أربع قصص للقاصةالفلسطينية تتناول طبيعة حياة المهاجرين العرب إلى أستراليا وأحلامهم بالثراء وطبيعة الصعوبات التي تواجه حياتهم اليومية وأحلامهم في ثلاث قصص، أما القصة الأخيرة فمكتوبة بصيغة المناجاة لرمز من رموز أستراليا والصراع بين القوميين الأستراليين المتطرفين والمتطرفين من الجالية المسلمة.

الأوبرا هاوس «إسلاموفوبيا» .. وقصص أخرى

نجمه خليل حبيب


1- الحلم أجمل
لست أدري تماماً متى بدأ يغادرني شعور الاطمئنان والرضى بما قسمته لي الحياة. ربما بعد بروز ظاهرة بولين هانسون العنصرية[1]. ربما بعد كارثة سفينة طالبي اللجوء تامبا والطريقة البشعة التي تعاملت بها أستراليا مع هؤلاء المساكين[2]. لا لا إن ما ذكّى هذا الشعور أمر ضيق ومحليّ ظهر مؤخراً في منطقتي، بانكستاون، وأطلقوا عليه اسم Lebanese Gang[3].

تغيرت أستراليا  كثيرا في العقدين الأخيرين. جارتي بدأت تتضايق عندما يصخب أولادي بالحديقة الخلفية وتصرخ بأعلى صوتها : Bloody wog. صاحب الدكان في الجوار يطاطئ رأسه متحاشياً الرد على تحيتي عندما أدخل محله. وزوجتي تشكو غاضبة من عبارات التمييز والتعنيف في رحلتها من وإلى مدرسة الأولاد. 

والدي المنحاز لحزب العمال ولغولف ويتلام[4] على وجه التحديد يقول:

- لا يا غبي! تغيرت أستراليا بعد فوز حزب الأحرار. لولا هاورد ما كانت بولين هانسون ولا كانت تامبا ولا ضراب السخن. (ويزيد):

- بنوها الكبار وخربوها الوزاويز. خضر، عمال، أحرار، حط بالخرج. . . كلهم وزاويز 

- يا "دادي"، الناس ما بدها كبار. بدها وزاويز.

- لا لا حبيبي، الوزاويز بنوا ثقافة الوزاويز. خوفوا الناس من طالبي اللجوء. وخوفوا الناس من الأسيويين. حرضوا على العرب والمسلمين. قزموا أستراليا. بعد أن كانت مأوى لكل  خائف وجوعان ومظلوم ومضطهد، اصبحت شواطئها قبراً لهؤلاء المساكين[5]

***

ولدت في استراليّا لأبوين عربيين. هجين! لا أُحسُّني هكذا، فأنا في مظهري وسلوكي اليومي وأحلامي البسيطة أُسترالي بامتياز. فقد أورثني جدي لأبي بشرة بيضاء وشعراً أشقر وعينيين ملونتيين. وتربيت في المدرسة والنادي والتلفيزيون على ما تربى عليه توم وباتريك وجون. أحب الرياضة بجنون واتحمس لفريق "البولدوغز".  في المواسم أرفع علمهم فوق سيارتي وأجوب شوارع سدني مطلقاً هتافات التشجيع والتحية لهم. أحضر سباقات الخيل وأراهن عليها. أسافر من ولاية لولاية لأشاهد سباق الدراجات النارية "البايكس" وأحلم بأن أصير بطلاً في سباق السيارات فهذه الهواية تستحوذ على عقلي .. ككل استراليّ أبيض لا أرهق نفسي بالعمل، وفي عطلة نهاية الأسبوع أسهر إلى ساعة متأخرة في المقهى الليلي، أو أذهب مع شلة من الاصدقاء إلى الحانة المجاورة نشرب البيرة ونتسكع في الجوار.

لا أنكر أن في دمي بعض مشرقية: فأنا أحب أن يكون عندي سيارة فخمة أتباهى بها، وبيتا جميلاً في الضواحي الراقية شمال سدني. أحب أن أزور المطاعم الفخمة وأنام في فنادق الدرجة الأولى شابكاً يدي بيد مرأة جميلة تلبس الماركات الغالية والجواهر الثمينة. غير أن هذه المشرقية لم تكن إلا  كفقاعات صابون تظهر وتختفي دون ان تترك أثراً يذكر.   

تزوجت على عمر صغير نسبياً فمن أحببت لا تذهب إلى الفراش مع الرجل قبل الزواج. علقت المخلاة باكراً على حد قول جدي "أبو طنوس". معه حق. فرحم زوجتي خصب وجسدها شهي أتحفتني بثلاثة أبناء قبل مرور خمس سنوات على زواجنا. المصاريف تزداد. تكاليف تنشئة الأطفال في هذا البلد عالية نسبة لمدخولي. مطالب لا تنتهي: دروس في السباحة، في الموسيقى، في الدراما. في في في .. وزوجتي تتأفف.

- طول النهار ركض ركض من بيت معلمة الموسيقى إلى بركة السباحة إلى صف الموسيقى والدراما، الى طبيب الصحة، إلى طبيب الأسنان ..

- إرحميني من تذمرك. لست الوحيدة التي تخدم أولادها. كل الأمهات هكذا. 

- كل الأمهات هكذا!...لا حبيبي غلطان. غلطان كتير .. جارنا "باتريك" أخذ إجازة أبوة بعد أن ولدت زوجته طفلها الأخير. جارنا "باترك" يطبخ. يغسل. يكوي. يأخذ الأولاد إلى المدرسة وإلى دروس الرقص والموسيقى والسباحة.

تمنيت أن أكون مثل جارنا باتريك أستطيع ان آخذ إجازة بدون راتب أو أعمل بدوام جزئي، فانا أحب أن أقضي وقتاً مع اطفالي وأراقبهم وهم يكبرون. ولكن إن فعلت فمن يدفع قرض المنزل وقرض السيارة وقرض العطلة الذي استلفته السنة الماضية لآخذها في عطلة هي الوحيدة منذ زواجنا؟

زاد الطين بلة عندما فاجأتني زوجتي بحملها الرابع.

- طفل رابع!. . . حملوه عنزة ضرط. (قلت في سرّي)

طفل رابع  لا يتوقف الأمر عند زجاجة الحليب والحفاضات وما شابه. طفل رابع معناه بيت أكبر. إما الانتقال إلى بيت آخر، أو بناء غرفة في البيت الحالي. كلا الأمرين بحاجة إلى مال. يعني قرض إضافيّ!.

