرة لهما وحدهما نشبت، ولا علاقة لها بمعركتنا، ولا بمطالبنا:

إعدام قادة الطيران كلهم:

"ناصر، ناصر، اعدم صدقي"!

كلما تذكرت ذلك المشهد.. أضحك، ولا أدرى لماذا؟!

ربما لأن زميلي ما عاد يشاركنا من بعد.. حتى أثناء تلك التظاهرات المنظمة فى قاعة الاحتفالات الكبرى بالجامعة!

الآن،

أراني كلما انزحت مندفعا أو مدفوعا فى طريقي إلى ميدان التحرير، وكلما سرت خطوة.. يزداد الشارع ازدحاما، ويعلو الضجيج.. تذكرت السائق، أشفقت عليه ووجدت مبررا لعدم متابعة الرحلة.

على العكس لم أشعر بالشفقة على هؤلاء أصحاب البذلة السوداء والخوذة السوداء والنظارة السوداء، تلك النظارة التي تفرق بين الجندي والضابط من رجال الشرطة.. لا أعرف سر أن أغلب شباب الضباط منهم يخفون نصف وجوههم بنظارة. فلما بلغت مبنى مستشفى "الهلال الأحمر"، شعرت بالقلق، العمر له تأثيره، والأيام لها أحكامها.. كيف لا يقلقني أن أرى سيارات الإسعاف متراصة على أهبة الاستعداد؟!

.. بينما السيدة الممتلئة الكربة معلقة بأمنية أن تصل بابنتها إلى المستشفى، قبل أن تلد ابنتها المسكينة الحامل فى بحر الشارع،

بينما سيارات الإسعاف متراصة فى طابور لافت.. هامدة هناك!

هي سيارات الإسعاف إذن.. تلك التي قضيت بينها ومعها وداخلها خمس سنوات من عمري، جاوزت بها حرب الاستنزاف،

وبها شاركت فى معارك العبور عام73.. ترى كيف أحوالك اليوم،

من سوف تحملين والى أين..

كيف حالك وحالي من بعد؟!

*****

الفصل الرابع
-1-
يا الله.. ماذا أرى؟

ميدان التحرير..!

ضاق على سعته بأناس لا تعد، كأن الشمس قرص عسل مصفى، يسعى الجميع على التهمها، وان خال للبعض أن تلك الخلجات التي ارتسمت على سحنة بعضهم واحتقان بشرة بعضهم، بسبب أشعتها..

لم تكن تلك الخلجات وهذا الاحتقان، إلا لأن الشباب يصرخ، يخاطب السماء السابعة:

"لا توريث.. ولا ملكية"

الهواء سخيا بلا غضب، لا هو ريح ولا عواصف.. فقط أعطى الجميع أنفاسه المنتظمة،

لولا هذا اللهاث.. تلك الصدور المنتفضة، ما تأكدت من وجوده،

لولا أن ارتسمت الضلوع وبرزت من فوق ما يرتدون.. من ملابس شتوية،

لم يكن اللهاث وتلك الصدور المنتفخة، إلا لأنهم يتابعون الهتاف معا:

"لا احتكار للسلطة.. ولا احتكار للمال"

بدت الأرض الإسفلتية على غير لونها، لم تكن سوداء متربة، ولا هي مبرقشة بخطوط بيضاء لإرشاد مرور الناس والسيارات، لولا أن تلك الجموع واقفة ومائلة ومتحركة، لشككت إن للميدان أرضا إسفلتية تحملهم..

لم يكن الازدحام والالتحام والجموع، إلا لأنهم تساندوا على بعضهم البعض، يجأرون فى نفس واحد:

"لا لقانون الطوارئ"

بدا الانفعال الغاضب الغضوب، والغل الغلول، محمودا.. قبلته الناس وتبنته، حتى اعتلى أحدهم منصة خشبية نصبت حالا، فاشترك الجميع معه فى صيحة واحدة:

"الشعب يريد إيقاف الفساد"

بدأ من اعتلى تلك المنضدة الخشبية، فى يده قطعة بلاستيكية ولعلها حديدية، بينما آخر يحمل بوقا فى يديه، يرفعه إلى أعلي، كمن يحمل حملا يحميه من الغرق وسط الأمواج المتلاطمة، ابتسم "سرى" ومال إلى إذن جاره الذي لا يعرفه:

"أيام مظاهرات النكسة.. وثورة الجياع أيام "السادات".. لم نحمل الأبواق!"

لم يعقب الجار.. ربما لأنه لم يسمعه!

قبل أن ينطق الخطيب الذي يجهله، لعل كل من حوله يجهلونه أيضا، وإلا لماذا صاح أحدهم يسأل دون أن يوجه سؤاله لأحدهم بالتحديد: "هل الخطيب من جماعة"6ابريل" يا إخوانا؟".. رد آخر دون أن ينظر له: "أظن انه من جماعة "كفاية".. تابع ثالث بثقة يقول: "رأيته وأعرفه من النت، لكن..".. لاحقهم الغاضب: "لا يهم الآن، اسمعوا"

قال الخطيب: "اليوم لا هو يوم الخطب الرنانة، ولا الاستعراض الأجوف للمعلومات، ولا هو يوم ادعاء البطولة.. اليوم هو يوم المطالب السلمية.. ما أن نطقها هكذا حتى تابعته الأصوات المتفرقة: "سلمية.. سلمية.."

سرعان ما كثرت الأعداد، ارتفعت الأصوات وانتظمت على إيقاع واحد: "سل.. مى.. يه"، "سل.. مى.. يه"، "سل.. مى.. يه". بينما قسمت كلمة "سلمية" إلى ثلاثة مقاطع، تسارع الإيقاع وتسارع، وعلا النغم يشدو إلى الأعالي، إلى سحابة نراها قريبة تشارك رؤوس الجميع، الجمع الذي بدا أنه بمرور الوقت يتزايد ولا يتناقص.. ما لبث أن انزاح النغم نفسه بعيدا إلى شرفات مبنى الجامعة العربية ومبنى المجمع الحكومي الراصد لكل ما كان منذ زمن، وأطلت الرؤوس من نوافذ فندق النيل هيلتون.. البعيدة، هناك!

من جديد تابع يقول الخطيب: لن أضيف على ما سمعته منكم جميعا، لن أردد إلا ما قالت به حناجركم: "مش هانخاف.. مش هانطاطى.. إحنا كرهنا الصوت الواطئ".. "اللي خايف، خايف ليه؟.. هوة فاضل لينا اية"

لم يتابع، لم يستمر، كأن دعوته بعدم الخوف، دعوة شخصية لكل فرد كان! كأن الخوف شبح يطاردونه، شعر "سرى" وكأنه فى قلب حلقة ذكر صوفيه، أحاطتها النشوى بذكر الله، ذاب الجزء فى الكل.. المرئي فى اللا المرئي.. الكل فى واحد!

ما أن يهدأ الصدى، سرعان ما تعيده السماء ثانية، تقذفه قذفا نحونا، فينتبه الجميع ويعلو النغم ويتسارع، مع مقولة الحادي مجددا: "على وعلى وعلى الصوت.. واللي هايهتف.. مش هايموت" ويعلو الصوت!

.. كردون الجنود الأسود يتقدم، يتقدم ويقترب.. انفلت من بينه مجموعة أصغر، أحاطوا بالمنصة، تقدم أحدهم من المجموعة.. توجه نحو الخطيب، طرحه أرضا بحنكة وقدرة أدهشت الجميع، أدهشتهم وأغضبتهم.. رددوا وحدهم بلا حادي ولا منادى ولا الزعيم المطروح أرضا..

فقال المتجمعون ما لم يلقنهم به أحد: "يا حرية فينك فينك.. أمن الدولة بينا وبينك"..
"أمن الدولة.. يا أمن الدولة.. فين الأمن وفين الدولة"!

السحب لا تصنع ظلا، لحظة تعيشها بلا ظل، تحت وهج شمس دافئة، وسط جموع لا تعرفهم وتعرفهم فى آن، هي لحظة نادرة، ويمكن حسابها بالعمر كله، لن تزيد عن سويعات قليلة، هذه هي الحقيقة، وتلك هي اللحظة التي لا يلتفت إليها أحد.. أن تكون على الأرض أنت أنت، بجسدك النافر وعقلك الباسق ووجودك الخاص بك وحدك، حتى عنفوان الجنود التي رأيتها فجأة تتقدم بصيحة مرعبة، تتقدم من محيط الميدان مندفعة نحو أغواره.. مرة من كل الاتجاهات إلا من الجهة الجنوبية وتترك فرجة للهرب.. ومرة من كل الاتجاهات إلا من المنطقة الشمالية وتترك فرجة للهرب، لعل الأجساد المهرولة الكربة تعدو أو تفر منها.. ولا تفر!

.. يبدو "سرى" وكأنه ذاب وسط الجميع فى صمت، نجح أخيرا فى الانفلات من الجموع، ارتكن إلى سور حديدي.. نظر حواليه، قال: "أقسم أنني مررت فى الميدان مرات لا تعد ولا تحصى.. مع ذلك لا أدرى أين أنا منه الآن.. غريبة؟ هل تغير الميدان أم أنا الذي تغير؟ّ!

بان له أن آخرين يركنون إلى السور مثله.. مال أحدهم بشدة نحو أذن "سرى"، بينما لم يهمد الضجيج بعد.. يسأله ؟!

"شايف العساكر الغلابة، من قبل يوم 25 وهم على هذا الحال.. غلابة وذنبهم إيه، العساكر عبد المأمور؟!".. سأله "سرى"، وقد بان له أنه جاوز سن الشباب بقليل، يبدو أنه التقط وقاره، واحترم شيبته وأراد أن يتبادل معه حوار العقلاء.. فسأله: "من أي بلدة أنت؟" رد فى عجلة وتابع: "من "المنصورة".. ولم ينتظر تعقيبا، تابع يعرض وجهة نظرة الحكيمة المتعقلة! لم يعلق "سرى"، فهم أنه من رجال الشرطة السريين!

دقائق مرت، بعدها تابع سرى خطيبا آخر.. يعتلى منصة أخرى، يقول: "منذ الآن والى أن تتحقق مطالبنا، ليس لنا سوى هذى الأرض التي نقف عليها.. لم يعد لنا سوى هذا الميدان الذي يسع الملايين التي تتزايد ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم"

فوجئ بالرجل نفسه، وقد لحق به، يقول: "المجنون يقصد الاعتصام.. يدعو للاعتصام!" رد سرى بثقة الخبير: "ربما مع جماعته تصريحا؟.. لا أظن أنه يعلن ما أعلنه من نفسه دون الرجوع إلى الجهات الأمنية المسئولة!" "يجب أن تقول له هذا يكفى.. أنت رجل كبير ومحترم، قد ينفذ طلبك!" انتبه "سرى" أكثر، تأكد مما راوده منذ قليل، أعاد النظر إلى الرجل، تأكد وأيقن أن الرجل من رجال الشرطة السريين، لون بشرته المحترقة، ونفره عضلات صدره، قال فى نفسه: "هذا الرجل مخبر سرى! خبرتي القديمة كفيلة وحدها أن ترشدني، إلى مثل تلك الأمور العادية.. دعه يعمل"

 

-2-
الآن، مع غبشة المغربية..انشغلت أكثر بهؤلاء الشباب إلى جواري ومن حولي، رأيتهم من ذوات الأكف الناعمة، أجزم أنهم لا يتحملون مشقة ما تحملته وتحمله جيلي فى 68 و71.. كنا جيل من أبناء الموظفين والعمال الذين راجت أحوالهم بعد ثورة52؟! بعض هؤلاء الشباب مترفين منعمين.. أكيد.. أين الجني الذي جاء بهم إلى هنا.. ولماذا؟!

أرى ما يدهشني، أرى فيهم من الشباب والشابات.. من ملابسهم المستوردة أو هي من الماركات العالمية المصنعة فى مصر، وليست من مصانع القطاع العام؟! بل من لكنة نطق بعضهم للعربية.. والمفردات الانجليزية والفرنسية التي ينطقونها؟! من سحنتهم الناعمة، تبدو وكأنها تحمل هالة غامضة وضاءة؟!

عدد هؤلاء الفتيات الجميلات الرشيقات الناعمات أكثر كثيرا جدا عن أيامنا، كانت بنات جيلنا لهن حنجرة أشد وصوت أعلى، ومن سحنتهن تعرف أنهن ممن يطلق عليهن "أولاد بلد" والتحقن بالتعليم المجاني، لم يتخلصن من نبرة الصوت المرتفعة والألفاظ البذيئة القبيحة بين مفردات تعبيرهن عن الغضب، وبلا أظافر ملونة ومصقولة!.

أرى شبابا يفرح القلب الحزين، وان لم ألحظ دهان الشعر الشائع هذه الأيام على رؤوسهم، ومن طلتهم المحايدة المتعقلة أيقنت قدر الثقة التي يتمتعون بها، ثقة لم تكن فى جيلنا، كنا أشد توترا، تسبقنا أذرعنا فى الحديث لتوصيل أفكارنا!

فلما تابعت وانتبهت أكثر، لمحت لافتة مكتوب عليها باللغة الانجليزية: "Game is over".. تأكدت أن نسبة غير قليلة بينهم جميعا، طلبة فى الجامعة الأمريكية والجامعات الأجنبية الخاصة الأخرى!

فجأة.. فى تلك اللحظة النادرة بكل ما فيها من عنفوان، انقض ذوات البذلة السوداء على الجموع، محترفون.. نعم، فقد سبقتهم صرخات هائجة مرعبة، طال الجميع من هراواتهم الألم، بلا سابق إنذار بدأت تنطلق صفارات، تعجز عن معرفة مصدرها، إن كانت أمامك أم من خلفك. القنابل المسيلة للدموع تعرف وجهتها نحو المتظاهرين ومن كل صوب، تلاطمت الأمواج البشرية، سقط من سقط، وهرس بعضهم هرسا، علت صرخات معبأة بآهات الألم، فوق رؤوس الجميع، من نطقها ومن وجد فى رأسه ثغرة لأن يربط جأشه ويوجه جسده بقوة وعنفوان، كثيرا ما كان الرفاق غير مبالين بمن حولهم! هكذا يكون مشهد القيامة، عليك بنفسك، ربما!

للمرة الأولى أكتشف حنكتي وخبثي، لا أدرى كيف استعدت خبرة سنوات ووقائع كانت، صحت بكل ما أملك من قوة: "استخدموا عينا واحدة، أغلقوا الأخرى.. ضعو المناديل على أنوفكم.. اغسلوا وجوهكم بالماء.. لا تفتحون أفواهكم.. انحنوا إلى الأرض أكثر.. اعطو ظهوركم إلى جهة مصدر الدخان" مع ذلك كنت أول من دمعت عيناه وعطس!

بدأت أشكو من ضيق التنفس، ومن الخانقة التي لا أعرف إن كانت بسبب دخان القنابل المسيلة للدموع، أم بسبب تراكم الأجساد على صدري، أم بسبب ما أنا فيه من كرب! لعلها.. بسبب تراكم سنوات تدخين السجائر؟!

تشبثت بأحدهم، لم أكن أعرفه من قبل، فقط كنا نتبادل النظرات أثناء وقفتنا منذ قليل، مرة نبتسم بالموافقة على ما ردده أحدهم، ومن ابتكاره ينطق شعارا لم نسمعه من قبل:

يا جمال قول لأبوك.. شعب مصر بيكرهوك"، "مش هانخاف، مش هانخاف.. صوتنا العالي يهد جبال"
وقد نتحمس لنردد شعارا جديدا نسمعه للمرة الأولى: "باطل".. "باطل".. تعلق به الشباب، يرددونه بكل الإيقاعات والنغمات والألحان:
"مجلس الشعب.. باطل.. جمال مبارك.. باطل.. الحزب الوطني.. باطل.. حكومة نظيف.. باطل.. حبييب العادلى.. باطل.. أحمد عز.. باطل.."

فلما توقفت بسبب الإجهاد، نظر رفيقي إلى معاتبا، فورا تابع يصيح: "الكل.. باطل، باطل، باطل.." هززت كتفه بينما مازلت أصيح معهم، فهم مقصدي، ووجد فى نظراتي الامتنان، فزاد تحمسا وتابع، تابعنا معا مع الجميع.

يبدو أن امتناني له، جعله حريصا على وقد بدأت انحنى، عاجز عن التصرف من شدة ضيق النفس، قبض على كفى وجرني جرا إلى حيث لا أعرف، لم أعرف كيف اخترقنا تلك الجموع، حتى وصلنا إلى بهو عمارة مطلة على أحد الشوارع الجانبية للميدان.

