في هذه القصة تتناول القاصة المصرية تجربة حقيقية مؤلمة عاشتها، وعاشتها معها مجموعة من صديقاتها المثقفات، وتقترب فيها من منطقة المحرم المرضي في نوع شيق جديد من كتابة الجسد.

الطابق الخامس

نعمات البحيري

 

فى اليوم المحدد لدخول المستشفى جاءت سهام بيومى ووفاء حلمى وجعلتهما تحدثان أمى بالتليفون لتؤكدا صدق كذبتى عليها بأننى سأنشغل عنها لعدة أيام بأحد المؤتمرات وأن المؤتمر يرشحنا ككاتبات لمؤتمر آخر فى الاسكندرية. صدقت أمى ونزلت تساندنى سهام ووفاء. كان الطريق هادئا على غير العادة مما سمح لى بدرجات من الشرود أيقظنى منها صوت سهام وهى تقول لى

ـ ايه يا نعنع .. والله بكرة ح تروق وتحلى ..

ثم قالت وفاء:

ـ والله أنا قلبى حاسس خير ..

طريق محور أكتوبر من أجمل الطرق الجديدة .. أستشعر أن له جمال الريف الأوربى الذى رأيته فى النمسا وألمانيا وسويسرا لا مجرد طريق .. جبال ومنحدرات ومساحات خضراء ممتدة أو صحراوية متباعدة ومتقاربة تفجر بداخلى الرغبة الدائمة للتأمل واستنشاق كم هائل من الأوكسجين. لأول مرة أشعر بعدم الرغبة فى رؤية كورنيش النيل فأغمضت عينى وأسندت رأسى ثم انتفضت لأنظر إلى الدنيا التى سأغيب عنها أثناء العملية وربما بعدها. لكننى ودون أن أدرى رحت افتح عينىّ لأعب مشهد النيل والأشجار الوارفة وقصص الحب المترامية على ضفافه..

دخلنا المستشفى والتوجس من مشهد الرجال والنساء الذين ينتظرون جثة ميت أمام المشرحة جعلنى أنظر إلى السماء وأتابع سرب طيور هاربة من مناخ الموت والألم مع أغنية لعلى الحجار..

"ياللى سريرك من فضة النور ف كفك يتوضى كل الليالى ح تتقضى وترجع على دارك منصورين.

قالت وفاء حلمى: شفتى .. الفال بيقول ايه ..

حجزونى فى غرفة فى الطابق الرابع .. دفعت الفرق من أجل غرفة خاصة بى، بلا رفيقة ورم أخرى تلاحقنى آهاتها لتدمر ما تبقى من جهازى العصبى والنفسى. ظللت ليوم كامل ثم نوهوا لنقلى بعد إجراء الجراحة للطابق الخامس .. ابتسمت وقلت لهم:

ـ  قصة "دوبونزاتى" الكاتب الايطالى  كان اسمها "الطابق السابع" .. ابتسمت سهام وقالت:

ـ انسى الثقافة الأيام دى الله يخليكى.

ما قرأته طيلة حياتى أصبح ذاكرة محفورة فى عقلى وروحى مثل مدينة كاملة.. فيها شوارع وحوارى بأسماء وأزقة وعمارات وبيوت بأرقام  وغرف ودهاليز وممرات. صارت الثقافة مدينة بحجم الوطن أعيشها وحدى ... لكنى عشقتها فقد كنت عبر القراءة أجدنى دون أدنى شك أفك قيودى واحدة فواحدة وأعمل على حل "العُقَد" التى تسبب فيها غيرى فى شروط الممكن والمتاح.

فى يوم العملية جاءت أختى وزوجها وسهام وشوقية الكردى. أخذت سهام بيومى على جانب وقلت لها إنى دافعة إيجار شقتى فى أكتوبر لمدة شهر مقدم. مدة كافية لأن تخرج مجموعتين قصص قصيرة وروايتين من على الكمبيوتر وتقدمها للطبع بعد ما "تبص فيهم" ... قالتلي بقسوة ..

