نشر الكاتب الكويتي قصة لافتة في مجلة (جاليري 68) توقف بعدها عن الكتابة، وها هي روايته الأولى تكشف لنا عن أنه استطاع وصل ما انقطع، حيث تكتب عبر تلك العائلة العربية التوتر بين التقاليد والحداثة وكيف قاد عددا من أفراد العائلة إلى جوانتانمو.

العائلة (رواية)

محمد الشارخ

 

(1)

توفى الوالد سعد بن كعب الناصر قبل خمسة وعشرين عاما في يوم قائظ بلغت حرارته حوالي 50 درجة مئوية، وتوفيت زوجتاه الأولى لولوة الوهابي والثانية منيرة الزيدان بعده بسنوات، أما هيا الدبسي زوجته الثالثة فما زالت على قيد الحياة في حيويتها وزينتها وضحكتها رغم أن ابنها أحمد ما زال مع أخيه غير الشقيق ناصر في غوانتانامو ونحن ندعو الله ألا يعودا، فنحن نسمع أنهما حيّان ونعرف أنهما لو عادا إلى هنا، فلن نستطيع أن نعرف أي شيء عنهما.

خلَّف والدي عشرة أولاد وتسع بنات وثروة كبيرة لم نعرف مبلغها أو نوعها. أخي الأكبر عبد اللطيف تولى مسؤولية العائلة. كان قليل الكلام. مهابا وصارما. علَّمنا جميعًا في أحسن المدارس، وربى فينا النظام والانضباط. تعلم في القاهرة وتزوج سناء وهي دكتورة أمراض باطنية أخت لزميله المصري هشام في الجامعة الذى لم نره أبدًا رغم أننا سمعنا أن عائلتها اهتمت بعبد اللطيف خير اهتمام حتى ظنَّ البعض أنهم تبنوه. عبد اللطيف صارم.. غضب من شيء ما، وظل لا يتصل بالوالد كما أعرف من سنوات. حين توفى الوالد كان عمر عبد اللطيف ثلاثين عاما. عاد فورًا مع زوجته وهي حامل وأقام مع والدته لولوة الوهابي وأختنا فاتن التي ماتت أمها الهندية نجمة قبل زواج أبي من الوالده لولوه وأختي حصه التي لم تتزوج أبدًا، وقصرت عمرها الطويل على مصاحبة أمها ومساعدة سناء في تربية أولادها، وعلى رعايتنا جميعًا ومساعدة أمهاتنا على تربيتنا. في أول يوم لوصوله زار منزل الوالدة منيرة الزيدان وجمع البنات والأولاد وأبلغهم أنه سيزورهم كل يوم حتى يتدبر كافة أمور العائلة، وهكذا قال لوالدتي وأشقائي وشقيقاتي حين زارنا. هو الأكبر وهو والحمد لله يعرف مسئوليته.

في الليل بعد دفن الوالد اجتمعنا جميعًا أبناء وبنات منيرة الزيدان وهيا الدبسيِ في منزل الوالدة لولوة الوهابي. الوالدة منيرة وبناتها لطيفة وجود ومزنة ومنى وأولادها خالد وعدنان ومشاري وفيصل وناصر وكل أخواتي من والدتي هيا الدبسي علياء ونوره وهنوف وكل إخواني أحمد ومشعل وعبد الله ومحسن . تعشينا معًا. بعضنا قلق فالوالد كان كل شيء في البيت وفي حياتنا عموماً. وعبد اللطيف كان بعيدًا ومتزوجًا في مصر وفي انتظار مولود. وقلما يتصل إلا بوالدته لولوة الوهابي وشقيقته حصه. أمي منيرة وأمي هيا كانتا أكثرنا هدوءًا وتطمينًا لنا، فعبد اللطيف رجل لن يتخلى ولن يبخل. يقولان إن أباه زرع فيه المروءة ورباها ورعاها، كما في جينات وطباع عائلة الناصر.

بعد حوالي شهرين من عودة عبد اللطيف انتقلنا لبيتنا الجديد. المنزل السابق للسفير البريطاني الذي اشترته الحكومة ومنحه الأمير لنا. جاء الأمير معزيًا لعبد اللطيف وطلب منه - وقوله أمر- أن يزوره في الديوان. في الزيارة أثنى الأمير كثيرًا على والدي، ومنحنا منزل السفير ليحفظ عائلة المرحوم والدي كلها في بيت واحد وكافٍ للجميع. مما يسهل على عبد اللطيف رعاية عائلة سعد الناصر. حديقة كبيرة وحمام سباحة ومطبخ كبير وقاعة كبيرة للاستقبال وديوان للرجال، وأكثر من ثلاثين غرفة نوم بحماماتها وكل فرشها وستائرها.

فيصل على صغره اقترح على أخينا عبد اللطيف في أول زيارة للبيت الجديد أن يبني مسجدًا في جانب قريب في الحديقة وتم ذلك بسرعة. بعد ذلك صار المسجد يتسع. ميضأة، محراب رخام ناصع البياض من إيطاليا، زخارف إسلامية تحيط قعر المحراب، وبعد ذلك نجاران باكستانيان ينقشان خشب الصندل الصلب الفواح بالرائحة العطرة حين تمر به سريعًا أو حين تضع يدك عليه. في جانبي المسجد الشمالي والجنوبي، منمنمات وحفر وألوان إسلامية هادئة مطفية لا تصدم العين ولا تثير المشاعر، فقط تضفي على المصلي تلك الروح المتبتلة للخالق خلال الصلاة أو خلال رفع الكفين والدعاء.

كان فيصل على صغره - ما شاء الله - يتهجد كثيرًا. بقية الإخوان في رمضان، العشر الأواخر وليلة القدر، يتربعون على الأرض جنبًا إلى جنب مع السواقين والخدم المسلمين. الأطفال في أحسن الملابس وأنظفها والطيب يفوح من أجسامهم. فيصل أكثرهم حركة وأناقة وبشاشة. أبوه كان يصحبه للمسجد معه. وجوه بررة يخشعون للخالق لا يبغون نفعًا من أي نوع. في الربع الأخير من الليل حتى صلاة الفجر قراءة للقرآن، دعاء بأن يرحم الله الوالد والأجداد والإخوان والأصدقاء والمسلمين كافة، وأن يبعد عنهم الأخطار ويشملهم بعفوه ورضاه. وفي اليوم التالي صوم لآخر النهار. صوم عن الأكل وعن أي لفظة سوء أو نية باطلة. مرضاة الله الذي يُحِبّ من عباده المتقين لا يفرق بينهم لون ولا جنس ولا عمر ولا جغرافيا.

في الطابق الأول أقام عبد اللطيف وزوجته وأبناؤه، وفي الطابق الثاني الأولاد، ونحن البنات مع أمهاتنا الثلاث في الطابق الثالث. يأتي عبد اللطيف في الليل منصتًا يدب دبيبًا يفتح غرفنا الممنوع إغلاقها، يفتح دواليب ثيابنا فإن وجد دولابا غير نظيف أو مرتب يرمي كل ما به على الأرض ويوقظ صاحب الدولاب ليقوم ويرتب ملابسه. يصحو مبكرًا. يصلي الفجر. يفطر مع الأولاد يومًا ومع البنات يومًا. الطاولة شديدة النظافة والجميع في أحسن هندام وأناقة. لدينا أربعة طباخين ورئيس سُودَانِي للسفرة تساعده حبشيتان. وكلهم في لباس خدم موائد الطعام كما في الفنادق الكبيرة. لم نكن نتحدث قبل أن نُسأل. يعرفنا جيدًا كما لو كان داخل قلوبنا. قلما يضحك، لكن وجهه دومًا بشوش هادئ حازم. لا يقبل عذرًا في النظافة أو الدراسة أو الأدب والكياسة. "الدين المعاملة" كان يرحمه الله يكرر على مسامعنا ويشدد دائما على المأثرة الإسلامية "الكلمة الطيبة".

حين يسافر نتأخر في النوم حتى العاشرة أو بعدها قليلا. نجلس في الحديقة معًا البنات والأولاد. أعمارنا مختلفة والكبار منا لا يحبون جلوس الصغار معهم. يوبخونهم ويبعدونهم. فيما بعد عرفت أنهم يتحدثون في أمرين، الزواج والعمل. الأولاد حين ترتفع أصواتهم فالحديث لا بد أن يكون عن كرة القدم. فقط فيصل يجلس في ركن هادئ في المزرعة بعيدًا عن الضوضاء وركض الأطفال وصراخهم ولعبهم. هناك جنب طاولة عليها نور قراءة وزجاجة ماء غازي والكتب والمجلات تتغير من يوم لآخر بعد قراءتها أو تصفحها. بدون نظارات يقرأ ولا تكل عيناه . يقرأ بالعربية طبعًا والإنجليزية والأسبانية واليابانية. يضحك وهو يقرأ. يتمشى. بعد زواجه من سلمى بنت سيف الفرجاني وهي حامل للمرة الثانية يجلسان على مقعدين متقابلين يقرآن، وبعد ولادة ابنهما محمد، عربة أطفال ينظران إليه فيها ولا يقبلان مساعدة خادمة له. يقولون.. عينك على حلالك دواء.

توفى عبد اللطيف بعد خطبة فيصل في الجامع الكبير بحوالي شهرين. الإحراج وإحساسه بالفشل في تربية إخوته كما كان يريد قضيا عليه. أخذت ابنتي وولدي وذهبت عند الوالدة. كانت حزينة أكثر من حزنها عند وفاة الوالد. عبد اللطيف كان عمود البيت وما كان يحسن بإخوته أن يخذلوه. اثنان في غوانتانامو وخطبة فيصل في الجامع. وفوق ذلك وفوق فوق كل ذلك هروب هنوف الذي نسيناه وما نسيناه. ظل في القلب مدفوناً يخزّ كلا منا بين الحين والآخر كلما دعا الداعي. سكتة قلبية. عاش عبد اللطيف ستون عامًا كان وزيرًا للأشغال منذ عشرين عامًا والتربية بالوكالة منذ أربع سنوات. محل ثقة الأمير وعطفه. صديق عمر لأكثم الابن الأكبر للأمير. في الصبا في المدرسة وفي مصر وفي رحلات الصيد في كينيا وجنوب المغرب. إخلاصه وطاعته للأمير، مثل أبينا سعد، لا تشوبهما مصلحة أو حب ذات. الواجب واجب. البلاد بلادنا والأمير أميرنا.

دائمًا، وخاصة في العشر الأواخر من رمضان يتسلم فيصل الصدقات. قوائم طويلة من الأقارب. أقارب الأقارب. أنساب الأنساب، الجيران وأقارب الجيران، لا تعلم اليد اليمنى ما تنفقه اليسرى. بعد صلاة الفجر يذهب لبيوت المحتاجين ذوي النفوس العفيفة. في السيارة المرسيدس زرقاء اللون السريعة المكشوفة السقف والقرآن يُرتل بصوت الشيخ المنشاوي نَقِيًّا صافيًا.

الحسرة عند فيصل، بل عندنا جميعًا هي افتقاد أقارب الوالدة لولوة الوهابي. ليس لها أهل. ربما لهذا لم تتزوج ابنتها حصه. عبد اللطيف كان يتابع زيجاتنا كلنا فيما عدا شقيقته حصه. لم يمنعها بعد خطوبتها الأولى. ربما تحدثا بالموضوع. وربما عبد اللطيف لم يعد من مصر بعد التخرج لهذا السبب أو لغيره.

الوالد تزوج الوالدة لولوة الوهابي في الهند. في حيدر آباد. جميلة مطلقة دون العشرين شعرها طويل بضفيرتين حتى عند وفاتها كانتا تصلان لقرب الركبة ولكنتها تركية حجازية. أبوها كان يتاجر لأبي أو مع أبي في الخيول العربية من إسطنبول ومن الجزيرة. خطبها أبي من أبيها بعد سماعه عن جمالها من أحد أصدقائه. تزوجها وأنجبت في الهند عبد اللطيف وحصه. تعلما الأوردو والإنجليزية. والوالد – يقولون - كان يكتب شعرا باللغة الأورديّة. يقولون شعر غزل وحماسة ووطنية كثير. كره الغربة وشَغَلَهُ الحنين للوطن والأهل والأزقة والأصدقاء. وأختنا فاتن ظلت أغلب الوقت عند جدتها لأمها الهندية وبقيت لا تعرف العربية وحتى الآن بعد أن عادت معنا وتزوجت مرتين لكنتها الهندية ظاهرة في كلامها.

نحن لا نعرف الأوردو. ولم يحتفظ أحد بمخطوطات الوالد. ربما هو تعمد ذلك في كبره. أبوها عاد لبلاده. لا نعرف تركيا أو مصر أو الحجاز. بقيت عند والدي دون أهل. لا أحد يتحدث في الموضوع. سمعت أن والدي رفض أن تسافر لترى أهلها مدة 15 عامًا. كان يخشى ألا تعود. ألا يسمحوا لها بالعودة. أن يزوجوها لغيره. في الهند كان هائما بها. وربما لأنه لا يعرف لأبيها عنوانا.

لم يسمع أحد خطبة فيصل . فقط الإنترنت تروي ما قال. تؤلف ما تؤلف. كان بجانبه ابنه محمد الذي لا يزيد عمره عن العاشرة. وقف بعد صلاة الجمعة وابنه بجانبه. قال "أعوذ بالله من سخط الله" هكذا بدأ خطبته كما في كل مواقع الإنترنت. وطار صواب كثيرين واعتبروه دليلا على أشياء وأشياء. يقولون "لم يبدأ بالبسملة". وكرر في خطبته "حتام" أي حتى متى؟ لم نسمع عنه ولا عن ابنه بعد ذلك اليوم. اختفى. بلعته الأرض أو السماء هو وابنه محمد. صُوره في الإنترنت، ابنه واقف بجانبه في هندام نظيف وعيناه واسعتان يمسك جلباب والده.

كان وزير التقوى والإصلاح غير بعيد عنه في الصلاة. وهو صديق قديم وزميل لعبد اللطيف. طويل عريض واسع العينين ذو لحية صغيرة أنيقة وأحاديثه في الراديو هادئة ووجهه على التلفزيون جميل ومحبب. لم يستسغ كلام فيصل. وقف قبالته ينظر ويسمع مذهولا، وحين قال فيصل - كما ورد في معظم المواقع - يمنحون الأراضي؟ ملك أبيهم؟ أولا يعرفون أن عمر بن عبد العزيز أخذ صكوك الأراضي والأملاك من بني أمية التي منحها لهم الخلفاء المروانيون، ومزقها وأعاد ملكيتها لبيت المال؟". مد الوزير يده لجيبه ورفع التليفون الجوال وتحدث حديثًا مقتضبًا وهو ينظر إلى فيصل دون أن يبدو عليه أي تأثر ودون أن ترمش له عين. كان المصلون هلعين خائفين مستغربين لكنهم كانوا ينصتون دون أن ينبسوا بكلمة أو همهمة. خرج المصلون وفيصل وابنه معهم، ولم يره أحد أو ابنه بعد باب المسجد.

قبل أكثر من عشر سنوات أخي غير الشقيق خالد أسس بنكًا. حصل على رخصة البنك من الأمير بِرًّا بعبد اللطيف وتقديرًا للعائلة وخدماتها. أدخل خالد مساهمين كثيرين معه كمؤسسين وطرحت أسهم البنك في البورصة وكان قد خصنا أنا وزوجي بمليون سهم تأسيس مّولَها من معارفه في البنوك الأخرى، وبعد سنتين كانت ثروتنا بالملايين دون أن نستثمر فلسًا واحدًا. وكذا كل إخوتي وأخواتي خصهم بمبالغ مختلفة.

رأيت خالدًا بالأمس فقال لي "نحن عائلة كبيرة فيها العاقل وفيها المجنون" وطمأنني واضعًا يده فوق كتفي "المهم أنت وزوجك بخير!!" قلت "نعم" لكن أمي سألته من المجنون؟ أخوك فيصل أم أخوك ناصر الذي أغوى ابني أحمد معه للشيشان والشيطان؟ جلس خالد مطرقًا ينظر في وجوهنا جميعًا وبعد دقائق، والصمت مخيم على الجميع قال "الله الهادي" وقام.

ما الشيشان؟ لم نسمع بها من قبل. ذهب ناصر أولا إلى سراييفو. شاهد على التلفزيون قتل 8 آلاف أو 10 آلاف أو أكثر من أبنائها في سبرنشيا. جرَّد جنود الأمم المتحدة الهولنديون السكان من أسلحتهم ثم تركوهم للقتلة في تلك الليلة، ودفنوهم ليلتها في مقابر جماعية، وتم اغتصاب الفتيات وإذلالهن والتنكيل بأمهاتهن. أفظع وأبشع من صبرا وشاتيلا. نفس الإخراج دون شفقة أو رحمة أو ندم. لا نعرف من يعلم من. الله يخزيهم. بعد سبرنشيا انطلق ناصر للجهاد تاركًا زوجته وابنائه ثم بعد ثلاث سنوات لحق به شقيقي أحمد في الشيشان. يذهبون للعمرة ثم لا يعودون، فقط يتركون رسائل يذكرون فيها أنهم قد يعودون دون ذكر لجهة سفرهم. كلاهما جاء اسمه في قوائم غوانتانامو. خوفًا عليهما لا نريد أن يعودا. زوج أختي فاتن قبل طلاقهما كان يقول لأمي "أخذتهما النخوة".

الطائرات الأمريكية على مدى 24 ساعة تطير في أرجاء البلقان - وتُنقل مباشرةً على الفضائيات - لتلتقط طيارًا أمريكيا سقط بطائرته حتى لا يعتقل وتنجح في مهمتها، وتتباهى الفضائيات بالتكنولوجيا والكفاءة العسكرية الأمريكية وناصر يهبّ واقفًا وجهه محمر، مُقَطّب الجبين: "وآلاف في سبرنشيا ليس لديهم تكنولوجيا!!" يقف عند باب الغرفة ينظر للسماء "ليسوا من بني آدم".

عادت فاتن لتعيش عندنا مع أولادها. ولم يعطها زوجها شيئًا على الإطلاق. الحمد لله نحن لدينا كل شيء وهي لا تحتاج له لكن الواجب واجب. تزوج ثانية وهي تزوجت بعد عامين وأراها مرتاحة، أما السعادة فهذا أمر آخر لا يعرفه إلا هي وعلام الغيوب.

  

 

(2)

في بولدر كولورادو كنا ستة إخوة في نفس الجامعة وفي كليات مختلفة وفي بيت واحد كبير ذي طابقين. أنا درست الهندسة الميكانيكية ومشعل تجارة وعبد الله فيزياء ومحسن إخراج تلفزيوني وأحمد ظل ينتقل من علم لآخر وعاد دون أن يحصل على شهادة، أما فيصل الذي كان آخر الأشقاء التِحاقًا بنا في بولدر فدرس الماجستير للغتين الأسبانية واليابانية بالإضافة للإنجليزية. هو فقط حين وصل طلب لنفسه أكبر غرفة. ليس فقط لأنه أكبرنا لكنه أصر على ذلك وكنا تعودنا على الإذعان له فقد كان دَائِمًا بلا أطماع أو أهداف شخصية من أي نوع. يُطهِّر الأرض حين يمشي عليها. يسمون أمثاله في أمريكا "قديسين" أقام في جانب الغرفة مصلى خاصا له ولمن شاء أن يصلي منا. كان لا ينقطع عن الصلاة في أوقاتها والصوم في رمضان والتهجد ليلا.

كنا ذات مساء في عطلة نهاية الأسبوع نشوي لحمًا في الحديقة ونشرب بيرة، ومع كل منا صديقته إلا فيصل طبعًا، كان يشرب الماء ويكرر ضاحكا وزجاجة الماء بيده "يشرب الماء العقلاء". لا يدخن ولا يكذب أبدًا أبدًا. والبنات يهمن به لجماله وأناقته. أي شيء يلبسه يكون جميلا. شارب خفيف ولحية صغيرة مهذبة وحاجبان كثان ورقبة مليئة طويلة، وشعر رأسه يصل إلى كتفيه. مرة أوقفته امرأة أمريكية أنيقة وهو يصطاد سمكا بالسنارة على الجسر، تبدو سيدة أعمال. تحدثت إليه . عرضت عليه أن يكون عارض أزياء. أعطته رقمها وعادت لسيارتها. كنا في البيت أحيانا نتندر عليه ونمشي "مشي القطة" مقلدين عارضي الأزياء. أزرار القميص مفتوحة. قبعة. وأحيانا حذاء بدون جوارب. وهو يهزأ بنا ويسخر منا.

ذات يوم قالت ليسا صديقة محسن سأقبله، ووافقناها متهامسين متآمرين والخمر تزيدنا انتعاشًا وتآمرًا ثم - وهي تترنح وبيدها كأس - تقدمت نحوه وهو ينظر لها وجلا ولعله متحسبًا الأسوأ. تقدمت نحوه وقالت شيئًا ثم أحاطته بذراعيها وقبلت رقبته. كان طويلا، وقفت على أصابع قدميها وأخذت تقبل وجهه وهو يبعد شفتيها عنه ويتملص من ذراعيها، أبعدها وهو يضحك ووجهه يزداد احمرارًا ثم نظر لنا عابسًا ودخل الحمَّام وهو يستغفر الله. غسل وجهه ويديه وعـاد للحفلة. قال "يا محسن احفظ صاحبتك" وفي الغد أبدى امتعاضه "أنا لا أعترض على تصرفاتكم فلماذا تتدخلون في حياتي؟." كان ودودًا مهابًا قَوِيًّا.

في الجامع بعد الخطبة، كما سمعت، كان يشير بإصبعه نحو وزير شؤون التقوى والإصلاح بأن وعاظ السلاطين هم المسئولون عن تخلف الأمة. وفي أحد مواقع الإنترنت قرأت أن الوزير - وكان في أواخر الخمسين - يصحب الأمير شتاء لمنتجعات النمسا الثلجية يتزلج مع الأولاد وفي الصيف إلى ماربيا يتزحلق في الماء معهم. وفي موقع آخر صور لبيته قبل أن يصبح وزيرًا وفيلته الأنيقة بعد أن أصبح وزيرًا. فيلا كبيرة ومجلس فخم تظهر في الحيطان مكتبة مليئة بالكتب الضخمة متشابهة التجليد، وفي وسطها شاشة تليفزيون كبيرة يديرها من بعيد. في موقع آخر قيل إنها هدية من الأمير، وفي موقع ثالث قالوا إنها من الرشوة.

تمنيت وأنا في غوانتانامو أن أسمع من فيصل أو عنه. كان يضحك منا في بولدر ونحن نحثه على أن تكون له صديقة ويكرر ضاحكًا "ألم تسمعوا بالعفة؟" ويبتسم بثقة "هل أنا خلقت هذه الكلمة أم أنها موجودة في القواميس قبل أن أُولد" وحين ترجمنا لليسا ما قاله استغربت وقالت "أيريد إعادتنا لِحزام العفة الحديدي؟". يقول هازئًا بنا وبيده كأس الماء "يا مجانين ستموتون حتى الثمالة".

ليسا لم تكف أبدا عن مناقشته وتحديه. أحب جديتهما. كليهما. واحد يمين والآخر شمال. شرق وغرب. تحد في النقاش المسهب المبطن والصريح. حرارة النقاش. لا تكف عن استفزازه. يرد الصاع صاعين. يتبارزان وكلاهما جميل ومعتد بأفكاره. لم أكن ولا إخواني وصديقاتهم مثلهما. كنا نسعد بالحياة. نعيشها. بينما كانت الأفكار والتفلسف والدين سيوفًا لهما في المبارزات. ليسا مثلي تحب الحياة بكل مباهجها. وتحب السجال. تناطح الأفكار. عادة إنجليزية لا أدري ممن ورثتها. عادة عميقة ذكية وماكرة.

 

(3)

ذهبنا للقاهرة نحن البنات، أنا ومنى وعلياء أولا ثم التحقت بنا مزنة ونوره وما كنا نود مجيء هنوف. لكنها جاءت وهي لم تكمل الثانوية. لأنها تركت الدراسة من سنين. كنا نذهب للجامعة، وهي تخرج في النهار تتجول وترتاد السينما مع المربية الإيطالية مدام فالكوني التي أتـى بها أخي عبد اللطيف من روما لتشرف علينا لأنها من بيئة كاثوليكية محافظة وتجيد الإنجليزية. كانت حريصة على هندامنا ودراستنا، وفي كل يوم في الثامنة مساء تُهاتف عبد اللطيف وتعطيه تقريرًا عن كل منا. عبد اللطيف لا يترك أمرًا إلا ويسألها عنه. حين كنا في حديقة الحيوانات كانت هنوف تصور الخرتيت وهو فاتح فمه لكن حين طبعت الصور رأينا دائمًا صورة شاب وسيم قالت لنا اسمه فوزي.

أصر عبد اللطيف على عودتها بعد أن عرف الخبر من مدام فالكوني التي صرخت بالتليفون حانقة "ليس الخرتيت. كذابة. شاب مصري. أنا غير مسؤولة عنها". اختفت هنوف من البيت الذي نسكنه. لم نعرف عنها أي شيء لمدة أسبوعين. بعد ذلك عدنا جميعًا دونها. معنا فقط رسالة منها "لن أكون أسيرة العائلة"

كان حزن الوالدة هيا الدبسيِ عظيمًا وعبد اللطيف لا يتحدث في الموضوع. تزوجت فوزي. أبوه عنده صيدليات. يُقال عنده عدد منها. فوزي وهي فيما بعد كانا يعملان معا في الصيدلية، أسماها "صيدلية هنوف". حتى بعد أن أنجبت ثلاثة أبناء. لا تتصل بنا. ممنوع تمامًا. ونحن لا نتصل. ماذا نقول وما الذى نسألها عنه؟ ماذا لبست؟؟ ماذا أكلت؟ هل تريدين شيئًا منا؟ هي تخلت عنا. لا تريد عاداتنا وطبائعنا. لا أحد يعجبه تصرفها. في حلوقنا غصة جميعًا أولادًا وبنات. حتى أمهاتنا. لا رأي لمن لا طاعة له.

سَمعتْ بوفاة عبد اللطيف. لها صاحبات وناقلات أخبار. وصلت هلعة من القاهرة دون زوجها. وسمعنا بذلك وقلوبنا وجلة. مصيبة لا مصيبتان. خاصةً الوالدة هيا الدبسيِ كانت تتمنى لو ترى ابنتها. عند باب منزلنا كان خالد ينتظرها وحين نزلت من التاكسي مد يده نحو شعرها. سحبها من شعرها وأعادها للسيارة. اذهبي من حيث جئت. عادت بالتاكسي من حيث أتت. وحصه وهي تتمنى رؤيتها أسرعت نحو غرفة نومها أقفلت الباب ولعلها كانت تبكي.

 

(4)

منذ أن أخذوهما لغوانتانامو لم أسمع عنهما. في كوسوفو وفي الشيشان كانا يتصلان بين حين وحين آخر بسرعة وبتلفون صوته مقطع وغير واضح. كانوا يقولون كل شيء تمام يتصلون بي أنا سراً ولا أدري إن كانوا يتصلون بغيري. دائماً أحمد يمازحني "تزوجي يا حصه.. أنت تكبرين.. لا تكوني عانس. ليكن لك أولاد وأنا أضحك معه "ثم يهربون مثلكم إلى هذه البلدان التي لا نعرفها ويحترق قلبي" أرى فجيعة أمي على ناصر وأحمد. وحرقة قلب أخي عبد اللطيف وجميع الأخوان. زوجة ناصر ما عادت تأتي للمزرعة. أبناؤها فقط يأتون معنا. لا نعرف عنهما شيئاً. أخيراً عرفنا أنهما ضمن قوائم غوانتانامو.

ذهبت للقاهرة في زواج عبد اللطيف. أنا وأمي. لم يكن أبي سعيدًا بذلك. لم يرغب بذهابنا. كانت أمي تنظر له بغضب. لم تحاول أن تجامله أو ترضيه. شغف بها في الهند حين تزوجها وكتب بها قصائد عديدة بالعربية والأوردية. أحلى ليالي العمر. أفخم الملابس والأزياء والعطور. وعربة بحصانين. كانت ملكة. أنا وأخي عبد اللطيف درسنا في حيدر أباد. بالإنجليزية. وأمي تقرأ الجرائد وتحكي لنا عن المظاهرات واقتتال الهندوس والمسلمين وما فعله الإنجليز. زوّجها أبوها لأبي وسافر. لم تسمع عنه بعد ذلك. ربما مات. سمعنا أنه نزل الإسكندرية.

أمي تود أن تزور الإسكندرية. كان أبي يكره أن تسافر. يعرف أشياء نحن لا نعرفها. فرحت حين قرر عبد اللطيف أن يسافر للدراسة في مصر. قالت له أبحث عن أخوالك في الإسكندرية. ضحك عبد اللطيف مواسيًا "ما اسمهم؟" قالت "لا أعرف سمعت من أبيك أن أبي تزوج في الإسكندرية.. اسأل عنه.. أسأل عن التركي الذي يتاجر بالخيول.. أريد أن أرى طرفًا من عائلتي".. تمسح جديلتيها بيديها. طويلة القامة وفي عينيها زرقة السماء الصافية. زرقة عيون القطط. تقول بصوت ناعم حزين "كل الناس لهم أخوال إلا أنتما.." تغار من الوالدة منيرة الزيدان، أبناؤها أكثر. وأبي بعد أشهر من عودتنا من الهند ودعوة الأمير للعمل معه تزوج الزيدانية لا لجمالها فهو لم يرها من قبل. تزوجها للنسب. للأموال. للعلاقات. هل كانت أمي شهوة.. نزوة.. فرح أبي بالجمال.. وبصفقة بثمن بخس دون أهل أو أقارب. دون أحباب يسألون عنها ويستحي منهم.

في الشارع والمدرسة يضحك الأولاد والبنات منا حين جئنا من الهند. كنا أحسن منهم. أنظف وأكثر أناقة ونعرف الإنجليزية. يضحكون من لهجتنا. من طريقتنا في الكلام. لغتهم العربية أحسن. عانيت أنا وعبد اللطيف حتى أجدناها مثلهم. أمي لم تستطع أن تغير لهجتها أو طريقتها في الكلام. لابد أن أبي مثل أقرانه وزملائه وأقاربه أراد الزواج مرة أخرى. الزنا حرام. الحلال الزواج. العفة. الحافظون فروجهم والحافظات. كما في القرآن الكريم. وفي المدرسة كنت من البنات الطويلات ومثل أمي أتعطر كل صباح ومثلها أمشط شعري وأجدل الضفيرتين السميكتين.. تجدلهما أمي غالباً وأحياناً زوجة الطباخ عمر. في الليل قبل النوم. البنات ينظرن لفرعي ورقبتي ورموش عيني مبهورات.

مجيء أبي لبيتنا قل كثيرًا. هل أمي هي التي هجرته في الفراش. كانت تنظر له بغضب وتحدثه بجفاء وتسخر وتتمنع. والزيدانية تأتيه بالنسل الواحد بعد الآخر. لم يعد في بيتنا أب. ولا زوج. أمي وعبد اللطيف وأنا. أمي تقرأ لنا القرآن. تقرأ شعر إقبال وتترجم لنا. الزيدانية أمية لا تقرأ. نحن في بيت وهي مع إخواني في بيت قريب. وأبي المهيب يبعث لنا السائق يوميًَّا ليذهب معه الطباخ عمر يشتري لنا ما تريده الوالدة. أنا وعبد اللطيف نرضى بحكم الدهر. نتألم لأمنا. يقسم عبد اللطيف أنه سيتزوج امرأة واحدة. الألم في القلب. لا بوح. في بيت الناصر لا بوح لا بكاء لا غضب.

أما زواج أبي بهيا الدبسي التي كانت تصغره بأكثر من عشرين سنة فقد أشعل النار في قلب عبد اللطيف وحدثت بعد حين تلك المشاجرة اللعينة بينهما وقرر عبد اللطيف على أثرها أن يذهب للدراسة في مصر. والدي سعد بن كعب الناصر لم يعترض بل سهل له كل الأمور. أدرك ما يعانيه عبد اللطيف وأوصاه "إن استطعت ابحث عن أخوالك" الوالد صار يشعر بشعور أمي ولا يتكلم معها إلا قليلاً. يتصل عبد اللطيف بنا بالتلفون بين الحين والحين. كل أسبوع. كل أسبوعين. يطيل الكلام. لا يريد العودة يضحك معي "متى تتزوجين؟ ألم يخطبك أحد بعد؟" ويضحك مع الوالدة "والله العظيم وجدت أخوالي. إنهم كثيرون وأغنياء لكنهم لا يعرفونك.. أأنت متأكدة من اسم والدك" كانت تضحك وتزجره بالهاتف "يا مشاغب.. ركز على دراستك. أحسن من هذا الكلام السخيف". يهاتف إخوانه لكنه لا يتحدث مع أبيه. فرحت أمي كثيرًا حين قال لها عبد اللطيف بالهاتف "سأتزوج" لا تريده أن يتزوج من هؤلاء النسوة الثرثارات الطيبات فارغات العقول الأميات الولودات. تغار منهن دون احترام لهن. حين أجلس معها تتندر على أقوالهن وملابسهن. لعب للرجال. تقول "أنا كنت لعبة لأبيك. كان زوجي في الهند. كنت قرة عينه. ترفع ثوبها عن ساقها. أنظر للعروق الخضراء والزرقاء مخفية تحت الجلد الأبيض الناعم الشفاف "كان يقبل ساقي" تتأوه "ذاك كان في الهند.. كنت أميرة. أحسن من الأميرات.. كنت ملكة. يحوم حولي ولا يبحث إلا عما يسعدني." أمي أنصع بياضًا. وهي تقول لي أن لوني أجمل، مطعم بالأصفرار، ليس تركيا خالصًا، بل خلطة التركي بالعربي. تقول لي دائمًا أن شعري أكثر كثافة، ولأنه شديد السواد فهو حين ينسدل على ظهري يكون كالليل يغطي النهار. وتحسدني على الشامة التي في ظهري. عند كتفي الأيسر. ترفع شعري فوق رأسي تنظر للشامة عند كتفي الأيسر. لعلها تتمنى لو كان عندها مثلها.

ذهبنا لمصر أنا وأمي. الوالد أعطاني مالاً كثيرًا وقال لي "لا تتأخروا" وأنا أرى كثرة الناس. جموعهم. أنواعهم. ومشيهم. وصراخهم. تذكرت، أنا وأمي، حيدر أباد. النيل بهرنا. واسع. نهر واسع. والناس في القوارب يغنون ويضحكون, بهرنا النيل. يأخذنا عبد اللطيف وخطيبته سناء التي تدرس الطب كل مساء لمطعم مختلف. الحياة هنا غيرها عندنا. وددت لو أعيش طول عمري في مصر. هل تمنت أمي ذلك. دائمًا في عينيها حنق. هشام أخو سناء تخرج منذ سنتين مهندسًا كهربائيًّا يصحبنا. حين تتعب الوالدة نأخذها للفندق ويصحبني هشام للمقاهي والأسواق. مثل أبيه عبد الموجود قوي البنية كثيف الشعر طلق اللسان. مرة رأيته ينظر لي. رأيت عينيه تغوصان. خفت. ارتعش قلبي. ولم أعد للخروج معه لوحدنا. حاول مرات عديدة أن نخرج معًاْ. لم أقل شيئًا لعبد اللطيف أو لأمي. في الفراش أفكر. بعد زواج عبد اللطيف بأسبوع عدنا.

خطبوني مرات ومرات. حسب ونسب ومال ونفوذ في ريعان الشباب. لن أتزوج. لا أريد الزواج. أمي تسألني، وأكرر حتى لا أغضبها "إذا كتب الله تزوجت. أنا سعيدة كما أنا". سناء أطلعتني على صور لهشام وزوجته وأولاده. حلوين. وفي ليال طوال كنت ساهمة أفكر وأفكر قلما أبكي في الفراش وأقوم أصلي. لم يكتب الله لي الزواج. هكذا الدهر والقهر. إذا لم تكن لي حرية القرار فلم الزواج. كنت أعرف أن هشام يريد زواجي.

بعد شهر من عودتنا من مصر "قفلت" موضوع الزواج مع نفسي. قفلته ورميت بالمفتاح للجحيم. عبد اللطيف وأمي هما دنياي. أنا سعيدة بذلك. أعتني بإخواني وأتصدق. فيصل قريب للقلب. أحببت وجهه وأحاديثه. يحب أمي كثيرًا وهي تحبه. تسمعه أحيانًا شعرًا بالأوردية وتترجمه له ولصديقه محمود الذي لم أنقطع عن إيصال الصدقات له بيدي. محمود يوصله للبيت بعد صلاة الفجر والرياضة التي يمارسونها وهم أطفال صغار. وبعد أن شبا كان محمود يصحب فيصل أحيانًا معه، لنجلس مع الوالدة.

هشام قال لأخته سناء بعد عودتنا من مصر أنه يود أن يخطبني. عبد اللطيف لم ينم تلك الليلة. لم يجرؤ على التحدث لوالده الذي ما كان يكلمه أصلاً. والد هشام غضب غضبًا شديدًا. لا أدري ما دار بينهما هو وعبد اللطيف. سناء أخبرتني أن عبد اللطيف - وهي حامل في مولودها الأول - قال لها "لقد سمعت من أبيك ما لم أتخيل أن أسمعه في حياتي. سمعت الكثير. هو مثل والدي لكنني سمعت ما لم أرضَ أن أسمع: حصه لا يمكن أن تتزوج هشام. لا يمكن. هذا مستحيل". سناء قالت له لماذا لا تستشيرها أو تستشير والدك" غضب عبد اللطيف واحتد هو الذي لا يرفع صوته أبدًا ولا يحتد. "أقول لوالدي! هذا مستحيل. يكفي سافرت دون رضاه وتزوجت دون استشارته. هناك حدود. لن أكلمه بهذا الموضوع. هذا مستحيل..

قال عبد اللطيف لسناء "لن أستطيع النظر في وجه أخيك هشام.. هو مثل أخي لكني لا أستطيع.. ولا أستطيع أن أرى والدك. لقد أسمعني ما كفاني. كنت عنده مثل هشام. أكرمني. ووثق بي. لكنني سمعت ما لا أرضاه حتى من والدي". قالت له سناء "وأنا؟" كانت جالسة على السرير تضم ساقيها إلى بطنها وهي حامل وتتفرس فيه "أنا لا أعرف غيرك" تقول له. نظر لساقيها البضتين والحمل تخفيه بأفخاذها وتسند ظهرها بيدها على الفراش. نظر لها صامتًا ثم قال "أنت زوجتي وأم أولادي.. وكان يشير لبطنها.. لكنني لا أستطيع النظر لوجه هشام. تزوجتك ولا أرضى تزويجه حصه. لا أستطيع أن أنظر له العين بالعين. أما أبوك فكفاني ما سمعت. وأنت حرة." سألته سناء "ماذا تقصد؟" وألقت برأسها على الوسادة ومدت قدميها. بطنها يرتفع عن مستوى جسمها. منفوخ بالمولود القادم. تنظر للسقف. أخبرت سناء هشام ووالديها، وبعد أربعة شهور توفي الوالد سعد الناصر. حملا حقائبهما عبد اللطيف وسناء على الفور. الألفة التي نشأت بين سناء وأمي. بيني وبين سناء. بيني وبين عبد اللطيف وسناء. ومثل أمي ظلت في العائلة دون أن تدخل في العائلة.

مات أبي. وعبد اللطيف خير أخ وأرحم أخ وأشفق أخ لا علي فقط أو على أمي بل على الجميع. جميع آل الناصر. ذكورًا وإناثًا. صغارًا وكبارًا. حتى الحراس والطباخين، المربيات، الخدم، السواقين كلهم يهابونه ويحبونه ولا يكلمونه. دقيقًا واثقًا حريصًا قدوة كان للجميع. مسئولية العائلة تعافها الجبال والمحيطات هو تحملها دون ملل أو منن. نحيفاً ولم يفقد أبداً أبداً أناقته واستقامة جسده وسرعة مشيه. ولا تلك الأزرار الذهبية في الثوب وطرف الأكمام.

أرسى الأصول وها نحن الآن أكثر من ستين فردًا في المزرعة رغم العواصف والزوابع والغرائز والموت والمحن. ها نحن عائلة سعد بن كعب الناصر نحمد الله ونشكره على ما أعطانا. نطيعه ويعطينا. نتصدق ونساعد المساكين والفقراء حتى بعد موت محمود.

بعد مقتله وجدت طريقي. أنا بنفسي وجدت الطريق لبيتهم. ذهبت لزوجته واحتضنتها واحتضنتني وابنتاه مثل وردتين. بكينا معًا أنا وهي. ما أرقها سوداء ناعمة حلوة المحيا رهيفة الخصر والخدود. شربنا شايًا وقلت لها أنا أختك. أنا أخت محمود وهي تمسح دموعها قالت "هذا هو الجهاد" قلت "مات وهو يصل الفقراء أنا كنت الوسيلة" قالت وهي تكفكف دموعها "أنت وأمثالك السبب.. أنتن السبب هو الوسيلة... هذا هو الجهاد" "هذا هو الجهاد" أعطيتها تلفوني وقبلت ابنتيها. محمود مثل فيصل يصل الفقراء، يبحث عنهم. الجهاد. التضحية بالنفس بالمال بالراحة.

لم أنقطع عن وصل زوجة محمود كما لم أنقطع من قبل عن وصل محمود رغم كل ما كنت أسمع عنه من أقاويل وأقاويل. زنادقة ومخربون. كلمات نسمعها عن كل من لا يرضى. نحن الرعية. نحن القطيع لكن الله ألهمني أن أعطي محمودا ما أستطيع. كل ما أستطيع. أحيانًا يعطيني كتبًا دينية أقرؤها.

يقولون تلك هي المصلحة العامة. مصلحة الأسرة. أخي عبد اللطيف يقول ذلك. يقوله بأساليب مختلفة في صراحة لأخوته وهو يربيهم صغارًا، وربما حتى حين رفض أن يسألني أو يسأل أبي عن إمكان تقدم هشام لخطوبتي. كانت المصلحة العامة في ذهنه. قتلتنا المصلحة العامة. مائة أو مائتا شخص يحددون لنا المصلحة العامة. أسرارها في الأدراج.. المصلحة العامة شيئ هناك لكنه غير ملموس. حتى وأنا في هذه السن، حتى محمود وأخي فيصل واسع المعرفة والثقافة لا يعرفان المصلحة العامة. المصلحة العامة سر خاص. الصفقات والأسرار كلها في درج المصلحة العامة. نحن يجب ألا نعرفه. شعرت عند زواج هنوف بالفخر في داخلي. أشجع مني. أمها بنت الدبسي المدللة. وأمي انتصرت لهنوف حين تتحدث مع والدتها هيا الدبسي. إنها غير أمي من عائلة كبيرة ومعروفة. وأنا غير هنوف. أنا في نظري دومًا عبد اللطيف وسعادته.

هنوف اختارت وتصرفت. غيري. لم تسأل عن أحد ولا عبد اللطيف. سعادة عبد اللطيف والوقوف بجانبه ومساعدته هي كل شيء عندي. كل مبتغاي وأيضًا لم أكن لأترك الوالدة لوحدها. والعانسات والمطلقات في عائلتنا اليوم كثيرات. تعلمن، مستقلات، وسعيدات هن يخترن أزواجهن. هن يخترن أنواع العمل. يسافرن معًا. يسافرن للأعمال في كل أرجاء الدنيا. يجلسن معًا في المقاهي والمطاعم وبعضهن يدخن سجائر ويدخن الشيشة علنًا.

أنا تألمت شهرًا واحدًا بعدما سمعت بخطوبة هشام. وبعد ذلك لم يخطر ببالي الزواج أبدًا. انتهى الزواج بالنسبة لي. لا أريد خدمة زوج يأمرني وأظل أنتظره. أنا حرة الآن. عائلتي هي سعادتي. والبنات اليوم حين يتزوجن سنة أو أقل يطلبن الطلاق. يعشن أحرارا. من يريد خدمة الرجل!. لا يردنها. النساء كن لعب للرجال. اليوم الزواج مصلحة. صفقة اجتماعية مالية عائلية. من صبر استمر. ومن لا يصبر فالطلاق حل سهل. أنا سعيدة كما أنا وليست عندي مشاكل. أنا مسئولة عن هذا القرار. لو أردت لتزوجت. كرامتي وأهلي أهم عندي. ما هذا الزواج الذي يقولون لك فيه لا. أو أهرب مثل هنوف. أنا لا أريد أن أظل بدون أهل. أنا حصه بنت سعد أبن كعب الناصر. أخت عبد اللطيف الناصر. لم أنقطع عن زوجة محمود. لدي كل ما أريد من الثياب والمجوهرات والعطور وأعطي كل ما لدي دون سؤال من أحد، أعطي كل ما لدي لها وهي تعطيه لمن تشاء. للشباب الذين لا يعرفون المصلحة العامة التي دخنا منها. هي وذمتها. لا أريد أن أعرف ولا أسأل.

 

(5)

في غوانتانامو ما يؤلمنا ليس الاستجواب ولا التعذيب ولا المهانة البشرية. هذه كانت أول الدروس التي استوعبتها وأنا في كوسوفو حتى قبل أن أتعلم القتال. الذكريات هي العذاب. لا أنسى فيصل معنا في بولدر. القوة الكامنة في داخله. سيغفر الله لي عبثي ومجوني. أريد أن أتحدث إليه. من الضروري أن أتحدث إليه ثانية وأن أسمع صوته وضحكته. اختفى مع ابنه مرة واحدة وربما إلى الأبد.

في بولدر دخل فيصل حفلا عامًّا للمثليين ورفع يده وأعطاه جيمس كوانت رئيس اتحاد الطلبة الذي كان يهوى فيصل وقد سُرَّ كثيرًا من وجوده معهم وكونه بلا صديقة. أعطى فيصل الكلام. فيصل تطلع في الوجوه، صامتًا دقيقة أو اثنتين والحفل ينظر نحوه يريد أن يسمع. فيصل الذي ما كان جسورًا أبدًا ودائمًا كان مهذبًا قال للمحتفلين "حين خلق الله آدم ماذا خلق له من ضلعه Eve أم Steve" صرخ به الحضور "اجلس أيها المتخلف" وطردوه للخارج. يوم سألته لماذا فعل ذلك قال بثقة الأنبياء ﴿من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه﴾ لكنهم صاروا يكرهونه، يرهبونه وربما يحتقرونه.

يقولون فيصل هو الذي أثَّر علينا. كأنما نحن لا نعرف الواجب والنخوة والمروءة!؟ المروءة... المروءة... أنا ذهبتُ للشيشان بعد كوسوفو وأحمد كان يتصل بي وأدرك أن الحياة فانية. ذهب للعمرة ومنها إلى الحديثة، دير الزور، بتركيا، غروزني، غير طريقي. أنا أتيت من كوسوفو بالبغال لتيرانا، سالونيك، ثم بالبحر لسومي ومنها إلى سوسي في جورجيا ثم بورصة مشيًا وبالبغال لغروزني.

فرحت بمقدمه كثيرًا. كان يود لو يموت غدًا. يصلي كثيرًا ويطلب الرحمة والمغفرة للوالدين ولعبد اللطيف وهنوف التي تزوجت دون رضاء العائلة أو مشاورتها ولأختي مزنة التي أصابها مرض نفسي، انفصام الشخصية، بعد موت ابنتها ويدعو لزوجها الذي طلقها وتزوج بعد شهر بغيرها. يدعو لهم جميعا بالمغفرة ولأخينا خالد الذي حل محل المرحوم عبد اللطيف. أتذكر محسن الذي لم يأبه للجاه أو المال. التحق بقسم الإعلام في الجيش وتدرج في المسؤولية حتى أصبح عقيدًا.

أخي عبد الله كان ضابطًا في الجيش أيضًا ومع أنه كان متفوقًا في الفيزياء إلا أنه اعتبر خدمة الجيش الأهم في حياته. في سلاح المدرعات. نجمتان فوق كتفه، يقول متباهيا ﴿وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة﴾. وأخي خالد بعد أن تسلم مسؤولية العائلة اعتبرهما أفضل من يركن إليه في الاستشارة بشأن أمور عموم العائلة. نِعْم العضدان كانا. نخوة وخُلقًا ورحمة.

 

(6)

أطال فيصل صلاة الفجر، وخرج من المسجد آخر المصلين. أمسك بيدي المؤذن وشد عليهما مودعًا. في خارج الجامع ظل واقفًا برهة.. نظر بعيدا في الطريق وفي الأفق. نسيم بارد قليلا. الصبح يتنفس. طيور تحلق عاليا تحت زرقة السماء. ومع انسلال الخيط الأبيض من الأسود سار نحو المنزل. في الفراش أحاط بزوجته وضمها وأطال كما في ليلة عرسه . اغتسل وعاد للنوم وفي نحو التاسعة صباحاً جلس مع زوجته وابنته زهرة وابنه محمد للفطور. في الحادية عشرة تطيّب وكذلك محمد الذي لم يزد عمره عن عشر سنوات. قال لزوجته "إذا تأخرت اليوم اعتني بمحمد وأخته" كان في عينيه بريق لم تنسه زوجته سلمى بنت سيف الفرجاني وعلى وجهه ابتسامته المعهودة. شد على يدها وصحب محمدًا للجامع. بعد الخطبة اختفى وابنه محمد.

في ذلك اليوم هب غبار كثيف عصف بالدنيا، وهرول الناس يدخلون بيوتهم أفواجًا والسماء صارت صفراء من الغبار. في أحد المواقع صور للنمل يجري سريعًا والطيور تركن إلى الأشجار صامتة تغمض عينيها. وفي موقع آخر كان العنوان "القارعة" أو "يوم القارعة" لا أذكر تمامًا. لا يعرف أحد على وجه الدقة ماذا قال. لم نسأل ولم يجرؤ أحد من الموجودين الثقات على إخبارنا. قال خطبته. "حتام" كان يردد ويكرر والوزير ينظر إليه بعينين ثابتتين. يقولون في المواقع إنه كان يكرر قول ابن حنبل "إذا كان الجاهل يجهل والعالم يسكت فماذا يبقى للحق".

بعد شهرين مات أخي عبد اللطيف، وشقيقي خالد صار مسؤولا عنا. كنا آنذاك أولادًا وبناتٍ وأحفادا أكثر من ستين فردًا. كان خالد قد اشترى المزرعة حسب تعليمات عبد اللطيف وبدأ بناءها وتجهيزها قبل وفاة عبد اللطيف بعدة سنوات. مساحتها تزيد عن خمسة كيلومترات مربعة، وبنى في مساحات متقاربة ثلاثة بيوت كبيرة كثيرة الغرف، وأعطى الإذن للجميع أولادًا وبنات أن يبني من شاء بيتًا خَاصًّا به وعائلته وعلى ذوقه، بما في ذلك الأثاث والتجهيزات، من تركة المرحوم والدي التي كان يشرف عليها خالد مع أخي عدنان وشقيقي مشعل.

في آخر كل عام يجتمعون ويحصون المدخول ومصروف كل بيت، ويعطون لكل بيت كافة احتياجاته للعام المقبل. ويدفعون الزكاة كاملة ويخصصون مبلغًا طيبًا للصدقات. لم يكن لأي منا حدود فيما يحتاج حتى أحمد قبل أن يتدين.