 

-3-
داخل بهو العمارة الضيق، اكتشفت أن كثيرين سبقونا، احتموا بالبهو وبسلالم العمارة.. يصيحون ويتأوهون ويعطسون ويطلقون كحة جافة حادة الصوت ويتمخضون، أحدهم ارتكن فى زاوية غير بعيده يتبول، ولم تنجح معهم نصائح أصحاب الخبرة يقولون: "لا تحكون عيونكم بأيديكم.. أغمضوها فقط".. أكثرهم لم ينتبه للعجوز الملثمة التي لم تكن تعطس ولا تكح، وفوق عينيها نظارة طبية ذات إطار مرشوق بفصوص الماس الحقيقي، أعرف أنها تقدر بآلاف الجنيهات، كانت تحمل إبريقا من النحاس وكأنها قادمة من عصر المماليك، له بوز رفيع وطويل وملتو يسمح لها أن تمده ليصل إلى من يبعد عنها بمتر، اكتفت بأن اعتلت الدرج الأعلى من الدرجات الست آخر البهو، تمد ذراعيها حاملة الإبريق الممتلئ بالماء.. إن رفض أحدهم تناوله أو لم ينتبه إليها، تسكب الماء على رأسه.. هكذا كانت كل مهمتها فى صمت!

كنا نصيح ونتأوه ونتدافع معا فى هذا المكان الضيق، الذي لم يلفظ من بدخله ولم يعد جاهزا لاستقبال المتدافعون من الخارج، هربا من غمامة دخان القنابل المسيلة للدموع..

هل يمكن أن تتغلب حاسة على أخرى فى أوقات الخطر، أم العكس فتنتبه كل الحواس.. وحدي مع رفيقي الذي لا أعرفه، اقتحمنا باب شقة موارب يفتح على باحة السلم، رأيته هكذا مواربا بينما لم ينتبه أحد، فبدا لي وكأنه دعوة من غير صوت بالاقتحام!

على الرغم من أن الشقة تبدو فسيحة ومتسعة وخالية من البشر، رأيت ما جعلني أضحك بحق.. رأيت "مهدي" وهو يتابعني ورفيقي فى صمت، لم أشأ أن أسأله.. لماذا؟ متى؟ وكل أدوات الاستفهام!

ليس هذا هو وقت السؤال؟ ليس من حق أحد أن يسأل ويدعى الحكمة والتعقل.. ربما نظراته الصقرية هي التي جعلتني أقرر صمتي! لكن، ترى لماذا يتحداني.. نظراته تشي بأنه قرر أن يجعلني هدفا فى رأسه.. افتعلت الانشغال برفيقي وتابعت تلصصي، أبحلق من خلال الباب الموارب لشقة نصف مغلقة إلى جواري!. تلك التي بدت خالية من الأثاث، اللهم إلا من كرسي وحيد فى الصالة التي هي مرسى لأبواب أربعة مغلقة، محكمة الغلق!. أمسكته من يده ومررت على كل الأبواب المغلقة على غير هدى ولا هدف، نظر إلى دهشا وهو يراني أفتعل الحكمة والوقار والسيطرة على حواسي!، كأنه لم يفهم لماذا لم أدعه فى موقعنا فور اقتحامنا الباب؟ كان مكتوبا على جبهته: "ما كل هذا الذي يحدث؟"

لم ينتبه رفيقي مجهول الاسم أننا وقفنا فى مواجهة، صورة زيتية كبيرة على الحائط لزعيم ثورة19 "سعد زغلول".. لا يهم، ربما لا يعرفه، وكيف عليه أن يعرف، وهو من جيل لم يقرأ فى كتب التاريخ ولم ير فى برامج التليفزيون صورة عنه؟!

قلت له: "هذا أنا؟" نظر بريبة إلى عقر رأسي، إلى دواخل أمفوخى، فهمت أنه لم يفهم ما قصدت. فقلت: "لا أستطيع أن أقول أن اللوحة تشبهني أو أشبهها، لكن على أي حال اليوم فرصة أن تراني على حقيقتي، وكيف أبدو على حقيقتي وأفكاري تحت ملابسي.. فقط لو أتيحت لي ولك الفرصة، وهدأ الميدان قليلا!"

"جننت يا رجل.. لن نهدأ، أنت رجل خرف وانتهى دورك، عد إلى أولادك أو أحفادك.. لن نترك الميدان، قبل أن تصل الرسالة وتتحقق مطالبنا.. نعم.. نعم، يجب تنفيذها حالا وفورا.. حرية، عدالة اجتماعية، توفير رغيف العيش، محاربة الفساد، الديمقراطية التي لا يعرفها أحد؟!.. لكن قل لي أنت كيف؟!"

لم يرحمني من نظراته التي أقل ما أن توصف به، أنها تسبني بأقذع السباب، يبدو أنه يتشكك فى قواي العقلية!. لولا تلك العجوز التي نظرت إلي كلانا بريبة، كأننا سوف نلص شقتها الخاوية، تقول: "من سمح لكما بالدخول.. أخرجا فورا، أنا بنفسي خرجت إلي الجميع، لكن تقتحما بيتي دون إذن منى ولا حتى بعلمي، هذه سرقة واغتصاب وانحلال و..".

اقتربت منها كعجوز الأقرب إلى سنين عمرها، على كل حال لست شابا متهورا كحال أغلب من فى الميدان وفى بهو العمارة.. همست إليها فى أذنها اليمنى، فتعاطفت مع كذبتي بشدة وباقتناع، أومأت موافقة فورا.. عندما أفهمتها أنني عجوز أعانى من داء السكري، والقلق في الميدان رفع السكر، وكنت فى حاجة إلى دورة مياه!

ردت على عجل: "عندي حقن أنسولين..!" "تناولت حبة أماريل!" أشاحت بوجهها: "حالتك أرحم من حالتي" وقبل أن تقرر قرارا، كانت الجموع داخل صالة الشقة!

نظرت حولي مبتسما، وهذا ما حدث، احتلوا شقة العجوز! سرعان ما فقدنا العجوز وسط من يتأوه، ومن يتمخض، ومن يخور كما الثور المذبوح.. كنت ورفيقي أفضل حالا عما قبل، بينما أرى الجميع.. كل منهم منشغلا فى حاله، يا له من حال!.

يبدو أن العجوز نجحت في إدارة الموقف، وإلا بماذا تفسر كل ما كان من بعد؟ بماذا تفسر إحكام إغلاق باب الشقة على من فيها، بينما عبوات المياه المعدنية البلاستيكية تدور من فم إلى فم.. ثم ما أدهش الجميع أن سمعنا طرقا هينا على زجاج شراعة الباب.. ليفتح باب المغارة السحرية على صينية مغطاة بأكواب الشاي الساخن الجميل.. ثم أخرى وثالثة، جاءت بها الست "أم سلامة" التي لها موقعها المميز فى الميدان لتجهيز الشاي وبيعه للثوار.. علمت ذلك فيما بعد!

من يبرر طرقات عجلة لاحقة على زجاج شراعة الباب ثانية، لم أكن أقرب الموجودين للباب، كنت أفضلهم حالا.. فتحت. ثلاثة شبان يحملون أكياس بها سندوتشات فول وفلافل وباذنجان مقلي! هذه الهبة والعطية الإلهية لم تكن من العجوز هذه المرة.. إنها عطية كريمة من أحدهم لا نعرفه، قابل الشباب وطلب منهم توزيعها على المتظاهرين، أدخلتهم، ارتميت فوق موضع قدمي، غير عابئ بالبرودة التي أشعر بها فى اردافى، ترقبت عيونهم تبحث، فبانت لي العجوز التي يبدو أنها انشغلت بإحداهن فى ركن قصي هناك، بإيماءة واثقة هادئة ولكنها حاسمة عجلة، بإشارة من يدها، بدأ ثلاثتهم يوزعون علينا العطية السخية.. ما أحوجنا إليها!

******

الفصل الخامس
-1-
شبه "مهدي" نفسه بـ"هرقل".. رأيته يتمثله فى الميدان.. فتذكرت مهمات "هرقل" الإثنى عشر وحروبه..
فى فترة الجنون التي جعلت فيها "هيرا" "هرقل" يقتل زوجته وأولاد أخيه، ولكي يكفر عن هذه الجريمة، توجب على "هرقل" القيام بعشر مهمات يضعها عدوه اللدود"يورسيوس" الذي أصبح ملكاً بدلا من "هرقل". وقد أدى "هرقل" هذه المهام بنجاح، لكن "يورسيوس" ادعى بأن تطهير إسطبلات "أوجيون" وقتل هيدرا"ليرنين" لم يقم بهما "هرقل" وحده، ففرض عليه مهمتين أخرتين.. أداهما هرقل بنجاح!
..
المهمة الأولى... "قتل أسد نيميا"
بدا كمن يبحث عنى، انه "مهدي" الذي فقدته بعد أن تركت شقة العجوز،

كان يرتدى سترة جندي من جنود الأمن المركزي.. مهترئة عليه، متسخة بشدة!

لم أجد مبررا لأن يسرقها أو يفتخر بها، لم أنطق، ولم أفهم، لولا أن قال لي:

"سلختها من عليه، لعلها تحمني من زملائه!"

تذكرت المهمة الأولى لهرقل:

"قتل أسدا، وسلخ جلده، ولبسه ليكون منيع ضد الأسلحة"
..
المهمة الثانية.. "ذبح هيدرا ليرنا"
يبدو أن لقاء "مهدي" هذه المرة، لم يكن عن عمد وقصديه منه،

فقط نظر إلى، وبقى يلهث فى صمت،

تمنيت أن أسمع منه، فقال:

ولاد الأبالسة اعتلوا سور المتحف المصري..

ولاد الكلب كسروا بعض آثاره وزجاج صناديق العرض..

كنت على رأس مجموعة، واجهتهم..

كلما أوقفنا زحف مجموعة منهم، زرعت مجموعات،

لم أهمد إلا الآن،

إلا بعد أن اختفوا وهربوا.

"ما هذا الدم على ساقك؟"

ضربوني بسلسلة من الحديد الصدى..

لا يهم.

تذكرت المهمة الثانية لهرقل:
"قطع "هرقل" رأسا للهيدرا، كانت واحدة من رؤوسها التسعة، كانت تنمو لها رأسين بدلا من الرأس المقطوع. تغلب عليها بمساعدة دواء إبن أخيه "لولاس"، الذي كان يسد الجروح بالنار قبل خروج أحد الرؤوس الأخرى"

.. المهمة الثالثة...أسر "وعلة سيرياين"
أطرف ما شاهدته منذ حضوري الميدان،

أن رأيت "مهدي" يعدو فى منتصف الميدان، قادما من جهة ميدان عبدالمنعم رياض،

يدفع أمامه أحد "البلطجية"، مقيدا فى كلتا ذراعيه، حاف القدمين، عار الرأس!

كان يصيح ويقول:

"أين الشرطة العسكرية.. أين وحدة الجيش؟

تسليم الغنائم وجبت!"

تذكرت مهمة هرقل الثالثة:

"تمكن هرقل وحده من إصابة "أيل أركادى روماني" له قرون ذهبية وحوافر نحاسية، وهو مقدس عند لألهه "أثينا"، أنجز هرقل مهمته دون أن تسفك دماء"

..المهمة الرابعة... "حصار خنزير إرمانثيان"
لم أتصور أن أجد "مهدي" يجلس القرفصاء يبكى إلى جوار جدران العمارة،

هرولت نحوه،

لم أنطق، ما أن وجدني أمامه، سألني:

"أنا خائن.. أنا مجرم؟"

أخيرا فهمت،

أثناء شدة التزاحم حول منصة هناك، لمح "مهدي" كومة من الصخور يلقيها أحدهم من فوق سطح إحدى العمارات.. بلا تردد جرى وفر بعيدا.. فسقطت الصخور فوق رؤوس رفاقه،

"لم أحذرهم.. جريت دون أن أنبههم،

أنا خائن.. أنا مجرم"

بل أنت بطل.. هون على نفسك يا ولدى،

هكذا الحرب..

انتبه مهدي ومسح عن خديه وهو يردد ويقول:

"الحرب.. هكذا الحرب؟!"

تذكرت المهمة الرابعة لهرقل:

"أرهق "هرقل" الخنزير بمطاردته عبر الثلوج قبل تقييده بالسلاسل، وبينما هو هكذا مندفعا يلاحق الخنزير.. قتل بالخطأ معلمه كبير السن" شيرون"!

.. المهمة الخامسة.. "تنظيف إسطبلات "أوجيان"

لم تكن مهمة الشباب تقتصر على مواجهة الطوب والعصي وخراطيم المياه والرصاص المطاطي .. فقط. تشاركو جميعا فى تنظيف الميدان، وما تيسر من الشوارع الجانبية، وان تقدمنهم الشابات، لم أدهش أن أجد بينهم "مهدي"..

تذكرت المهمة الخامسة لهرقل:
"الملك"أوجياس" ملك "إيلايس" كان يمتلك 3000 من الماشية، وكانوا فى إسطبل لم ينظف منذ 30عام، فوعد "أوجياس" "هرقل" بإعطائه عشر الماشية إن نظف المكان فى يوم واحد، وأستطاع "هرقل" إنهاء المهمة.
.. المهمة السادسة.. "طرد طيور "ستامفليون"
فى لحظة غير متوقعة، دوت صرخة من كل الحناجر، من القلوب.. بان لمثلى وأنا دوما أتخير موقعا آمنا.. أن حدثا جلل عرفه الجميع..

كان أن انسحبت كل عربات شرطة الأمن المركزي من الميدان معا!

فلما رأيت "مهدي" أمامي..

تساءلت:

هل انتهى الأمر كله؟

بل بدأ!

اعتدت فى الامفتريون أنهم يسألوني، وأنا الخبير الذي يجيب.. الآن أنا السائل،

يبدو أن دنيا الميدان غير دنيانا التي نعرفها..

تذكرت المهمة السادسة لهرقل:

"كانت هناك الطيور المهابة، مخالبها، أجنحتها ومناقيرها، نحاسية.. يستخدمون ريشها كأسهم ، وهى الطيور المقدسة عند "أريس" إله الحرب، باغتهم "هرقل" أثناء طيرانها، أصيب العديد منها وهرب البعض الآخر"
..
المهمة السابعة.. "التغلب على الثور الكريتى"
عم لغط حزين بعد انسحبت قوات الشرطة!

بدأت تعلن الشكوى من سرقة الهويات والأموال!

لم تطل الأحزان والحيرة.. شكل الثوار جماعات أمن الميدان، من بينهم "مهدي"!

انقلبت الحيرة إلى فرحة،

كان ذلك لحظة أن تقدم "مهدي" مع آخرين، يجرجون أحدهم وبتفتيشه، كان يخبئ أسلحة بيضاء فى جسده!

تذكرت مهمة هرقل السابعة:

"أمر الملك "يورسيوس" "هرقل" بأن يأتى بهذا الحيوان حيا، انه حيوان النافس للنيران" ، فسافر"هرقل" إلى الكريت وقهر الوحش بنجاح"

المهمة الثامنة.. "أسر خيول "ديوميتيس"
فيما كانت جموع الشباب تتحاور حائرة حول مصير طلبات الثوار،

كنت أتنقل بينهم،

لم ادع الخبير ببواطن الأمور ولا أنا العجوز المحنك،

رغبت أن أسمع، وأيضا أتعلم،

من أين تلك الحكمة والرأي الثاقب الذي اسمعه من هذا أو من ذاك؟!

حتى وان كنت رافضا له.. أراه مقنعا فى ذاته!

كنت أراهم مدللين، غير منتمين!

أسمعهم الآن يضعون الخطط لإنقاذ مصر!

لم يكن "مهدي" أفضلهم.. رأيته أكثرهم حكمة!

حالا كشف بعضهم عن هويته، ومن حواره أتضح أنهم من أفراد شرطة أمن الدولة!

كاد الثوار يقضمون عظامهم.. لولا أن "مهدي" الذي تأكد من هويتهم،

ثم توجه إلى زملائه، قال:

"هيا نخرجهم من الميدان.. حالا والآن.. سلمية يا جماعة"

تذكرت مهمة هرقل الثامنة:

"ملك "ديوميتيس" كان يطعم أحصنته لحوم البشر، لكن "هرقل" أعاد ترويضهم، بعد أن قتل ملكهم".
.. ما أنا تأكدت منه طوال فترة تواجدي فى الميدان.. أن "مهدى" شارك وكأنه "هرقل"، لكن لم ينفذ مهام "هرقل" كلها..

لأنه لم يقتل، كما فعل هرقل مع ملكة الأمازونيات،

ولأنه لم يسرق، كما فعل "هرقل" مع ماشية "جريون" وعاد بها إلى اليونان،

ولأنه لم يقتل ليسرق، كما فعل "هرقل" وقتل التنين ليسرق الالهه "هيرا"،

 

-2-
أحاط جبهته، دائرة رأسه، بحلقة من الصوف المجدول، ظننت أنه من هؤلاء أصحاب التقاليع المدللين، كيف لا وأنا أرى شعره الناعم ينسدل فوق جبهته، يكاد يجدله من خلف قفاه.. خاب ظني، تأكدت فورا أنه من زعماء الميدان!

يتحدث بحمية ويقول: "كل الاحتمالات واردة: القتل.. والاعتقال.. والضرب.. اتفقنا " .. لم ينتظر إجابة تابع وحده: "لا تنسوا ما اتفقنا عليه.. البنات فى الخلف، سوف نتقدم على مجموعتين، مهمة المجموعة الأولى الأقل عددا هي استفزاز عساكر الأمن المركزي، وهى مهمة سهلة، أحدكم يسب أمهاتهم،

وان لم تنجح تلك الطريقة.. تتقدم "ماجدة" وحدها من الخلف وفورا تتخير أحد الجنود وتسب أمه.. إن قبلها العسكري منكم، لن يقبلها من بنت.. فورا سوف ينقض عليها، وهى اللحظة المناسبة للمجموعة الأولى لاختراق صف الجنود..