ـ انت بت خايبة..

ـ اهو إنت .. افهمى بس

ـ مش عايزة أفهم.... الطب اتقدم بشكل مذهل. انت بتتكلمى ف ايه .. وبعدين ما حدش ح يخلص قصصك ورواياتك غيرك. وانت اللى ح تتخانقى مع الناشرين عشان كتبك.

ـ تفتكرى ح أعدى منها يا سهام.

ـ خلاص يا ستى .. قوليلى أبعت لك الشيك بتاع مكافآت النشر على الجنة والا على النار.

بدت ضحكاتنا مثل جبيرة جبس وشاش وقطن، أو محلول جلوكوز معلق فى الهواء أو  وجه مريضة تتدلى منها خرطوم "الدرنقة" وتبتسم وهى تلقى حبيبها خلسة فى نهاية الطابق الخامس..

‏كنت تحت وطأة الجرح أفهم جيدا ما يحدث حولى بينما العيون ترتبك وتضطرب وهى ترسل نظرات أشم رائحتها جيدا. تنسى شوقية ووفاء وأختى أننى "تربية قطط".. صرت أشم البشر والمواقف والأحداث لأستبطن كنهها.

غرفة الجراحة قاعة كبيرة أشبه بالسلخانة لكن بشروط أخف وطأة. رأيتها حين رافقت جدتى ذات مرة وأنا صغيرة لشراء لحمة رأس وكوارع. الممرضة عصابية والأطباء فى حالة زهو ربما بالذبيحة المتمددة تحت عيونهم الباردة ببرودة لمبات النيون. لم يتركوننى أتأمل وجوههم ، فسريعا رحت فى غيبوبة تامة.

* * *

وكأنه الغيم تصعب الرؤية من خلاله. ثلاث ترولات معدنية ملقى عليها ثلاث جثث، أقصد أجسامنا ملفوفة فى ملاءات خرجت لتوها من "السلخانة" لغرفة "الإفاقة". وضوء شحيح، كأنها مقبرة وأصوات ممرضات يتحدثن عن فحولة الطبيب الفلاني، وصوت الجثة اليمنى يأتى من قاع بعيدة لا يخلو من مؤثرات صوتية.

ـ انت عاملة عملية ايه.

ـ سرطان ثدى وانت ثدى برضه.

ـ لأ  .. سرطان معدة.

وصوت الجثة الثالثة ينضح بالتعب.

ـ وطوا صوتكوا شوية .. مش عارف أموت

ثم نغيب ثلاثتنا إلى وقت آخر وعالم آخر.

الأصوات كأنها قادمة من فسحة بينها وبين طبقات الوعى أو طبقات الكفن من دنيا مغايرة. فبحثت بداخلى عن صوت آخر. ليس هناك يقين بأن موتى هذا مؤقت .. وربما يحدث بعث من نوع جديد .. ولتفادى الوقوع فى مشكلات جسيمة مع الجثث الاخرى رحت ألعب لعبتى القديمة لتبديد الوقت والملل .. أجتر من غيمات الزمن القديم مباهج صغيرة. المشهد كاملا تحتفظ به ذاكرتى وأستدعيه دائما ثم أتراجع .. آن الأوان لفك أسره. هناك ضرورة ملحة ليكون ماثلا أمامى مثل ذكرى فاضت رائحتها فى الخريف. ووجه "فيفى". "بنت عبد العزيز بتاع اللبن" الذى يتحرك فى شوارع العباسية البحرية كل صباح وهو يلحن جملته المعهودة. "لبن .. يا عزيز يا لبن" وتصلك الجملة مشكّلة ومنغمة وملحنة .. لحن طبيعى يوقظك على توقيت أشبه بالساعة البيولوجية. وأحيانا يدخل معك فى نسيج الأحلام فتحلم بأن كل الدنيا بيضاء والحياة بيضاء وكل شىء أبيض.

