يرى الناقد المغربي أن رواية «الناجون» تشكل نموذجا للرواية المغربية الحديثة بصبغتها المعرفية وتقنيتها السردية. وهي رواية سياسية-اجتماعية تقدم تفسيراً لفترة تميزت بالاضطراب، لكنها تنصر أحلام المستقبل من خلال حضور الروائية الشاهد على الأحداث المنسوجة بتقنية المؤلف الضمني.

الأنا والآخر في رواية «الناجون»

للمبدعة المغربية الزهرة رميج

يوسـف كرماح

تشكل رواية "الناجون" نموذجا حيا للرواية المغربية الحديثة ذات الصبغة المعرفية العَالِمة والتقنية السردية العالية، وهي رواية سياسية/ اجتماعية تقدم تفسيراً معقولا لفترة صعبة تميزت بالسواد والاضطراب والألم، لكنها حملت في جعبتها سمة الانتصار لأحلام المستقبل، ما جعل الكاتبة تفجر هذا الشحن التاريخي القاتم في قالب فني جمالي يواري ذلك السواد ويعكس بجلاء خبرتها العميقة، ونير تجربتها الإبداعية الواسعة. وهذا ما يعكس كذلك حضورها المعاين والشاهد على مجرى الأحداث المنسوجة بشكل تقني، من خلال ما يسمى في علم السرد عند عالم السرديات الأمريكي تشاتمان chatman بالمؤلف الضمني، الذي يمثل الأنا الثانية للمؤلف، حيث يتخذه المؤلف الحقيقي كمنبر للتعبير عن آرائه وأفكاره، ولقد أكدت الروائية الزهرة رميج في مداخلة خارجة عن الحيز النصي للرواية، أنها فكرت في نقش حروف هذا العمل لما زارت مدينة فاس بعد أكثر من ثلاثين سنة من الغياب، بمناسبة تكريمها، ومن ثمة زيارتها لمرتع حراك السبعينات الذي شكل بؤرة الخطاب، من خلال زيارتها للحي الجامعي وكلية الآداب، ما جعل ذكريات المرحلة الطلابية تتفاعل وتتناسل في دواخلها بحمولتها النضالية. وكان هذا دافعا قويا لترجمة هذا التفاعل بعد عودتها بشهر من زيارة حفل التكريم، وقد وفقت وعرفت كيف تصيغه في قالب متقن يحمل مسؤولية الأقوال والاعترافات والذكريات للمؤلف الضمني الكائن الورقي. هذا إلى جانب الإضاءة التي صرحت بلقاء بطل الرواية في الشارع، وكانت حافزا قويا على حضور ذات المبدعة وهي تحاول أن تخلصه من تهمة الكائن الورقي. ويتأكد هذا الظهور الخجول لذات المؤلفة الحقيقية من خلال انتسابها إلى جيل السبعينات الممجد بشكل لافت، والذي تقاسمت معه معاناته وثورته وحلم التغيير. هو الجيل نفسه الذي ينتسب إليه المؤلف الضمني ومتح من ذاكرته. وهكذا تُوقِع المؤلفة بوعي المتلقي في دوامة من التأملات والاستفسارات، سيما المتلقي الذي لم يعش زمن الحكاية ويرغب في عيش مجدها. وهذا الأمر تؤكده الإيديولوجية البارزة بشكل واضح، ما يجعل المتلقي في صراع مع اشتباكات وتداخل خيوط المتن من أجل جرد إرهاصات التخييل الذاتي.