أما المجموعة الثانية تشترك عندما يأتي الضباط.. شعارنا ونحن نتقدم: "سلمية.. سلمية" وبأعلى صوت حتى نضمن مشاركة مجموعات أخرى من الميدان"

دون أن أدرى وجدتني وجها لوجه أمام الشاب العفي، نظر إلى وتردد للحظة متابعا حديثه، ابتسمت وتمتمت ببضع كلمات، وبصوت لم أسمعه أنا نفسي،

لكنه فهم ما اطمأن له، ولا أدرى لماذا واتته تلك المشاعر، يبدو أن ملامحي لا تشي بأنني من المخبرين السريين!

تابع وحده، وكأنه لم يشأ أن يعطل تنفيذ المهمة التي قرر تنفيذها، وقد حانت ساعة الصفر.. "اتفقنا يا جماعة.. أهم شيء بعد العملية، إذا تم القبض علينا، لا نتحدث إلى بعضنا البعض، ولا حتى ننظر إلى بعضنا البعض، وكأنهم قبضوا علينا مبعثرين من بين شباب الميدان، وإلا الصقوا فينا تهمة تشكل تنظيم سرى، وتهمة قلب نظام الحكم.."

ارتعبت، أنا لم أشكل تنظيما، ولم أسع، ولم يخطر على ذهني، حتى وأنا فى عنفوان شبابي مثلهم؟!

وجدتهم ينسلخون من مجموعتهم الكبيرة، إلى مجموعات صغيرة، لا تزيد عن فردين أو ثلاثة.. اقتربت لحظة الصفر،

بعد خمس دقائق بالضبط، ومن الباب السحري الذي لا يراه غيرهم، تجمعوا ثانية، كما أخبرهم زعيمهم.. إلى مجموعتين، بدأ تنفيذ الخطة!

حوالي ست شباب فى مقدمة المجموعة الأولى، اكتشفت إنني سابعهم، ربما سبعة وأنا ثامنهم! فى منتصف الصف تماما، أحدهم كبل كفى اليمنى، والأخر على يساري كبل كفى اليسر،

للحظة ظننت أنهم عدلوا الخطة كي ينقضون على أنا وحدي!

أدرت رأسي عن يميني وعن يساري وعن أمامي وعن خلفي.. لعلى أفهم.. مجموعة أخرى، فورا فكوا اللافتات، بعض الفتيات قمن بمهمة توزيعها على من كان قريبا من المجموعة.. أما نحن.. أنا وبقية الشباب وقفنا في الصف الأول متكاتفين نصيح، أن لا تراجع ولا هروب في أي حال من الأحوال!

تقدمنا ببطء وبخوف.. على الأقل أنا كنت خائفا، عندي ما يبرر خوفي.. فى عز شبابي لم أفعل ما أفعله الآن! شاركت فى بعض المظاهرات نعم، كنت دوما من بعيد لبعيد.. لم أسع للحظة واحدة أن أتقدم نحو العساكر!

لم يحدث ما توقعته.. أن تسرع العساكر برشقنا بالرصاص ولا حتى بالسباب، اقتربنا بشدة حتى بدت لي أعينهم غائرة من شدة الإجهاد، حتى أن الخوذة على رأس بعضهم تكاد تغطى جبهته وعينية ولا يسعى لأن يرفعها، لعله لا يسعى لأن ينظر فيرى!

تركنا أيدي بعضنا البعض، أو على الأصح وفى الحقيقة وجدت الشابين بجواري يسحبون كفيهما، ومع الباقيين يصفقون ويصيحون بهتافات لم أكن اعرفها،

الجن لقنها لهم جميعا:

.. "سلمية.. سلمية.. سلمية"

.. "صيحي صيحي صيحي.. أنا ابنك، مسلم ومسيحي"
.. "بالروح بالدم مصر بلدنا أهم"

.. "لا احتكار للسلطة ولا للمال"

.. "بنقولها قوية .. بلدي"

.. "فين الحرية .. بلدي"

.. "ارحل يا خسيس .. بلدي"

.. "ما فيش توريث .. بلدي"

وجدتني أهتف لأذني: "أنا فعلا ضد التوريث.. الظاهر أنني لم أخطئ أن جئت إلى هنا!"..

بل وجدتني وقد شردت بعيدا، وأنني ما زلت وحدي على بعد مترين من صف الجنود، بينما الخطة نفذت وتشاركت المجموعة الأخرى..

بدأت المعركة وتنفيذ الخطة التي سمعتها منذ دقائق؟!

انسحبت فى هدوء:

"هذا يكفيني.. هذا يكفى جدا!"..

لم أنتبه إلا وأنا داخل مسجد عمر مكرم، أسأل أحدهم عن مكان دورة المياه، كدت أبول على نبطالى:

"يا جماعة، أنا رجل كبير وعندي مرض السكر.."

كانت المرة الأولى التي أكتشف فيها أنني لم أحضر معي الدواء الذي أحرص على مواعيده تماما، أنا المريض الملتزم!

هالني أن رأيت الصف، الصفوف المتراصة، من الشباب والشابات أمام أبواب دورة المياه! لولا إحداهن زعقت فيهم أن يسمحون لي عدم الالتزام بالدور.. تبين لي أنها طالبه فى كلية الطب، لأنها نطقتها هكذا: "ديابيتك كيس يا جماعه.. أدخلوه فورا"!

رأيت أن الوضع سوف يصبح أفضل كثيرا، إن بقيت بالقرب من دورة المياه، وفورا شعرت بخسارة لا تعوض، أن أكون بعيدا عن حمام بيتي!

 

-3-
بدهاء المحنك ومن خبرته القديمة، تعلل "سرى بيه" بكبر سنه، قرر قرارا لا رجعة فيه.. أن يبقى هاهنا. هو الموقع الاستراتيجي اللازم، بمصطلح التجربة الحربية التي عاشها مجندا خلال معارك العبور!

ها هنا دورة المياه أولا وقبل أي شيء.. بالاضافة إلى ساحة مسجد "عمر مكرم".. تلك الساحة التي تحمى انسحابه، ان لزم الأمر.. لا مانع أن يشارك وأن يبقى هكذا حذرا، لا يضير أن ينضم إلى جماعة خيمة الإسعاف، أو "المستشفى الميدانى" وقد علقت لافته "أطباء الميدان- إسعاف".

.. لم يكن "سرى" طبيبا، كان ضمن أفراد كتيبة طبية، وخدم فى نقطة الصيدلية بها.. فخبر أسماء الأدوية التي يمكن أن تعالج بعض الأعراض المرضية، مثل الإمساك والإسهال وعسر الهضم والروماتيزم.. وخبر طرق الإسعافات الأولية التي تكفى لإيقاف نزيف أو تضميد جرح ما، أو حتى تعضيد كسر ما، حتى يصل المصاب إلى الاخصائى..

لم يحتاج أن يستأذن أحدهم.. هم مجموعة من الأطباء الشباب والشابات، وقليل من الأطباء فى منتصف العمر أو كبير السن، ممن قرر إغلاق عيادته الخاصة والعمل داخل خيمة التحرير.. لا يبدو بينهم القائد أو المدير أو حتى المنسق.. وجدهم جميعا فى عملهم منشغلون..

اقتحم الخيمة، اندس بين مجموعة تحمل مصابا فحمله معهم، فورا سمع من يطلب منه أن يشترى الدواء المكتوب فى ورقة صغيرة.. أحد الأطباء دون أن ينظر إليه قال: "اشتر هذا الدواء بسرعة.. سوف يعطيها لك الصيدلي بنصف الثمن!" ما أدهشه، أن تحقق فعلا، ودفع نصف الثمن فور أن سلم الورقة إلى الصيدلية الكائنة بأحد الشوارع الموصلة للميدان.

أثناء عودته، أسرع الخطو، أصبح ضمن جماعة لا يعرفهم، شعر أنه شاب فى العشرين من عمره، شاركهم وهتف خلف احدهم: "حسنى بيه يا حسنى بيه.... كيلوا العدس ب10 جنية"
"آه يا حكومة هز الوسط.... اكلتونا العيش بالقسط"
"آه يا حكومة هز الوسط.... كيلو اللحمة بقى بالقسط"
"ياكلوا لحمة وياكلوا فراخ.... واحنا الفول دوخنا وداخ"

عاد، وما أن سلم علبة الدواء، حتى صرخ الطبيب فى وجهه، بعنف واضح! "وأين الحقن البلاستيكية؟" كان وجه الطبيب غاضبا إلى الحد الذي جعل "سرى بيه" يبدو مرتبكا، لا يدرى بماذا يجيب؟.. هل يقول له: "أنت لم تخبرني" أم يقول له: "لا تصرخ فى وجهي هكذا؟!"

رحمة من الله أنقذته، أحدهم يدعو الجميع أن يحملوا عنه ذلك الصندوق الكارتوني الكبير الثقيل، وهو ما تحقق فورا، انقض الطبيب على الصندوق فتحه، وسحب واحدة من الحقن البلاستيكية، نسى "سرى" تماما!

أول ما تأكد منه "سرى" حالا.. أن العمل فى تلك المستشفى الميداني، أصعب كثيرا من العمل فى الكتيبة الطبية أثناء الحرب! فلا قائد ينظم العمل، ولا ادارى يوفر الدواء والمعدات، ولا توجد تخصصات الطب الضرورية فى مثل تلك الحالات، وهو ما تأكد منه حالا، عندما صاح أحد الأطباء الشباب يتحدث إلى سماء الخيمة ويصرخ: "أحدكم يذهب إلى مندوب أى قناة فضائية، ويطلب منه استدعاء طبيب جراحة عيون فورا"

لم يقصدني، فلم يكن يراني وهو فى الركن القصي هناك، لكنني شعرت أنه يقصدني، وأنه يطلب منى أنا بالتحديد، لم أتردد.. أسرعت أسأل عن عربة أية قناة فضائية!

لم تكن تلك الواقعة وحدها هي ما انشغلت بها، أثناء عودتى من مهمتى الإعلامية، مررت منفلتا من بين الأجساد وأنا فى طريقي بعيدا عن سيارة نقل الإرسال الخارجي لإحدى القنوات الفضائية، أرشدنى إليها أحدهم.. هالني أن سمعت من يصرخ فى وجهي، يقول: "هل أنت فى نزهة على النيل؟ اجري ولا تتوقف.. أخفض رأسك" فما كان منى إلا أن توقفت مستفسرا بهدؤ، بينما أراه يسحبني سحبا إلى حيث يظن أنه فى مأمن مما كان يشير نحوه..

فيما بعد علمت أن أحدهم يطلق رصاصة خاصة من بندقية خاصة، لا تصيب إلا العينين! صدقته، وفهمت ما يبرر المهمة التي كلفت بها منذ قليل، انه صياد العيون الملعون!

فور أن بلغت سور حديدي، ارتطمت بأحدهم، انتفض ولم يعلق، وجدته ينزاح قليلا وهو يقول: "الحكاية كبرت.. لا لا لا.. الموضوع لم يعد تهديد بالقتل أو الاعتقال"

فيما كان صوت شباب الميدان مع غروب شمس هذا اليوم اللعين، يرددون هتافات لم أسمعها من قبل: "واحد.. اتنين... الشعب المصري فين؟"
"يا أهلينا.. يا أهلينا.. يا أهلينا... ضموا علينا"
"اعتصام.. اعتصام... حتى يسقط النظام"
"يسقط.. يسقط.. حسنى مبارك"

شعرت دون أن أفكر، إن هؤلاء الشباب يقصدوني أنا، جئت فضوليا، وتطفلا.. أجدني الآن فى حيرة: "ماذا على أن أفعل؟ هل جئت فى الوقت المناسب؟!"

*****

الفصل السادس
-1-
مللت بقائي فى خيمة الإسعاف أو مستشفى الميدان، بجوار مسجد "عمر مكرم".. هل يحق لي أن أشعر بالملل هنا؟ وما يضطرني أصلا أن أتواجد وسط هؤلاء الشباب المتهور، المندفع اندفاع الوحوش؟..

منهم من يعترض على الدنيا كلها لأنه لا يجد عملا،

منهم من يستبق، وهو ما زال يدرس، ويتوقع أن يحدث معه ما يسمع عنه ويراه!

منهم من كان يعمل، وأجبروه على تقديم استمارة "معاش مبكر".. لم يبلغ الأربعين من عمره بعد، يعول أسرة من خمسة أفراد..

رأيت بينهم من جاء من أقصى الصعيد بجلبابه الوحيد، لأنه مزارعا فى شركة زراعية خاصة، امتلكها أحدهم، بينما تعتبر أرضها من أراضى استصلاح وزارة الزراعة تحت عنوان لم ينفذ العنوان "مشروع تمليك وتشغيل الشباب"، وسلمت لأحد المستثمرين! صرخ فى أذني، كان صوته كفيل بإيقاظ الملائكة فى السماء:

"اشتغلت أجير على أرض بلدي، على أرض كان من المفروض أن أكون من ملاكها"!

رأيت بينهم من جاء من إحدى القرى، هو عمدة تلك القرية، لأنه رفض تأييد أحد المرشحين، من هؤلاء الملقبون بالقطط السمان.. تمكن الملعون من إزاحة تليفون العمودية منه وتسليمه إلى شيخ البلد، نزعوا منه العمودية!

رأيت من بينهم، من يبدو على كامل هندامه المتسخ! عرفت أنه وصل منذ ساعات من إحدى الدول العربية فارا، نجح فى الهروب من صاحب العمل الذي يرفض تسليمه "جواز السفر" الخاص به.. فلما لجأ إلى رجال السفارة، خذلوه.. نجح فى تنفيذ خطة للهرب، تعرض أثناءها للموت، رفض أن يفصح عن التفاصيل، لا وقت عنده، انشغل فى مهمة أكبر.. انضم إلى المتظاهرين، فلما رفض ثانية أن يفصح.. بينما أراه قريبا من الخيمة وحده، فهمت.. ليس بسبب ضيق الوقت، لسبب بسيط للغاية.. بح صوته!

فيهم من لم أفهم سبب تواجدهم واعتصامهم؟! هؤلاء الذين يأتون غالبا بسيارات فارهه، يتركونها على مقربة من ميدان التحرير، غير خائفين أن تسرق أو يكسر زجاجها مع تلك الدربكة؟!.. لم أشأ أن أسألهم،

فقط تابعتهن، رأيت القمرات يكنسن أسفلت الشوارع، ويوزعن المياه، ويبتسمن..

سرقني مشهد هؤلاء الفتيات الجميلات الرقيقات وسط الجميع، لم أجد مبررا لأن أسأل.. وصلتني الإجابات كلها!

رويدا شعرت وكأنني داخل شرنقة لا أراها.. حبيس فكرة شرنقتنى لا أعرفها.. كأني لست أنا!

سألت رأسي:

"أين أنت من كل هؤلاء؟"

عدت أسأل سؤالا أخر: "لماذا جئت إلى هنا فى المبتدأ؟!"

أعترف،

شعور غامض يدفعني دفعا، لأن أتخلى عما قررته منذ سنوات.. "السادات" سبب المشكلة من وراء قراري.. قتل، وان كنت ضد القتل! الاتفاقية بكل ما أعلن منها وما خفي.. نفذت، وان آمل أن تغور وينساها هؤلاء من حولي!

ومع ذلك، هل كنت سأعترض لو كان سألني السادات؟! أظن أنني كنت سأقرر عدم الرفض، خوفا من الاعتقال! لماذا إذن المكابرة.. وادعاء بطولة تحدى الرؤساء وأولى الأمر؟!

ثم والاهم من هذا كله، آنا مريض "هيموفليا" حذرني الأطباء من النزيف طوال العمر..

هؤلاء الشباب أفضل منى!

لكن والحق يقال أن البداية كانت بسبب الحمية التي كان عليها "مهدي"، تلك التي لم أتوقعها فيه، وان كانت حميته من باب التمرد أو إثبات الذات!

أقنعت رأسي فى هدوء وروية.. إن كان السادات لم يأخذ رأيي فى موضوع الاتفاقية، وانزويت بعيدا.. كان يجب على أن أسعى بكل ما أملك أن أبلغه رأيي، حتى وان لم يستطع تعديل أو تغيير ما قدمته يداه، لكن الحقيقة أنا قصرت،

يبدو أنني فضلت أن أجلد نفسي قبل جلدي!