كان أحمد كثير اللهو يحب البذخ ولم يتزوج. في بولدر في اليوم الأول لوصوله للفيلا التي نسكنها، لا أدري كيف تعرف على تلك الفتاة الرشيقة السوداء ذات الشعر المنكوش والشفاه الغليظة الباسمة والخصر الصغير. في الطابق الثاني كانت غرفته. يتحدث معنا ساعة.. يضحك.. يشرب بيرة ويعود معها للغرفة. يخرجان بعد ساعة ووجهه محمر يضحكان مبتهجين ويهز رأسه "النكاح عبادة" يقول ضاحكًا والبنت المغناج تضحك وتهز رأسها "صحيح صحيح". كان قد ترجم لها عبارته الخلابة عن العبادة. شبقًا بقوة ستين رجلا.

لا أدري كيف لمحتها. مرة انفرط حزام روب الحمام الأبيض الذي ترتديه وركبتها اليمنى تستند على السياج الحديدي. لم تكن تلبس أي ملابس داخلية. رأيت الكثافة السوداء في الوسط فوق الفخذين البرونزيين أسفل البطن الرهيف. أسود على برونزي فاتح يحيط بهما روب الحمام الأبيض.

مرة رأيت معرضًا للرسم تحت عنوان "الأسود لون منفرد" أو لون متفرد. أخذتنا له ليسا صديقة محسن وأصرت على صحبة فيصل معنا. كان اسم المعرض مكتوبًا بالفرنسية "NOIR, UNE COLEUR UNIQUE". لوحة سوداء. السواد أعمق في الوسط. وفي وسط الأسود خط أحمر. خط رهيف مائل. كان الروب بدون حزام يتهدل والرقبة طويلة كرقبة نفرتيتي.

أحمد محظوظ موهوب. اليوم الأول لوصوله بولدر!. أين وجدها؟ يقول في المطار في الكافتيريا. طلب سندويتشًا وقهوة. أتت له بالقهوة. ولم يترك المكان إلا وهي معه. موهوب محظوظ. مغناج برونزية. رأيت الصدر والرمان. عُرفُ الرمان الوردي المحبب. رأيت الفخذين المصقولين. رأيت أحمد يمسك بشعرها وباليد الأخرى علبة بيرة. يسحب وجهها لشفتيه وهي تغرق فيه حتى طلع الصباح أول ليلة له في بولدر.

لم يكمل دراسته بعد خمس سنوات قضاها في بولدر. مع أصحاب له من عائلة الجزري وعائلة أبو نوح أسس شركة عقارية وكسب أموالا طائلة وكالعادة كان أخي عبد اللطيف يترك لكل منا مرتبه أو ما يكسبه ولا يدخله ضمن دخل العائلة. أحمد قبل أن يهديه الله كانت لديه استراحة خاصة مع أصحابه للهو والمجون خارج المدينة. كان عبد اللطيف لا ينظر في وجهه أبدًا أبدًا ويعطيه سَنَوِيًّا ما يريد مثلنا جميعًا ولا يريد أن يعرف أي شيء عن أموره الخاصة.

 

(7)

تزوجنا جميعًا أنا ومنى ومزنة وعلياء ونوره وهنوف التي تزوجت دون استشارة أحد. أما لطيفة فقد تزوجت من زمان ولديها الآن أربعة أولاد. وفاتن تزوجت وطُلِّقتْ وتزوجت ثانية. فقط حصه ظلت دون زواج رغم حرص عبد اللطيف على زواجها. عبد اللطيف زوجنا جميعًا أولادًا وبنات. يستعلم عن أزواجنا "هل يشربون؟" "هل يصلون؟" وعائلاتهم. الأم بالذات ابنة من ومن تزوج أخواتها؟. يفكر في هنائنا وأبنائنا وسعادتنا مستقبلا.

في ليلة عرسي وأخواتي بجانبي ومصففة الشعر اللبنانية والممكيجة الفرنسية يزيناني وأمي تكرر "يا الله أحلى من القمر" دخلت على زوجي. لم أكن قد رأيته من قبل. أسمر، كتفين عريضين، أهداب سوداء طويلة. وبعد أن عرفته وجدتُ قلبًا أَبيضاً كالقطن. وَحُنُوًّا واعتزازًا بدور الزوج والأب لأبنائنا. مهندس طرق في وزارة الإسكان في السابعة والعشرين. سمعت من والدتي ومن شقيقاتي ما سمعوه من الناس أنه كان أجمل الشبان ولم يصدق ما رآه من جمالي ليلة عرسي قال لي وهو يساعدني في رفع المشابك من رأسي "كل ما سمعته عنك أقل من الحقيقة" نمت في أحضانه. شعري على كتفه أو ذراعه وفخذي مدفأ بفخذيه وأنجبنا خمسة أبناء وبنتًا أسميناها ياسمينة.

 

(8)

في غوانتانامو الماء الجامد أشد ألوان التعذيب الجسدي. في غرفة خالية أرضها وحيطانها ملساء، تقف على عتبة من الرخام ويداك مربوطتان بعمود حديدي خلف ظهرك وتحت فكيك قائمان صلبان يمنعان تحرك رأسك عن مكانه. يتركونك ساعات طويلة دون أن تسمع شيئًا، فقط عيناك تحاولان رؤية شيء ما. شيء يتحرك. وأذناك تتنصتان. لا شيء. لا شيء. أي ضجيج تسمعه الأذنان داخل الصمت المطبق. ضجيج جسمك وتنفسك. ضجيجك الداخلي. أصوات متنوعة. عالية ورفيعة وبطيئة كلها متداخلة. أحيانًا تصطك أسنانك بقوة لتسمع شيئًا. ثم تهطل قطرة ماء جامدة كالصخرة على نافوخك. نقطة واحدة تظل تنتظرها. بعد ربع ساعة نقطة أخرى تهطل مثل صاعقة في نفس البقعة من النافوخ. ليس لهطولها وقت محدد. كل خمس دقائق. كل دقيقتين. كل ربع ساعة. وأنت تنتظر ويطول الانتظار تود لو ينفجر الماء دفعة واحدة. تود لو يتوقف. تود لو تتفجر. لو ينفجر نافوخك. تود لو تموت.

في غوانتانامو لم يكن مسموحًا لنا بالصلاة جماعة ولا حتى في صلاة العيد. المؤذن يؤذن في مواعيد الصلاة ونحن على انفراد كلٌّ يصلي في زنزانته. قائماً أو قاعداً أو متكأ على باب أو على حائط أو على معتقل آخر حسب رقعة المكان المتوفر.

 

(9)

خالد يصر على أن نتواجد جميعًا - كل العائلة - يوم الجمعة في المزرعة، الأولاد والبنات، الأزواج والأحفاد. لم يكن أحد منا يرغب بدعوة الأغراب للمزرعة. المزرعة كبيرة ونحن كثيرون، ولدينا ما يكفينا من القصص والأخبار والتعليقات. أخبار التجارة والاستثمار والزيجات والإنجاب والملابس والأغاني والسيارات والسياسة وطبعا لمن يحب السياسة والشئون العامة. أشجار ليمون رائحتها عطرة، طباخون وسائقون وخادمات. الأطفال يلعبون ونحن نتحدث نقرأ الصحف ونشاهد من الفضائيات والإنترنت ما نشاء ولكلٍّ منا مشاغله، أفراحه وأحزانه. خالد رأسه أشيب وهو في أوائل الخمسين. منا من يحب الطرب يتابعه في الفضائيات. والشباب معهم Ipod أو Walkman و GSM ومنا من يتابع أخبار البورصات أو العقارات ومنا من يقرأ القصص مثل أختي علياء. وأختي الكبرى حصه ترعانا وأبناءنا إلى جانب أمهاتنا. تحب أمها كثيرًا. صديقتان، تشبهها في البياض وطول الشعر واللكنة.

أول ما جاءت مع والدتها وأختها فاتن وأخي عبد اللطيف من الهند كان الأقارب وأهل الحي يضحكون على لهجتها. جدتي نورة أم أبي كانت تسأل عن الوالدة لولوة الوهابي "هل هي مسلمة ؟" بعض النساء يستمعن لحديث أمها ليضحكن ويسخرن ويستعملن الكلمات المحلية الغليظة للتندر بها وكونها لا تفهم كلامهن. يتعجبن من ملابس أمها. يستلفن فساتينها ويلبسنها في الحفلات أو يَخِطْن مثلها. عندها ثوب ما زالت حصه تحتفظ به، معلق به ساعة ذهبية بسلسلة مثل التي كان يضعها الرجال الأقدمون في أثوابهم وجيوبهم. كانت عندها عربة في حيدر آباد يجرها حصانان يقودها سائس ومساعد شاب متأنق يفتح لها الباب، وحين جاءت من الهند جاء معها الطباخ عمر وزوجته نزرت، التي ظلت تمشط شعرها وتعقص ضفيرتيها وتحمم لها ظهرها لسنوات طويلة حتى بعد زواج المرحوم أبي من الزيدانية أو بعد أن تزوج الفاتنة الصغيرة أم أحمد ابنة الدبسيِ.

 

(10)

صفوف من شجر الكاناكاربس حول سور المزرعة من كل جانب. سور صاد للرياح. أربعة صفوف من هذه الأشجار يبعد كل صف عن الثاني مترين، والشجرة تبعد عن الأخرى مترًا. بعد ذلك صفان من بنت البلد.. شجرة السدر أو النبق.. في الربيع مختلف الألوان والأحجام. النبق مطعم بمختلف الفواكه. نبق بالتفاح ونبق بالفراولة، وأحلى ما يشتهيه فيصل النبق المطعم بالمشمش. حجم النبقة كبير، ويختلط لونها الأخضر بالأصفر.

مسؤول الزراعة هندي لا تغمض له عين. يتجول مع أخي خالد في عربة الحديقة. يتفقدان الشجر. محميات عديدة للبطيخ والطماطم والفلفل الأخضر ومختلف أنواع الخضار والفراولة. أشجار الليمون وصلت من كاليفورنيا صغيرة تحمل ثمرها ثم انطلقت في مزرعتنا غنية باذخة. أعطيناها الشمس والماء.

عند كل بيت حمام سباحة طوله 18 مترًا بعرض 7 أمتار. ملعب للكرة الطائرة للأولاد وفي مكان آخر ملعب كرة طائرة للبنات. ملعب كرة قدم. ملعب تنس وصالة إسكواش. وصالة ألعاب جمنازيوم كبيرة ومزودة بكل أدوات وآلات التريض الحديثة وغرفتان للمساج تشرف عليها فلبينية متميزة بالمساج الأروماتيك كما تعلّم من يريد من البنات اليوغا. وللذكور مساج محترف رسميًّا من البرتغال. رائحة الليمون تحيط بالبيوت خاصة حين تبدأ أزهارها تتبرعم. ساحتا رماية للرجال واحدة للصيد بالبندقية والأخرى للتسابق بالمسدسات. لعب الرجال. صالة بولينغ. ومزرعة خاصة للدواجن والبيض، يديرها مهندس فرنسي زراعي أعرج. شاربه أشقر كثيف وكل حسابات المزرعة لديه في دفتر. لا يستعمل الكمبيوتر أبدا. يزودنا بالحليب والأجبان يساعده فلاح مصري مختص بالجبنة القريش. الفرنسي ينتج من المزرعة ويبيع في السوق. ربح المزرعة يفوق مرات مصاريفها الكبيرة. أكثر من 10 آلاف فسيلة نخل من كل الأنواع، وحَمَام أبيض من لبنان بالمئات.

الحَمَام يتكاثر وحين يتطاير يُغطي السماء، وحين تهفو أسرابه مسرعة بكثافة نحو الأرض يهفو القلب معها ثم تركن على الأشجار، تبغبغ وينقر بعضها بعضًا. الإسطبل به عشرون حصانًا عربيا معروفة النسب أبا عن جد.

كنا نحب الخميس والجمعة ومنا من يذهب للمزرعة مساء الأربعاء ويعود ظهر السبت. كل العائلة ما عدا سلمى الفرجاني زوجة فيصل لم تأت لا هي ولا ابنتها مها منذ خطبة فيصل في الجامع واختفائه. ليس باليد حيلة. نتمنى أن تكون معنا. نحبها. من لا يحب زوجة فيصل!! ليس باليد حيلة. فيصل وأبنه محمد يركبان الخيل يسبحان في البحيرة ويتهجدان ليلا. وأنقطعت فوزية السنام فترة بعد مقتل زوجها عدنان.

البحيرة صناعية. ملئوها بالماء وزرعوا الأسماك. زبيدي وميد وهامور. مشعل والأولاد يحبون صيد السمك. يجلس في الليل، السنارة بيده والسيجارة تلو السيجارة والأحاديث لا تنتهي. بحيرة واسعة أكثر من كيلومتر مربع. فيصل يحب صيد السمك أكثر وأكثر. فيصل اشترى لمحمد Jet sky مثل بقية الأولاد. المسابقات بينهم كل جمعة. بعد الغداء يوم الخميس لا يقربها الرجال يتركونها للبنات. يتسابقن ويعلمن الصغار السباحة في البركة الصغيرة بطرف البحيرة. يركبن Jet Sky والماء يتطاير.

في المزرعة قاعة للسينما. يهتم بالأفلام أخي مشعل وفي البيوت DVD نستعير من المكتبة الأفلام التي يشرف عليها مشعل ونعيدها. ويا ويل من لا يعيد الفيلم من غضب مشعل وصراخه. كل شيء مدون في الكمبيوتر. تاريخ الاستعارة وتاريخ الإرجاع.

 

(11)

مشاري قتل عدنان - شقيقه أكبر منه بعدة سنوات - بالرصاص. بالمسدس. استدار مشاري سريعًا وهو في مسابقة الرماية القاتلة يقلد حركات أفلام الكاوبوي وعدنان كان يركض في اتجاه المسابقة ليلحق بهم وفاجأته رصاصة قاتلة في القلب تماما. عزيز ابن عدنان كان أحد المتسابقين في الرماية في صيد الحمام. ركض نحو والده بعد أكثر من عشر دقائق. حمله بساعديه فورًا بالسيارة للمستشفى. نزف عدنان كثيرًا ومات في الطريق. المزرعة تبعد 95 كيلومترا عن المدينة. ليس للطف عدنان مثيل. ولا لابتسامته التي تغمر وجهه ولا لحبه لأكل الحَمَام. وجهه أبيض يميل للاصفرار. في عينيه مودّة. وكان شديد العطف على أخواته.

في تلك اللحظة الرهيبة، لحظة القتل البريء طارت الطيور كلها وملأت أصواتها المزرعة. وقْع أقدام زوجته في الركض وابنته - ونحن نحيط بهما - يصم الآذان كما عند القبائل الأفريقية حين تمارس طقوسها في الممات. عزيز يحتضن أباه والدماء ظلت على قميصه لم يغسله. احتفظ به. في السيارة يبكي. وحوله شقيقاي عبد الله ومحسن. النزف لا ينقطع وعزيز يكرر: عمي أسرع أسرع. لم ينطق أبوه بكلمة. مات بين يديه.

لم يمسك مشاري المسدس بعد ذلك. وعزيز ترك المزرعة، وهجروا مسابقات الرماية. الاثنان يعتقدان أنهما أطلقا الرصاصة القاتلة. مشاري وعزيز كانا ضمن المتسابقين. عزيز يصوّب بعد عمه مشاري مباشرة. لحظات تفصل بين إطلاقهما الرصاص.

في المستشفى حين لحق بهم مشاري وأعلن موت عدنان جاءت الشرطة والاثنان ظلا يقولان "أنا الذي أطلقت النار عليه" ورفض أخي خالد أن تُفصح الشرطة عن نوع الرصاصة، من مسدس مشاري؟ وهذا هو الغالب أم من بندقية ابنه عزيز؟ رفض خالد بتاتا. توفى عدنان ولا تعرف نفس متى ولا أين تموت.

أما مزنة.. فبعـد إصابتها بالمرض النفسي كان من الصعب أن تأتي المزرعة. الأطفال لن يتركوها. أمها منيرة الزيدان وأخي خالد رفضـا أن تعيش في مصحة عقلية. أختي فاتن قبل أن يأتيها أطفال اتفقت مع زوجها عبد المحسن الرويحي - أن يأخذاها في بيتهما. في غرفة حديدية الشبابيك. طيور في أقفاص معلقة في الشبابيك ذاك ما كانت تحبه ابنـة مزنة. ممرضة هندية تطبخ وتغسل لها وتنام غير بعيدة عنها. فوزية اَلسَّنَام زوجة عدنان انقطعت عن المزرعة أيضًا. مسؤوليات خالد تُكهله وأخواه الضابطان محسن وعبد الله يساعدانه في تربية وإسعاد وتعليم الأحفاد. فقط هي سلمى الفرجاني زوجة فيصل تعتب على العائلة. تشعر أن العائلة لم تفعل ما يجب لفيصل خاصة أخوي الضابطين في الجيش. ماذا يمكن أن نفعل؟ لقد خطب في الجامع واختفى. اختفى.

كل ليلة في الثانية عشرة تمامًا تولول مزنة وتهز الشباك الحديدي بيدها حتى تصل أختي فاتن أو زوجها ويقفان أمامها خلف الشباك. الممرضة الهندية دائما خلفها. أحيانًا تضع مزنة مكياجا من كل الأنواع، وأحيانًا تلبس حليها. العقد والأقراط والخواتم. تغني لابنتها نورة وتخاطبها.

 

(12)

بعد اختفاء فيصل صار مشعل يؤم الناس في صلاة الجمعة في مسجد المزرعة. يطيل عكس فيصل. فيصل كان يطيل حين يتهجد وحده. وزوجته مثله، وابنه محمد. وجوم شديد في المزرعة عندما علمنا بذهاب ناصر لكوسوفو. وفيصل بقامته الطويلة يردد "الله يهنيه اختار سبيله" كان باديًا على وجهه الغضب والاحتقار "المنافقون يدافعون عن استقلال تيمور الشرقية!!" "وماذا عن جنوب الفلبين ثلاثون سنة وأهلها يكافحون من أجل الاستقلال". أحمد يذهب مع صحبه مرة أو مرتين في السنة لتايلاند لفوكيت. كتيبات السياحة تنصح بعدم الذهاب للجنوب لوجود أعمال عسكرية منذ مدة طويلة. مسلمو تايلند منذ زمن في اضطهاد وتمرد ثم اضطهاد أكثر. حرب للاستقلال يسمونها إرهابا. في فوكيت يغوي الأوروبيون - الإنجليز خاصة - الصغيرات الفقيرات ذوات العشر سنوات أو حولها ويعاشروهن مقابل نقود ضئيلة أو سد رمق أو فسحة ما. يسخر فيصل وهو يسمع أحمد "أيضا ضمن حقوق الإنسان!!".

حين تديّن أحمد كان يستهزئ بهم "قانون الله، أم قوانينهم". لدينا جميعًا إحساس بأنه يتغير. منذ أتى من عمان. كان يفكر ببناء منتجع في منطقة السوادي. يقال والله أعلم إن هولنديا من أصل أندونيسي أثر عليه. يطيل المكوث في المسجد. يتصدق كثيرًا. يقرأ القرآن كثيرًا. لا يحب التليفزيون يمشي ساعات مع فيصل الذي لا يفارقه ابنه محمد. يدًا بيد. فيصل ومحمد. محمد يرهف السمع لحديث والده.

أحمد أسمر طويل صوته جهوري تفاحة آدم عنده كبيرة مثل كرة وكذا أصابعه. ليس دميمًا. كتفاه ضخمان. عيناه جاحظتان. يكتب الشعر وحين كان يلهو في مزرعته الخاصة يقال إنه كان يؤلف أغاني. يقال إن صورة مارلين مونرو التي مزجَ وتلاعب بألوانها تزين المدخل. كبيرة باتساع الجدار. يحب مارلين مونرو. وعلى الحوائط الأخرى صور مارلين بوجهها الضاحك، صورتها تلم فستانها بين فخذيها والهواء يطيره عند مرور الباص. صورتها بالمايوه الأبيض. صورتها تركب الحصان وبين كل صورة وصورة، صورة لجاكي صديقته في بولدر بالمايوه، بالشعر المنفوش، ساقاها البرونزيان يستندان على كرسي وهي منبطحة على ظهرها فوق الرمل. صورتها مع أبيها في هونولولو يسبحان والماء يتطاير ويغطي وجهيهما. صورة موقعة. ويقال إنه كان يتعلم لعب العود. وذكرت بعض مواقع الإنترنت أن فيصل كان يكرر بعض كلام أحمد قبل سفره. نحن لم نسمع فيصل يقول ذلك بآذاننا. لا نعرف الحقيقة. بعصنا فضولاً يريد أن يعرف وبعضنا لا يريد. لماذا نريد أن نعرف الحقيقة.

 

(13)

في غروزني حين وصل أحمد وكنت قد سافرت قبله بثلاث سنوات أخذ يحكي لي كل شيء عن العائلة. يصلي كثيرًا ويدعو للوالدة والوالد بالرحمة ويستغفر الله عما ارتكبه راجيًا الرحمة والغفران لنفسه ولكل أفراد العائلة. تزوجنا أنا وأحمد بعد أسبوعين من وصوله أختين كفلقتي رمان. كان زواجي الثالث منذ ارتأيت القتال سبيلا. الأولى في كوسوفو والثانية في الشيشان والآن أشارك أحمد فرحته في زواج ثان هنا.

حلمت البارحة بالوالد جالسًا هادئًا مبتسمًا بجانبه المرحوم عبد اللطيف الذي ربانا فأحسن تربيتنا وشقيقي خالد الذي ما زال يقوم بالواجب خير قيام. وبقية الأخوان والأخوات جميعنا في بيت الوالد الذي أعطاه له الأمير. في الحديقة.. النساء والرجال والشباب والأحفاد. أختنا الكبيرة حصه، أم الجميع، ترش ماء الورد. والنساء والبنات اليافعات والصغيرات ينثرن على شعرها فلاً أبيض. طويلة القامة واسعة العينين، غمازات وجهها، والشفتان الدقيقتان تمتزجان بالحزم الظاهر دومًا لولعها بالواجب تجاه عبد اللطيف وتجاه العائلة. مزهوة ترقص بالفستان المليء ورودًا وأحجارًا كريمة خاطته لها مدام كاتانوني التي زارتنا من روما مع سكرتيرتها ومساعدها ثلاث مرات للقياس والبروفات. فرحة حصه.. ترقص تدور.. ألمح طرفاً من رقبتها وجزء من صدرها وقرط اللؤلؤ الأصيل في الأذنين. وهن يغنين حولها ويصفقن وينثر الفل وماء الورد

 

يامن باس العريس                        يامن باسها

 

وصفف لها اللولو                         وقال البسي

 

وقالت مـا ألبسـه                          ولا يهمني

 

ولا يهمني إلا خوي                        زين الشباب

 الوالد يبتسم ونحن ننظر له بإنصات شديد كما لو كنا في مسرح. الحمام الأبيض يتطاير نحو السماء ويبتعد بعيدًا بعيدًا. وأنا وأحمد في فرح وحبور. وجناتنا متوردة نضرب كفا بكف عند كل تعليق أو نكتة. في غاية الفرح كنا والحمد لله. نستمع لدق الطبول. نشتم رائحة البخور وماء الورد يُرش على الملابس واليدين، والعود، رائحة العود، عطر الرجال يفوح، يغمر خيمة الزفاف. عطر اختصت به الوالدة عرسنا. والوجوه الباسمة والضحك والنكات والتعليقات المرحة، ليلة فرحنا، الوالد ينظر إلينا بزهو وحبور.

 (II)

 

(1)

في غوانتانامو الذكريات هي العذاب. هذا صوت ياسين." لست فلسطينيا " قال لي حين التقيته أول مرة. هذا صوته. لم يكن بيننا أندونيسيون غيره ولا هولنديون. تعودنا وصرنا نعرف الزملاء من أصواتهم. خاصة أخي ناصر الذي اختفى صوته منذ يومين ومع ذلك كل ساعة أنتظر سماع صوته. في اليوم الذي لا أسمعه فيه أفكر أنه مات. وهو قليل الصراخ. قلما يجأر بالألم.

في العادة يأتي أربعة جنود أو خمسة. حراسنا. يربطون أيدينا للخلف. يلبسوننا القناع البلاستيكي ذا الرائحة النتنة. نركع على ساقينا. نحني رؤوسنا حتى تلاصق الركبتين. يحملوننا الأول من الكتفين والثاني من الساقين المربوطتين بالظهر والثالث يضع عصا غليظة تحت البطن والرابع للضرب متى شاء. أحيانا للتسلية مع أصحابه وأحيانا يكون غاضبا من أمر ما في بيته أو في العمل. تعودنا ذلك. روتين يومي. يأخذوننا بهذه الطريقة في أي وقت متى شاءوا ليلا أو نهارًا.

كنا حوالي العشرة في زنزانة واحدة. ننام على الأرض متقرفصين. وأحياناً ننام واقفين أو على صدور بعض. بعد سنة نقولنا لعنابر مفتوحة. بطانية.. والمخدة أحذيتنا أو نعالنا. في البداية كان المرحاض في العنبر، في نهاية العنبر. ليس له أبواب وعلى كل منا أن ينقل أوساخه لزاوية في العنبر بها برميل.. تأتي رافعة مرتين في النهار أو في الليل تحمله لمكان آخر. ربما يستعملونه سمادا. في كل مرة تتساقط منه أجزاء وتنتشر الروائح. تعودنا. في الغالب. من شدة التعب لا نشمه أو نكون نائمين. هذا صوت ياسين بالتأكيد. اليوم التمرين في القاعة الخارجية لكي نسمع الصراخ مع أننا دائمًا نسمع حتى حين يتم في إحدى القاعات الداخلية. الميكروفونات والسماعات متوفرة. محقق آخر كل مرة. وأسلوب جديد. ثم ضرب أو غيره. المهم أن نتعاون أي أن نقول الحقيقة أي نقول ما نعرف، كل ما نعرف عن زملائنا وأصدقائنا ومهامنا، وقد قلنا ذلك مرات عديدة. أغلبنا على الأقل. وحلفنا على القرآن. هذا صوت ياسين لابد أنهم شددوا عليه هذا الفجر. لم نعد نصحو عند سماع الصراخ. موسيقى دائمة. يضحك ياسين يقول موسيقى المستقبل. كانت صدفة عجيبة صدفة تعارفنا.

 

(2)

عرفت أحمد في منتجع السوادي شمال مسقط. على البحر ثلاثة جبال وعرة موحشة تنتصب غير بعيده عن الساحل. في المطعم تشاهدها وفي كل مكان من المنتجع أو القرية. حوالي السابعة مساءً والسماء تغرب رأيت هذا الشاب العجوِل يتلفت يمينا وشمالا. المطعم خال من الزبائن. يختار طاولة ويجلس بعيدا. يطلب أكلا بسرعة ثم رأيت البيرة. نظرت إليه وابتسمت. ابتسم هو. وفي عينه حدة. كنت أشرب بيرة. ظننته ينتظر أحدا. بعد قليل التقت عينانا. ابتسمت. أشرت له بيدي. جاء وسألني " هل تكلمني " ضحكت "أنت تأكل وحدك وأنا آكل وحدي لم لا تصاحبني في طاولتي". كان الطعام أمامي وهو بيده علبة البيرة. ابتسم قائلا " فكرة جيدة ". سألني " أنت فلسطيني " ؟ قلت " لست فلسطينيا " قال " الأصل فلسطيني؟ من المهجرين للخارج؟ " قلت ضاحكا " معقول ... ونتحدث بالإنجليزية.. على الأقل كنت حدثتك بالعربية".

يتمعن في.. يضحك ويقول ولكنك قلت "مساء الخير" قلت ضاحكا "أعرف عشرين جملة عربية" وبدأت أعد عليه الجمل التي أعرف ولاحظ أن لي لكنة غير عربية. قال "ظننتك فلسطينيا على العموم فرصة طيبة" ضحكت وأنا أقول "الحمد لله لست فلسطينيا. الحمد لله. ألا تراني أمامك ؟ موجود أمامك" استغرب كلماتي وأسند ظهره إلى الكرسي يتمعن في وينصت جيدا ليعرف ما يدور بذهني أو من أنا. قلت " طبعا لو كنت فلسطينيا ما كنت جالسا أمامك. ألم تسمع النكتة الإسرائيلية " الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت" في أمريكا يقولون نفس النكتة عن الهنود الحمر. ألم تسمع غولدا مائير "أين هم الفلسطينيون" أو زعماؤهم القدامى ربما هرتزل السكّير " فلسطين أرض بلا شعب " يقصد سنقضي على الموجودين منهم. رفع أحمد رأسه للسماء وارتشف بيرة قال ضاحكا "أنت فلسطيني" وكرر "كل هذه المعلومات ولست فلسطينيا" هززت رأسي وقلت " لستُ فلسطينيا لستُ فلسطينيا " قال "ما اسمك" مددت يدي أصافحه وأبقيت يده بيدي. "لو كنت يا صديقي فلسطينيا لكنت قتلت نفسي من زمن كانتحاري، أو لكنت قتلت بقنبلة ليزر موجهة تطلق عَلَيّ من الأباتشي أو ببلدوزر مصّنع خصيصًا عند كاتر بللير يهدمون البيت على رأسي بعد منتصف الليل أو مع بزوغ الشمس." سحب يده محملقا ضاحكا. قال" هذه قصة جيدة لو كنت فلسطينيا لكنت ميتا " قلت " طبعا " سألني ثانيًا " ما اسمك " قلت " أنت ما اسمك " قال " أحمد الناصر" قلت أنا ياسين هنريك. ضحك ضحكة عريضة وقطرات البيرة تتطاير حوله من شدة اهتزازه بينما كان النادل يضع الأكل أمامه قلتُ "ما الذي يضحكك" قال "أعرف مصريا مدير مبيعات لشركة تبيع أثاثا اسمه نابليون شحاتة " قلت "ما هي النكتة ؟" قال "الاسم الأول لا يتماشى مع الثاني" ضحكتُ وقمت لأغتسل وقلت له. انتظر سأحكي لك".

 

(3)

صدفة رأيته في غوانتانامو. عرفته من عينيه. حين كنا نسجن بسجن انفرادي يخرجوننا مرتين في اليوم لقضاء الحاجة. في الممشى رأيته عائدا من المرحاض. الكلام ممنوع. والرؤوس مغطاة بالقناع البلاستيكي. لكني عرفت عينيه. هو هو بالتأكيد. عينان خضراوان مستطيلتان كالعيون الآسيوية. ألا يوجد غيره بهاتين العينين؟ ربما من هؤلاء الأفغان. أو ربما من الأفغان العراقيين والمصريين. الأفغان العرب. تمنيت أن أراه ثانيةً. فعلا بعد أسبوع شاهدته وأنا عائد وهو ذاهب. هو لاحظني أيضا. لم أكن متأكدا. حين اقتربنا.. غمز بعينه وصرخت من الفرحة "النوارس" ضربني الشرطي على بطني وأعدتُ الصرخة "النوارس" جاء الشرطي الذي يقتاده وأخذ يشارك بضربي. كنت منفعلا. فرحا "النوارس.. النوارس" وسمعت ضحكته تأكدت أنه هو. وهو تأكد أيضا. صرنا بعد ذلك نحتال على الأوقات ونختلق الذرائع والأسباب حتى نلتقي في الممر. وعيوننا تمتلئ ضحكا كلما تقابلنا. هذا صوت ياسين. لابد أنهم اليوم شددوا عليه الضرب. لماذا كل هذا الصراخ!! أسكت. ولصقت وجهي بالأرض ويداي تشدان على أذني وأنا منبطح أغطي وجهي بالحذاء المخدة.

 

(4)

الذكريات.. الذكريات. في مطعم منتجع السوادي عرفت ياسين ذاك المساء. ليلة واحدة. ليلة جميلة. ثم في غوانتانامو. مسيحي مسلم. هولندي أندونيسي. أحمر الوجه.. وعينان خضراوان آسيويتان. كان أبوه ضابطا في الجيش الهولندي في أندونيسيا وبعد الحرب العالمية الثانية عاد الهولنديون بسبعة آلاف جندي ليستعمروا أندونيسيا من جديد. البلد من ممتلكاتهم. كان السكان قد بلغوا آنذاك حوالي 80 أو 90 مليونا.. النتيجة أن الأندونيسيين "بلعوهم" يقول ياسين ضاحكا. وكان أبوه يحارب مع الجيش الهولندي وأصدقاؤه وزملاؤه في الجيش يحاربون مع الجيش الأندونيسي. وكان وأصحابه متفقين على ألا يقتل الواحد الآخر لو رآه في معركة. عاد الهولنديون لبلدهم وعاد أبوه معهم ضمن جيشهم. أعطوه تقاعدا بثلث تقاعد المجند الهولندي. جنود المستعمرات.

في روتردام عمل مدير استقبال في فندق وتزوج والدته آد فان غريكين التي كانت تعمل في البريد. أنجبا ياسين فقط لا غير. تكاليف المعيشة لا تسمح. والدي خلف عشرة أولاد وتسع بنات ومات له ولدان وأربع بنات." الخلف نعمة " حتى عند الفقراء. الفقراء بالذات. هم أنظف في روتردام. يشتغلون كثيرًا. يكدحون ويلهثون. أم ياسين وأبو ياسين وكل الجيران ولا يستطيعوا بهذا التعب الدائم بناء أسرة والصرف على الأبناء.

يقول ياسين إنه سأل والده لماذا لم تبقَ في بلدك؟ فأجابه " كنت أخشى الفقر والجوع " يقول ياسين مرة سألته "هل أنت مرتزق ؟" قال له أبوه ضاحكا "لم تكن المسائل هكذا في ذاك الحين. لم أكن مرتزقا. كنت محظوظًا بالنسبة للكثير من الأصدقاء الذين تقدموا للاختبار معي. كان هناك وطنيون يعارضون تصرفنا لكن لم تكن خيانة الوطن بهذا التحديد على طاولة الحديث والمناقشات. كنا نرتزق. الجنود الصغار يؤخذون عنوة خدما للجيش طباخين وكناسين وغاسلي ثياب. هؤلاء في المعارك - وعند الانسحاب في الغالب - يتركون لمصيرهم ومعظمهم يموتون من قنابل العدو. وحين يقترب العدو من معسكرات الجيش الهولندي، بعد انسحاب الجيش في معركة ما، يقوم الجنود الأندونيسيون بقتل كل من خدم مع الهولنديين باعتبارهم خونة".

يقول ياسين " سألته أنت كيف نجوت " كان والده جالسا على كنبة وثيرة يدخن سيجارا ويضع ساقا على ساق قال "لم أكن من الخدم. لم أكن جنديا. لم يأخذوني سخرة. كنت ضابطا. تم امتحاني واختياري من بين مئات تقدموا معي. المرتب أحسن واللبس أحسن والأكل أحسن. كنا نعرف أن هولندا ستخسر الحرب. نعرف أن الزمن تغير. نعرف كيف احتلها الألمان. نضحك كنا. لم يستطيعوا أن يحموا بلدهم والآن يأتون ليستعمرونا من جديد!!" كنا نعرف أنهم إذا انسحبوا سيأخذوننا معهم. الأعراف والشرف العسكري. الشرف الهولندي، أخذ يضحك، يرتج، ورماد دخان السيجار يتطاير على الكنبة "شرف الجيش الهولندي قبل سبرنشيا". فوجئنا بعد الوصول لهولندا بأن مرتبنا هو ثلث مرتب الهولندي. كنا قد قطعنا الصلات المعنوية مع المكان. الحي والمقهى. كنا سنصبح أضحوكة لو عدنا. " قال ياسين "إذا على كدر بقيت هنا، وأنا أؤدي النشيد الوطني وأُحيي العلم ؟" قال له أبوه " ليس هكذا بالضبط. كنا قد وصلنا إلى هنا. وحين كنا في أندونيسيا كنا نعرف أننا أمام مجازفة لكننا اخترنا أن نعود معهم. لم يجبرونا على ذلك. لسنا مثل المصريين في الحرب العالمية الأولى حين أخذ الإنجليز منهم عشرة آلاف جندي سخرة وبدون مرتب. ماتوا جميعا. لا يذكرهم التاريخ. يأخذونهم عنوة من الشوارع في الريف. حينذاك كان سكان مصر 8 ملايين. ولم تكن خطط الإنجليز وتنظيماتهم تحتوي على أي إعداد يتضمن حمايتهم عند الانسحاب. كانوا يتركون للموت. يتركون فقط. اللوائح العسكرية أو المدنية لا تقول عن هذه الحالة شيئا. كل شيء ضمن القانون. القانون أهملهم إذن هم غير موجودين. وكذلك التاريخ. كنا نعرف ذلك ونعرف أننا أحسن حالا.

قال ياسين لأبيه " هل ستكون أحسن لو لم تجئ مع الجيش لهولندا؟ أقصد هل لو حصل ذلك من جديد ستأتي مع الجيش " قال أبوه "لا أدري.." من جهة، هناك - أقصد في البلاد - الفساد والقتل والاقتتال والفقر، ومن جهة ثانية الآن عندي أسرة وأنت في الجامعة. ذهبت مرة مع أصدقاء نفكر بالاستثمار في فندق صغير. وجدنا التكلفة رخيصة لكن الدخل قليل جدا. أي لا يستحق العناء ولا المخاطرة. لا أدري. أما هل كنت أعود مع الجيش الهولندي لو حصل ذلك مرة أخرى فمن الصعب الإجابة عليه. تلك أشياء لا تعود. أبدا لا تعود. لها ظروفها. بالتأكيد لم أكن مجبرا". المشكلة، قال وهو يتذكر ويتحسر" إنني بعد كل هذه الخدمة أشعر بالانفصام. لست أندونيسيا كاملا ولا هولنديا كاملا.

أول شيء عملوه بعد الوصول لهولندا بعد أن حاربنا معهم وعنهم أن قرروا لنا ثلث مرتب المجند الهولندي أتعرف لماذا؟ لم نكن كثيرين لنؤثر على الميزانية. السبب هو منع اندماجنا بالمجتمع الهولندي. إنها علامة دائمة مستقرة أنت لست هولنديا. طابع بريد أو ختم على جبينك. الآن يلوموننا لأننا لم نندمج بما فيه الكفاية. تعتقد أنهم لا يعرفون الحقيقة. يعرفونها جيدا. لكن يريدون ضميرا مرتاحا. عن طريق الكذب وتزييف الحقائق وتكرارها. مثل ما كان يفعل جوبلز. يضحك أبوه ويسهم ناظرا للسقف متذكرا "في أدغال جاوه هناك أغنية محلية "سأجعلك يا إلهي جميلا لأعبدك" وهنا يفعلون نفس الشيء ليرتاح ضميرهم. يكذبون ليكون الضمير مرتاحا.

هناك قاعدة إسلامية. حديث للنبي معناه لا طلاق لمن أُكره عليه، هكذا فهمت من أخي ناصر. أي إنه لا يحل الطلاق إن تم بالإكراه. لا قيمة شرعية لهذا الطلب أو الإقرار أو الاعتراف. في غوانتانامو حين سكن ياسين معنا في نفس العنبر كان يروي هذا الحديث كثيرا، وكثيرًا ما نسمعه من أخي ناصر. هذه القاعدة موجودة في الإسلام منذ البداية وهم يصرون على انتزاع الاعتراف منا بالضرب. بالعكس يقولون نحن ليس لنا أي حقوق. لسنا داخل أمريكا فلا تنطبق علينا القوانين الأمريكية. ولسنا مقاتلين في جيش نظامي فلا تطبق علينا معاهدات واتفاقات الأسرى. نحن تماما خارج القانون. أهملنا القانون. ينفذون كل شيء ضمن القانون. نحن مادة لجمع البيانات. يقول له والده " كلهم عنصريون الألمان أقروا ذلك. قننوه. لكن الأوربيين عموما عنصريون. يمارسون العنصرية صباحًا ومساءً لكنهم عكس النازي. يستخدمون ألفاظًا جميلة وليست نابية "

قال ياسين لأبيه " لكن المسلمين الأوائل نشروا الدين بالسيف "يقول ياسين" احمر وجه والدي واعتدل في جلسته غاضبًا. ورفع السيجار من فمه وقطّب حاجبيه " هل تعرف الكذب. الكذب العنصري. الكذب التاريخي. التزوير. هل تعرف التزوير. هذه أندونيسيا وجنوب تايلاند وجنوب الفلبين.. كل هذه الأراضي. كلها مسلمون. أكثر المجتمعات الأسلامية سكاناً. هل دخل جيش إسلامي هنا. عن أي سيف يتحدثون. يا ابني ياسين هذا كذب. الإسلام ينتشر بالكلمة الطيبة وبالقدوة. بالعمل الصالح. الإسلام يقول جادلهم بالتي هي أحسن. الكلمة الطيبة كما في القرآن الكريم كشجرة طيبة جذرها في الأرض وفرعها في السماء تنبت خيرا. هذا هو الإسلام. الرومان هم الذين نشروا المسيحية بالسيف. الصليبيون كانوا يقتلون باسم المسيح المسلمين والمسيحيين معا في القسطنطينية وفي فلسطين. كل أمريكا وكندا وأمريكا الجنوبية وأستراليا تم نشر المسيحية بها بالسيف. طبعًا بعد قتل أصحاب البلاد الأصليين ودفن دينهم معهم. لو دخل المسلمون هناك لأبقوهم على دينهم. محاكم التفتيش أوروبية. الفتح الإسلامي لم يجبر أهل البلاد الأصليين على الإسلام. التسامح إسلامي. إنهم يكذبون على أنفسهم وعلى شعوبهم.. وعلى فكرة لعلك لم تقرأ كل الأناجيل. فى إنجيل متي الإصحاح العاشر – على ما أظن - يقول المسيح "لا تظنوا إني جئت لأرسي سلامًا  على الأرض. ماجئت لألقي سلاما بل سيفًا".

سألت ياسين هل يصلي أبوك في مسجد في روتردام؟" ضحك ياسين " لم أره يصلي في حياتي. أمي تذهب للكنيسة كل أحد. وأنا حين كنت طفلا صغيرا كنت أذهب معها. سألته وأنت تعتبر نفسك مسلمًا أم مسيحيًّا؟" قال ضاحكا " أنا ... أنا لم أدخل المسجد سوى مرة واحدة. مسجد الشركة في السوادي. وجدت العمال والإدارة والفراشين يتوضؤون. يغسلون وجوههم وأيديهم. سيارات مرسيدس وسيارات الأجرة تقف ويركض أصحابها وسائقو سياراتهم، يسرعون معا ليلحقوا بالجماعة للصلاة. صليتُ مع الناس دون أن أعرف ما يقولون... الكنيسة دخلتها مرات وأنا صغير مع والدتي.. بصراحة أنا لا أعرف. أبي. مسلم وأمي مسيحية ولم أسمعهما يوما يتناقشان بهذا الموضوع " ضحك ياسين وسألني " وأنت ؟" قلت " ألا ترى ؟ لست مسيحيا .. لست هُولَنْدِيًّا هل يبدو عليّ أنني مسيحي أو هولندي ؟"

كان يضحك وكانت السماء تزداد ظلاما وقد تعشينا، ياسين شرب قهوة. أنا شربت شايا. قمنا. سألته أين ستذهب كان يحمل شنطة عمل. قال " لا أدري. دعني أغتسل أولا في غرفتي. وأضع الشنطة وإذا شئت نلتقي... أريد أن نتحدث بأمر يشغلني منذ صليت مع الفقراء وأهل البلد. هناك شيء في داخلي.. هل يمكن أن نتحدث بعد العشاء.

التقينا في غوانتانامو كنت عائدا من دار الراحة. رأسي مغطى. في الممشى.لم أعرفه. كيف يمكنني أن أعرف المحجبين. لست خبيرا بالعيون. لكن حين مررت به شعرت بشيء ما . لا أستطيع أن ألتفت. ما الذي يأتي به إلى هنا. في زنزانتي حاولت أن أتذكر. في مرة تالية. هو عرفني. صرخ "النوارس" عرفني وعرفته. متوسط الطول. نحيف. يميل إلى القصر. مشيه سريع. فيما بعد رحت أفكر به كيف يتحمل كل هذا الضرب. الرفس بالأحذية الكبيرة والأيدي الغليظة. لا يمكن أن يضربوه مثلي. أنا هولندي وجسمي أكبر منه.

للإذلال.. ذات مرة أخذونا مجموعة في عز الظهر. أكثر من 15 فردا. أوقفونا على شكل دائرة. رؤوسنا مغطاة بالبلاستيك. وقف جندي في الوسط يحمل على رقبته دائرة من الفايبر جلاس وطلب أن ندور حولها دون أن نمسها. طلب أن نهرول حولها. أوقفنا بعد أن درنا أكثر من ثلاثين دورة. قال الشرطي اخلعوا قمصانكم دون أن تسقطوا القناع. برر كلامه وهو يضحك "الدنيا حر" ثم طلب أن نحني ظهورنا ونهرول دون أن نرفع ظهورنا ودون أن نمس الفايبر جلاس. طلب أن نسرع قليلا. كان هناك جنود آخرون بأيديهم عِصِيّ غليظة ما إن نخطئ في الهرولة أو المكان حتى يضربوننا على الظهر أو على الرأس. وبعد دورات عديدة مثل الثيران في النواعير أوقفنا. قال " خذوا راحة " وأضاف وهو يضحك " مثل الثيران ". بعد برهة صرخ بنا " انزعوا بناطيلكم الدنيا حر" وصرخ جندي آخر "بسرعة" من تأخر منا ضُرِب ضربة أو ضربتين. جاءت الأوامر "كل واحد يعرف مكان ملابسه، يلقيها على الأرض ويعرف مكانها " ثم طلب أن نهرول ونحن نحني ظهورنا. عرايا بدون ملابس داخلية. الجنود يضحكون وأحيانا يمدون عصيهم إلى خلفياتنا. كان تمرينا صعبا. تعودنا عليه كل يومين أو ثلاثة. صرنا نحفظ الطقوس.

مرة صرخ أحمد أو ربما سقط. سمعت صوته ورفعت رأسي قليلا أحدق لأرى ما يحدث. عورات عورات. كان على الأرض وهم يضربونه "قم قم" ممنوع أن نتوقف عن الركض. تذكرت الدم في ظهره والنوارس تلتقط السمك.

 

(5)

حين وضعونا في عنبر واحد نقلت غطائي وحذائي جنب ياسين. أخي ناصر في عنبر آخر، كنا نتذكر الدوران مثل الثيران. وتذكرنا تلك الليلة في منتجع السوادي.

انتظرت ياسين في البهو. تأخر. ربما لن يأتي. بهو المنتجع صغير. فيلات صغيرة وحمام سباحة. وكورنيش غير بعيد. ورطوبة، عندي سيارة مستأجرة. نويت أن أذهب لمسقط لألتقط بنت هوى. ثم جاء ياسين مرتديا قميصا مزركشا. قلت " فرساتشي؟" قال ضاحكا "تقليد من الفلبين" قلت "كل هذه الأناقة؟ هل أنت مقدم على سهرة أم لديك موعد "ضحك بوجهه الأحمر البشوش وقال "أنا معك حيث تريدني لكنني أود أن أحادثك بموضوع بات يشغلني بعد سبرنشيا". وقفنا في الطريق نسأل عن فندق المتروبول. أخيرا وصلنا في العاشرة. جلسنا في البار. فرقة غناء كاريبية تعزف الجاز. شربنا وعيوننا تبحث عن امرأة بمفردها. سألنا البارمان. دلنا على حانة قريبة. أسافر غدًا في العاشرة صباحا. الليلة آخر ليلة لي هنا.

قال ياسين إنه مدرب غوص انتدبته شركته للتدريب على الغوص ولحام الأنابيب تحت الماء. أسبوعين أو ثلاثة يعود بعدها لروتردام. قال ساهما "وربما لا أعود لروتردام" أنا أنهيت عملي. أبحث عن استثمار في المنتجعات وعندي ثقة كبيرة أنه سيكون لاستثمارنا مستقبل كبير. صديقي فيصل ابن نوح هو الذي أخبرني عنها. اشترى مليون متر مربع. سألته لماذا؟ قال لي واثقا. سأجيبك بعد عشر سنوات. لم أشترِ شيئا بعد. لكنني سأعود. فكرت بشراء أرض واسعة. عشرة أفدنة أو أكثر على البحر أشاهد منها الجبال الثلاثة الوعرة التي تبرز رؤوسها وشظاياها المتوحشة من الماء. وأُشيدُ فيلا صغيرة للأصحاب في مدخلها تمثال لبوذا وبطنه الكبير والقرط في الأذنين وتلك الضحكة الساحرة الساخرة منا نحن البشر. رأيت التمثال مرارًا في آسيا.

لم يتزوج ياسين بعد. في هولندا لا يحبذون الزواج. على الأقل الزواج المبكر. حدثني عن صديقته التي تسكن معه. يسكنان معا. كل بمفرده معا. وحكيتُ له عن جاكي. أمضيت معها أربع سنوات في بولدر. معها.. وحين أجد حمامة آكلها في أي وقت. جاكي تعرف ذلك دون أن أخبرها. كنت أذهب معها أحيانا للكوافير. أنتظرها ساعة أو أكثر. كوافير مانيكير باديكير وغير ذلك مما يستهوي الفتيات وتنخلع له قلوب الرجال. ما أحببت غيرها. غنجها. رضاها. شعرها المنفوش. الشفتين واللسان. غير متسلطة. ذهبنا معًا  لهونولولو ومرة قضينا ثلاث ليال في لاس فيجاس. وسبحنا قرب شلالات نياجرا. وأمضينا أسبوعًاْ سياحيًّاْ في الصين بين بكين وشنغهاي. قلب امرأة كبير. أوسع من الوديان. أعلى من الجبال. أحلى من العسل. أسود فاحم شعرها. والرمان كالرمان. والخصر رهيف. برونزي. أذهب معها لبيتهم. أبوها يحب أفلام شارلي شابلن. يلبس قميصا أنيقا نظيفا. يفتح أزرار القميص فيظهر الصليب. يسألها مرارا " ألن تتزوجا " يسألني بحنو وبشاشة "لم لا تتزوجان". وكنت أفكر.. ماذا لو سمع أخي عبد اللطيف بذلك أو الوالدة. أو بقية الإخوان والأخوات!! بهذه الفكرة!!

في الحانة فتيات من كل الأصناف هندية، فلبينية، صينية، روسية، مغربية، إنجليزية. أنا اخترت فتاة لو أردت أن تتعرف عليها تشتري من بائع الزهور عقدا تهديه لها. يضعه على رقبتها. تنظر لك ممتنة. ثم يبدأ التعارف. لم أكن راغبا بالتعرف وأخذ رقم التليفون. "الليلة يعني الليلة". بائع الورود الذي يلبس الفتيات عقود الورود على حساب الزبائن أقنعنا بتحايله اللطيف السمج فاشترينا عشرات العقود لهؤلاء المؤنسات" ياسين اصطحب صينية. وأنا أخذت هندية نحيفة فمها واسع.. في جبينها نقطة حمراء وفي أذنيها قرطان طويلان وصعدنا لغرفتيهما. رائحة البخور تملأ الدرج.

