منذ أن نشر الشاعر المصري قصائده الأولى في مجلة (الآداب) قبل عقود لفت الأنظار بقصيدته المتميزة، ويعود الشاعر المصري المرموق الى لحظة تاريخية فارقة أسست لأفق مغاير في مصر كما فتحت أمام النص الإبداعي إمكانات جديدة، ترهف الرؤية عن بعد بصيرة الشاعر المقيم في نيويورك، ولا يجد إلا القصيدة كي يعلن صرخة أنطولوجية عميقة وحبا للانتماء لبلده التي دخلت في دوامة، لأنها بلده الوحيد وأسرته الحضن الآسر لوجعه.

الأغاني التي ليست للأصفهاني

فرانسوا باسيلي

 

1- نهر آخر 

كل ما أكتب من شعر

على ضفاف هذا "الهدسون"

يأخذني لنهرٍ غير هذا النهر

يأخذني لعصرٍ غير هذا العصر

يأخذني لمصر

 

 

2- سكن 

كنت جوالاً بلا مكان

لا بيت لي، ولا زمان

لا قرية، ولا حجر

وحينما تعبت من طول السفر

سكنت في بيت

من الشعر

 

 

3- الأغاني

كلما سمعت الشعر والأغاني

عانيت ما أعاني

بكيت فجأة، سألت الأصفهاني

يا أصفهاني

هل بكى الذين كانوا يسمعون في ذاك الزمان

مثلما بكيت الآن؟

هل من المعقول

أن تنوح الروح كالأرغول

في الليل هكذا

وتلتوي في الريح من تباريح زماني

عند سماع الشعر والأغاني ؟

سألت الأصفهاني

يا أصفهاني

ما هو الوطن ؟

قال ربما هو اللحن الذي يظل كالشجن

بعد رحيل الصوت والمعاني

وربما هو الحزن

وربما الحلم الذي يظل مقبلاً وراحلا

منطفئاً مشتعلا

ربما هو خلاصة الأماني

وأجمل الأشعار

والأغاني

 

 

4- تعال

كلما همست لي تعال

زرني ببيتي بآخر الممر

على أعلى التلال

حيث ينتظر

سريرنا الذي يجوع فوقه القمر

كلما همست لي تعال

يرتج قلبي في ابتهال

فأحمل الموال

وباقة من زهر

وبعض أبيات من الشعر

وأصعد التلال

وفي نهاية الممر

لا أرى بيتاً ولا حجر

وأنت لا هنا ولا هناك

لا أثر

 

لكنني في الليل ما أزال

أسمع صوت قلبك الهامس في ابتهال

يقول لي تعال

 

 

5- البرتقال 

حين مال البرتقال

من شجر الخيال

في القرية البعيدة القريبة

رأيت فوق وجهك الرحال

مسحة غريبة

من الجمال

قلت أنت نجمتي التي تفتح لي مدينة الموال

فأبدأ الترحال

طالباً عينيك، طالبا يديك، لا أرى سوى الظلال

ولا ألقاك لا هنا ولا على أعلى جبال 

يا وهيبة

ما كنت إلا في المحال

لي حبيبة !

…………..

 

الحياة في مصر

كل فجرٍ في نيويورك تغادرني الروح للقاهرة 

تبحث عن قوتها في مدينة ميلادها  

وتسعي لأعيادها وموالدها ومواسم أحزانها

حيث تدخل موتاً خفيفاً أليفا 

أخف من الموت في طرقات المنافي

تغادرني الروح كي تتدفأ في جسد القاهرة

وكي تتكفن في جسد القاهرة  

فالعيش في مصر نوعٌ فريدٌ من الموت 

موتٌ بقيد الحياة، حياةٌ علي شفة الموت 

موتٌ يحب الحياة، حياةٌ تخون الحياة مع الموت

وتعشق لذتها الليلية 

وعلاقتها السرية في أحضان الموت 

وتظل تراوح موقعها بين موتٍ وعشقٍ وعشقٍ وموت 

وتظل تراوغ قاتلها فتفر من الموت كي تسقط في الموت    

تلبس أيامها كل يومٍ وتخرج مفعمة بالأناشيد والعيد والموت

وفي الليل تلبس ليلاً يتلألأ بالعشق ويتهدج بالموت

وتظل تحاور عشاقها وتحلل عشق الحياة بعشق الموت 

وتظل علي حافة الموت ترنو لما بعده من حياةٍ وموت 

وتظل هنا ساعة وهنا ساعة، فللقلب وقتٌ وللرب وقت 

وللقاهرة

صلواتٌ قديمة 

ما تزال معلقة بين صوتٍ وصمت 

لآلهة العشق والخصب والضحك والموت 

تظل علي شفة العاشقين من المؤمنين من المارقين 

وفي مصر لا فرق لا فارق 

فالكل عبادٌ وعلي باب الله 

والجوع حارق 

والنيل يغدق من مائه لا يفرق 

والبحر أوسع من أن يدقق 

والله يغفر 

وفي زخم المد والجزر  

ينسحق المعشوق بحضن العاشق 

والمخلوق بحضن الخالق 

فتنفرج الأعماق وتنفجر الأشواق 

وإذا بحياةٍ كاملةٍ تتخلق في العشاق 

والمصريون هم العشاق 

يمتلئون حياةً قبل الموت وبعد الموت 

فمصر حياةٌ أجمل مما يعد الموت وأوسع مما يعد الموت 

مصر حياةٌ، مصر حياة

والكل عبادٌ وعلي باب الله 

إن لم تعرف مصر فأنت إذن لم تعرف إلا الموت 

 

قصائد من ديوان جديد للشاعر يصدر قريبا بعنوان شمس القاهرة .. ثلوج نيويورك