تؤشر الشاعرة العراقية بهذا النص الشعري الموزع الى ثلاثة مقاطع، على رغبة متواصلة لمشروعها الذي يركز على نقد بنيات ذهنية رسختها العقليات الذكورية في مجتمعات لم تتحرر بعد من بعض الخطابات التي تجعلها تخطئ الكثير من مواعيدها مع التاريخ، من هنا تفرز هذه المقولة الى التحرر من كل أشكال الهيمنة بجميع أنواعها.

لا حاجة للشمس

ماجـدة غضـبان

(1)

مد ساقيك ولا تخف..

تخيل و لو لمرة واحدة أن المكان لك وحدك، وأن الوقت نهار حتى لو رأيت النجوم بعينيك تتألق وسط الظلام.

ودع لجشعك أن يحلم بزهرية تحتضن جزءا من الطبيعة الخلابة، جزءا صغيرا جدا، كبضعة أغصان تعتليها زهور القوس قزح.

مد يديك كما لو أنك قد تحولت الى طائر..

لتكن بحجمك الذي يوازي الحلم..

أن تحقق لك ذلك، ولو للحظات..لا تفكر بالعودة أبدا.

 

(2)

يقال أن صاحب المنجم قد رتب الأمر بما يتيح له التمتع حقا بالحياة ، لديه نافذته الواسعة الحريرية الستائر، و لديه شمسه التي تعمل بأزرار مستوردة، صباحه المنتقى من أفخم الحدائق، أوقاته المختارة بعناية من أجمل بقع العالم.

عماله صنفوا في منجمه اللامتناهي الأبعاد وفق قدراتهم العقلية و الجسدية ومواهبهم، لا أخطاء ترتكب، فهناك الحاسوب الذي يعطي تفاصيل تامة عن المهارات والقدرات..

الجنس هنا غير مهم، أنثى أو ذكر، الكل يعمل في خدمة سقف المملكة ليظل مرتفعا فوق جدران القصر وأصحابه.

هنالك علاقات يترفع عن ذكرها حتى الحاسوب تحدث بين الأجناس المختلفة، وبين النساء و الرجال، وبين أبناء العرق الواحد، أو اللون ...الخ..، في النهاية تعاد صياغة المعادلات الحسابية بأسرع ما يمكن وخلال ثوان تتزن كل الصغائر لتخلق كبائرها الراسخة أبدا، قد تخرج بعض المعادلات عن سكك سيرها المعتاد فتنطلق صافرة ألإنذار المرعبة، ليظهر جيش الرب الأعلى من حيث لا يعلم أحد كي يتخذ اجراءاته، وهنا ليست من حاجة لإحصاء حالات الإغماء والوفيات الناجمة عن سماع صوت الصفارة و قبل وصول الجيش و أثناء وجوده و عند المغادرة أيضا.

يوم ولدت أنا قيل لي أن أبي قد اقتيد نحو ثكنات جيش الرب لأنه افتعل احتجاجا غبيا، و لم يعد ابدا..

أدركت في سن مبكر ان لا جدوى من إلإحتجاج الغبي فهو محكوم عليه بالنهاية سلفا، و علمت أن الخروج من هنا مستحيل طالما لا نعلم أين نحن، لا خريطة لدينا، و لا فكرة عما هو خارج المكان الذي نولد ونموت فيه.

المستشفى القائم لأجلنا يعالج الكثير من الأمراض التي قد تضطرب لها شؤون المملكة، كما أنه يقرر أنواع الفحوصات الدورية، و يحيل حالات العصاب النفسي الى ردهات العلاج المبتكر.

بضع حركات إفتعلتها نبهت طاقم الرقابة الى خلل جسدي أو نفسي قد حدث في منظومتي ، مما دفع باللجنة الطبية الى إحالتي لقسم العلاج المبتكر، و هو ما كنت أود زيارته.

ربطت يداي و ساقاي و أنا ممدة على سرير مريح الى اجهزة كثيرة ، و جلس اكثر من إمرأة و رجل طلبوا مني النطق ببعض المفردات المتداولة.

كنت أرى وجهي على الشاشة بين التجهم و السعادة و الى جانبه تظهر ارقام لا تحصى تنتظم في بيانات.

في النهاية ذكروا لي المفردات التي أسعدتني و معها أيضا ما أغضبني و ما أبكاني.

المرحلة الثانية كانت تحت تخدير تام..

لم أعرف ما حدث بالضبط ، فأنا لم أجد جرحا أو خيوطا جراحية، غير إني شعرت ان قاموسي اللغوي قد تقلص كثيرا، و إني لم اعد أذكر الا بعض الكلمات الضرورية لمواصلة الحياة.

يومها عرفت أن العلاج المبتكر هو أفضل مكان في المنجم كله، وعرفت أيضا أن معظم من حولي قد دخلوه لمرات لا تحصى..

أنا لا أذكر لم دخلت، لكني على يقين الآن أن أهل القصور ليسوا بأسعد مني..

كلمات قليلة..

طلبات أقل..

عمل بعضلات ثور..

و نوم أشبه بالموت..

و نهار يتوهج بهجة..

ولا حاجة للشمس..

 

{3}

لم أعد أطيق رأسه المربع الشكل..ليس لأنه مربع، بل لأنه لا يتخيل وجود الأشكال الأخرى للرؤوس كالمستديرة و المثلثة و المستطيلة، وأكثر ما يستفزه أن يكون الرأس مرنا وقابلا لتغيير شكل محيطه الخارجي الظاهر كما هي الأميبا.

هل أنا أتمرد لمجرد التمرد؟..

هل أنا الوحيدة التي تظن أنه على خطأ؟

و إن زياراته بين الحين والحين هي لأرى أن رأسه مختلف جدا؟ ،

و أن ألاختلاف الذي لا يد لي فيه هو من قادني الى السجن ما أن أدركت بحواسي الأربعين أني هبطت الآن من عالم الموتى؟

كرهت مساطره و زواياه القائمة..

كرهت القوانين التي يظنها قاطعة تماما..

متى بدأ ذلك؟؟..

لا أجد صعوبة في التذكر..

إنه في شهر مارس، و الإحتفال بأول شهيق للموتى..!!.

كان علي أن أرى وجهه ساخطا..

أول وجه أراه يحملق فيّ بغيظ..

أول وجه أراه على الإطلاق..

طفرة وراثية من عصر ما ولدت فيه..

ألقتني في زاوية من سجن غير مرئي..

المؤلم أن هذا السجن المثالي لاستقبال المخلوقات المشوهة الشديدة الخطورة على ذوي الرؤوس المربعة لا تقوم له زاوية ، و لا جدار..

إنه لزج ، يتقلب عبر فضاء دون بوابة تذكر، دون نافذة تدخل منها الشمس..

لا تذكرة للعودة..هناك ربما سأجد أشباها لي من الموتى الأحياء..

ربما أجد كائنا واحدا برأس بيضوي..

كل ما حولي من مرايا مرنة تريني المخلوق الوحيد المتواجد في زنزانتي برأس بيضوي مغضوب عليه أبدا..

الحياة التي وهبتني شهيقها..

جعلتني أتذوق موتي دون قياسات هندسية منطقية ..

أو تفسير لمعنى سيادة الزوايا القائمة..

على بيضوية رأسي..!!!.

 

شاعرة من العراق