لما جاء "مبارك" وجدته مشغولا بنفسه أكثر منى، لم أنتبه إليه ولا إلى الاتفاقية، لم أنضم إلى حزبه، على الرغم من أن البعض نصحني:

"لن تنال مقعد رئاسة المصلحة، إن لم تنضم إلى الحزب وتثبت ولاءك"

كل علاقتي به كانت بالضحك، بداية من أول النكت التي أطلقوها عليه، ولقب "البقرة الضاحكة.. لافاش كرى" التي التصقت به لسنوات.. مرورا بتعليق البعض الساخر عليه، وهو يسأل أحد عمال المصانع فى زيارة له لمصنع للنسيج عما يناله من راتب؟ فادعى العامل ردا آخر، لم يفهمه الرئيس صاحب الضربة الجوية، اضطر الرجل أن يقولها على مسمع من الجميع أنه من أفراد الأمن السري! لم تكن آخر المواقف الضاحكة.. وفى زيارة لإحدى القرى، حيث أخبره الفلاح أنه يعبر إلى الضفة الأخرى للنهر بالمعدية، فأشار إليها الرئيس الفكه وقال: "إياك تكون زى العبارة اللي غرقت وموتت الناس" هكذا ببساطة يتفكه على أرواح زهقت بسبب الإهمال!

 لم أسمع تعقيبا واحدا منه أو من المقربين منه، يبدو أن مثل تلك الانطباعات من الناس لا تغضبه، أو كانت تغضبه لكنه عاقل ويرمى وراء ظهره.. شاري دماغه، ليست صفة معيبة! أنا أيضا عشت السنوات الماضية كلها، وكأني اشتريت دماغي..

كل الناس اشترت دماغها!

كل من له عينين يرى من حوله فى كل المدن والقرى على حالتين.. جماعة منهم اشترت دماغها، وتركت البلد بالعمل فى الدول العربية أو بالهجرة إلى استراليا وكندا، وخصوصا الأقباط.. والأكثرية اشترت دماغها على هيئة حالتي، وانشغلت بالإجابة على السؤال الوحيد:

كيف توفر لقمة عيشها؟

هذا أضعف الإيمان.. أبدا لم أقصر!

المضطر يركب الصعب، وكنت مضطرا!

غلالة لامعة كست عينيه، فانزوى حتى لا يراه كل من له عينان.. هيهات!

 

-2-
انسلخ "سرى" من الباب الوهمي لخيمة الإسعاف، على بعد خطوات قليلة قابل أحدهم، تستطيع أن تصف اللقاء بالارتطام،

كان الشاب مندفعا فى غير اتزان، كمن احتسى زجاجتين من البيرة للمرة الأولى، فلا هو منتبها ولا هو مخدرا، ردد بضع كلمات:

"أشعر بالتعب والضعضعة.. بسبب مدافع المياه.. الظاهر.."

عفوا لمس "سرى" عضديه، شعر وكأنه لامس جمرة، فعاد وطلب من الشاب أن يرقد على الأرض المفروشة بملاءة كانت بيضاء اللون، أشار إلى أقرب طبيب إلى جواره، ثم خرج.

كم من الخواطر راودته.. أولها، أن سأل رأسه دهشا:

"يبدو أن كل هؤلاء، لم يحضروا إلى هنا من باب الفضول مثلى!

لم يتقابلوا مع "مهدي".. أي مهدي أخر!

.. تحرك "سرى" نحو خيمة خضراء اللون، لافتة! تبدو جديدة أنيقة.. ربما مثل تلك التي تنصب على الشواطئ بالقرى السياحية، هناك فى شرم الشيخ والغردقة، ليس ها هنا فى ميدان التحرير؟! لم تكن أبدا مثل تلك الخيمة القائمة إلى جوارها، ولا جملة الخيام الأكثر انتشارا.. تلك التي تبدو وكأنهم صنعوها من مجموعة من البطاطين أو الأكلمة الممزقة، انتصبت أعلى مجموعة من العصي!

اقترب "سرى" أكثر كثيرا،

بحلق من خلال فرجة لحدين من الستار الهابط، تصنع بابها شبه المنفرج..

ما أن فعل فعلته الفضولية تلك، حتى نال من السباب واللعنات ما يكفيه لسنوات قادمة:

"تعال يا خنزير وأتفرج على الثوار..

هل صدقت ما قاله تليفزيون حسنى مبارك وانس الفقى، أننا شواذ وولاد زنا؟!"

انتفض، رفع رأسه، عاد فورا.

لم يتابع بقية ما نطقوا به، لسبب بسيط فعلا، أنه مقاطع لكل قنوات التليفزيونية منذ سنين، الجميع يعرفون عنه ذلك.. يقاطع كل وسائل الإعلام!

انسلاخه من الفرجة الضيقة لم تعفيه من السباب، وان سب منذ قليل ب"الخنزير" لأن من سبه إحدى الفتيات.. لاحقته حالا سباب بالأم والأب والأجداد من زملائها الشبان!

المفاجأة أن معظمهم شباب، يظن المرء أنهم مدللين، من شباب الفيسبوك.. شكلهم يشي بذلك، ممن يطلقون عليهم أنهم ولاد ناس..؟!

كل ما علق به "سرى" من بعد، أن قال وهو يتابع المسير:

"غريبة..

ماذا جاء بهم هنا؟ ولماذا؟.. ربما غلبهم الفضول مثلى، لا أدرى، ما عدت أصدر أحكاما! الأغرب هو ما فعلت،

لست عمر بن الخطاب يتفقد الرعية؟!"

.. "سرى" فى شردته، لم يبتسم، منذ أن وطأت قدماه أرض الميدان.. لكنه ابتسم الآن!

غلبته البسمة، لحظة أن ارتطم بجسم ما، بشيء ما على الأرض.. لم يكن هذا الشيء، سوى هذا الطفل الذي لا يزيد عمره عن أربع سنوات؟

بقليل من الارتباك انحنى إلى الأرض، رفع الصغير، الصق قبله ثم سأله:

"بابا معك يا حبيبي؟

أين ماما؟"

لم يسمع إجابة، لعل الصغير نطق وقال "نعم".. لكنه انشغل أكثر كثيرا بتلك الرسوم التي على وجه الصغير.. على الجبهة علم مصر، وعلى أحد الخدين هلالا، وعلى الخد الأخر صليبا.. زادت بسمة "سرى" وهو يتمتم: "عمار يا مصر"

لم يتابع، بعد أن لمح أحد الشباب وزوجته يحملان عنه طفليهما وبالبسمة نفسها.

.. لم يشغل "سرى" رأسه، بهؤلاء من كبار السن من الرجال والسيدات، انتبه إلى أحدهم يجلس على مقعد متحرك، وقد رشق علمين بمسندي المقعد، بينما يسير بين الجميع فى صمت!

.. عندما بلغ أحد الشوارع الموصلة إلى الميدان، وجد الأسلاك الشائكة والحواجز، فرق الأمن والتفتيش من شباب الميدان تعمل فى هدوء.. من يرغب دخول الميدان عليه أن يقدم بطاقة الهوية لأحدهم، وبعد خطوات منه، عليه أن يرفع ذراعيه للتفتيش الذاتي، للبحث عن أية أسلحة مخبأة هنا أو هناك.

لم يدهش على هذا القدر من الانضباط،

دهش أكثر من كم المخلفات المعبأة داخل أكياس نايلون سوداء، فى انتظار عربات نقل القمامة تحملها بعيدا.. أكثر ما أدهشه أن هؤلاء الفتيات الجميلات، يضعن اكفهن فى قفازات جلدية لجمع القمامة، وحفظها فى أكياس بلاستيكية، ابتسم لإحداهن، لم ترد ولم تبتسم، ظنت أنه عجوز يتصابي.. ربما فضلت أن تبدو هكذا.. ثورية، لا تعبأ بجمالها، ولا بمن يعبر لها عن جمالها.. هل يمكن أن تنسى الأنثى أنوثتها أوقات الثورات.. ربما، لا أدري؟!

.. عاد "سرى" أدراجه، قرر مواصلة اللعبة، ما زال لا يعرف السبب.. لعله يبحث عنه؟

لم أدهش قدر دهشتي وفرحتي وأنا فى طريقي إلى خيمة الإسعاف ثانية، إذ رأيت مجموعة من الشباب تتحلق معا، وفى وسطها أحدهم يصيح:

"مصر"
ثم يتابع بتصفيق قوى

"مصر"...

ثم تصفيق قوى"

.. تذكر مباريات كرة القدم التي حضرها فى البطولة الإفريقية!

تزداد الدوائر بدوائر أخرى، حتى ظننت أن نصف الشباب تكور وتشرنق حول الشاب الذي زاد انفعالا وحماسا، من تكرار النداء "مصر"..

عاودتني ذكرى رؤية حلقات الذكر والتصوف..

ما هي إلا دقائق حتى رأيت ما جعلني أقشعر.. الشباب يبص للسماء ويهتف.. أقدر العدد بما لا يقل عن عشرين أو ثلاثين الفا.. أو قل المليون، لا أدرى!

يرددون فى صوت واحد:

"الله أكبر..

ياااااااارب،

الحمد لك والنصر منك..

ياااااارب"

******

الفصل السابع
-1-
.. "صدقني يا.. لا مؤاخذه يا أستاذ، ما اسمك؟".. نطقها أحد الشباب إلى جواره.

"سرى.. مدير عام فى.."

"مدير عام؟! مدير عام وتعيش عيشتنا على الإسفلت فى عز البرد، الظاهر انك ثوري كبير"

تمتم "سرى":

"أبدا.. أنت ثوري أكثر كثيرا منى"

.. "من غير شعارات.. وحياة الغالي عندك، فهمني؟"

"مهدي.. عامل الكافتيريا السبب!"

.. "من مهدي هذا؟ هل كان صديقك، واستشهد برصاص الجماعة المسلحين ببنادق الليزر، من فوق أسطح الأبنية المطلة على الميدان؟"

"لا.. لا.. هو بخير.."

.. "المهم أنت، فهمني، ما سبب حضورك هنا؟"

"أنا حضرت الميدان متأخرا، لكن صدقني، كنت متابع موضوع المظاهرات من قبلها بشهور، مع مقتل "خالد سعيد" وأنا فى حوار مع أناس لا أعرفهم على النت، متخرج منذ أكثر من سنتين، ولم أجد عملا .. انشغلت أكثر بالكمبيوتر، وأصبحت ضمن جروب "كلنا خالد سعيد"، تستطيع أن تقول أغلب أفراد "الجروب" هنا فى الميدان، وفى ميادين أخرى فى الإسكندرية والسويس وأسيوط وإسماعيلية.. فى كل المدن".

سأله "سرى" مستفسرا إن كان وجد عملا منذ تخرجه.. هل كان سيترك عمله ويبقى ها هنا فى الميدان؟!

حك الشاب قفاه لفترة، ثم أدار وجهه شاردا..

"سؤال صعب.. وأنا لا أكذب، لا أستطيع أن أجيب إجابة يقينية أكيدة.. ربما أقول "نعم" فهنا معنا من هم يعملون بالفعل.. وبيننا هنا عاطلون عن العمل.. ولكل منهم مبرراته الخاصة.. أما أنا.. أنا بالذات، قد أكون خائنا لكل هؤلاء.. وقد.. لا لا لا.. لا تطلب منى إجابة!"

لم يطل الصمت، ليتابع الشاب:

"لذلك أراك بطلا.. أنت نموذج يجب أن نتعلم منه نحن الشباب.. أنتم جيل تم تربيته سياسيا، أما نحن فجيل يعدل موقع قدميه كل فترة.. على مستوى الأفراد وعلى مستوى الجيل كله..

أعرف زملاء لي قبلوا العمل كأفراد أمن فى شركات الأمن التي راجت، ومنهم من عمل "طيار"

لحقه سرى:

"طيار؟!"

ابتسم الشاب:

"لا.. ليس طيارا يقود طائرة!"

"ماذا يعمل إذن؟"

"يوصل الطلبات إلى المنازل.. يعمل فى محال بيع الوجبات الجاهزة بموتيسكل خاص!"

وابتسما معا، ثم صمتا.

 لفترة طالت وبكثير من مشاعر الزهو، عاش "سرى" مع نفسه يسترجع كلمات الشاب ووصفه له بأنه من الأبطال، بل يعد نموذجا يجب أن يحتذي به!

 شعر بالافتخار والانتفاخ بسبب كلمات ونظرات الشاب له.. رسائل كثيرة لم ينطقها الشاب، نسجها "سرى" وأحاط بها نفسه، وتشرنق!

لم ينتبه إلا عندما عاود الشاب حديثه:

"صدقني، ما كنت أظن أن الموضوع جد"
..
"لماذا؟"

"كثيرا ما كتبت وكتب غيري فى المدونات وعلى الفيسبوك، بل وفى الصحف وفى التليفزيون والإذاعة.. تنكر إن حجم الحرية والكلام الصريح، كان كبيرا خلال السنوات الأخيرة، لكن عقولهم بدت غشيمة، لأنهم اعتمدوا على الحل الامنى فقط"

.."لست متابعا.. لا أعرف، أنا لي موقفا معلنا ويعرفه كل من يقترب منى"

"ما هو؟"

.. "منذ أن أتفق السادات مع بيجن وكارتر، لم يخبرنا السادات بالتفاصيل، ولم يأخذ رأيي فيها قبل التوقيع عليها.. منذ تلك الأيام السوداء وأنا لي موقفي المعلن.. الرافض لكل ما يدور فى السياسة، ولآن الإعلام تابع لرجال السياسة، فقد رفضته، واكتفيت بالبرنامج الموسيقى فى الإذاعة"

"إذن أنت موسيقار، أو متذوق على مستو عال.. من يتابع الموسيقى لثلاثين سنة، حتما يصبح عبقريا فى الموسيقى"

.."أبدا،

أسمع، حتى الآن لا أعرف الفرق بين السيمفونية والكونشرتو.. المذيع أو المذيعة تخبرنا بما سنسمع، ونحن نسمع، كأي شيء فى هذه البلد.. هناك من يفعل وهناك من يتابع.. ولا يهم أبدا أن تشارك حتى وان كان بالتفكير والفهم!"

"الظاهر انك فيلسوف يا أستاذ؟"

ازداد "سرى" انتفاخا حتى كادت الشرنقة التي شكلها حول جسده منذ قليل.. تكاد أن تنفث!

يتابع الشاب:

"ما قولك فى الأفلام والمسرحيات.. ألم تر مسرحية الزعيم لعادل إمام، وفيلم عايز حقي لهاني رمزي.. وغيرها كثير مثل بعض أفلام خالد يوسف.. إياك تقول لي أنك لم تر أغلب الأفلام والمسرحيات التي عرضت على شاشة التليفزيون، وزهقت منها روحنا"

.."رأيتها، لكن لم أفهمها على أنها تمهيد لمظاهرات أو تعبير عن رغبة فى التغيير"

"ما هو أنت من جيلهم"

ضحك الشاب وحده.. ثم قال:

"أنا كنت فاهم، لكن غير مصدق أو قل غير متوقع أن يتحرك الشباب وأنا منهم.. لولا ما حدث تحت بيتنا، ما كنت فكرت فى الاشتراك.. ربما حدث عادى ويبدو بسيطا، يغير أشياء كثيرة..

.. "ماذا حدث تحت بيتك؟!"

"كنت نائما فى بيتنا وفوقي ثلاث بطاطين، الشتاء هذا العام قارص البرودة.. إذا بى استيقظ من أحلاها نومه على صوت صياح ونواح فى الشارع، زاد عليه صياح الحاج أبويا يسبني لأنني أثير الضجيج وأزعجه.. أخيرا اقتنع أننى بالحجرة إلى جواره.. طلب منى أعرف سبب الضجة، نزلت الشارع ب "البيجامة"!

فورا لاحظت إن الناس تجرى إلى اليمين والشمال، بينما سيارات الأمن المركزي الكبيرة عند رأس الشارع، سألت عم حسنين البقال، قال لي:

"مظاهرة يا أستاذ حمدي.. مظاهرة!"
نظرت إلى أعلي، وأخبرت أبى الواقف فى الشرفة، ولما عرف سمعته يقول: "عملوها الوحوش "!
قلت فى نفسي:

"الظاهر إن الرجل العجوز، أبو حمدي متابع أكثر منى.. وسألت نفسي عن سر المشاجرات الليلة معي، كلما وجدني على غرف الدردشة "الشات" مع الشباب، عموما فهمت انه كان خائف أن أكون على صلة بمجموعات الشباب التي يتحدثون عنها، وما يقولونه يفوق كل التوقعات.. وهو ما كان بالفعل، أبى يرغب ويشجع المظاهرات.. لكنه ينكر على وأنا ابنه أن أكون ضمن هؤلاء الشباب ومع تلك المجموعات!

انتظرت وأنا أرى ما لم أتوقعه، أغلب المتظاهرون غرباء عن شارعنا، ممسكين بأيدي بعضهم البعض.. الرجال فى الأمام، والنساء فى الخلف.. وبدأت الهتافات تعلو..
 "س.. ل.. ميه (سلميه)"

"واحد.. اتنين.. الشعب المصري فين"

"مش هنخاف.. مش هنخاف.. صوتنا العالي يهد جبال"

"مش سكتين.. مش سكتين.. إحنا خرجنا ومش رجعيين"

"عللى، وعللى، وعللى الصوت.. واللي حيهتف مش هيموت"

"يا أهلينا يا أهلينا لو سكتنا يدوسوا علينا"
"يا أهالينا.. يا أهالينا.. يا أهالينا ضموا علينا"

"ارفع كل رايات النصر.. إحنا شباب بتحرر مصر"

"صدقني يا أستاذ كدت أموت من الضحك، عندما سمعت واحد من وسط الجميع يتقدمهم ثم يقول:

"وسيكا سيكا سيكا.. قسم يا بو تريكة.. وكأننا فى مباراة للنادي الأهلي.. إلى الآن لم أفهم سر ما فعله صاحبنا الشاب هذا؟!
حالا، اصطف جنود الأمن المركزي، انتشروا أمام المتظاهرين لمنعهم من مواصلة المسير، كانوا يتقافزون فى المكان وهم يصيحون كعادتهم عندما يهبطون من سيارتهم: "مصر.. مصر "..
سمعت أمي تنادى باسمي من الشرفة:

"ارجع يا بني، أنا شايفه جماعة معهم الطوب والعصي".