(6)

فراشي جنب أحمد. الليل طويل، والنهار طويل والتحقيق طويل. أحمد لا يكف عن الاستغفار. يصلي خمس مرات في اليوم. يطيل الصلاة. أقول له ادعُ لي معك. استغفر لي معك. وهو يجامل بالابتسام والاحتشام ويحاول بصبر أن يغير الموضوع. ودود لا يحب تذكر الأيام السالفة. أيام اللهو والشباب. أحاول أن أسحبه للكلام. ذاك ما أعرفه. يندمج فقط حين أحدثه عن العائلة. تصلني أحيانا رسائل من والدي. لم تصلني أبدا رسالة من صديقتي. لا تعرف عنواني أو لعلها وجدت صديقا آخر أو ربما لم يعجبها اختفائي المباغت. ينصت ساهمًا كما لو كان يفكر بأهله وبزوجته. تزوجها في قرية قرب قندهار. هو وأخوه ناصر تزوجا أختين وقبض عليهما في الشارع بعد أقل من شهرين.

تحدثت أنا وهو عن تلك المحققة. السيدة جالبريث A.C.Galbrith في غرفة بالداخل مؤثثة جيدًا ومضاءة جيدا وعلى كرسي مريح جلست على المقعد وأمامها مكتب فخم. قالت إنها من الخارجية الأميركية وهي تريد مساعدتي. تريد أن تفهم كيف نعيش. تشجعت وسألتها لماذا يعملون لنا تمرين الثيران. بدت مستغربة. قالت "لا يجوز". سألتها "هل هذا مخالف للقانون" قالت بنظرة فاحصة متأسية " الرئيس أصدر أمرا بعدم خضوعكم للقانون". سألتها " أي قانون " قالت "القانون الأمريكي" سألتها وعيني بعينها" تحت أي قانون نحن هنا " لم يعجبها سؤالي لكنها مضت تقول " أنتم لستم جيشا. نحن في حرب مع أطياف. أشباح. ليس لدينا قانون لذلك. ربما نُعِدُّ قانونا لذلك فيما بعد". وأضافت بلهجة فنية صارمة " القوانين تلي الأحداث لا تسبقها. أنتم حالة جديدة. فيما بعد سنضع قانونا لها ". قلت " وهذا الضرب والإذلال كيف نصنفه فيما بعد. كيف نقتص من الفاعل". رفعت رأسها وهي تدير ظهرها على الكرسي الهزاز وبيدها قلم. "اسمع. لن تعلمنا أنت القانون وحقوق الإنسان. أنت أتيت من الفلبين وبقيت أسبوعين في لاهور ثم ذهبت لقندهار لا بد أن لك علاقات لا تريد أن تكشف عنها. الأفضل لك أن تتعاون معنا. أنت ونحن نرتاح". قلت وأنا أستفيد من رغبتها في النقاش "لقد أعطيت كل المعلومات التي أعرفها. هل المطلوب أن أكذب الآن. ماذا تستفيدون من الكذب" قالت دون أن ترفع رأسها عن الأوراق والقلم يهتز بيدها. "اكذب أحسن" قلت "كيف أحسن ؟" قالت "إنها سُمعة الجيش الأمريكي. سمعة غوانتانامو. سمعة العدالة الأميركية. لا أحد يصدق ما قلته في التحقيق. سوف يضربونك حتى تعترف". قلت بصوت احتجاجي عالي النبرة " وماذا لو كنت بريئا " هزت رأسها متأففة وأرجعت كرسيها إلى الوراء " لست بريئا على الإطلاق ". صرخت بها في الإسلام لا يُعتد بالاعتراف بالإكراه ؟" هذا ما استفزها. نهضت من كرسيها وقالت "الإسلام؟ أنت مسيحي. أنت هولندي. أنت منا. لماذا تتكلم عن الإسلام. كل المواثيق والأعراف والمحاكم لا تعتد بالاعترافات المأخوذة بالإكراه وليس الإسلام فقط... ها أنت تعترف أنك مسلم " قلت محتدا " لست مسلما. لكني هنا منذ سنتين ألا يجب أن أعرف التهمة. لكن يجب أن تعرفي أن في الإسلام قاعدة " البيّنة على من ادعى.. يجب أن تثبتي أنني إرهابي أو أنني قمت بعمل غير إنساني. قتلت أحدا. شاركت أحدا. شجعت أحدا أنا فقط أردت أن أعرف ما الذي يجري في هذه الدنيا. بعد استقلال تيمور الشرقية. قطعة من أندونيسيا. كلكم دافعتم عن استقلالها باسم حق تقرير المصير. ماذا عن الفلبين. جنوب الفلبين يحاربون منذ أكثر من ثلاثين عاما. ماذا عن فلسطين أربعة ملايين يطردون من قراهم ومدنهم أمام أعينكم وبمساعدتكم.. لماذا لا تتحدث الكنيسة عنهم. أو الخارجية أنت تمثلين الكنيسة أم الدستور الأمريكي أم حقوق الإنسان. اسمعي يا سيدة جالبريث في الفلبين لا يوجد نفط. أستراليا تريد النفط في تيمور الشرقية. كل الهراء عن حق تقرير المصير ليس سوى غطاء. كيف تريديننا أن نرضى" أجابت بحدة "هذا موضوع آخر. هذا موضوع سياسي ليس له علاقة بأفغانستان والتآمر علينا." صرخت بها " ليس له علاقة! فلسطين أيضا ليس لها علاقة!! "أجابت بحدة" طبعا هذا موضوع آخر". قلتُ صارخًا "قتل الفلسطينيين يَوْمِيًّا وهدم بيوتهم وتشريد الملايين ليس له علاقة" أشارت بقلمها إلى الجندي وأخذوني للخارج. ضربوني بشدة. ووجهي رفعوا عنه الغطاء البلاستيكي وغطسوه بالماء العفن.

حين ضاقت العنابر والزنازين ذات ليلة رمونا في العراء بحثت عن أحمد وجلست بجانبه.. كنت أحدث أحمد في الليل. الأسلاك شائكة. رؤوسنا على أحذيتنا المغطاة بمناشف. والقمر ساطع تلك الليلة. قمر مدور ساطع والنجوم.. وسماء زرقاء صافية. أنا وأحمد أحيانا نعد النجوم. أحمد يريني مواضع الجروح في ساقيه وظهره. أضحك.. دم النوارس. يتأوه "يا ليت النوارس!! ولا هؤلاء الوحوش" قلت "هم يعتبرونها وحوش أليس كذلك؟؟". بقع دم على ملابسه وجروح طويلة في ساعده الأيمن. أحمد يقول لي انظر لهذا الكون العجيب كل نجم في مساره.. نظام كوني.. ما نحن سوى جزء صغير منه. أخبرته أنني يوم وصل أرمسترونج للقمر تمنيت لو أكون معه. كنت صغيرا وكنت أحلم بالمشي فوق سطح القمر.

أحمد بعد ضرب ذاك اليوم كان يهمهم "يريدوننا أن ننسى". ألا نربط الأمور ببعضها. يظنوننا الهنود الحمر. تلك الليلة لم ينم أحمد "يا ليتني أنسى". أول وآخر مرة أسمعه يبكي. قام يصلي. تيمم كما في الإسلام. لم يكن لديه ماء. وأخذ يصلي حتى الصباح. يطيل السجود. سألته مرة لماذا يطيل لصق رأسه فوق كفيه على الأرض في السجود. رأيت كثيرا من المصلين لا يطيلون. نظر لي نظرة بها تعجب " أدعو الله وأستغفره عما فعلت. لقد فعلت الكثير من الذنوب. أريده أن يغفر لي. الغفور الرحيم. الدنيا فانية. الخلود في الآخرة. السعادة والراحة هناك عند رضاء رب العالمين. سيغفر لي ربي. كنت دائما صادقا مع نفسي. ربي غفور رحيم. أخذونا دون أن أنام. أخذونا للتمارين.

 

(7)

المشكلة الذاكرة. أريد أن أنسى ولا أستطيع. أنا أريد أن أنسى. ياسين قال لي إنه حصل معه نفس الأمر. في نفس الغرفة. غرفة نقطة الماء البارد. دخلت مجندتان. لكن الماء لم ينزل. انتظر الماء ولم ينزل. انتظر وانتظر. لا أعرف ما تريدان. تتحدثان بسرعة فائقة. لا أفهم ما تقولان. كنت مرعوبا منتظرا نقطة الماء الجامد تسقط على النافوخ. تنظران إليَّ. بيدهما عصا طويلة. أقدمت إحداهن ونزعت بنطلوني. تركتاني عاريًا تحت الحزام. تنظران لي وأنا أنظر لهما. ترى ماذا تنويان. بالعصا أخذت إحداهما تشير لوسطي. ثم امتدت العصا أكثر. وأخذت تهز العصا بوسطي. بهوادة. تنظران لفخذي وساقي ووسطي ووجهي. تدخنان. تقدمت إحداهن فتحت أزرار قميصها. والثديان. كنتُ أنظر وجلا. خائفًا. وأنتظر نقطة الماء. اقتربت أكثر، أكثر فأكثر نحو وسطي. لامست بأصابع قدمها وسطي. كنتُ أنتظر نقطة الماء. كنتُ مترقبًا خائفًا. لا أعرف ما تريد. تدخن وتنفخ وسطي. تمد يدها. تدعك صدرها. أكثر من ربع ساعة. خرجتا تضحكان. انتهت مهمتهما.

حكيت لياسين. حدث له نفس الشيء أول أمس ولم يحدثني بالموضوع. كان مستاءً أو محرجًا. هل كانتا تجربان أثر دواء يشلنا. كنت مشوش الفكر. خفتُ. كذلك ياسين كيف أعيش بعد ذلك.. هل أخصوني!! بعيدا عن اللذة ماذا عن زوجتي. ربما تريد أبناء. أنا أريد أبناءً ليس مثل أبي لكن أربعة أو ستة. نتبنى!! لا ننجب. أعيش مَخْصِيًّا. لعلها تكون حاملا الآن أو ربما قد ولدت. كيف أتصل بها وأنا اقتادوني من الشارع في قندهار. أنا وأخي ناصر وكل الشباب المتواجدين، كيف أمشي أمام الناس. كيف أمشي في الشارع والحوائط تنظر إليَّ تصرخ "مَخْصِيُّ مَخْصِيُّ". هذا آخر ما يمكن أن يحدث لي دون الموت. العار. أمشي عنينا. به أتبول فقط. ماذا أقول لزوجتي. هؤلاء الأنذال أخصوني أخصوني. كان يجب أن أنتحر لولا أن الله حرم ذلك. كان يجب أن أموت فورا. أو ربما هناك طب خاص لهذا الموضوع. أو ربما هذا هو العذاب. العذاب الدنيوي. وربما هذه هي القيامة. وربما أظل مخصيا في الآخرة. يومين أمشي وأنظر لوسطي. في الحمام أتفحص. أنا أنا مخصي!. وددت لولا الحياء أن أمزق ملابسي. أن أقطع شعر رأسي. أولاد الكلب هل أخصوني؟!

بعد ليلتين استحلمتُ. ارتحتُ قَلِيلاً. قلت لياسين ما حصل. فرح لي. ابتسم. كان حزينًا . وتنهد تنهيدة طويلة آملا أن يحدث له مثلي.

 

(8)

مع سدول الليل وتراخيه. بعد الخامسة صباحا بقليل. هبطا الدرج مترعين مفعمين. قال أحمد مازحا وهو يضرب ياسين بكتفه "كيف اشتهيت هذه الصينية" ضربه ياسين بكتفه "وأنت ماذا وجدت عند الهندية" وضع ياسين يده على كتف أحمد وأحاط عنقه. دفع أحمد يده "ارفع يدك عن رقبتي. أظنها جرحتني بأظافرها" رفع ياسين يده وأحمد أظهر كتفه لياسين. عليه بقعة حمراء. قال ياسين "انتظر دعني أرى " رفع قميصه من خلف الرقبة وصرخ ياسين "كل ظهرك محمر ماذا جرى" ضحك أحمد وهو يشيح بظهره عنه "لم تستطع أن تقوم. حين قمت عنها أخفت رأسها بالمخدة وحين كنت عند الباب صرخت بي "انتظر..انتظر" استدرت نحوها أخرجت رأسها من المخدة وكنت أرى عينيها مغرورقتين قالت وهي تدفن رأسها ثانية "هل ستأتي ثانية" ضحكت وقلت "طبعا" قالت ضاحكة "المرة القادمة لا أريد فلوس" قلت "OK"

كانا قد وصلا للسيارة. ياسين أرجع المقعد للخلف وألقى بظهره عليه. والسماء ندية مضببة. الهواء منعش. شيء من الرطوبة الخفيفة. قطرات الندى ندية على أوراق الأشجار وأحمد يزيد سرعة السيارة. يكاد يطير. والندى على الأوراق الخضراء يتلألأ. تتراقص الأغصان. شارع طويل خال من السيارات تقريبا. أحمد يسرع وياسين شعره ينسدل خلفه ورأسه مسندة إلى النافذة المفتوحة يشاهد الخضرة وورود البوجنفيليا والهابسكاس الحمراء والصفراء والبيضاء. حمراء غامقة وقطرات ندى تتلألأ كالبلور. بوجنفيليا بيضاء تعانق الهابسكاس الأصفر. قال ياسين "قف قف" نظر له أحمد "ماذا" اعتدل ياسين في مقعده "قف" توقف أحمد وياسين أعتدل على الكرسي وراح ينظر للخارج قال له أحمد "ماذا ؟" قال ياسين "انظر" قال أحمد "ماذا ؟" قال ياسين "أنظر كيف يسرعون للمسجد" قال أحمد " صلاة الفجر. ماذا ؟" قال ياسين "نظام عجيب.. في الفجر أنا وأنت نعود من عند العاهرات وهؤلاء يقومون للصلاة.. انظر لمشيتهم. لا تعرف الغني من الفقير. الكل يتجه للمسجد." صرخ به أحمد "هذه صلاة الفجر.. طبعا لم ترها في روتردام من الأفضل أن تعود لأندونيسيا" التفت ياسين نحوه قال "ليس لأندونيسيا. تلك بلد أبي. لا أود أن أضع نفسي مكانه"

قال أحمد "والآن هل نسير" قال ياسين "أتعرف.. هذه من أغرب الليالي التي عشتها هنا" قال أحمد "وأنا كذلك.. كما لو كنت أعرفك من زمان" قال ياسين "ربما تكون صداقة دائمة" قال أحمد "ولم لا تكون" رد ياسين "إذن لتبق يوما آخر أريد أن أحدثك" قال أحمد "تحدثني!" قال ياسين " ابق يوما آخر" أجاب أحمد "لا أستطيع أبلغت أخي عبد اللطيف أنني عائد اليوم.. لا أستطيع. سيستغرب ما الذي أبقاني.. أقول له الهندية، وضحك، أم أقول له ياسين" قال ياسين والسيارة تسرع نحو السوادي "ابق يوما آخر".

في المنتجع قال ياسين لأحمد "لابد أن تنظر لظهرك". اتصل أحمد بعد ربع ساعة بياسين من غرفته "ظهري أحمر. لا يوجد لدي وقت للذهاب للطبيب.. هل تذهب معي للبحر. أريد أن أسبح" سأله ياسين "عندك وقت ؟" قال أحمد "لن نتأخر" طرف الشمس محمر من بعيد. غيوم بيضاء وسماء وحفيف أشجار. سارا على رمال الشاطئ قال أحمد للصبي "جهز لي بسرعة قاربا. أريده نصف ساعة فقط" ثم صرخ به "وسمكا للنورس" سأله الصبي "كم تريد" هز أحمد يده "الموجود" قال الصبي "الموجود كثير.. الدنيا صباح لم يأت أحد بعد. أتريد كل السمك؟ قال أحمد "هيا هيا كله" صرخ به الصبي مندهشا "كثير كله" صرخ به أحمد "كل ما تستطيع أن تحمله". أحمد خلع قميصه ونظر ياسين في ظهره كانت جروحا لا أكثر. ضحك ياسين "ماذا فعلت بالفتاة" هز أحمد رأسه وهو يتجه للبحر "أم هي ماذا فعلت بظهري" ثم قال متباهيا "تركتها لا تستطيع الوقوف على قدميها.." وياسين ينظر إلى ظهر أحمد ويمد يده نحوه. قال أحمد "دعني، ماء البحر مالح سينظف الجروح لا تقلق.. وضحك لقد تعودنا على جروحهن" قال ياسين "أنت فتاك" رفع أحمد صدره وقرص الشمس الذهبي يكبر سريعا وسريعا "فتاك فتاك ألا تعرف أن النكاح عبادة" قال ياسين "ماذا ؟" هذا مثل قديم يقال إنه حديث عن النبي "النكاح عبادة" قال ياسين "يقصد الزواج وليس العاهرات" أجاب أحمد "العاهرات العاهرات كله عبادة يكفي أن أشكر الله على ما أعطاني.. فلوس وقوة وعائلة.. هل تعرف أن العصفور يسفد في الساعة مئة مرة؟ وأن الحمام هو الوحيد من الحيوانات الذي يُقبّل عند السفاد. "أنا أعطاني الله خيرا كثيرا لو كنت مثل العصفور لمت في أول يوم للبلوغ. قال ياسين "هل تصدق لقد جلست مع الفتاة الصينية نتحدث. لم أمسسها. كنت أنتظرك"

ركبا القارب أحمد يقود الزورق وطيور النورس تقترب منهم ثم تبتعد. الصبي يصرخ بهم "ممنوع ممنوع أنا أقود القارب" وأحمد بالقارب ينطلق بعد أن وضع الصبي كرتون السمك بالقارب وأخذ يدفعه في البحر. ياسين يتكئ بساعديه على خشب القارب وأحمد يقول وشعره يتطاير والشمس ساطعة "رذاذ الندى يتساقط في الماء" قال أحمد "انتظر سأريك منظرا عجيبا" ياسين يقول "أريتني الليلة كل العجائب" قال أحمد "انظر لهذا الجبل هل رأيت أكثر وحشة من هذه الصخور؟ أي نحات يمكن أن يتخيل هذه القسوة في تقطيع المياه للصخور.. قبل ثلاث ليال جلست في القارب مع هذا الصبي أمام هذا الجبل أتخيل عوالم وعفاريت وأشباحا تخرج إليَّ.. ولكن انتظر سوف ترى النورس" مشى القارب نحو جزيرة ثانية. أحمد أبطأ السير. وها هما يقتربان.

مئات النوارس جاثمة على الأرض فوق الصخور. بدأ ياسين يسأل وأحمد قال له "إش إش" القارب يقترب والنوارس بدأت تسمع شيئا غير بعيد. ترفع رؤوسها. تحك جناحها بالآخر تتمشى رويدا.تتحرك، تصرخ، تزأر. قال أحمد لياسين "انظر" ومد يده لصندوق السمك وأخذ قبضة وقذفها على النوارس التي تطايرت نحوها تتسابق لاصطيادها في السماء. مجموعة أخرى وقال لياسين "أعطها سمكا اقذفها للسماء وسترى لن تصل واحدة منها للماء". مئات النوارس. بيضاء ورمادية وسوداء. تزأر تتصايح وتهف مسرعة تلتقط الأسماك التي يقذفانها عليها.

جلس أحمد قبالة ياسين غير بعيد عنه وأخذ يمد يده ويقذف بالأسماك سريعا والنوارس تتسارع نحوه. تقترب وتلتقط الأسماك. ياسين يضع يده على وجهه والنوارس تقترب من القارب أكثر وأكثر. أحمد يمدد ساقيه وظهره على خشب القارب ويقذف بالسمك في كل صوب والنوارس عشراتها ومئاتها يضرب بعضها بعضا غير خائفة تلقط سمكة وتطير بها عاليا وفوج آخر يندفع نحو القارب وياسين يغطي وجهه مذعورا ولا يرى غير السواد. بهيمية فظة. طيور النوارس في السماء وأحمد يقذف بالمزيد من السمك والنوارس صارت تلتقط الأسماك من يديه حتى قبل أن ينثرها. هجمت دفعة واحدة على القارب. على رأس ياسين ويدي أحمد وبطنه ثم تكاتفت مجموعة منها ورفعت الكرتون كله وطارت به والأسماك تتساقط من الكرتون المبلل بالماء وجماعات كثيفة تتسابق لالتقاط الأسماك. هجمت مجموعة منها نحو القارب تبحث عن سمكة بين ساقي أحمد، تحت المقعد وفوق رأس ياسين وهي تنقر وتصرخ. لم تبقَ سمكةٌ بالقارب. رفع ياسين يديه عن وجهه ولاحظ دماء ونقرات على ساقه وعلى بطن أحمد ورجليه.

اعتدل أحمد في جلسته "هل رأيت ؟" قال ياسين "انظر للدماء في بطنك وساقيك" هل هناك دماء على وجهي أو رأسي" قام أحمد منتعشا "هيا دعنا نسبح.. ماء البحر المالح سينظف الدماء من ظهري وبطني.. هيا اهبط للماء" ولم ينتظر قفز للبحر. غاص وخرج سريعا "تعال ياسين.. تطهر بماء البحر.. عليّ جنابة.. وأنا على سفر من الأفضل أن أتطهر" غاص في الماء ثانية.. أخرج رأسه من الماء وأشار إلى ياسين "تعال.. تعال الماء بارد منعش" ومضى يسبح بعيدا وسريعا.

قفز ياسين للماء تابعا أحمد. يضربان بساعديهما الماء بسرعة. يتسابقان. يضحكان. يخرجان رأسيهما من الماء. يغوصان ثانيةً. ياسين يكرر "النوارس. الدنيا في عيني ظلام." ضحك أحمد "هل خفت منها." ياسين يقول "مجموعة تطير ومجموعة تهجم. كل السماء ظلام من كثرتها. لم أر الشمس وهي ساطعةً. فقط كنت أسمع حفيف النوارس وصراخها" ارتفع صوت أحمد قبل أن يغوص ثانيةً "أنت إذا تخاف الطيور".

كانت الساعة حوالي السابعة حين طلبا الإفطار. ياسين ينظر له مستغربا فرحا "أما ليلة" وأحمد يقول ضاحكا "ولا كل الليالي". ياسين يتمعن فيه "لكن أريد أن نتحدث.. ابق يوما آخر" وأحمد يكرر "لا أستطيع.. لا أستطيع" أخيرا قال أحمد "تحدث عندنا ساعتان قبل أن أصل المطار" وضع ياسين رأسه بين كفيه. أغمض عينيه وقال "هل ستسمع ؟" أحمد نظر له بتمعن واستقراء "طبعا سأسمع" قال ياسين ووجهه مازال مغطى بيديه "ستسمع ؟" قال أحمد وهو ينظر له مستغربا "طبعا سأسمع" قال ياسين "ابقَ يوما آخر أريد أن نتحدث" قال أحمد بسرعة "قلت لك لا أستطيع" لم يرفع ياسين يديه عن وجهه وهو يقول بصوت هامس متحشرج "لن أعود لروتردام".

وصل أحمد للمطار متأخرا. وكان يقود السيارة مسرعا. وقد ودع صديقه سريعا. سلم السيارة المستأجرة وسحب شنطته وختموا جواز سفره وأسرع نحو بوابة المغادرة وأدرك فجأة أن ليس لديه عنوان لياسين. أسرع بالاتصال بالفندق وهو في بوابة المغادرة وطلب غرفته. أجابت موظفة الاستقبال "نعم أعرفه.. الهولندي.. لماذا تصرخ بي قلت لك إنه غادر الفندق.. نعم قبل نصف ساعة.. أتظنني أكذب عليك".

(III)

عبد اللطيف في رأس الديوان بالزاوية والمقاعد الرئيسية بجانبه للزوار. الإخوان والزوار على المقاعد على الجانبين. زوار متنوعون من الحي من معارف الدراسة ومن الأنساب والأقارب وزملاء العمل. كل يوم عدا الخميس ما بين صلاتي المغرب والعشاء. دنا خالد من عبد اللطيف. انحنى مقتربًا منه وأخرج من جيبه أوراقًا.

هذه رسالة مسجلة !!

من القاهرة.

من أين ؟!

من مصـر

مكتوب عليها اسم المرسل

لا

ونظر خالد لأخيه بحرص كمن لا يريد أن يؤذي مشاعره. مد عبد اللطيف يده واقترب من النور الموضوع على طاولة الزاوية وقرَّب الضوء على الأوراق لتسهل قراءتها. كانت عيون بعض الإخوان وآذانهم تشرئب للسماع كلما اقترب أحد من عبد اللطيف ليحادثه بموضوع ما. فتح عبد اللطيف الرسالة وبدأ القراءة

الأخ الفاضل عبد اللطيف السعد الناصر حفظه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

وبعد يا أخي الفاضل لقد تزوجتُ على سنة الله ورسوله وحسب الأعراف والقوانين المصرية بفوزي أحمد البارودي. وعائلتهم من محافظة المنصورة. وهو صيدلي أنهى تعليمه العام الماضي وأبوه اشترى له صيدلية في منطقة العجوزة اسمها صيدلية نفرتيتي. وبعد تعارفنا غيّر اسمها إلى صيدلية هنوف هو يديرها ونحن نسكن في شقة بنفس العمارة ومرفق لكم مع هذه الرسالة....

وقبل أن يكمل الرسالة سمع الجميع يقومون من مقاعدهم لاستقبال زائر ورفع عينيه. كان القادم زميله في الوزارة وصديقه وزير التقوى والإصلاح. دس الرسالة وباقي الأوراق تحت أحد المساند التي يستند عليها في جلسته. رفع النظارة عن عينيه وأدخلها في الغطاء الجلدي الفضي وتطلع لزميله الذي كان يسير مُتَهَادِيًا ورائحة طيب نفاذ تسبقه. الوزير يمسح بيده الغليظة الناعمة طرف لحيته الصغيرة الأنيقة. كان يحف شاربه وحاجبيه. يبدو أكثر بهاءً. عيناه عسليتان واسعتان عميقتان ونافذتان. وجهه بشوش. كلامه واضح العبارة وصوته قوي صاف. جلس على كرسي بجانب عبد اللطيف الذي لم يقم عن مقعده. الوزير حيا الجمع الواقف احترامًا له

- اجلسوا ... أبقاكم الله

وأخذ الجميع يكرر عليه التحية المعتادة . يمدون رقابهم. يرفعون أصواتهم وبعضهم ينتظر قليلا ليعيد التحية كي يسمعها الوزير الذي كان يبتسم ويرد التحية بمثلها وهو يومئ برأسه

يقول أحدهم

- الله بالخير

ويرد الوزير

- الله بالخير


- الله بالخير

يرفعون أيديهم

- الله بالخير

يبتسم ويرد التحية

- الله بالخير


- الله بالخير

وعبد اللطيف يفكر بالرسالة وما إن انتهت التحيات حتى مسح الوزير وجهه بكفيه واستدار بعد قليل نحو عبد اللطيف

ألم تسمع جديداً عن المجموعات الأرهاربية.

نظر إليه عبد اللطيف وقال هامسًا - ربما نسمع في القريب

قال الوزير متسائلا - الأجهزة وعدت أن تكشف أسماءهم..

قال عبد اللطيف - نعم . وأردف ... الأمير نفسه مهتم . قال لي أطال الله عمره "هؤلاء أبناؤنا. الشيطان أضلهم. لكن الهادي هو الله. وقد أبلغتُ المختصين بالاهتمام بالأمر".

ابتسم عبد اللطيف وهو يقول للوزير بصوت منخفض الأمير كان يتأسى ويكرر "يذهبون للدراسة في أمريكا وكنا نخشى عليهم أن يجلبوا لنا مع التعليم المخدرات. لكن الآن صاروا يعودون لنا مع العلوم بلحى وتعاليم غريبة".

ضحك الوزير وهز كتفيه ساخرا: لحى أمريكا مختلفة عما لدينا. لحى ديمقراطية. ومنهم الصادق ومنهم المنافق ومنهم المدسوس.

لم يكن عبد اللطيف في وضع يسمح له بالابتسام أو التعليق. الأمور المكدرة تتكالب وهذه الرسالة من هنوف ماذا تريد أيضًا! ماذا تريد وهي تتصرف كما تبغي. ماذا تريد منا. الوزير لاحظ صمته وهواجسه، التفت نحوه وأخذ يحادثه بصوت منخفض لم يكن ممكنًا لأحد أن يسمعه. ارتد الوزير في جلسته وهو يمسح لحيته قال

أراك ساهمًا

قال عبد اللطيف -الظروف.....

كان الوزير قد عرف بهروب هنوف التفت إليه

قال الوزير - كأني لاحظتُ رسالة تقرؤها عند دخولي

قال عبد اللطيف دون أن يلتفت نحوه: نعم

قال الوزير: الله المعين

همس عبد اللطيف وهو ينظر نحو المدخل: الله المعين

سحب الوزير نفسًا طويلا وقال: إذن أتركك... وأردف ... الله المعين

قال عبد اللطيف وهو ما يزال منتصب القامة في جلسته دون أن يرفع عينيه نحوه. عينيه اللتين تركزان وتشعان مثل عيني صقر لا يعرف على ماذا يُركِّز.

                             - الله المعين

قام الوزير وقام كل من في الديوان :

                             - في أمان الله

ارتفعت الأصوات: في أمان الله

في أمان الله في أمان الله يا طويل العمر في أمان الله

وسار الوزير بخطاه المتمهلة ومشيته المستقيمة وقام عدنان ومشعل وراءه يودعانه حتى باب الخروج. جلس خالد بجانب عبد اللطيف على المقعد الذي كان الوزير يجلس عليه وأدنى رأسه من أخيه "هل تريد شيئًا؟".

قال عبد اللطيف : لم أقرأ الرسالة بعد

أخرج عبد اللطيف الرسالة من تحت المسند واقترب من النور وأخذ يقرأ. ينظر في الورقة المرفقة بالرسالة، يعيد القراءة مرتين والإخوة يتحدثون وينظرون من بعيد لتعبيرات عبد اللطيف وحركاته وشجونه. قام عبد اللطيف وسلم الرسالة لخالد.

قال عبد اللطيف: لا تطلع عليها أحدًا. نلتقي في صلاة الفجر

قال خالد: ألن تصلي معنا العشاء

كان عبد اللطيف قد بدأ بالتوجه خارج المجلس. وضع خالد الرسالة في جيبه وأسرع والإخوان ومن في الديوان نحو المسجد.

صعد عبد اللطيف إلى غرفته وزوجته أسرعت نحوه .. "انتهت صلاة العشاء!" نظر لها قال "سأصلي الليلة وحدي. ضعي لي شايًا بالحليب مع بسكويت في غرفة المكتب. هل السجادة هناك؟ لا أريد أحدًا يقاطعني الليلة. توجه للحمام يتوضأ. أقفل باب المكتب وأطال في الصلاة. يصلي ثانية، يشرب الشاي بالحليب، يصلي مرة أخرى، يقضم بسكويتا ويستخير ربه فيما عساه فاعلاً في هذا الأمر كما هي العادة حين تشتد الأمور.

بعد صلاة الفجر خرج مع خالد من المسجد الذي كان لا يبعد كثيرًا عن البيت.

قال عبد اللطيف: أرى أن تذهب للقاهرة

قال خالد: إن شاء الله

قال عبد اللطيف: مر علي في المكتب في العاشرة

في العاشرة سلم عبد اللطيف رسالة مختومة من رئيس الديوان لرئيس الديوان في مصر. قرأ خالد الرسالة ووضعها في جيبه وعبد اللطيف أكد عليه أن يأخذ عقد الزواج معه. قال عبد اللطيف :- "لا تتصل بالسفارة إلا بعد أن تتأكد أنهم يستطيعون أن يفعلوا شيئًا. وإذا لزم تحدث معها وخذها بالكلام الطيب. عنوان شقتهما واضح في الرسالة". في مطار القاهرة كان مندوب الديوان بانتظاره. سكن فندق سميراميس. وفي التاسعة صباحًا من اليوم التالي كان في مكتب رئيس الديوان. الديوان مستدير. شبابيكه عالية وعريضة محاطة بإطارات من خشب ملون بالأخضر الفاتح. السقف خشب محفور بالمقرنصات الإسلامية وعلى الجدران صور منذ أكثر من مائة عام لكل من تولوا رئاسة الديوان. طرابيش وتواريخ وشوارب ونياشين. لم يمض وقت طويل حين فُتح باب ودلف منه رئيس الديوان مستعجلا في خطواته متمهلا في كلامه واستلم الرسالة من خالد. طلب من الخادم عصير ليمون له ولخالد قرأ الرسالة سريعًا واطلع على عقد الزواج وضغط عليه بيده ثم قال "إن شاء الله بسيطة. سيأتيك بالفندق هذا المساء مندوب من عندنا" صافحه مودعًا وأخذ الرسالة ومرفقاتها.

خالد عاد للفندق. لا يريد أن يرى أحدًا. اشترى كل الجرائد وصعد للصالون الذي يطل على النيل. النيل واسع وقوارب صغيرة تجوب مياهه. وأشجار خضراء وعمارات عالية في الضفة الأخرى. الناس يذهبون في كل صوب والسيارات تسرع هنا وهناك. خالد ينتهي من جريدة ليقرأ أخرى. أصعب مهمة تمر عليه في حياته. "كيف غرر بها هذا الشاب وهي مخطوبة". يدور بالصالون ومنه إلى البلكون وينظر للسماء "متى عرفته؟!" طلب الغداء وأكل قليلا. لم تكن لديه شهية. في الثانية اتصل هَاتِفِيًّا بأخيه عبد اللطيف وأخبره بزيارته.

ينظر خالد للسقف متمددًا على السرير وأشياء كثيرة تدور في ذهنه عن بنات العائلة في القاهرة ماذا كن يفعلن، وعن هنوف منذ صغرها وتدليل أمها لها وطبائعها الغريبة يفكر "كيف تعرفت عليه. ومدام فالكوني لم تعرف شيئًا قبل الصور ولا البنات معقول ولا واحدة لاحظت شيئًا". على السرير يتمدد ولم ينم. كيف سيقابلها وماذا سيقول لها ولزوجها فوزي. تزوجا. كيف سيأخذها ويعود بها. عاد يتصفح الجرائد. يفتح التلفزيون ويغلقه ثانية. لا رغبة له في أي شيء. أمر واحد يشغله كيف يعود بها.

في الثامنة مساء رن التلفون. وطلب من محدثه أن يأتيه بالصالون. دخل اثنان وجلسا معه في الصالون. قال الأول "لا تقلق. نحن نحاول" وفتح مِلَفًّا به أوراق عديدة. قال "حتى الآن هما في شقتهما. أتيا معًا حوالي السادسة. ونحن تحدثنا إلى أبيه في المنصورة. كان الرجل متفهمًا موقفكم لكنه لم يرد أن يأخذ موقفًا. قال "فوزي رجل وهي ليست قاصرًا. أنتم تحدثوا معهم والله يكتب الخير. أنا لن أتدخل. كيف أتدخل. أقول له طلقها. ما المطلوب مني بالضبط". أضاف الآخر وهو يجيب تساؤل خالد "من المحتمل أن يتصل بابنه. غالبًا سيتصل به. وهذا ملف فوزي في كلية الصيدلة وهذا تقرير بشهادات العميد وبعض الأساتذة كان طالبًا جيدًا. عاديًّا.. لا مشاكل.. بالعكس كان محبوبًا من الأساتذة. لا غبار عليه. يحب الرسم. يرسم لوحات زيتية. هذه هوايته. لكنه يعمل في الصيدلية. صيدلية أبيه. عنده سيارة. وعائلتهم كبيرة ومن أقدم عائلات المنصورة. أناس أفاضل معروفون لا غبار عليهم ولا شائبة. الأول قال له "هل تريد أن تتحدث معها أو مع زوجها؟ أم تريدنا نحن أن نتصل بهما؟ ماذا تقترح؟" خالد لم يعرف ما يقترح قال بصبر وهدوء شديد "المرجو أن آخذها معي وفيما بعد نرى كيف نعالج الموضوع" سأله الأول "وإذا رفضت أن تذهب معك" لم يَحُرْ خالد جوابًا. صافحاه ووعداه أن يعودا لرئيس الديوان ويتصلا في الصباح به.

في التاسعة والنصف اتصل خالد بأخيه عبد اللطيف وأبلغه بما دار. قال له عبد اللطيف "دعهم يتصلون بزوجها أولا فإذا لم يتم ما تريد اتصل أنت بها وحاول إقناعها". مضى يومان وخالد لا يخرج من الغرفة. ساقاه يتعبانه كلما أراد أن يقوم. يقرأ الجرائد والمجلات ولا يأبه أو يفكر بما يقرأ أو يشاهد بالتلفزيون وما يبثه من أخبار. "كيف عرفته؟" يأتيه مندوبا الديوان في الصباح والمساء "انتقلا من الشقة. لا ندري أين ذهبا." سأل خالد "والحل؟" قال الأول "إن شاء الله خير. لا بد أن يظهرا في مكان ما. لقد تركنا اثنين يراقبان شارعهما. وتلفون الصيدلية مراقب. لا بد أن يتصل" خالد يشكرهما ويعتذر عما سببه من إزعاج. قال الأول "هذا عملنا. كل أسبوع أو اثنين عندنا موضوع مشابه. في الشهر الماضي أخذنا شخصًا وأركبناه طائرة عنوة". سأل خالد "عنوة؟" قال الأول "نعم كان كبيرًا في السن وامرأة شلق يعاشرها تاركًا أهله ستة أشهر" سأل خالد "شلق؟ ماذا تقصد؟" ضحكا وقال الثاني "طويلة اللسان. سيئة الخلق وعاهرة. أمرنا الرئيس أن نأخذه عنوة ونعيده لأهله. أيضًا وصلت توصية من رئيس الديوان عندكم. كان سكران وأخذناه للمطار. في الطائرة فككنا القيد من يديه" خالد عاد يسأل "عنوة؟" قال الأول "هذه بنتكم .. وهما شابان . وزوجها من عائلة فاضلة ومعروفة. الموضوع هنا مختلف. هل تريد أنت أن تأخذها عنوة؟" قال خالد "لا لا" قال الأول "قابلنا مدام فالكوني اليوم وأكدت أنها لم تعرفه قبل أن تهرب هنوف معه ولم تره معها أبدًا" والثاني سأل "ألم تسألوا أخواتها؟" قال خالد "بلى .. لم يعرفن شيئًا" نظر الاثنان أحدهما للآخر مستغربين غير مصدقين..هواجسهما مخفية وهما يتبادلان النظر الأول يده على شاربه والثاني جبهته تعرق. وقال الأول "هل تصدقون ذلك" قال خالد "نعم نعم نصدق ذلك. هو غرر بها" الأول قال مستطردًا "ليس بالضرورة . ربما كانت هي تريد ذلك" خالد قال "لكنها مخطوبة" سأل الأول "لمن" قال خالد "لعبد العزيز ابن خالتها منذ سنوات وكل العائلة تعرف أنهما سيتزوجان" سأل الأول "وماذا عن خطيبها عبد العزيز الآن .. هل عرف بالموضوع"

ارتد خالد في كرسيه. وانتظر قليلا وهما ينظران إليه متفحصين وينتظران جوابه. قال "نعم لقد عرف. هي اتصلت به مرتين وأخبرته بنيتها. والبارحة اتصل بي هنا وقال لي إنها اتصلت به أمس مساءً كانت غاضبة وأبلغته "هل ستتزوجني بالقوة؟! أنا تزوجت رجلا آخر. لماذا لا تتركني" أضاف خالد بعد قليل "لا شك أنها قالت له كلامًا قاسيًا. لقد قال لي "أنا لا أريد أن أتزوجها. ولم أطلب من أحد أن يزوجنيها غصبًا. أنا لم أملك عليها. ليس لي علاقة بموضوعها. لا أريد أن أكون طرفًا" الاثنان يحدقان بخالد وجبين الثاني يتصبب عرقًا يمسحه بمنديل في جيبه.الأول أنيق بشارب محلوق بعناية ودائما يحمل شنطة بيده قليل الابتسام وبدون نظارة. والثاني يستخدم أحيانا ألفاظا بالإنجليزية. منديل جيبه يطابق لون البدلة التي تتغير في كل زيارة وجبهته تعرق باستمرار ويلبس نظارة سوداء ليلا ونهارا. بعد أن خرجا ظل خالد في البلكون ينظر للأنوار تتلألأ في النيل. والقوارب مليئة بالناس يغنون ويرقصون. وهو يفكر "كيف عرفها؟" كيف غرر بها؟".

هنوف منذ صغرها تحب الغناء. تتكلم بصوت مرتفع. لا تأبه كثيرًا بمن حولها. لم تكمل الثانوية لم ترغب بالدراسة. ودعت أخواتها ولم تسافر معهن للقاهرة. لم تكن لديها رغبة في الدراسة. وبعد عامين وهي تسمع منهن في عطلة الصيف عن القاهرة.. السينما والمسرح والغناء والنيل..ومدام فالكوني أقنعت والدتها وإخوتها أن ترافق أخواتها. لم تكن قد قررت ماذا تدرس. أصرت. وَصَرَخْت بشدة وبكت. ودوخت والدتها ولم تكن أخواتها يرغبن بمجيئها. مغرورة. تهتم بنفسها. مدللة. صديقاتها معدودات ومثلها لا يعجبهن العجب. تظن أنها أجمل ملكات الجمال في العالم.

وجاءت للقاهرة. هن يذهبن كل صباح للجامعة. جامعة القاهرة. أحيانًا تصحبهن، بيدها كاميرا وفي أذنيها سماعات صغيرة تسمع من المسجل الأغاني التي تريد. تلبس ما تحب. لا تتمكيج. بنطلونات ضيقة. وشعرها قصير وربطة على جبينها أعلى الجبهة تفصل الشعر عن الوجه الباسم. سألت شَابًّا عند مدخل الجامعة وهي تشير بيدها "أهذه حديقة الأورمان" نظر لها الشاب مندهشًا. قال "نعم" قالت شُكْرًا وطارت تسير مسرعة نحو الحديقة. يتابعها بعينيه. ربطة على شعرها حمراء وعيناها واسعتان. يتابعها بعينيه. تقفز وتتمايل بسرعة تغني على رصيف الحديقة. توقفت. ينظر لها. تفتح الكاميرا تصور الشارع أو الأشجار. تدور. ليس بيدها كتب. ليست طالبة. أقبل صديقاه من صحن الجامعة فاعتذر عن الذهاب معهما.

سار نحو حديقة الأورمان عيناه تدوران. هي هناك. بين الأشجار سار مختبئًا وحين اقترب منها التفت نحوها وهي نادته "هل يمكن أن تأخذ لي صورة هنا" دق قلبه سريعا "ممكن" اقتربت منه وسلمته الكاميرا شرحت له كيف يستعملها ثم وقفت وحددت له أين تريد أن يصورها. أخذ الكاميرا وهي مشت مثل حمامة مسرعة وأسندت رأسها على جذع شجرة باسقة وابتسمت وفوزي صورها. قالت ضاحكة "أخذت صورة لي أم صورت الشجرة؟" ضحك وقال "أنت والشجرة" دنت منه أخذت الكاميرا قالت له شكرًا.

ابتعدت عنه وهو يتابع مشيتها وخفتها وصوته يرتفع "وأنا لا تأخذين لي صورة!" التفتت نحوه "أين كاميرتك.. أنت ليس معك كاميرا" قال مبتسمًا "بكاميرتك" أشارت بإصبعها "لا لا" وأشارت له بيدها "باي باي" وقف مكانها ساندا ظهره على جذع الشجرة ينظر لها تبتعد بعيدًا وهو يدير رأسه وعينيه يمينًا وشمالا يتابعها. يراها تخرج من الحديقة. يقف مكانه حائرًا. يجلس تحت الشجرة "شكرًا" ينظر في الأرض والأعشاب. يتابع بعينيه الطريق الذي سلكته للخروج من الحديقة "شكرًا" يرن صوتها بأذنه.

الشمس ساطعة تتسلل من بين أوراق الشجر العريضة. نسيم خفيف يمر على وجهه وشعره وقلبه. اليوم جميل. الجو جميل. جميل. سار عائدًا للصيدلية. في شارع النيل يسير على الرصيف يتوقف ينظر للنيل يتماوج. يسرح، أخضر أزرق ماء النيل في الشمس الساطعة، والقوارب يقودها صغار ينقلون سياحا وأصدقاء، يأكلون ويغنون وقواد القوارب يتهاتفون ويصرخون مع بعضهم وضحكتها ترن في أذنه "باي باي" يسمعها تقول "شكرًا. يراها تقترب منه بيدها الكاميرا تشرح له. يدها. يداها. نعومتها. خفتها "ليست من مصر".

لم يطل المكوث في الصيدلية. المساعدان يريانه وهو يقول مسرعًا "أنا تعب اليوم قد لا أعود بعد الظهر" صعد إلى شقته في الطابق الثالث. ارتمى على السرير. يحدق في السقف. قام إلى الثلاجة وأخرج عصيرًا. تراءت له الشقة غير نظيفة. وألوانها قديمة وباهتة. فتح كراسة الرسم وجلس أمام الشباك وأخرج القلم. يرسم. يتذكرها. "باي باي" يرسمها. "شكرًا" يرسمها تسير مسرعة بين الأشجار وتخرج من حديقة الأورمان. يتذكر كانت تدندن. تغني. أول مرة يسمع الأغنية "يا عيون الكون" وهي تهز رأسها مقبلة نحوه والسماعات في أذنيها. ترفع سماعة من أذنها اليمنى لتشرح له كيف يستعمل الكاميرا والمطرب يصدح "يا عيون الكون" يتذكر اللحن.

خرج إلى أقرب دكان لبيع الأشرطة. "يا عيون الكون" والبائع يقول "ما عندنا هذه الأغنية" يسأل ثانية "ربما ليس اسم الأغنية" البائع مستغربًا "لم أسمع بها" وهو يقول "أنا سمعتها" قال له البائع "دندن لحنها" "لا أعرف اللحن فقط سمعت المغني يقول بنبرة طويلة يا عيون الكون. يسأله البائع "المغني خليجي؟". يقول فوزي "نعم نعم" ومد البائع يده نحو الأشرطة وسلمه شريطًا "أكيد محمد عبده" قال فوزي "الأغنية هنا" قال البائع اسمع الشريط وإذا لم تجد أغنيتك أعد الشريط". سلمه ثمن الشريط وذهب لدكان يبيع المسجلات الصغيرة. اشترى مسجلا ووضع السماعات في أذنيه.

جلس في مقهى يستمع ويستمع وأخيرا ارتفع النغم "يا عيون الكون" "يا عيون الكون غضي ذا النظر" القلب انشرح والوجه صار أحمر. اللحن يتغلغل في قلبه والكلمات... الكلمات جديدة "الحظ الليلة كريم". يتذكر تمايلها على رصيف حديقة الأورمان. كانت تسمع هذا المقطع حين وقفت بجانبي. بدأت قدماه مع اللحن تهتز. قام دفع الحساب دون أن يشرب نصف كوب الشاي الذي صار باردا. وعاد للشقة يكرر الأغنية ويعيدها كلما انتهت. وكلمة شكرًا وباي باي ترنان في أذنيه. الشقة تحتاج لصبغها من جديد. وضع الشريط في المسجل وجلس يستمع ويرسم. يستمع. يسجل كلمات الأغنية. يردد مقاطع منها. يراها تدندن وتتمايل على رصيف حديقة الأورمان. وجهها مشرق أنيق دقيق يتذكر تقدمها نحوه وهي تهتز "يا عيون الكون". يعيد التسجيل عشرات المرات "الحظ الليلة كريم". في التاسعة مساء اتصل بصديقه هشام قال له "أريد أن نسهر الليلة. سأمر عليك" ركب سيارته وصاحبه هشام يسأله إلحاحًا "إلى أين!!"

في شارع الهرم وقف عند ملهى الليل. قال مصطفى "ماذا بك؟" قال له "الحظ الليلة كريم" طلبا بيرة وهو يردد الأغنية "أين سمعتها؟ يسأله مصطفى" وحكى لهشام ما رأى. وظهر المغني الذي يغني أغنيات خليجية وفوزي يصرخ به واقفًا "المعازيم .. يا عيون الكون" والمغني يغني أغنية أخرى. يشرب فوزي بيرة يقوم بين الطاولات يقترب من المغني "المعازيم" المغني يضحك "سأغنيها اجلس في مكانك" يعود لمكانه. تنتهي الأغنية وتتوقف الفرقة عن العزف. يقف فوزي ثانية "المعازيم المعازيم" يأتي المغني لطاولته "أغنية جميلة... لكن الفرقة لا تعرفها" يمسكه من يده يسأله أنت تعرفها "يقول المغني "ليس كلها" يهز يد المغني "يا عيون الكون تعرفها؟" قال المغني "الفرقة لا تعرفها" فوزي يسحب المغني من يده. ومصطفى جالس ينظر إليه يضع يده على خده ويضحك. فوزي ينظر للجمهور ضاحكًا ويسحب المغني من يده إلى ساحة الغناء "نريده يغني المعازيم" يصرخ جمهور من هناك "المعازيم ... المعازيم" يقف مع المغني ويسحب الميكرفون. يقول للفرقة "ردوا معي" والمغني يضحك ارتفع صوتهما معًا "يا عيون الكون.. اتركينا اثنين عين تحكي لعين". والجمهور يضحك ويردد بعضهم من هناك "عين تحكي لعين" طاولات بها نساء ورجال يضحكون. شباب هناك يرددون "أكمل أكمل" فتاة طلعت ترقص فوق طاولة وأصحابها يصفقون. وهو يكرر بصوت عشق غامر "يا عيون الكون غضي ذا النظر" المغني واقفًا غير بعيد يضحك ويشير بيده نحو الجمهور "ماذا أفعل".

لم ينم تلك الليلة. متعبًا يعود ينظر للرسوم. يتهالك على السرير محدقًا في السقف "باي باي" والشريط أحمر. وقرطان أحمران دائرتان واسعتان والابتسامة "لا تصور الشجرة. صورني أنا" وتشير لصدرها "أنا". في الصباح وفي نفس الوقت يحمل الرسوم معه يذهب عند باب الجامعة ويدور في حديقة الأورمان. يومين وثلاثة. والشقة بدأ الدهانون صبغها من جديد. فوزي يثرثر مع نفسه "سأجدها. الله خلقني لها" هشام يضحك "أنت لا تعرفها".

