يصوغ القاص المغربي الشاب حدث عابر بأسلوب يجعل القارئ يتعاطف بعمق مع مجنون ومتشرد عابر توقف عقله عند نقطة واحدة وحدث يكرره كلما صادف مارا ينصت له كحال الصديقين، لاقطا من حوار المجنون كلاما شفافا يجوع القلب ويغور عميقا في روح الإنسان الفاقد توازنه العقلي والمشغول بالفقدان.

مات حسن

مثال الزيادي

قسمات وجهه متناسقة، كان يجمع بين الوسامة و الجمال في سنه التي قاربت الثلاثين، لكن كل ما فيه كان يدل على الجنون، نظراته القلقة أحيانا، و الهائمة أحيانا أخرى.. ملابسه الرثة، متسخة ومتنافرة، لبسها كيفما اتفق، كل قطعة منها تحكي حكاية صاحبها.. فالقبعة تحكي حكاية البحار الذي ارتداها في رحلات صيده الطويلة، أما المعطف فلربما ارتداه موظف بسيط طيلة أيام وظيفته دون أن يفكر في تغييره، حتى تقطعت أغلب أزراره، و ارتخت جيوبه، السروال كان أطول منه بكثير رغم محاولاته الظاهرة في طيه مرات متعددة، لابد أن صاحبه الأصلي كان طويل القامة.. و يبقى الحذاء الرياضي شيئا غريبا عن باقي ما يلبس، لونه الأبيض تغير مع الوقت ليميل للسواد، أما أصابعه الأمامية فقد كانت تطل منه بفضول على عالمها الخارجي..

لا يظهر أن شكله الغريب كان يقلقه، أو يشكل له أي إزعاج، بالعكس كان يبدو سعيدا بابتسامته الواسعة.. أحسن نعمة في فقدان العقل هي ذلك الجنون الهادئ..هذا النوع المسالم يجعلك وديعا إلى حد مُغري، كقِط أليف.. يجعلك لا تفعل شيئا سوى الابتسام للآخرين بلطف وبلاهة، فتصبح بهذا مخلوقا سعيدا حتى آخر يوم في حياتك.. أو على الأقل حتى عودة عقلك..

 لم يتعب من ملاحقتي بنظراته و ابتسامته.. أحسست بالإحراج..لم أجرؤ على الابتسام له بنفس السهولة التي يفعلها هو..لا أضمن أن تتحول وداعته إلى شراسة بين لحظة و أخرى..

المحجوب كان أشجع مني.. فقد تجاذب معه أطراف حديث لم يتم بعد.. لم أسمع بدايته لكني خمنت أنه كان حديثا ذو شجون، قاطعه بغتة ودون مقدمات:

- مات حسن

هذه الجملة هي التي جعلتني أنتبه له، وأنتبه لحديثهما معا.. بل وشجعتني على الاقتراب أكثر..

تفاجأ المحجوب من ردة فعله، فسأل:

- من حسن؟.. أخوك؟

- نعم.. كنت أحبه كثيرا

- آآآه تذكرته، رحمه الله.. كان طيبا

- بكيت كثيرا حين مات

أجاب المحجوب بلامبالاة، رغم محاولته إظهار التأثر في كلامه:

- كلنا لها..

فجأة سأله بعتاب حاد:

- لماذا لم تحضر للتعزية؟

- لم أكن أعلم بوفاته..

من جديد .. زفر بحسرة شديدة: مات حسن..

مؤكدا بأسف لم يظهر في صوته و لا في ملامح وجهه:

- ماذا فعلت عندما مات؟

لمحت دمعة بعينيه لم تجد لها طريقا، وأجاب:

- لا شيء.. جلست قرب القمر..وبكيت كثيرا ..
- القمر؟!
- نعم، ذهبت نحو القمر، جلست بجانبه، كان دافئا، جلست قربه وبكيت.. فبكى معي أيضا..
 عندما استعصى على المحجوب الفهم، سأله من جديد:
-
هل كان أخوك مريضا؟

- نعم، كان مريضا في كليتيه، قل لي لماذا لم تحضر عندنا؟

- قلت لك أني لم أعلم بوفاته، هل ترك أبناء؟

- نعم، ثلاثة ..

- تحبهم؟

- كثيرا، إنهم أولاد حسن، و أنا أحبه.. بكيته كثيرا

- هل ترعونهم جيدا؟

- آ..؟ نعم، والدي من يقوم بذلك

- إنهم في مقام أبنائه..

 انفعل وصرخ محتجا : لا..ليسوا أبناءه، إنهم أبناء حسن..و هو قد مات، و أنت لم تحضر عندنا..

- (بضجر).. أووووووف..لقد قلت لك أني لم أعرف بوفاته حتى اللحظة منك..سأحضر عندكم لاحقا، أنا والآنسة..