والمؤلف الضمني في الرواية يتدخل بوجوه عديدة، ويمارس دوره على أتم وجه، فأحيانا يظهر بكيان السوسيولوجي الذي يحلل الظواهر ويبدي بآرائه وأفكاره، وأحيانا أخرى كطبيب نفساني يعالج أحوال شخصياته ويقوي معنوياتها. وأحيانا أخرى يتدخل بحنكة السياسي المضلع. ويناقش بأفكار المناطقة، من خلال التأملات والتساؤلات، ولهذا نجد الرواية زاخرة بالاستفهام التنكري، وتعجب الاستغراب والدهشة. وهذا ما يثمن حضور الأفكار الفلسفية. فالتساؤلات الاستنكارية حاضرة وبقوة في العمل الروائي للخدمة المعنى الذي يريد إيصاله المؤلف الضمني، للتعبير عن النكران الذي تعرض له عبد العاطي من لذن وطنه و كيف تنكر بدوره لهذا الأخير ولحبيبته ولأهله ورفاقه، ما جعل الحبيبة سامية تتنكر له بدورها وتجرده من حياتها بزواجها من طبيبها عبد الجليل، وهذا مظهر من مظاهر قوتها. ورمز لعصامية المرأة. ومن خلال تنكر أولئك الذين غادروا الوطن وانشغلوا بحسن الشقراوات، ومن خلال أولئك الذين خلعوا عباءة الانتماء السياسي وتخلوا عن النضال وعن القضية الوطنية التي كانت ذات يوم حلم يستحق التضحية من أجل تغيير الواقع الأسود، فتلاشى كل شيء أمام جشع المصلحة الفردية، وبالتالي التنكر للذات والانزياح من الاشتراكية رمز الحرية والعدالة والديمقراطية، نحو الرأسمالية رمز العبودية والديكتاتورية. والتساؤلات كما أسلفنا الذكر تسطو على جل فصول الرواية بل نجد فصلا كاملا عبارة عن تساؤلات استنكارية، وفصل التقاء حسناء بعبد العاطي وزوجته كريستين في مسرح الأوبرا ببوردو صدفة بعد بحث مضن خير مثال، فصل يتكون من ثمان صفحات كله تساؤلات نقدية إشكالية. وتجدر الإشارة في الأول أننا استعملنا التساؤل وليس السؤال وشتان بينهما، فهذا الأخير يتعلق باستفهام تقليدي مباشر يستفسر عن معلومة أو إجابة أو تقريرا، بينما التساؤل ينطلق من رحم صيغة السؤال التقليدي، الذي يمهد له الطريق عبر التساؤلات، يتعلق الأمر هنا بموضوع مفتوح أو بقضية غير منتهية أو مشكلة جزئية أو كلية بحاجة لمزيد من البحث والدراسة والحوار. وتوظيف هذه التساؤلات في النص جاء من باب التشويق والإثارة أولا، ولفتح فسحة للقارئ للتأمل ولإبداء رأيه ومشاركته في تنامي الأحداث وتوجيه مسار الحدث، قبل تجميعه للخيوط التي شبكها السارد، بعد انتهائه من قراءة العمل الروائي.

وهذه الرواية تحتمل عدة قراءات في آن واحد، فهي من زاوية تمثل حالة الحراك السياسي وزمن النضال في فترة السبعينات، وما ترتب عنه من تحولات. ومن زاوية أخرى ترمز إلى علاقة الأنا بالذات وعلاقة الأنا بالآخر والفراغ المهول الذي خلفه الآخر/ كرستين، وعبد العاطي لما قرر التخلي عن وطنه وهويته ورفاقه وتشطيبه لتلك المرحلة النضالية من تفكيره. ومن جانب آخر يمكننا مناقشتها على أساس أنها ترمز إلى علاقة الشرق بالغرب، تلك العلاقة القائمة على الاستغلال والعنصرية. ومن زاوية أخرى ننصت فيها بوضوح إلى صوت المرأة المغربية وتجليات الكتابة النسائية. ومن موطن آخر يمكننا أن نسلط الضوء على جوانب العتاب واللوم التي شكلت بساط الخطاب الروائي، ولربما كانت دافعا قويا لنسج خيوط هذه الرواية، وكأنها تسترجع كرامة الناجون التي داستها أجهزة القمع، وتلقي اللوم على كل من ساهم في إذكاء لهيب الألم والمعاناة للمناضلين الأشراف، وتقدم لهم الولاء والتقدير لتضحيتهم بحياتهم من أجل قضية الوطن.