في اليوم الخامس طار قلبه. رآها من بعيد. هناك. السماعات في أذنيها. والقميص سماوي والبنطلون الضيق والربطة سماوية فوق الجبين. قفز والرسوم بيده. لاحظته وهي توشك أن تعبر باتجاه حديقة الحيوان. لم تتأكد. أدارت بصرها عنه. هو تقدم "صباح الخير" فز قلبها لم تجاوب. همت بالعبور. ورأت وجهه مبتسمًا "اليوم ستأخذ لي صورة أخرى" أسرع نحوها "بكل فرح" أعطته الكاميرا. "أشرح لك مرة ثانية كيف تصور أم تتذكر" قال "أعرف هل كانت الصورة التي أخذتها لك حلوة" قالت "الفيلم لم ينته بعد" قال "أين تريدين أن آخذ لك صورة". قالت "عند التمثال" وطارت تعبر الشارع وهو أسرع وراءها وتوقفت سيارة مسرعة تنتظر عبورهما

جلست تحت تمثال نهضة مصر "صورني هنا" ثم طلعت فوق التمثال ووقفت بجنب المرأة التي تضع يدها على رأس أبي الهول "صورني هنا" وهي تضحك "صورني أنا" وتشير بيدها لصدرها. مد يده ليساعدها في النزول. أشاحت بوجهها وتراجعت للناحية الأخرى من التمثال تقفز بمفردها نازلة كحمامة. وشرطي أقبل مسرعًا "ممنوع ممنوع". فوزي مدَّ يده يسلمها الكاميرا وعند رصيف مدخل حديقة الحيوان سقطت منه الأوراق. أحنت ظهرها تساعده في التقاطها. لاحظت شيئًا. "هذا رسمك؟" واقتربا من سياج الحديقة. صارت تنظر إلى الرسوم وقلبها توقف "من هذه؟" سألته مستغربة عاقدة جبينها نظر لها والابتسامة تملأ الوجه ووجنته محمرة تعرق "أنت تعرفينها" أشاحت بوجهها "لا أعرفها" قال "انظري جيدًا" "هذه رسومك؟" قال والأرتباك ملئ الجو "أنا؟" قالت محتجة وهي ترفع عينها للسماء "يا ربي!" وأسرعت لتبتعد عنه... أنت رسام" قال انتظري سأريك شيئًا. ركضت وهو يناديها "سأريك شيئًا انتظري دقيقة" قلبها يدق سريعًا وجبهتها تعرق توقفت وهو يقترب منها وأخذ يغني "الحظ الليلة كريم" نظرت إليه مذعورة مبهورة "وأنت أين عرفت هذه الأغنية" وسارت غاضبة مبتعدة تحث الخطى. خطى لا تحملها "أين عرف أغنيتي!!".

هو توقف في مكانه ينظر لها وهي تعود أدراجها وتسرع بعيدًا بعيدًا. في الطريق قابلتها مدام فالكوني كالعادة تلتقي معها بعد ترتيب المنزل يتمشيان في الأسواق أو في حديقة الحيوانات سألتها "ما بك يا بنتي" قالت "عندي مغص أريد أن أعود للبيت".

تنظر من الشباك. الناس في الشوارع. عرقها يتصبب. "كيف عرف أغنيتي؟" تجلس على المكتب تفكر. تنقل مجلات من مكان لآخر. تجلس على السرير. "رسمني أنا!!" وتهز رأسها "يا ربي" لا تتذكر ملامحه "غلطتي أنا ناديته. غلطتي غلطتي" تدور في الغرفة. تتصفح مجلة "وقح، جريء ماذا ظنني". تخلع ملابسها وتلبس البيجاما "ماذا دهاني يا ربي. رسمني. رسمني من الذاكرة. الحمد لله ما عنده كاميرا".

مدام فالكوني تأتيها بعصير ليمون مخلوط بالعسل. بعد الظهر وعودة البنات الواحدة تلو الأخرى يسألنها. ألا تريدين أن تذهبي للطبيب. أربعة أيام لم تخرج من البيت. تنام بالنهار وفي الليل تجلس في الصالة تقرأ نزار قباني "خبز وحشيش وقمر" تقرأ "حبلى" و"طوق الياسمين" تقرأ إحسان عبد القدوس والوسادة الخالية. وتسمع والسماعات في أذنيها محمد عبده وعبد الحليم وفيروز. لا تنام الليل "ماذا دهاني؟ رسمني! وتسمع صوته يغني. لا أعرفه. يا ربي لا أعرفه. وأخواتها "اذهبي للطبيب" ومعهن دخلت سينما كانت طول الفيلم مغمضة عيونها تسمعه يردد "انتظري سأريك شيئًا آخر!!" مدام فالكوني لا تدري ما تفعل "واليوم لن تخرجي أيضًا؟. سآخذك للطبيب" وتحدثت إلى عبد اللطيف في تقريرها المسائي "عندها مغص ولا تريد طبيبا".وفي ليلة الخميس في الفجر أخرجت ورقة وكتبت لعبد العزيز:

الأخ العزيز عبد العزيز

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أما بعد أنت خطيبي حسب العادات والتقاليد لكن يعلم الله أنني حين أراك في البيت أو مع إخواني أشعر أنك مثلهم. أنت أخي. ولذا أريد أن أخبرك برغبتي بفسخ خطبتنا وستجد لك شابة لطيفة تستاهلك فأنت خير الرجال وزينتهم وأطلب من الله لك التوفيق. والسلام

في الصباح كانت عيونها حمراء. لم تنم. وأخذت تبحث عن ظرف رسالة. وأخواتها يتغامزن "رسالة لعبد العزيز" رسالة منتصف الليل. كيف المغص البارحة؟" ذهبت مع مدام فاكلوني للبريد وأرسلت الرسالة بالبريد المسجل. وحين خرجت من مكتب البريد أحاطت بصدر مدام فالكوني العريض وأخذت تشد عليه وتبكي. قالت مدام فالكوني بلهجتها الإيطالية "اذهبي للطبيب أحسن". قبلت مدام فالكوني مرتين ثلاثة أربعة واحتضنتها ملقية رأسها على صدرها. وقالت ضاحكة "خلاص المغص سأذهب لحديقة الحيوان اليوم" قالت مدام فالكوني "لا بد أن أعود للبيت الآن" قالت هنوف "لن أتأخر" وانطلقت تعدو، تهرول، تسرع. يلفحها الهواء. بيدها الكاميرا وفي أذنيها السماعتان وشعرها مربوط فوق الجبين بربطة صفراء وحلقات صفراء واسعة خفيفة في أذنيها ورقبة طويلة سمراء أقرب للبياض. البياض الحلو لا القطني الباهت. الأبيض المعجون بالسمار. والثغر كالقلب باسم والخصر كخاتم في الإصبع. والسماء حنونة. والسيارات تهش وتزمجر كالبلابل والأغاريد. والوجوه الكالحة المتأزمة والغاضبة والوجوه العادية المسرعة في المشي تنظر لها وتبتسم. والشبان لا يرفعون عيونهم عنها. وهي تتمايل وتطير كالملكة بلقيس. لا ترى أحدًا. عيناها تحدقان بعيدًا عند سور حديقة الأورمان. عند التمثال. عند سور حديقة الحيوان. وأخرجت الكاميرا وأخذت تصور لا شيء لعله يراها ويتذكر حركاتها.

ومن بعيد في عين الكاميرا رأته بين الأشجار. هو هو. بيده الأوراق. أدخلت الكاميرا في حافظتها الجلدية وأسرعت باتجاهه وهو رآها ووصل إليها ضاحكًا. قالت "صباح الخير" وخدّاها يحمران "أرني الرسوم.. لم أرها المرة الماضية بشكل جيد". دخلا الحديقة وعلى كرسي حجري طويل جلسا متباعدين. فتح الرسوم بينهما. ثمانية عشر رسمًا. مخطوطًا. اسكتشًا. رسم بألوان خفيفة وآخر بالألوان المائية. كلها جسمها أو استدارة وجهها أو عيناها. تستند إلى جذع الشجرة. ووجهها يطل من السماء. وضعت يدها على فمها وقالت مبتسمة "أتعبت نفسك" نظر لها طويلا وهو يود لو يحضنها. لو يسمعها تقول كلامًا أكثر. ينظر لها طويلا صامتًا. عيناها مندهشتان أصابع يدها الرقيقة تهتز تقلب الرسوم واحداً تلو الآخر وتعود ثانية تمعن النظر في بعضها. وضعت يدها على جبينها "ما بك؟". سألها وطوى الرسوم وقال "هيا نشرب شايًا في مكان ما" دون أن تنبس بكلمة قامت معه وفي شارع الدقي دخلا مقهى قديمًا. قالت "المكان ليس نظيفًا" قاما وسارا باتجاه فندق سفير ودخلا القاعة الكبيرة وانزويا هناك في ركن بعيد يشربان عصير البرتقال. سألته "ما اسمك" قال "فوزي" أخذت تتفحصه وهو يضع يديه على الطاولة ويسند رأسه بكفيه مبتسمًا بهيجًا ينظر لها قالت "أنت تدرس بالجامعة؟" ضحك قال "أنهيت الدراسة بكلية الصيدلة السنة الماضية" تشرب العصير تنظر إليه "والآن ماذا تعمل" قال "أرسم" قالت "ترسم!" قال "عندي صيدلية. بعد تخرجي أبي أعطاني الصيدلية. نحن من المنصورة والدي يملك العديد من الصيدليات. في القاهرة أربعة وفي الإسكندرية اثنتان. أنا حين تخرجت أهداني والدي صيدلية نفرتيتي في شارع العجوزة وقال ابدأ حياتك بهذه الصيدلية. الآباء يريدون أن يكون أبناؤهم مثلهم" قالت "والرسم" قال "هذه هوايتي لم أدرسها صديقي مصطفى... ستعرفينه فيما بعد" استغربت العبارة واحتجت "ولماذا أعرفه؟" ضحك فوزي "لأنه صديقي" قالت متبرمة "وما علاقتي بأصدقائك؟" نظر لها مبتسمًا "حسنا .. المهم مصطفى هو الرسام وأنا أتعلم منه وأرسم. لست مُحْتَرِفًا. لكنها هوايتي منذ الصغر. كنت أريد أن أدخل كلية الفنون. الوالد رفض. الأربعاء القادم هناك معرض صغير سأشارك فيه. تعالي للمعرض" أبعدت قليلا كأس العصير وقالت له "فوزي ألا ترى أنك تتجرأ أكثر من اللزوم... أقصد تتحدث وكأنك تعرفني من زمان... أو كأننا أصدقاء.. أنا اليوم فقط عرفت اسمك. وأنت حتى الآن لا تعرف اسمي. ولا من هي عائلتي. أو بلدي" كان يسند ظهره على المقعد والبهجة تغمر وجهه. وكلامها أحلى نغم. نغمات تنساب على أذنيه وعلى القلب. أغمض عينيه وقال ساهمًا وهي تحدق فيه "أعرفك من زمان، نحن أصدقاء من زمان. من قبل أن نولد أنا وأنت. لا أعرف عائلتك ولا تعرفين عائلتي" وأخذ يغني ووجهه منحنٍ باتجاه الطاولة "يا عيون الكون غضي ذا النظر" ينقر على الطاولة بأصابعه ووجهه يكاد يلاصق خشب الطاولة. هي تنظر إليه. أخذت تضحك ومدت يدها تشير "لا لا لا تغني الناس ينظرون لك" فتح عينيه رآها تبتسم. قال "هيا أنا وأنت نغني معًا" ضربت الطاولة وهي تضحك "لا يمكن" حاول أن يمسك يدها... غني معي لن يسمعنا أحد" تسحب يدها من الطاولة وهو يكرر والبهجة غامرة وجهه ويهز قدميه وينقر على الطاولة "يا عيون الكون" ضحكت ويدها على صدرها وأخذا يغنيان معًا بصوت منخفض ووجهاهما يقتربان من الطاولة.

عشرة أيام وهما يلتقيان، نفس الوقت، نفس المكان. هنوف تمضي مع أخواتها للجامعة. تسرع عائدة لفندق سفير وبعد ساعة أو أكثر تلحق بها مدام فالكوني أمام التمثال عند مدخل حديقة الحيوان. كل يوم هدية يقدمها لها بواب فندق سفير من فوزي. صار البواب ينتظرها. أول يوم وردة بيضاء ذات ساق طويلة. مرة ربطة شعر حرير. مرة ألبوم أغان جديدة لفيروز. مرة مجموعة قديمة من مجلة الكواكب. ومرة خمسة أصابع فلفل ناضجة طرية من كل الألوان حمراء وصفراء وخضراء ووردية وأخضر وأحمر مخلوط بالأبيض. استلمتها ضحكت. قالت "له" "ما هذه الهدية؟ أنا لا أحب أكل الفلفل" قال "لا تأكليها ضعيها تحت الشباك.. في النافذة وانظري أشعة الشمس عليها. رتبتها جيدا وأخواتها يضحكن "مزهرية فلفل!!" وهي تضحك كلما رأتها وعينها لا ترفعها عنها حتى عند النوم.

في اليوم التالي للغناء أول ما جلست قالت له "فوزي أنا محافظة ومن عائلة محافظة.. إذا كنت تنوي الزواج فصحبتنا تستمر وإن كان للعبث..." فوزي لم يصدق ما سمع وحاول وضع أصابعه عند شفتيها وهي أبعدت يده عن وجهها. أغمضت عينيها وهو جلس على ركبتيه على الأرض واقترب زاحفًا عندها وأطبق كفيه كالمصلين البوذيين "اسمحي لي أن أطلب يدك" هزت رأسها "قم قم الناس يروننا" أغمض عينيه ورفع يديه نحوها كمن يدعو في الصلاة "لن أقوم حتى أسمع جوابك" همست بصوت قوي "فوزي أرجوك الناس يروننا... قم أرجوك" قام فوزي وعاد لكرسيه ينظر لها مبتهجًا باسمًا ويدندن "الحظ الليلة كريم"

أخذت تعدل ربطة شعرها وانتصب ظهرها وهي تنظر إليه حازمة "اسمع نتكلم بصراحة" أرجع ظهره على الكرسي ينظر لها مبتسمًا "تكلمي أنا أسمع" قالت "الزواج مسؤولية وليس لعبًا وثانيًا أنا مخطوبة من ابن خالتي وثالثًا أهلي لن يوافقوا" على الطاولة أحنى رأسه "وأنت هل تقبلينني زوجًا" قالت "شرحت لك الظروف" قال " لم تشرحي لي شيئًا أنت .. أنت هل تتزوجينني" وضعت رأسها بين يديها واغرورقت عيناها بالدموع. أخرج من جيبه ورقا للوجه. مسحت دموعها.

قام وقال تعالي. قالت "إلى أين؟" قال "تعالي". ومشى أمامها. طلب من عاملة التلفون بالفندق مكالمة للمنصورة. دخل مقصورة التلفون وقال لها "ادخلي" وأشار بيده لها. ترددت ثم دخلت وهو يتحدث بالتلفون "ماما ... أنا فوزي ... هل الوالد في البيت الآن... في الصيدلية... أنا بخير ... لن آتي هذا الشهر... سأهاتفه مساء... خذي كلمي ... من؟ تكلمي يا ماما" وقال لهنوف "تكلمي" هنوف وضعت يدها على سماعة التلفون وهي تهز رأسها "لا لا... ماذا أقول" قال "قولي أي شيء ... تكلمي هذه أمي على الخط" فتحت باب المقصورة وخرجت للخارج مسرعة سمعته "ماما كنت أريدك أن تعرفي خطيبتي... اسمها هنوف... ليست مصرية سأكلم والدي الليلة" خرج من المقصورة قال "لقد أخبرتهم بأنك خطيبتي" قالت "بعد نحن لم نتكلم بالموضوع". أمامها يسير لنفس الطاولة وجلس يضحك يقول "تكلمي" تنظر له وعيناها تغرورقان.

خفية يلتقيان في نفس المكان نفس الركن. نفس العصير. نفس الجرسون. نفس الروح. نفس الموضوع. الأخوات يسألن وهي تروي تفاصيل الحيوانات المختلفة في حديقة الحيوان والقصص والناس الذين رأتهم هناك.

قالت له في يوم آخر "أهلي سيقطعون عني المصروف" ضحك "عندنا ما يكفي" قالت "من الصيدلية؟" قال "طبعًا" ضحكت "والرسم؟" ضحك "أنا أصرف عليه" ضحكت وقالت "وإذا تضرر العمل في الصيدلية وعندنا أبناء" ضحك "نأكل بطيخ... نأكل عسل.. نأكل من الأشجار. نأكل خشب الدولاب. مفارش السرير". وضعت يديها على وجنتها وقالت "أريد أن أفكر" مبتسمًا ضاحكًا "فكري كما يحلو لك" قالت "وأنت ألن تفكر... بعائلتكم.. ربما لا يريدونني ... ربما والدتك تريدك أن تتزوج من قريبة لهم أو معارف" هز رأسه "أنا من زمان مكتوب لك ... وأنت قبل أن تولدي مكتوبة لي... ولا تريدين غيري... ولن تتزوجي غيري... وأنا أبلغت والدي" أغمضت عينيها وقالت بعد هنيهات وعيناها في عينيه "أنا لا أريد حفلة زواج.. أهلي لن يأتوا للحفلة... لا أريد حفلة" قال "يا هنوف تأكدي أني سأفعل فقط ما تريدينه أنت. اليوم وغدًا وبعد مليون مليون سنة" تنظر له مبتسمًا... كتفاه عريضان وعيناه شهلاوتان غزيرتان وبهما اخضرار وعمق وحنان. عينان قويتان ورقبة مليئة.

سألته "أتممت الرسم للمعرض". قال "ألغيته" المعرض الأسبوع المقبل وأنا لا أحب الناقد الذي سيأتي للكلية للتعليق على اللوحات كما هي العادة كل شهر. يجتمع هواة الرسم في المنطقة ويقدمون لوحاتهم والعميد يختار ناقدًا معروفا. في الخامسة أو السادسة يأتي الناقد والرسامون الهواة وبعض الطلبة يعرضون لوحاتهم في الصالة واحدًا تلو الآخر والناقد جالس على كرسي وسط الصالة أمام اللوحة يعلق ويناقش اللوحات قال لها "هذا الناقد أنا أكرهه... ليس موهوبًا. مدعٍ. جاهل. وهو يعرفني ولا يحبني. كدت أكسر له رأسه قبل سنة. تلفظ بعبارات نابية عن رجال الأمن المركزي الذين قاموا بمظاهرات عاصفة كادت تدمر البلاد لولا أن قام الجيش بتطويقهم. قالت مصححة كلامه "الجيش!! تقصد الشرطة" رفع رأسه ساخرًا "الجيش شرطة طالما ليس عنده خيار الحرب فلماذا الصرف عليه إلا لكونه شرطة. لقد قال هذا القرد كلمات سيئة بحقهم... العامة، الهمج إلخ. كان من المستحيل سماعه في الممر بالكلية يتكلم بصوت عال بنظارته السميكة وعيناه تجحظان تحتها. أصلع ضعيف أسمر محروق... شكله مقزز وكذلك كلامه". قالت وهي تسمعه بشغف "شارك بالمعرض. طالما لا تحترمه فلماذا تهتم بكلامه"

في اليوم اللاحق قال لها "سأشارك لكني غيرت اللوحة. سأعرض لوحتك. أنت والقطة" قالت "لا" قال نعم سأعمل عليها ليل نهار ستأتين معي للمعرض. سرقت نفسها ذاك المساء ودخلت الكلية.. كان بانتظارها ومعه صديقه مصطفى وزوجته منى. قدمها لهما "خطيبتي هنوف" وهي تلكزه بذراعها وتحني رأسها حياءً. طلبة وطالبات كل بجانبه لوحته ورسامون هواة من خارج الكلية يعرضون لوحاتهم في هذه المناقشات الشهرية. حتى السابعة لم يصل الناقد المشهور.

قبل الثامنة وقد يئس الطلبة وتململوا هلَّ هلال الناقد. يلبس بنطلونًا أبيضاً وقميصًا نصف كم به خطوط زرقاء طويلة وحذاء مفتوحًا خفيفًا تظهر منه أصابع قدميه. دخل الناقد محملقًا يلوك علكًا والعميد ركض نحوه مرحبًا. وقف الناقد يدور بعينيه في الحضور ولمح فوزي فابتسم له وفوزي يزف التعليقات والنكت عنه واحدة تلو الأخرى وهنوف ومنى ومصطفى ينظرون للناقد ويضحكون. لكن الناقد تأخر في الجلوس رغم أن الكرسي المخصص له وسط القاعة كان موجودًا. لم يجلس الناقد وفوجئ الطلبة بأن وضعت طاولة صغيرة أمام كرسيه فجلس على الكرسي ثم وضعوا أمامه طبق حمام مشوي فأخذ يأكل وهو يعتذر بصوت مرتفع هنا وهناك "المعذرة لا أستطيع أن أفكر أو أتحدث وأنا جائع". وفوزي يكرر "سأذهب لأضربه" والناقد يأكل الحمام بيديه ويمص أصابعه. وبين دقيقة وأخرى يسحب مصطفى صديقه فوزي الذي كان يضحك ويهمس بأذن هنوف بصوت مرتفع يسمعه الذين حوله "انظري أصابع رجليه كبيرة من أكل الحمام" يضحك فوزي "من الحمام ابن الحرام" وهنوف تضحك ومصطفى ومنى ومن حولهم ثم يسحبون فوزي للخلف كي لا يضربه وفوزي يتهدد ساخرًا غاضبًا "سآخذ الحمام منه" لمح الناقد فوزي فصرخ به "والله يا فوزي لا أستطيع الكلام وأنا جائع" فاندفع فوزي قليلا للأمام وهنوف ومصطفى يمسكان ذراعه أجاب فوزي "بالهناء يا أستاذ".

كانت عبارة فوزي ساخرة مضحكة. ضحك منها الجميع. تعليقات الناقد أغلبها سلبية مشوشة والطلبة يصغون له. وفوزي وهنوف وهشام وزوجته يقفون خلفه. فوزي يقول لهنوف وهو يمد يده نحو رأس الناقد "أقلع أذنه" كانت أذنه كبيرة. كبيرة جِدًّا ونظارته سميكة. وهنوف تضحك. يسحب يدها نحو أذن الناقد "اقطعيها" وهي تسحب يده بعيداً عن الناقد وتضحك والناقد مستمر في تحليله. وجاء دور فوزي فتوجه أولا نحو الناقد وانحنى عليه كما لو كان يقبله بينما يشد أذنيه ويهمس "سأقطعهما لو قلت كلامًا سيئًا" هنوف تشاهد المنظر وتضحك والناقد يحك أذنه المحمرة ويقول "ماذا قلت؟ لم أسمع لم أسمع" وفوزي تقدم متبخترًا ووضع اللوحة على الحامل ثم رفع الغطاء وضج الطلبة " يا سلام"

هنوف تحت الشجرة، تسند ظهرها على جذع الشجرة. جسمها. بنطلونها. قميصها الأبيض الشفاف. والحزام. الوجه بدون ملامح فقط ربطة حمراء فوق الجبين وقرطان أحمران. دائرتان كبيرتان. وتحت الشجرة قطة باللون الأزرق تلثم وتشم قدميها وتحملق بعيدًا ربما باتجاه البومة. وبقع صغيرة بيضاء كالغيوم في المساحة الفارغة بين أغصان الأشجار الباسقة المرتفعة نحو السماء. وهناك بين أوراق الشجر العريضة بومة بلون أرجواني عيونها بارزة تحدق بالفتاة.

ضحك الناقد ضحكة مجلجة "بومة أرجوانية!!" ويهز رجليه وهو يقهقه "أرجوانية وقطة زرقاء. يا أستاذ غوغان" لم يتمالك فوزي نفسه سار نحو الناقد متبخترًا وهو يفرك كفيه. وهنوف ومنى ومصطفى يندفعون نحوه ليبعدوه عنه لكن فوزي كان أسرع. أمسك بأذني الناقد ورفعه عاليًا عن الكرسي ورجلا الناقد تهتزان مثل ساقي ضفدعة وألقاه على الكرسي بقوة والنظارة السميكة تدحرجت على الأرض وهنوف تصرخ بالناقد وهي تقترب من وجهه وتهز يدها "البومة أنت .. هذه البومة أنت" يسحبونها وفوزي يسحبها عنه تضع ساعدها بساعد فوزي لأول مرة ويتجهان نحو باب الخروج وهي تتلفت للخلف لترى إن كان أحد وراءهما . تكرر "البومة" ومنى لحقت بهما "انتظروا مصطفى سيأتي باللوحة"

سألتها منى وهما يسرعان المشي "هل عرفت البومة؟" أجابت هنوف وهي تضحك "لا تسألي. عرفتها عرفتها" سألتها منى "والقطة" قالت "معروفة تشير برأسها ضاحكة نحو فوزي. قالت لفوزي "لقد تأخرت سآخذ تاكسي" أول مرة يركب معها التاكسي. عند مستشفى العجوزة نزلت مسرعة لبناية العجوزة. عرف مسكنها. قال لها "مع السلامة" ثم نزل راكضًا وراءها وقال "كل يوم ستجدين مغنيًا عندما تخرجين".

مدام فالكوني عند الباب "أين كنت؟" وأخواتها ينظرن لها "دخلت السينما.. آسفة لم أنتبه للوقت" ودخلت غرفتها السماعة بأذنيها وقلبها يدق سريعا حنقا وغضبا على الناقد "البومة". وتضحك في سرها وهي ترى فوزي يرفعه عاليا ورجلاه تهتزان مثل رجلي أرنب. وألقت بجسمها على السرير وقلبها يدق دَقًّا سريعًا. كان يمكن أن تكون فضيحة. كانت تفكر "فضيحة فضيحة لو حدثت مشاجرة أو عنف أكثر أو رآني أحد وذراعي بذراعه." تحدق بالسقف، تعدِّل الربطة تفكر. في أذنيها السماعتان.

وبعد أيام عديدة اتفقت مع فوزي على تصوير الخرتيت في حديقة الحيوان "يكفي أريدهم أن يعرفوا" قال فوزي "أنا الخرتيت!!" قالت ضاحكة "نعم أنت". مد يده نحوها وجفلت قال ضاحكًا بصوت مرتفع "يا خرتيتة".

حين تخرج كل صباح، أعمى يقوده طفل مثل شحات يقرأ القرآن غير بعيد عن العمارة التي تسكنها. ما إن يراها الطفل حتى يضغط يد المقرئ الذي يرفع صوته "يا عيون الكون غضي ذا النظر" وهي تقشعر، تحني رأسها وتسرع في مشيتها. يوم الجمعة مدام فالكوني وأخواتها معها وهي تصور الخرتيت صورًا عديدة "يكفي خرتيت تقول مدام فالكوني. بعد يومين جاءت بالصور ومدام فالكوني جن جنونها. واتصلت بعبد اللطيف. حانقة تصرخ "لا أريدها عندي. كذابة. أنا غير مسؤولة" وأخواتها يحاولن تهدئتها دون فائدة وهي تدفعهن بيدها وتقول لعبد اللطيف "الخرتيت ليس خرتيتا. شاب مصري. لا ليس خرتيتا. نفس الشاب".

هذا هو اليوم الرابع. خالد بسميراميس بالصالون ينتظر. يتصل بعبد اللطيف "لا فائدة من العنف... حاول بالإقناع" والأول قال له وهم يتعشون في الصالون "نحن كما تريد لقد عرفنا اليوم أين يسكنان.. لهما صديق رسام متزوج اسمه مصطفى... أنا اتصلت به بالتلفون وسألت عن فوزي... أنا متأكد أنهما موجودان هناك. هناك رقيب قرب العمارة التي يسكنها مصطفى. هي لم تنزل من الشقة منذ يومين".

خالد تعب من الجلوس. واليأس وعدم الحيلة يسيطران عليه. بقاؤه دون فائدة. قال الثاني "لماذا لا تكلمها أنت.. هذا رقم التلفون أو تستطيع أن تذهب إليهم وتناقشها هناك" خالد دماغه مضطرب ولديه صداع وإحساس بالغيظ "لا أدري كيف غرر بها" قال الأول " لابد أنه دخل لها من نقطة ضعف" هبَّ خالد غاضبًا "أي نقطة ضعف ما عندنا نقطة ضعف... ما عندها نقطة ضعف" قال الأول "إذًا كيف غرر بها لا بد أن يكون لديه مدخل... ثم هي ليست قاصرًا" صرخ خالد من الغيظ "مجنونة ... هبلاء ساذجة .. لعب بدماغها" وإذ خرجا كان يفكر في البلكون "نقطة ضعف؟ أي نقطة ضعف!. فكر أن يتصل بزوجته يسألها أو بإحدى أخواته لكن عبد اللطيف كان قد أخبره ألا يتصل بأحد، ألا يتحدث أبدًا بالموضوع إلا معه.

وفي الحادية عشرة قبل أن ينام رن التلفون وجاء صوتها "الأخ خالد .. السلام عليكم" هب فرحًا "أهلا هنوف أين أنت ... أنا هنا منذ أربعة أيام أسأل عنك" أجابته بحدة "أنت والشرطة!! ماذا تريد مني. أنا متزوجة ممن أريد. أنت ماذا تريد . قال "أريد الخير لك" قالت "دعني وغادر وقل للشرطة يتركونني وزوجي. لسنا أطفالا . وأنا سأكتب رسالة لمن أرسلك بهذه المهمة. أنا سأكتب له" وقفلت التلفون.

الأخ الفاضل عبد اللطيف بن سعد الناصر حفظه الله

أما بعد فأنا لا أعرف ما تريد مني تريد أن تزوجني عبد العزيز لقد كتبت له واتصلت به وأبلغته أنني متزوجة. زواجًا عُرْفِيًّا لأن الزواج الشرعي يتطلب موافقتكم وأنتم لن توافقوا. تريدون تزويجنا لمن ترون. إنها حياتي. حياتي أنا. وسعادتي أنا. أخي خالد أتى هنا واتصل بالشرطة بناء على تعليماتك . هل فعلا تريد أن تأخذني غصبًا عني. لماذا؟ ألا تستطيع أن تتصور أنني حرة. لا فائدة من الكلام معكم . أنت لم تعرف الحرية. غضبت على والدي بعد زواجه من أمي هيا وبقيتَ في القاهرة حتى وفاته. وأخذت زوجتك معك وقطعتها عن أهلها. أهذا عمل إنساني . كيف تمنعها عن أهلها. وتريد أن تمنعني أيضًا. تعصبت لأمك لأنها من الأول مظلومة. تعصبت لأمك لأن والدي أحب أمي لأنها أصغر وأحلى. أمك كانت جميلة في الهند. وأنا أحبها وأقدر شعورك. أمك الحبيبة الحنونة التي أحبها وسأظل أحبها كل الحب طول عمري. وأختك حصه ما قصتها؟ أأنت منعتها من الزواج. من أجمل منها. أجمل بنات الناصر. أجمل مني طبعًا. طولها. بياضها. الغمازتان. الابتسامة المخفية في الوجه. لماذا جعلتها مثلك لا تعرف سوى الواجب. هي أمنا جميعًا. وهي أليست جديرة بالزواج. حين أراها في الحمام وحين أساعدها في تجفيف شعرها. ذاك الجمال الأسطوري. كل جزء مصنوع بيد أحسن نحات. أقوى إزميل. ماذا أعطيت حصه سوى أن تكون على شاكلتك. تريدنا جميعًا أن نكون مثلك. لماذا؟ لكن إن ظننت أننا لا نعرف فأنت غلطان. نحن نعرف كل شيء. ونتحدث بكل شيء. تأتينا منتصف الليل تبحث في دواليبنا. ماذا تريد . نحن بشر . لماذا تفتش دواليبنا. تريد أن نكون منظمين مرتبين مطيعين وأوفياء كالأطفال في المدارس الداخلية الخاصة. نطيع ماذا . نطيعك لأنك الأخ الأكبر. كان والدي أكثر رحمة وشفقة منك. كان يبتسم . وكان يحتضنني . ولا مرة رأيتك مبتسمًا. ولا مرة . دائمًا أوامر. وصرامة وتكره الغناء. وتريد أن ننام مبكرًا. أنت رأس العائلة. وأنت المسؤول . ونحن ماذا؟ الرعية . أنت الراعي . نحن الماشية . هل سألت يومًا زوجتك إن كانت سعيدة. هذه كلمة جديدة عليك . السعادة . فوزي أسعدني . يضحك . تصور أنه يضحك . يبتسم . يدللني . لا يرفض لي طلبًا . كل يوم يأتيني بهدية حلوة. وردة من حديقة. أنا أشعر معه بالسعادة . سعادة لم أحلم بها. لم أتخيلها. أهله ليسوا أغنياء مثلنا لكننا بخير....أنا لا أريد منكم ولا من إرث أبي إن كان هذا ما تفكر فيه. فليذهب حلالكم لكم، ولتحفظوا مرقكم في قدركم. أنا وفوزي لا نريد شيئًا منكم. نحن سعداء بما لدينا. ما عندنا سيارة مرسيدس ولا رولزرايز مثلك. لكننا فرحون بما لدينا، فورد تصنيع محلي زرقاء. وبأصدقائنا. نخرج معًا. نتعشى في المطاعم. نأكل ما نشتهي. أنا لا أشرب الخمرة. فوزي يشرب وأنت تعرف إخواني ومن منهم يشرب. يتسللون في الليل مثل الحرامية عند فلان أو علان ونحن وأنت كلنا نعرف من منهم يشرب. أنا لعلمك ذهبت ثلاث مرات مع فوزي للديسكو. أتريدني أن أظل طول عمري لا أرى ديسكو؟ ولا أرقص. أنا وأخواتي نرقص مثل المجنونات. في غرفنا أمام المرآة أو فوق السرير نرفع المسجل ونرقص لوحدنا. أو مع بعضنا نقلد لوسي ودينا. مسّ من الجنون. نتعب أجسامنا وأحيانًا نرقص غربيا كما في الأفلام. نحتضن بعضنا. أنا الآن أرقص مع زوجي. مع الناس مع بشر فرحانين. يضحكون ويعبرون عن أنفسهم. ليسوا مثلكم بشخصيتين. واحدة للبيت وواحدة خاصة. اسأل إخواني كيف يعيشون في أمريكا. اسألهم. وأسأل زميلك وصديقك وزير الإصلاح. هذا الذي يحرم الغناء. هذا فاسد. اسأله كيف ألقى الماء الحار على وجه زوجته حين طلبت الطلاق يريد أن يشوه وجهها حتى لا تتزوج من بعده. هذا الذي ينصح بالدين ويحرم الرقص والغناء أي تقوى! يظن أن الناس لا تعرف تاريخه ولا تعرف مثنى ابنه. كل نهاية أسبوع نذهب أنا وزوجي وأصدقاؤه لمكان "نتسوح" فيه. لا يرفض لي طلبًا. أنا اشترطت عليه قبل زواجنا ووافقني على شروطي الثلاثة. أن يأخذني للديسكو. مع من تريدني أن أذهب للديسكو إن لم يكن مع زوجي. لقد تركني تلك الليلة. أول ليلة أدخل بها ديسكو أرقص طول الليل. شبعت من الرقص. رقصنا حتى الفجر. تريدني فقط أشاهد الديسكو بالتلفزيون!! هل تعرف لماذا طلبت زوجة صديقك وزير الإصلاح الطلاق؟ أليس بسبب سوء معاملته. كلنا نعرف ذلك وأنت تعرف ذلك ولا تأبه لها. من هي حتى تأبه بها؟. هي مفرخة. أنا سألت لطيفة إن كانت سعيدة قالت أنا لا أعرف ماذا تقصدين بالسعادة. طالما الزوج يصرف ولا يقصر على البيت والأولاد ولا يغلط في كلامه فهذا يكفي. السعادة السلبية لا يقصر ولا يغلط هكذا أورثتمونا السعادة. أنا لا أريد أن أكون مفرخة. أريد أن أعيش وأبتهج. وشرطي الثاني أن ننجب أبناء لا عشرين أو اثنين وعشرين مثل أبي، لكنني قلت له ستة. أريد ستة أبناء وبنات. ووافق . والشرط الثالث ألا أطلب شَيْئًا منكم ولا يطلب هو شيئًا من أهله. لديه شقة أعاد صباغتها حين عرفني. وأثثناها معًا. ليست كبيرة . مليئة باللوحات. فوزي رسام. رسام عظيم. لم أرك مرة تتحدث عن الرسم. سافرتَ لكل العالم وعدت كما كنت كأنك لم تر العالم., ماذا تظن هذه الشعوب التي تزورها. كلهم همج ووحوش. ألا ترى السعادة في وجوههم ألا تراهم يضحكون. يتأبطون بعضهم ذراع بعض. هل نزلت السماء على الأرض أم أن الشمس بزغت من الغرب؟. أنا تزوجت زواجًا نِظَامِيًّا. شرطا الزواج هما القبول والإعلان. وقعنا ورقة فيما بيننا ووقع عليها شاهدان... نبيل وأحمد اللذان يعملان بالصيدلية. أنت مشغول بالوزارة. وزارتين. مسؤوليات كبيرة. وأنا لا أتدخل بها. ونحن لا نناقشك بهذا الموضوع ولا بغيره ولا بأي موضوع. أنت فوق. فوق النقاش. نحن فقط نثق بك وبحكمتك. وأنت لم تقصر معنا. لكنني لا أريد حياتكم. نجلس في الأعراس نساء في أحلى زينة وأحدث ثياب مثل تماثيل الشمع. مثل موديلات الملابس في الفترينات. متزينات. ممكيجات. أجسام جميلة. واقفات جامدات. هذه الأميرة فلانة وهذه بنت فلان. هذه لابسة من أرماني، وهذه قلادتها من شومية. خشب مسندة. لا ضحكة ولا رقصة وحتى إذا جاء مُغَنٍ في حفلة زواج حجزوه في غرفة عنا. لم نر نساءً تؤكل في الشارع. لا أريد حياتكم. لا أريد زوجي يحجزني في البيت وهو يذهب ويسهر كما يشاء. أنا وفوزي نطبخ معًا. ونضحك. نغني معًا. نشتري أشياءنا معًا. أنا سعيدة وأنت، احذر، لا تتدخل في حياتي. أقول احذر وأبعد الشرطة وهذه الأفكار والغضب عنك. أنا أعمل مع فوزي بالصيدلية وقد أسماها فوزي الآن "صيدلية هنوف" كل الشارع وكل الجيران يعرفونني. الرجال والنساء والأطفال. يحبونني حين أمر بهم وأنا أعرفهم وأحييهم. وسأنجب ستة أبناء ثلاثة أولاد وثلاث بنات. ولعلمك سأجعلهم مستقلين . أول شيء أعلمه لهم الاستقلال. والسلام.

وضعت الرسالة في ظرف ثم تذكرت أنها لم تكتب السلام عليكم فكتبتها في بداية الرسالة.

 

(IV)

المغرب. والخيل تتهادى. ستة أحصنة ومهرة. وثائفها دقيقة. معروفة الأصل أبًا عن جد. فوارسها خير الشباب. تتهادى ساهمة الوجوه. زينة. أربع منها نجدية سوداء ذات أحداق جميلة صلبة الحوافر، وواحدة شامية. الأكثر جمالاً واسعة العينين لينة الحوافر أذنان قصيرتان وأنف ذو فتحتين واسعتين. الصدر واسع والظهر أفقي عريض ومهرة يسمونها كميت بين الأحمر القاتم والبني المصفر في غرتها نجمة بيضاء وخصلة ليست طويلة وعلى العنق وعلى الكتفيين علامة أصبع النبي التي لا توجد إلا في الخيول العربية وما أحب رسولنا الكريم بعد النساء سوى الخيل المعقود بنواصيها الخير.

قبل الأذان. دمه دافق فوار. عدنان أصابته رصاصة في النقطة القاتلة. نواحي القلب. تلك النقطة المقتل. رصاصة واحدة. قبل الغروب. والحمام يتطاير مع آخر طلعة صيد. عدنان جاء راكضا من ملعب كرة القدم. مسرعا ليشارك في آخر طلعة رمي وقت الغروب. شورت وقميص نصف كم وحذاء كرة القدم وقبعة رياضية بيضاء مثل القميص. بين صفوف الهابسكوس الكثيفة يجري قبل الغروب ليلحق بالرمي. آخر طلعة للحمام.

في كرة القدم يلعب مدافعا وابن أخيه رياض القصير المربوع يراوغه. يراوغ ويراوغ. تسعة عشر عاما يلعب رياض بدماغه. ينقض على الكرة مثل ذئب. عدنان يركز على رياض الذي قلما يركض. يتحين الفرص. رجلاه كرجلي محمد علي في الملاكمة صعب ملاحقتهما. يلعب الكرة بقدميه اليسرى واليمنى. يدير الكرة بقدمه اليسرى دورات سريعة وهي ساكنة مكانها. عدنان لا يدري أين سيتجه رياض بها. رآه يتابع الكرة وقدماه تعدوان للخلف وإلى اليمين والشمال ثم ينقض على الكرة التي تخيل موقع سقوطها. ينقض رياض مثل ذئب. يأخذ الكرة ويعدو بها نحو الهدف. عدنان عينه على رياض. يركض نحوه يدفعه بكتفه ورياض يتملص يدور بالكرة دورة كاملة سريعة بكل جسمه مثل لاعبات التزحلق على الجليد. والمهاجمون والمدافعون يرقبون تحرك رياض. رياض يراوغ عمه. يركض للخلف على عقبيه والكرة تتنطط على ركبتيه وبطنه. يراوغ عمه عدنان. يتملص. يضرب الكرة بالشمال نحو طرف الملعب ويقذف جسمه نحوها متخطيا عمه الذي لا يعرف أين سيتجه رياض.

عدنان أطول وخبرته أكثر وجسمه أصلب وهذا الرياض سريع كالبرق حين ينقض على الكرة. لا يتعب لأنه لا يركض. ينقل رجليه للأمام وللخلف. لليمين والشمال. يركض بجسمه للخلف يقف على أصابع قدميه. عيناه عينا ذئب. يصوب رياض الكرة في الزاوية اليمنى أعلى المرمى وعدنان المدافع الحريف لا يستطيع لها دفعا ولا حارس المرمى. توقف عدنان يلهث "يا جماعة. ابعدوا هذا عني" ورياض "يا عمي أنت كبرت.. دع كرة القدم للشباب" عدنان ينظر مازحا يقول "سأرى حين تصبح في مثل عمري إن كنت تستطيع مثلي اللعب مع الشباب".

يعدو عدنان ليشارك في الرماية في آخر طلعة للحمام. يوم الخميس قبل الغروب. النساء في البحيرة عصر الخميس المخصص لهن. الأمهات والبنات والأطفال. بجعات تتمايل تغطس وتهز شعورها. يتسابقن سباحة وعلى الجت سكي. ها هن يعدن بعد السباحة لمنازلهن يغطين البيكيني والأجساد بالمناشف والأرواب. عدنان يسرع والقبعة فوق رأسه. أحيانا يظهر رأسه من بين صفوف الهابسكس المتشابكة بكثافة. أحد لم يره في ساحة الرماية.

بعد أن لفظ أنفاسه في السيارة في الطريق للمستشفى ابنه عزيز يلقي برأسه على كتف عمه مشاري "قتلت أبي". ومشاري كفاه تغطيان وجهه ودموعه تنساب "أنا الذي قتلته". عند الغروب على العشب المرشوش بالماء أغصان الهابسكوس كثيفة وورود بيضاء وصفراء ووردية. القبعة سقطت بعيدا. الذراع اليمنى ممتدة على الأرض. خده الأيمن على العشب المبلل بالماء. دمه يهدر مدرارا. قدمه اليسرى تنتفض تمتد وترجع مكانها. يرفس على الأرض مثل خروف العيد. عيد الأضحى. لم يره أحد يسقط. لم يستطع أن يلفظ كلمة. سقط على العشب وبرودة الماء تلامس خده الأيمن والماء من العشب يصل شفتيه. يمد ذراعه الأيسر ويحاول بساقه الأيسر أن يقوم والدم ينزف أحمر قانيا فوارا. يسحب جسمه قليلا والدم الأحمر على العشب الأخضر يغطي مساحة أكبر. يسحب جسمه وبقعة الدم تمتد أكثر. عينه على كثافة الغصون المتشابكة. مازال يفكر برياض المراوغ. مربوع قصير قدمه في دماغه. دمه ينزف ورياض ينقض على الكرة مثل ذئب قاتل. يحرك حذاءه ويقف على أطراف أصابعه ثم يقف على الكعبين يدير الكرة بين قدميه سريعا وعدنان لا يرى إلا سرعة الهواء من حولهما. لا تبصرهما عين. سريعة مدورة هي الكرة بين قدميه. والدم ينزف. "هل أموت؟ يدور السؤال في دماغه "لن ألعب ثانية معه؟"

الحمام الذي أطلقوه للطلعة الأخيرة يبتعد في السماء عن الرصاص والبنادق. يدور في السماء. اللون الأحمر في الممر بين صفوف الهابسكوس. يدور الحمام ويعود سريعا. حمام أبيض جلبوه من لبنان وتزايد بالمزرعة عشرات المرات. الحمام يتجمع في السماء وقت الغروب. يهف جحافل مسرعة بلا انقطاع. ينظر للون الأحمر. يتساقط حول جسد عدنان. يبغبغ. يتذوق الدم. طعم لم يعرفه من قبل. يعدو بمشية سريعة للأمام والخلف. يبغبغ. يتذوق طعما غريبا. عدنان يسحب بساعده الأيسر وقدمه اليسرى جسمه لعل أحدا يراه. محسن وعبد الله على الخيل وقت الغروب. محسن رأى الحمام يهفو في مكان واحد. خب بحصانه "لابد أن عند الحمام سببا" ,عبد الله خب بحصانه وراءه. وتبعهم البقية. تطاير الحمام جافلا وصلاح ابن مشاري صرخ "عمي عمي" وعبد الله أسرع ونزل من حصانه.

الأحصنة وقفت خلف صف من صفوف الهابسكوس العديدة الممتدة والمتعرجة تشكل مستطيلات ومربعات بحوائط كثيفة من أوراق وأغصان خضراء. مثل حدائق الأندلس صممها مشعل الذي يهوى الزراعة وتصميم الحدائق. هو الذي كلفه خالد بالإشراف على إعداد الحدائق وتجهيزها. محسن وعبد الله أسرعا نحو عدنان. على كتفه يسند محسن رأس أخيه. وعبد الله يساعد عدنان في سحب قدميه. الحمام طار مبتعدا. صلاح يعدو نحو ساحة الرماية. يصرخ "أصبتم عمي عدنان" وفي صالة الرماية الجميع مبتهجون يحصون الحمام الذي تم التقاطه ببنادقهم وهي تطير لأعلى، أو تنحرف يمينا أو تراوغ مندفعة نحو الأرض. صمت الجميع يسمعون صلاح مرتفع الصوت مذهولا "عمي عدنان عمي عمي". وانطلق الجمع نحو موقع المقتل. صلاح يركض أمامهم. وعزيز رأى أباه يسحبه عمه محسن وعمه عبد الله والدم فوار ينتشر على الأرض. على العشب الأخضر. عند المغيب. والحمام يجفل ينظر من بعيد يبغبغ ويتطاير.

يصرخ عزيز بعمه مشاري والآخرين "المستشفى" والسيارات تسرع نحوهم. الأرض تكهربت. والسماء. الجميع. السواقون والنساء والأطفال والمزارعون والحراس والخيل والحمام والشجر والورود والنجوم في السماء كلها عرفت. عيون وآذان في كل مكان وفي كل زاوية. وصوت السيارات بدأ يسمع.

يجلس مشاري في السيارة يسحب جسد عدنان. وعزيز ابنه يسرع نحو عمه في السيارة "عمي اجلس هنا ويجلس هو في الجانب الآخر من المقعد الخلفي عند النافذة ويضع رأس أبيه في حجره. عيناه تجهشان. السيارة تسرع. الخبر دوى في المزرعة. والسائق يسرع بالمرسيدس الليموزين العائلية لسبعة أشخاص "أسرع أسرع" دموع عزيز تنهمر "يا ربي معقول أنا قتلت أبي" وينظر لوجه أبيه. رأسه. شعره والشيب يخالط السواد كالليل يخالط النهار في غبش الصباح.

الدم ينزف. مازال ينزف. يمد عزيز يده نحو القلب. نحو النقطة القاتلة. يده تغرق بالدم النازف الحار يحاول أن يوقف بأصابعه نقطة دفق الدم. يدور بأصبعيه في الثقب الذي يتدفق الدم منه.. لا ثقب. دم يتدفق.. لا يجد ثقبا يسده بأصبعه أو يده. "عمي أبي نزف كثيرا" ومشاري يصرخ بالسائق "أسرع" يبكي عزيز. يجهش. جبهته على جبهة أبيه والدم "لم أكن أقصد.. يا أبي لم أقصد" وعمه مشاري "اسكت يا عزيز.. أنا الذي أصبته"

عزيز لا يسكت يضع جبهته على جبهة والده ويده تنضح بالدم الفوار "سامحني لم أكن أقصد". عبد الله سبقهم للمستشفى واتصل بخالد والإسعاف بالانتظار ومدير المستشفى وطبيبان وممرضتان. وضعوه على سرير المستشفى النقال ودفعوا السرير مسرعين لمركز العناية المركزة. تجمع الأطباء. وضعوا الآلات. وأتوا بالأكسجين ونظفوا الصدر ودلكوا القلب والدم توقف والقلب كذلك. وبسرعة طلب رئيس الأطباء ثانية من العائلة الابتعاد عن قاعة العمليات. الانتظار خارج القاعة. الأطباء والآلات. والإخوان وأبناؤهم في الممرات وعند المصعد يسأل بعضهم بعضا. "الله كريم". الدم وقف عن النزف إلا قليلا يتسرب من هنا أو من هناك. رئيس الأطباء خرج من قاعة الإنعاش سماعته في رقبته الطويلة وحاجباه كثيفان وقال لمحسن ومشاري الذي مازال يغطي وجهه بكفيه وعزيز الذي مازال يبكي ويردد "قتلت والدي" رئيس الأطباء قال للجميع "البقية في حياتكم.. وصل متأخرا"

عزيز ينتحب على كتف عمه مشعل. وعبد الله يأخذ الطبيب جانبا ثم يتصل بالمزرعة. يتصل بخالد في المزرعة. في ساحة الرمي لم يبقَ سوى أعقاب الرصاص. والخدم جمعوا الحمام المقتول من بين الأشجار. وزوجته نورية بنت أحمد الأصمعي سمعت أنصتت وطارت عباءتها من على كتفيها. شعر رأسها أشقر كثيف. طارت نحو صالة الرماية ودارت ودارت حتى وصلت موقع المقتل. ترفع يديها وهي تركض والعباءة السوداء تتطاير. حافية تركض. تقف عند موقع القتل. تنظر للدماء على العشب. تقع على الأرض. تعدل جلستها. تضم ساقيها تحت فخذيها كما في السجود. تضرب على فخذيها. والنساء يتهافتن حولها وهي تشيح بيدها لتبعدهن عن المشي عن دم زوجها. لطيفة وعلياء ترفعانها. حصه تذكر اسم الله وتحتضنها. والحمام يختفي من السماء. بعد المغرب يلوذ بالشجر. يركن في الأبراج الثلاثة وعلى أطرافها. بغبغة كثيفة خافتة. والخدم يراقبون من بعيد.

نورية بنت أحمد الأصمعي شعرها أشقر كثيف متموج. لأول مرة يرى خالد شعرها. يراه المزارعون والسواقون والخدم يرون شعرها الأشقر. نورية تقول للطيفة "لا أحد يقترب من المكان" تنظر للطيفة "لا تغسلوا الدم.. بالله عليك قولي لخالد" جاء اتصال مشعل بخالد. وخالد معه وبقية الإخوان والأبناء والأحفاد. "المكتوب" ويحمد الله على قدره. الموت لا يوجب الشكوى.. الحزن لا يبدد الألم . الألم. وحصه تحضن نوريه ودموعها تغطي الوجه والرقبة.