- آ...؟

فاجأني أيضا كلامه.. لم أكن أعلم أنه يريد أن يغير دفة الحديث بتوجيه اهتمام هذا المجنون لي.. فقد عاد ليلتفت إلي من جديد، ليكتشفني، تفرس في مليا ودون أن يطرف له جفن، لم تفارقه ابتسامته الوديعة، رغم ما يخالجها من حزن و أسى على شيء غير محدد..

استأنف المحجوب أسئلته السخيفة دون هوادة:

- ماذا ستقدم لنا؟

- آ...؟

- حين نحضر عندكم أنا وهي، ماذا ستقدمون لنا؟

بعفوية تامة: الشاي و الخبز..

- فقط؟

- فقط..

مزية أخرى من مزايا الجنون هي الصراحة التامة، فقد أجاب ببساطة شديدة، التفت إلي فجأة وسأل:

- لماذا ترتدين معطفا؟

انتبهت لمعطفي الأحمر.. وقلت له محاولة مسايرته: ما به معطفي.. هل أعجبك؟

- لا.. المعطف يرتديه الرجال

- حقا؟.. تريد واحدا؟ لاحقا سأحضر لك معطفا

كنت أعلم أني أكذب عليه.. أنا لن ألتقيه مجددا، وأنا لن أحضر له معطفا.. في هذا المكان بالضبط .. لا مجال لأن تلتقي شخصا مرتين.. لكنه صدقني ، وضحك.. ما أجمل ضحكته !لقد احمرت وجنتاه فبدا كفتاة خجولة..

- متى ستحضرين المعطف، غدا؟ !

لعنت نفسي لأني كذبت.. لكن لم أجد مفرا أن أسايره: إن شاء الله

حاول المحجوب إنقاذي من هذه الورطة، فتدخل بشجاعة:

- لماذا أتيت إلى هنا؟ عد للبيت ربما يسألون عنك..

لكنه أجابه بتلقائية: جئت لأشتري بعض الأغراض

استمر مصطفى في أسئلته كمن يتعامل مع طفل في السادسة من عمره !

- ما هي الأغراض التي ستشتريها؟!

- سأذهب عند صاحب الدكان، لأشتري خميرة

- ..........

رأيت الفرح يخبو في عينيه فجأة، ليحل محله حزن.. بدأ يعبث بقدمه ورسم خطوطا وأشكالا على التراب.. كانت وجوها غير واضحة الملامح.. أشجارا.. طيورا دون أجنحة.. تابعت قدمه، فجأة مسح كل الخطوط مثيرا غبارا خفيفا و رفع عينيه للمحجوب من جديد قائلا:

- قل لي.. لماذا لم تحضر عندنا عندما مات حسن؟

- أووووووف قلت لك لم أكن أعرف أنه مات..

عاد لينظر لي في فضول، كأنه اكتشفني للتو:

- وأنت لماذا ترتدين معطفا للرجال؟ !

أسئلته كانت تعكسه عالمه الخاص.. عالما لن يستطيع أحد منا نحن العقلاء أن نفهمه.. لأننا فعلا نعاني قصور الإدراك.. وجهلا في تمثل الأشياء التي يراها هو بطريقته.. ربما نحن المجانين، لأننا نرفض رؤية مغايرة لما اعتدناه.. فنحكم عليها بالإقصاء دون تردد..

حين تأكد المحجوب أنه تورط في الحديث معه، نهره بشدة وطرده ككلب أجرب :

- هيا إذهب للبيت، يكفيك لقد تأخرت.. هيا لقد أزعجتنا.. إذهب.

كان جليا أنه لا يريد الذهاب، لقد أحب الحديث معنا، رغم كونه حديثا مبتورا من الجانبين، لكنه على الأقل وجد من يستمع له.. نظر إلي باستجداء، كمن يقول لي دعيني أقف معكما قليلا.. لم أستطع التدخل.. كنت مسلوبة الإرادة، وذهني يعاني تصدعا وشرودا كبيرين.. غالبا ما ينتابني في مثل هذه المواقف الإنسانية..

 قبل أن يتوسل له بنظراته، نهره المحجوب بشدة أكبر:

- قلت لك هيا، انصرف..

حين تأكد أن لا مفر من المغادرة.. نكس رأسه، وذهب يجر قدميه..التفت لي المحجوب، مبررا موقفه: - المجانين هكذا دائما.. يجب أن تكون صارما معهم..

توقف قليلا ثم أضاف: مسكين، كان فتى نجيبا.. لا يستحق الجنون !

عدت لأتتبعه بنظراتي، كان يثير خلفه وهو يجر قدميه غبارا في الهواء.. التقى شخصا قادما من الجهة المعاكسة، أشار له بيد وحياه قائلا: - هل تعلم أن حسن مات؟..رفع ذاك الشخص رأسه في أسى، دون أن يكلف نفسه عناء الإجابة.. وتابع سيره..

عندما سرحت بنظري في اتجاهه لا أدري كُنه الأحاسيس التي انتابتني.. تناهى لي صوته وهو يغني أغنية شعبية حزينة..