وشوشني رفيق السوء "أندرو":

- جارتنا "وندي" على خلاف مع زوجها. تريد أن تبيع مطعمها للأكل السريع بسعر رخيص جداً., بثمن البضاعة فقط.

-  بدون خلو!... (قلت مستغرباً)

- بدون خلو... قلت لك هي تريد أن تتخلص من كل ما يربطها بزوجها

عاينّا المحل عن بعد. لاحظت أنه لا يفتح بدوام منتظم.

- هذا لأنها مهملة. لا تحب أن تتعب نفسها. مهووسة بلعب البوكر ماشين. (قال أندرو). انت إذا اشتريته وأحسنت إدارته در عليك ذهباً.

وتحمست للمشروع

- الله يبارك بقرش التجارة (قالت زوجتي).

- الحياة بدها خفيّة زاد "أندرو". عشرة ألف دولار فقط. 

- ومن أين العشرة آلاف يا  رجل؟ الديون راكبتني ركب

- ولو!... شو يعني عشرة آلاف؟ والدك ما شاء الله أحواله جيدة؟

والدي!.. لا لا!. . . لن آخذ منه إلا الإهانة هذ المرة.  

- لا تهتم حبيبي. مبلغ بسيط استدينه من أخي (قالت زوجتي).

هاج والدي وماج.

- يا حمار!..هذا محل مكسور.

- "قول" مبروك يا ابو مايكل... دعني أجرب حظي.

- تريد أن تورطني بديونك مرة أخرى؟

- لن أورطك هذه المرة سينجح هذا المحل، وسيصبح بداية لسلسة محلات كثيرة "أقبر معها الفقر" وأصبح اسماً كبيراً تعتز به 

أخذ والدي نفساً طويلا من نارجيلته اللبنانية بامتياز. زفره في وجهي وقال: إسمع واتعظ أيها الحالم.

كان يا ما كان في قديم الزمان، كان هنالك شاب يعمل راعي غنم عند رجل غني. وكان الرجل يعطيه أجرته مقداراً من السمن كل أسبوع. اشترى الراعي جرة وعلقها في سقف الكوخ الذي يعيش فيه وصار يضع السمن فيها ثم راح يحلم ويقول: غداً عندما تمتلئ الجرة سأذهب بها الى السوق وأبيع ما فيها من سمن وأشتري بثمنه نعجة. والنعجة ستلد لي نعاجاً أخرى تدر لي الكثير من جرار السمن فأبيعها وأشتري بثمنها داراً  كبيرة وأستأجر راعياً يرعى غنمي، ثم أتزوج امرأة جميلة وفاضلة فتنجب لي ابناً. سأربيه تربية راقية وأرسله إلى أحسن المدارس ليتعلم الأدب والطاعة، وإن عصاني ضربته بهذه العصا. ورفع عصاه في الهواء فأصابت الجرة وكسرتها واندلق ما فيها فوق رأسه وذقنه وثيابه.

تمت عملية الشراء. بحماس، غسلنا (أنا وزوجتي) البلاط والسقف والارض والمقاعد والطاولات. أصبح المحل يبرق برقاً. علقنا يافظة بإدارة جديدة. وضعنا إعلاناً في الصحيفة المحلية. وزعنا مناشير بأسعار مخفضة على البيوت والمحلات المجاورة. التزمنا بساعات عمل طويلة ومنتظمة، ووظفْتُ طالبة رشيقة بدوام جزئي تقوم بخدمة الطاولات أثناء انشغال زوجتي مع الأولاد. وقعدنا ننتظر. كنت أرقب حركة الشارع وأتحفز للنهوض كلما رأيت رجلاً او امراة يسيرون باتجاه محلي. وكنت أتراجع خائباً عندما يتخطاني الزبون المحتمل ويدخل الى السوبرماركت المجاور او محل القهوة في الجهة المقابلة. بدأ اليأس والملل يتملكني ولكنني كنت اتجالد كلما مرت صورة "أبو مايكل" في رأسي. سأصبر حتى أنجح. لا استطيع ان أتحمل ملامته مرة أخرى. 

الملل يقتلني. أقعد كصياد جلود يرمي سنارته في الماء وينتظر حتى تعلق السمكة فيها. وصنارتي لا تصيد إلا القليل. يتملكني الغيظ والحسد وأنا أرى الناس يمرون من أمامي قاصدين "ماكدونالد" المجاور. أناس جهلة. لماذا يفضلون ماكدونالد علي؟ انا أرخص منه وسندويشاتي صحية وطازجة. شعب قتلته العادة ولا يميز بين الجيد والرديء.

لا أستطيع دفع الديون. والمدخول لا يسدد مصاريف المحل. ماذا أفعل أأستمر في المكابرة؟ أألجأ إلى أندرو ليجرني إلى المتاجرة بالممنوعات! وأحسّتْ أم مايكل بمأزقي. قلب الأم كما يقولون. توسطت لي عند أبي ليرهن البيت ويساعدني بقرض يخرجني من ورطتي هذه

واشتعل الحلم ..  أصابتني الخسارة بهوس الحلم. لن أعود إلى الوظيفة. لماذا يذهب ابناء أخي مايكل إلى مدرسة خاصة ويذهب أولادي الى المدرسة الحكومية؟ لماذا يقود مايكل سيارة لكسس واكتفي أنا بالسوزوكي. لماذا لزوجة مايكل سيارة خاصة بها وأنا وزوجتي نتقاسم سيارة واحدة؟ لن أكون أقل من مايكل بشيء.

سأعطي نفسي الوقت الكافي لأجد المصلحة الناجحة. سجلت لأخذ إعانة الضمان الاجتماعي، وصارت وظيفتي البحث عن مصلحة جيدة. وضعت لنفسي برنامجاً يومياً يبدأ برياضة المشي في المنتزه القريب. في هذا المنتزه رأيت أستراليا التي أحب: أستراليون من مختلف الخلفيات، هنود، باكستانيون، إيرانيون، كرواتيون، مقدونيون، صبنيون وغيرهم كثير. وفيه سمعت عددا لا يحصى من اللغات، ميزت بعضها وفاتني البعض الآخر. الان عرفت أن لا خوف على أستراليا لا من بولين هانسون ولا من غيرها.  لن يستطيع أحد أن يغيِّر هذا النسيج الجميل. هذا الوجه العالمي للهوية العابرة للأجناس والألوان الطوائف. 