الرواية تتقاطع مع ثلاث روايات عربية أخرى، فيما يخص علاقة الأنا بالآخر وعلاقة الشرق بالغرب، نذكر على سبيل المثال لا الحصر رواية "الحي اللاتيني" التي تحكي قصة طالب شرقي يغادر بلده لبنان إلى باريس لاستكمال دراسته العليا، وهو لا يريد بخروجه هذا استكمال دراسته فقط، بل كذلك وضع قطيعة مع ماضيه فهو "يريد أن ينسى حداثته وأصحابه، وبضع فتيات عبرن حياته بغموض، ليبدأ من أول الطريق، إنسانا جديدا، يستلهم الحياة شخصيةً جديدةً"(1)، لكن هذه القطيعة سرعان ما تلاشت لما عاد إلى بلده وإلى معانقة ماضيه وهويته ومصالحته لواقعه حين يعانق أمه ويتخلى عن الآخر/ الغرب المتمثل في شخصية "جانين". رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" كذلك تثمن متن الحي اللاتيني، وجاءت بانطباع مساند ينتقد الغرب، فأغلبية البعثات الطلابية التي تشبعت بالثقافة الغربية وبتقدمها وتحررها، تعود وهي محملة بشحنة من اليأس والاحتقار لثقافتها ولأمتها المغبونة. لكن هذه الرواية حرفت المسار الذي سلكه كثير من المغتربين، وعادت بالشخصية الممثل إلى وطنه متلهفا إلى موطنه بشوق وحنين عارمين. "المهم، أني عدت، و بي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة"(2). رواية "البعيدون" بدورها تتناول علاقة الشرق بالغرب، والأنا بالآخر من خلال مسار طالب مغربي اختار وجهة اسبانيا في عهد الدكتاتور فرانكو. فقاده في الأخير بحثه عن تداخلات قيم التسامح والتعايش بين الثقافات والشعوب نحو نهاية مأساوية حزينة تفوح منها رائحة بخور الموتى "هي الرائحة نفسها التي فاحت من حجرة بضريح كان إدريس مسجى بها فوق حصير، بعد أن عُثر على جثمانه بين مخلفات جرفتها مياه باب الواد"(3). "الناجون" كذلك رواية تنحى في نفس مسار علاقة الأنا بالآخر من خلال اختيار شخصية عبد العاطي لمنفى إرادي بفرنسا، وتملصه من هويته المغربية بحصوله على جنسية فرنسية، وتنكره لحبيبته سامية وارتباطه بالفرنسية الغنية كريستين، وهذا المقطع يوضح لنا علاقة الشرق بالغرب القائمة على التنافر والعنصرية والتحقير، "ها أنت تعود إلى طبيعتك الأولى، عندما كنت ترفض الاستحمام كل صباح.. وكأنك لا تزال مقيما بالصحراء تريد الخروج دون استحمام ورائحتك تزكم الأنفاس، كرائحة خنزير؟ كأنك لست فرنسيا! لا تناديني مرة أخرى، بأندريه! اسمي عبد العاطي"(4). ولأن سامية قررت ألا تبارح وطنها وضلت وفية له ولرفاقها وأهلها في جميع الأحوال، وشكلت رمزا قويا للشخصية المغربية الأصيلة من حيث قيمها ومثلها ووطنيتها، رغم قسوة الوطن الذي شبه بطائر الوقواق الاستغلالي وبالجحيم، هذا الوطن الجاحد الذي ينكل بأبنائه ويدفعهم نحو الهلاك، أليس "الموت غرقا أهون عليهم من العودة إلى ذلك الجحيم؟ وأن ابتلاع الحوت لأجسادهم سيحررهم من سطوة وطن لم يفعل شيئا غير تمريغ كرامتهم في التراب؟"(5). رغم كل هذه القسوة والاستبداد فقد ظلت وفية لوطنها الجاحد واستطاعت بمعية صديقتها حسناء، بعصامية وكرامة وثقة في النفس، أن تهزم الآخر/ كريستين، ويقهر سحرها الجبار سحر هذا الآخر الذي لم يستطع مقاومة مفعوله، حيث كان "مجرد رسالة منها تغمره بسعادة لا مثيل لها.كان سلوكه ذاك، يثير استغراب بعض رفاقه ممن راحوا يتهافتون على النساء مستغلين أجواء الحرية التي تعم فرنسا غير آبهين بعلاقاتهم السابقة مع رفيقات لهم بقين في المغرب. كانوا كتائهين في الصحراء عثروا فجأة، على واحة خضراء وهم على وشك الموت عطشا"(6). غير أن عبد العاطي الفرنسي المزور يعود إلى وطنه ورفاقه بشوق وحنين بعد غياب طويل دام لأربعين سنة، مغتربا مسلوبا في بلاد حاول بشتى الطرق أن يجعل منه كيانا غربيا خالصا."كانت تتخيل الضيف فرنسيا أشقر الشعر، أزرق العينين، فإذا بها أمام رجل مغربي خالص! عبد العاطي في المغرب في بيتها، بين أفراد أسرتها، في عيد ميلادها الستين، تعرفت عليه من أول نظرة عندما رأته سامية كادت أن تصيح من وقع المفاجأة"(7). وهكذا يخيب ضن الغرب بلد الحكمة والفلسفة والمساواة وحقوق الإنسان الذي حاول بشتى الطرق وضع قطيعة إبستمولوجية مع الشرق، أمام إرادة جيل حلم بالتغيير وبالثورة وبإرساء دعامة العدالة الاجتماعية، ورد الاعتبار للإنسانية والقضاء على أشكال الاستبداد والقهر،"ظل عبد العاطي يتأمل المشهد وكأنه في حلم لا في الحقيقة، قبل أن تنشله يد حسناء من عالم التأمل والحكمة إلى عالم الحركة والجنون"(8). ولقد خصصت المؤلفة في خطاب الرواية حصة مهمة فيما يخص علاقة الشرق بالغرب القائمة على العداوة والاستغلال والعنصرية والجور، وهذا ما تكشفه سجلات التاريخ مند زمن بعيد. فالغرب على مر العصور هو الرأسمالية والثورة الصناعية، واكتشاف المطبعة والبخار والكهرباء وثورة الاتصالات والمعلوميات والعقلانية، وفي يومنا هذا يمثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، والسبق والقوة، في مقابل الشرق، العالم الثالث الذي يرمز للتخلف والجهل والتأخر، ومحطة الاستعمار بأصنافه الجغرافية والسياسية والاجتماعية و الفكرية. وهذا القول يؤكد الحوار الذي دار بين عبد العاطي والفرنسية كرستين، حول فوارق هذا الثنائي "الأوضاع في البلدان المتقدمة ذات التقاليد الديمقراطية، ليست نفسها في بلدان العالم الثالث. الفرنسيون ليسوا عنصريين! إنك في بلاد الحرية،كن متأكدا من ذلك وعليك أن تغير سلوكك"(9)، كما تؤكد الساردة على فكرة نيرة تتجلى في السيادة غير المباشرة للآخر/الاستعمار الذي ما يزال متغلغلا وما تزال مظاهره حاضرة، من خلال ما تضمنته رسالة سامية إلى عبد العاطي، "فهل حصلنا فعلا، على الاستقلال التام؟ أنحني إجلالا لكل الذين قدموا أروحهم فداءً للوطن.. لكن، هل تحققت أحلامهم؟ أنت تعرف الجواب! لذا، علينا أن نواصل المسيرة، وأن نضحي بدورنا، من أجل سحب البساط من تحت أقدام الاستعمار الذي خرج من الباب ليعود بمساعدة عملائه، من النافدة"(10)، وهكذا تتأكد لنا علاقة هذين الثنائي الجغرافي الذي تحكمه وشيجة المصلحة والاستغلال. فرغم حصول عدة بلدان على اتفاقية الصلح والاستقلال، إلا أن عددا من بلدان العالم الثالث كما يسميه الغرب، ما تزال غارقة في حضيض الاستعمار الذي خرج في واضحة النهار، ليعود متخفيا في وشاح الظلام لغاية في نفس يعقوب.