ركب مشاري وابنه صلاح الذي كان ينتظر عند مدخل المستشفى. يسوق السيارة عبد الله عائدا للمزرعة ومعه مشاري وعزيز وصلاح ابن مشاري. الحمد لله على قدره. الحياة فانية. عزيز ينظر من النافذة. الأنوار تهتز أمام عينيه المبللتين. دم على بنطلونه وقميصه. دم أبيه. يده على فخذه تشتعل بدفق الدم الفوار من صدر أبيه. يتخيل رأس أبيه حارا في حجره. ﴿كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام﴾. والسيارات عند المغرب تزداد حركتها في الطرق. مات أبي ..مات. لن يسبح معي. لن يلعب الكرة. مشاري يفكر" هل قتلته رصاصتي.. يعصر دماغه.. وما الفرق..

 

   كل ابن أنثى وإن طالت سلامته    يوما على آلة حدباء محمول

نحن اللاحقون. في جنة الخلد. نحن اللاحقون. خالد أبلغ محسن أن يطلب من الشرطة ألا تعلن نوع الرصاصة التي قتلته. ما الفائدة إن كان مشاري أو عزيز. بندقية أو مسدس المكتوب مكتوب. الله يجزي الصابرين. الأرض تكهربت. المزرعة تكهربت. أنوار السيارات بدأت بالظهور. والحمام لا يبغبغ. النساء والأطفال. الخادمات والمزارعون. الرجال هناك. جنب السيارات. يمين وشمال حركة. حركات سريعة. يلملمون الحاجيات للعودة. اليوم الخميس. العودة من المزرعة مساء الجمعة والبعض يبقى حتى ظهر السبت. اليوم العودة الخميس بعد المغرب. خالد والإخوان يتحركون بسرعة. يتحدثون. عبد الله يتصل من المستشفى "لن ندفنه الليلة" عيون تبحلق وآذان تنصت. إكرام الميت دفنه. أجاب خالد "غدا بعد صلاة الفجر"

السيارات بدأت تتحرك. نورية تتبعها ابنتها ضحى تحاول أن تدخل أطراف شعرها الأشقر تحت الإيشارب الذي يغطي رأس والدتها. العباءة السوداء المطرزة أطرافها بورود صغيرة بيضاء وبنفسجية. على كتفها. تتقدم بلا دموع نحو السيارة. في الثالثة والأربعين فم صغير كحبة الكازو. وعيون مدورة. وجه مدور هادئ. صبور. يدها على رأس ابنتها دون دموع. "راح من شبابه.. لن يلعب الكرة. ليته لم يأتِ للرماية، يحب الكرة دائما يقول لعزيز "الرماية خطرة". تهز رأس ابنتها التي تنشج وتمسح وجهها بكتف أمها. وحصه كالظل خلفها. تكاد تمسك كتفيها. صابرة بلا دموع. وما أن تتعثر إلا وحصه تسندها وتضمها لصدرها وتتبعها لحيث تريد.

عزيز في المقعد الأمامي. رياض متقرفص على الأرض يبكي. رياض المربوع المراوغ. "ليته استمر في اللعب معنا". نورية تستدير وتتجه مباشرة نحو خالد وعبد الله "متى تدفنون" تسأل نورية. خالد يحني رأسه "من ضيق الدنيا لسعة الآخرة" تنظر له "ذهب من شبابه" عبد الله يرد "إن شاء الله من ضيق الدنيا لسعة الآخرة" ابنتها بجانبها وعزيز على المقعد الأمامي جنب السائق رأسه على النافذة الزجاجية الباردة عيناه مغرورقتان تنهمران، تكاد حنجرته تتقطع، يضرب يدا بيد، يفرك أصابعه. يعصرها، يشد على قلبه. نورية تشيح برأسها زائغة العينين "يا خالد لن تمسحوا الدم من الحديقة" عبد الله يدنو منها وحصه تمسكها من كتفها "تعوذي من الشيطان". نورية الأصمعي تسحب ذراعها من يد لطيفة وبصوت مرتفع "لن تمسحوا الدم". وتعدو عباءتها تتطاير من على كتفيها وتقلع وشاح الشعر تتجه نحو موقع مقتله في الليل بين الأشجار والنساء يركضن وراءها. حصه ولطيفة وعلياء والبنات. تطير. الحذاء يسقط. تطير راكضة حافية. وقفت أمام بقعة الدم حصه تمسك كتفيها "تعوذي من الشيطان" تنحني على سياج الهابسكوس "أعطوني ماء.. أعطوني كرسي" خالد وعبد الله يقتربان من الناس خالد يصرخ بالخادم "هات كرسي" تجلس نورية بنت أحمد الأصمعي على الكرسي أمام بقعة الدم. خالد يرفع صوته "دعوها.. غلبها الحزن" ولطيفة تردد "إنها لا تبكي" وحصه تومئ للطيفة بالسكوت. تنظر لها. تحميها. يرفع خالد صوته لتسمعه بنت الأصمعي "اللهم ارزقها وارزقنا الصبر والسلوان. اللهم اجبرها واجبرنا في مصيبتها ومصيبتنا خيرا" نورية تقوم من الكرسي يدها على كتف ابنتها ضحى "يمنحني السلوان!!" ترفع صوتها "السلوان!!" ترفع صوتها نحو خالد وشعرها ظاهر "لقد راح هو.. هو راح من شبابه"

رياض متقرفص على الأرض هناك عند السيارات وعزيز على المقعد الأمامي في السيارة يبكيان. بنات الناصر لا يبكين. بنت الأصمعي لا تبكي. عائلة الناصر تحفظ الألم. البكاء يخفف الألم. عائلة الناصر تحفظ الألم. في القلوب. محسن يتصل بخالد "سنأخذه للثلاجة حتى الصباح" عبد الله يأخذ التلفون "نأخذه للمسجد نغسله ثم نأخذه للثلاجة. "والكفن!".

نورية على الكرسي شعرها الأشقر منفوش وابنتها بجانبها تقبل وجهها تبكي. "نورية تبحلق بالدم. والجموع يمينا وشمالا ومن بعيد بجانبها وحولها وهي تنظر لبقعة الدم. تنظر لهم، وجهها محمر "راح من شبابه" جاءها المزارع "لا ترش ماء بعد الآن بهذا المكان "هز رأسه "إن شاء الله". يأخذونها للسيارة. بدون حذاء تمشي منتصبة القامة. شعرها الأشقر منفوش والعباءة المطرزة الأطراف على كتفها. ابنتها تحاول وضع الوشاح على رأسها وهي تبعده بيدها. وحصه كالظل الظليل. تسير السيارات.

عند باب المزرعة تمر السيارات بهدوء للخروج. تتلفت نورية في الظلام تفتح الباب تتأوه. تدفع الباب بسرعة وتقفز من السيارة وتعدو ثانية نحو موقع الدم. تركض حافية والسيارات توقفت والنساء يركضن خلفها. لا تبكي. عائلة الناصر لا تبكي. عدن بها حصه ولطيفة تمسكانها من ذراعيها وخلفها الجميع. تتقدم نحو خالد "أين تغسلونه.. أريد أن أراه. في بيتي. المغسلون وعزيز. إغسلوه في بيتي يهز رأسه "إن شاء الله إن شاء الله" تجلس في السيارة عزيز على المقعد الأمامي يبكي وابنتها بجانبها. عبد الله يتصل "أبلغنا الجماعة بعد صلاة الفجر"

في البيت النساء حولها. في الصالة. صورة له مع الأولاد. صورته يلعب الكرة. صورة يضحك. صورته يصوب البندقية. صور على الطاولات بإطارات مختلفة. صورة مع عبد اللطيف. صورة للإخوان والأحفاد جميعا في المزرعة. في المايوه يدفع عزيز للمسبح. صورة الوالد سعد بن كعب الناصر.

ظهرها منتصب. حصه تدبر الأمور. نورية تلتفت نحو حصه وهي تفكر وتتذكر "عندي طيب.. عندي طيب.. يا  حصه عندي عود وماء ورد مخلوط. يا حصه يحب هذا الطيب" تدفع ابنتها ضحى. تأتي لها بالطيب. "أريد أن يطيبوه" تقول لحصه يأتونها بكأس شاي بالحليب. تبعده بيدها "يا حصه أريد أن أراه قبل الدفن" حصه تكرر "إن شاء الله إن شاء الله" والناس يكررون "تعوذي من الشيطان.. إن الله مع الصابرين".

محسن رتب الأمور في المستشفى مع الفريق الطبي والإدارة والشرطة. وزير الإصلاح والتقوى اتصل بخالد: "بعد صلاة الفجر". الإخوان في المجلس. خالد في صدر الديوان. الأصدقاء والأقارب والجيران. عزيز سلم محسن زجاجة الطيب التي يستعملها والده. عزيز في المجلس محني الرأس وإخوانه وأعمامه ينظرون له. يرفع رأسه كالرجال صامدا ولا يستطيع.

رياض في الطرف هناك يتحدث مع مجالسيه. أحسن مدافع. أحب الكرة من عمي. هو الذي دربني. يقول لي دائما "الرماية خطرة" رحمة الله عليه يقول عن عمر بن الخطاب "علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل" يقول عمي لو عرف عمر الكرة لأوصى بكرة القدم".

في التاسعة قاموا للعشاء. طاولة الطعام طويلة. أكثر من خمسين رجلا وشابا وطفلا يأكلون سريعا. "اللهم اغفر لموتانا وارحمهم يا أرحم الراحمين". مشعل الذي خلف فيصل في إمامتهم في مسجد المزرعة يقرأ من سورة الحديد. ﴿ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور﴾.

رتل من السيارات. أنوارها نصف مطفأة. تسير مسرعة للمقبرة. اثنان أو ثلاثة أو أربعة في كل منها. تتجمع السيارات قرب المسجد. الإخوان يدخلون المغسل. سيارة الإسعاف تصل. يتراكض الإخوان يحملون النعش للمغسل. النعش من خشب أبيض خفيف بطول مترين وله طرفان في كل جانب يرفعون النعش بها فوق الأكتاف.

خالد وعبد الله ومحسن ومشعل ينتظرون خارج المسجد. "يا عزيز اذهب إغسل معهم والدك وطيبه بطيبه". قالت له نورية الأصمعي. المغسلون أربعة بالماء المعطر بالعود وماء الورد يمسحون جسمه.عزيز يمسح بيده بالطيب وجه والده. العينان تغرورقان. أولاد الناصر لا يبكون. يضعون قطنا في كل منفذ. الأنف والأذنين والعينين والشرج والفم. قطن معطر. الكفن قماش قطني أبيض مثل لبس الرجال كل يوم. نفس القماش للغني والفقير. لا صوف لا حرير. لا خشن لا ناعم. دين الفطرة دين الوسط. يلفان الجسد بالكفن ويربطان برباط قطني أبيض خفيف عند الرأس والوسط والقدمين. القبر محفور. حفاران جاهزان. بيد كل منهما مسحاة وطابوق وماء.

للمسجد تتجه السيارات يحملون النعش. يضعونه باتجاه القبلة على الأرض. أربعة أموات هذا اليوم. سلمى المزيني عمرها أربعة وثمانون عاما. خالد الرماني سبعة وستون عاما. جمشيد جعفر علي الأفغاني اثنان وعشرون عاما. مكتوبة أسماؤهم على لوحة الوفيات. وعدنان الناصر خمسة وأربعون عاما. بعد صلاة الفجر. يصطف الجمع. يتقدم وزير التقوى والإصلاح ليؤم الصلاة. يعدل كوفيته. ينظر يمينًا وشمالا. يهز رأسه محييا أكثم ابن الأمير. أربع عائلات معاً تصلي لموتاها. "اصطفوا وتراصوا يرحمكم الله" يلتفت الإمام يمنيا وشمالا. أقارب البنغالي وأصدقاؤه يتسارعون بوضع ميتهم بين الأموات. يكبر الإمام "الله أكبر" ويقرأ صامتا والمصلون واقفون.

 

﴿بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين. اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين﴾

يكبر ثانية "الله أكبر" ويقرأ صامتا

"اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد"

كبر ثالثة "الله أكبر"

المصلون يدعون لموتاهم. ومحسن يرفع يديه بالدعاء "اللهم إن عدنان في ذمتك وفي جوارك فَقِهِ فتنة القبر وعذاب النار وأنت أهل الوفاء والحق فاغفر له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم" يرفع يديه للسماء يقرأ من سورة الحج ﴿يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا﴾ ومن سورة التين ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم. ثم رددناه أسفل سافلين. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون﴾

يمسح وجهه ويرفع كفيه مستغفرا "اللهم إني أسألك العفو لأخي عدنان. اللهم استر عورته وآمن روعته واحفظه في جنات النعيم" "اللهم ارحم والدي وارحم المسلمين. اللهم أنت ملجأنا وراعينا فاحفظنا من الدنس وأبعدنا عن أصحاب السوء واهدنا في حياتنا الصراط المستقيم وارزقنا العمل الصالح والنية الخالصة لمحبتك وعفوك ورضاك أنت مولانا وتوفنا مع القوم التائبين" يسمع الإمام يكبر "الله أكبر" ويلتفت إلى اليمين. يمسح محسن وجهه. يسرع ينظر هناك إلى أخيه عبد الله يسرع يساعد الأفغان الذين تدافعوا ليحملوا نعش ميتهم. محسن وعبد الله وخالد يسرعون نحو النعش يرفعون عدنان ويتجهون نحو القبر. الإخوان والأحفاد والأقارب والأصدقاء والمعزون يتسابقون ويتدافعون لحمل النعش واحدا تلو الآخر على أكتافهم ليؤجروا. ويعودوا مسرعين لحمل نعش المتوفين الآخرين.

القبر عمقه أكثر من متر. ترابه رطب من الماء الذي رشوه. حفاران في القبر ومحسن يشمر ساعديه وعبد الله ينظر إليه ويساعد في إنزال عدنان للقبر وعزيز ينزل القبر معهم. يسحبون النعش وفي فتحة جانبية داخل القبر يدخلون جثمان عدنان المغطى بكفنه القطني الأبيض ورائحة الطيب وماء الورد تشيع في القبر.

المتطفل حمود بن خالد اللواحي في جلبابه القصير ولحيته الطويلة ووجهه الأبيض الطويل يطيل الكلام وبصوت مرتفع "القبلة القبلة" يركض من جانب لآخر محنيا ظهره. في بؤبؤ عينه اليسرى بياض. وشفتاه حمراوان. طاقيته بيضاء. يتسارع في المشي حول القبر "القبلة يا جماعة القبلة" المتطفل حمود محنيا ظهره نحو القبر يصرخ بهم "يا جماعة القبلة القبلة" ويهز رأسه ويرفع رأسه للسماء "أعوذ بالله أقول لهم القبلة ولا يسمعون". يشيح الجمع عنه. وقفز وهو يركض نحو وزير الإصلاح الذي كان يقف مع خالد وابن الأمير أكثم ووجه كلامه للوزير "أقول لهم القبلة ولا يسمعون. دفنوه غلط. هذا مسلم. عائلة الناصر عائلة مسلمة قل لهم يفتحوا القبر ليوجهوه نحو القبلة" الوزير نظر له صامتا وأومأ للشرطة. سحب ضابط شرطة المتطفل حمود اللواحي للسيارة وأجلسه في المقعد الخلفي وحمود يخرج رأسه من نافذة السيارة متبرما حانقا. "خافوا الله يا جماعة لماذا الاستعجال. يا بني آدم أتاكم ملك الموت لماذا الاستعجال" . طاقيته بيضاء "قلت لهم القبلة.. لا يسمعون" قال له الضابط الذي يجلس في المقعد الأمامي والسائق يقود السيارة لخارج المقبرة. "لقد سمعنا نصحك وقد دفنوه مثلما قلت لهم" صرخ بالضابط "أنت لم تكن هناك عند القبر. أنا كنت هناك لم يسمعوا كلامي. النبي قال "من مات من أمتي فادفنوه باتجاه القبلة" الضابط سأله مستطردا في الكلام من روى هذا الحديث "قال "أبو هريرة". قال الضابط "أبو هريرة!!" وحمود اللواحي قال "نعم أبو هريرة. ستقولون إني أكذب لكنك لم تقرأ كتاب البيهقي في نعم الأذكار والأبصار. أنا قرأته" قال الضابط مستطردا ملاحظا له "البيهقي!! "نعم البيهقي.. أنتم لا تقرءون. أكيد أنت لم تسمع به. ستقول إني أكذب. أنا لا أكذب الكتاب عندي. خمس نسخ سأعطيك نسخة إن لم تصدقني" قال الضابط وهو ينظر للأمام "أنت صادق.. البيهقي!! لكنهم دفنوه باتجاه القبلة وعلى جانبه الأيمن. تماما كما ذكرت. هز اللواحي رأسه نافرا "يا عمي لم يدفنوه باتجاه القبلة لماذا لا تصدقني". وفتح باب السيارة التي كانت تبطئ السير عند باب الخروج من المقبرة وقفز من السيارة والضابط نزل يبحث عنه. عدى اللواحي سريعا حاملاً طاقيته بيده بين السيارات والمعزين والضابط يركض وراءه وهو يقفز بين السيارات وفوقها ووقف أمام الوزير ثانية: معالي الوزير أنت تخاف الله "قل لهم يخرجوه من القبر ويدفنوه باتجاه القبلة". نظر له خالد شزرا وعبد الله دنا منه وسحبه بعيدا عن القبر الذي يلتف حوله الأهل والأقارب وسارع الحفاران بوضع الطابوق على فتحة القبر. والنعش رفعوه فوق والأسمنت المبلل بالماء سدوا به فتحة القبر. وانهار التراب حتى دفن القبر تماما.

بعيدا عن القبر اصطف رجال العائلة لتقبل العزاء. خالد في رأس الصف والإخوان الأكبر فالأصغر. طابور طويل والمعزون يمدون أيديهم لكل واحد منهم "غفر الله لميتكم" "أحسن الله عزاءكم" "البقاء لله" وفي جانب آخر تصطف العائلات الأخرى. صفوف أصغر. أصغرها صف البنغالي والناس يمرون عليهم جميعا معزين.

هنوف وصلها الخبر في الليل. تبكي. فوزي بجانبها "أهلي يموتون. يمرضون ويموتون وأنا لا أراهم" أخذ فوزي ابنيهما لغرفة نومهما. وعاد يجلس بجانبها تشد على يده. تبكي "أهلي يموتون وأنا لا أراهم" "أخي عبد اللطيف والوالدة لولوة الوهابي والوالدة منيرة الزيداني أخواتي تزوجن: مزنة وعلياء ولطيفة وجود ومنى ونوره" فوزي ينظر للحمل الثالث في بطنها في الشهر الخامس يضع يده على كتفها يقبل شعرها. "قضاء الله" تغمر وجهها بيديها. تنظر له تتأوه "نام الأولاد؟" قال نعم قالت "يا عيوني قم نام أنت.. عندك شغل في الصباح. لا أظنني سأنام الليلة.. أرجوك" نظر لها "قومي نامي أنت تعبانة. قالت وهي تهز كتفيها "أريد أن أبقى الليلة وحدي .. أريد أن أتذكر عدنان والأهل. أرجوك أريد أن أكون وحدي" جلست وحدها صامتة. أطفأت النور وفتحت ستارة النافذة. النور يتدفق من الخارج. ومزهرية الفلفل التي أحبتها وتفننت في ترتيبها واختيار فلفلها في الإناء البلوري السماوي الرقيق تتراقص ألوانها مع ما يصلها من نور من الخارج.

لوحدها في الليل ومزهرية الفلفل.. "منسية منسية يا عون الله مالي عندكم طارئ.." تتذكر أغنية عائشة المرطة وعيونها تتدفق بالدموع بيدها منديل أبيض تمسح عينيها. منسية لن تذهب للعزاء بعد أن سحبها خالد من شعرها وأعادها بالتاكسي للمطار أثناء وفاة عبد اللطيف. تفكر "الوالدة لولوة الوهابي لم ترَ أهلها بعد الزواج وعبد اللطيف منع زوجته من زيارة أهلها.. وأنا لا أرى أهلي يا رحيم.. يا رحيم.. وناصر وأحمد في غوانتانامو يا الله يا أرحم الراحمين".

تعب خالد من الوقوف لتقبل العزاء في المقبرة وكان أكثم ابن الأمير أول المعزيين يتبعه وزير التقوى والإصلاح. وبعد ساعة أو أكثر انتهى سيل المعزين وأقبل الإخوة والأنساب والأحفاد يعزون بعضهم بعضا ويحبسون الدموع وخالد جلس على كرسي تعبا. وسأل "أين مشعل" قال عبد الله "في المستشفى أصابته جلطة وهو ساجد في صلاة الفجر ونقلوه بالإسعاف من المسجد للمستشفى، يقول الأطباء جلطة بسيطة" أحنى خالد رأسه ونادى محسن "اذهب للمستشفى سأتبعك مع عبد الله والإخوان".

رتل السيارات مع بزوغ الشمس يخرج من المقبرة سيارة تلو أخرى وفي الطريق اتصل الديوان بعبد اللطيف "سيأتيكم الأمير للتعزية متى تكونون في المنزل" وفي البيت نورية الأصمعي ونساء الناصر يافعات وصغيرات وأنصاف ومسنات. نساء الناصر والأقارب والأنساب يملأن الصالة. نورية تنظر مقدم الرجال "يا حصه. قولي لهم أريد ملابسه"

دخل عزيز عائدا من المقبرة واتجه يقبل رأس والدته وعماته أحطن به يعزينه وأمه عيناها ثاقبتان "اذهب ائتني بملابس أبيك.." يأتونها بالفطور الشاي بالحليب وبسكويت تدفعه بيدها" "يا ضحى .. قومي اقفلي غرفة أبيك" وتجلس منتصبة القامة تحدق في الباب. باب الصالة. تترقب القادم. سيدخل عدنان.. لن يدخل عدنان. شعرها الأشقر والعباءة على كتفها تنظر في الباب والنساء متشحات بالسواد يجلسن بيد بعضهن القرآن. وهي لا تبكي تسأل "ماذا تقولون مشعل بالمستشفى؟" تسأل وتهمهم والنساء يتهامسن يسألن عن مشعل. جلطة!. يا رب لا تزيد الحسرة حسرة. يدخل عزيز "أين ملابس والدك؟" يعطيها لها تضمها إلى صدرها تحت عباءتها حصه تتقدم نحو عزيز "اذهب مع أعمامك" تقوم نوريه الأصمعي "ضحى تعالي سأنام في غرفتك. أنا تعبانة" تحمل ملابسه تحت عباءتها وتدخل غرفة ضحى تنزع وشاح الرأس وتفرد ملابسه الملطخة بالدماء. القميص والشورت والملابس الداخلية تضمها إلى صدرها. تمتد على سرير ابنتها "ضحى أعطيني ماء" تغمض عينها. تشرب الماء. تتغطي بالعباءة السوداء "ضحى لا أريد أحدًا يدخل عليّ... أنا تعبانة. أعطيني أسبرين".

 

(V)

 

(1)

ولد فيصل للوالدة منيرة الزيدان بين ولادتي علياء وهنوف للوالدة هيا الدبسيِ، أما الوالدة لولوة الوهابي فقد انقطعت عن الولادة من زمان حتى قبل مجيئها من الهند. أصغر من هنوف بسنتين تقريبا. محظوظ. كلهم بنات قبله وبعده. أحبه والده كثيرا. أمه منيرة الزيدان أنجبت ناصر الابن الأخير لها بعد أربع سنوات من ولادة فيصل وهيا الدبسيِ أنجبت أحمد بعد ولادة فيصل بثلاث سنوات.

الوالد أحب فيصل حبا جما. يأخذه معه للمجلس. وهو يحرص على انتظار والده عند الباب. وحين تجاوز الخمس بدأ يصحب والده للمسجد. يحب النظافة. لاحظت أمه ذلك فيه. لاحظت حب والده له. دقيق الملاحظة. تكلم ومشى مبكرا. وتعلم القراءة والكتابة سريعا. وفي السادسة في المدرسة كان الأول في حفظ آيات القرآن. وهيا الدبسيِ تمنت أن تلد ذكرا بسرعة لسعد الناصر. واستجاب الله لدعائها فأنجبت أربعة أولاد واحدا تلو الآخر أحمد ومشعل وعبد الله ومحسن. لكن سعد الناصر توفي وأحمد عمره تسع سنوات ومحسن عمره أقل من خمس سنوات.

لم يأخذ أحد مكان فيصل عند والده. يحمله على كتفه. يمسك بيده ويسير معه يستمع لقصصه يجيب على تساؤلاته يضحك لنكاته ويصفق لأناشيده التي يحفظها في المدرسة. فيصل يتتبع كلمات الكبار ويحفظ الشعر دون أن يفهم معانيه تماما. ذات يوم قرأ للمتنبي بيت شعر.

 

    رجلاه في الركض رجل واليدان     يَد وفعله ما تريد الكف والقدم

سأله أحد أصدقاء والده عن معنى البيت. ظل ينظر في وجه السائل ثم وجه والده ثم استدرك الموقف وقال "اسأل الوالد" ضحك الوالد وأصدقاؤه من ذكائه وتخلصه من المعضلة. بعد ذهاب الأصدقاء أبوه يشرح له البيت "هذا وصف للحصان" استغرب فيصل "الحصان!!" سأله أبوه ألا تفكر بالمعنى حين تحفظ الشعر. قال فيصل وهو يتطلع لوجه والده بدقة ليتأكد من صحة جوابه "بلى.. بلى.. ظننته يصف الشيطان" ضحك أبوه وهو يلفه بذراعه "نعم إنه حصان شيطان." في الليالي التي يكون فيها الوالد نائما عند الوالدة هيا الدبسيِ فيصل ينتظره عند الباب الخارجي لبيتها في الفجر ليصطحبه للصلاة. يتشبه بالرجال. بأبيه.

كان مع أبيه في عقد زواج أختنا فاتن على عبد الرزاق الفهيمي. كان فيصل يرتدي بنطلونا وجاكتا أبيضين. قميصا أزرق وربطة عنق بيضاء. كالملائكة. كان في التاسعة عيناه واسعتان. أهدابه سوداء جبهة عريضة. فم بشفتين حادتين. وأذنان كالرادار. يسمع كل شيء ويترجمه بسرعة في داخله ويربطه بأشياء كثيرة. بجانب الوالد. المأذون الشيخ حمود بن حسين طويل عريض يتحدث بالفصحى بصوت جهوري. منذ أن دخل المجلس لا يكف عن الكلام. إطلاق التعليقات والنكات والأمثال. قريب من الأمير. هو الذي يعقد له زيجاته وللأمراء الكبار. ولمن يحبهم أو يخشاهم أو يرجو منهم شيئا.

فيصل يعجز عن متابعة ما يقول الشيخ حمود. يتعب. شيء ما يكرهه فيه. يتوجس منه. يخشى أن يخاطبه أو يوجه له كلاما. كان مستنفرا منه. شيء ما في ضحكته العالية الهزازة أو جسمه الضخم. عند أذان المغرب قال الشيخ "لا داعي للذهاب للمسجد دعونا نصلى جماعة هنا". قام البعض للوضوء. نظر الشيخ لفيصل. لم يكن الوالد موجودا. قال وهو يمسح رأس فيصل وفيصل يشعر بخشونة يده على رأسه "لماذا كل هذه الأناقة يا ابني.. نحن لسنا في عرس" وضحك "العرس فيما بعد" ضحكة أخرى هزازة عالية "إن شاء الله في عرسك يا ابني. إذا الله أعطانا العمر.. في عرسك" لم يدر فيصل بما يجيب. ضحك الشيخ وهو يقوم للصلاة وقال لفيصل "هل تعرف كيف تصلي؟" لم يعرف فيصل جواب السؤال الاستفزازي وتابع الشيخ "هل أنت على وضوء؟"

كاد فيصل أن يصفعه لو تطال يده وجهه. أول مرة يشعر بالإهانة. كيف لا يعرف الصلاة وهو يذهب مع أبيه للمسجد كل يوم. من حسن الحظ أن الوالد لم يكن موجودا. لن أرضى أن يقلل قيمتي عند والدي. في الصلاة، لأول مرة لم يخشع فيصل. يفكر بالشيخ حمود. تمنى لو يبصق عليه. تمنى لوالده أن يطرده. لماذا يهينه ويسخر منه أمام الرجال. يتطاول. أول مرة يشاهده. ألأنه أكبر سنا وأكثر علما لكن لماذا يتعدى عليّ. أمام الناس. دون داع. دون أن أكلمه ولا كلمة واحدة. في القلب غصة. غصة وشموخ آل الناصر ومكرهم.

عند خروج الشيخ من البيت وفيصل يده بيد والده. يتحين الفرصة لرد الإهانة وها هو الشيخ حمود بن حسين يخرج طويلا عريضا بضحكته المجلجلة. الوالد يودعه وهما يضحكان قال فيصل للشيخ بصوت مرتفع وهو يمسك بقوة ثوب والده "أنا لا أريدك أن تأتى لعقد زواجي".

هل يمكن أن يكون الأطفال أشرارا؟ هل كلهم يذهبون للجنة إن ماتوا صغارا. شهداء لا يعرفون الدنس والحرام؟ هل بينهم أشقياء منذ ولادتهم مثل فيروز بن الحاج نظير الحارس في بيتنا. الحاج نظير شديد الإيمان لا ينقطع عن المسجد. وحين يتأخر المؤذن يؤذن مكانه بصوت متردد، به لكنة آسيوية "الله أكبر". طويل عريض أشيب الشعر وجهه هادئ عريض. يلح على والدي دائما أن نزوره في بيته. أي بيت ذهبنا له! أخذني الوالد معه. أزقة مليئة بالنفايات والأوساخ. منذ عدة أشهر من كرمه ومحبته لوالدي، يدعو الوالد لزيارة بيتهم. "أم فيروز تريدك أن تزورنا". منذ أشهر.

أنا قلت للوالد مرة "بابا دعنا نزورهم" كنت أريد أن أرى ابنه فيروز الذي يحدثني عنه دائما. أخذني معه. فقراء. منطقة فقراء. سيارات قديمة وأريل تليفزيون معوج. ومكيفات هواء شكلها كريه على الحوائط. وعلى الجدران كتابات، صعب قراءتها، بالعربية وبلغات أخرى قال عنها الوالد باشتو وأوردو وفارسي. رسوم لحيوانات.. لأشباح.. لطائرات.. وملصقات من كل نوع. في الثامنة مساءً بعد صلاة العشاء طلعت مع والدي لشقة الحاج نظير. عمارة وسخة. في الدرج قطط جائعة أو مريضة.

كان الحاج نظير بانتظارنا أسفل العمارة مع ابنه فيروز الذي كان يرتدي بنطلونا رماديا وقميصا مثل قمصان الصاعقة. واقفا جنب أبيه. سلم الحاج نظير على والدي وسلم عَلِيّ وقبلني. وابنه فيروز سلم على والدي ثم صافحني وهز يدي هزا عنيفا وضغط عليها بشدة. آلمني. أوجع أصابع يدي. كاد يكسرها. أخذت بعد ذلك أدلك يدي وأحركها في جيبي حتى لا يلاحظ الوالد شيئا. أكبر مني سنا. قريب في السن لكنه أكبر. أكبر أكبر. لماذا يعصر يدي بتلك الطريقة البليدة؟ دخلنا الشقة. نزعنا أحذيتنا في مدخل البيت كعادتهم. وإذ كنت أرفع رأسي بعد أن نزعت حذائي ووضعته بجانب الجدار. مد فيروز يده سريعا نحو ياقة قميصي وأصلحها. فوجئت. كانت لا تحتاج لتصليح. ما الذي رأى بها. يده بها رائحة لم تذهب عن أنفي. فيروز لا يكف عن الحملقة فىّ. لم يكن نظيفا. في صدغه الأيمن وتحت أنفه بقع. وعلى الجدران آيات من القرآن الكريم وأدعية وكلمة محمد كبيرة في الوسط.

جلس والدي وأنا بجانبه على كراسي صالة المدخل. الكرسي نظيف لكن أرضيته صلبة أو غير مستوية. لم أعرف كيف أجلس مرتاحا. أضع رجلا على رجل ثم أفردهما. أجلس إلى الخلف أم إلى الأمام. لم أعرف كيف يجلسون. على الأرض غطاء ليس سجادة مثلنا. نوع آخر مزخرف لعله من بلدهم، وستارة حمراء داكنة تغطي مدخل المطبخ الذي تخرج منه زوجة الحاج نظير وتعود. تليفزيون صغير الحجم وبجانبه كتب قديمة مكتوبة بالأوردو. وهناك قرب الستارة الحمراء الداكنة عند الباب حذائي ونعل أبي وحذاء ضخم للحاج نظير. وتقدمت زوجة الحاج نظير وهي تشد الشادر الأصفر على وجهها. لها ضرس ذهبي أو أكثر. لاحظتُ حناء ورسوما في كفها وظهر يدها. تكلمت بالأوردو كلاما حنونا فهمه الوالد وجاوبها بالأوردو.

فيروز كان واقفا خلفي. خلف رأسي. أشعر بيديه حول رقبتي أو جنب رأسي. لا أراه. أحس أنه خلفي. لم أقل شيئا لوالدي. هززت رأسي لكي أتأكد أنه ليس بجانبي. يداه منعتانى من تحريك رأسي. إنه خلفي. خلفي تماما. وتقدم حجي نظير بصينية بها عصير وكوكاكولا ومد أبي يده وتناول كأس عصير وأنا أيضا مددت يدي لأخذ كأس العصير الآخر لكن فيروز بسرعة مد يده قبلي من خلفي والتقط كأس العصير قبل أن تصله يدي. وأبوه الحاج نظير نظر له بعين غاضبة وقال له شيئا بالأوردو ربما ينصحه بالهدوء أو الابتعاد عني وأبي يمسح بيده رأسي ويلاطف زوجة الحاج نظير التي كانت أيضا بين الحين والآخر تصرخ بابنها فيروز أن يهدأ أو يتأدب.

ومع كل هذا التعنيف والنصائح فقد صب فيروز العصير خلف رقبتي. سحب ياقة قميصي من الخلف وصب العصير. هززت رقبتي والعصير ينسحب على ظهري ويتكور فوق خصري وتحتي. لزجا باردا تحتي. ماذا لو رأى الوالد البقعة تحتي. كيف سأسير أمامهم والبقعة في أسفلي على ملابسي. كدت أبكي. ما الذي فعلته به لكي يصب العصير في رقبتي. سحب ياقة قميصي قليلا وساح العصير باردا لزجا على ظهري ووصل أسفلي. ما الذي فعلته أنا؟ يكرهني دون سبب. نحن في زيارتهم. نحن مدعوون عندهم. ضيوف. أنا ألححت على والدي أن نزورهم. أبوه يلح على والدي دائما. أبوه طيب. الحاج نظير طيب. كيف يخلق الله ابنا شريرا له. هل يعاقبه الله على شيء فعله. هل كل الأطفال الفقراء شريرون. تذكرت الرسول الكريم. علمنا الخلق. علمنا الصبر. كم تحمل من مصائب ومكايد وإذلال. لكنه صبر. تذكرت القرآن "فصبر جميل والله المستعان". أمه أتت ثانية وأخذت تحادثه. طبخت لنا العشاء. والدي لم يتحمل صبري. والدي أشفق علي. أحس بشعوري. والدي يجامل الحاج نظير. "لا لم نأت للعشاء.. جئنا فقط للسلام على أم فيروز. لا أستطيع عندي ضيوف" وانطلق فيروز مسرعا يفتح باب الخروج لنا ويجهز أحذيتنا كما لو كان فرحا بخروجنا وأبوه بصوته الدافئ الحنون يرطن عليه. لبس والدي نعليه وأنا أدخلت رجلي في حذائي سريعا وظهري باتجاه الباب حتى لا يروا البقعة تحتي. وعينا فيروز الماكرتان في عيني. لم أستطع أن أنزل الدرج بسهولة. ربط خيوط الحذاءين ببعضهما. كدتُ أقع على وجهي لولا يد أبي التي رفعني بها وأسندني حتى أقوم. كنت أنط من درج لأخرى مثل القرد خوفا منه. أول مرة أشاهده فيها. أنط مثل القرد ووالدي يمسكني."لماذا تنط؟" قال لي الوالد. خلعت حذائي بعد درجتين وحملته بيدي وركضتُ للسيارة حافيا خائفا. قفلت الباب وزجاج النافذة والحاج نظير وابنه فيروز بجانبه يهزان أيديهما يودعان الوالد ويودعاني. فيروز يمسك بقميص أبيه الطويل، يختبئ به ويمد لسانه لي. يمد بوزه ويمد لسانه الطويل الأحمر.

سارت السيارة والوالد يسأل "ماذا عمل بك فيروز" حكيت له دون أن أبكي. والسائق "قال مسكين مريض". ارتحت قليلا. إذا سيذهب للجنة. هو مريض. الله خلقه مريضا. قلت لوالدي "الحمد لله، لم يخلقني الله فقيرا ولا مريضا". مسح والدي على رأسي "احمد الله يا فيصل أنت محظوظ" قلت "وماذا يجب أن أعمل؟" قال أبي "الصدقة. الصدقات. واجب الغني تجاه الفقير. الزكاة فرض والصدقة عمل شخصي من الغني دون الفرض"

 

(2)

بعد وفاة والد فيصل، اعتبر أخاه عبد اللطيف الأخ الأكبر المسئول عن العائلة. ينظر في عينيه. ينصت لكلامه. يحلل تصرفاته. ثقة به واحترامًا تامًا. ليس الوالد. عبد اللطيف ليس الوالد. لا نفس الحنان ولا النفس. لم يكن من يضع يده بيده ولا من يقف عند داره في الصباح للذهاب لصلاة الفجر. الدنيا فانية. الخلود في الآخرة. يتمنى كثيرا أن يجمعه الله بالوالد ثانية. سيقبل جبينه ويلثم كفيه. "وبالوالدين إحسانا". كما في القرآن الكريم.

قبل النوم وفي الصباح الباكر يتذكر الوالد ويتمنى أن يجتمع به ثانية. مع نفسه يحسم الأمر. سيعمل كل ما يمكن عمله لدخول الجنة لينعم بقرب الحبيب الحبيب الحبيب الوالد.

في سن العاشرة تعرف على جماعة سرية. أحيانا خمسة وأحيانا عشرة. يطرقون الباب لصلاة الفجر. بعد الصلاة يذهبون خارج المدينة هرولة وألعاب سويدية ثم حديث من المرشد عن فلسطين وعن اضطهاد المسلمين في تايلاند والفلبين. وأخته حصه تعرف ذلك. هي تخشى عليه. تنتظره كل فجر عند الباب حتى يعود وتأخذه بصمت لغرفة نومه. حصه مثل عبد اللطيف دائماً عينها على الجميع.

المرشد محمود ظل صديقا وفيًّا وسبًبا مباشرًا في اختفاء فيصل بعد خطبته في الجامع الكبير. أسود عريض المنكبين صافي العينين أبيض الأسنان العريضة في حديثه معان سامية ووضوح. الأمم الأخلاق كان يكرر. "اليوم يا إخوان سقط العدل". ويرفع بيده المصحف الشريف. ويوم صبرا وشاتيلا. هتف محمود بصوت يشق السماء "حتام؟" المرشد يشرح "من لا يتعلم من التاريخ يعيد مآسيه.. إنهم يعملون ما استنكروه.. النازيون دبروا كما في صبرا وشاتيلا قتل اليهود بواسطة بولنديين.."

وبعد سنتين مل فيصل تكرار نفس المواعظ والخطب وتوقف عن الذهاب معهم. خاصة وقد لاحظ عدم رضاء أخيه عبد اللطيف عن ذلك رغم أنه لم يقل له شيئا محددا بهذا الشأن. لم يكن يستسيغ الانضباط ولا التكرار. ظل محمود صديقا مخلصا.

بين إخوته.. فيصل الأكثر فضيلة. وبعد تخرجه من الجامعة تردد كثيرا في الالتحاق بإخوته في بولدر بكولورادو للدراسات العليا. يحادثهم بالهاتف. كان مترددا في الذهاب للعيش سنوات الدراسة العليا في أمريكا. يشاهد الأفلام السينمائية ويقرأ المجلات. يخشى الانحراف. وفي كل ليلة قبل النوم يسأل نفسه عما فعل في يومه خطأ أم صواب. الخوف من غضب الله. الخوف كان حارسه في الدنيا. محمود يقول له أحيانا "كيف ستستسيغ العيش في بلاد يشتمونك بها ليلا ونهارا" هل ستتحمل التطاول والامتهان والافتراء على دينك وبلدك كل يوم في الجرائد والراديو والإذاعة؟.

حين وصل إلى بولدر لم يدهشه أو يضايقه كثيرا مجون إخوته وصديقاتهم وشرب الخمر. كان يعرف ذلك قبل سفرهم. يعرفه من أحاديثهم ونزهاتهم ووجوههم. لهم دينهم وله دين. اختط مصلاه في غرفته الكبيرة. وانكب على دراسة اللغات. الأسبانية واليابانية في معهد اللغات. أدهشه الذين ينامون في الشوارع دون مأوى. بعضهم كلابهم معهم. بيض وليسوا السود الفقراء. بيض من نفس الطينة ونفس الدين.Homeless . عند كل مدخل مبنى كبير ينامون صيف شتاء. في الحر والبرد. توقف مرارا مندهشا من هؤلاء الذين يبحثون في القمامة عن مأكل. أين المساجد لتأويهم والمحسنون. كيف تغمض للأغنياء عين وهم يرون أبناء جلدتهم يأكلون النفايات. أين الكنيسة والقساوسة. غابت المروءة. ويشتمون الإسلام ويفترون. في عهد عمر بن العزيز جاب أحد مساعديه بأمر منه الأرض ولم يجد فقيرا واحدا من دمشق لأقاصي أفريقيا وحدود الصين. ليس لديهم عمر بن عبد العزيز ولا في تاريخهم كله. عمر بن عبد العزيز رفض أن يبني مسجدا كبيرا من الصدقات أو بيت المال قبل أن يطعم ويكسو كل الفقراء في كل الأرض المعروفة في زمنه. يبنون كل هذه الكنائس العظيمة الباذخة في كل زاوية والبشر يأكلون النفايات!! ليس في تاريخهم ابن عبد العزيز ولا جده ابن الخطاب. "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا". Homeless Homeless  مستعبدين وليسوا الأحرار. نظامهم يخلق Homeless  يأكلون النفايات. ويفترون على الإسلام وينظرون لهؤلاء البؤساء بقلب ميت ويلومونهم لأنهم كسالى أو منحطون.

في بولدر ما كانت ليسا لتتركه هادئا أسبوعا أو أسبوعين.. بعد أن أعادت الشيك قالت وهم في طريقهم لمعرض رسم "كل الأديان ضد المرأة" انتفض فيصل وقال "ليسا دعي هذا الكلام. من الأفضل أن تتكلمي عما تعرفينه"

ليسا صديقة محسن. من تلك العينة الفنلندية. عقلانيون.. عينان زرقاوتان، شعر أشقر ناعم يصل دون الكتفين. بروتستانت. طويلة الساقين تغمض عينيها قليلا حين تتحدث وتستدير برقبتها مثل الغزال ساحبة شعرها يمينا وشمالا كحقل حنطة. تحب جسدها وتعتني به أكثر من أي شيء آخر. لا تؤمن بالآخرة. هزت رأسها واستدارت من مقعدها الخلفي. محسن يقود السيارة. فيصل بالخلف ينظر من الشباك لا يُكثر مناقشة غير المؤمنين. "لكم دينكم ولي دين". الإيمان في القلب وليس في مكان آخر. قالت ليسا متحدية "لماذا عندكم يحق للرجل الزواج بأربع ولا يسمح للمرأة بذلك؟" استدار فيصل نحو الشباك وهي استمرت في الحديث "وعندنا "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر. لماذا لم يقل يسوع فليرمه بحجر. لماذا هي فقط الزانية وماذا عن الزاني.. الرجل.. أليس زانيا أيضا.. كل الأنبياء رجال لماذا؟ ألا تصلح المرأة لهذه الوظيفة؟" فيصل ينظر من زجاج النافذة متأففا قال لها "ليسا أنت لا تؤمنين بالله ومن ثم لا تؤمنين بما يأمر به. أنا مؤمن بالله. ومؤمن بإرادته وليس لي مناقشة منطقها. من أنا حتى أرفض إرادة الله وأمره". قالت ليسا "هل تعلم أن في بعض الكنائس بأفريقيا يرسمون المسيح أسود. تخيل بعد خمسين أو مئة سنة أن ترى في الكنائس المسيح أسود. قال لها محسن ضاحكا "من الأفضل لك أن تؤمني بالله وباليوم الآخر" ضحكت ليسا واستدارت بالحديث نحو محسن "لماذا أفضل؟" قال محسن صادقا وهو يقود السيارة ببطء "حتى أراك في الجنة" قالت ليسا وهي تغمض عينيها قليلا نبرات الصوت المنتشي المغناج كصوت أسمهان وتلتفت للخلف نحو فيصل "أذهب لك أينما تكون" وضحكت "في الجنة أو في النار"

مرة قالت ليسا لفيصل والإخوان معهم صديقاتهم وأصدقاء آخرون "أنا أشتهي محسن.." بيدها الكأس واحتضنت محسن وغاصت في تقبيل رقبته. رفعت رأسها وعيناها نصف مغمضتين " لن أتزوجه. اشتهيته. لماذا تعتقد أنه لا يجوز للنساء الاشتهاء. المرأة صنم عندكم. أداة لمتعة الرجل. حتى في الجنة حور عين يعدن عذارى بعد كل متعة". واستدارت نحو محسن. "أؤمن أن هناك قوة أكبر مني خلقت الكون وأنا جزء من هذا الكون ولن يعرف الإنسان سر ذلك أبدا. لكن الحياة الآخرة .. الجنة والنار. الملكان اللذان بأيديهما قائمتان للحساب، يسرى للأعمال الشريرة ويمنى للأعمال الخيرة. يزنان بالميزان. الكفة راجحة فأدخل الجنة أو النار!!"

مد فيصل يده للكرسي الذي تجلس عليه "دعك من الجنة والنار يا ليسا أليس في هذا نظام أخلاقي عظيم. الفصل بين الأعمال الشريرة والأعمال الصالحة. لو كل إنسان أخذ ميزانه أو ضميره بنفسه ألا تكون البشرية أفضل. ألا تنظرين لهؤلاء البؤساء الـ Homeless. لو كان هناك محسنون لما بقي هناك Homeless". قالت ليسا "لا تخرج عن الموضوع" قال محسن "كيف؟" قالت نحن نتحدث عن الإيمان بالله وهو يتحدث عن الـ Homeless . "قال فيصل" أنت لا ترين رابطا بين الموضوعين؟ "قالت ليسا "طبعا لا وإلا لكان كل شيء مرتبطا بالآخر. لعدنا مرة أخرى عند آدم وحواء والتفاحة.. هل تعرف قصة التفاحة.. الخطيئة الأولى.. نحن جميعا مدانون. بسبب التفاحة. لابد أن نكفر عما فعله آدم. أن نشعر بالذنب أن نكفر عما ليس بيدنا أن نمنعه. الشيء الدنس. الحرام كما تقولون. يقولون أن صلب يسوع افتدانا جميعًا. جميع البشرية. السابقين واللاحقين. خلصنا من الخطيئة الأولى. استدارت نحو فيصل ضاحكة مغمضة العينين مثل  أسمهان، وبصوتها الرخيم بطيء النبر قالت ضاحكة "التفاحة".

"قال فيصل" حين تؤمنين بالله. فأنت قطعا تؤمنين بالتزامك تجاهه كما حدده هو. الإيمان هو العدل والصدقات والبر بالوالدين وإيواء المساكين والكلمة الطيبة. الإيمان يقود للعمل الصالح. ليسا كيف لا ترين الترابط؟". ضحكت ليسا ساخرة "العفة مرة أخرى". هزت رأسها ثانية "البر بالوالدين" ونظرت إليه باستفزاز "وأيضا الـ  Homeless" هذه أشياء عفا عليها الزمن. الحرية.. حرية الفرد وحرية الاختيار. أنا لم أر أبي منذ سنوات. تقابلنا قبل سنة صدفة في هيلسنكي ودعاني لقدح بيرة. حرية الجسد. أنت لا تعرف حرية الجسد. لا تعرف الاشتهاء. تريد أن تكون قديسا. تريد الجنة. تريد المتعة حسب القانون. أي قانون أقوى من قانون الطبيعة. قانون الجسد. الجسد يعيش معك طول عمرك كيف لا تعتني به وتبهجه كيفما شاء. نحن في الشمال. شمال أوروبا. المجتمع المتقدم حقا. الناضج. المتقدم. هنا في أمريكا ما زالوا ينصهرون. نحن بيض ولا تسأل ربك لماذا نحن بيض إنها الجغرافيا. الطبيعة لا غير. الدين طغى على الفكر من زمان واليوم الفكر أعطى للجسد مكانته بعيداً عن الدين والأسرة وما إلى ذلك.

فيصل.. أيها النقي فيصل لقد فقدت عذريتي مثل كل البنات في الشمال في السادسة عشرة. بعض زميلاتي فقدن ذاك الغشاء الرقيق قبل الخامسة عشرة. لك أن تعيب ذلك. لكنني سعيدة به وفخورة وأكره أن أكون غير حرة. الغشاء الذي تسمونه أنتم الشرف وتدافعون عنه. هذا الغشاء الرقيق أزلناه بتقدمنا، بنضجنا.الـHomeless هم اختاروا ذلك. هم لا غير. ألا تراهم ينامون وكلابهم تنام معهم أحيانا. "ضحك محسن وقال" يا فيصل دعها تتمتع بالجسد والحرية لم أنت غاضب؟". ضربه فيصل على رأسه من الخلف "اسكت أنت. وسر نحو المعرض" قال محسن "سآخذك للشمال. شمال أوروبا" والتفت نحو ليسا "هل نأخذه معنا للشمال" قالت ليسا وهي تضع يدها على شعر محسن "ليأتِ ليرى بعينيه كيف تنفق الحكومة على التعليم. كل طالب في التعليم العالي له راتب شهري يكفيه. والتعليم الابتدائي وحتى الثانوي 100 دولار بالسنة. التأمين الصحي متوفر. ليس لدينا الكثير من المستشفيات الخاصة كلنا نتعالج في مستشفيات حكومية راقية. نحن لسنا مثلكم. نحن نعيش بدون خدم. نعمل بأيدينا وعقولنا. نحن النساء والذكور أيضا. أنت بصراحة من بيئة قديمة.. قديمة قرنين أو أربعة" "ضحك فيصل" "ليسا كفي عن هذا الكلام سوف ترين المستقبل قادما" قال محسن معلقا "دعها يا فيصل لآرائها". وفيصل استمر في كلامه "إنني مذهول مما أرى في بولدر.. في أمريكا. لا حل لهم سوى الدين يا ليسا. العودة للدين. ألا يرون بأعينهم الـ Homeless . ألا يرونهم في الشوارع الكبيرة يفتشون عن لقمة العيش في النفايات. أي حرية هذه. حرية الأغنياء. ديمقراطية الأغنياء. الأسرة تتزعزع. بدون عائلة. دون البر بالوالدين. الغاية عندهم تبرر الوسيلة. الغاية الأخضر. الدولار. ينشرون هذه الرذيلة في كل العالم."