معظم زملائي في رياضة المشي ودودين. يسبقونك إلى تحية الصباح حتى ولو كنت تصغرهم سناً. تغيظني قلة يتجاوزونك متجاهلين، والأنكى منهم اولئك الذين لا يردون تحيتك.  في هذا المنتزه دخلت المرأة على الحلم وزادته اشتعالاً. كانت تسبقني ببضع خطوات فرأيت نفسي احدق بتكويرة الفخذين المكتنزتين. اثارني النمش الكثيف الذي يغطى كل جسمها. سرحت بحلم شبقي جميل: أعريها أمرر لساني حول الدوائر الداكنة التي تتبعثر حول حلمتيها. تستجيب لمداعباتي ولا تتمنع عندما أفك أزرار قميصها. أرشف بشفتي اللاهبتين كل ذرة في المساحة التي كشف عنها عري القميص. أتوقف عند السرة واروح امتصها كعلقة لزجة اضناها الظمأ. كنت أهم بفك فتحة السروال وكلي فضول لأعرف إن كان هنالك من نمش عندما ناداني جاري "غاري" مهللاً فرحاً بانضمامي الى نادي المشائين. صارت نزهة المشي نزهة لخيالي النشط. سواء كانت نمشائي في المنتزه أو لم تكن. أتخيلها تتلكأ في سيرها حتى أحاذيها. حتماً هي امرأة تعسة. مع كل هذا النمش، لن تحظى بحبيب يروي ظمأ شهوتها. لا . لا. بل لها صديق تافه خامل تصبر على تفاهته وخموله كي لا تكون وحيدة. هو يقضي نهاره يشرب البيرة ويشاهد التافه من المسلسلات التلفزيونية وإذ تعود من عملها ويكون السكر قد أطفأه، ينهال عليها بالسباب والشتائم والاتهامات حتى إذا استفزه سكوتها أو الرد عليه، صفقها بأقرب صحن او حاوية بيرة فارغة تطالها يده. سأغير حياتها سأجعلها خليلة وابني لها عشاً بعيداً عن هذه الضاحية الفقيرة البائسة. شقة على البحر تطل على جسر سدني والأوبرا هاوس. سأضاجعها تحت ضوء القمر وسيزيدني انعكاس ضوئه على الدوائر النمشة شبقاً. سأجعلها تتألق بالمتعة حتى تمسي أجمل الجميلات. هزتني زوجتي بعنف لآخذ الصغير إلى المرحاض. تطلعت بوجه زوجتي النقي كمرآة مصقولة وتمنيت لو أنها تصاب بعدوى النمش الجميل.

***

وجدتها!.. مقهى في وسط البلد. على تقاطع شارعين مهمين. على يمينها بناية ضخمة فيها عدة مؤسسات ومصالح حكومية وعن شمالها مخرج لمحطة قطارات عامرة. عاينتها عن بعد. ظللت لمدة أسبوع أقف بعيداً وأحصي عدد الداخلين والخارجين. الذين يجلسون حالمين ساهمين او قلقين على الطاولات واللجوجين الذين يأخذون قهوتهم أو سندويشتهم ويغادرون مسرعين. هي مصلحة ناجحة قلت في نفسي. 

- وبحماسك وعقلك العبقري ستزيدها نجاحا قالت زوجتي. ولكن صاحبها يطلب مبلغاً كبيراً كخلو. كيف يمكنني الحصول على هكذا قرض؟ لم يكن أمامي إلا "أبو مايكل". أخذته بالحيلة هذه المرة.

- أريدك أن تأتي معي لنعاين هذا المحل يا أبو مايكل

- محل مرة أخرى ايها المقامر الخاسر

- لن أقامر هذه المرة يا "ابو مايكل". لن أعمل إلا حسب مشورتك. أريدك ان تعاين انت المحل فإن أعجبك اتكلنا على الله وإلا فيا دار ما دخلك شر.  

المحل ناجح ما شاء الله. مردوده وفير. اشتريت سيارة لكسس جديدة وسيارة مربعة الدفع لزوجتي لتتسع لها وللأولاد. السنة القادمة سأسجل الأبناء في مدرسة خاصة وسأجلب لهم اساتذة خصوصيين ليعلموهم الموسيقى والرقص والفنون في البيت. وبعدها أشتري بيتاً قي منطقة "بيرمونت" المطلة على الـ"دارلنغ هاربر" وال"أوبرا هاوس". وبعدها ساوسع تجارتي حتى اصبح مليونيراً وأحقق كل أحلامي في الترف والمرأة.

بضعة أشهر فقط وأصبت بالتعب والملل. ساعات دوام طويلة وذهن مشغول دائما بتوافه الأمور: هذا العامل تأخر. ذاك الزبون تذمر. تلك السيدة لم يعجبها مذاق القهوة.... لا وقت للاسترخاء والاسترسال بحلم جميل. افتقدت رياضة المشي الصباحية وسهرة الرفاق في الحانة. حتى قهوة الصباح صرت أتناولها وأنا أحلق ذقني.

أريد حلاً. أريد حلا. لا أستطيع أن استمر على هذا المنوال.

- شد حالك قال أبو مايكل. أنت شباب والله يبارك بهمة الشباب. إذا كنت ستكسل منذ اليوم فماذا تركت لسنوات الكهولة؟

أستعين بعامل او عاملين إضافيين

- "اللي بيحضر على عنزتو بتجبلو توم"  (قال أبو مايكل)

- .......

أشهر قليلة وتقلص الدخل. لم يعد يكفي لسد مصاريف العائلة والمحل واقساط السيارات.

-  إصرف بعض العمال (قالت زوجتي)

- لن يفرق الأمر كثيراً. المسألة الأساسية ان المدخول تقلص.

_ طبعاً سيتقلص. الكلب الذي يركض لنفسه غير الكلب الذي يركض لصاحبه (قال أبي).

- والحل؟

- عد على رأس محلك. لا تتركه للكلاب يتناهشونه 

- وأعود للعمل "كثور الساقية؟!. إنه عمل قاتل يا "ابو مايكل". لا استطيع الاستمرار به. لا أستطيع.