وتيمة العتاب واللوم تحظى بدورها بنصيب مهم ضمن حيز الأحداث المتعددة في الخطاب الروائي، وتتماهى مع القضايا التي طرحها المتن بإحكام وبترتيب نسقي مميز يعكس خبرة وتجربة المبدعة السردية. وهذا اللوم يشمل الشخصية الرئيسة عبد العاطي الذي تخلى عن محبوبته وهويته ووطنه ورفاقه، ولوم حبيبته سامية له على تخليه عنها وعن الأحلام التي رسماها معا لتغيير الواقع، وإلا ماذا أعجبها فيه غير هذه السمة وهي تشتد هوسا بمداخلاته في الحلقيات وفي تقديمه للأفكار التي تُعنى بالاشتراكية؟! ولوم الرفيقة حسناء لصديقتها سامية على كتمانها لسر علاقتها بعبد العاطي طوال عمر صداقتهما المديد، والذي اعتبرته قوة وقدرة فائقة على التحمل والصبر. ولومها لهذا الأخير الذي لم يكشف لها حقيقة سره مذ اللقاء الأول في فرنسا، وتخليصها من عذاب كشف هذه الحقيقة الملغزة، لأنه لم يوفيها بكافة الرسائل التي تكشف خيوط هذه العلاقة الممجدة في رسائل سامية المبعوثة، ولوم عبد العاطي لحسناء لأنها تركته ينتظرها في فرنسا ولم تعد إلا بعد مدة طويلة. لوم رجال الدين السياسيون الذي يتخذون من الدين قناعا لقضاء مصالحهم السياسية. والأمثلة على ذلك كثيرة في النص وفي واقع المعاش. لوم الرفاق للوطن الذي شردهم ونكل بهم ونبذهم وقهرهم واضطهدهم، وكان عائقا حال دون تحقيقهم لموضوع قيمتهم. هذا بالإضافة إلى أن هناك جزءا مهما من مُتُن هذه الروايات باستثناء موسم الهجرة إلى الشمال، مكرس لأدب الرسالة ضمن صنف ما يسمى برسائل الأشواق، وتوظيفه جاء ليضفي على المتن بعدا فنيا جماليا يكسر نمطية السرد المتسلسل ويبرز كفاءة الأديبة العالية، بتوظيف لغة مجندة لخدمة خطاب الرواية، لا تميل إلى الصنعة والتكلف، ولا تطمح إلى الإيغال في مغامرة الإلغاز والرمزية، وفي نفس الوقت لا تمت بصلة إلى اللغة المجانية المباشرة، وذلك للتأثير في المتلقي وشده ليتفاعل مع مجريات الأحداث. وهذا واضح في رسائل "الناجون"، الصريحة التي تهدف إلى الإبلاغ والإبانة، ويدعمها الأسلوب البعيد عن التعقيد الذي يسعى بحرفية عالية إلى جرد أدق التفاصيل بكاميرا تعكس صورة وصوت المؤلفة الضمني أكثر إشعاعا، من خلال التداخل الساحر بين اللغة والأسلوب اللذان يساهمان في تنميق جودة البناء الجمالي للخطاب. وهذه سمة الرواية التجريبية.