كانت السيارة تقترب من المعرض "الأسود لون منفرد" "NOIR, UNE COLEUR UNIQUE" قالت ليسا "هذا معرض مهم. ثقافة الأسود. نحن أمام مكتشف جديد هو أن نحب الأسود". قال فيصل "ماذا سيفعل الأمريكان بتاريخهم. هل صحيح أن عرق العبيد، موتهم ودماءهم، هو الذي بنى نيويورك.؟ هل هذا صحيح؟" قالت ليسا "والإنجليز والفرنسيون ماذا عملوا بأفريقيا. نحن في الشمال ليست لنا مشكلة تاريخ. أنت يا فيصل أسير تاريخك. الإيمان بالله والآخرة.. أساس تاريخكم. ليس لدينا نحن هذه المشكلة.

"فيصل يفتح باب السيارة ينزل يستنشق الهواء. في الليل وهو يتهجد يسأل نفسه "لماذا لا يعاقب الله هؤلاء الذين لا يحبونه. ليسا وأمثالها" ويعود مكفهرا في تفكيره"أعوذ بالله من سخط الله. كيف لي أن أفكر بما يريد الله على الأرض منا نحن البشر". أعوذ بالله من سخط الله. يكرر.. ﴿قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق﴾ يعجب من رحمة الله وغفرانه.. "لو كان الله يقلب الأرض على من يسبونه. سبحانه وتعالى. لو كان يبطش بهم. أو يغرقهم تماما. كيف لنا أن نعرف الحق من الباطل لو لم يكن هناك إثم وظلال. حكمة الله. كيف نهتدي لسواء السبيل لو لم يكن بيننا أشرار مبذرون مترفون متهكتون. قساة بلا قلب ولا رحمة لبني آدم عندهم. عمارات شاهقة.. بورصة والدولار. الإله الجديد. أين التقوى التي يتفاضل بها البشر عند ربهم. يتذكر عائلته وكرم الأمير وابنه أكثم تجاه عائلة الناصر. يتذكر هروب هنوف وزواجها دون إرادة العائلة. "لماذا يبتلي الله المؤمنين من عباده؟". الحاج نظير وابنه فيروز وعائلتنا. سريعا يعود عن أفكاره" الله سبحانه وتعالى جلت قدرته. لا نعرف حكمته. أين لعقولنا نحن المخلوقين بإرادته أن نعرف أسبابه. غرور البشر. غرور العاجزين عن المعرفة".

تعرّف فيصل في أواخر السنة الثانية من إقامته في بولدر بمجموعة من الطلبة المسلمين الذين كرهوا الاعتداء على دينهم. كرهوا شتم الإسلام والمسلمين كل يوم في أمريكا. كرهوا التطاول على المصطفى وعلى الأخلاق. الخوف على أسرهم. عائلاتهم. أندونيسيون ومصريون وهنود وتايلانديون ونيجيريون وخليجيون يدرسون الطب والقانون والهندسة والتاريخ واللغات والبحار والكيمياء والسينما، فلسطينيون ولبنانيون وأرجنتينيون ومن جنوب أفريقيا. عصبة شابة تعبر عن رفضها لهذا العالم. بكل الوسائل. إعادته للجادة السليمة. إلغاء عالم الدولار نهائيا. عالم الأغنياء وديمقراطيتهم. يريدون العودة للفطرة. للحق. للعدل. للعائلة. ضد الفقر وتجارة الجسد. ضد الاستعمار والاستغلال. يريدون العودة للإسلام. دين الوسط. الإسلام النقي. إسلام الرسول الكريم. وأبي بكر وعمر. الإسلام النموذج. إيمان راسخ بجدوى الكلمة الطيبة وقيم العمل الصالح. يسخرون من غرور القهر والقوة وتقسيم العالم لأبيض وغير أبيض بكل الأساليب والوسائل.

محاضرات خاصة فيما بينهم. كيف لا يستطيع شتراوس في جامعة شيكاغو وكبار مفكريها أن ينظروا لما لحق بالفلسطينين؟ كيف لا يرى العدل؟. كيف لا يحكم جالبريث عقله.. يقول فلسطين موضوع عاطفي. مسكين لا يجرؤ على قول الحقيقة. هابرماس، الذي يستقصي ويستنكر ظاهرة قبول الشعب الألماني لجرائم النازي تجاه اليهود وتعمى عيناه عما يحدث للفلسطينين اليوم أمامه. نفس العقلية العنصرية. الحقوق لأحرار روما فقط هكذا روض الغرب نفسه لاستعمار واستغلال خيرات العالم. مثل الأشكناز الحقوق لهم والآخرون عقارب يبررون قتلها. يسخرون من التنوير.. الحداثة وما بعدها. الإسلام هو العدل والعمل الصالح والكلمة الطيبة. الأفاقون العنصريون تجار البحث العلمي والصحافة وخدمة الاستعمار عمي.. شتراوس وهبرماس عمي فهم لا يفقهون.

يتذكر أيام صديقه المرشد محمود. مازال محمود يتصل به بين الحين والآخر. "ما أخبارك. يا أخي ابعث لنا ما تراه نافعا من المجلات أو المقالات أو خواطرك". معجب بمحمود لمثابرته. لا يكف عن الاتصال كل شهر. كل أسبوعين. لا ينقطع. بالتأكيد ليس معه فقط بل بالعديد ممن يشاركونه الرأي. "حتام؟" إلى متى؟ يكرر على الهاتف كلما أصابت المسلمين مصيبة أو اعتداء آخر. لديه ابنتان. لم يصطادوه حتى الآن. سجنوا وقتلوا غيره. يتذكر محمود يوم صبرا وشاتيلا حانقا غاضبا يصرخ والمرشد يتحدث حتام؟ يهز كتفه المعضّلة وأسنانه البيضاء العريضة تلمع "حتام؟" قال له مرة بالتلفون "لدينا نصف مليون أسرة متعففة نحن نساعدهم؟ نصف مليون نصرف عليهم من أموال المحسنين في كل العالم. ليتنا نستطيع الوصول للجميع. مواردنا محدودة. "فكر أن يتصل بأخيه عبد اللطيف لكنه استدرك ذلك. العائلة تؤدي الزكاة وتعطي الصدقات إن لم يكن لمحمود وجماعته فلهيئة أخرى. وعبد اللطيف لا يحتاج نصيحة من فيصل.

وذات يوم جاءه تليفون. تليفون مزعج. من ابن خالته محمد البدري "أنا أتحدث باسم العائلة .. هل فعلا لك اتصال بجماعات هدامة؟" محمد البدري صديقه طول عمره. أخوه عبد اللطيف طلب من البدري الاتصال. سأله فيصل "هدامة!. ماذا تقصد؟" قال محمد البدري "نحن جميعا نعرف آراءك وتوجهاتك، نؤيدها ونحترمها ونعرف أنك لا يمكن أن تقدم على خطأ. نعرف فيصل. فيصل الناصر. فيصل بن سعد الناصر. لكن السلطة منزعجة منك. أنت بالذات. الأمير والعائلة لديهم أخبار غير مريحة عنك. قل لي بصراحة هل أنت منتم لمنظمة ثورية؟" احتد فيصل وسأله " أنا سعيد لأنك لم تقل إرهابية. أشكرك على ذلك كثيرا. أنت حسن المنطق. أنا لست عضوا في أي جماعة" قال البدري "ولكن السلطة منزعجة. ليس أنت. أنت مع العائلة وصالحها!. واستمر البدري قائلا "ونحن منزعجون لأنك تلتقي بجماعات سيئة". استرجع فيصل هدوءه ودمه يغلي "هذا غير صحيح. أنا لي أصدقاء أشاركهم الرأي. إلى متى الفساد والعبودية للأجانب. إلى متى؟ كلنا طلبة علم هنا. نحن فقط نتناقش. لم نحمل السلاح. لم نتآمر فقط أفكار. مثل Hyde Park Corner . ننبح فقط. ننبح في كافيتريا الجامعة. فقط لا غير. هذا هو فقط. القرارات تؤخذ في القصور الحديثة في وزارات الدفاع في شركات الأسلحة وشركات الأدوية وشركات الإعلام وفي الليالي العاصفة وتقارير الاستخبارات. أمريكا بلد الحرية. ماذا في هذا؟" نحن نتكلم فقط. نبحث. نتساءل. نتبادل الآراء. نحن متعلمون. نحن في أمريكا. الكلام هنا مباح. أجابه البدري "هذا بيت القصيد. أمريكا أكبر قوة في العالم" صرخ فيصل بالتليفون" ونسمح لهم بقتل الفلسطينيين أمام عيوننا. أباتشي وبولدوزرات وخرائط وطائرات. إسرائيل قوة مستمدة من يهود أمريكا. أي من أمريكا. رد عليه البدري بسرعة "نعم أمريكا قوة.. لا نريد ما يزعجها. يشترون منا النفط. هكذا نعيش يا فيصل. سلعتنا النفط لا غيره. ليس محبة لهم. شعورنا مثلك. لكننا نريد تقدم بلدنا لأبنائنا. أنت تتعلم في أمريكا من سيصرف عليك لو لم نبع النفط. أرجوك أنت وأنا عاقلان وموضوعيان. حرص الأمير على سعادتنا ليس محل تساؤل. هو أميرنا". صرخ به فيصل "والأراضي والرشوة. واستعباد الناس. التعليم السيئ والمستشفيات السيئة وهم يبذخون في أرجاء الأرض. خدم وحاشية واسعة ومتسعة وغير ذلك مما لا يرضي الله. أم أنت نائم. أم تغمض عينيك حتى لا ترى. أأنت نعامة؟ أنت تعرف حرصي على العائلة وسعادتها. فلا تكلمني بهذه اللهجة كما لو كنت مقصرا بحقهم". قال له البدري "لكن هذه مواضيع أخرى.. الآن أرجو أن تفهمني جيدا. أخوك عبد اللطيف في حرج كبير. أنت ابن العائلة يريد أن تفكر بمصلحة الجميع. لم يرد عبد اللطيف أن يهاتفك. طلب مني أن أتحدث إليك. وصلته تقارير غير مريحة عنك. أنت ذكي ونقي لماذا تريد أن تفسد الأمور على عبد اللطيف. أنا أخوك وصديقك. لا تحرج عبد اللطيف. "قال فيصل" أنت تعرف احترامي لأخي عبد اللطيف.. تعرف أنت ذلك. لا أنكر ما فعله من أجلنا. لا أريد إزعاجه. أرجوك تؤكد ذلك له لكنني لم أعمل أي خطأ. أنا أدرس. وفي أمريكا مناقشة وحرية رأي. "ضحك البدري هازئا. "حرية رأي. أي حرية للقطيع.. هل رأيت شخصا من غير الحزبين الكبيرين يمكن أن ينجح في الانتخابات الرئاسية. يا فيصل كن واقعيا.. في أمريكا من يخرج عن الخط يخرج ولا يعود. كلها شكليات. رأس المال هو الذي يقرر من الفائز برئاسة الجمهورية. ديمقراطية الأثرياء. هل نسيت حديثنا في السابق. أحاديثنا. لمن أعطى بلفور وعده؟ هل نسيت!! الممولون هم الذين يحددون من هو الرئيس. ثلاثون بالمائة تحت خط الفقر في أمريكا. هل تعتقد أن لهم صوتا. ألم تر Homeless  في أحسن الشوارع. عم نتحدث يا فيصل. دعك من الترهات. نحن مسئولون عن بلدنا وهم مسئولون عن بلدهم. حين نتقدم نستطيع أن نتفاوض. نحن الآن تحت رضاهم. قوتهم العلم. العلم سلطان. إن لم يشتروا النفط جعنا. أنا وأنت. مصلحة البلاد هي همُّ الأمير والمسئولين. مشاكلنا كثيرة إن لم نتكاتف مع الأمير فسنعتمد على من؟. هؤلاء المثقفون الذين يحشون رأسك بأفكار." احتد فيصل ثانية "يا محمد أنا لا أسمح لك بكلمة يحشون رأسي. أو ليس لي تفكيري الخاص؟ أولا أعرف الحق من الباطل؟. دعني يا محمد لقد تعديت في القول أكثر مما أحب منك." رد عليه البدري "أنا بالذات انتقاني عبد اللطيف لأحادثك. أنت تعرف أنه قلما نتحادث في المجلس. هناك الكثير من الناس في المجلس. لكنه طلب أن ألتقي به وطلب مني أن أنقل شعوره لك. لديه مسؤوليات كبيرة تجاه العائلة وفي الدولة. أرجوك يا فيصل أن تقدر موقف أخيك.. أرجوك".

لم يهنأ بالنوم فيصل تلك الليلة. ماذا يريد عبد اللطيف! لم يحدثه مباشرة. دائما هو طيب معه. لم يحدثه مباشرة. يخشى أن تختلف الأفكار بينهما. يخشى أن أقول له ما لا يحب. لا يود أن يسمع مني ما لا يحب. هل أستطيع أنا أن أقول له ما لا أحب. أأستطيع؟ هو بمثابة والدي. أأستطيع أن أجامله. أن أكذب. لا يحبون أمريكا. يخافون بطشها. يخافون CIA  والموساد. الموساد الخبرة التاريخية الطويلة في التجسس والعمالة. أمريكا تعطيهم السلاح ليجربوه ويستخدموه في قتل أعدائها بصفتها الحارس الأمين ضد شعوب المنطقة وآمالها في الحرية والنمو. يخافون من مكرهم. يخافون الموساد وسادته في CIA. يخافون أن يقتلوهم. يخشون الموت. يخشون الاغتيال.

 

ومن لا يحب صعود الجبال            يعش أبد الدهر بين الحفر

هكذا قال الشابي. شاعر تونس زمن النضال من أجل الحرية والاستقلال، أو نظل بين الحفر. هل يُرضي الله ذلك. خوفا من الجوع. والجوع عندنا أيضا. قام من فراشه فتح درجا. أخرج علبة سجائر نصف مملوءة. يدخن منها نادرا حين تشتد عليه الوحدة. يدخن وتحرق الجمرة أصابعه قبل أن يعود للفراش باحثا عن نوم. ويستعيد آية الكرسي.

بعد أيام من تليفون محمد البدري استلم دعوة لحضور افتتاح مسجد جديد في لوس أنجلوس. لوس أنجلوس بلد السينما وهوليود. لوس أنجلوس بالذات. ابن الأمير الأصغر مصعب سيفتتح المسجد. دعوة كريمة من السفير. يدفعون مصاريف السفر والإقامة. لماذا هو من بين إخوته الخمسة الآخرين. هو المدعو الوحيد. ضحك الإخوان "اذهب ستتعرف على الأمير مصعب.. ابن الأمير أمير "اذهب إنه افتتاح مسجد" وقرر السفر. خدم وحاشية وحراس شخصيون. نظر له الأمير مصعب هاشا باشا "أنت أخو عبد اللطيف.. الوالد يحترم المرحوم والدكم كثيرا. أأنت سعيد بدراستك؟" يده في يد الأمير ومصعب يؤكد "اتصل بي في أي وقت نريدك أن تنجح وتعود إني أسمع عنك أخبارا عظيمة" وبعد الافتتاح وهو يودع الأمير شاكرا دعوته تسلم ظرفا به خرائط وبيانات عن المسجد عمارته وتاريخ بنائه. وضع الظرف في حقيبته. معلومات عامة. لكن هذا العدد الكبير من الذين جاءوا من البلاد للافتتاح لماذا؟

حاشية.. أصدقاء.. مقربون.. خدم وحراس.. تكاليف دعوتهم وإقامتهم؟ كانت أسئلة في ذهنه. وبعد يومين من عودته لبولدر تلقى تليفونا من أحد مساعدي الأمير "هل استلمت الشيك؟" سأله فيصل "أي شيك؟" قال المتحدث "في الظرف ألم تجد الشيك؟" قال فيصل "انتظر" دنا من مكتبه تناول الظرف فتحه "شيك بعشرين ألف دولار باسمه مع الأوراق" عاد فيصل للحديث "نعم الشيك موجود. شكرا". ضحك محدثه"هل صحيح لم تر ما بداخل الظرف قبل ذلك؟" قال فيصل "نعم لم ألاحظه لم أدقق في محتويات الظرف قبل ذلك. كنت أعتقد أنها معلومات عامة فقط". قال محدثه "وبها شيك" قال فيصل شكرا قال محدثه "الشكر لله ولكن ألا يجب أن تقول للأمير مصعب شكرا؟" كاد ينهار من الغضب "لماذا عشرون ألف دولار؟ دعوة لافتتاح مسجد لماذا عشرون ألف دولار؟. ماذا عملت لأستحقها. دفعوا تذكرة السفر والإقامة هذا معقول. لماذا عشرون ألف دولار؟ هل أعطى كل المدعوين أم أنا فقط؟" رفع سماعة التلفون بسرعة وقال لمندوب الأمير "قلت لي أشكر الأمير. هل أنا الوحيد الذي أعطاني الهدية أم كل الحاضرين؟" أجابه المندوب "بصراحة "كل الحاضرين. الذين دعوناهم من الجالية في أمريكا أهدى الأمير لكل منهم عشرين ألف دولار والذين دعوناهم من البلاد منح الأمير كلا منهم خمسين ألفا "سأله فيصل" وسيارات المرسيدس؟" أجابه المندوب "طبعا نحن استأجرناها. ثمانين سيارة. نفضل المرسيدس السوداء والضيوف، يضحك، يفضلون الزجاج المعتم." انهار فيصل في غرفته. التليفون بيده. يهزه بيده. اغتسل وقام يصلي.

على العشاء في كافتيريا الجامعة كان معه أحمد ومحسن ومشعل. حكى لهم عن العشرين ألف دولار سأل أحمد "أين وضعته؟. في البنك؟" ومحسن قال "الأمير مصعب كريم" وأحمد احتد "كريم؟" وتقول كريم؟ هذه الأموال من جيبه. من أين له؟ هل تعرف؟ إنه أصغر سنا منا وامتحاناته كلها تمت في بيتهم. نجح من بيتهم." سأل مشعل " والآن ماذا يعمل؟ قال محسن لا أدري ؟ أظنه رئيس شرف لنادي رياضة التيكوندو؟ استغرب فيصل: التيكوندو؟ قال أحمد "ليس مهما تيكوندو أو غيرها.. المهم رئيس شرف تظهر صوره بالجرائد كلهم يبحثون عن دور. يتدربون على التعامل مع الناس. يحلمون بأن يحكموا ذات يوم". قال مشعل "وتذاع مقابلاتهم بالراديو والتليفزيون؟" قال محسن "ليس لهذه الدرجة. فهو في سلم التدرج العائلي في المرتبة الخامسة عشرة أو أكثر" قال فيصل "ما أدراك؟ قال محسن "أقصد أن الحكم بعيد عليه جدا" قال مشعل.. "بعيد عن الحكم وكل هذا الصرف والبذخ!!" قال أحمد. "من جيبه؟؟ أعطوه قطعة أرض. أرضنا. باعها سمسار للمساكين الذين لا يملكون بيوتا. وضع الشيك في جيبه يصرف على الحاشية والخدم والحراس وعلى ما يريد. وتقول "كريم؟" يا محسن "تقول كريم؟" استدار أحمد مرة ثانية نحو فيصل يسأله " أين وضعت الشيك" وتركزت عينا محسن وأذناه "أين وضعت الشيك؟" لا مجال للتملص الآن. فيصل يسارع "يعني أين وضعته؟" قال أحمد "لا تتملص يا فيصل أين وضعت الشيك طبعا في حسابك في البنك". سكت فيصل كرر أحمد " يا فيصل قل لنا. مشعل يستمع متلهفا قال فيصل "أعطيته ليسا" صرخ به أحمد " ماذا ؟! ومحسن رجع بكرسيه للخلف وقطب جبينه قال أحمد "ماذا قلت؟ قال فيصل "أعطيته ليسا" استدار أحمد نحو محسن يسأله "صحيح؟" محسن مقطب الجبين صامت في عينيه غضب وتساؤل. لم يجب محسن بشيء. فيصل " طبعا صحيح هل أكذب؟ قال أحمد متى أعطيته لها؟" قال فيصل "تريد أن تعرف التفاصيل إذن" ومحسن يتسمع بانتباه كبير "اليوم الظهر. أنا اتصلت بها بالتلفون وجلسنا هناك في الكافيتريا عند المدخل .. على هذين الكرسيين. ويشير بأصبعه نحو الكرسيين. أخبرتها بقصة الشيك وأنني لا أريده". ومشعل يسأل للتأكد"وحولت الشيك باسمها" قال فيصل "نعم" قال أحمد "وأخذت هي الشيك" قال فيصل "نعم" محسن سأله "لماذا لم تخبرني! إنها صديقتي؟" قال فيصل "ربما كنت سترفض" قال محسن "إنها صديقتي" قال فيصل "وعليه يجب أن تكون مسرورا.. أعطيتها شيكا بعشرين ألف دولار".

قام محسن من مقعده غاضبا حمل شنطة كتبه وقال لهم أراكم في البيت. أحمد يضع يديه على صدغه ويدنو من فيصل ومشعل يتسمع بانتباه "إنها صديقة محسن" قال فيصل "أعرف. طبعا أعرف لقد سألتني إن كان محسن على علم بموضوع الشيك قلت لها حتى الآن لا يعرف لأنني لو أخبرته فقد لا يقبل رغبتي أي ربما يكون له وجهة نظر أخرى". قال مشعل "وماذا قالت؟" قال فيصل "سألتني إن كنت لا أمانع أن تبلغه هي بالموضوع فقلت لها طبعا لا أريده سرا. لماذا يكون سرا. استلمت شيكا لا أستحقه ولا أريده أن يبقى معي. يا أحمد لماذا كل هذا الاستغراب أعطيت الشيك لفتاة ذكية وقد تحتاج المال؟ ألا تراها تقف دائما أمام نوافذ محلات الأزياء تتمعن بالأزياء. ألا تراها تحمل مجلات الموضة. لابد أنها تحب أن تقتني هذه الأشياء". "الباقي بذمتها" قال مشعل "ليتك أعطيته فقراء المسلمين" ضحك فيصل بتأفف وقال بضجر "فقراء المسلمين لهم من يعطف عليهم". نظر له أحمد هازئا "أو أعطيته جاكي".

 

(3)

في بريدي وجدت رسالة "أريد مقابلتك في مكتبي يوم الأربعاء الساعة الثانية بعد الظهر. السيد شكت". ماذا يريد منى شكت؟" منذ بدأت الدراسة في مركز اللغات قبل سنتين.. منذ أتيت للدراسة هنا والسيد شكت ينظر لي بريبه أو استخفاف وربما بدونية. عندي شعور بأنه لا يرتاح لوجودي. يسألني أسئلة مباغتة وليست ذات موضوع. مرة ونحن نلعب كرة القدم أوقف سيارته ليشاهد اللعب. استدعاني.. أنا من دون كل الطلبة الذين يلعبون. سألني وهو يمسح نظارته بمنديل ورقي " أراك تركض سريعا.. حذاؤك من NIKE ؟".

ومرة كنا في مطعم صغير بعد نهاية العام الدراسي الماضي.. مجموعة من الطلبة والطالبات رآني ووقف على رأس الطاولة وبيده لفاف أحمر يضعه فوق كتفيه وقال لي.. "هناك سيارة جاكوار خضراء عند باب المطعم أهي لك؟". يمط اسمي حين يلفظه مع أن اسمي بسيط اللفظ. هو يلفظه "فايصال". كنت في المكتبة قبل شهرين تقريبا حين لمحني ووقف فوق رأسي نظرت له قال "ما معنى فايصال؟ هل لاسمك معنى؟" رفعت رأسي نحوه غاضبا أغلقت الكتاب وقلت له ضاحكا "هل لشكت معنى؟" ضحك ضحكة سريعة ومسح على كتفي وقال "لا تغضب لم أقصد الإساءة" ومضى. ماذا يريد مني شكت. السيد شكت. عميد المركز. بيده كل القرارات. أول مرة أزوره في مكتبه. ليس ما يدعو لزيارة العميد. دراستي جيدة. درجاتي طيبة. العلاقة بالطلبة والطالبات جيدة. وبالمدرسين كذلك ما عدا ما حدث قبل يومين في درس المحرقة. درس اختياري على كل حال.

منذ أتيت أمريكا وأنا أريد أن أعرف أكثر عن الموضوع. كنت أعرف أن قوانين أغلب الدول الغربية تحرم المس بالموضوع. هذا المقدس الجديد. نقد الملكة ممكن، نقد الرئيس ونقد كل مخلوق مسموح به. نقد الرسول والمسيح والأديان ماعدا هذا المقدس الجديد. ممنوع المناقشة كلية. أريد أن أعرف واخترت المحرقة كمادة اختيارية. ومن يشك بأي جزء في تفاصيلها كما تروى في الإعلام فقد كفر. أنا وأصدقائي نستغرب تحريم مناقشة أمرين المحرقة والديمقراطية. لا في أمريكا بلد الحرية بل في الغرب كله.

ماذا يريد مني شكت؟ ماذا لو قال لي تعليقًا أحمق؟ هل أرد عليه كما في المكتبة؟ أرد عليه. أنا في طريقي الآن لمكتبه. يقولون أنا أريد مشاكل. أأنا أريد مشاكل! يا الله ماذا يريد السيد شكت؟ الشمس ساطعة. أشجار متناسقة. وزهور. ليس هناك ما يعكر المزاج. الهواء نقي. وفطوري ممتاز. ماذا يريد شكت؟.

مبنى الإدارة صغير وجميل نوافذه والأبواب زجاجية واسعة. زجاج يميل للاخضرار يحيط داخله إطار محفور ملون ألوانا ناعمة. في وسط الزجاج محفور شعار المركز. وفي الأسفل كتابات بالصينية والكورية والعربية واليابانية والعبرية والروسية والأسبانية والفرنسية "أهلا بكم" بكل اللغات. واحدة فوق الأخرى، محفورة بالزجاج. كل منها بلون مختلف. نقش عجيب جميل. قالت لي السكرتيرة "لا بد أن اجتماعكما سيطول.. لقد طلب مني السيد شكت ألا أعطية أي تلفون أو موعد قبل الثالثة والنصف". ماذا يريد مني السيد شكت!!. طرقت الباب. فتحته ودخلت. قال بعربية ركيكة: تفضل

قلت له بالعربية: السلام عليكم

قام من مكتبة واتجه نحوي مادًّا يده مصافحا:- شالوم.. نحن نستخدم نفس الكلمة. أنتم أخذتموها من عندنا. العبرية كما تعرف أقدم كثيرا من العربية.

قلت له "وفي القرآن ﴿وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا﴾

ضحك وهو يجلس على مكتبه. قال هذه بداية طيبة لنتعارف. أتلفّت في مكتبه. كتابات بالعبرية كثيرة. خارطة إسرائيل. صور من المحرقة. في معصمه ساعة يد كبيرة ونظارته رقيقة. أنف طويل وعينان خضراوان تشعان وجبهه عريضة حين يغضب تتكاثر بها الخطوط وشعر قليل الشيب ناعم. قال وهو يتكئ على المكتب المغطى بالزجاج وتحته صور لعائلته زوجته وأبنائه وأقاربه أو أصدقائه.

- لدي تقرير ليس جيدا عنك

- ماذا به؟

- هل يمكن أن تروي ما دار بينك وبين السيد كوهين في الأسبوع الماضي في مادة المحرقة.

قلت وأنا أتذكر بدقه - سألني بعد عرض الفيلم لماذا لا أبكي. فأجبته هذا موضوع له أكثر من خمسين عاما أنا أشاهد الآن قتل الفلسطينيين وهدم منازلهم وتجويعهم يومياً وهو يؤلمني أكثر. فسألني "أنت تساوي بين المحرقة وقتل الفلسطينيين" قلت "نعم" استغرب جوابي وقال محتدا ظننتك متحضرا " أجبته " أنا متحضر " قال لا يبدو عليك ذلك" قلت "هل يبدو علي التخلف والهمجية؟ قال باستفزاز وامتعاض " واللاإنسانية"

قام السيد شكت من مكتبه واستدار حول المكتب وأخذ ينظر للكتابات واللوحات المعلقة في الغرفة وقال بصوت حاد مرتجف "لا تكمل. لا تكمل عرفت مكمن الخلاف " اللاإنسانية ". قلت " موقفي من الفلسطينيين غير إنساني؟؟ أسرع شكت في مشيته وأخذ يدق بقدمه اليسرى الأرض.

- لا يا صديقي.. موقفك من المحرقة.

- ماذا في موقفي من المحرقة.. أنا اخترت هذه المادة.. أريد أن أعرف الحقيقة هل يجب أن أبكي.. إنني أحاول معرفة ما فعلته الحضارة الغربية والحداثة بكم فهل حاولت أنت معرفة معاناة الفلسطينيين.. هل حاولت؟ أليسوا بشراً مثلكم؟ ضحك شكت وهو يضع يده على فمه ويرفع حاجبيه "مثلنا؟" معقول "مثلنا يا فيصل!!".

أسرع شكت في دقات رجله على الأرض: لا يا صديقي المحرقة موضوع آخر، أكبر وأخطر، موضوع أخلاقي.. إنساني.. كيف لا تريد أن تكفر عن ذنب البشرية التي ساهمت مباشرة أو بصورة غير مباشرة في المحرقة. ليس النازيون فقط. النازيون نفذوا المحرقة. لكن أوروبا كلها مسئولة عن ذلك. ومنذ قرون. وأنتم أيضا. وآسيا لعدم اهتمامها. كيف لا تشعر بالذنب. الشعور بالذنب بداية الندم وعلاج الألم وتصحيح الماضي وتقويم الأخلاق وفتح الباب أمام اليهود ليأخذوا مكانهم التاريخي لفائدة الإنسانية. ألا ترى كم منا عباقرة في العلوم والفنون وعلم النفس والاقتصاد. ألا ترى ذلك يا فيصل. ألا ترى مصلحة لتقدم البشرية في استقلال اليهود وبناء دولتهم؟ أنت لست طالبًا ذكيًا فقط. أنت أيضًا مثقف: أنا أعرف ذلك. من أكبر فلاسفة الإنسانية اليوم!! شتراوس وهبرماس. نحن مفكرو العالم الجديد. هذه حقيقة. وبالأمس فرويد وأينشتين. وغيرهما الكثير. كيف لا ترى ذلك.

قلت : أنا لا أشعر بالذنب.. أصلا لم أكن مولودا آنذاك. لم أخلق بعد. ولا أريد الخوض في أفضال اليهود فقد تغضب أكثر.

قال: وماذا عن والديك وأجدادك أولم يساهموا في كراهية اليهود.؟ اقرأ التاريخ يا فايصال.

قلت: لا أعرف إن كان والدي رحمه الله قد ساهم في كراهية اليهود. لعلك تقصد تعاطفه، تعاطفنا جميعا مع الفلسطينيين.. أهذا ما تسمية كره اليهود. نراهم يوميا على التلفزيون يقتلون. بيوت تهدم بالبلدوزرات. طائرات تقتلهم بالليزر. أباتشي. وقنابل من أنواع مختلفة حديثة. معاناة الفلسطينيين أراها أكبر مما حاق باليهود. أراها أمام عيني يوميا رغم سكوت الإعلام عن ذلك.

صرخ شكت: أنت غلطان. أعرف ما تقصد. تريد أن تقول بنظرية المؤامرة. وسيطرة اليهود على الإعلام الدولي وما إلى ذلك من أكاذيب.. أعرف أنكم أنتم العرب تعتبروننا عملاء لقوى أكبر. أليس كذلك؟ أنت غلطان. غلطان. هؤلاء الفلسطينيون إرهابيون.. يريدون تحطيم دولة اليهود. منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة لم يكن لنا دولة. الآن حين صارت لنا دولة يريدون تحطيمها.

قلت: سيد شكت.. أنت أمريكي

قال: يا صديقي.. كيف لا تدرك أنني أمريكي يهودي. قلبي مع إسرائيل. هي بلد اليهود أينما كانوا. نحن في الشتات من زمان ومازلنا.. بلدنا. ملجؤنا.. لا تعرف كم قاسينا نحن قبل تأسيس الدولة. الآن لنا دولة نحن أحرار فيها. نعود لها متى شئنا. نعيش فيها أحرارا دون خوف. ملجؤنا الأخير. وطننا قاومنا القهر والتشريد. عشنا في الشتات والغيتوات مئات السنين نحن انتصرنا. أين هم الرومان الآن الذين حاربونا. أين نبوخذ نصر الذي طردنا. هم الذين زالوا. أما نحن فمازلنا موجودين. وفي أرض الميعاد التي أرادها الله لنا.

قلت: أنت إذن في أرض نجسة لماذا لا تعود لأرض الميعاد كما أمركم ربكم.

التفت شكت نحوي باسما مادا ذراعيه: ربنا هو ربكم.. طبعا نحن وأنتم موحدون وكلنا من نسل إبراهيم. كلنا ساميون. المشركون هم المسيحيون. يقولون بالتثليث.. ضحك ساخرا ثلاثة آلهة.. الله والابن والروح القدس. نحن وأنتم الموحدون. نظر إلي نظرة متفحصة. أنتم من نسل إسماعيل. أنتم أبناء هاجر. هاجر التي تزوجها إبراهيم وأنجبتكم. أليس كذلك. أنت تعرف التاريخ.

قلت: سيد شكت لم أدرس الأديان. لكن قلبي مع الفلسطينيين.. الظلم ظلم سواء جاء من النازي أو من اليهود.

قال: يا صديقي هذا جوهر الخلاف. لا خلافات عقائدية أو معقدة بيننا. فقط المشكلة هي الفلسطينيون". يضع كفه على صدغه وهو يفكر. يعصر ذهنه "أين ترى يمكن أن يذهبوا؟ عندكم في الدول العربية أراض كثيرة وعندكم نفط وأموال وهم إخوانكم هـه أين ترى أنت أن يذهبوا ويعيشوا بسلام ونحن نعيش بسلام أيضا؟ نحن أيضا لا نريد قتلهم. طردهم كلية صعب.. كان يجب أن يتم ذلك سنة 48 . الآن أصعب. لابد أن تجدوا لهم حلا. ربما للعراق أرض زراعية طيبة وبها نهران. سنساعد تركيا في مدهم بالماء. هل تعرف بيرغمان. شمؤيل بيرغمان المفكر الكبير. "هو اقترح ذلك سنة 1914" كان يدرك أنه لابد من ترحيل الفلسطينيين لبقاء إسرائيل. شكت يضع كفه على جبهته. يتذكر.. ويحرك قدمه يمينًا وشمالاً.. ذاك طبعا أفضل من حل كوفمان. أنت لا تعرفه أيضا. حزقيل كوفمان أيد الإبادة الجماعية للفلسطينيين على غرار ما جاء في سفر يوشع.

قلت: أين يذهبون؟ يبقون في بلادهم.

صرخ شكت: معقول يافا. يافا مدينتهم!. نحن عمرناها، نحن حدثناها. ليست يافا القديمة. القدس مدينتهم؟ عندكم مكة ماذا تريدون بالقدس. دعوها لنا. نحن شعب صغير. شعب مضطهد لماذا تضطروننا لعمل لا نريده".

قمت من الكرسي ووقفت قبالته قال وهو يهز رأسه وينظر لي بعينين محمرتين: "لهذا اخترت أنت المحرقة كمادة اختيارية.. لترى بعينك الجريمة التاريخية. لتعرف ما حدث لليهود. لم يحدث مثله أبدا في التاريخ. يقولون "الغجر" لكن الغجر ليس لهم دور تاريخي. ليسوا مثل اليهود. الغجر بلا تاريخ. كالهنود الحمر. انظر اليوم.. انظر.. افتح عينيك.. الفلاسفة.. العلماء الموسيقيون.. الكتاب.. السياسيون كلهم كلهم يهود. ألا ترى في ذلك فائدة للإنسانية. ما إن ننطلق بالحرية وبالندية إلا وتزهر العبقريات. نحب الله.. اختارنا. ونحن اخترناه ذاك هو الناموس" ألم تقولوا أنكم تؤمنون بكل الرسالات السماوية.

قلت لا أريد أن أدخل فى حوارات دينية. لست برجل دين. لكنني لا أرى كيف يستطيع شعب حدث به ما حدث ويفعل نفس الشيء بالفلسطينيين. ما هذه القدرة العجيبة!.

قال نعم يا صديقي.. بصراحة قدرة عجيبة.. إنه قدرنا. الله اختارنا. نحن اخترناه وهو اختارنا. قدرة عجيبة لا تسألني كيف ولماذا اقرأ التلمود ربما تعرف. علمنا ربنا أن نبطش بالأغيار. ألا نأمن لهم. قال لنا فلسطين بلدكم. وقد استعدناها الآن.

ضحكت وأنا أتذكر نكتة قديمة قلت سيد شُكتْ " لو كنتم شعب الله المختار فعلا لظهر النفط عندكم".

قال حزينا: صحيح إسرائيل ليس بها نفط! أعدنا سيناء للمصريين! نحن أعدناها لهم. الذين طردونا من بلادنا في السابق أعدنا لهم سيناء بنفطها. طردونا بعد أن بنينا الأهرامات لهم. والآن ندفع لهم ثمن النفط. نشتريه منهم. هزمناهم في الحرب ثم أعدنا الأرض لهم. ضغط العالم المعادي لنا. ربما في شواطئ غزة يوجد نفط! ربما!! لكن يا صديقي عندنا ما هو أثمن من النفط. شيئان أهم من النفط الذي سيذهب يوما ما ولن يلتفت بعد ذلك أحد لكم. اسمع يا صديقي. حدق بي وهو يحرك رجليه. أمسكني من كتفي. "لدينا شيئان إرادة الرب أولا والعقل ثانيا. أكبر نعمتين. ميزنا الله بهما على غيرنا. هو اختارنا. أنت موحد أليس كذلك؟ أبناء هاجر طبعا موحدون. أنتم أبناء هاجر.. أليس كذلك؟

رفعت يده عن كتفي: الله أيضًا قال لنا نحن المسلمين ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر﴾ الله فضّل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس طائفة أو جنسا. الله يأمر بالعمل الصالح والكلمة الطيبة..

صرخ شكت "إنها أرضنا.. ماذا كان في فلسطين حين أخذناها. فلاحون وبدو وصحراء. انظر الآن لتل أبيب جامعات ومراكز أبحاث ومستشفيات وشركات تقنية وجيش لا يقهر.. لا يقهر. ألا ترى ذلك في مصلحة الشرق الأوسط. منطقتكم. ألا تعرفون كيف تستفيدون من وجود هذه الدولة الحديثة جنبكم. دولة ديمقراطية. لماذا لا يكون تفكيركم إيجابيا. صرخت به "يا صديقي 93% من سكان فلسطين كانوا عربا وقت وعد بلفور. أنت تعرف اللورد بلفور كان ضد إصدار التعهد البريطاني لكنه بعد ليلة عاصفة أصدر ذاك التعهد على حساب الفلسطينيين. وتذكر.. تذكر يا سيد شكت لمن أعطي التعهد! للورد روتشيلد الممول الكبير. ما هي الصفقة التي تمت تلك الليلة العاصفة؟! لا تفاصيل في كتب التاريخ. إقامة دولة بالحيلة والابتزاز. تقول ديمقراطية وفي السجون أكثر من عشرة آلاف فلسطينى دون محاكمة أو اتهام يأخذونهم من الشوارع لمزيد من إذلال الفلسطينيين واحباطهم.

دفعني شكت من كتفي "لا تكذب. لا توجد ليلة عاصفة. لا يوجد ابتزاز. روتشيلد يحب أبناء طائفته. شعبه.. رجل مخلص لشعبه. لا يوجد ابتزاز. الإنجليز أعطونا فلسطين برضاهم. بالعكس حين كان زعماؤنا يفاضلون بين الأرجنتين أو كندا أو أنجولا لتأسيس دولة اليهود.. الإنجليز هم الذين قالوا لنا " لو كنا مكانكم لم نختر غير فلسطين " اقرأ التاريخ جيدا لا تقرأه بالمقلوب. شخص متعلم مثلك لا يكذب. الإنجليز نفذوا إرادة الرب وإرادتنا نحن".

اهتجتُ: "أنا لا أكذب.. الذين يكذبون هم الذين قالوا "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" أنتم ظلمتم شعبكم. ظلمتموهم ليعيشوا مرة أخرى في غيتو كبير. وستلطخون تاريخنا. نحن أهل التسامح. كنتم عندنا دون قتل أو تشريد منكم أطباء ووزراء. محاكم التفتيش ليست من صنعنا. لديكم العمالة متأصلة. أولا مع بريطانيا المستعمرة ثم مع فرنسا المستعمرة الآن مع أمريكا. في التاريخ دائما تتحالفون مع الملوك والنبلاء والأغنياء ضد الشعب. مع الرجعية دائما. الحاخامات يبررون ذلك بأنه في صالح اليهود. تريدون لأنفسكم أكثر مما تريدون للآخرين. تقولون نحن مضطهدون ثم تطلبون أكثر مما تطلبون لبقية الناس أو يطلبون لأنفسهم. في تاريخنا، الحكام المستبدون غالباً يجعلون جامعي الضرائب من اليهود.

 

وقف شكت صامتا لحظة.. دقائق يذهب للأمام ينظر للصور يحدق بالأرض.. ثم.. تقدم نحو الباب وقال لي" تفضل " سنتحدث مرة أخرى. نحن أصدقاء.. يجب أن نظل أصدقاء. لا فائدة من هذا النقاش "قفلت الباب" قلت سأقول لك لماذا اخترت المحرقة درسا اختياريا.. اسمعني... ليس بسبب قبية أو خان يونس أو صبرا وشاتيلا. سنة 1951 مائة ألف طفل من اليهود السفرديم اليهود العرب بموافقة حكومة بن غوريون أجريت عليهم تجربة الإشعاع النووي. حلقوا رؤوسهم ووضعوا بين فخذي كل منهم كرة يحافظ عليها حتى لا يحرك رأسه. ثلاثمائة مليون دولار آنذاك مساعدة أمريكية خاصة لوزارة الصحة الإسرائيلية لإجراء تجربة أثر الإشعاع على نمو الأطفال في المستقبل. النتيجة تخلف السفرديم جيلا أو جيلين عن الأشكناز. الغاية تبرر كل الوسائل. أهذا هو الذكاء. are you realy the brightest ??

قال: هذه أكاذيب يرددها معادو السامية لكنني سأسألك عن أمر تذكرته الآن. موضوع آخر. قلت ونحن واقفان وجها لوجه "ماذا أيضا"؟

وضع مرفقيه فوق بعض قال : لماذا ذهبت لحفلة المثليين وأنت لست منهم؟

قلت : وهل هذا من مسئوليتك؟ لماذا أذهب وإلى أين؟

قال : يا فايصال.. أنت تعرض نفسك للمشاكل. أنت لا توافقهم رأيهم دعهم.. ربهم يحاسبهم. هو خلقهم وهو يحاسبهم. أنت صاحب مشاكل يا صديقي.

فوجئت بسؤاله. لم أعرف بم أجيب. هززت رأسي مبهورا قلت: يحاسبنا جميعا".

وقبل أن أخرج مد يده مبتسمًا مصافحا وهو ينظر إلي متفحصا "والشيك ؟؟ الشيك ؟؟" ويهز رأسه غاضبا مني كما لو كان يؤكد أنني صاحب مشاكل. قلت "الشيك؟" وما دخلك أنت بهذا الموضوع. إذًا أنت تعرف كل شيء عني. كل شيء. وأصدقائي الذين أجتمع بهم.. وإخواني. نحن أيضًا نعرف كل شيء. عيب.. عيب. أنظر لصادرات دولة اليهود.. أدوات وأنظمة تجسس. ونتائج اختبارات جينية ونفسية عن كيفية استخلاص الاعترافات من السجناء هذه صادرات شتراوس وهبرماس. تعذيب الفلسطينين تجارة. نتائجه تجارية. مبروك عليك يا سيد شكت.

في المكتبة مر علي أحمد. جلس بجانبي ولاحظ كتاباتي المشخبطة على الورق.. سأل "ما تفعل؟" نظر إلى وجهي متعبا وعيناي حمراوان. سألني "ما الأمر" أخذت كتبي وأوراقي. سألته "لماذا أتيت للمكتبة.. للمركز.. أهناك موعد لديك هنا؟" نظر لي متفحصا قال "شعرت أن لديك مشكلة" سألته "كيف شعرت بذلك" قال "هل عندك مشكلة؟" قلت له "ألهذا أتيت" قال "نعم.. قلبي قال لي.. هل لديك مشكلة؟"

سرنا صامتين خارج المكتبة بعض الوقت بدون كلام. كنت أنظر للسماء وقد بدأ الطلبة يخرجون، بعضهم يتجه للكافيتريا.. وأحمد ينظر لي وإلى الفتيات اللائي يحملن كتبهن تحت آباطهن وشنطهن فوق ظهورهن. وأحمد كعادته ينظر إلى شعورهن وأكتافهن وأوساطهن وما تحت ذلك. سرنا إلى البيت. الساعة الثامنة. ركب كل منا سيارته. دخلنا البيت. عبد الله، محسن وليسا. ناصر في ملابس الركض. سأل محسن "ماذا؟" أحمد بصوته الجهوري "مشكلة أخرى؟" قال ناصر رافعا صوته "اللهم اكفنا الشر" سألت ليسا "ماذا؟" دخلت غرفتي. استحممت وصليت المغرب. نزلت للطابق الأرضي. ينظرون لي جميعهم. يتطلعون إلي. قال محسن "ماذا بك؟" جلست على الكرسي الهزاز. أين أبدأ. قال أحمد "تكلم.. دعنا نفهم ما المشكلة" صمتُ لفترة. محسن وليسا ينظران إلي.

دخل مشعل البيت متمهلا في المشي كعادته وحدق بالجالسين.سأل "هل سمعتم النكتة؟" محسن سأله "أي نكته" قال "فيصل يعرف التفاصيل" خرج ناصر عاجلا من الحمام والفوطة على ظهره بعد الاستحمام يستمع لما حدث. قال أحمد "فيصل.. قل ما المشكلة؟" قال مشعل "سمعت من إدوارد النكتة التي قالها فيصل للسيد شكت" سألني أحمد "ما النكتة" كنت صامتا. المحاكمة مرة أخرى. ماذا قلت ولماذا؟ لم أتكلم. مشعل قال "كنت عند إدوارد وجاءه تلفون وروى لي النكتة.. فيصل قال لشكت. لو كنتم الشعب المختار لجعل الله النفط عندكم" ضحكت ليسا. ضحك الجميع لكن محسن قام غير مرتاح. قال متأففا بصوت مرتفع "هذا ما كنت أخشاه" ومد يده لليسا "قومي سنتأخر عن السينما" كانت تريد أن تسمع أكثر ومحسن لا يريد.

ذهبا للسينما. ومشعل وناصر وأحمد ينظرون إليّ "تكلمتُ. قلتُ لهم ما دار من حديث مع شكت وكيف دار بالضبط.. ونقاش السيد كوهين معي." قال لي أحمد "فعلا أنت تشتري المشاكل.. لماذا ذهبت لدرس المحرقة" قلت بالتفصيل دون زيادة أو نقصان ما تذكرته من حديثي مع السيد شكت والسيد كوهن." قال أحمد "سيطردك من الجامعة" قال ناصر "ألا تعرف أن في الغرب قوانين تمنع مناقشة المحرقة." مشعل رأسه بين يديه "ماذا ستقول الآن لعبد اللطيف.. نحن نريد أن ننجح ونعود لبلادنا بدون مشاكل.. نحن نعيش بخير. ماذا سنقول لعبد اللطيف." سألني أحمد "هل ستقول له ما حدث.. يمكن أن يطردوك من الجامعة".

في الغد. يوم الجمعة.. بعد صلاة الجمعة في بلادي كان طابورنا الأسبوعي المعتاد. كلنا في القاعة. الواحد تلو الآخر. نكلم عبد اللطيف. ثم كل منا يكلم أمه أو من شاء من إخوته أو أخواته. وغالبًا ما نكلم حصه. هي تطلبنا إن لم نكلمها. مثل عبد اللطيف قلبها علينا فردًا فردًا. أم للجميع. طابورنا الأسبوعي. بعد صلاة الجمعة سألني أحمد "هل ستقول له شيئا.. تمهد لطردك" صاح به ناصر "لا تستعجل الأمور يمكن ألا يطردوه" قال مشعل انتظر "البدري سيتصل ثانية". أخذت دوري المعتاد سلمتُ على عبد اللطيف ثم تحدثتُ للوالدة ثم طلبت أختي علياء.. أتحدث معها أحيانا. أول مرة أسألها عن سلمى الفرجاني. استغربت سؤالي. صديقتها. كنت أراها معها. قالت "اطمئن لم تخطب ولم تتزوج.. تنتظر عودتك. بعد سنتين ستعود أنت أليس كذلك؟. هي مازالت في الكلية. سألتني عنك. طالما سألتني عنكم وعنك بالذات. يا فيصل لا داعي لتخفي ما في القلوب, هي تعرف وأنت تعرف وأنا أعرف" هزني كلامها. هز كل بدني وفاجأني. هي تعرف؟؟ من أيضا يعرف؟ لم أتحدث مع سلمى أبدا. لم أكلمها. كيف تعرف سلمى شعوري نحوها. أتعرف قلبي. ماذا لو كنت مثل أحمد! أو مثل محسن! كيف تعرف قلبي. لم أتحدث معها, أبدا ولا كلمة." أخشى أن أعود للبلاد مبكرا. أريد أن أتزوج, أريد سلمى الفرجاني.. هل يمكن أن تتزوج مطرودا من الجامعة.

قفلت التلفون. سأسأل علياء ثانية. ليس الآن. قفلت التلفون. والطابور استمر بعدي ساعة أو ساعتين. كل يعطي تقريره وسلامه. كل يسأل من مات ومن تزوج وتفاصيل عن النسب والأقارب والنادي.. نادي كرة القدم.. من فاز ومن مؤهل لكأس الأمير. وأنا مشتت الفكر. يقول كوهن إنني همجي. وشكت. نحن أعداء السامية!! غصة. سأرد الصاع. أفكر في سلمى. كيف ستشعر لو عدت الآن. أنا صاحب مشاكل! هل تريد زوجا صاحب مشاكل!! علياء تعرف " قيل يا رسول الله ما يخفى؟ قال الذي لم يحدث". ﴿المال والبنون زينة الحياة الدنيا﴾. أريد أن أتزوج سلمى الفرجاني. لا أريد العبث ولا المجون. أريد ذرية صالحة. لستُ رجلا محصورا مثل صفوان بن المعطل. أريد سلمى. أريد ذرية صالحة مثلها. مثلها.