أغلقت "فيفى " باب الفصل وأومأت لبنات فصل تالتة تانى .. كل منهن تنزع ثياب المدرسة وتقشر جسدها فى نصفه الأعلى حتى اللحم، لأرى أمامى أثداء صغيرة ونحيلة مثل كرات .. رأيتهن يتحركن فى اتجاهى فتهتز الكرات وهى تتقدم نحوى فى مسيرة عجيبة ومدهشة.

ـ اقلعى ..

ـ أقلع ايه؟.. فى ايه..؟

ـ إقلعى .. ماحدش ح يقلعك.

ـ انتو اتجننتوا .. حا أفتح باب الفصل واجرى..

ـ اقلعى.

ـ حافتح شباك الفصل وأصرخ.

ـ اقلعى.

على الباب تقف فردوس بنت النحاسة بجسدها الضخم ترسل نظرات نارية مرتبكة. جدتها بنت جامع بفلوس البيت الذى تهدم وباعته واشترت سطوة الايمان والتقوى. تجلس أمام الجامع لتختار بعناية فائقة من يصلى من بين كثيرين تعيدهم بلا صلاة. لابد أن يكون نظيفا ويرتدى ثيابا تليق بدخول جامع النحاسة.

ـ اقلعى.

كنت أضم فتحة قميصى الابيض على صدرى وأتعلل بالزراير الكثيرة. زى مقدس. قميص أبيض بارلون بفرانشة بيضاء محلاة بالدانتيل والجيب الكحلى الترجال وقروح ركبتى النحيلتين تطل هى الأخرى تلويحا لما يمكن أن يحدث.

ـ اقلعى.

عرفت أن "السوتيان" الأسود الساتان هو الهدف. أسريت لزميلة لى أن أمى حكمت علىّ بارتدائه لأن صدرى رغم نحافة جسمى يهتز أمامى. أمرت عمتى "منصورة" بشرائه من العتبة  وقد عرفت المقاس بنظرة العين المدربة.

كنت حقا أول فتاة فى الفصل ترتدى ـ قسرا ـ "سوتيان" ولم أكن أدرى ان هذا سبق أحسد عليه وأحاصر من أجله بعيون مضطربة وأجساد نحيلة. وكان علىّ أن أوافق ليتبادله بنات الفصل جميعا فى فرح وحبور وبهجة تفتح بواكير أنوثة الجسد والروح. كانت أجسادنا جميعا سمراء عجفاء تطل من قمصاننا البيضاء مثل أعواد قطن جافة. وكأنه قدر بنات العباسية الاعدادية.

وفى زجاج نافذة الفصل المغلقة والواقفة خلفه أحلام أخت فردوس بنت النحاسة. تسده بظهرها حماية وضمانا لنصاعة الرؤية. رأت كل واحدة نفسها وهى ترتدى حمالة صدر.  ساتان أسود موشى بالدانتيللا، وأنا واقفة فى حراسة سهير بنت الصهبانة وسعاد بنت الفكهانى. نماذج فذة من عصابة بنات شارع المناخ فى العباسية، كما كنا نلقبهن.

أضم ذراعى على صدرى وأستعجلهن من آن لآخر أن يردوه لى خشية أن تدخل المشرفة أو حتى الفراشة فجأة. بدا المشهد مثل احتفالية ببداية كيمياء تتشكل فى أجساد نحيلة بأنوثة كامنة لبنات الفصل وكنت أخشى أن أرتدى بقية ثيابى وأعود إلى بيتنا بلا حمالة صدر لتنصب جدتى محكمتها القاسية.

تدخلت عوامل الصدفة بغياب عدد كبير من المدرسين والمدرسات لذهابهم فى رحلة جبرية لتأدية واجب العزاء فى والدة الناظرة. بدا ذلك  ـ  لصالح بنات الفصل . لم تكن فتحتا الحمالة تمتلىء بأثداء البنات تماما. كن نحيلات بشكل مبالغ فيه وكأنه قدر واضح  أن تكون بنات الفصل  نحيلات وبلا أثداء ،حتى "إيفيت" بنت عم صبحى جارنا القبطى.