- عد إلى الوظيفة إذاً 

 وأتخلى عن حلمي؟ وعن سيارة اللكسس والفور ويل درايف؟ وتعود هي إلى التأفف؟ وأعود أنا لأحسد مايكل؟

بل تعود إلى نزهتك الصباحية وخيالاتك الممتعة بنمشائك. تعود إلى ترف الحلم ترسم به عالماً على مزاجك. . .

 

2- عقدة مايكل
لا أتذكر تماماً متى تملكني ذل الحلم بالمجد والثروة. لا أعي الحياة إلا وأنا أرى نفسي صاحب ثروة وجاه تتجمهر حولي المذيعات والمذيعون لالتقاط صورة أو حديث. وأراني انتفخ غروراً وإعجاباً بذلك الفتى العصامي الذي صرته وغطّى على المشاهير كـ"روبرت مرودوخ" و"بل غيتس" و"تري وب" وغيرهم. كنت أرى نفسي صاحب شركات ومصانع تنتشر في كل ولايات أستراليا والجوار: "غنيا الجديدة"، "نيوزيلاندا"، "أندونيسيا" و"ماليزيا". وقد يشط بي الحلم فأرى شركاتي تنافس أكبر الشركات الأمريكية والأوروبية أيضاً. وتراني صرت أفكر بما سأفعله بعد التخمة بكل تلك الملايين التي سأحصلها وكيف سأتهرب من الضرائب.

- تتخذ لك عشيقة جميلة، رشيقة، غضة، شبقة، مرحة، طليقة، لا تقيدها قيود. تلبسها أغلى المجوهرات. تطير بها من بلد إلى بلد، تقيم معها في أفخم الفنادق في باريس ولندن ونيويورك وفيينا. تتمرغ فوق جسدها الغض في أجمل الشواطئ: الريفيرا، الباهاما، اليونان، المكسيك. مرة هي شقراء نحيلة وأخرى سمراء مكتنزة الردفين أو شديدة السمرة بشفتين ناضجتين تنضحان شهوة ودعوة .. وإذ تتخمك المرأة؟ 

- تتبرع للجمعيات الخيرية، ترسل إعانات للجائعين في أفريقيا، تبني مستشفى في غزة، تؤسس مدارس وحضانات في عين الحلوة، تتبرع لبناء جامع طرابلس وكنيسة في الإسكندرية .. وتتصدر صورك الصفحات الأولى من أكبر الجرائد والمجلات الأسترالية والعربية وتحتها بالخط العريض: "المحسن الكبير سامي حلوم".

- تؤسس حزباً سياسياً. بمالك وجاذبيتك تستميل الناخبين وتتفوق على أكبر حزبين في البلد العمال والأحرار.

هل كانت هذه عقدة عظمة موروثة؟ ربما!...إذ قد يكون اسم جدي الأكبر طنوس حلوم هو تحوير للفظة حالم. هل إنّ السبب هو توبيخ والدي المستمر لأني لم أكن على قدر طموحه في تحصيلي المدرسيّ؟ هل كانت غيرة من أخي الأكبر بِكْر والديّ وفخرهما؟!

- مايكل حصل 97% في شهادة الثانوية العامة ال HSC، مايكل أخذ منحة من الجامعة، مايكل يدير أكبر ماكدونالد في سدني، مايكل- الله يرضى عليه- يدفع قرض البيت والسيارة. مايكل يقدر تضحياتي مايكل .. مايكل .. مايكل .. على لسان والدي في كل مجالسه. وكانت والدتي تهرع إليه كلما عاد من عمله. تدور حوله ككلب يطلب ود صاحبه ورضاه ثم ترشقه بالعروض:

- أحضر لك الغدا أو تأخذ حمام اولاً؟ أين تريد أن تأخذ طعامك على البلكونة؟ على طاولة الصفرة؟ قُدّام التلفزيون؟ طابخة كذا وكذا. هل يعجبك؟ أحضرلك شي ثاني؟ وقد تصرخ بأعلى صوتها "يا رنده إعملي قهوة ل"أخوك" بسرعة".

         في الثانوية العامة ال HSC لم أحصل على معدل يخولني دخول الجامعة. أنا لم يزعجني الأمر، فالجامعة ستؤخر بدء مشروعي الحلم. ولكنه أغضب والدي فكال عليَّ كل السباب واللعنات الموجودة في القاموسين العربي والأسترالي.

        دبّر لي أخي مايكل وظيفة في إحدى محلات ماكدونلد. لم أرفضها. هي حبة في حقل الذرة قلت في نفسي. أجمع ما يكفي دفعة أولى لشراء محل وبعدها يصبح المحل محلات، وهكذا إلى أن أُصبِح صاحب سلسلة واسعة من سلاسل ماكدونلاد. كنت أرى نفسي مفتاحاً من أهم مفاتيح هذه الشركة العملاقة. أُدعى إلى اجتماعات الفرع الرئيسي في نيويورك وأدلي باقتراحاتي وملاحظاتي حول تحسين العمل وزيادة أرباحه، والمدراء من كل الفروع يصفقون استحسانا وإعجاباً بعبقرية هذا الشاب الأسترالي ذي اللكنة الإنكليزية المضحكة. سأصر على لكنتي الأسترالية. لن أقلد الأمريكان، فالمتفوقون يقلَدون ولا  يقلِدون.

        يبدو أنني عشت حلمي أكثر من اللازم. كنت لا اتواضع أمام رؤسائي ولا أتلطف مع أقراني وزملائي. تحملوني في بادئ الأمر اكراماً لأخي. وغرني هذا التساهل فرأيت نفسي أكبر من هذه الوظيفة ومن هذا المحل. رأيت نفسي ديكاً فصيحاً في زريبة دجاجات غبيات يحلمن بحقل ذرة.

- يا ولد (قال أبو مايكل) اشتغل بالمقصقص حتى تلاقي الطيار

- الخنافس فقط يرضون بالمقصقص. الصقور يحلقون خلف الطيار.

تحفّز أخي مايكل للكلام فقاطعته بعصبية:

- قل إنك تغار مني. قل إنك تخاف أن يسبق نجاحي نجاحك فأحصد عنك المديح والإعجاب وأكلات أم مايكل المفضلة.

رمقني بنظرة فيها إشفاق واحتقار واستدار تاركاً المكان.