حين جلست مع الإخوان بعد طابور الجمعة قال لي أحمد "وموضوع الشيك ليسا لا تريده" استغربت أنا "لا تريده؟" قال أحمد "لابد أن محسن قال لك ذلك" قلت "وأنا لا أريده" قال أحمد موجها كلامه للآخرين "ليسا أعادت الشيك لمحسن.. قالت له أخوك كريم. لكن ماذا أفعل بالشيك. اشترى ملابس وشنط لهذا الموسم وماذا عن الموسم القادم.. إنه شيك مخرب.. شيك إثم. أنا مرتاحة كما أنا. لماذا أتعود أشياء لا أستطيع المعاودة أو الاستمرار عليها فيما بعد.. أنا أحب شراء الفترينات.. الشراء بالعيون.. وأنا مرتاحة هكذا. ماذا أفعل بالشيك. الموديلات تتغير كل سنة. كل نصف سنة. لن أستطيع متابعتها." صرخ أحمد "أنا آخذ الشيك. سأعرف كيف أصرفه" ضحك مشعل "الشيك الآثم" قال عبد الله "أريد استبدال سيارتي.. لا أريد أن أطلب من عبد اللطيف شيئا". أحمد صرخ به "لن تغير سيارتك.. أنا سأتصرف بالشيك" وفي الغد أحمد قال لمحسن "أعطني الشيك. لا تعملها مشكلة.. ولا تسأل فيصل. أنت لا تريد الشيك ولا ليسا. أنا سأتصرف. سأعطيه لجاكي. هي الأحوج. كوافيرها غالية.. سأعطيها الشيك".صدقني فيصل لا يريد أن ينشغل بالموضوع" أعطاه محسن الشيك مجيّرا من ليسا باسمه. ظل عنده يومين. يومين. الإخوان يسألونه وهو لا يجيب. الشيك في الجيب.

بعد يومين مر بأول كنيسة قرب البيت. دخل الكنيسة. طلب القسيس وقال "هناك Homeless في هذا الشارع.. أريد أن أعطيك شيكا بعشرين ألف دولار لتصرفه عليهم. هل يمكن ذلك" نظر له القسيس جيدا "عشرون ألفا" قال أحمد "عشرون ألفا" مضى القسيس مطرقا وبعد برهة عاد له "أتريد إيصالا" قال أحمد "لا" قال القسيس "اكتب الشيك ليس باسمي.. باسم الكنيسة.. أنت تعرف الاسم. هذه ورقة عليها اسمنا.. وليباركك الله.. سنعمل ما نستطيع حسب رغبتك.. هل تريد أن نسجل اسمك ضمن المحسنين". قال أحمد "لا" قال القسيس "دعنا نراك مستقبلا تصلي عندنا" لم أرك من قبل. أأنت من المكسيك؟" لم يخبر أحمد أحدا ماذا فعل بالشيك. فقط يقول "أنا تصرفت".

في اليوم التالي لزيارتي مكتب السيد شكت. ومع تحذير الإخوان خوفا عليّ من الطرد. سجلت أغنية فيروز زهرة المدائن علىCD   وترجمت المقطع الأخير منها. وضعت CD ونص المقطع الأخير بالعربية وترجمته للإنجليزية في ظرف أعطيته لسكرتيرته لتعطيه له. سألتني السكرتيرة "أهذا شعر بالعربية؟" قلت لها "أغنية من لبنان" قالت ضاحكة "غنها لي.. أسمعني اللحن" قرأت لها المقطع الأخير.

 

الطفل في المغارة وأمه مريم وجهان يبكيان
لأجل من تشردوا! لأجل أطفال بلا منازل
واستشهد السلام في وطن السلام
حين هوت مدينة القدس تراجع الحب
وفي قلوب الدنيا استوطنت الحرب
لن يقفل باب مدينتنا فأنا ذاهبة لأصلي
سأدق على الأبواب  وسأفتح هالأبواب
وستغسل يا نهر الأردن وجهي بمياه قدسية
وستمحو يا نهر الأردن أثار القدم الهمجية!

 

(4)

تخرجت في المركز. في الجامعة. بدرجات جيدة في كل اللغات. لم يطردني شكت كما ظن أحمد. لم يطردني. لم يكلمني بعد ذلك إطلاقا. وأنا أتسلم شهادة تخرجي. صافحني وقال لي بالعربية "مبروك" ثم أضاف بالإنجليزية "أنت من عائلة محترمة". كنت مبتهجا. ممتنا. فرحا. شكرته. سلمت عليه. لكن السيد كوهين كلما رآني في المعهد، كان يكره أن ينظر إلي. لا يحدثني.

بعد تسعة أشهر من عودتي تزوجتُ سلمى. أخي عبد اللطيف لابد أنه عرف بكل شيء. لكنه كريم كعادته، يعرف القلوب، لم يحدثني يوما بما أكره أو يستنكر. كان كريما حنونا.. أخا كبيرا. أعرف أن لي حظا عند الله بمحبة عبد اللطيف كما كل إخواني وأخواتي. أعرف أن الله يحبني لأنني تزوجت سلمى الفرجاني. علياء أختي كانت حلقة الوصل. لن أنسى فضل علياء. قالت لي "هي موافقة"

وذهبت مع أخي عبد اللطيف والإخوان لبيتهم. لم يكونوا أنسابنا. ولم يعترض عبد اللطيف ولا أمي ولا إخواني وأخواتي ولا أنسابنا. كان معروفا أننا، سلمى وأنا نريد أن نتزوج. لم يكن هناك مجال للقيل والقال والاعتراضات. علياء حفظها الله وأسعدها قامت بكل شيء داخل العائلة. لم يسألني أحد. ذهبنا ووافق أبوها. قال "أنتم منا ونحن منكم" عندها ضرب عبد اللطيف على ركبتي. قال مبتهجا "أنت مرتاح الآن؟" لم أصدق ما سمعت. رجلاي رحلتا في السماء. كل جسمي. خفيف في الهواء. وجهي أحمر. أريد أن أخرج من المجلس. لا تسعني أرض. سلمى زوجتي. يا الله. أكبر سعادة أن تطير عن الأرض. أن تحلق في السماء. أنا في المجلس كنت أرى والدها وأخي عبد اللطيف وكل الإخوان وأطير في السماء. يا رب العباد الكبير العظيم.. ماذا أريد منك أكثر من ذلك؟ يا رب اجعلني لها أهلا. اجعلني الأمين. اجعلني الودود. اجعلني كفؤا لها. طهرني بها. كيف أكون بمقامك يا سلمى. وددت لو أقبل يدي والدها أو جبين إخوانها. بصوت مرتفع قلت لأبيها "كل ما تريده سلمى حتى اليوم الآخر سأنفذه لها" نظر لي الأب الرحيم قال "يا فيصل لدي شرط واحد عزيز علي أستحي أن أقوله أمام الحاضرين.. تعال معي". دنوت منه. مشينا معا. في الممر قال لي "أنا واثق بك. وهذه ابنتي. إن لم تتفقا يوما معاذ الله.. التسريح بإحسان" صعقت. أنظر لوجهه القلق واتجهت بعيني نحو الأرض وهو يرفعني لوجهه "يا ابني إن شاء الله عمر طويل والزوجان يتفقان ويختلفان. طلبي الوحيد.. إن اختلفتما فالتسريح بإحسان" "التسريح بإحسان" كادت عيني أن تغرورق، قبلتُ جبينه.

الأرض لا تسعني حين خرجنا من بيتهم. ركبت السيارة جنب أخي عبد اللطيف في الخلف وأخي ناصر يقود السيارة وبجانبه أخي خالد. سأعود لوالدها غدا أستأذنه بأن أخرج معها. لا أسمع ما يقوله عبد اللطيف وناصر وخالد. أتحدث معهم ولا أسمع. نحن الآن واحد. كنا اثنين.. سأجهز منزلنا. أنا وهي. أريد ذوقها في المخدات، فوط الحمام، المقاعد، الشوك والسكاكين. لدينا أشياء كثيرة نناقشها ونتفق عليها. أشياء كثيرة وكثيرة وأكثر مما تصورت. كل يوم، كل ليلة كل دقيقة أرى أشياء. أتذكر أشياء أود لو أسألها عنها. نحن الآن واحد.

وافق أبوها الذي كان ينتظر عودتنا كل يوم عند باب بيتهم تقريبا. ينتظر ونحن نخرج معا نجهز بيتنا. مررت بالمكتبة اشتريت السيوطي.. جلال الدين السيوطي "رشف الزلال من السحر الحلال" و "الوشاح في فوائد النكاح". أتعلم من الأقدم مني. ليس في الإسلام تبتل. النكاح عبادة. مثل الرسول الكريم "وما محمد إلا بشر مثلكم". بشر مثلنا لحم ودم وقلب علمنا رسولنا الكريم العفة والصبر والفضيلة.

متى أول مرة نظرت لها؟ لا أدري كم كان عمري في حينه. قربنا في نفس الشارع. تأتي مع أختها صديقة علياء. دون العاشرة ربما. لم أكن بالغا ولم يكن لها ثديان. أطل من النافذة أراها في الحديقة تتأرجح مع مزنة ومجموعة من البنات. أخواتي وصديقاتهن. تتأرجح. في الهواء. يدفعنها. تطير. تضحك. أراها أنا. لا أرى غيرها. لا أتذكر غيرها.

العام الماضي في العطلة الصيفية رأيتها. عرفتها. في العباءة السوداء. العباءة السوداء ما أغواها. في طرفها تطريز باللون الفضي. وتقاطيع الجسم تحت السواد مشعة بالأنوثة. وشنطة موشاة باللون الفضي تمتد من كتفها بحزام طويل حتى منتصف فخذيها. دقات القلب. كانت مع علياء في السوق. أسرعتُ الخطى نحو علياء "هل تحبين أن أوصلكم للبيت بعد التسوق" قالت علياء "لا.. معنا سائق" كانت تنظر إليّ. لم أنظر إليها لكنها بالتأكيد كانت تنظر إليّ. شاهدت طرف أصابع قدميها في الحذاء الفضي. أي قدمين!! أحس أن قدميها لا تحملانها من الاضطراب. ليت علياء قالت نعم. ليت علياء أنصفت قالت نعم. ليتها عرفت ما بي وبها. انصرفت وأنا واثق أنها كانت تنظر إليّ. ساعات في الليل. أحلم بها بجانبي. في مخدعي. لدي كل ما تحب المرأة في الرجل.

في بولدر أذكر كنا جالسين. كل الإخوان. أحمد وجاكي. عبد الله يحضن صديقته. ناصر ومشعل يشربان. وليسا مع محسن على أريكة تضع رأسها على كتفه وعيناها نصف مغمضتين. مشعل بطريقته الارتجالية سأله "ماذا تحب فيك ليسا؟" محسن يقول "كل ما تحبه المرأة في الرجل" ليسا بيدها الكأس تضعه على الطاولة تعود لجلستها تمد ذراعها وتقبل رقبة محسن من الخلف. خلف العنق. مشعل يسأل "ماذا تحب المرأة في الرجل؟" محسن دون أن يغير لهجته أو جلسته "أولا" ومشعل وأحمد جاكي في حضنه وأنا وناصر نستمع وعبد الله كان مشغولا بالتلفون "أولا" قال محسن "أنا مملوح" رفع عبد الله عينه عن التلفون وقال بصوت مسموع، أي إنه كان يتسمع الجواب "أح أح" ونحن نستمع "ثانيا" ولم يغير محسن لهجته أو جلسته "لم أرفع صوتي عليها أبداً. وثالثا صدر وظهر وبطن" قال أحمد "ظهر وبطن؟" وعبد الله يسأله "أوضح ماذا تقصد" محسن بعينيه الصغيرتين والوجه الودود يقول "ألا تعرف الظهر والبطن.. المرأة تحب ظهرا قويا، وصدرا واسعا، وبطنا له وزن، كرش صغير يضغط به على بطنها حتى لا يترك فراغا عند التحام الجسدين" أكاد أشعر الآن أننا كنا آنذاك نسمع ونتحسس ظهرنا وبطننا". "ورابعا" وسكت محسن. صرخ به أحمد "لا تكن نذلا قل رابعا" ضحك محسن "لماذا تنظرون إليّ ؟ اسألوا صديقاتكم". أحمد يسخر منه "لا تتفلسف قل رابعا" محسن يحضّر للإجابة ويمد يده نحو رقبة ليسا "ألا تعرفون؟" صرخ به أحمد ثانية "قل.. لا تتفلسف" قال محسن "سريع الإفاقة كثير الإراقة" ارتفع صوت عبد الله ويبعد التلفون بيده "القافية جميلة ممن حفظتها؟" وأحمد سخر منه "ظننت عندك نظرية جديدة" ومشعل بصوته الخشن سأله "كثير الإراقة!!" محسن يبتسم بخبث "اسأل صديقتك" أحمد يضم جاكي لصدره يسألها متوهجا "وأنت؟" يترجم لها المعنى تضحك ويضحك ويقول "لا أستطيع ترجمة القافية". خامسا. هتف محسن ضاحكا واشرأبت الأعناق "حين أنام لا أُشخر".

فكرت وفكرت وتذكرت سرير المرحوم الوالد. في منزل الوالدة لولوة الوهابي. قديم. أتوا به معهم من الهند. خشب الصندل. ضخم القوائم. مرصع بقطع بورسلان مرسومة بأشكال هندسية إسلامية. له قوائم عالية يضعون فوقها الغطاء الشفاف ليغطيها كلها. قلت لأختي الكبرى حصه "خطبت" قالت "سمعت مبروك" قلت "أريد أن أطلب من الوالدة لولوة الوهابي طلبا ولا أريد أن أحرجها لو فضلت أن تعتذر" حصه سألتها والوالدة لولوة الوهابي استشارت أخي عبد اللطيف وبعد يومين قالت لي حصه "لا مانع.. إنه هدية من الوالدة لك" كان تخلصا حكيما من أخي عبد اللطيف خشية أن يطلب السرير من الوالدة لولوة الوهابي كل من يريد أن يتزوج من الإخوان.

اشترينا أنا وسلمى غطاء سماويا شفافا به تطريز أزرق غامق وغطينا السرير بملاءات من نفس الألوان. وفي ليلة عرسي أنا وسلمى نجلس على السرير. سرير الوالد. نتحدث أحاديث لا تنقطع. وجهها يحمر يتوهج. أتوهج أنا. الحياء والخفر والعيون الناعسة. حتى مطلع الفجر نتوهج. نتحدث. نضحك. نأكل عنبا وحب رمان. نشرب شايا بالحليب وكيك بالهيل والزنجبيل عملته الوالدة مخصوصا لليلة عرسي. يسمونه كيك الدخلة. لذيذ بالهيل والزنجبيل. نصعد للسماء معا مرات ومرات ومرات. الرسول الكريم قال ﴿النكاح سنتي﴾ بشر مثلنا. ما ينطق عن هوى. صلينا الفجر معا وعدنا للفراش.

عبد الله عاد معي في نفس السنة والتحق سريعا بالجيش. أحمد ومشعل وناصر عادوا في السنة التالية. توقفوا في هونولولو ثم زاروا اليابان.. طوكيو وكيوتو وهيروشيما. يشتكون ويضحكون من الغلاء. التفاحة بدولارين. اليابانيون يمشون مسرعين. كل يوم الإخوان يتصلون بي مرة أو مرتين. "تزوجت؟ قل لسلمى تخطب لنا مثلها" يقولون "زرنا اليوم متحف هيروشيما.. 100 ألف قتيل في صباح واحد. الساعة التاسعة صباحا". يقولون "تعال مع سلمى.. دعها ترى العالم. بوذيون.. دين كوني لا اثني ولا عنصري ولا سماوي وبدون آخرة. يحرقون الميت ويرمون الرماد في المكان الذي يريد أو يريدون. غالبا في مياه الأنهار أو البحار وأحيانا في الوديان أو من فوق الجبال تنثره الرياح بلا مكان. بعضهم يحفظه في زجاجة في البيت".

عبد الله تزوج قبلي ابنة خالتي سماء. أيضا كان يحب منذ زمن ولم نكن نعرف.. ربما علياء العارفة بالقلوب كانت تعرف. رأيت عبد الله قبل سنتين في طريق عودتي لأمريكا مع صديقته الهولندية. كان معها أبوها. توقفوا جميعا في أشبيلية ثم زاروا المغرب. لا أذكر تماما. رأيتهم في بهو فندق الدورشستر بلندن. قالت لي آن "تعال معنا". زاروا أغادير. آن شميت جلبت معها صورا لا تحصى لهم في أغادير. والدها طويل سمح القسمات بنظارة بيضاء أنيقة هدية من عبد الله كما علمت. عبد الله بعد عودته من الدراسة تزوج وزوجته الفاضلة سماء الآن على وشك الإنجاب. وسلمى حامل من أول ليلة.. أو من أول أسبوع. في اليومين الأولين لزواجنا والأحاديث بلا ترتيب وبلا عنان تحدثنا نريد أبناء سريعا. نريدهم يشبون معنا. نفرح بهم ونصادقهم حين يكبرون. أول مواليدنا زهرة، وهي مثل الزهرة. أول يوم لولادتها كنت أتلمس قدميها ويديها. كبيرتان.. خشيت ألا تكونا طبيعيتين. الطبيب أكد أنهما طبيعيتان.

محسن عاد بعدي بعام وكذلك مشعل.. تزوج مشعل وتأخر في الأنجاب والإخوان يتندرون ويضحكون "اشتغل يا مشعل" أم تعلمت طباع الغربيين "عدم الإنجاب والتبني"؟ يضحك يكرر عندي فلوس وأستطيع مثلهم تلويث البيئة. تلويث الطبيعة الأسرية.

الآن قد عدنا جميعا بشهادات ما عدا أحمد الذي لم يكن آسفا أو خجلا أو معتذرا لعدم تخرجه. كان يقول "سأعمل فلوس أكثر منكم" وفعلا استثمر في الأراضي. صفقات ومخططات واجتماعات ورحلات وتلفون لا ينقطع. كانت أسعار الأراضي والعقار في ازدياد. محظوظ. تشارك مع ابن نوح الذكي المخلص الأمين وأسسا شركة لسمسرة الأراضي والعقار. جمعنا عبد اللطيف ذات ليلة بعد المجلس. قال "أنتم الآن في مرحلة العمل وتأسيس أسركم.. اعملوا ما تشاءون ما عدا أشياء ثلاثة لا نريدها تسيء لسمعة العائلة. لكم صداقات ومعارف ومداخل.. ثلاثة أشياء أريدكم ألا تقربوها "الأول.. الأسلحة.. قومسيونات تجارة الأسلحة بأي شكل كان.. لستم بحاجة.. أسباب الرزق كثيرة. والخير كثير. والثاني تبييض الأموال. سيتقرب لكم الكثيرون لكن لا داعي لذلك. لا تغريكم الدنيا. أنتم أولاد سعد الناصر.. آباؤكم أصحاب فضل وشرف أبوكم وأجدادكم فلا تلحقوا بسمعتهم ما يشين. والثالث تجارة الكفالات استيراد العمال وبيعها في السوق. حرام. أنتم تستطيعون الحصول على تراخيص كثيرة لاستيراد عمال كثيرين من الهند والفلبين ومن فيجي أيضا. لكن حرام. هذه ذمة. ناس فقراء لا تظلموا أنفسكم. البيض جلبوا الأرقاء بالسلاسل والسفن مقابل إطعامهم بالقليل وعمروا بهم أمريكا. لا تفعلوا نفس الشيء تحت مظلة القانون. اجلبوا ما تحتاجونه من خدم لبيوتكم وأعطوهم حقوقهم. لكن لا تتاجروا بالبشر. لا تتاجروا بالكفالات".

الحمد لله لم يقم أي منا أبدا أبدا بعمل من هذه الأعمال. حتى بدون توجيه عبد اللطيف ما كان يمكن أن نقوم بهذه الأعمال. لكنه كان كعادته حريصا على إيضاح الخطوط الحمر. دقيق دائما. واضح دائما. وجهه بشوش وصارم لا يمكن عدم فهم ما يقصد أو يكون فيه لبس أو سوء فهم كما هي عادة الأشرار والمنافقين. لم يتوسط لأي منا لكنه كان حريصا على معرفة ماذا نريد أن نعمل. يساعد في النصح ويريد إعتمادنا على صداقاتنا الشخصية ومقدرتنا الذاتية. أنا لأنني أجيد الأسبانية واليابانية وظفني في مكتبه مترجما غير متفرغ لهاتين اللغتين. صرفوا لي المرتب المعتاد الذي يعطونه لهذا العمل لكنه كان يحرص على أن يطلب مني عملا أكثر.

تقدمت للعمل في معهد اللغات بوزارة الخارجية وقبلوني رأسا دون تدخل منه. وفاجأني مدير المعهد في مقابلتنا الثانية بدعوة للغداء في كافيتريا المعهد. على الغداء سألني عن قصة الشيك في بولدر!. استغربت ما هي هذه القصة التي صارت قصة ولماذا هو يعرف بها. قال لي "أنتم تأتون للعمل بملاعق من ذهب" تحرجت قلت "ماذا تقصد؟" قال بهدوء ووقار "أنت تعرف أن غيرك لابد أن يمضي أشهرا قبل أن يحصل على هذه الوظيفة" سألته مبهورا مصدوما "وأنت ما الذي يجعلك تقبلني بسرعة؟" قال دون أن يبتسم وهو يرفع ملعقة الشوربة إلى فمه وينظر في وجهي "درجاتك جيدة من معهد لغات معروف" ثم ضحك ضحكة رقيقة بعد أن ارتشف ملعقة الشوربة "وأبوك سعد الناصر" نظرت له ساخرا "المرحوم اتصل بك؟" بضحكته الهادئة ووقاره قال "لا يحتاج المرحوم للاتصال إنه معك أينما تذهب"

لم أفهم على وجه الدقة ماذا يقصد. هل أغضب أم أضحك. سألته "هل وظفتني من أجل والدي؟ أم من أجل أخي عبد اللطيف" نظر لي وهو يمد يده للحيته الصغيرة الأنيقة يمسحها بتؤدة "أنت محظوظ. ماذا في هذا! أنت ابن سعد الناصر. معروف. أنت إنسان مؤهل ومن عائلة معروفة هذه ميزة ورثتها ومن الطبيعي أن تجلب لك ما يأتي معها. لكن توظيفك ليس له علاقة بهذا الموضوع. لقد أخذت قراري بناء على التقارير الدراسية عنك" ضحكتُ قلت "والشيك الذي تسأل عنه؟" ارتد في جلسته. ركز النظر لي. "الشيك!!" "الشيك؟ هل أخطأت إذ سألتك عن هذه القصة. إنها قصة مشهورة" نظرتُ إليه "مشهورة؟" قال "طبعا مشهورة.. من هو الطالب الذي يرفض قبول شيك بعشرين ألف دولار.. أقسم بالله لن تجد مثلك في كل بعثاتنا للخارج" سألته ضاحكا "وهل أنا معروف بهذه القصة؟" قال بكل ثقة وهدوء "أنت معروف. ابن سعد الناصر وأخوك وزير بوزارتين. وأضاف ضاحكاً لكنك الوحيد بين إخوتك صاحب المشاكل" ضحكت وأنا أنظر إليه وهو يمسح لحيته ويبتسم "أنا صاحب مشاكل؟" قال بحزم وسرعة "وأرجو أن لا تسبب مشاكل لنا هنا"

كدت أنتفض وأقوم. جمعت فوطة الغداء ووضعتها على الطاولة منزعجا قلت "أي مشاكل؟" قال بهدوء وهو ينظر في عيني "أي مشاكل؟" قال "مثلا لقد سمعت عن زيارتك لحفلة المثليين؟" قلت مستفزا وماذا أيضا. صمت فترة وهو يتمعن بي كما لو كان يدخل في دواخلي. "لماذا تنزعج.. أنت معروف. الذين يتصرفون مثلك معروفون.. والجماعات المتطرفة التي تجتمع بها. سمعت أن واحدا منهم اعتقل في جنوب الفيليبين هل تذكره الدكتور نعمان الهاشمي.. كان يحارب هناك" هززت رأسي وكدت أقوم ولا أعود ثانية لهذا المعهد لكنه استمر متمعنا بي "وسمعت عن نقاشك مع مدير المعهد السيد شكت عن المحرقة" قلت محتدا "وماذا تعرف أيضا" صمت فترة وأردف بهدوئه الواثق "وأنك رغم صغر سنك المسئول عن الصدقات في العائلة.. وهذه أمانة كبيرة ومسئولية لا تحملها الجبال مادمت أمينا وتخاف الله فيمن تختار ومن تعطي.. صدقات آل الناصر كبيرة ليست قليلة" لم أعرف بم أجيب. سألته هل تود أن تقول شيئا آخر عني. سألني "هل أنت منزعج مما أعرف! نحن لا نوظف أحدا إلا بعد قراءة ملف كامل عن المرشح للعمل. هذا معهد مهم وبه أسرار كثيرة وكبيرة. إنني لا أرى في تصرفاتك ما يشين. ولا أريد مشاكل لك أو لنا ولا سين و جيم أو تقارير كما كان يحدث معك في أمريكا. بالعكس أنا فخور بانضمامك لمعهدي وآمل وأنت تعمل مترجما خاصا لأخيك عبد اللطيف.. أن تجد للمعهد والزملاء مهام مشابهة. نريد أن نطور المعهد وأنت بجديتك وعلاقاتك وثقة المسئولين بك تستطيع أن تساعد المعهد والزملاء" سألته محتجا "ألهذا وظفتني؟" قال مسرعا "وماذا في ذلك؟ أن تساعد المعهد وزملاءك في العمل. عائلتكم معروفة بغناها وفضلها وخيرها على الناس لكن ما الخطأ في حرصك على مساعدة زملائك. أفي هذا ما يشين؟ إنه طبيعي. وأنا المدير لكنني والزملاء فرحون بالتحاقك بالمعهد وبالطبع نحن متفائلون ونتوقع أن يكون في وجودك معنا ما يفتح الأبواب لبقية الزملاء ليقوموا باستشارات وأعمال جانبية تعطيهم دخلا إضافيا. كلهم أكفاء ومخلصون لكنهم أيضا بحاجة لتعزيز دخلهم. شباب متعلمون جيدا لديهم عائلات وأبناء. والله لم يكرمهم مثلكم. إننا فرحون بالتحاقك معنا." قلت وأنا منزعج مبهور من سيل أفكاره "لكنك تخشى سين و جيم فلماذا وظفتني" ارتد في مقعده. قال "لقد كنت صادقا وصريحا معك.. نريدك معنا. معنا لعل في وجودك ما يساعدنا.. أنا صادق وصريح وعلى العموم في أي كلية أخرى أو أي معهد آخر سيقول لك المسئول نفس الكلام.. وإن لم يقله بلسانه فإنه يقوله بقلبه سيقرأ مثلي ملفكم الدراسي وما يروى عنكم في التقارير. ويراجع نفسه ثم يراجع ثم يقرر".

سألته محتدا "تقارير!! أي تقارير" قال بثقة متعجبا من سؤالي "تقارير الطلبة. ألا تعرف أن لكل طالب رقما.. رقم ملف وأن هذا يوزع على الكليات قبل توظيفهم". ذات يوم بعد زواجي قلت لسلمى ونحن نتعشى عن لقائي مع مدير المركز وحديثه الصريح جداً. متحفزة لتسمع كل شيء. قالت "محسود ولا حاسد" ضحكت قالت "الحساد كثيرون.. ساعدهم لكن لا يطمعوا بك" قلت "كيف أساعدهم" قالت "الله كريم.. يمكن في مناسبة ما أن تساعدهم" قلت "الصدقات؟" قالت "أعوذ بالله.. هؤلاء متعلمون يريدون علاقات أو عملا.." قمنا من العشاء وأنا أتذكر الوالد "أنت محظوظ" أتذكر أخي عبد اللطيف في صرامته واستقامته.

قالت لي ونحن نغسل أيدينا بعد الطعام "ربنا يكفينا شر الحسد".. "يعتقد أنني قد أجلب لهم المشاكل؟" قالت "ليذهب للجحيم أي مشاكل! في أمريكا قلت رأيك في المثليين والمحرقة هل كل من له رأي آخر في بلد الحرية يعتبرونه كافرا" قلت لها ربما يقصد الشيك. ضحكت وهي تمسح يديها بفوطة سماوية "ماذا في الشيك" أعطيته لفتاة لم تستعمله. أنت لم تضعه في جيبك. أهذه جريمة! إنه حاسد.. أقول لك حاسد" نمنا أنا وسلمى. نضحك وأفخاذنا تضرب بعضا "محسود ولا حاسد" ونضحك. تضرب أفخاذنا ركبنا "يا محسود" ونضحك "يا حاسد" أنا وهي نحب الحديث ونحن نتضارب في السرير. نفتح أعيننا. نغور. نضحك. نترك العنان للسان ونضحك ونفحّ. ونتمدد بأسترخاء تام من الرأس حتى الابهامين.

حصل أخي خالد على رخصة تأسيس بنك جديد من الأمير وأعطاني مثل إخواني مليون سهم تأسيس. في الليل قلت لسلمى لا أريدها. قالت "لا نريدها". في المعهد ذهبت للمدير لم أزر مكتبه منذ ستة أشهر أو أكثر. قام من مقعده مرحبا باشا مبتسما "مرحبا" أعطيته دفتر المساهمة نظر للدفتر "مليون سهم؟" متعجبا قلت "نعم" قال "لي" قلت "لا هي لي وأنا لا أريد أن أساهم في بنك.." نظر إلي فرحا غير مصدق "مليون سهم؟" قلت "نعم" قال "تأسيس؟" قلت "هي لك" انخفض صوته غير مصدق ويده على دفتر المساهمة "لي؟" قلت متحديا ولا أدري لماذا التحدي "لك وللزملاء.. أهذا ما تريد؟" قال "وأنت؟" قلت "عندي ما يكفي"

استدار مكتبه ومشى نحوي بيده دفتر المساهمة. هل كان وجهه يتصبب عرقا؟.. شفتاه ابيضتا. جلس على كرسي قبالتي. يمسح لحيته الأنيقة. أشار إليّ أن أجلس وهو يتنفس بصعوبة. جلستُ. قال "أنت لا تريد أن تساهم" قلت "لا" قال "لماذا؟" قلت "عندي الكثير" قال مذهولا "أهناك شيء اسمه الكثير في المال والثروة؟" ضحكتُ وقلت "عندي ما يكفي" قال "هل أنت تستحرم الاستثمار في البنوك" قلت "هذا بنك بالنظام الإسلامي" ضحك ضحكة عالية. لأول مرة أتخيله أو أسمع صوته عاليا. ضحكه يجلجل. قال "إسلامي؟" بلا إسلامي بلا بطيخ. هذه طريقة ابتدعها اليهود من زمان قبل قرون للتحايل على الربا. يعملون صكوك تجارة بثمن أعلى يساوي أو يزيد عن سعر الفائدة" قلت "لا عليك.. إذا لم ترده أعطه الزملاء" ضحك ثانية وهو يضع دفتر المساهمة في حضنه "أنا لا أريده!!" أنت لا تعرف ما تقول. هذه ثروة. ثروة. ألا تعرف ما الثروة؟ أنت شبعان. سنتين أو سنة ويتضاعف السعر على الأقل ثلاث مرات. هل تعرف أنت ما تفعل؟." قلت "هدية مني لكم". صمت فترة واضعا وجهه بين كفيه قال "هل أنت جاد فيما تقول؟" قلت " طبعا.. أم تخشى أن أكون صاحب مشاكل؟" ضحك "أنت فعلا صاحب مشاكل"

جلس صامتا والدفتر في حضنه ويده تغطيه. "فيصل.. هل حقا ما تقول أم هي نكتة" قلت "طبعا أنا جاد. لا أريد أن أساهم في البنك.. وأنت خذ ما تريد وساعد الزملاء" قال بعد صمت وتركيز "نحن ثمانية أساتذة في المعهد.. هل هناك من لا تريد أن نعطيه.. زميل لا تحبه" قلت "طبعا لا" قال "كيف نقسمها" قلت "أنت صاحب الشأن الآن" نظر إلي بعمق وتساؤل "سآخذ لي ثلاثمائة وأعطي الزملاء كل واحد مائة ألف سهم؟" قلت "كما تشاء"

صمت فترة. قام وأخذ يسير على مهل في المكتب ويده لا تنفك تمسح لحيته الصغيرة الأنيقة. التفت نحوي وقال "سأدعو الزملاء في فترة الغداء وأنت تعلن لهم هذه القسمة" قلت "لا مانع عندي" قال وهو يقترب مني "أنت ستقول إن هذه القسمة من قبلك وليست من عندي" قلت "لا مانع" تقدم نحوي وأنا جالس على الكرسي نظر إليّ تردد ثم انحنى تجاه رأسي ليقبله. أبعدته بيدي وهو يقبل وكأنما عيناه اغرورقتا "الله يوفقك ويبعد عنك الشر يا فيصل" قال. سأدعوا الزملاء وأنا أعلن لهم الخبر، ألقى هو كلمة قصيرة شاكرا كرمي وكرر على مسامعهم مرتين أو ثلاثة ما قلته له من قبل أن تمويل المساهمة قد تم تدبيره لي بواسطة أخي خالد من أحد البنوك وألا يقلقوا على تدبير تمويل المساهمة أنا سأحول الطلب من اسمي لاسم كل منهم. أحاطوا بي فرحين. كادوا يرفعوني بأيديهم. سمعت من يقول "سأشتري بيتا ومن يقول سأتزوج وبعضهم يكرر بصوت مرتفع ﴿ويرزقكم من حيث لا تعلمون﴾ كنتُ نجما محتفى به. نجما نزل من السماء العليا.

في المساء ضحكنا مرارا أنا وسلمى وأنا أروي لها ما جرى "محسود ولا حاسد" وكفاي تعبثان بشعرها وهي تشد رقبتي نحوها. الساق بالساق واللسان بلا عنان ونحن معا لا حاسد ولا محسود ولا وجع دماغ.

 

(5)

فور وصوله من السوادي اتصل بي أحمد. التقينا على الغداء في منزلي، سلمى بيدها طبخت، لحم خروف بالثوم كنت أحبه وسلمى قرأت عنه في كتب الطبخ الدولية ومن أختي لطيفة وصلنا طبق هريس ومن بيت الأخ عبد اللطيف"محمر مع زبيدي صغير بحجم الكف، ومن بيت ناصر أرز بالأشبنت ومن أهل سلمى طرشي منزلي بثوم الجبل والليـمون مع دولمـة ورق عنب بالزيت وأنواع مأكولات منوعة ينقلها السـواقون ونأكل منها ما نشتهي والكل يريد لأخيه ولأخته أن يتلذذوا بالطـعام الـذي يجيدون طبخه.

أحمد لن يشتري شخصيا لا في السوادي ولا في غيرها. معجب هو بالمنطقة. واثق بمستقبلها. سيقابل الأخ عبد اللطيف في المساء. لا يدري ما سيقول. المنطقة ممتازة للاستثمار. لكنه هو، هو شخصيا لا يريد أن يرتبط بهذا الاستثمار. لا يريد العودة للسوادي. قلق وخوف وعدم وضوح في أفكاره.

بعد الغداء جلسنا أنا وأحمد منفردين. لدي صالون صغير به جلسة عربية. تقاليد الماضي. إرث الماضي الذي لم نعرفه. يعرفه الآباء والأجداد.أخذنا المرحوم الوالد مرة إلى قريتهم التي ولد بها في الشمال. أنا ومجموعة من الإخوان. بعد الغداء عند العم المرحوم عبد الرزاق قال إمام المسجد الذي بناه أبي في القرية وسماه باسم والده "مسجد كعب الناصر" قال الإمام "يا سعد لقد حلمت البارحة بأبيك يفرك كفيه كفا بكف ويتأسى يقول كلكم يا أولاد الناصر ستتركون بلدكم". نظر إليه الوالد مبتسما "نحن لم نبتعد" وأحد الضيوف الذي لا أذكر اسمه الآن قال بصوت حاسم وواضح وخفيض للأمام "اترك سعد وشأنه.. عندنا الكثير ممن يأكلهم القمل هنا".

في مثل هذه الصالة كان الوالد رحمه الله يجلس مع أصحابه. خادم نوبي يصب لنا القهوة العربية. مساند سدو والفرش بساط من صناعة جماعة السدو الأهلية التي تنشط بها سلمى تطوعا. وسجادة أصفهانية حمراء قانية بها ورود خضراء محشوة بالأصفر. الأحمر طاغ. وشباكان طويلان بزجاج ملون سميك من فلورنسا اشتريناه أنا وسلمى مزخرف بطيور بألوان مختلفة كل من رآه اندهش من جماله. نحن اخترنا التصميم وكذلك ثريات الصالة وتصميمها. سلمى تحب التصميم. وأحمد كان سعيدا برحلته للسوادي متعبا وقلقا.

قال "زلزال". لم يكن في السوادي زلازل.. كان ياسين بالنسبة له زلزالا. من هو ياسين؟ كيف عرفته؟ ما الذي حدث؟ احك بالتفصيل يا أحمد. يحكي وأنا أستمع. بالتفصيل. وأنا أستمع. ماذا؟ كان يريد أن يحدثك بشيء ما وأنت كنت تعبا ومتعجلا فلم تعطه الفرصة!! طيب.. ماذا في هذا؟.. قال الموضوع أكبر. في المطار سألت عنه الفندق قالوا ترك الفندق ولم يترك عنوانا. طيب أنت لا تعرفه ماذا تريد منه؟ إنها معرفة سفر.. معرفة عابرة... يا أحمد اهدأ إنها معرفة ليل وفساد. لا..لا إنها أهم من ذلك. غير ذلك على الإطلاق. أنت لا ترى إلا الغطاء الخارجي لياسين لكن الذي في القلب أكبر.

رفع أحمد ثيابه رأيت الجروح في بطنه واستدار فرأيتها في ظهره وعلى كتفيه. تقاتلتما. لا. لا طبعا. ما هذه الجروح؟ من النوارس. وما دخله بها؟ لا شيء. كان ينظر يحدق بي والنوارس تنقرني تلتقط السمك. أهذا هو الزلزال؟ نعم نعم. أحمد قم إنني لا أفهمك؟ قام أحمد نظر إلي "إنها صلاة العصر.. أريد أن أصلي" استغربت منذ متى؟ "قم نصلي معا". قلت. أنا أصلي في المسجد. قال "سأذهب معك" توضأنا في المنزل وسرنا على قدمينا للمسجد الذي لا يبعد أكثر من 500 متر عن منزلي. رأيته يتسنن. سجدة طويلة. ودعاء. يرفع يديه للسماء ووجهه يكسوه خشوع وبه عرق". التفت إليّ عيناه حمراوان. سبحان مغير الأحوال. إنه أحمد جديد.. أحمد آخر وكنت راغبا أن أسمع أكثر قبل أن يقابل أخي الكريم عبد اللطيف.

ونحن خارجان من المسجد لمحت محمود. عيناه مبتسمتان. اتجه نحونا. عرّفته على أحمد. سأله محمود "يقولون هناك جزر جبلية وعرة في السوادي.. وعرة" قال أحمد "نعم" قال محمود "ذهبت للراحة أم للاستثمار" قال أحمد "الاثنين" وهل ستستثمر هناك؟ قال أحمد "لست متأكدا" قال محمود وهو يسحبني من يدي بعيدا. "إن شاء الله استثمار به خير يقولون إن منظرها وعر لكنه خلاب" ضحك محمود وأسنانه البيضاء برزت في السواد. مد يده لأحمد قائلا "تشرفت بالمعرفة.. إن شاء الله نلتقي"

خارج المسجد سألني محمود كعادته عن الصحة والعائلة ثم سحبني جانباً ودخل الموضوع رأسا "أريد منك مساء الغد عشرة آلاف دولار. ضروري.. سألقاك بعد صلاة العصر" وقبل أن أجيب "لا تسألني يا فيصل. أنا محل ثقتك وأنا أثق بك لا فائدة من أن تعرف". صافحني ومضى مستعجلا دون أن يلتفت. سألني أحمد "من هذا.. وكيف عرف أنني كنت لتوي عائداً من السوادي؟ ولماذا لا يأتي لزيارتنا في المجلس طالما هو صديقك منذ زمن... لماذا كان متعجلا؟.. ماذا يريد؟.. عينا هذا الشخص تنظران بسرعة خاطفة من أسفل لأسفل أهو مرعوب.. هل لديه مشكلة.. أتعطيه من الصدقات؟.. له ثلاث بنات؟ لماذا طلب الفلوس.. هل عندك اليوم ما تعطيه؟ هذا أمر وليس طلبا.. هل ستعطيه؟.. كيف؟ لا يريد حتى أن تعرف لماذا يريد الفلوس. أيطلب ويشترط؟... إذا هو من جماعتك القدماء؟ أصدقاء الطفولة... ويعرف السوادي.. لم يسافر لها. ممن سمع؟ ويسأل عن الاستثمار. أنا سأدبر الفلوس.. غدا في صلاة العصر.. سأكون معك وسأسلمه أنا الشيك... لا يريد شيكا؟ لماذا.. يريدها نقدا. لماذا؟ نضعها في كيس.. أنواط خمسمائة دولار.. لماذا أليس لديه حساب في البنك؟.. سآتيك بها بكيس. أنا سأسلمها له.. لن يقبل؟ ماذا تقصد لن يقبل.. أيطلب ويشترط؟ لن يقبل هو لا يعرفك.. ويعرف إني أتيت من السوادي؟ إذن ستعرفني به"

جلسنا في الصالون البدوي.. وسلمى استغربت طول بقائي مع أحمد فور عودته من السفر.. أحمد مازال في الزلزال. "لم أعرف ياسين سوى عشرين ساعة أو أقل. تعرف.. قال لي كل شيء. لست فلسطينيا قال لي أول ما رأيته. لماذا يقتل الفلسطينيون ويشردون وبلدوزرات كاتربيلر تهدم بيوتهم والعالم يسكت. قال لي كل شيء. أنا لم أعطه المجال.. ولا والوقت. كان يجب أن أسمعه كاملا. في القارب في الصباح والنوارس تهجم على بطني وكتفي تنقر السمك كان جالسا ينظر لي. لم يطردها أو يهش عليها.. ينظر للجراح والدم في ظهري وبطني.. كان يريد النوارس أن تنتهي حتى يتكلم. أن أنتهي من اللعب. وفي الليلة السابقة كان ينتظرني أنتهي ليتكلم.

لم يكن يريد شيئا. فقط يريد أن يتكلم.. كنت متعجرفا مغرورا. لا أسمع. اقترحت عليه أن نسهر فوافق، أن نسبح في البحر فوافق.. أن نذهب للبنات فوافق... فقط في الصباح طلب أن أتوقف وأخذ يتأمل في الناس يتقاطرون لصلاة الفجر.. فجرا يتقاطرون.. أجساد نظيفة، ملابس نظيفة.. نفس نظيف بعد نوم مريح.. أنا متعب من ليلة ماجنة فاسدة. وهو صحبني وأخذ بنتا صينية لكنه لم يمسسها فقط جلس ينتظرني عندها. لم يعترض علي. كان مهموما. قال إنه لن يعود لروتردام. ويسخر من جيشهم بعد سبرنشيا. ويروي قصة أبيه مطولة. أظنه لن يعود لإندونيسيا. سيذهب لفلسطين أو ربما للشيشان. أكلنا الفطور مسرعين وأراه ينفجر وهو في غاية الهدوء. "أريد أن أتكلم" كان يقول "يريد أن يتكلم". كنت مستعجلا مهموماً نشطا مليئا للغاية بالسماحة. كان لدي هاجس ما. لا أريد أن أسمعه ماذا يمكن أن يقول.كنت لا أريد أن أسمع.دائما كان البال مشغولا بشيء آخر. ومع ذلك أنا لم أكن أريد أن أسمع. هاجس عندي سيقول شيئاً ما وأنا لا أعرفه. لماذا أسمعه!.

سألت أحمد "ما الذي يزعجك في كل هذا.. شخص لا تعرفه ذهب معك لكل مكان تريد. ولم يقل ما كان يريد أن يقوله. وتركك لا تعرف ما يريد ولا تعرف عنوانه.. ما الذي يزعجك في هذا!! قال أحمد وشفتاه تبيضان تنشفان وتزمان إحداهما الأخرى بشدة "يزعجني كل شيء.. أين ذهب؟.. ألم تلاحظ أنه تبعني أينما ذهبت؟ ألم تلاحظ وقوفه عند المسجد في صلاة الفجر.. يا فيصل "أنا لست فلسطينيا أيضا" حدقتُ به مليا؟؟ ما الذي يحدث؟ تمعنت فيه يقول "أنت أيضا لست فلسطينيا" قال بسرعة "أنا أيضا؟" "نعم أنت أيضا.. نعم لسنا فلسطينيين"

قام فيصل وهو يكرر في داخله "هذا كلام كبير.. كلام جديد" نظر إلى أحمد "أحمد.. هذا كلام كبير إذا فهمتك كما فهمتك.. دعنا نغير الموضوع الآن. متى سترى الأخ عبد اللطيف وماذا ستقول له" اعتدل أحمد في جلسته. "سأقول له ما أعرف" "ما تعرف؟" "نعم" "عن ياسين أيضا" "لا طبعا. عن الاستثمار في السوادي سأقترح أن تشتري العائلة مليون أو مليوني متر مربع أمام المنتجع أو بجانبه وتتركها لعشر سنوات". حسب ما يفعل أبن نوح.

في الغد ونحن ندخل المسجد أحمد وأنا، لمحنا محمود. بعد الصلاة مشينا الثلاثة معا ومددت يدي وأدخلت ظرفا به المبلغ المطلوب في جيب محمود. يسأل عن السوادي،. يسأل أحمد أن يصف له الجزر الوعرة والنوارس. ثم استأذن أحمد وأخذني بعيدا "أريد خمسة آلاف أخرى.. هذا المبلغ لا يكفي.. كنت غلطانًا.. أرجوك الليلة بعد صلاة العشاء" ومضى باسما مسرعا. عدت وأخبرت أحمد "دبر الباقي أرجوك" قال أحمد "ما هذا المحمود.. دائما مبتسم وعلى عجل؟ أهو مرعوب أم عليه دين!. ما الموضوع؟" وأردف "سآتي معك". لماذا؟ إنه محرج. قال أحمد "أريد أن أعرف لماذا يريد الفلوس" قلت له وأنت ما دخلك بهذا الشأن" استدار أحمد نحوي وأمسك يدي "فيصل أنت لست ساذجا.. هناك أشياء تجري حولنا ونحن لا نعرف معناها. ليس لدينا الوقت لمعرفتها نحن دائما ليس لدينا الوقت لنرى أو لنسمع. كان يجب أن أسمع ما كان يريد أن يقوله ياسين" سألته ما الذي في بالك.. يعني ماذا كان يمكن أن يقول لك ياسين؟ قال أحمد لا أدري.. ربما يريد أن يكون فلسطينيا"

توقفت عن المشي. سحبني من يدي "لا تستغرب هناك كثيرون يريدون أن يكونوا فلسطينيين" ماذا تقصد؟ قال "كثيرون نحن لا نراهم، لا نسمعهم في جنوب الفلبين، في الشيشان، في كوسوفو، في فلسطين وهنا أيضا" توقفت ثانيةً وسحبني من يدي" لنجلس في البيت نتحدث لا داعي للحديث في الشارع. قلت: أحمد هذا الياسين عمل انقلابا في دماغك دون أن يتفوه لك بشيء. أهو خيالك؟ عقلك الباطن؟ نوايا داخلية؟ قال "ها أنت مثلي لا تريد أن تسمع.. مثلي ستندم" هززت رأسي "أندم؟" قال "بعد فوات الوقت" قلت ضجرا "اسمع لدي عمل في الوزارة.. هل ستأتي بالفلوس أم أتدبر أمري" قال وهو يصافحني مودعا ضاغطا بكلتا يديه على يدي وعيناه غاضبتان وحاجباه مشدودان. "سآتي معك لصلاة العشاء وسآتي بالفلوس وأتعرف على محمود. ستعرفني على هذا المحمود".

حكيت لسلمى عن أحمد. عن لدغة العقرب في السوادي. الفيروس الذي ضرب دماغه. عن ياسين الذي ليس فلسطينيا. عن أحمد الذي لا يريد أن يتكلم كثيرا عن الاستثمار. تحدثنا عن عدم رغبة أحمد في العودة للسوادي. "لماذا أيخشى أن يقابل الهولندي؟" قلت "هناك أشياء لا نعرفها". كنت مهموما.. محمود طلب مساعدة. أنا أثق به لماذا أسأله ماذا يريد بها. أحمد يعطيه لأن عنده مالاً وفيرًا. أحمد كريم. أشياء لا نعرفها. كيف لنا أن نعرف ما في القلوب أو ما تخبئه الأقدار. هل أنا بعثت أحمد للسوادي؟ أم أنا الذي عرّفته على محمود. ولماذا يصر أحمد على معرفة كل شيء.

بعد صلاة العشاء أنا وأحمد نظرنا حولنا فلم نر محمودا. انتظرنا قليلا واستغربنا عدم مجيئه رغم حرصه على المبلغ واتجهنا نحو منزلي وإذا به يظهر فجأة من شارع جانبي. ظهر فجأة كجني يظهر لك من صخور الجبال اعتباطا أو من تحت الأرض. النوارس التي تنقلب جنيات. كما تحكي القصص الشعبية في السوادي. فجأة ظهر لنا باسما مسرعا. عيناه صافيتا البياض والأسنان بيضاء تظهر في سواد الليل. سلم بسرعة واعتذر عن التأخر ومددت يدي ووضعت الظرف في جيبه. قال بصوت مسموع شكرا وهمّ بالسير لكن أحمد استوقفه "محمود فقط أريد أن أعرف هل لديك مشكلة عائلية!.. إحدى البنات أو القريبات مريضة؟.. ربما تحتاج أكثر. دعنا نفهم. أنت صديق فيصل وأنا أخوه وصديق أخي صديقي." توقف محمود ولمعت الأسنان البيضاء. "لا.. الحمد لله العائلة كلها بخير" سأله أحمد "أأنت مطلوب؟ أعليك دين؟" ضحك محمود "لا.. لماذا تريد أن تعرف لماذا أحتاج لهذه الفلوس؟" قال أحمد "أريد أن أساعد" ابتسم محمود "هذا يا أخي شيء طيب. هل أنت متأكد من أنك تريد أن تساعد؟" قال أحمد "لا يمكن أن يكون لي غرض آخر" مد محمود يده نحو أحمد ثم اقترب من جبهته وقبلها وقال مودعا "هذا شيء طيب طيب سأتصل بك وأطلب مساعدتك. لا تنس وعدك. أولاد الناصر يوفون بالوعود. ما شاء الله أولاد سعد الناصر كلهم عندهم نخوة ومروءة ومال ويحبون الخير. ليت كل عائلاتنا الكبيرة والغنية مثلكم. كلكم ما شاء الله.. كلكم" وسار مبتسما مسرعا واختفى بلمح البصر في شارع مجاور. عاد مسرعا نحو أحمد "الأغنياء مثلكم مشغولون بالمزيد من المال والاستثمار والنفاق أنتم ما شاء الله تنفقون على الفقراء والأصدقاء والله يزيدكم أكثر وأكثر. وأنت أخي أحمد ستساعدنا أكثر. أليس كذلك. ستساعد أكثر. لا بالمال فقط؟ ستساعد. وقبل جبهة أحمد ثانية وسلم علينا مودعا واختفى.

