يرسم القاص المغربي عالم عجوز سبعيني يقترب من الخرف وهو يحاول ممارسة عاداته اليومية والتمسك بملامح المكان المألوف، فيضعنا بعدسته الحساسة التي تصور أصغر إحساس وتفصيل مكاني في باطن معاناة الإنسان الموشك على الغياب والعودة إلى الطفولة غير الواعية.

الجريدة

خليل الوافي

بيد مرتعشة أغلق الباب .. يبدوشاردا حد الثمالة،غارقا في همومه التي لا تنتهي؛كمن خرج لتوه من نزال غير متكافئ .. منهك القوى،يمشي متثاقلا على عتبة السبعين ،لا تظهر عليه آثار الشيخوخة..

 يتمتع بحيوية لافثة ،وأنت تحدثه .. شغوف بالحياة .. طموحه الرجالي ،وصلابته الهشة .. تضعك في حيرة من أمرك ..

تحاول تقريب ملامح هذا الرجل الذي خرج للتو من البيت قاصدا وجهة لا يعرفها ،مشتت الذهن ،مشدود إلى شيء ما ،أخذه هذا المأخذ الحالم في متاهات التذكر و النسيان؛وهو يخرج من عالمه الداخلي إلى فضاء الخارج الفسيح ..

تربكه خطواته الهائمة في ضوضاء الحياة.. متهم بشبهة إغلاق الباب  حد الإحكام ..

تراه يغادر إلى وجهة لا يعرفها؛ مذ ترك خلفه أشياؤه  الصغيرة دون التفاتة إلى تفاصيل مملة، وأخرى باعثة للضجر.

أحدث صوته جلبة الفضول البديهي عن فحوى القلقل الشاخص للعيان، شعر أنه ارتكب جرما في حق نفسه؛ أو في حق غيره..

خطواته المتسارعة على الرصيف المقابل للشارع الرئيسي، الذي يؤدي إلى وسط المدينة .. فجأة، يتذكر إيقاع النشيد الوطني.

 يتذكر الصبى والطفلة المكتنزة لرطوبة الأماكن الآسنة .. تذكر كل شيء، وهو على مرمى تقاطع شارعين ،قريب من حدود النزاع القائم بين الجيران.

كادت إحدى السيارات أن تدوسه من فرط الهذيان، غير آبه لصراخ السائق، وتذمره الصاخب، وهو يلوّح بيده ..مهددا.. ومتوعدا..

هذا التائه،يضع بين أصابعه النحيلة  سيجارته الذابلة كظله..

 تفرز خاصية التوتر المكشوف للأعداء والأصدقاء .. أوقف منبه السيارة شريط أحلامه التائهة في ذاكرة أثقلها هم النسيان المفاجىء .. و تخاذل الزمن في إنصافه..

ومنذ أن  شعر  بالوحدة  القاتلة، في حيز لم يختره عن إرادة ، ورغبة جامحة في اختيار حياته التي لا يملك منها سوى  حبره، وبعض الأوراق المبعثرة هنا وهناك ..

شيء ما  كان يسكنه، ويهمس له  في صمت:

"لا تحمل قلما أحمر في جيبك الأيسر، ولا تضع نظارات سود؛ قد تغيّر ملامح وجهك، وتدفعك إلى امتلاك شعور جديد، تتلمس من خلاله خطواتك؛ وعن فحوى الاختيار والاذعان؛ لما قد يفرض عليك طوعا أو قهرا، تجاري شخصية الممثل الخارج من مسرح الأحداث، وأصوات لا تمثل إلا نفسها في زحمة النجاة والفرار، إلى ذات أنهكها تعب الانتظار..."

يواصل حضوره الغائب في ضوضاء الأشياء، وهو على إيقاع الشرود الواعي في حضرة التيه:

"أعلنت الحرب بداية اللوائح الطويلة لقائمة القتلى في زحمة الحياة السريعة، كل شيء يفضي إلى نهايته."