        لم أقدم للوظيفة ولكني تركت العمل. أسبوع يمضي وآخر يأتي وأنا سجين غرفتي أقرأ صحف سدني على أنواعها: "سدني مورننغ هيرلد"، "ترايدنيغ بوست"، "فايننشال رفيو" وغيرها. قرأت كل إعلاناتها المبوبة مرة واثنتين وثلاث ولكنني لم أحظ بما يرضي غروري. قصدت الانترنت، وبعد بحث مطوّل، عثرت على ضالتي: "مطلوب شريك لمحل لبيع الدراجات النارية Bikes بهدف توسيع التجارة وإنشاء فروع في جميع أنحاء استراليا. الرجاء الإتصال على ....

        أنا مولع بالبايكس وأعرف عنها الكثير: أنواعها، أسعارها، سباقاتها، مكانيكها والزبائن المحتملين لشرائها. طرت فرحاً بهذا الإعلان ورحت أتقافز وأفرقع أصابعي ودندن طرباً "إجت والله جابها، وما يجيبها إلا صحابها."

اتصلت بصاحب الإعلان. كان رجلاً شرق أوسطي (Mediterranean كما يقولون في هذه البلاد). في عينيه شرود الشعراء الحالمين. هو أيضاً مولود في أستراليا ومن أصول أرمنية. هو أيضاً له والد صارم  ويريد ان يصبح اسماً  كبيراً ليفقأ عين والده الذي يتباهى عليه بنجاحه وعصاميته. وَعَظَ وما زال حتى ملّهُ الوعظ: قصة حكاها ويحكيها على مدى عمره في أستراليا

-  جئت الى هذا البلد في منتصف الستينات وأنا لا أعرف من الانكليزية إلا كلمة Good morning, thank you

عملت  بأحقر المهن وأخطرها: حمّال في مناجم الحديد والفحم في قلب الصحراء القاسية. عامل تنظيفات في مراحيض محطات القطارات. صبي ميكانيك عند أشد الميكانيكيين قسوة وفظاظة وصبي دكان في محلات بيع السندويشات كان آخرها في ماركفيل Marckville حيث نسبة القادمين من لبنان وتركيا وسوريا  كبيرة. كنت عندما أوصل الطلبات الى الزبائن أدردش معهم. كانوا يتأففون من قلة التنوع ويتحسرون على سندويشات بلادهم بنكهاتها الطيبة اللذيذة كالفلافل والسجق والبسطرما. ذات يوم قدحت في ذهني فكرة: جرّب حظك يا انترانيك. إعمل على هذا الخط. من يعلم!...ربما قبرت الفقر. وهداني حدسي إلى البسطرما التي كانت والدتي بارعة في صنعها واورثتني هذه البراعة.

عرضت فكرتي على صاحب المطعم. تخوف في بادئ الأمر

- سلعة جديدة وغريبة على الذوق الأسترالي الذي ينفر من الأطعمة الحادة الرائحة والمذاق. أنا لا أحب المغامرات وأكره الفشل. كان رجلاً طيباً يحبني ويثق بي كثيراً فقال بحذر:

- نضعها على لائحة الطعام ونقدمها فقط عند الطلب إذا كان هذا يناسبك.  

- قلت  بل نقدمها مجاناً على سبيل التذوق ولمدة محدودة. وأتكفل أنا بمصاريفها. ضرب الطاولة براحة يده وقال: عظيم هيا بنا great! Let’s go  

حالفني الحظ واستحسن الزبائن سندويشات البسطرما.

في غرفة جانبية صرت أعد البسطرما وأبيعها للمحلات المجاورة. تضايق الجيران من الرائحة واشتكوني الى الشرطة، غُرِّمتُ بخمسين دولاراً قضت على كل مدخراتي. ساعدني أبناء الحلال ممن يجيدون الإنكليزية في استخراج رخصة من البلدية لإنشاء مصنع للبسطرما. وفي أقل من خمس سنوات طارت للمصنع شهرة في كل سدني وضواحيها. وانا الآن أموِّل كل أستراليا بالبسطرما. عندي فروع بكل الولايات. مرت عليّ ظروف صعبة. أكثر من مرة باغتني اللصوص وسرقوا العدة المعدات. أكثر من مرة رفض البنك أعطائي قرضاً لأوسع تجارتي. نافستني محلات البيتزا ومحلات اللحوم الباردة. كنت أعمل 18 ساعة في اليوم سبعة أيام في الأسبوع لأوفر أجرة عامل. يا خسارة لا أحد من الأبناء مثلي. جيل يحب الحياة السهلة واللقمة الجاهزة.    

طلب مني نيك 150 الف دولار مقابل شراكتي له في المحل. رحت إلى والدي وقلت بلهجة تقريرية حاسمة:

- أريد ان تضمن لي قرضاً. ستتكفل انت بالقرض على الورق فقط.

- لست مقتنعاً بهذا العمل. انت لا زلت صغيراً على تحمل هكذا مسؤولية. وهذا البيت الذي نملكه هو "الحيلة والفتيلة". لا أستطيع أن أخاطر وأضعه مقابل القرض

-   come on dad be fair لو ان مايكل طلب منك هذا الطلب لكنت نفذته بدون ولا أي كلمة

- صح !. كنت نفذت بدون أي كلمة ولكن ليس لأني أحب مايكل أكثر منك، بل لأنك إنسان مغامر ومتهور وحجرك طايش[6]

- "يا رجال أعطيه" فرصة (قالت الوالدة)

- هاليلويا...رائعة يا أم مايكل!. وهاي بوسة على هالكلام الحلو. "مامي"، كنت أظن انك لا تحبين إلا مايكل.

- هذا لأنك ضاج وصاخب ولا تسمع لغة الصمت التي هي لغة الحب الكبير.  

وأعطاني الفرصة. بحماس ما بعده حماس جددنا المحل، واجهة جذابة، بضاعة جديدة ومتنوعة. اشترينا عدداً من الدراجات النارية. أصبح المحل يملأ العين ويضاهي أحسن المحلات في سدني: ماركات شهيرة وموديلات متنوعة وأسعار مهاودة وفيه خدمة صيانة أيضاً.

        شهر يمر وآخر يأتي والسوق راكد. الفواتير تتراكم: إيجار المحل، الكهرياء، الماء، البلدية، التأمين. . . الدخل لا يغطي التكاليف.