وبما أن الرواية كبيرة وتتناول عدة قضايا متباينة، فإنه يمكننا أن نجزم بهيمنة قضية المرأة التي أسند لها دور بطولي في هذا العمل، وسعيها الجاد إلى تغيير واقعها المهزوم في علاقته بالشأن الاجتماعي، على اعتبار أنها محور هذا المتن الروائي وهي المحرك الأساس لكل أحداثه. من خلال التدخل القوي بلسان نون النسوة في كثير من القضايا العامة بجرأة وشجاعة، وتفجير المشحون الداخلي من خلال الانتقادات الشرسة التي تضمنتها أحيانا رموز ومؤشرات نقش حرفها بعناية، وأحيانا أخرى من خلال جرأة قلمها اللاذع المباشر. ومن بين مظاهر قضية المرأة في الخطاب الروائي، نلمس أن هناك إصرارا قويا يتجاوز التلميح إلى التصريح، يدعو إلى مساواتها مع الرجل وخلق فرص التكافؤ بين الجنسين وتمتعهما في كافة الحقوق والامتيازات بشكل مواز وعادل في جميع مجالات الحياة، "لا تريدين تغيير أفكارك.تبحثين عن كل شيء يثبت المساواة بين الرجل والمرأة. تريدين إقحام الرجل رغم أنفه، في عالم النساء حتى لا يبقى في مأمن عن معاناتهن"(11). هناك تحد ورهان كبيران على حضورها في المستقبل بشكل قوي، وهذا الطرح هو الذي سلكته الكتابة النسائية منذ ظهور هذا التيار الفكري لتحرير المرأة، والدفع بها نحو مستقبل يحفظ لها كرامتها وحقوقها "إن الزمن الآتي سيكون زمن الاشتراكية وزمن المرأة بامتياز"(12)، هذا ما أكده الشاب الاسباني المتنور الذي التقت به سامية خلال عودتها إلى المغرب، وكذلك تؤكد هذا الطرح حسناء خلال حوارها مع عبد العاطي في فرنسا" المستقبل للنساء شئت أم أبيت"(13). في هذا المقطع من الرواية يتجلى الصراع المتوتر بين الرجل والمرأة على سلطة الحياة وريادة المستقبل، وكيف استطاعت المرأة بالتدرج أن تحقق مجموعة من المكتسبات في الوقت الذي لم يكن يحق لها حتى إبداء رأيها، إنها حرب ضروس موشحة بدلالات التحدي بين المرأة والرجل على بسط مكانتها في المجتمع رغم أنفه، وفي مقطع أخر نجد أن صوت الشخصية حسناء في حوار مع عبد العاطي تتحدث عن قوة المرأة، وقدرتها على فرض وجودها بكل الوسائل: "من يدعي معرفة خبايا ما يموج داخل أدمغة النساء؟، هل هذا اعتراف بتفوقنا عليكم يا معشر الرجال؟، تفوق الدهاء الذي يبدو مغلفا بالحرير! ألستن القوة الناعمة؟ بل القوة الشرسة عندما يقتضي الأمر ذلك"(14). وتتبين لنا هذه السلطة والقوة التي أصبحت تتمتع بها المرأة، من خلال المواقف الجريئة التي أقدمت عليها، المتمردة على العقلية السائدة، "فتاة أحبته حبا عنيفا كعاصفة الصحراء... اقتحمت بجرأة نادرة، قلاعه المحصنة، فإذا بتلك القلاع تسقط واحدة بعد الأخرى.."(15). كما نجد كذلك حضور جرأتها في التصرف مع كثير من المواقف الأخرى، لأن الإيديولوجية المهيمنة في النص اشتراكية داعية للتحرر والمساواة. ولعل أبرز سمة اتسم بها صوت المرأة في هذه الرواية إلى جانب التغيير والمساواة، قضية الدعوة إلى تحرر المرأة من القيود، سيما الدينية، تقول الساردة على لسان الشخصية المحورية سامية " أكره تلك الخرقة التي تغطي ملامح الوجه،وتحد من حركة التنفس الطبيعي، بل أكره ذلك القناع الذي يلغي هوية المرأة"(16)، ما يعكس بشكل واضح هوية، وإيديولوجية، وفكر المؤلفة الداعي إلى التحرر في كل مظاهر الحياة؛ في اللباس القصير، والشعر العاري المنسدل، والسيجارة.. فالمبدعة تنتقد بكره شديد تلك الخرقة المسماة بالنقاب، مع العلم أنها كانت في زمن الطوفان الأسود سندا ووسيلة مهمة في التستر والتخفي والهرب، فلطالما استحال رجال في زي نساء عن طريق هذا النقاب. ولطالما كان ذريعة لقضاء المآرب في زمن الاستعمار، من تهريب للأسلحة وللشخوص وغيرهما.