هكذا، قرأها في مكان ما .. نسي أن يتذكر وجهته .. نسي لماذا خرج في هذا الوقت بالذات، ولم يكن وقتا آخر .. أسئلة تتزاحم في رحم النهار.

درجة الندم تسارعت لديه؛ وهو في هذا التيهان المفضوح، لا شيء يوحي بالأمان لحظة خروجه. وهذا الموقف الملتبس الذي وجد نفسه فيه..يواجه مصير النسيان المركب من عنصر المواجهة.

لا يريد أن يكون صورة هامشية لأحداث الصراع ؛بل فارسا  يقاتل في قلب المعركة.. وبطلا أسطوريا،يحمي جبهات القتال ، ويدفع الأذى عن نفسه في كبرياء متعال، وشموخ يسقط السيف في عتمة الجماجم القديمة،التي تحملها خفافيش  مغارة معزولة عن حدود جزر، موغلة في العذرية، وكائنات تنتمي إلى عصور بدائية..

صور كثيرة، تراءت له في لحظة خاطفة؛ كأنها الدهر.

تراه، يتفحص وجوه المارة، عسى أن يجد شخصا يشبهه، كي يتذكر من هو، أو شيئا قريب منه، يبحث عن الضوء في حلكة النسيان، والعذاب القاسي الذي يعيش فيه، بين ذات غارقة في وهم الأشياء المحيطة بها ،ونفس هائمة في مجرّاتها البعيدة،لا يرى أحدا في ظل الانكماش الخرافي الذي أوقع نفسه فيه، دون قصد؛ أم أن الأمر يدعو إلى الشك في تصرفاته المشوبة بهوس الاكتشاف.

اكتشاف حالة رجل يعيش وحده يتلذذ بوحدته القاتلة أحيانا، وأخرى تعتبر مصدر قوته وعبقريته، التي تحددها نظراته الثاقبة في حالات الصحو؛ وهو مأخوذ بحالته الشاذة القريبة من جنون مباغت، يسكن جسده بين الفينة والأخرى.

يعيش عالمه بقوة الاحساس الممزوج بالوحدة الهالكة، والظلال المتعاقبة خلف أسوار قلاعه البعيدة، ترمي نفسها للبحر، وتطلب إغاثة مؤجلة لملايين السنين.

ضاعت الرسالة وانكسرت الزجاجة، ولم تعد الرسالة إلى معنى الخطاب، ولا فحوى الانكسار.. تردد كثيرا في قول الحقيقة، وهو ينظر الى وجهه في زجاج النافذة المقابل لسكناه، لم يعد يعرف وصف الكلام المعبر على صورة الشكل، ولا مجاز خفيف على ظل امراة ترتدي أنوثتها الفاضحة.

تذكر كل شيء في لحظة واحدة، دون  أن يتحقق من مكان وجوده، ويستشعر حقيقة نفسه، بعيدا عن شكوكه المفرطة، ربما  يكون هو الشخص الذي ينظر إلى الشارع من خلال النافذة، أم هو ذاك الرجل التائه في زحمة الحياة، وقاده تفكيره المتواصل إلى دروب وأزقة تغلب عليها عتمة المجهول.

ربما لم يخرج من بيته، أو هكذا هيئ له، شعر بالندم، كيف خرج؟ وما السبب؟ لماذا هو هنا في هذا المكان الذي لا يعرفه.

تتشابه الوجوه والمنازل المتلاصقة، تحن إلى بعضها أكثر ما يحن الإنسان الى أخيه الإنسان، حاول أن يستوعب الموقف، والحرج النفسي الذي وضعه القدر، لكنه حاول جاهدا مرة أخرى؛ وهو يتحسس وجه الذاكرة، وإمساك الأمو؛ حتى لا تخرج عن السيطرة.

التفت إلى الجهة المقابلة لبيته، رفع رأسه ليرى شكل النوافذ، والحمام يقف على حافة الشرفة، يحدث ارتباكا عميقا في نفسه، لم يصدق أن الحمام يطير، ويعود إلى النافذة.