تحملني يا "ابو مايكل". إدفع القرض هذا الشهر، ثم الشهر الذي يليه والذي يليه... إلى أن طفح الكيل ب"أبو مايكل" وقال: هذا محل خسران. إبحثا عن حل له

- معك حق عمّو. حظنا سيء. (قال شريكي)

- القصة ليست قصة حظ. انتم متهورون، مغرورون تريدون أن ـتصيروا أغنياء بسرعة، وهذا شيء لا يجوز. البلاد تغيرت. الشركات الكبيرة كالحيتان أكلت السوق ولم تترك للحيتان الصغيرة إلا الفتات.   

- خدعتني يا نيك. أوهمتني عكس ذلك. ورطتـني في تجارة كنت تعرف سلفاً أنها كاسدة

- خدعك جشعك وغرورك يا سام.

- لا فائدة من هذه الاتهامات (قال والدي) ونيك لم يضربك على يدك لترضى بشراكته. انت مغفل وهذه ضريبة غباءك. بيعوا المحل

- ومن يشتري محل خسران؟

- جرِّبوا حظكم

        جربنا حظنا. أعلنا عن المحل في كل الصحف المحلية وفي ترادينغ بوست وفي ملصقات على أعمدة الكهرباء. خفّضنا السعر أكثر من مرة، وكُنّا اذا قدر لنا زبون ما، فهو آت ليتفرج أو يشمت. قد يقلب شفته أو يلوي رقبته ويخرج تاركاً وراءه غضبة ومرارة في حلقي وحلق شريكي.

        بعد مضي سنتين اقفلنا المحل واضطر والدي الى رهن البيت لتسديد الدين.

أصابني اكتئاب شديد. كنت أقضي طيلة النهار نائماً وفي الليل اتسكع في البارات وشوارع المدينة

- إنهض بلا دلع. "روح" فتش عن عمل. حصل مصروفك على الأقل.

- مصروفي!... (أقول لنفسي) هاي آخرتها يا سام!. يكفيك من الدنيا تحصيل مصروفك!

قلت والمرارة تعتصرني

- مصروفك!. هذا رأيك بي يا "أبو مايكل؟! .. أنت لا تعرف قيمة ابنك يا "أبو مايكل". ابنك أسد وصيده سيكون صيد أسود لا صيد ثعالب.

- أنت أسد أنت!. . . والله ما أنت إلا كلب يعوّي على القمر.

أكره هذا الرجل الذي لا يجيد إلا الملامة والسباب والصوت العالي. في الصباح كنت أرى خمسين دولاراً على المنضدة بجانب سريري.

قلبه طيب هذا الختيار. أركض نحوه أطوق كتفيه من الخلف وفيما هو يتفلت مني أقبله فوق صلعته.

- روح بلا "بربكة"[7]

- لأ بدي أتبربك. وحياتك يا أبو مايكل عن قريب ستفتخر بي أشد الفخر. سوف ترى الناس يشاورون عليك ويقولون: هذا والد سام حلوم صاحب سلسلة شركات حلوم لشراء وبيع السيارات في أستراليا ودول الباسيفيك.

انتفض كمن لدغته أفعى. تفلتَ من بين يدي وتراجع الى الخلف. تناول أقرب منفضة سكائر ورماني بها. التقطتها قبل أن تصل إلى رأسي وتشجه.

 

3- بانتظار مازن
يرن الجرس الهاتف. فَرِحةً اقرأ اسمه على الشاشة

- آسف ماما، نسيت عيد ميلادك

- لا تهتم حبيبي أنا أفرح عندما تنسون عيد ميلادي. أنا لست معتادة على أعياد الميلاد هذه. هذه البدعة الأوروبية لا أرتاح إليها. يعني "بعد الكبرا جِبِّة حمرا"

 - ها ها ها....شو كبرا!... انت ست الصبايا أم مازن. سآتي لزيارتك في عطلة نهاية الأسبوع

- على راحتك حبيبي. إذا كنت غير مشغول تسعدني زيارتك. ولكن لا أريدك أن تضغط على نفسك لتزورني.  

- لا لا أبداً . . . أنا مشتاقلك!....

***

السبت صباحاً تحايلت على زوجي، قلت له:

- ما رأيك بطبق كنافة للفطور؟.

- إن كان من أجل مازن  فلا تتعبي نفسك. مازن  لن يأتي

- لا!....ليس من أجل أحد. أنا "طالع على بالي"[8] كنافة

اكتفى بابتسامة خبيثة أمعضتني

***

        الأحد صباحاً، استيقظت باكراً. شربت قهوتي. رتبت بيتي. وضعت مفارش جديدة في كل غرف النوم وعلى الطاولات في غرفة الطعام والشرفات. رششت الغرف برذاذ منعش من النوع الذي يحبه مازن. لم أرتد العباية المريحة، ثياب البيت كما يقولون. لبست بنطلون جينز وبلوزة قطنية خفيفة. يجب ان أبدو أماً عصرية يفخر بها، لا عجوزاً تحرجه أمام زوجته وأصدقائه.  كثر رواحي ومجيئي بين غرفة الجلوس والشرفة. أرقب الطريق، وكلما لاحت سيارة حمراء في رأس الشارع أتوقع ان تنحرف شمالاً لتقف في باحة الدار. أرتد مخيبة عندما تتابع سيرها. آه . . . تذكرت . . . برنامجه ليوم الأحد صباحاً التدريب في النادي الرياضي سيأتي بعد التمرين. سياتي على وقت الغداء.

قلت لزوجي: نطبخ ملوخية اليوم. مازن  يحبها.

صمت لفترة قصيرة ثم قال بلهجة خفيضة كالمغلوب على أمره: ماذا ينقصك لإتمام الطبخة

- عندي كذا وكذا...ينقصني كذا وكذا....وفيما هو يهم بالخروج قلت له بلهفة من تذكر شيئاً مهماً:

-  أشتر أيضاً باقة زهور

- ظل مولياً لي ظهره وقال هازئا:

- ابنك سيجلب الزهور!. 

* * *

 أنا لست امرأة مكتملة العافية. الوقوف الطويل يتعبني، ويجب أن آخذ أكثر من قيلولة قصيرة اثناء النهار وإلا أصابني وهن وثقل في العينين.

جهزت نفسي لهذا اليوم المتعب. أخذت حبة "سلبركس[9] وبدأت العمل.