صوت أبى عاليا إلى درجة أن سمعته يأمر أمي بحزم، أن تطلب منى أن أعود وأصعد إلى الشقة..

"الولد حمدي وحيدنا يا أم حمدي.. أطلبي منه أن يصعد وإلا نزلت إليه بنفسي وجرجرته أمامي إلى هنا.. كل هؤلاء عندهم بدلا من الشاب عشرة.. إحنا ربنا وهبنا بالوحيد.. نحافظ على نعمة ربنا.. واجبنا نحافظ على نعمة ربنا!"

بدأ المتظاهرون فى التهليل بهتافاتهم ..وبدأت معركة لم يتوقعها أحد بين الشباب والجنود، بينما سكان الشارع يصبحون لهم بهتاف طريف، أتذكره الآن وابتسم:
 "ادحرج واجري ..
 يا رمان ! وتعالى على حجري !
 يا رمان "!
ساد الهرج والمرج أرجاء الشارع، علت أصوت الصياح والنواح، بدلت البيجامة بالبنطال الجنس والجاكت الجلد ونزلت.. ثم سرت مع الشباب حتى وجدت نفسي ها هنا، ولم أكن أتوقع أن أفعل ما فعلت، وأن أغلب أفراد الجروب معي!

 

-2-
كثيرا ما يشعر "سرى" بالملل، مع هدوء وقائع الاشتباكات، بين المتظاهرين والشرطة.. بلا تردد يترك خيمة الإسعاف، يلاحق أي جديد فى الميدان.. لم يكن الجديد سوى إنشاء نصب تذكاري على شكل مقبرة!

مقبرة مغروزة بصور الشهداء، محاطة بسور من الحبال الملونة، مجللة بعلم كبير لمصر.. وبعض الزهور البلاستيكية، هنا وهناك..

انتبه على حائط العمارة القريب من نصب الشهداء، رسوم ضاحكة! فضحك سرى، ضحك بصوت عال.. لم يعترض أحدهم، ولم يستفسر أيهم، تابع "سرى" خطواته، ردد فى نفسه.. "لا يحدث أن تكون الضحكات إلى جوار شواهد الموت إلا فى مصر!"

فى مرة تالية شغلته أكثر تلك الرسوم بألوانها وأشكالها على الأجساد، المتظاهرون ضاقت عليهم الحوائط وأرض الميدان، أحدهم قسم سحنة وجهة بالون علم مصر.. إلا من العينين والشفتين! آخر قرر أن يكون علم مصر على صدره وبطنه.. عاريا فى عز البرد! ثالث فضل أن يخط نهر النيل وخريطة مصر!

بينما ذاك الشاب الوسيم، سجل رأيه على جسده، كتب يقول: "ارحل.. الورق خلص، أعمل إيه تانى؟"

.. لم تطل شردته، زخات من الطوب تملا وسط الميدان، هذه المرة، لم يشعر "سرى" بالارتباك، عرف وجهته.. إلى شقة العجوز الطيبة!

 

-3-
داخل الشقة، الصق ظهره إلى الجدران الباردة، صامتا ينظر إلى سقف الصالة المزدحمة بالأجساد والهمهمة والروائح. بلا مقدمات لكزه الرفيق، دوما هناك من يتحدث إليه.. مجهول الاسم، قال: "بالأمس فقط، استيقظت فى الصباح، فى الساعة السابعة صباحا، على غير عادتي، قد أستفيق فى الحادية أو الثانية عشرة كل يوم، عذري أنني أنام مع شقشقات الفجر.. لماذا هذا الاتصال المزعج؟ اضطررت أن أرد على المكالمة المزعجة: "الو.." جاءني صوتا لم أتبينه تماما: "كل سنة وأنت طيب" "لأي مناسبة؟" "عيد العمال؟" انتبهت على صاحبة الصوت: "هالة.. أزيك، كان صوتك حزينا فى المكالمة الأخيرة" "رد التهنئة الأول.."

ثم تابع ملاحقة "سرى" يقول: "ذكرتني "هاله" حبيبتي أنني بلغت الثلاثين، ولم أستطع خطبتها"

.. لم يجد "سرى" مبررا لهذا الحديث الغريب: "كل سنة وأنت طيب يا سيدي!" "ليس هذا ما أقصده.. كان لازم تسألني عن الثلاثين سنة.. ماذا فعلت بالثلاثين سنة؟!" مد "سرى" ذراعه بواحد من السندوتشات التي معه، التقطها الشاب بلا تعليق، ثم تابع.. "هل تعرف، أن أحسن سن فى عمر الإنسان يبدأ بالثلاثين.. فيه الضابط فى رتبة النقيب فى الجيش والشرطة.. وبالدرجة الثانية عند الموظفين.. والشاب قد تزوج.. "على مهل فهمني.. ماذا تقول؟" .. "لأن فيه تتجاوز البدايات، وان كنت على عتبة درجات أعلي لكن مشاعرك انضج ومسئولياتك أقل.. بص حولك: على كتف النقيب ثلاث نجوم تملأ الكتف، ولا يملأها ثانية إلا عندما يصبح عميدا، بعد طول العمر وغزوات الشيب فى شعر البطن.. بينما..."

لم يتابع الحديث، ارتفع صوتا من هناك.. كان أحد الشباب بداخل الجزء الخفي من الشقة، وخرج حالا محذرا: "الظاهر الشرطة قررت إخلاء الميدان فى وضح النهار، كنت متوقع أن يتم الإخلاء فى الليل أو حتى فى المساء"

انتفضت العجوز صاحبة الشقة غاضبة: "ومن أذنك تدخل الغرفة؟" "لم أدخل غرف .. من شباك الحمام يا مدام، رأيت رجال الشرطة من شباك الحمام!" .

بعد دقائق قليلة، للمرة الأولى تبدو المدام مضطربة، يبدو أنها كانت جالسة القرفصاء وهى تصيح: "احضروا الدكتور.. أليس فيكم طالب طب".. انبرت إحداهن: "أنا معي شهادة دورة تدريبية على الإسعافات".. "تعال".. "أين أنت؟!"

أيقن "سرى" أن بقائه فى هذا المعتقل، سوف يدوم لفترة يعلمها الله وحده، كل الشواهد تؤكد ذلك.. رائحة العرق والفول المدمس.. ورائحة الدخان، غلبت، فقال فى نفسه: "أنا أدخن لكن الكمكمة التي اختلطت بروائحهم جعلتني أوقن أكيد بالتفكير فى طريقة ما للتخفيف من أثرها: "افتحي شبابيك غرفة واحدة يا مدام"..

لم يسمع ردا.. عاد وكرر طلبه، فصاحت وهى ما زالت هناك بعيدا، كما القادة المحنكين، تقول: "الكمكمة أرحم من الغازات السامة يا من تتكلم!".

فضل "سرى" ألا يرتكن بظهره إلى الجدار البارد، تمتم: "الآم "الليمباجو" تتجدد وتتسلل ببطء" لم يتحمل الوقوف طويلا، فضل أن يعاود الجلوس.. التقط فسحة هينة هناك، ارتكن بكفيه والقي بعجزيه كي ينهض ونجح، دون استئذان ارتمي إلى جوار إحداهن..

يبدو أن نظراتها ألمقذوفه نحوه معترضة، أقنعتها أنه لم يسع للاحتكاك بها، ربما بسبب شعره الشائب اقتنعت.. فابتسمت وابتسم معتذرا أنا أيضا، ولكل سببه.. فهي قد لا تعلم أن الشيب قد يبرر لأصحابه أفعالا وأقوالا غير لائقة عن عمد، وربما لرغبة دفينة لأن يثبت لنفسه أنه على حرارة الفتوة.. ما زال!

.. سمعتها تتابع حديثا مع صديقتها، لم أسمع بدايته، فهمت أنها تتحدث عن زوجها الذي انتهى من توزيع الشاندوتشات والمياه منذ قليل: قالت صديقتها: .. "أحسدك على زوجك.. ارتبك خجلا عندما شكرته على الساندوتش، هذا النوع يكون رقيقا ودمث الخلق مع زوجته" "هذه هي مشكلته معي.. لا أراه رقيقا ولا دمثا أبدا" .. "يا مفترية.." "عندما تتزوجين ستعرفين.. السرير وغرفة النوم هي المعيار عندي" .. "يا للهوى.....!"

وانطلقت أصوات ضحكة لم تستطع الفتاة إخفاءها، حتى بعد أن رمت برأسها بين ركبتيها المنفرجتين قليلا، بين طرفي البنطال الجينز. لتتابع صديقتها: "يبدو هكذا كلما تلقى كلمات الإعجاب والثناء، ويكاد يجن إن لم يسمعها، خصوصا أنه يحرص على تقديم خدماته للناس، بحسب ما يراه وان كان ذلك بلا طلب أو ضرورة من باب الابتزاز والتملق!" .. "ولا فاهمه كلمة واحدة، لم أفهم ما تقصدين؟!"

 "حتى أنا يبتزني وأتملقه.. صدقيني لو قلت لك أننا أصبحنا أنانيين بإرادتنا فى علاقاتنا معا.. أما هو، كيف يجعلني أسعي لأن أتملقه؟ وأنا أعرف كيف أمدحه وأعد له عشاء شهيا؟ وأعرف كيف أحقق كل رغباتي وما أريد من ملابس وما أنفقه؟!"

لم أحتمل أن أسمع أكثر مما سمعت، لماذا إذن يشارك فى المظاهرات؟ سألتها بلا تردد وعلى عجل، عادت ونظرت إلى كما المرة الأولى، ولكن بقدر أقل من الاضطراب، قالت: "هذا موضوع أخر! ربما يرغب أن يظل وحده القادر على العطاء!

عادت وكأنها انتبهت فجأة: من أعطاك الحق أن تتصنت علينا؟" لم أعقب، سمعت من قبل عن مثل تلك الأفعال!

.. اقترب صوت نفير سيارة إسعاف بصوتها المميز، وسمعت المدام تأمر الشاب نفسه أن يخرج لإحضار المسعفين لحمل أحدهم انشغلت فى رعايته هناك.. بعد أن كانت لوحة لسعد زغلول فى ظهري، أصبحت فى مواجهتي، انشغلت بالبحلقة إليه، راودتني الأسئلة: "إن كانت تلك العجوز سياسية وتقدر أعلام التاريخ، لماذا لم تعلق صورة عبد الناصر؟.. يبدو أنها ممن أخذ منهم عبد الناصر، بعض أراضيهم"

انتبهت على صوت الشاب يخبرنا بحزن واضطراب: "الشرطة على باب العمارة، تمنع الدخول والخروج".

رويدا بدأت العجوز تفقد سطوتها.. زاد معدل التدخين بين الجميع، انفرج باب الغرفة المطلة على الشارع، بل وفتحت نافذته، زادت الغمغمات وباتت مناقشات بصوت جلي: "ماذا نفعل لو دخلت علينا الشرطة؟"

كانت أولى المهام المقترحة، إبعاد الفتيات عن مدخل الشقة، انبرى أحدهم وأمرهم بطريقة لا تقبل المناقشة بالبقاء داخل الغرفة المفتوحة.. ما أن قالها، انقلبت الدنيا ولم تهدأ! الشاب الوسيم ذو اللحية السوداء المهذبة، لم ير استجابة من إحداهن، وكأن فى طلبه ما يسيء إليهن، عاد وأشار إلى ثلاثة من الفتيات يجلسن متجاورات: "تفضلوا".. لم يتململن، حتى نطقت إحداهن: "أنت منهم؟".. فهم الجميع مقصدها إلا هو، فنهض آخر مبتسما وكانت البسمة الأولى التي رأيتها: "أقدم لكم "ماجد" زميلنا فى كلية الفنون الجميلة.. ليس منهم ولا هو من المتشددين!".. فانبرت الفتاة نفسها: "إذن الآن نتكلم.. بل على العكس، وجودنا على مقربة من الباب ولو حاولوا اقتحام الشقة، قد يترددون لبعض الوقت.. الأفضل كل البنات تتجمع هنا، والشباب فى المؤخرة!" "والله كلام منطقي".. علق أحدهم. "الموقف يلزم معه الحذر، ولا يحتمل افتراضات قد لا تحدث أو حتى تحدث" "آه، افتكرتك.. هذى طريقتك فى المناقشة حتى على شبكة الانترنت، وكأنك رأس الحكمة" "ليس وقته يا حنان.. أنا شخصيا مقتنع برأيه، ومع ذلك الفكرة مطروحة لجميع البنات وليس لك وحدك.. من ترغب الدخول إلى الغرفة.. تتفضل بسرعة.. انأ شايف أنها فكرة مناسبة" كانت المفاجأة أن بدأن فى التحرك نحو الغرفة تتقدمهن "حنان".

تمتم "سرى" فى نفسه دهشا: "يا خبر.. الأولاد يعرفون بعضهم البعض عن طريق النت من قبل!" طال المقام ولم تقتحم قوات الشرطة المكان، فقال الشاب الوسيم: "خبرتي تؤكد أن الشرطة تفضل عدم اقتحام الأماكن المغلقة يا جماعة.. هونوا عن أنفسكم"

*****

الفصل الثامن
-1-
فى تلك اللحظة من صباح اليوم الجديد، أقسم "سرى" أنه قادر على أن يصف ملامح وجه الملاك، كل الملائكة سواء.. ملاك الموت بملامح ملاك الوحي.

مشاهد الأمس لا يمكن تجاوزها..

جمال وأحصنة، قطع من الرخام والعصي، صراخ بآهات ولعنات ودعوات، وسيوف!

شفاه منفرجة، نظرات زائغة، وأجساد مفرفرة لا تشارك،

أصحاب العزم هم من يملكون القدرة على ضم الشفتين، علهم يخفون الآهة..

علهم لا يثيرون الشفقة..

اختفت ستائر خيمة الإسعاف،

بل هي تمددت، أزاحت الأشياء من حولها،

بدت وكأنها تسعى لطي الميدان بمن فيه.. طي الكتب،

بات الميدان خيمة للإسعاف، كل الأطراف تتعارك، ما زالت تتراشق.. بالأحجار والسيوف والرصاص وصراخ الغضب.

اكتفى "سرى" بدوره القديم الذي مارسه وعرفه، المكتوب على جبينه من غير قلم، فى شبابه وكهولته.. الجندي "حامل النقالة"،

دوره الذي تعلمه ومارسه منذ أكثر من ثلاثين سنة.. أيام كان عفيا، يقدر على الحرب!

همس إلى أذنيه:

"كتب على أن تصبح أعمالي أصغر من الهامة، وأكبر من اللا عمل.. لكنه العمل الذي أقدر على انجازه، فى زمن ما،

يسقطه جبيني، تتلقفه كفاي، أنهض به.. هذا كل ما فى الموضوع،

بالضبط هذا ما حدث لي فى الميدان..

ميدان الحرب وميدان التحرير!"

هو العمل نفسه الذي عرفه "سيزف"، أن يصعد بالصخرة الجبل.. ثم يهبط!

ما كان المسكين "سيزيف" يعرف.. لماذا؟

أما أنا، والآن فقط..

عرفت..

لماذا تنازلت عن غضبى القديم من السادات، وتنازلت عن عزلتي؟!

لعل للغضب وجه أخر..

بمضي الثواني والدقائق والساعات والأيام، تحققت نبؤه جدي فى طفولتي.. دون أن أدرى!

"غدا سوف تعرف وحدك!"

لقنني النصح وأرشدني إلى الطريق.. دون أن يدرى، أو حتى يدرى،

أن أسعي وحدي لأن أعرف،

وحملت النصيحة على جبيني.. محتقن البشرة، واهن العضدين، لاهث الأنفاس.

أقسم "سرى" للمرة الألف، ولا أحد يسمعه:

"لولا يد الله فى الميدان..

لولا رحمة الرحمن..

ما كان لأقدامنا موضع على أرض الميدان!"

قبضة رجال بلا هوية أو هي جماعة من "البلطجية"،

وربما هي مخالب الشيطان..

كانت شديدة الوطء، غبية المقصد..

العصافير تجمعها قطرة ماء، وحلم بحبة لقاح،

لكن المكتوب على بصيرتها، أن تظل هائمة حائرة حتى تجد أعشاشها.

أما البشر فتجمعهم قطرة دم، وحلم باسترداد الحق،

لكن المكتوب على جبينها، أن تظل قلقة متأهبة حتى تحقق كل أغراضها،

الشباب منهم أشد عزما.