كما نجد سمة الدفاع عن المرأة حاضرة، كونها مضغوطة من طرف المجتمع ورهينة الاكراهات، وحرب الرجل، من خلال دفاع سامية وتعاطفها مع المومسات بقولها، "أحببت المومسات كلهن.. بل تعاطفت معهن.. أكيد أن تلك المرأة الجميلة، المرحة، الخفيفة الروح، عاشت مأساة في حياتها دفعتها لممارسة الدعارة"(17)، كما تدافع عن المرأة المقهورة من خلال الحكاية المضمنة للزوجة وابنتها اللتان اشتركتا في جريمة قتل رب الأسرة بوضعهما السم في قنينة الخمر بدم بارد لأنه كان جبارا ومتسلطا ليسقط جثة هامدة. والساردة تتساءل عن الدافع الذي جعل هذه الطفلة العاقة تشتري موت أبيها وكأنه أنجبها لتتخلص من رهطه، لو لم يكن عات وطاغ. وفي هذا الصدد تؤكد الساردة على أن معاناة المرأة هي قضية عامة مجتمعية وليس فردية تخص المرأة وحدها، لأن الحلول الفردية ليست كفيلة للقضاء على الاستبداد والقهر. وضمان حريتها وكرامتها رهين بضمان حقها كمواطنة في التعليم والعمل وفي أبسط شروط الحياة، وهذا ما حفز سامية وجندها لتولي أهمية للمأساوية المرأة المقهورة المقموعة الجاهلة، "ازداد إيماني بضرورة تغيير نظرة المجتمع للمرأة، وبأن نجسد نحن المناضلات اليساريات الصورة الجديدة التي نريدها بديلة للصورة التقليدية"(18). وفي موطن آخر نجد سامية تتعدى هذا الحد، ولا تقتصر على الاهتمام بقضية المرأة فحسب، بل تطمح إلى لملمة مكامن الجرح والخلل عند الرجل الذي يعاني بدوره من كثير من الترسبات، وهو بهذا يعدي المرأة وكلاهما يتضرر، والحل في نظرها هو الاشتراكية التي تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وإلغاء الطبقية الرهيبة، والقضاء على مظاهر الاستبداد "وإيماني بالفكر الاشتراكي ليس من أجل أن أصبح رجلا، وإنما من أجل تغيير واقع الرجل والمرأة على حد سواء.. من أجل تغير المجتمع إلى الأفضل"(19). هذا وبالإضافة إلى التركيز عن حقوق المرأة وواجباتها نجد الساردة تقوم بتقوّيم اعوجاجها وتعالج هفواتها، وتنتقد علاقة المرأة بالرجل المبنية على هوى المصلحة، التي يكون مصيرها الفشل، ولهذا تؤكد على استقلالية المرأة ماديا، وهذا مطلب أساس لتحقيق التوازن، وتقول في هذا الجانب الذي يخص العلاقة الأسرية بين الرجل والمرأة القائمة على الاستغلال والمصلحة، "الزواج من منطلق المصلحة، ما هو إلا دعارة مقننة. ما يحكيه لي خليل عن سلوك غريب لزوجات يترددن على عيادته، يصيبني بالغثيان من أجل الامتلاك (امتلاك السيارة الفخمة والفيلا والرصيد البنكي والشاليه على البحر...) ومن أجل الاستهلاك الباذخ للكماليات، والأسفار تتخلى المرأة عن كرامتها وتعرّض نفسها لمهانة لا تطاق"(20). وقد اعتبرت هذا السلوك مهانة بسبب الثمن الذي تدفعه المرأة مقابل هذه الكماليات، فهي تصبح مجرد سلعة. ومثل هذه الظاهرة الشاذة ليست بغريبة في مجتمعنا الذي يحتاج إلى كثير من التقويم، وتم إدراج خير مثال لهذه الظاهرة بالزوجة المومس التي لا توفي زوجها حقه الشرعي في الحب، إلا بتقديم المقابل المادي. وهكذا فإننا نجد الساردة سامية تتساءل عن جدوى المساواة والحرية في ضل الأفكار الرجعية التقليدية، "لا أفهم هذا الجيل من النساء اللواتي يطالبن بالحرية والمساواة، وفي نفس الوقت، يتشبثن بالأفكار التقليدية التي تخدم مصلحتهن"(21)، أي أن هذا الجيل يعيش ازدواجية غريبة، يريد الحرية والمساواة والانفتاح وفي نفس الوقت لا يريد التخلي عن حياته التقليدية. وهذه محطة تناقض في تصرف المرأة، والساردة تنتقد بشدة تصرف المرأة المصلحي هذا. وهي بهذا تريد تغيير نهجها وسلوكها مركزة على العواقب والنتائج التي لا تجري في صالحها.

