في نص مكثف ودقيق وبلغة رشيقة يعيد القاص المغربي للساهر في الصورة المعلقة على الجدار الحياة ويجعله يتأمل الأجيال وهي تكبر وتسافر وتأتي إلى الحياة في حوارية مفعمة بالشجن والتأمل بمعاني الوجود.

قبلاتٌ على الجدار

سعيدة تاقي

بقلبٍ واجف و يدين مرتعشتَيْن أنْعِـيني لأوّل مرة. حينما سكنتُ ذلك الجدار في أوّل الأمر، لم أكُن مجرَّد صورة فوتوغرافية و بعض الأحلام.. كنت أظنني أكثر من ذلك بكثير.. و لذلك رفضت بسيادة مطلقة أن يشاركني أحد موقعي الأثير. كنت أراقبهم يمضون قريباً مني.. أحيانا يرسلون إلي تحاياهم و قبلاتهم.. و أحيانا يفطنون متأخرين إلى أنني هنا أتلصَّصُ على عبورهم الصّامت و أفعالِهم المُختَلَسة. لم يجرأ أحد في البداية على محادثتي..

لكن مع مرور الزمن غدا وجودي وسطهم مألوفاً.. حكوا لي عن أيامهم و أفراحهم. كشفوا لي أحلامهم و شاركوني أحزانهم و أطلعوني على قصص حبّهم.. لم يكن أي منهم ينتظر تعليقي على حديثه أو إعجابي بموقفه أو مشاطرتي لحلْمه.. كانوا يكتفون بإفراغ ما في جعبتهم، ثم يمضون مسرعين إلى محادثات أخرى و انشغالات أكثر استعجالاً من جمودي الذي لا يغيِّر شيئاً.

في البداية لم أكن أشعر بالاختلاف.. لم أكن أعي التغيُّر الطارئ على علاقاتهم بي.. لكن مع مرور الأسابيع و الأشهر بدأ الشك يعتور طمأنينتي المسالِمة.. أراهم يكبرون و الزمنُ لا يختبِرُني.. أراهم يسافرون و الجدارُ يعتقِلني.. أراهم يهاجرون و الرحيل لا يبلُغُني ريحُه. قبل قليل اعتلى الصغير عُمر الكرسي الخشبي و قبّلني على الجبين.. لقد كبر كثيراً، لكنه ما زال الأصغر.. حين نزل عن الكرسي و حمل حقائبه الكثيرة و أغلق الباب خلفه.. انتظرته أن يعود و يحملني معه.. لكنه لم يعد. تركني وسط بيت على مقاس الذكريات و قبر ليس على مقاسي، و غادر هو الآخر.

 أصل أخيراً إلى حقيقتي المرّة..

بقلبٍ واجف و يدين مرتعشتَيْن أنْعِـيني لأوّل مرة أنا الصورة المعلَّقة على الجدار.