آه.. يا أولادي.. يا صبيان وبنات

آه.. من قطرة دم نزفت.. ومن حلم باق

آه.. والف آه، عليكم يا شهداء

اللهفة من غير آه.. عليكم يا مصابي المعركة

قاد "سرى" جماعات "حملة النقالة".. لم تعد تكفى لنقل من سقط،

فقاد أجساد نفرت لجمع الأشلاء، تشاركوا معا.. بنجاح،

أدارها بنجاح،

وهو يلعن تدخين السجائر وقهر الأيام، ثم واصل المهمة، لم يتنازل، لم يتقهقر..

يصيح:

.. "يا جماعة المصابين، من يستطيع السير على قدميه، عليه أن يتبعني، ومن لم يستطع سوف نحمله" لم تعد الخيمة تكفى، ولا الرقعة الترابية حولها، ولا الإسفلت، "يا شباب.. توجهوا إلى ساحة المسجد وسطحه"

أحد المصابين يردد الشهادة وحده،

سمع شابا آخر يقول:

"هنا والآن لا أرغب فى مقاومة الموت ولا أرفضه،

اعتنوا بغيري،

أشهد أن لا اله إلا الله.. وأن محمدا رسول الله"

طوال ساعات النهار والليل فى الثاني من فبراير، وما تجدد فى الثالث منه.. دارت المعركة.. الجـِـمال والبغال والخيول.. لم تكن ليركبوها! تشبه ساحة ميدان التحرير بساحات العصور الوسطى, معارك دارت رحاها، أرادوا فض الاعتصام.. المعتصمون رفضوا.. وراهنوا على حناجرهم.. صرخوا بشدة!

مدهشة تلك الصرخة، تتحدى قطع الصخور، وكسر الرخام، وحوافر الأحصنة، وخف الجمال.. وأصبحت الصرخة درعا يرد سيوف الفرسان، "البلطجية"، وقنابل المولوتوف!

غنيمة المعتصمون الشباب.. أحد عشر شهيدا، وألفان من المصابين، والمزيد من الأحبة والخلان.. جاءوا يقبلون رؤوسهم!

هتف بعضهم: "حررتمونا من الخضوع والخنوع والخوف.. و.. والمسكنة"

 

-2-
لم يدهش "سرى" أن يرى الآن القط الأسود، صاحب الرأس الأبيض، والعيون الرمادية..

يعود أدراجه، ويتجول بين جنبات الأمكنة.. تبرق عيناه وسط الظلمة،

القط المسكين الحائر فى الميدان، يعرفه الجميع، وفى أوقات المزاح يتبعه أحدهم،

يسألون الشاب وهو يعدو:

لماذا تعدو خلفه؟!

يجيب باهتمام:

به سوف أعثر على الكنز!

عرفوا فيما بعد، أن الشاب على ثقة، أن القط يخبئ طعاما فى مكان ما هناك..

يبرر وجهة نظره الواثقة ويقول:

"فسروا لي كيف يعيش بلا طعام أو شراب، ويبقى هكذا أكثر نشاطا من كل الكائنات فى الميدان؟!"

لحقه أحدهم يسأل ولم يسمع جوابا:

"هل القط يتذوق طعم الدم؟!"

الآن يرى "سرى" القط نفسه، يعبر حالا من أمام خيمة الإسعاف، لا يشعر أبدا بالخوف.. لا يبدو عليه الفزع، ولا يخشى أقداما تهرسه، ولا أصواتا تزعجه.. بدا مقوس الظهر، عظام العمود الفقاري تصنع قوسا محدبا، بينما عمود عظام رقبته مشدود كسهم إلى أسفل، ورأسه المتكور كاد يلامس الأرض، بينما اللسان الرمادي بحراشيفه الابرية يسعى، ليته يجد ما يشربه أو يأكله!

قال:

"ظلمنا القط الوحشي.."

لم يعقب أحدهم..

قالوا أن الشاب الذي وصل فى السادسة من مساء أمس فى حاجة إلى معجزة، إن لم يفلح معه الطبيب المحنك، الذي حضر فور سماع ندائي على القناة الفضائية.. لم تفلح سيارة الإسعاف فى نقله إلى المستشفى الجامعي "قصر العيني".. رفض الطبيب أن ينقل إلى جوار منبر المسجد هناك، قال:

يخرج الميت من الحي، ويخرج الحي من الميت!

تابعته وقلت:

"لماذا لا نقل.. أن إحدى أرواح القط السبعة قد تتلبسه؟!" لم يعقب...

.. كم هي الأيام قريبة وإن بعدت..

أثناء المعارك الحربية، حملت المصاب على النقالة، بمعاونة ثلاثة جنود أشداء،

همس الطبيب العسكري إلى أذني.. أحذرك أن يسقط من فوق النقالة، وأمر مشدد إلى سائق عربة الإسعاف أن يهدئ من سرعته، كلما عبر مطبا أو حفرة، الإصابة شديدة فى الرأس.. فلما نفذت المهمة الأولى بنجاح، أخبرت الجندي السائق بالأمر، ضحك وقال:

"نحن على جبهة القتال يا دفعة، السيارة تسير عشرة كيلومترا فى الصحراء، قبل أن نصل إلى الطريق الإسفلتية، طريق السويس – القاهرة.. هل فهمت؟"

"فهمت"،

لحقني الجندي وهو ما زال على حال الابتسام:

"القط له سبع أرواح.. والبني آدم أيضا!"

تابع وحده:

"الحرب علمتني كيف أكون سائقا ماهرا؟

مع ذلك.. لا أراهن على مهارتي أبدا!

لم أعقب.. عقب هو:

سمعت المثل الشعبي: "أعطني عمرا وارمني فى البحر.."

لشهور طويلة بعد وقف إطلاق النيران، بقيت أسأل عن مصير المصاب، عرفت أنه عاد إلى وحدته!

الآن فقط، وجدت تبريرا لبقاء القط فى الميدان..

لأنه بسبع أرواح!

****

الدماء على الإسفلت فى ميدان التحرير،

متخثر، غامق اللون، نافذ الرائحة..

الدماء على رمال صحراء.. جبهة القتال أثناء معارك العبور،

رأيتها وكأن الرمال ابتلعتها، تجرعتها جرعة واحدة..

كأن شهيد الميدان يعاند الإخفاء

ويبقى دمه..

شاهدا على الشهادة،

وراية يتبعها الأحياء.

ملابس المتظاهرين، تبدو ممزقة،

تعجزك الحيلة أن تعرف سببا لكونها أصبحت هكذا ممزقة.. ولا كيف وأين ومتى مزقت؟.. هنا لا يوجد التبرير ولا مبرر لأي شيء..

هذا أفضل!

تغزو صيحات الألم كل الجدران، تعبئ أرجاء الميدان، الألم يعض كل الأجسام، إن كان فى الأرداف أو العظام أو الأحشاء.. ليس من العيب أن يبكى الرجال.

المسجى هناك..

مغطى بأوراق الجرائد،

بخرق من الأقمشة الرثة،

ببعض الأحجار التي انتشرت بين أرجاء الميدان،

بكومة قش،

بسترة عسكرية لونها كاكى فوق الرأس المثخن بكتل من الدم الأسود..

سعيت أبحث عن اسمه وعنوانه وهويته، اعترضني أحدهم..

.. لا يهم الاسم الآن، يجب أن نرفعه، ألست طبيبا؟

.. لست طبيبا.

.. رأيتك فى خيمة الإسعاف؟

.. لست طبيبا!

أطباء الخيمة يرفضون استقبال الجثث حرصا على معنويات المصابين..

أين المفر؟!

ابني الذي لم أنجبه ولم أعرفه.. مات.

ليت الألم يدوم قدر الرؤية فقط!

****

هؤلاء الصبيان والصبايا أولادي، بينما أعرف أنني لم أنجب برصا.. لم أسع لزيارة طبيبا يفحصني.. علمت أن "رسمية" ذهبت خلسة إلى أحدهم، فأمرها بإحضار زارع البذور معها فى المرة التالية.. لم تجرؤ على إخباري، ليس خوفا، فهي لا تخشاني، وتستطيع أن توظفني كيفما شاءت، بأي طريقة ترغبها..

فقط حرصت هي.. ألا أزيد من صمتي!

لمرة واحدة اختبرت أمرا، أمرها به الطبيب.. أن تجعلني أعتليها وأفرغ فيها بذوري، خلال فترة منتصف دورتها الشهرية.. أمرتني بما أمرت به.. قلت:

لكنني أعاشرك لأنني أريد وأنت تريدين، أليس كذلك؟

تدللت وألحت، فى تلك الليلة أو الساعة، كذبت ونفت أن يكون ذلك بأمر الطبيب..

أكره الأوامر يا "رسمية"؟!

نفذ الأمر فهو لصالح كلانا..

لن أفعل!

ولما ألحت حتى ألصقت قبلة على أم رأسي، يدفعها الشوق إلى لقب الأم، عله يعفيها من نظرات البعض والسنتهم..

حاولت أن أفعل..

فشلت!

فيما بعد وللمرة الأولى التي أظن فيها أن "رسمية" خيبت ظني، تصرفت بحنكة!

لم تعد تسألني أن أفعل خلال فترة الخصوبة..

بان لها أنها سوف تخسرني، لن تروى أرضها الشراقى إذن! فقدت الأمل فى تحقيق الحلم.. وليد يرضع من ثدييها.

أعترف..

مزقني الشوق لولد أو لبنت..

تمنيت أن أجد من أمارس معه، لعبة الأب..

ومتعة الأمر والنهى، بحجة الخوف عليه، أو بسبب حبي الجارف إليه؟!

بعد شقشقة شمس يوم جديد،

كان يوم مثل يومنا هذا،

يوم شتوي بارد،

نفذت نصيحة صديق، أن أبحث عن الشيخ "معتوق"، وأجلس بين ساقيه، ليضع كفه على رأسي ويقرأ تراتيله الخاصة جدا..

ويقرأ على خصيتي تعاويذ البركة والإخصاب..

وان بلغت من السن أرذله!

ذهبت وجلا، غير متردد، فقط أهاب التجربة الأولى..

كل التجارب الأولى عندي.. خابت!

أول مظاهرة شاركت فيها.. لم أتابع مسيرتها، كانت عصا الجندي مؤلمة، أعجزتني..

أول رصاصة أطلقتها من بندقيتي، خلال التدريب العسكري.. طاشت، أطلقتها فى عين شمس، خذلتني..

أول لقاء مع "رسمية" لخطبتها.. رفضتني، كنت صموتا طوال الجلسة، مللتني..

فلما عقدت العزم، وانتويت المغامرة.. ذهبت لأبحث عن مقامه حيا أو ميتا،

اقتحمت مقابر البساتين من ميدان السيدة عائشة، حيث يقيم الشيخ المبروك.. كلما نطقت باسمه، مستفسرا عن محل إقامته..

إذا بمن أسأله لا ينطق، يكتفي الإشارة بسبابته.. وأراه مبحلقا إلى بؤرة أمفوخى.. بلغت شاهد مقبرة مطلي باللون الأخضر، وأحدهم إلى جواره يعد الشاي فى كوز هو علبة سالمون أحرقته نار الموقد.

حوش مقبرة غناء..

زروع الصبار على كل شكل، الوان أزهارها أدهشتني، ما كنت أعرف أن للصبار أزهارا، تبدو فى الوانها رائعة، كروعة نضارة أوراقها وصبرها طوال العمر..

ما كنت أعرف أن للصبار رائحة..

أقسم أنني شممتها.

وجه رجل عجوز غير باسم، وغير غاضب.. يحتل مساحات تركتها زروع الصبار،

يبدو فى صمته وانهماكه فى أشيائه الصغيرة، كأنه يدير شئون الكون كله..

لم يشأ أن يسمع منى كلمة، أمرني أن أحتسى الشاي أولا..

الشاي دافئ لذيذ.. لم أذق نكهته من قبل، أخبرته باعجابى وامتناني لحسن استقباله..

لم ينطق أيضا..

أخيرا أخبرني:

"الشيخ معتوق رجع السودان.. قبل سفره أخبرني بالسر،

قال لي أن الجثة تبحث عن قبرها هناك، قبل فوات الأوان"

وجدتني أنظر إلى الشاهد أمامي، مطليا باللون الأخضر، لم أعقب.

 

-3-
الصباح الجديد،

دوما يبدأ بساعة غير مريحة..

يلزم انجاز أشيائي العادية البسيطة التي تراودني، ولا يمكن تجاوزها..

لا أنا راغبا فيها، ولا أتحمل تجاهلها..

تتسلل بثقة وهدوء، قد تواتيني عنوة..

ابتسم مرة، أكاد أبكى مرات!

الفت حياة خيمة الإسعاف.. أين المفر؟

ها هنا استقر جسدي بجهد يلائم سنين عمري،

رأيت بعيني:

كيف تهيم الروح، كل الأرواح.. للأجساد التي فقدت حرارة أنفاسها،

ولتلك الأجساد الحية المنهكة، التي رغبت عن البقاء معنا؟!

أعيش الساعات التي طالت، لم أعد أحسب للزمن قيمة.

ما زالت تؤرقني مشاكل لم تخطر لي على بال..

لم أدهش أن تكون مشاكلي فى أمور غاية فى البساطة!

قد أسخر منها أنا نفسي فيما بعد، لكنها الحقيقة..

الحقيقة نفسها التي عشتها أيام حرب العبور!

.. لحظة أن لمحت مشهد حذائي المترب،

عرفت أنني بالأمس نمت بما يشبه الإغماءة، كما كل الأماسى السابقة..

لم أنزعه لسبب بسيط جدا،

لأنه يعطني بعض الاطمئنان، به أبدو متأهبا لأمر جلل، فأصبح متأهبا للفرار!

هكذا علمتني أيام الجندية.. قالوا لنا:

"الحذاء البيادة من أسلحة الجندي..

يجب أن تكون جنديا متأهبا به، تحت شعار "كن مستعدا"

آه، كم كانت أمي جميلة فى طقوسها مع حذائي،

مع أول يوم لي بالمدرسة، انتعلت أول حذاء، وكانت بهجتها به كبيرة، أكبر من بهجتي وأشد فرحا!

من فرحتي به، لم أشأ أن أنزعه بعد عودتي من المدرسة،

لم تغضب، لأنها تعرف حيلتها التي تجيدها..

فور أن أذهب من الوسن إلى الكرى إلى النوم العميق.. تنزعه عن قدماي.

وفور أن أستيقظ متكاسلا ثقيل الرأس والحركة.. تدسه فى قدماي.

فأظن أنني نمت معلقا به!

الآن، وفور أن لمحت حذائي، وشعرت به قابضا على قدماي..

شعرت ببعض الاطمئنان..

وابتسمت لذكريات أمي..

لكن هناك حقيقة لا يمكن إغفالها..

بوعي وبعمدية.. لا تواتيني الجرأة أن أخلع حذائي قبل النوم؟

إن فعلت، فاحت رائحة الكمكمة، وما أقصاها!

فأستيقظ مكبلا،اعتدت، كما اعتاد غيري..

خلع الأحذية بعيدا عن الجميع، وان نجحت فى مصادقة القط، يؤنس وحدتي، وأنا أسعى لغسل الجورب،

تؤلمني وحدتي، وأنا حائر مع حذائي، وأخيرا فضلت أن أعفى قدمي من الجورب!

*****

.. فى كل صباح،

أكثر ما أبحث عنه وأتشوق إليه، فنجان القهوة،

أمنية عادية جدا، أن أشرب فنجانا من القهوة التركي فى الصباح،

لا شرط عندي، أن تكون كما قهوة الامفتريون، أو من صنع محتال خلف نصبة فى الشارع..

يخلط البن المطحون بطحين حبات الذرة المحترقة!

قررت، بدأت المحاولة، بدأ الجهاد من أجل جرعة من القهوة، أن أحقق رغبة وحيدة أتمناها!

تسللت..

إلى حيث مقهى "وادي النيل"، وجدته مغلقا..

إلى مقهى "ستراند" وجدته مغلقا، تم بيعه لإحدى شركات الوجبات السريعة..

لهفتي أرشدتني إلى حيث تختبئ "أم سلامة".. اكتشفته مصادفة بالقرب من مغارة على بابا، أعنى شقة العجوز الرشيقة، آخر سلالات المماليك..

تلك المرأة "أم سلامة".. أدهشتني، احتلت ركنا قصيا إلى جوار مدخل إحدى العمارات.. إن هاجت الجنود وتمرد الثوار.. تسرع وتلقى بأنبوبة البوتاجاز التي عدلتها بحيث تنبثق الشعلة من أعلاها،

وتعود فورا بالسرعة نفسها، تصيح وتهتف وسط الجميع.. عندما يهدأ الجني، تعود..

تلتصق إلى جدران العمارة، وتصنع دوائر من الشباب حولها، يحتسون شايا،

وكأنهم وقعوا عقدا غير مكتوب، أن يثرثرون فى هدوء مدهش!

وحدي، كانت تصنع له فنجان القهوة المخصوص!

إعداد فنجانا من القهوة يحتاج شعلة خاصة، ووقت أطول..

والمكان غير آمن..

"لولا معزتك يا "سرى أفندي" ما كنت فعلت!"