كنت وأنا أقلب قطع اللحم في القدر، أتخيله منكباً على العظام ينهش ما بقي عالقاً فيها ويشرق النخاع من تجاويفها. عندما كان صغيراً كانت أخواته يغظنه ممازحات: 

- يلا مازن عشت! . . . انهش انهش برافو توتو. برافو توتو.[10]

علمّه والده أن يجيب

- مازن  أسد ينهش عظام قليلات الأدب طويلات اللسان

وفيما أنا أهرس الثوم مع الكزبرة تخيلته يتلو عليّ معارفه الصحية ويعطيني درساً بفوائد الثوم والبصل. حتماً سيعيد على مسمعي كيف أن حصوص الثوم النيئة أشفته من الأنفلونزا. وأن مهروس التوم أنقذ حياة صديقه أندرو من لدغ العنكبوت الأحمر.

حتما سيحب الخبز الغامق التحميص الذي أعددته كما يشتهيه. سيقول لي:

- برافو حنون انا أحبه أسمر. لا أحبه أشقر.

- من أجل ذلك تركت دلال وتزوجت هايدي (سأقول مازحة)

- حنون! . . . لا تشاكسي . . . هايدي فتاة ممتازة. لا أعرف لماذا لا تحبينها

- لا يا حبيبي أنا أحب المرأة التي تسعدك. و"هايدي" بنت حلال الله يديم المحبة بيناتكم.

- لكنك !.... أحببتِ دلال أكثر.

- دلال قضت معنا وقتاً طويلاً. وهي تتكلم لغتنا. الحديث معها كان أسهل. صارت كأنها واحدة من البيت، ولذلك عندما تركتها أحسست بفراغ .

- يا ماما لكل وقت آذانه. انتهى زمن دلال. إنسيها. الحياة العصرية لا تتوقف عند شخص أو تاريخ أو قرابة

بدون وفاء هذه الدلال (قلت في نفسي). ما إن انقطعت علاقتها بمازن حتى نسيتنا. والله نحن عاملناها مثل ابنتنا ولكنها تنكرت للعشرة. أدريان، زوج ابنة الجيران السابق، لا يزال يزور أهلها في كل مناسبة ويطمئن عليهما دائماً بالتلفون.

***

عقارب الساعة تشير الى الثانية عشرة ظهراً. أتوقع قدومه حوالي الثانية. عندي وقت لأرتاح قليلاً ثم أُكمل باقي التحضيرات. تركت المطبخ وتوجهت إلى غرفة الجلوس. استلقيت على الكنبة، هممت بوضع رجلي فوق الطاولة. رن جرس التلفون. هذا مازن قلت في نفسي. سيقول إنه سيتأخر. أكره ذلك لأن الطعام سيبرد والملوخية إذا اعيد تسخينها تفقد بعض نكهتها.

- ألو..

اهلاً حبيبي.

_ آسف ماما. لن أستطيع المجئ اليوم كما وعدتك. داني (الكلب) عنده حالة إسهال حادة .  يجب أن آخذه إلى الطبيب. لا أستطيع أن أفعل ذلك إلا في عطلة نهاية الأسبوع لأن عيادات الطب البيطري لا تعمل خارج أوقات الدوام 

- سلامته

- الله لا يسلمو. ملا البيت برائحة برازه وهايدي مستاءة جداً

- ماشي حبيبي. بس أنا طبخت ملوخية على الطريقة التي تحبها هايدي

- ولا يهمك!. . . سأمر غداً أو بعد غدٍ ونتعشى معكم.

بعد أن أقفل الخط قلت في نفسي: عسى أن يكون المانع خيراً. أخاف أن يكون هناك شيئاً خطيراً يخفيه عني كي لا أقلق عليه.

 

4- الأوبرا هاوس (إسلاموفوبيا)
أنا الأوبرا هاوس، أرتع مزهوة في أحضان خليج سدني. أمتلئ دلالاً عندما يداعبني القمر بغمزاته الوالهة، وأستسلم مغناجة ً عندما يدثرني بدره بعباءته الفضية. أنا مثل جبل المطربة صباح (الله يرحمها) لا تهزني ريح مهما عتت وأهتز حد النشوة عندما يلامس خاصرتي جسدا عاشقين شبقين فاض بهما العشق فلاذا بي يطفئآن لظى عشقهما بعيداً عن أعين الفضوليين.

- أنا الأوبرا هاوس أخطف قلوب الناس من شرق وغرب، من شمال وجنوب: الصعلوك منهم والأمير، المعدم  والمترف،  الوفيّ والخائن، المؤمن والكافر، النزيه والسافل، كلهم يتزاحمون عند أقدامي، يفتخرون ويفاخرون إذا زاروني يوما، ويحتفظون بصور تضمني وإياهم ذكرى جميلة للقادم من وحشة أيامهم.

هذا الصباح، وشوشت في أذني موجة متجرئة.

- استفيقي من أحلامك الوردية. أشباح العتمة تتراقص عند جذورك

قهقهت مستخفة:  وما همني الأشباح إن كان كل الأنس عشاقي! 

- انا أوبرا هاوس. أنا مفخرة أستراليا الأولى: أتصدر بطاقات الأعياد ورزنامات السنين وأيقونات الهدايا. أنا اوبرا هاوس أتربع اميرة في كل بيت: أنا عند هنري كرت بوستال، وعند نيكولاس لوحة فنية معلقة في صفحة داره. وعند وندي ساعة فوق طاولة سريرها. وانا في حقيبة سفر راج، وجون، وأحمد، ونوشين، وباتريك، وشارلوت؛ تحفة يعتزون بتقديمها هدية لمضيفيهم في نيويورك وباريس ولندن ونيودلهي ودبي والقاهرة وبيروت وفرانكفورت . . . 

- استفيقي من زهوك. إحذري وحاذري.

- أنا أوبرا هاوس أُحذَر ولا  أَحذَر . أكتم أسراراً وأسرارا: مناجاة العشاق اللاهبة، خيانات الوعود المخاتلة، عرس الأماني وانكسارها.

أنا أوبرا هاوس أُحذَر ولا  أَحذَر. شاهدة على حبائل المخادعين، مكائد الخبثاء، فحيح الدسائس. . . فمن يجرؤ على استعدائي؟

- هنالك من يجرؤ قالت، وهي تشيح بوجهها عني وتتلاشى عند أقدامي

***

أنا موناليزا سدني استفقت اليوم وبي شعور لا أستطيع تحديده: غضب، حزن، شقاء، هياج، زعزعة تقض كل كياني.