كنت أشعر بعبء امتلاء الحمالة بثديىّ على نحول جسدى وبوادر شىء تحاصرنى من أجله عيون شباب الحى وأنا أخفيه خلف حقيبة المدرسة، وكأنه عيب خلقى..ثم طفر بداخلى سؤال عن أهمية تلك القطعتين من الجسد لتهيأ لهما حمالات .. كنت أربط شعرى بشريطة بيضاء مثل نيللى وأقصر الجيب الترجال الكحلى وأشمر القميص وأفتح زرارين لابتعاث قدر من الهواء ثم تزجرنى أمى فأغلقهما لأرتاح من "زنها".

كانت "سعاد حسنى" النموذج والمثال لبنات المدرسة والحى  فى فيلم "الست الناظرة" وماجدة فى "المراهقات" ونيللى فى "بيت الطالبات" مع اختلافات طفيفة.

كنت اسمع بأذنىّ بنات المدرسة وهن يتبادلن الحكايات السرية والسحرية.

ـ مفيهاش غير صدر.

ـ بنت الكلب .. هى الوحيدة اللى لابسة "سوتيان".

ـ احنا كمان قلعناهولها  ولبسناه واحدة واحدة.

فى نهاية اليوم ألقوا لى بـ "السوتيان" وقد بدا مثل عظمة كلب نهشها ألف كلب.. ألقوها لى مشيعة من عيونهم بنظرات الحسد والغل..ولا أدرى لماذا و سرعان ما جريت به إلى التواليت فى نهاية فناء المدرسة ثم خرجت بعد أن تفاديت قراءة الجمل الصغيرة المكتوبة على حائط وباب التواليت.

ـ امتى آخر مرة باسك الواد ع السلم .

ـ بنت النحاس ماتنباس.

ـ بنت اللبان ....واللى بان بان

ثم خرجت أنظر يمينا ويسارا خشية مؤامرات أخرى. كانت المدرسة بالنسبة لى مؤامرة كبيرة على روحى وعقلى.. كل المعارف التى يسكبها المدرسون والمدرسات  فى رأسى أعرفها من كتب مكتبة عم حسان جارنا.. باستثناء الجبر والرياضيات وهى معارف سقيمة لا أشعر بأى رغبة فى فهمها..

فى البيت حكيت لعمتى "منصورة" التى تعيش معنا.. كرهت زوجها بعد زواجه عليها وطلبت الطلاق.. تحاصرها عيون أمى أنها هى التى ستتسبب فى إفسادى ربما تقصد إنضاجى قبل الأوان. فى ذلك الوقت كان عمى حسان تاجر الكتب بالجملة وجارنا، يورد لبائعى الكتب على سور الأزبكية، ينزح من ركام الكتب التى تنزلها سيارة نقل أمام الباب ويصعد بها مع عماله الى شقته. كنت أقف مثل قطة على باب جزار تنتظر قطعة لحم يلقيها لها أحد صبيانه. أترقب لحظة يسقط فيها أحد الكتب من العمال أو أدخل لإحدى بنات عم حسان لأنتقى كتابا فى مقابل أن ترى كل واحدة صدرها فى حمالة صدرى. 

لفت "الحمالة" على بنات المدرسة وبنات العمارة وبنات العائلة والحى. حمالة صدر سوداء من الساتان الأسود،موشاه بآجور ودانتيللا رفيعة... صوت عجل التروللى الذى يسرع بى فى اتجاه الغرفة يقلب طبقات من ذكريات صغيرة ووجه شوقية الكردى باكية العينين تمسك بيدى وتقبلها وسهام بيومى تحكم الغطاء على جثتى.. ثم أشعر بأننى جد أفيق شيئا فشيئا من موت صغير.. وصوت الممرض لأختى منال يؤكد أنه فى الغد لابد من الصعود للطابق الخامس وتأخذنى غياهب اخرى لا أفيق منها إلا على صوت شوقية وسهام بيومى وأخى مجدى..يجزم أن هذه الغرفة ليست أفضل من غرفة الطابق الرابع..