ولا أدرى سر تلك المعزة لي.. ربما لأنني أتحفها بضعف ما طلبته ثمنا لفنجان القهوة المخصوص!

.. تماما كما قالت الجميلة "وردة" وبجوارها "أم وردة"، منذ أكثر من ثلاثين سنة، كانت "وردة" قبلتي، ووسيلة الترفيه عنى.. عن كل جنود المعسكر!

كانت العزاء ببسمتها وسحنتها وصمتها.. عن مشاق يوم طويل فى المعسكر، وكنت عزاؤها،

لأن لساني ينطق عسلا وشهدا!

هذا ما قالته لي وهى تنظر إلى حذائي البيادة المترب.. خلال تلك الأيام لم يكن فنجان القهوة قابضا على مزاجي ورغبتي،

كنت أحتسى كوب الشاي مغموسا بوجه "وردة" المحتقن.. من لفحة الشمس،

لم أكن وحدي، نصف جنود المعسكر إلى جواري،

ومع ذلك، كنت أظن أنها كانت لي وحدي،

عندي المبرر واليقين.. كانت "وردة" تسرق حفنة من النعناع وتغمره فى كوب الشاي لي وحدي،

فتختفي الأوراق فى القاع مع ابتسامة تخصني،

لا تكتشفها بقية الجنود، إلا أمها التي تدعى الغفلة!

لم أسقط "أم سلامة" من رأسي،

سألتها:

"ما سر بقائك هاهنا وسط الهلاك والدربكة؟!"

فقالت:

.. "كنت أبيع الشاي والقهوة فى حديقة الحرية، بعد كوبرى قصر النيل،

مع بداية المظاهرات، عرفت أن من ضمن ما يهتفون به ويطلبون، توفير رغيف العيش والأكل.. قلت لنفسي:

"الجدعان الصغيرة فاهمة الدنيا، أكثر من الحكومة.. نقلت فرشتي للميدان، منه أطالب معهم، ومنه أكل عيش وأسترزق.. وقت الزوم أشارك واهتف..

ووقت يره أبيع واسترزق..

الحكاية بسيطة، أبسط من البساطة"

بينما كانت "أم وردة" لا تكل ولا تمل السؤال عن ابنها المفقود فى سيناء منذ أيام 67، لم أسألها عن سبب بقائها هاهنا فى صحراء الماظة، فى بداية الطريق إلى مدينة السويس.. هي التي اطمأنت إلى وسألتني:

"عندكم فى المعسكر، عسكري مفقود أسمة "مطيع عبدالواحد المشد"؟!

لم أجب بالنفي أو بالإيجاب،

أجابت هي:

"إن رأيته، قل له أمك فى انتظارك عند السور السلك،

طلب بسيط، أبسط من البساطة!"

*****

كنت أظن، ولا أبالغ.. أنه يمكنني أن أغتسل وآخذ حماما، من الأمور البسيطة.. أينما كنت، وقتما شئت، كيفما الحال..

حتى على أرض المعركة أثناء الحرب..

أهناك أشق وأقصى من حياة الجندي على جبهة قتال؟

بالتأكيد لا..

مع ذلك كنت آخذ حماما وأغتسل فى كل الأوقات، وتحت كل الظروف والأحوال..

فى العراء وحدي، يمكنني أن القي بكامل جركن المياه فوق رأسي..

فى حضرة رفقاء الجبهة، كانوا يعطونني ظهورهم وهم متحلقون حولي وأنا عاريا كما ولدتني أمي..

فى الصيف والشتاء أنجز المهمة..

بكمية من المياه لا تكفى جرعة مياه تشربها قطة، أو بكمية وفيرة أغوص فيها فى مياه قناة السويس بكاملها..

ها هنا بدت لي الحرب أكثر شراسة!

بدت الرغبة فى إنجاز مهمة الاغتسال، مهمة غير محتملة، وقد تبدو كمعجزة يمكن إنجازها..

لولا يقيني أن الشهيد لا يغسلونه، لكنت حزنت حزنا شديدا!

حاولت ذات مرة أن أفعلها، أن أغتسل داخل مرحاض مسجد "عمر مكرم"..

عن غير قصد طال بقائي داخل المرحاض..

لاموني بصوت غاضب..

خرجت على عجل..

كان طابور المنتظرين خارج الباب الخشبي بلا نهاية..

شعر بأنني خالفت قانونا لم أوقع عليه..

كم هي الأنانية مؤلمة!

بمضي الوقت اكتسبت خبرة الميدان..

لم تعجزني الحيلة، تكفيني هنا أية كمية مياه، داخل إحدى الخيام المنصوبة، أقف داخل صفيحة صدئة فارغة، أحضرها أحدهم فى حيلة ذكية للحفاظ على أرضية الخيمة.. نظيفة!

كل ما فى الأمر..

أن استعنت بخبرة أمي..

نعم، أتذكر جيدا..

كانت تعتني بمواضع خاصة من جسدي.. تحك تحت ابطى وبين فخذي وفروه شعر رأسي،

ففعلت..

لأخرج وأقول لهم..

لا مشاكل، كل الأشياء عادية وبسيطة، يمكن تحقيقها وإنجازها بنجاح..

حتى ها هنا فى الميدان!

*****

.. كان يمكن أن يكون هذا هو رأيي على الدوام، لولا الحلم!

يقول مفسرو الأحلام، أن الحلم أحيانا يعتبر نبؤه..

يقول علماء النفس، أن الحلم هواجس فى النفس..

يقول رجال الدين، أنهم اعترفوا بيوسف نبيا، بسبب الحلم وحده..

يقول رجال علوم المستقبل، أنهم يخاطبون الحلم، كي يصبح البشر سعداء..

أقول أنا "سرى عبدالعليم"، دارس علوم إدارة الأعمال فى كلية التجارة، متزوج ولا يعول، فصيلة دمى "أوو بلاس" أو المعطى العام لكل الفصائل.. والنادرة منها، ولا يأخذ إلا ممن ندر، لم يستخرج جوازا للسفر ولو لمرة واحدة، ولم يبيت خارج جدران بيته.. إلا ما ندر فى مأمورية للعمل..

أقول:

لا أعرف الحلم، ولا أحلم..

حقيقة ينكرها على أطباء علم النفس.. ويبررون رأيهم بأنني لا أتذكر ما أحلم به،

ليكن.. لا تشغلني الأحلام!

لولا أن استيقظت ذات صباح، وأنا متلهفا أن أسمع تفسيرا لحلم بقى معي وبقيت معه طوال ساعات نومي!

ربما النوم على الإسفلت، حفز رأسي ونفسي، كي أحلم..

وربما ما رأيته وسمعته وعشته طوال أيام بقائي ها هنا، كان السبب.

لأن المحنك فى تفسير الأحلام الذي صادقته، أشفق على وقال:

"لا تخبر أحدا بما قصصته على.." ثم تابع،

خيرا إن شاء الله

وان لم يشأ، فهذه مشيئته

اللهم، لا اعتراض!"

فلما كانت "واقعة الجمل" فى الصباح التالي، عاهدت نفسي بالتزام الصمت!

منذ تلك اللحظة، انقلبت حياتي..

آمنت بالأحلام، وأنها نبؤه لمن يصدق النية والمقصد، وتعبيرا عما نعانيه فى يقظتنا، كما أن بعض المخلصين يحملون قبسا من يوسف، بل ويجب أن ندعو الله لأن نحلم.. ثم نسعى لتحقيق ما نحلم به، مثل علماء المستقبل!

لعل الحلم وحده،

ما كان من الأمور العادية عندي فى الميدان!

*****

.. لا يمكن أن تكون رغبتك فى تدخين سيجارة.. مشكلة؟

لكنها بدت لي من أكثر المشاكل التي فى حاجة إلى جهد شاق، ها هنا فى الميدان..

ما كانت أبدا هكذا مشكلة، أثناء حرب أكتوبر.. كنت أنال علبة "كليوباترة"-كنج سايس- يتحفونا بها كل صباح.

كثيرا ما أتشوق لأن أنفرد برأسي،

أنزاح بعيدا عن خيمة الإسعاف، وعن كل الناس.. أشعل سيجارة،

كل أنواع التبغ موجودة، إلا النوع الذي أدخنه، لعلها أغرب المشاكل، التي لم أتوقعها..

ولم اعتبرها من الأمور البسيطة!

العثور على علبة كبريت أو قداحة، كانت هي المشكلة الأكثر ألما لي! فرق أفراد الأمن التي شكلها شباب الميدان هي السبب!

 منعوها لسبب وحيد، لم يعترض عليه أحد.. قد تكون سلاحا لحرق الخيام بمن فيها!

*****

من مشاكلي الحقيقية فى الميدان، تلك التي لم أتوقعها، وظننتها غير محتملة.. شحن الموبيل الذي فرغت بطاريته، أو إضافة كارت جديد لنفاد الرصيد..

نفد رصيد الكارت الذي جعلني عاجزا عن محادثة أحد، بسبب مكالمات أو مشاجرات "رسمية" معي، تلك التي طالت..

 .. أنت أعمى البصر والبصيرة، لكنك تسمع..

لماذا لم تتصل بي الليالي الماضية..

لست قلقة عليك، فقط لا أحب الانتظار؟!

"معك كل الحق، لكن صدقيني.. انشغلت!

كررتها فى مكالمة تالية، قلت:

"معك كل الحق، لكن صدقيني التليفون المحمول فرغ شحنه.. ماذا افعل؟"

.. هل أنت تعيش فى الصحراء؟ ما المشكلة فى فراغ الشحن، أعد الشحن فى المكان الذي نمت فيه؟!

"لا توجد وسيلة للشحن بسهولة، صدقيني!

سوف اجتهد فى إعادة الشحن.. كم انقضى من الوقت حتى ألان؟"

فى المرة التالية، تنازلت عن كبريائها، اتصلت هي:

.. لا أحب فيك خبثك، تفتعل أنك من الشخصيات المهمة التي لا تعبأ بشئون الحياة الاجتماعية، وما يشغلك هو الأمر الجلل،

الأمر الجلل الذي لا أعرفه، وأنا على يقين أنني سوف أموت مقهورة منك، ولا أعرف ما فى رأسك؟

"رأيك صائب، ما يغضبك الآن، أرجو ألا تغضبي؟!"

.. أخبرني فقط عن سبب غيابك، هل تزوجت بأخرى، كنت فلحت معي،

يا حسرة على من تزوج باثنتين.. طلقني إذن، طلقني حالا، بل طلقني الآن..

ارمي يمين الطلاق..

"على الطلاق ثلاثة لن أطلقك!"

هاهاهاها............

خلال مكالمة تالية، كي أطمئنها.. أنني ما زلت حيا، لم تدعني أفعل، أسرعت قائلة:

.. يا سرى، رأيت صورتك على شاشة التليفزيون،

يا خبر أسود من النيلة، هو أنت تتحمل جرجرة العساكر.. يسحلوك،

"أنا كنت عسكري، وخضت المعارك"

.. كنت، المهم الآن، كيف أصبحت؟!

لو نجحت فى خداع العالم كله بصوتك الجهوري، لن تخدعني، عد حالا الآن.

"ليتنى أستطيع، قرار صعب"

.. لماذا وأنت من يتفاخر بكونه صاحب العزم والحزم والقرارات الحاسمة على موظفيك فى المصلحة؟!

"هنا ينادوني بلقب الحاج،

تصوري يا رسمية الشباب ينظر إلى، كما كنت أنظر لمن هم أكبر منى، وفى ظني أنني لن أبلغ مبلغهم!"

.. الزمن كأس دواره، والموت مرسى جميع البحارة.

لكن صدقيني يا رسمية، لا أشعر بما يظنون،

"أتحداهم.. أنا أصبى منهم"

.. يا كاذب، أنا وحدي التي تعرف الحقيقة،

ها ها ها ها.............

عاودت الاتصال وقالت:

.. أتصل بك الآن لأمر هام،

كنت حالا في شقة الجيران،

ذهبت أطمئن منهم على الولد "باسم"، أخشى عليه مما أراه على شاشة التليفزيون، أخبروني أنهم لا يعلمون عنه شيئا؟!

"ماذا أفعل؟!"

.. ابحث عنه فى كل مكان فى الميدان،

التليفزيون يعرض صورا لا أتخيلها، الخوف يملأ قلبي..

ألست خائفا أنت أيضا؟

"خائف؟... ربما... لا أدري؟!"

.. الولد "باسم" تربى على يدي، وأنت نفسك كنت تعطيه الشيكولاته، وتستذكر له دروسه، وكنت تحادثه من نافذة الحمام..

"صحح، لكن مستحيل العثور على بشرى، الجميع هنا ركبهم الجن!"

.. ليس وقت السخرية، لو حدث مكروها للولد، أحملك المسئولية!

"موافق.. سوف أحاول"

.. بل سوف تنفذ حالا والآن!

"سوف أنفذ، حالا والآن"

ها ها ها ها..........

*****

الفصل قبل الأخير
-1-
منذ أن أعلنت سبب غضبى على السادات، بيني وبين نفسي، بينما عرفه الداني والبعيد وكل الناس عنى..

ما عادت ملاحقة نشرات الأخبار تعنيني، ولا أشترى الصحف، ولا حتى ملاحقة الأخبار المبعثرة على السنة العامة.. طوال السنوات الفائته لم أشعر بالفقد، اكتفيت برأسي،

بات الصراع من أجل درجة مالية أو ترقية وظيفية.. كل همي،

أسعدتني اللعبة، وان بقيت "رسمية" وحدها القادرة على مصارعتي عمدا، وأتقبل هزيمتي منها،

لأنها هزيمة خلف الجدران وضلوع صدري..

الآن،

لا أدرى لماذا رغبت السؤال عن الناس وأحوالهم بعيدا عن الميدان وداخله؟

ماذا يقولون أو حتى يتقولون؟

كيف يعيشون بعيدا عن الأخطار.. عن الميدان؟

هل ما زال الأطفال يلعبون فى الحارات والحدائق وفوق أسطح المنازل؟

هل وجد المرضى الأطباء وانتهوا من إجراء العمليات الجراحية والفحوص؟

هل كان ميلاد مواليد تلك الأيام عسيرا، أم كان كما انزلاق السكين فى مخروط الزبد؟

هل بقى من الشباب نفر، أسأل عنه، بعيدا عن الميدان؟

.. عندما سألت طفلا يجول بين الجميع.. هائما،

"لماذا أنت ها هنا؟" قال لي مبتسما، وكأنه سعيدا ببقائه وحده:

"كانت أمي كل صباح.. مساء، تأمرني: "لا تخرج يا ولد إلى الحارة..."

لا تنتظر رأيا منى، إن كنت موافقا وقبلت رأيها، أم غير موافق على حبسي!

لم تعد تنظر إلى، متأكدة من نجاح حيلتها..

فهي تأمرني وهى هامدة فوق عتبة باب حجرتنا الضيقة..

بالكاد الحجرة تكفينا، وأنا إلى جوارها ومعنا أبى!

أرقد على جانبي الأيمن.. يلطمني الحائط البارد..

أسعى إلى جانبي الأيسر، إلى دفء لحم أمي، لا أجده، أراه وجسد أبى معا يترجرجان، يرتعشان من عضة البرد!

اعتادت أمي أن تسد أمامي الفرجة الضيقة إلى الجنة.. إلى الحارة، حيث الصغار مثلى يكسوهم العرق والتراب والضحك!

لم أجد حيلة.. بان لي أن أمي أكثر مكرا من أفكاري.. أسألها إن كانت تريد شراء عبوة الشاي الذي يحبه أبى؟

تهزهز رأسها بالرفض فى صمت..

لا يخلو الأمر من بعض النجاح، بقفزة ماهرة اخترق فسحة ضيقة وأنجح فى عبور فرجة ضيقة يصنعها الباب..

ما كانت المسكينة أمي تستطيع اللحاق بي، لا تملك سوى بعض كلمات السباب واللعنات.. أتذكر جيدا أنها كانت تنطقها سريعة ضعيفة من شدة الإجهاد, فأضحك طويلا..

لا أضحك لأنها هكذا مجهدة وفشلت فى اللحاق بى، ولا لأنني انتصرت على حيلتها..

لأنها كانت تسبني بأبي!

كان قراري الأخير، وعن غير قصد، إلى ميدان التحرير..

سمعت الجيران يتحدثون مع أمي عنه، كل يوم..

أول مرة أرى هذا المكان،

لن أتركه!

.. هل تعلم أن الناس هنا مجتمعين لأنهم فى ثورة ضد الحكومة وضد مبارك؟

رد الطفل دون تردد:

"فاهم طبعا..

إنهم هاربون من أمهاتهم مثلى!"

*****

.. عندما كادت البنت أن يغمى عليها من شدة الانفعال وهى بين ذراعي، صرخت:

ماء يا جماعة، أحضروا زجاجة مياه..

إذن، ساعدوني أن ندخلها خيمة الإسعاف..

الفتاة لم تبلغ حالة الإغماء تماما، فقط ضاق التنفس وخارت قواها، أرى عينيها تتابعنا!

خبراتي الخاصة جدا تطمئنني،

هدأت الفتاة قليلا،

أخبريني.. هل آنت بخير الآن؟

لن أكون بخير أبدا!