ساءلت النوارس والحمائم وزبد الموج وشعاعات الشمس والصخور على اختلاف ألوانها وأنواعها، فأطرقت جميعها مرتبكة أمام تساؤلي.

رقص الغراب فوق رأسي

- أصدقني القول يا غراب، ما بال أهلي وعشيرتي واجمين مرتبكين؟ ما سر هذا الحزن الغضب الهياج القضيض الذي يستحوذني؟

-  أطرق واجماً

- ما بالك يا بوز النحس (قلت)

- أفضل أن تسمعيها من غيري

- من أين جئت بهذا الأدب وأنت لا تهنأ إلا بأخبار الشؤم

- ليس هذه المرة يا سيدتي الجميلة

- أسرع! .. قل ما عندك ولا تتعفف.

- أخاف على مشاعر سيدتي الجميلة ومولاتي.

- مراوغتك هو أكثر ما يؤذي مشاعري. هات ما عندك.

أطرق وانخفضت حدة صوته وقال:

- إحذري وحاذري يا سيدتي. لقد برز لك أعداء.

- ما هذا الهراء! . . . أنا ما عندي إلا معجبين

- عفوك سيدتي: إنهم يتهمونك بالانحياز للإسلاميين!. . . يقال: إنه لمن الواضح تماما أن شكل الأوبرا هاوس هو شكل ثلاث نساء محجبات!.

- وماذا بعد؟

تمتم وقال بصوت خفيض:

- أصحاب النخوة الوطنية غاضبون. يقودون حملة على الفايس بوك لمحاربة أسلمة البلاد.

- وماذا بعد؟!..

ليلة البارحة، وأمام جموع المحتشدين في قاعة بلدية سوري هلز قال السيد نابكوف، من حزب أُستراليا البيضاء:

- نعدكم بمحاربة أسلمة أمتنا العظيمة. وأضاف، ليست أوبرا هاوس هي وحدها المستهدفة بالأسلمة، فقد لاحظت الليلة الماضية هلالاً يزحف صوب النجم الجنوبي Southern Cross  . إن الهجمة الإسلامية تهدد رموزنا الوطنية الواحد تلو الآخر. هذا أمر لا يجوز أن نتهاون به. ثم أضاف:

- نحن لن نرتاح حتى تعود البلد الى أيدي حماة الأرض الأصيلين، لا أولئك الذين جاؤونا بالقوارب، الذين لا يحترمون طريقتنا في العيش والحياة.

قهقهة هستيرية ارتجت لها الأرض والبحر والسماء والكائنات. تجمدت الأمواج عاجزة عن متابعة رحلتها نحو الرمال. ارتجفت الأسماك وهرعت خائفة إلى مخابئها. الرمال غادرها لونها الذهبي الى الرمادي الكئيب. صخور الشاطئ  تخلت عن وقارها ورفعت رؤوسها متسائلة. النوارس تجمدت في وسط السماء لا تقوى على متابعة الطيران ولا تحملها أجنحتها على الهبوط. ذبل ضوء القمر فعم المكان الظلام.

أطرقت رأسي وتمتمت حزينة: ويحي منهم!, لقد لطخوا ثوبك النقي يا أستراليا . . . 

 

سدني استراليا



[1]   بولين هانسن Pauline Lee Hanso

هي سياسية استرالية دخلت البرلمان عام 1994 وعرفت بآرائها المتطرفة التي أثارت جدلاً واسعاً في الاوساط السياسية الأسترالية، فهي يمينية متطرفة ومحافظة الى ابعد حدود. شنت حملات ضد السكان الأصليين والمهاجرين والإسلام واليهود وهاجمت سياسة التعددية الثقافية التي تنتهجها استراليا. خطابها المتطرف جعلها محل انتقاد كل الأحزاب الأسترالية يمينها ويسارها    

[2]  تامبا Tampa

سفينة نروجية استجابت لنداء  قارب صيد اندونيسي على وشك الغرق يحمل 433 شخصاً من طالبي اللجوء الأفغان الى استراليا. حاول قائدها الكابتن رينان العودة بالركاب إلى اندونيسيا ولكن الناس رفضوا وهددوا بالانتحار. غير القبطان وجهته الى جزيرة كرسماس ايلاند التابعة لأستراليا. تعرّضت البحرية الاسترالية للسفينة ومنعتها من دخول المياه الإقليمية. كان  الركاب معرضين لخطر الموت المحتم فالسفينة تحمل عشرات أضعاف حمولتها والركاب ينقصهم الدواء والغذاء وشروط السلامة الأخرى. تمكنت السفينة من دخول المياه الإقليمية الاسترالية بعد مناقشات طويلة وصعبة مما أدى إلى غرق حوالي 300 شخصاً. رافق العملية حملات تشهير، ظهر كذبها،  تدعي أن الأمهات كن يرمين بابنائهن إلى الماء لاستدرار الشفقة

[3]  في عام 1998 حصل حادث اعتداء على شاب كوري في منطقة Punchbowl غرب سدني. وبعدها بأسبوعين حصل اطلاق نار على مركز شرطة في منطقة lakemba  فنسب رئيس الولاية السابق بوب كار ومفوض الشرطة بيتر رايان العملين إلى عصابات لبنانية. منذ ذلك الحين جرى تداول هذا المصطلح العنصري Lebanese Gangs في وسائل الإعلام وتعزز تداوله بعد ما جرى عالمياً كاحداث ايلول 2001 وتفجيرات بالي وحرب العراق وتفجيرات لندن. 

[4]   غولف ويتلام Gough Whitlam رئيس وزراء استراليا الواحد والعشرين. (1972-1975) يعتبر مؤسس استراليا الحديثة. أجرى إصلاحات عديدة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والتربوية. ألغى سياسة أستراليا البيضاء وأقام مكانها أستراليا متعددة الثقافات. كما انه أسس نظام طبي مجاني Medicare تفخر به استراليا على باقي دول العالم     

[5]  المقصود الذين غرقوا في باخرة تامبا

[6]  مثل يقال للمتسرع غير المتزن في تفكيره

[7]  كلام منمق غير صادق

 [8]  أرغب ب، اشتهي

[9]  مُسكِّن طويل الأمد لعلاج داء المفاصل ((Celebrex

[10]  لقب جمعي للكلب