حاول أن يتذكر كل شيء، تفاصيل بيته من الداخل، لكن حركات الحمام المتكررة  على حافة النافذة، أفسدت عليه فسحة الادراك، وجمع شتات أفكاره الهاربة.

حاول وضع الصورة في مكانها المألوف، دون جدوى.

تضيع منه الأشياء الجميلة بسرعة غريبة.

اختفى الحمام على مرمى النافذة، بذل جهدا؛ كي يعرف أين هو! تذكر، فشل في استحضار ملابسات هذا المأزق المشؤوم، استعصى الأمر واستحال، وضاع في متاهات الأسئلة الحرجة، و المطبات الضاحكة، واشتد إيقاع الصورة الملتبسة.

تنزلق الكلمات المعبرة ،يتيه في صخب الناس ،وضجيج الحياة الجديدة ،تحيره الأسئلة المزدحمة،لا جواب يقفز في ظل هذه المتاهة العمياء ؟. أسئلة تتزاحم في خضم هذا الانفلات القريب إلى الهلوس ..

فجأة ... يتذكر...

إنه، يعرف كل شيء ...

أحس بشيء يأخذه إليه ... يتذكر كل شيء ...

لكن الصورة، تظل مستعصية على الامساك...

انتابه شعور بالاحباط ... لم يستسلم ..عاود المشي عساه أن يعرف أحدا، خطواته لم تسعفه فوق رصيف ضاج بالحياة، وشمس تؤثث ليوم جديد.

خطى، خطوات مشدودة؛ كمن يريد العودة إلى الوراء، وفي لحظة السير لاحظ وجود كشك في الجوار ..

الآن، بدأ يتذكر كل شيء ... إنه بائع الجرائد .. انفرجت أسارير وجهه ،وعادت إليه الحياة،تستقبله بإشاراتها الواضحة ..

والآن، "سأذهب لاقتناء جريدتي المفضلة"هكذا قال؛وهو يسترجع نبض ذاكرته التي أضحت تخونه، كلما غير المكان، وكلما  ضاع في شروده المزمن  المؤدي إلى  مرحلة خطيرة من المرض؛ مرض فقدان الذاكرة كليا أو جزئيا .

لقد تعود كل صباح قراءة الجريدة، نظر في وجه صاحب الكشك، فعرفه على الفور، أحس في داخله بثقة كبيرة، وشعور جميل عندما تعود الأشياء إلى طبيعتها، وهو يحمل الجريدة في يده ..

هكذا، تكون الأمور بسيطة إلى حد التفاهة، وتتعقد خيوط الحياة لمجرد انفلات إحدى هذه الرموز التي ترتبط الذات و بالوجود ..

 أعاد النظر في المحلات، و الأماكن المألوفة التي تعرف عنه كل شيء ..فكر في العودة للبيت خوفا من ضياع جديد.. وتلمس فكرة الانفراج الذهني ،وصفاء الروح بعد تشويش قليل ..

 أراد العودة إلى البيت كي يصدق حقيقة نفسه .. و كل شيء على ما يرام..

أراد أن يسترجع الفرحة إلى داخله .. ابتهج قليلا؛ ولو فترة قصيرة .. يسبح في عوامل الاحساس الغريب بالوحدة، في ظل صخب الشوارع الشاردة .

اقترب من البيت، وتطلع الى نوافذ شقته ..

شعر أن الوقت يمر سريعا ..يسرع في تجاه نهاية قريبة لوجود مفعم بالغموض .. وقد لاحظ إختفاء الحمام على حافة النافذة ،وغابت الشوارع الصاخبة ..

تذكركل شيء..

خرج يشتري الجريدة ..

فتح باب بيته ودخل .. مازالت النوافذ مغلقة، والسيجارة مشتعلة فوق المنضدة، وكوب شاي ،وقطعة خبز ،وشريحة جبن مستوردة، وأوراق مبعثرة على الأرض.

تأكد أن كل شيء في مكانه.

تحسس مكان وجوده، وبدت له الحياة كريمة .. أعطته فرصة أخرى للنجاة.

وابتسمت له حياة أخرى على الورق.