لماذا يا ابنتي؟

وكيف أهدأ.. هل رأيت ماذا يحدث على الجبهة؟

الجبهة.. أية جبهة.. أعلم أن الجبهة كانت هناك على خط القناة، وأنا كنت عسكري فيها، وأنت لم تحضريها، وربما والديك؟!

بحلقت فى صمت..

أحدهم تابع ما أرادت أن تقوله:

"يا أستاذ، زميلتنا لم تتحمل ما يحدث على إطراف الميدان، جبهة المواجهة من جهة متحف الآثار؟!"

فهمت الآن!

.. عدت، تساءلت ببساطة:

"أخبروني يا رفاق،

كل هؤلاء هاهنا فى الميدان.. من حولي ومن أمامي، من كل الأعمار وكل الأطياف.. من يسكن بيوت القاهرة إذن؟!"

الجن لا يسكن إلا الخرابات!

يبدو أن صوتي كان مرتفعا..

يبدو أنني ما كنت أتمتم ولا أهمس..

وإلا لماذا اقترب أحدهم منى يقول:

"ألم تسمع عن مساكن الإيواء.. عن عشش الأحياء العشوائية.. عن القاطنين فى زرائب تربية الخنازير والقرود والفئران.."

"سمعت أكيد، أعرفها"

"صدقني.. جاء من بينهم الكثير، كثيرون جدا وجدوا فى الميدان خلاصهم، والمأوى الجديد لهم..

إلا من قلة قليلة بقيت هناك.. لرعاية دجاجاتهم تلهو وحدها فى الطرقات"

.. تابعت مهمتي الخبيثة

تسللت عمدا وبهدف أن أعرف خبرا.. لم أبذل من الجهد إلا قراري أن أعرف..

مع أول خيمة،

بان لي مع أول مجموعة من الشباب حول جهاز "لاب توب" يصرخون..

أي خبر هذا؟

قال أحدهم:

تصور يا حاج.. أخيرا تحركت القوى السياسية فى البلد..

رد عليه آخر:

لا تقلل من هذا الخبر.. انه انتصار لنا ودعم للثورة..

فيما بعد، سوف يكون وقت الحساب والتقييم..

ولأنني ما زلت لم أعرف الخبر، لم أشارك برأي،

تابع الأول:

اسمع يا سيدي..

اشترك من الأحزاب.. حزب الوفد والغد، ومن القوى السياسية الجديدة.. الجبهة والجمعية الوطنية للتغيير، والحملة المستقلة لدعم البرادعى ومطالب التغيير، كما شارك ممدوح حمزة..

اجتمعوا جميعا بمقر حزب الغد، وحددوا خمس مطالب من الحكومة والنظام..

بلهفة علقت:

إذن، هذه هي نتيجة غضبتي، ومن المؤكد أن مبرر غضبى من السادات مقنعا للجميع،

أكيد هذه الجماعات تعرف لماذا غضبت من السادات؟!

.. عمن تتحدث يا حاج؟

لا يهم، ما هي الطلبات، أخبروني بسرعة؟!

.. تبدأ الطلبات بإعلان حسنى مبارك عدم ترشحه لفترة ثانية،

جميل،

 وامتناع نجله جمال مبارك أمين عام لجنة سياسات الحزب الوطني من الترشح للرئاسة،

هائل،

مع حل البرلمان بمجلسيه والمجالس المحلية،

عظيم،

وإلغاء العمل بقانون الطوارئ،

هل يعقل هذا؟!

وقتها لن نستطيع التنفس داخل بيوتنا.. وضحك وحده!

ثم الإفراج الفوري عن كافة المعتقلين السياسيين، ومنهم من تم اعتقاله اليوم،

ضحكت..

إذن سوف نراهم بيننا فى ميدان التحرير للمشاركة فى الاعتصام!

.. عندما رمى بصره الشارد، تعلق بتلك التي لا تتكلم ولا تعلن عما تحمله لتبيعه،

قد يكون صمتها بسبب الإجهاد أو الجوع،

اقتنع أن السبب هو الخوف والجوع معا، فقط من نظرة عينيها..

البنت مجهولة الاسم، تمر بين الخيام، فوق الطرقات، فى صمت..

سألها..

"احك لي، كيف وصلتي إلى هنا؟ ولماذا؟"

بصوت مشروخ أخبرته عن زوج أمها الذي يضربها بسبب وبدون سبب،

هربت من البيت دون أن تعلم أن الرجال هي التي تضرب فى الشوارع..

عادت وبان صوتها جليا تقول..

"تعرفت على سيدة كبيرة هنا، يضربها زوجها، فهربت هي الأخرى إلى الميدان"

عندما خرجت من بيتها، اندست دون أن تقصد، بين شباب تعرفهم يسكنون حارتها، فوجدت نفسها فى الميدان،

سارت بينهم دون أن تعرف إلى أين؟

عن غير قصد انشغلوا عنها،

الغدارون تركوها وانشغلوا بالجنود أكثر..

"المهم يا عم أنهم وعدوني بالرجوع معهم آخر النهار..

 لكن، ضرب العساكر منعهم.. لم أهتم،

أنا هنا بعيده عن الهم والغم"

.. من أين لك بصندوق علب السجائر؟!

 من المعلم..

.. من؟!

المعلم، لا أعرف اسمه، كل الباعة من الصبية والصبايا.. تعرفه،

نصف السريحة من باعة السجائر والأعلام والترمس يشتغلون عنده!

.. أرى الصندوق فارغا إلا من علبتين فقط!

البركة فى العروسة!

.. أية عروسة.. هنا فى الميدان عروسة؟!

وتم عقد القران، وملأت الزغاريد كل الميدان!

الظاهر انك وصلت حالا، الفرح كان من ساعتين، وصوروا العروسة وهى فى حضن عريسها عند دبابة الجيش.

لم تشأ أن تزيد، لأنه لم يشتر أكثر من علبه سجائر واحدة، قطعت الحديث وعادت إلى انحناءة رقبتها، ذهبت..

.. تعال، سوف اشترى العلبتين، لكن أخبريني كم تقبضين فى اليوم من عملك؟

لا شيء، يعطني ساندويتشين من الفول والطعمية فى الصباح وفى المساء!

لم تترك له فرصة للمزيد..

 

-2-
لم تعد عندي مشكلة تجعلهم يمصمصون الشفاه، شفقة على ورحمة بى..

لم أشعر أنني مهددا فى حياتي، لم أعبأ بالموت،

يبدو أن الموت فكرة يمكن أن تقتلك قبل القبض..

ما حدث بالضبط، أن خبرتني الأيام، لأنني عشت طوال فترة المعارك أصارع الموت دون أن أدرى..

على أرض السويس، كنت وزملائي.. نلتهم من الطعام كل ما يقع أمامنا،

حتى كنت أول من يفتح معلبات الفاصوليا التي لا أحبها..

بدت الجنود كما الأمعاء المفتوحة..

بعد المعارك، استقبلي البعض دهشا:

ما شاء الله، وزنك زائد!

الآن.. وهنا،

الموت على الإسفلت راسخ..

.. كما الدمى المتسخة البالية، كان الرضيع فوق كتفها..

جلد وجهه الصغير يبدو مجعدا..

رأسه الدائرة تضم دائرتين سوداوين موضع العينين، ودائرتين بارزتين موضع عظمتي الخدين.

كانت أمه مشغولة بحمل تحمله على ذراعيها، جثة لصغير،

لم تكن تدرى.. كيف ترشده أن يكون بعيدا عن دخان القنابل المسيلة للدموع؟

فقال لها الشيخ الازهرى:

"نحسبه عند الله من الشهداء.. لا اله إلا الله"

.. "وعندي يا سيدنا الشيخ.. أنا أمه،

قل لي،

هل قتلته لأنني تركته يلهو فى الميدان؟!

جئت هنا كي أبيع البصل والجرجير، لجل ما أشترى رغيفين آخر النهار وطبقين كشري؟!

لم يجد الشيخ ما يقوله..

الشيخ الازهرى نفسه، أصبح خبرا بعد ساعات قليل.. بات حكاية!

منذ فترة قصيرة.. خلال الشهور القليلة الماضية،

كان "الحجر الأسعد" هدفه، تعاهد مع ملاك الموت، لن يقبضه شهيدا كما يتمنى، قبل أن يحج،

بعد أن يقبل الحجر الأسعد، لأنه من روائح الجنة..

هناك،

سوف تكون دعوته بالشهادة فى سبيل الله!

بينما كان الازدحام شديدا، يدفعه بعيدا، حتى كاد يفقد الأمل..

صوب بصره، وجه رأسه، ودفع بقدميه:

"هه، توكلت على الله".

لا يدرى كيف أصبح هكذا على مقربة من الركن المكدس بالأجساد؟!

لكنه يدرى أن سر الدعاء يدفعه دون عائق..

ترى بماذا كان يدعو الشيخ؟!

سأله الرفاق بعد عودته، حتى يلقنهم التعويذة، ويكشف لهم السر..

هل نذرت نذرا وأقسمت بأغلظ الإيمان ألا تحنث فى عهدك؟

هل وهبت من ثروتك، ما يكفى لإطعام ستين مسكينا؟

هل صدقت الدعاء فى غبشة الفجر حتى دمعت عيناك؟

هكذا سأله الرفاق، فور عودته.. اكتفى بالابتسام؟!

ولما كان "ميدان التحرير" هدفه، كان الازدحام يدفعه دفعا إلى أغواره.

صوب بصره، وجهة رأسه، ومسح بقدميه كل ركن فيه.

لا هو يدرى، ولا الثوار، كيف أصبح هكذا مرشدا للأفكار، ورفيقا للأجساد؟!

أصبح المرشد الرشيد للجميع..

لكنه يدرى، أن سر الدعاء يدفعه دون عائق إلى حيث يشاء بين أرجاء الميدان..

حتى انتشر الخبر، وكثرت الحكايات عن كيفية استشهاده؟!

.. ترى بماذا تفسر سر بكاء المصلين،

وهم يصلون على جسده المسجى هناك،

ترى بماذا كان يدعو الشهيد، حتى حقق كل ما حققه من حب لأعداد تعد بالملايين؟!

*****

قبل أن يقرر "سرى" العودة إلى بيته،

انتابه شعور جارف نحو "رسمية" ومعاركها الصغيرة،

انتصب وسط الميدان، غير عابئ بشيء..

انه ميدان التحرير.. إذن!

لأن المصريين سكنوه بدلا من سكنات الجيش الانجليزي، أيام الاحتلال..

ولأن المصريين يموتون على أرضه الآن..

بدا الميدان منحوتا بخريطة مصر، شمالها بسعة الخط الواصل من وزارة الخارجية، وجامع "عمر مكرم"، حتى مبنى الجامعة الأمريكية.. ويضيق خط الجنوب قليلا بسعة ميدان عبدالمنعم رياض.. يشقها شلال من الناس عوضا عن نهر النيل.

.. فى عهد الخديوي إسماعيل، تم عمل مشروع تخطيط للقاهرة عام 1863م، فى 1874م شيد كورنيش النيل، وكوبري قصر النيل، فظهر الميدان. وشيد قصر الأميرة " نعمة الله" كمال الدين ابنة الخديوي توفيق أبن إسماعيل باشا وزوجة ابن السلطان حسين كامل شقيق الملك فؤاد الأول والد أخر ملوك مصر الملك فاروق الأول! قامت الأميرة نعمة الله بإهداء قصرها إلى وزارة الخارجية سنة 1930م. فيه تم إبرام معاهدة 1936م، ومفاوضات الجلاء عن مصر سنة 1954م، وحرب السويس سنة 1956م.. يشهد "سرى" أنه شاف برؤية العين شباب الميدان يلتفون حول أسواره لحمايته!

.. فى عهد محمد على، سنة 1807م، كانت بداية الحملة الانجليزية على مصر "حملة فريزر".. احتلوا "الإسكندرية"، وتحركوا شرقاً لاحتلال بلدة "رشيد"، لكن حامية رشيد والأهالي فيها قاوموا أروع المقاومة. ولما رأى "عمر مكرم" ذلك، عمل شيئاً فريداً، كما قال الجبرتي:

"نبّه السيد عمر النقيب على الناس وأمرهم بحمل السلاح.. حتى مجاوري الأزهر أمرهم بترك حضور الدروس، وكذلك أمر المشايخ بترك إلقاء الدروس".

.. في عهد حسنى مبارك، صيف سنة 2006م، نقل المقر الرئيسي للجامعة الأمريكية، من ميدان التحرير، إلى "القاهرة الجديدة".. مع بقاء ملكية المقر القديم للأمريكان. يقع المبنى الجديد بين الطرق المؤدية إلى السويس والعين السخنة وشرق الطريق الدائري الجديد.. تبلغ مساحته أضعاف المبنى القديم.. قدرت أسعار الأرض بثمن لم يعلن عنه رسميا، والخبثاء من شباب الانترنت والفيس بوك، قالوا بجنية واحد للمتر الواحد!

فى يوم ثورة 25يناير، وضع الثوار فى يدي تمثال الشهيد عبدالمنعم رياض.. علم مصر. فبدا على غير هيئة الغربة التي كان عليها وحيدا فى الميدان. وعندما انتهز "البلطجية" فرصة انشغال الثوار بجمعة الإنذار الأخير، شوهوا وجه التمثال.. قبض عليهم الثوار، وأضافوا إلى جوار تاريخ استشهاده فى 9مارس 1969م، حيث فاضت روحه على خط النار، وتقدم جنازته جمال عبدالناصر.. أضاف شباب الثوار تاريخ بداية الثورة!

*****

كان يظن أن من حظه السعيد لو يبتعد عن "رسمية" كل تلك الفترة!

الآن، يشعر بشوق غامض إلى خريطة جسدها،

الجسد الذي ما كان يعتقد أنه يحبه،

مهما كان منه،

وان لم أنجب..

هو الجسد الوحيد فى هذا العالم، الذى يحق لي، أن أندغم فيه،

يتحملني، وأتحمله!

قرر قرارا،

ظن أنه استحضر فحولة أجداده..

كل ما كان وحدث.. شاهده أم تشارك فيه.. وافق عليه أم رفضه..

وراء قراره أن يرجع إلى البيت،

خبرته الكتب القديمة بسحر البصل المشوي.. والحلوى الطحينية.. وخليط غذاء ملكات النحل، مع طحين الحبة السوداء فى العسل.. ونفذ كل نصائح "عودة الشيخ إلى شبابه"..

ما كانت تجعله يشعر بما يشعر به الآن؟!

للحظة تساءل:

هل ما زالت "رسمية"، تبيض وتحيض؟!

ولو.. لن أتنازل عن قراري.

ما زال لا يعرف عدد الأيام، تلك التي قضاها هناك فى الميدان،

كل ما عرفه الآن، وواثق منه، أنه عاش بضعة أيام بالعمر كله، نجح فى أن يسلخها عن الأيام كلها.

بعيون يملؤها النعاس، اخترق باب العمارة.. غلبته الفرحة الدهشة،

سمع حارس العمارة يتشاجر مع صغيرته الجميلة "زينة".. ما زال!

تبكى الجميلة، يسمعها تقول:

"آخر مرة.. ورحمة أمي أخر مرة.. لن أصعد سطح العمارة مرة أخرى!"

كاد يسقط "سرى" إلى الأرض من فرط الضحك،

لم يشأ أن يدخل الحجرة المرمية هناك، حيث تبكى الجميلة وأبيها أيضا يبكى!

كم أنت طيب القلب يا "محروس".. غلبك الحب فبكيت!

كم أنت جميلة يا "زينة".. غلبك الحب فاعترفت!

لم يستطع تحمل سماع صوت بكاء الحب،

فضل ألا ينتظر المصعد،

تسلق درجات السلم، طواها معا كما شاب فى العشرين،

لم يخف شوقه لرسمية..

بدت رسمية وكأنها كادت تهم بالطيران، كانت لا تزال على حالة التأهب وهى تعدو نحوه، نحو باب الشقة،

تقدمت وهمت تعانقه، لم تعبأ بملابسها المتسخة، ولا برائحة الطبيخ المسبك الذي تعده، ولا بمنديل الرأس الذي يكوم شعر رأسها كومة واحدة، ولا كونها حافية بأقدام متربة..

تقدمت "رسمية" كما هي.. امرأة وحشية، تسير على قدمين..

حاولت أن تطير الزغب عن جلبابها، كانت يدها مبللة بماء الغسيل، علا وبان شبه الطين الأسود على كفيها،

عانقته بشدة بكفيها وبجلبابها المتسخة،

وبرائحتها الزفرة،

وبهيئتها الغجرية،

عانقها "سرى"،

كأنه شاب فى العشرين، فتوة وفحولة..

كأنه فى الثلاثين، رغبة وشوقا..

كأنه فى الأربعين، حنكة وخبرة..

كأنه فى الخمسين، روية واستمتاعا..

وكأنه فى عمر يومه هذا، فتوة ورغبة وحنكة وروية، خبرته الأيام بأسرار الجسد كلها،

وكأن "رسمية"، كل نساء العالم!

*****

Ab_negm@yahoo.com