وتمثل شخصية سامية المناضلة المثابرة الثورية التي وقفت في وجه قوى الاستبداد والظلم، شخصية المرأة القوية التي لم تعرف الهزيمة في حياتها، ورمز الإنسان المثالي، عكس شخصية عبد العاطي الرجل الذي اختار المنفي الإرادي في فرنسا وتخلى عن النضال وعن رفاقه ووطنه وحبيبته. وهذا يجلي موقف المرأة القوي في الرواية في مقابل موقف الرجل الجبان الذي لم يستطع مجابهة الواقع والسعي جاهدا إلى تغييره. وهذا ما أكدته الرسائل التي تضمنتها الرواية والتي هيمنت عليها سامية، واستغلتها لتعالج قضاياها وتبث مواقفها وانجازاته، في حين ثم إقصاء وتغييب لرسائل عبد العاطي، فهي كانت متشبثة بوطنيتها وحالمة بالتغيير، فرسائل الدار البيضاء كانت ترسم تجربة سامية في الاعتقال وعزمها وإصرارها على هزم العدو ثم الانتصار فالإفراج. أما رسائل الرباط فكانت تصف نشاطاتها النضالية والانجازات المحققة، وأحوال الرفاق، وهذا التوافق بين الأمكنة والشخوص له دلالاته الخاصة في الخطاب الروائي، ففضاء فاس والدار البيضاء يحظى بوصف هام وبترحاب لائق، فيما فضاء الرباط كان عبارة عن محطة لا تساير توجه الساردة وتحتاج إلى إعادة البناء والهيكلة، فضاء متوثر ومشحون بالانتكاسات. والرسائل الأخيرة تعد بمثابة صرخة تستجدي عودة عبد العاطي، "أفضل أن تكون سجينا وبالقرب مني، على أن تكون حرا وبعيدا عني"(22). وحتى بعد انقطاع خبره ظلت مصرة على الكتابة له، رغم أنه لم يعد يراسلها، وهذا الموقف يعكس حضورها، ومد جسور التواصل بين عبد العاطي المسلوب ووطنه، "ما كان علي إلا أن أحترم اختياره. فكما اخترت أنا البقاء في المغرب، اختار هو البقاء في فرنسا آنذاك، تأكدت أن قراره نهائي، لا رجعة فيه، فانسحبت بهدوء"(23). الملاحظ كذلك أن السياسة في هذه الفترة التي تؤطر زمن الحكاية لم تكن حكرا على الرجل فقط، بل لم تستثني صرح المرأة، التي ساهمت في الحراك السياسي ببطولة، وأبانت عن جدارتها وعبرت عن مواقفها، وساهمت في بلورة فكر ووعي هذه المرحلة الصعبة من السجل المغربي.

* * *

الهوامش

(1) الحي اللاتيني، سهيل إدريس، دار الآداب وشركة النشر والمدارس المدارس، ط17، سنة 2009/ ص، 5.

(2) موسم الهجرة إلى الشمال، الطيب صالح، دار العودةـ، بيروت. ط14، سنة 1987، ص5.

(3) البعيدون، بهاء الذين الطود، دار سليكي أخوين، طنجة، ط4، سنة 2013، ص177.

(4) الناجون، الزهرة رميج، دار فضاءات ـ عمان، ط الأولى: 2012، ص49.

(5) الناجون، ص67.

(6) الناجون ص 100.

(7) الناجون، ص 369.

(8) الناجون، ص 392.

(9) الناجون، ص80.

(10) الناجون، ص 230

(11) الناجون، ص 48.

(12) الناجون، ص 62.

(13) الناجون، ص 92.

(14) الناجون،ص 91.

(15) الناجون، ص 98.

(16) الناجون، ص 109.

(17) الناجون، ص 168

(18) الناجون، ص 182.

(19) الناجون،ص191.

(20) الناجون، ص 254.

(21) الناجون، ص 259.

(22) الناجون، ص 229.

(23) الناجون، ص 337.

* * *

المصادر:

(1) الناجون، الزهرة رميج، دار فضاءات، عمان، ط الأولى: 2012، ص49.

(2) الحي اللاتيني، سهيل إدريس، دار الآداب وشركة النشر والمدارس المدارس، ط17، سنة 2009/ ص5.

(3) موسم الهجرة إلى الشمال، الطيب صالح، دار العودة، بيروت. ط14، سنة 1987، ص5.

(4) البعيدون، بهاء الذين الطود، دار سليكي أخوين، طنجة، ط4، سنة 2013، ص177.