في المساء في المجلس كان أحمد يحدث خالد وعدنان. وهما ينصتان باهتمام. أكيد عن السوادي. يجلس بينهما ويستديران نحوه. ينصتان. ماذا سيقول للأخ عبد اللطيف؟ ثم رأيت ناصر يقوم من مكانه على يميني ويسير نحوهم يشارك في الحديث. اقترب مني ناصر بعد قليل. "أحمد أسره السحر العماني؟" قلتُ ماذا تقصد؟ قال سمعت من ابن نوح اليوم أنه لن يذهب للمزرعة ثانية ويريد بيعها. قلت أهذا صحيح؟ لقد قال لابن نوح "احرق كل صور مارلين مونرو.. لا أريدها".

ألو.. أحمد؟ نعم أنا أحمد. أنا محمود. مرحبا. السلام عليكم. مرحبا. السلام عليكم. وعليكم السلام. أنت قلت ستساعد. نعم. نصلي الظهر غدا في مسجد أبي عبيدة. أين يكون؟ في الضاحية الطرف الجنوبي شمال الجادة 17. لم أسمع به من قبل؟. إنها منطقة شعبية ربما لم تزرها من قبل. شمال الجادة 17. سترى مسجدا لا مثيل لفخامته في المنطقة. سوف تراه لا يوجد غيره بظاهر فخامته هناك. له منارتان. سوف تراه من بعيد.. المنارتان تراهما من بعيد وأنت تسير نحو الجادة 17. تقول صلاة الظهر.. نعم صلاة الظهر. وقت الغداء؟ لن نتأخر. لماذا الظهر.؟ الظهر أحسن.. الشرطة يكثرون في الليل. الشرطة؟ نعم. ما دخلهم بنا؟ أنت قلت ستساعد. تعال وسترى.

وقفلت التلفون حائرا منشطرا فضوليا وراغبا في أن اعرف. معه السيارة ركبت. سألني محمود هل عرفت المسجد بسهولة. تقريبا. هذه منطقة أنت لا تعرفها. صحيح أول مرة آتيها. تذهب لأمريكا واليابان وأوروبا ولا ترى ما عند باب منزلك. نظر له أحمد مستغربا. وجهه كالعادة باسم والأسنان ناصعة البياض والعينان بياضهما واسع. لدينا هنا أكثر من 70 عائلة مستورة الحال نحن نساعدهم. فيصل أخبرني مرة أن جمعيتكم تساعد حوالي نصف مليون أسرة في مختلف أرجاء العالم. ليتنا نستطيع أن نساعد أكثر.

السيارة تتجول من شارع مغبر لآخر. أعمدة النور بعضها يبدو مكسورا والسماء بلا طيور. شاهدت دجاجا وقططا كثيرة. بطانيات وملابس مزركشة وملابس داخلية تُنشرُ على السطوح لتجف. بائعي وبائعات خضار يفترشن الأرض في ظل حوائط طينية واطئة. السيارة مكيفة. هذا المسجد صغير وجميل ورائع. ما الذي أعجبك. سقفه المرتفع وشبابيكه الطويلة المفتوحة من كل جانب كأنني كنت في غرفة مكيفة. هل لاحظت الآية المكتوبة بالخط الديواني وملونة باللون الأزرق الغامق. كحلي. كحلي أزرق. هذا لون إسلامي. والخط هل قرأته. ﴿وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا﴾ من يقرأ الخط الديواني اليوم!.

هل أنتم بنيتم المسجد. نعم. لم يتكلف كثيرا. مائة وعشرين ألف دولار من أختك حصه. ممن؟ من حصه. حصه أختي؟. نعم كلكم أبناء الناصر نجباء ما شاء الله. نحن نطمع فيكم. الإخوان ينتظرونك ليشرحوا لك حاجتهم. الإخوان؟ نعم. أي إخوان؟ حين وعدت بالمساعدة أنا أبلغتهم بمجيئك. لكن من هم؟. لا تعرفهم شخصيا. ليسوا من منطقتكم هم من أبناء الضاحية. أقصد أغلبهم. سوف تراهم. وهم أيعرفونني؟. فقط يعرفون أنك ابن سعد الناصر وأنك أخو حصه. حصه معروفة عندهم؟ معروفة بالمعروف. ومن يعرفون أيضا من عائلتنا؟ الوزير عبد اللطيف طبعا رجل معروف.. وأخوك فيصل. أيعرفون فيصل؟. لا يعرفونه شخصيا يعرفون قصصه الشهيرة في أمريكا.. الشيك والمحرقة وغيرها. وأنا ماذا يعرفون عني؟. كل الخير. لم نسمع عنك شيئا. إطلاقا؟ أنا لم أسمع شيئا.

تدور السيارة وتدور غير بعيد عن المسجد. البيوت طينية والشوارع ترابية وأسلاك الكهرباء معوجة منحنية. تتهاوى ويهبط وسطها بين عمود وآخر. ولا يبدو أثر لإنارة في الشوارع. ولا علامات مرور. الشمس حارة وأطفال غير بعيد عن المسجد يلعبون كرة القدم.. وآخرون يجلسون عند بقالة صغيرة كلما مرت سيارتنا اشرأبت أعناقهم وتابعوا بعيون وكلمات. بعضهم يخرج في الشمس لمنتصف الشارع ينظر أين نتجه.

هل نشرب شيئا باردا قبل أن تقابل الجماعة؟. على كيفك. استدارت السيارة نحو البقالة وأومأ محمود وطلب زجاجتي بيبسي بارد. واستدار الصبي الذي جلب لنا البيبسي نحو باب السيارة الذي يجلس بجانبه محمود. وهمهمت شفاههما بكلمات مبهمة. شربنا بيبسي باردا واستدارت السيارة مرة أخرى نحو الجامع وكان الصبي يقف في منتصف الشارع والشمس محرقة. محمود أوقف السيارة عند جدار مزرعة أو بيت كبير يحيطه سور طيني متآكل.

تقدم نحونا شاب خرج من وراء شجرة سدر على يمين باب المزرعة. يلبس جينز وكاب أسود يضع مقدمته للخلف وقميصا واسعا. يداه طويلتان وصدره منفوخ صلد كدبابة. اتجه الشاب نحونا وقال لنا بهدوء "تفضلوا" ثم قال لي ومحمود يدخل الباب "أحمد ألم تعرفني؟" ومد يده مصافحا. كفه ضخمة. وجهه أسمر على اصفرار وعيناه واسعتان كما لو كانتا جاحظتين وشعره أشقر قليلا ومفلفل. أولم تعرف أخي صادق؟. قلت وأنا أضع قدمي اليمين داخل البيت "لا.. لم أره" قال "الجماعة الآن بانتظارك لكن حين تخرج نتحدث إن سمح الوقت".

المزرعة أو هذا الفناء الكبير بدون شجر. في آخر السور الطيني شجرتا سدر كبيرتان وخزان ماء حديدي. وفي جزء من الفناء مبنى صغير مثل دار خادم أو حارس. محمود لم يكن يحث السير. محمود من هذا؟ إنه ملاحظ. تعرف المنطقة مشبوهة والمداهمات كثيرة وأنا لا آتي هنا إلا بترتيب. أراك استغربت أنه حياك باسمك؟. نحن نعطيهم تفاصيل اسم القادم قبل قدومه. هذا ترتيب. نظام. والشاب الذي وقف في نصف الطريق ليتأكد من خلوه من سيارات شرطة من بعيد إنه أخوه. أصغر منه بأربع سنوات أو خمس.

أمسك أحمد محمودًا من يده. قف يا محمود لماذا كل هذه المفاجآت.. انتظر قليلا. ما الموضوع؟ توقف محمود ووجهه باسم "قلت تريد أن تساعد.. أريدك أن تساعد. والمطلوب منك أكثر من المطلوب من أختك حصه.. أو حتى من فيصل. هما يعطيان المال ولا يسألان. أنت تريد أن تعرف. وأنت سألتني لماذا طلبت الفلوس. أنت الذي طلبت ذلك. فلا تخف مادمت أنت الذي تسأل. ألا تريد أن تسمع؟ ألا تريد أن ترى؟

أخذته من يده واتجهنا نحو شجرة السدر لأستفهم منه أكثر ونحن نتظلل بظلها. الأرض ترابية. والسور الطيني غير مصبوغ وفي الأرض بقايا نباتات برية كما لو كانت بكرًا لم يطأها إنسان. ولاحظت أن باب المبنى انفتح وربما كان أحد ينظر إلينا من شباك ما. ربما عيون من أماكن مختلفة تراقبنا. وقفنا تحت شجرة السدر حيث يوجد بساط مطوي ومخدات وآثار طعام ونار شواء وزرع بسيط حول حوض الماء وكنت أسمع تنقيط الماء المستمر من الحوض يروي الأرض.

الشباب يجلسون هنا في الليل قال لي محمود. في الليل حين تزول الحرارة تدريجيا والأرض المروية تمنح المكان رطوبة وصوت نقاط الماء تهطل متتالية يرونها مثل جنة نسيمها فضفاض. يا محمود ألم يكن يكفي أن تحدثني عما تريد الفلوس من أجله؟ هل يجب أن آتي إلى هنا في هذا الحر. هل يجب أن أستمتع بهذه الجنة التي يتخيلونها في الليل؟ ابتسم محمود "ظننتك تريد أن ترى بعينيك وتسمع بأذنيك؟ ألا تعتقد أنها فرصة لك لتزور هذه المنطقة عند باب البيت كما يقولون وأنت لم ترها من قبل. اعتبرها فرصة. أو مغامرة. ضحك محمود ضحكة طيبة أو ساخرة .. السوادي أحسن طبعا ولكن هنا أيضا مكان يصلح للاستثمار ثم قطب جبينه.. وسيكون رائعا لو شقت الطرق هنا وتبلطت وأنيرت الشوارع. وقفت صامتا مترددا. أنظر في نقاط الماء تهطل تبلل الأرض وهي تلمع كالألماص في وهج الشمس.

الزرع البسيط أخضر غامق وفاتح يهتز مع هطولها يعانق ضياء الشمس ويتراقص في تمايل مع الهواء الحار الذي كان يلدغنا ويشوينا ونحن في ظل شجرة السدر الوارفة. سألني محمود "إذا لم ترد أن ترى الشباب نعود. هم بانتظارك ويحتاجون مساعدتك. لكن إذا لم ترد أن تراهم نعود. لا توجد مشكلة. خيبة أمل أخرى بالنسبة لهم. لكن لا مشكلة." لم أرفع رأسي عن التحديق بالأرض بالعشب الأخضر والنباتات وصوت الماء ينقط. سحبني محمود من يدي. لا تتردد ساعة أو أقل ونعود. إسمع منهم.

سرنا نحو البيت "هل تعرف أنه لا يوجد مستوصف هنا. هؤلاء أيضا أبناء البلاد. أنتم تعيشون في بحبوحة وأنا الحال معي ميسورة ولدي عمل هؤلاء لفظتهم الأرض دون عمل ودون مستقبل نحن رعيناهم ونبذل الجهد لمساعدتهم. هل تعرف أن فيصل يصل بعض عائلاتهم بالصدقات دون أن يعرف أن هؤلاء أبناؤهم. إنه لا يسأل, أفكار عظيمة. أخلاق عظيمة. ضمير نقي. لكنه لا يسأل. مجرد ثقة بي وصداقة قديمة. حين كان صغيرا كنت أصحبه بعد صلاة الفجر لصحبة بعض الإخوان.. كنا نلعب ألعابا سويدية بعد صلاة الفجر. عرفت أختك حصه آنذاك. كنت إذ أعود به للبيت أراها تنتظره عند الباب. أنا مستغرب كيف لم تتزوج. جمال ومال ونسب وتقوى. وحتى حين سافر فيصل إلى أمريكا كانت تسأل وتوصل لي المال. اقترحت أن نجعل المسجد باسمها "مسجد حصه" رفضت. قالت هذا بيت الله لعباده ولا يجوز تسميته باسمي. أظنها لم تكن تريد أحدا يعرف بتبرعها. تريد الله وحده لا منة ولا شكورا. لا تريد اليسرى أن تعرف ما تعطيه اليمنى. يا أخي أنتم أهل مروءة. كل عائلتكم ما شاء الله.

في الدار. نعال وأحذية رياضة أسفل الجدار عند الباب. نافذة زجاجها مغبر وعليها ستارة تحجب ضوء الشمس وحرارتها. مروحة مع مكيف يرعد دون غطاء وأشرطة صمغ صفراء تحيط به. مجموعة شباب انتصبوا عند دخولي. سبعة. الغرفة بها بساط بسيط واسع ومساند وجهاز فيديو ومسجل وأشرطة كثيرة متناثرة ومن كل نوع وكتب. الغرفة مربعة. ويمين المدخل حمام مكتوب عليه مرحاض وبالإنجليزية WC وتحتها بالطباشير الأخضر Gentlemen . محمود يعرفني بهم فردا فردا. دون العشرين كلهم. أغلبهم. منهم اثنان ربما كان عمر الواحد منهما ستة عشر عاما أو أقل. شاربهما أخضر لم ينبت الشعر بعد. لم يحلقا البتة. الوجوه كالحة تغطيها ابتسامة ترقب الضيف المانح. بها شيء من الاستعطاف والشراسة. العيون تأكلني تفحصني حتى النخاع. ليزر أو سونار.

بادرتهم وأنا أجلس بالكلام "محمود أخبرني أنكم تتوقعون مساعدتي.. كيف تريدون ذلك" أخذت العيون تنظر لي أكثر وأكثر وبادر أحدهم يلبس نظارة ويتكلم بالفصحى "كما تريد" قال محمود والابتسامة الدائمة تغطي الوجه "أحمد يريد أن يعرف ماذا تريدون أنتم.. يريد أن يسمع" ضحك أحد الشابين اللذين لم يحلقا شعر الوجه بعد "نريد الكثير.." ضحك الجميع واستمر "إذا كان يريد أن يسمع فنستطيع أن نحدثه حتى الصباح" ضحك آخر وهو يمد رجليه على البساط "كن معنا الليلة عند الحوض نتعشى معا" والآخر قال "نشوي دجاجا".. وسمعت واحدا يهمس لآخر "ونسمعه ما يحب. الآخر يقول.. وما قد لا يحب".

اعتدلت في جلستي وقلت غاضباً. محمود هل نخرج؟ قال محمود "على راحتك" وقف الشاب الذي يمد رجليه على البساط. "يا أخي اشرب شايا أو قهوة.. لا تغضب من كلامنا.. نحن نضحك ونسخر باستمرار. قال الذي يتحدث بالفصحى أنا أعلمهم الإنجليزية.. انظر لهذه السبورة. وكانت خلفي سبورة واسعة وعليها كتابات منوعة بالإنجليزية. يريدون المغادرة. الإنجليزية تفيدهم أينما كانوا. هذه أشرطة لتعلم الإنجليزية.

وقدم لي أحدهم كأس شاي، ورأيت آخر بيده فنجان قهوة. "إن أردت مساعدتنا أعطنا فلوسا لنخرج" سألهم أحمد "كلكم" ضحك أحدهم "كلنا وعشرات غيرنا. حسب المبلغ الذي ستقدمه" "كم تحتاجون للسفر" صرخ شاب في الزاوية وهو يحتضن المخدة بين ذراعيه نحتاج الكثير كم أنت مستعد للدفع. قال المدرس الذي يلبس نظارة. في أمريكا تسلّمت الكنيسة 20 ألف دولار لمساعدة Homeless . نحن Homeless وأكثر من ذلك. زمجر أحدهم نحن Nationless . رفعت رأسي "أنتم بدون جنسية" قال الشاب الذي يحتضن المخدة.. ما الفرق يا أخي أحمد. ما الفرق بجنسية أو بدون. أريد فقط أن أعرف قال أحمد. الشاب الذي يقدم القهوة ابتسم وهو يرمقني "زرت العالم ولا تعرف الضاحية؟.. الآن تريد أن تعرف؟.. لا يوجد فرق بجنسية أو بدون نحن نريد أن نغادر. أنت مطلوب منك أن تساعد" صرخ أحدهم "أعطه مزيدا من القهوة معدته خالية أكيد لم يتغد بعد.

نظر لي محمود قلتُ "من الأفضل أن نخرج" قمت ووقفوا جميعا. وجوه مستنفرة وعيون صافية مستفزة ومحدقة بي. اسمح لنا.. لم نغديك.. نحن لم نتغد بعد. أنت مستعجل. أنتم هكذا دائما متعجلون. ضحك أحدهم. يا بختهم دائما متعجلون. وقال آخر وهو يرمقني شزرا "وعندهم من ينتظرهم" ضحك أحد الشابين الصغيرين وقال بصوت به رخاوة مستهزئا "وعندهم مواعيد". مددت يدي أصافحهم والمدرس سألني "إذا تكرمت.. يحتاج الواحد على الأقل لعشرة آلاف دولار. وإن أردت أن تكون كريما جدا خمسة عشر ألف دولار. وإذا لم ترغب أو لا تريد أن تساعد فأنت معذور دون أن تعتذر. سنجد طريقا.

وتقدم أحدهم ممن لم يتكلموا أبدا وهو يعرج قليلا ونظر إلي وهو يمد يده مصافحا "سنجد طريقا آخر" ثم أحنى رأسه ورفع ثوبه حتى خصره "انظر" وبدا ساقه مليئا  بجروح كبيرة. سنجد طريقا آخر. ما هذا؟. ضرب الشرطة. تمعنت فيه مندهشا وتقدم شاب آخر بسرعة وفتح أزرار قميصه.. آثار كدمات حمراء على الصدر وخط أحمر أزرق على الكتف "سنجد طريقا آخر" مد أحمد يده مصافحا واتجه مع محمود نحو الباب. أشار محمود.. هذه الآلات التي في الزاوية مطبعة صغيرة. ثم وجه كلامه لهم "قبل أن نخرج أريد أحدكم يتأكد من الطريق".

انطلق الأعرج بسرعة نحو باب المزرعة وصافحنا الشباب الذين كانوا باسمين.. قلقين.. فرحين.. آملين. وسمعت بعضهم ردد "عيب.. لم يأكل معنا" وسمعت أصواتا مختلفة متداخلة "هل غضب منا. منك. أمزح.. تمزح" وخرجنا أنا ومحمود ووقفنا نستظل بالجدار عند باب الدار. فتح الأعرج باب المزرعة مواربا وانتظر حوالي أربع دقائق ثم أشار لنا أن نخرج وهو يجري نحونا. صافحني "أعطنا ما تستطيع يا أخ أحمد. تعال تعشى معنا. في الليل النسيم بارد وحين يطول السمر ترى تلك النباتات القليلة عند الحوض مثل حديقة غناء بل غابة".

أمسك الأعرج بيدي وشد عليهما بكفيه. عيناه محمرتان. في الرقبة آثار ضربة أو كدمة قديمة. ووجهه وضاح. قال "أنا ومحمود لن نسافر. أنا أعرج كيف أصعد الجبال وأقاتل. أنا أرغب في السفر ومحمود شاهد على كلامي لكن الإخوان يعتقدون أنني سأكون عالة ومعطلا لهم". سحب كفيه وأسرع نحو الدار.

في الخارج عند الباب كان الشاب ذو الكاب المقلوب للخلف واقفا. خرج محمود وأنا وراءه. مشى الشاب بجانبي وأشار بيده "ذاك أخي صادق" كان يراقب الشارع لمحمود. هل رأيته من قبل؟ رمقته متفحصا رأيت وجها مثله من قبل. نفس الملامح. شيء ما. الصوت.. الرائحة.. النفس. أنا فيروز ابن الحاج نظير.. أبي كان حارسا عندكم.. تقاعد من زمان وأخوك فيصل ما يقصر يصلنا كل شهر يعطي الفلوس للبقال.. البقالة التي شربتم بها بيبسي. يعطي الفلوس لكنه لا يزورنا. لم أره منذ كان صغيرا. أما زال يكرهني؟ أما زال حاقدا؟ توقفت قليلاً أنظر إليه وأتذكر ملامحه "أنت فيروز.. لقد تذكرتُ الآن. أتسكن هنا؟ ليس في المزرعة.. في نفس المنطقة نفس الشقة فيصل يعرفها. لم تتغير. ووالدك كيف أحواله؟. بالمستشفى عنده سرطان بالرئة. أمي ماتت منذ ستة أعوام. فقط أنا وصادق والوالد في البيت. قل لفيصل إذا كان سامحني أن يزورنا. أنا وصادق نعرف نطبخ. ضحك فيروز. قل له لن أريق العصير على قميصه." كان يسير بجنبي "الوالدة ماتت في المطبخ. كانت تطبخ لنا. أنا والوالد وصادق، شوربة سمك بالبصل والبقدونس. لم أذق شوربة سمك مثلها أبدا. أنا وصادق نطبخها الآن لكن ليس مثل طعمها. كانت أحسن من يطبخ. الوالد بعدها صار مريضا. ثم أخيرا قال الأطباء عنده سرطان. لو كانت الوالدة تعرف ما حل بنا. عائلتنا بوفاتها انتهت.

هز أحمد رأسه وركب الهوندا المكيفة. بجوار محمود الذي نظر نحو الصبي الذي يقف مراقبا وسط الشارع وسار بنا حول المسجد. الجادة 17 ثم يدور بالسيارة مرة أخرى حول المسجد قبل أن ينطلق باتجاه الطريق الرئيسي. في السيارة أحمد سأل محمودا "لماذا يتكلمون بصوت عال؟" بصوت عال؟ سأل محمودًا وأردف هذه نبرتهم. سأل أحمد "هل تعرف فيروز من زمان؟" طبعا قال محمود أبوه كان حارسا عندكم. فيصل لو عرف سيزور والدهم بالمستشفى. وأنا متأكد أن حصه ستصلهم. أبوهم رجل مخلص جدا لكم وتقي. قال أحمد "ماذا كانوا يقولون بالضبط. أقصد ماذا يريدون؟" قال محمود "مساعدة مالية لا أكثر" كم؟ قال محمود "هذا متروك لإنسانيتك. هؤلاء نبت. نبت الأرض. نبت الوطن. شجرة بلا ماء. ليتك تأتيهم مساءً. سترى النكات والفظاظة والصلف أيضا. لكن هذا غير مهم. إنهم شباب بلا مستقبل. إنهم يريدون أن يعيشوا" قال أحمد "لكنهم قالوا" "الشرطة والقتال" قال محمود "ماذا لديهم غير ذلك. القتال هلاك لكنه حياة. أقصد أسلوب حياة. هناك الكثير ممن يسلكون هذا الطريق. لو لم نجد من يقاتل. يجاهد. في سبيل الله. لقمة العيش على الأرض. الجنة هي الأمل. على الأرض في هذه الدنيا الفانية. الدنيا لهؤلاء هي البؤس والكدح والشرطة إن لم يكن الإجرام وغيره والعياذ بالله. نحن نمد لهم يد المساعدة". من أنتم.. دائما تقول نحن.. من أنتم؟ التفت نحوه وهو يرى الصبي متجها للبقالة "نحن؟ نحن أهل الخير أيضا. أنتم، فيصل مثلا وحصه، أهل مال وخير ونحن أيضا." تكرر نحن من أنتم؟ لا تعرفهم لن تعرفهم. نحن؟ أنا لا أعرفهم كلهم. لكنني ألمح سماتهم. في المساجد.. وفي الشارع أيضا. أناس أرادوا الحياة وأرادوا الجنة. رضا الله عنهم، والابتعاد عن معصيته وسخطه جل مبتغاهم. بشر.. قلب ولحم ودم. ليس لهم من إثم. أنا بخير. وأنت بخير كبير. أنا أشتغل. ولدي مرتب وبيت وعائلة. أنا لدي سيارة وزوجة وأطفال, أنت لديك أكثر من ذلك بكثير. هؤلاء ليس لديهم عمل. التفت محمود نحو أحمد "ولا زوجة" ضحك محمود "ليسوا مثلك في المزرعة ولا في أمريكا. ليس لديهم شيء من ذلك, أنت لا تستطيع أن تضع نفسك مكانهم. هل تستطيع؟ أنا لا أستطيع. أنا أساعد. قال أحمد "لكنهم ينوون السفر للقتال" قال محمود "للفناء" التفت أحمد تجاهه "للفناء. قلت يريدون الحياة" ضحك محمود وهو يقود السيارة الهوندا باتجاه المدينة. قال محمود "نعم يريدون الحياة في الهلاك.. أهذا أمر يصعب تصوره؟" قال أحمد "لا أفهم.. لقد فاجأتني اليوم بمتناقضات.. فيروز وأخوه.. عاشوا في كنفنا سنوات" ضحك محمود "في كنفنا؟" صمت أحمد وانتظر صامتا ومحمود ينفث حسرة ويهز رأسه ويعود بالسيارة ثانيةً للضاحية وهو يردد "في كنفنا". سأله أحمد "ولماذا تضربهم الشرطة ويرهبونها" نظر له محمود من جانب عينه شزراً "أولا تعرف أن العنف بالعنف هنا وفي أمريكا وفي كل مكان. ألا تعرف؟ وعند مسجد حصه ودعه وتبعه أحمد في سيارته حتى الطريق المعبّد.

أنا لست صاحب مشاكل. لست "مشكلجي". لست من يبتغي أو يبحث عن المتاعب والمصاعب. رأيته بعيني. قتلوه أمامي. وأنا ذاهب لتسليم الصدقات للبقالة في الضاحية.. وأنا ذاهب هناك بعد العصر.. ما إن دخلت المنطقة حتى لاحظتُ في المرآة الأمامية سيارة خلفي.. أتتبعني؟.. ثم لمحت سيارة محمود من بعيد.. فورد زرقاء يغير سيارته باستمرار كلما جاء هذه المنطقة .. يستلف سيارات أصحابه.. لمحتها تدور حول المسجد.. وقبل أن أصل للبقالة.. السيارة التي كانت خلفي أسرعت وفتح رجل زجاج باب المقعد الأمامي وصرخ بي.. "ابتعد من فضلك" صرخ ثانيةً وأنا أنظر له بهدوء "ابتعد بسيارتك" ورأيت المرسيدس السوداء تسبقني.. ابتعد.. ثم رأيت المرسيدس تنقض على سيارة محمود، ويد تمتد منها وتطلق النار على محمود من مسدس. مسدس رمادي يلمع بالشمس. ورأيت محمود يحني رأسه ورأيت الرصاص ينهال على الزجاج الأمامي لسيارته. رأيت رأسه يختفي. رأيت سيارته تتوقف. وسيارتهما المرسيدس السوداء تسرع نحو صادق أخو فيروز الذي كان وسط الشارع يجري راكضا أسرع من غزال وهو يرى سيارة محمود تتشقلب. جاريا.. مسرعا.. واليد بالمسدس الرمادي تمتد خارج نافذة السيارة وصادق يتعثر يضع كفيه على وجهه ليغطي الوجه من الرصاص. يسقط على الأرض والدماء تنزف من كل مكان.

الشمس ساطعة حارة. والشارع خالٍ من الناس. والذين يجلسون عند البقالة اختفوا. تبخروا. والرصاص في الرقبة والكتف والساق. تبطئ المرسيدس. تقف. ينزل الرجل الذي يحمل مسدسا ويصرخ بصادق أين أخوك. وصرخ بي الثاني الذي يقود السيارة وأنا أبطئ السيارة وأفتح النافذة لأستمع ما يقول لصادق. ابتعد ابتعد.. كنت أريد مساعدة صادق والدماء تغطي الأرض. في الخامسة عشرة. ابتعد. ابتعد.. وأدار المسدس نحوي. ثم سمعت الآخر يصرخ "يا فيصل.. قلنا لك ابتعد.."

خفتُ حين نطق اسمي وأسرعت بالسيارة للأمام لا أدري أين أتجه أو ماذا يدور. لمحت البقالة استدرت نحوها وتوقفت. نزلت بسرعة. لم يكن في البقالة أحد غيره. شعره غير محلوق ينظر للمرسيدس السوداء وصادق يترنح ويرفس برجليه على الأرض وكأنما دمعة غضب غصت في العين "فيروز هرب" قال صاحب البقالة ويده ترتجف. عدت للبيت. أنا صاحب مشاكل.. أنا صاحب مشاكل.. أنا أنا. أنا.

هل سأحكي لعبد اللطيف ما رأيت. أخي وزير مسئول. هل أحكي؟ وفي الليل سلمى تصلي وتدعو الله أن يبعدنا عن المشاكل. سألتني "لماذا لا نكون سعداء؟ نحن بخير ونعمة.. صحة جيدة.. عائلة معروفة.. لماذا لا نكون سعداء" وأخذت تمسح دموعها.وأنا في شقاء.

حين أخبرني أحمد بوجود حجي نظير بالمستشفى.. اتصلت مرات دون أن يرد عامل البدالة.. وبعد أن رد أحالني للاستعلامات.. ولم يتعرفوا هناك على اسمه.. أنا لا أعرف اسمه كاملا. في الغد ذهبت لزيارته. ماذا يعمل السرطان بالإنسان!! أين كان هذا المرض منذ مائة عام أو مائتين. كيف ظهر؟؟ أهذا حجي نظير؟ هيكل عظمي! كيف يدخل الجلد بين الفكين فتبرز عظام الوجه.. حفرتا العينين. الجبهة نخرة والأسنان تتهالك. أهذا حجي نظير؟ ماذا يفعل السرطان ببني آدم؟ هيكل عظمي ملصوق به جلد إنسان. وشعر الوجه زال تماما. وجه بدون حواجب أو أهداب. فم بدون أسنان. شفاه بيضاء. أصابع اليد كالمسامير. يتكلم بصعوبة وهو يشد على يدي "يا فيصل أنت من أهل الجنة.." يقول "أنا أدعو لك في كل صلاة"

أردت مقابلة طبيبه. أشار بيده نحو مجموعة أطباء عند سرير مريض في الطرف الآخر من العنبر. العنبر طويل مكتظ بالأسرة مثل صور المستشفيات العسكرية في ميادين الحرب التي نراها بالسينما. عنبر طويل مكتظ.. أسرعت للطرف الآخر.. أسمع أنينا.. وتنهيدات.. وشخيرا وأشم روائح الأدوية والمنظفات من الأسرة التي أمر بها. وأرى أنابيب الأدوية في الأفواه والأنوف والسواعد. أرى صدورا عارية ومغطاة ترتفع وتهبط. أرى أرجلا وسيقانا تتحرك. حشرجة تحت الأغطية.

وقفت خلف مجموعة الأطباء. كان رئيس لهم يشرح حالة مريض توفي في الليل. والآخرون أربعة أطباء وممرضتان وممرض ينصتون. يمسك بقدم المتوفى.. قاع القدم.. يتفحصها.. يشير لأشياء بها وهم ينصتون. بعضهم في ورق يكتب ملاحظات وبعضهم في كومبيوتر اليد الصغير. أدار رئيس الأطباء القدم الأخرى وتفحص قاعها وهو يشير بقلمه لأجزاء بها وهم ينصتون ويسجلون. دنوت أكثر منهم ورفعت صوتي "أين الدكتور المسئول.. أريد أن أسأل عن حجي نظير" التفت الجميع نحوي ورئيس الأطباء رفع رأسه ونظر لي من خلف نظارته وعاد يشرح الحالة للأطباء والممرضين الذين لم يعيروا اهتماما لوجودي أو سؤالي وهم له منصتون.

حاولت ثانيةً ولا مجيب. في العمل منهمكون. يتبادلون التجارب. ينصتون لرئيسهم يشرح وبيده قلم يشير بها لراحة قدم المريض. يشير لأجزاء محددة. لم يكن أحد منهم يلتفت إلي وربما لم يكن أحد يسمع صوتي. الرئيس فقط يرفع عينيه خلف زجاج النظارة ينظر لي بين الحين والحين كأنما ينظر لذبابة دون تعبير. كدت أصرخ بهم. استعنت بالله وحجي نظير يوشك أن يموت. وهؤلاء لن يردوا له الحياة.

عدت إلى حجي نظير وجلستُ قربه على السرير. وضع يده على ركبتي وفي عينيه محبة لي وسعادة بمجيئي. "صادق يريد تعليما. يريد أن يذهب للجامعة." العينان غائرتان ورائحة فمه عفنة وآخر كلماته "فيروز ممكن يشتغل وينفق على أخيه". يده على ركبتي. يطبطب عليها "فيصل أنت من أهل الجنة".

لدغة السحر العماني. أرى أحمد بعد العودة من السوادي لا ينقطع عن الصلاة في المسجد.. وناصر أراه معه كثيرا. يقابلان محمودًا. أصدقاء صاروا له أكثر مني. سألني أحمد مرة "أين يذهبون" وكان ناصر معنا وأجاب "لأي مكان" ضحك أحمد "أرض الله واسعة لفلسطين لكوسوفو لجنوب تايلاند لأفغانستان.أو للشيشان أرض الله واسعة". قلت "يا أحمد هذا هو الهلاك" قال أحمد "ماذا بقي لهم غير الهلاك" ومحمود قال لأحمد "الهلاك حياة" أن تُلصق القنابل على بطنك، أو تركب السيارة المفخخة.. فلا نامت أعين الجبناء قال خالد بن الوليد. أن تقبل على الهلاك. أن تروي الأرض بدمك عمدا وقصدا ومع سبق الإصرار وبالإرادة الواعية وبالرضى وراحة البال. يتقبلون الموت كالعاشق يتلظى بقبل الحبيب. هلاك في حياة.

قلتُ لناصر قبل أن يذهب لسيبرنيتشيا "ماذا يمكن أن تعمل أنت هناك وأنت لم تدخل الجيش ولم تكن جنديا ولم تعرف فن الحرب" كان اتخذ قراره ولا سبيل غير ذلك. أنا وأحمد وابني محمد معي أغلب الوقت، يستمع لأحاديثنا. ينصت لي. سألني "أيذهبون للجنة بعد الاستشهاد" قلت له "إن شاء الله". سألني "في الجنة لا توجد مسدسات. قلت طبعا لا. قال ابني "موجودة في النار" قلت له مؤكدا "وأكثر من ذلك".

في الليل.. في الليل لا يذهب أحمد للمزرعة عند ابن نوح. يذهب أحيانا للضاحية يتمدد على البساط عند الأعرج الذي هو دوما هناك. صهريج الماء والحنفية لا تتوقف عن التنقيط. تلقح الأرض بالماء. غابة. ونسيم بارد في ليالي الصيف. ويطول السمر. يشوون دجاجا. الأعرج أخبر أحمد "ليس لدي عائلة. أنتم عائلة. أنا ليس لدي عائلة.. تزوجت أمي رجلا آخر بعد طلاقها من أبي. وأبي تزوج أخرى. وأنا وأخي بدون بيت. بيتي هنا. هذه هي الحقيقة. بيتي هنا" وأحمد يأتي بجبن وخبز وزيتون مع سندويش شاورمة.

أحمد يروي عن بولدر والأعرج يرفع رأسه عن المخدة ويسحب رجله العرجاء منصتا منبهرا. أحمد يسأله " وأنت ؟ قال الأعرج "لم أذهب لأمريكا" قال أحمد" أليس لديك فتيات؟ هب الأعرج من انسداحه على الأرض وصرخ به "أستغفر الله" قل "أستغفر الله.. أنا غير متزوج." قال أحمد بسرعة رد الفعل من غضب الأعرج "أستغفر الله" السماء والنجوم. والشباب يذهبون ولا يعودون. لا أحد يريدهم أن يعودوا. لا الأهل ولا الحكومة. للموت يسيرون.

يروي أحمد عن ياسين "للفلسطيني ثلاث خيارات.. يضرب رأسه بالحائط أو يخفي رأسه بالرمال.. أو يلصق القنابل ببطنه". في أرض الله الواسعة عشق للنسيم وللزرع الندي وثدي الأم والحنان. للصحبة والمنادمة. لإبريق الشاي. للحياة. للفناء. وأحمد ينفق بدون حساب وهم ينطلقون كالنجوم السادرة في السماكين.. نيازك تضيء وتنطفئ لا ندري كيف تدور وأين تنعدم. أحمد تبع ناصرًا بعد مقتل محمود. نيزك مضيء. نيزك آخر. أنا وابني محمد نتذكرهما ولا ننساهما، ولا نعرف أخبارهما. سأناقش الأمر مع عبد اللطيف. أخي الوزير.

 

(6)

أحاطوا بي. منذ أربع ليال كلما دخلت المجلس أرى العيون تحيط بي. عيون إخواني. لدي إحساس بأنهم يعرفون ما جرى. سأنتظر ولعلهم ينتظرون أن أتكلم أنا أولا. إنهم يعرفون. مدير مركز اللغات يعرف. في اليوم التالي لمقتل محمود طلبني المدير في مكتبه. متأثرا محرجا ومتأزما "ما هذا يا فيصل.. نريدك معنا.. ما الذي عملته يا فيصل" قلت له وفي داخلي شعور بأنه يقصد محمودا "ما الذي حصل" نظر إلي من خلف نظارته ونفض بيده الأوراق من الطاولة "ماذا حصل؟" قلت وأنا متماسك "هل عملت خطأ لا سمح الله" ارتد في مقعده "إنني لا أفهمك" قال. كلانا ينظر للآخر. برهة عينا كل منا فى عيني الآخر تتفحصان. تنهد المدير وسألني "أعدت للمشاكل؟ أثنا عشر عاماً ونحن في وئام.. عدت للمشاكل" قلت له "لماذا لا تفصح.. أية مشاكل؟" هب واقفا "أنت لا تثق بي" قلت وأنا في مكاني جالس أنظر إليه "بالعكس أنا أثق بك لكنك لم تتكلم" صرخ بي "أنت تكلم.. ماذا عملت؟" انتابني غضب "أنت لا تريد أن تفصح.. أنت قل لي أنا ماذا عملت؟" واقفا.. يستدير.. ثم يعود ينظر إلي "لا فائدة" قلت بصوت مبحوح "فائدة ماذا؟" قمت من على الكرسي وتركته واقفا واتجهت نحو باب مكتبه. لدي شعور بأنه يعرف شيئا ولا يريد أن يفصح" خرجت من مكتبه وإذا به خارج المكتب يصرخ بي "فيصل" توقفت. توجه صوبي وبصوت عال كأنما أراد أن يسمعه الفراش الذي وقف من مقعده عند مكتب المدير يقترب منا وكأنه يصيخ السمع "هذا كتاب من الإدارة.. مني.. في هذا الفصل الدراسي لا يمكنك المجيء للمركز" مددت يدي لآخذ الكتاب. وهو مد يده وسلمه لي وعاد مسرعا لمكتبه.

أربعة أيام في المجلس أراهم، أرى إخواني. يريدونني أن أتكلم. لم أتكلم. مشعل وأنا خارج من المجلس كالمعتاد دنا مني وقال "فيصل لا داعي لإحراج أكثر... لا تذهب للوزارة غدا..." سألته "لماذا" نظر لي مشعل بروح أخوة "فيصل لا تحرجنا أكثر" قلت "قل لي ما هو السبب".

في البيت سلمى حزينة. مثلي لا تفهم لماذا أمنع من المعهد ومن الوزارة. "طيب يسألونك أولا" ومحمد مبهور "بابا.. ألا يحبونك؟" أكلي قليل وصبري أقل. تحدثت إلى مشعل بالتلفون قال "المشكلة كبيرة نحن لا نعرف بالضبط.. أقول لك الحقيقة نحن لا نعرف بالضبط" قلت له "أخي عبد اللطيف يعرف" قال "لا يريد أن يتدخل يريد أن يسمع منك أولا.. يريد أن يسمع منا أولا.. كلنا نريد أن نعرف الحقيقة" قالت سلمى "طيب.. تحدث معهم غدا".

في المجلس في اليوم التالي بعد انفضاض الضيوف كان هناك الأخ عبد اللطيف وخالد وعدنان وعبد الله ومحسن ومشعل." سألني خالد "ما علاقتك بمحمود؟" قلت "أنتم تعرفون أنني أعرفه منذ الصغر.. منذ أيام الوالد" سألني خالد "هل كان يعرف أين ذهب أحمد؟" قلت لا أدري. قال مشعل "لكنه صديقك" قلت إنه صديق ناصر وأحمد أكثر مني. أخي عبد اللطيف في ركنه كان جالسا منصتا دون أن ينظر إلي. سألني خالد "هل تعرف أين فيروز؟" قلت "لا أعرف" سألني "لا تعرف وأنت زرت حجي نظير بالمستشفى أول أمس" قلت واثقا " نعم لكني لا أعرف أين فيروز. سمعت من البقال أنه هرب بعد مقتل أخيه" عاد خالد للسؤال "هل ستعطيهم أو ستعطي ذويهم من الصدقات؟" قلت "نعم.. ماذا في ذلك أنا أعرفهم وأعطيهم الصدقات من زمان.. لماذا أتوقف الآن. الآن عائلة محمود تحتاج مساعدة أكثر" قال عبد الله "فيصل هل حقا أنت لا تعرف ما يجري... أولا هؤلاء قتلة. سفاحون. وثانيا لعلمك إنه تم بالأمس تفتيش مكتبي وتحقيق بسيط معي.. رئيس الكتيبة التي أعمل بها دعاني وسألني عنك وعن علاقاتك. كل هذا لأنني أخوك.."

طال الحديث والأسئلة وتقاطع الأصوات وارتفاع الحدة أحيانا وإذا بعبد اللطيف يقوم من المجلس يأخذ من تحت المسند أوراقا وينظر لي بمودة "فيصل نحن إخوتك.. لا تقلق" ثم نظر للجميع وقال "الله الهادي". وصلت إلى البيت وسلمى تنتظر. حوالي التاسعة والنصف مساءً. كنا تأخرنا في الحديث. في التحقيق والمساءلة. ومحمد لم ينم. كان مع سلمى ينتظر مجيئي. عيناه وأذناه مبهورتان. أخبرتها أن الشرطة تبعوني وعرفوا محمودا بمتابعة سيارتي.. يعني أنا الذي قدتهم إلى محمود. قالت "أكان خطرا لهذه الدرجة؟ أليس له بيت؟ أليس له عمل؟ لماذا يسترشدون بك" قلت لا أدري لا أدري. لعلهم كانوا يريدون أن يعرفوا أين يذهب. ولأنه يغير سيارته باستمرار تبعوا سيارتي. صرت الدليل. لأول مرة أرى الخوف والدهشة في عيني ابني محمد. اتصلت سلمى بأخي مشعل فجاءنا. قال "من الأفضل أن تعترف" قلت له صادقا "أعترف بماذا" وسلمى معنا وابني محمد يستمع. خفض رأسه وقال "لعلك لا تعرف أن صديقك الأعرج. لا أعرف اسمه بالضبط. اعترف بكل شيء" هببتُ واقفا "صديقي الأعرج؟" وسلمى استغربت وقالت "ما عندنا صديق أعرج" قلت له لا أعرف أحدا بهذا الاسم.

خرج مشعل واتصل بالهاتف بعد حوالي الساعة "فيصل... لقد أبلغت الإخوان.. غدا بعد صلاة العصر سأكون مع عبد الله في بيته بانتظارك.. سيدبر لك لقاء خاصا في منزله" قلت "لقاءً خاصا عني؟" قال "لقاء يتعلق بموضوعك.. في منزله أحسن.. سنكون نحن معك.. هذا اقتراح الأخ عبد اللطيف" تنفست الصعداء، ومحمد ذهب لينام، وسلمى اندهشت وارتاحت قليلا فنحن ليس لنا صديق اسمه الأعرج. لا بد أن هناك خطأ ما. انزاح عبء ثقيل. وفي الغد بعد صلاة العصر كنت في بيت الأخ عبد الله ووجدت الأخ خالدًا موجودا أيضا بالإضافة لمشعل وعبد الله ومعهم محمد بن حسين جارنا في بيت الأخ عبد اللطيف الذي أهداه لنا الأمير بعد وفاة والدي.

أعرفه.. جارنا. عقيد في الشرطة. في التحريات. كان بشوشا ولطيفا. شربنا القهوة وبدأ العقيد يسألني "لماذا كنت ذاك اليوم في الضاحية؟" وتدخل خالد حاسما "هذا موضوع غير مهم" وأنا قلت "أنا مسئول الصدقات وهناك بيوت أعرفها في المنطقة وأذهب هناك على الأقل مرتين في الشهر" تدخل خالد ثانيةً موجها كلامه للمحقق "نحن نعرف ذلك..ادخل في المهم أفضل" استغربت من نبرة خالد الحاسمة وجرأته وشعرت بالارتياح فأنا بين إخواني. ضحك المحقق وقال لي باشا.. "لقد اعترف غضبان الأعرج عليك".. قلت له "من؟" قال "غضبان.. غضبان بن دلوة الأعرج" قلت بثقة واطمئنان "أنا لا أعرف أحدا بهذا الاسم. لا أعرف لا غضبان ولا دلوة ولا الأعرج" قال المحقق "لكنه اعترف.. ما الفائدة من الإنكار!" قال خالد بصوت هادئ "فيصل.. أنت لا تعرفه.. إنه هنا." أقسمت بالله أنني لا أعرفه.

وقام عبد الله وفتح باب غرفة مكتبه من داخل الصالة التي نحن بها ثم عاد ووراءه شاب صغير السن، دون العشرين، أصفر البشرة، يعرج. سلم علينا وجلس جنب الأخ عبد الله. شرب معنا شايا والأخ خالد يتحدث مع محمد بن حسين أحاديث متنوعة حتى ظهرت بوادر الراحة على الأعرج فالتفت المحقق نحوه "يا أخ غضبان.. قلت إن فيصل أعطى الشباب أكثر من مائة ألف دولار أو مائتين" قال الأعرج وهو ينظر في وجوهنا "نعم.. أنا لم أحسبهم كلما احتجنا طلبنا منه وهو لا يقصر" اعتدل المحقق في جلسته وخالد منصت وعبد الله يضع يده في خصره "ومرة طلبتم منه فلوسا لشراء أسلحة" قال الأعرج "ليس أنا.. محمود هو الذي طلب.. ليس أنا. أنا لا أعرف لماذا يطلبون الفلوس. أنا لا أعرف" قال المحقق "فيصل أعطاكم كم؟" قال الأعرج "لا أعرف بالضبط.. محمود هو الذي طلب.. وهو المسئول. أنا فقط حارس في البيت" قال له المحقق وأنا أستمع له مندهشا "وأنت لا تعرف أين فيروز.. فيصل هو الذي يعرف." قال الأعرج "نعم.. بعد مقتل محمود بحوالي نصف ساعة دخل علي فيصل.. قبل أن تأتوا أنتم وسأل عن فيروز. بعد ذلك أتيتم أنتم.. أنا والإخوان ذهبنا معكم.. لا نعرف أين ذهب فيروز"

نظر خالد إلى المحقق وتبادل مع عبد الله الابتسامات. قال خالد للأعرج "أنت تكذب" انتفض الأعرج وقال "والله العظيم لا أكذب" قال المحقق مشيرا لي "هذا فيصل" نظرت للأعرج الذي بدا مذهولا وكف عن النطق" قلت له "أنا فيصل" نظر إلي متمعنا ثم قام من مكانه وسار وهو يعرج نحو المحقق وجلس على الأرض وبدا صوته باكيا. أنا قلت لهم اسمه أحمد.. هم قالوا لي.. لا أنت تكذب اسمه فيصل.. والله العظيم قلت لهم.. اسمه أحمد.. ضربوني وقالوا لي أنت تكذب. قلت في نفسي لعل اسمه فيصل حقا وهو يخفي اسمه الحقيقي عنا"

ارتاح خالد كثيرا والمحقق كذلك. قال له المحقق "قم عد لمكانك" عاد يمسح عينيه بكوفيته وجلس صامتا. وأخذ الإخوان مشعل وخالد وعبد الله ومحمد بن حسين يتحدثون عن أسعار الأسهم وشربنا شايا. وعاد للأعرج الاطمئنان. فقال المحقق أعتقد أننا يمكن أن ننصرف ثم التفت نحو الأعرج "هذا ليس فيصل الذي تحدثت عنه في التحقيق". هز الأعرج رأسه بلا.. قال المحقق "إذا ستغير اعترافاتك" وعاد الأعرج يتوسل "فقط قل لهم لا يضربونني.. أنا قلت لهم من البداية اسمه أحمد.." ضحك المحقق وأخي عبد الله وقام المحقق وأخي عبد الله أمسك الأعرج من كتفه سارا حتى الباب. المحقق والأعرج وعبد الله ودعهما.

جميعا ارتحنا. قال خالد "الحمد لله.. ليس أنت" عبد الله ومشعل يجلسان على يميني قلت "نحمد الله على ماذا.. يمكن أن يضربوه في أي وقت ويعود لذكر اسمي" ابتسم خالد وعبد الله قال "لا داعي للخوف" قلت له "أنا لا أتحدث عن الخوف.. أنا أقول هذا مسكين يمكن أن يعترف بالضرب بأي شيء" قال عبد الله "يا فيصل هذه شئون التحقيق. لو كان غيرك لما أتى المحقق لبيت أخيك للتحقيق معه.. إحمد الله يا أخي" نظرت له غاضبا "أنا أتحدث عن هذا الأسلوب في التحقيق وأنت تتحدث عن مقام العائلة وعلاقاتها.. ليس بيننا لغة مشتركة. ذعر خالد وقال مازحا "لا، اللغة مشتركة إن شاء الله وأراد أن يصرفنا عما نحن فيه فقال "آخر مرة سمعت هذه العبارة.. من زمان كانت من أختي هنوف.. الله يسعدها في مكانها.. هي التي قالت لي بالتلفون لا فائدة ليس بيننا لغة مشتركة".

عند الباب ونحن نخرج توقف خالد ومد يده على كتفي "لدي خبر قد لا يسرك لكنه لمصلحتك" نظرت له والأخوان مشعل وعبد الله يسمعان "ستتوقف عن توزيع الصدقات.. سيستلمها أخوك عدنان.." قلت محتجا "لماذا؟ أنت سمعت من هذا الشاب أن لست أنا الذي كان على علاقة بهم" قال عبد الله بهدوء ومشعل يشير لي بعينيه أن اهدأ "لعلها فترة بسيطة وتنتهي التحقيقات وتعود للصدقات.. هذا أحسن لك ولنا جميعا.. لا نريد تعقيدات أخرى." قلت "أهذا رأي الأخ عبد اللطيف، قال خالد حاسما "طبعا.. هو كان متأكدا أنك لست على علاقة بهؤلاء الأشقياء.. كان متأكدا.. كان واثقا. وهو الذي طلب أن تبتعد عن الصدقات لفترة ما حتى لا يكون هناك تعقيدات جديدة." قلت وأنا أحترق ألما.. "هل عرفت أني مُنعت من الذهاب للعمل في الوزارة ومن التدريس في المعهد.. والآن أمنع من مزاولة العمل الوحيد الذي بقي لي وهو توزيع الصدقات. هل تعرف أنني وزوجتي نجلس في الليل نعد القوائم ونراجع أسماء المواليد والوفيات، والصدقات ومبالغها.. الآن ماذا تريدنا أن نعمل. نقرأ الكتب ونشاهد التلفزيون.. عاطلون عن العمل مثل هؤلاء الذين أسميتهم الأشقياء" قال خالد "فيصل أرجوك اهدأ.. سنجد حلا لكل مشكلة.. أعطنا فرصة".

ودعنا خالد وذهب. ووقفت أنا وعبد الله ومشعل نتساءل أين وإلى أين ومع من ذهب أحمد.. وهل ذهب فعلا أم أن نازلة نزلت عليه. أكدت لهم بتفصيل أنني كنت أثنيه كما كنت أثني أخي ناصر عن الذهاب للقتال. كنتُ أقول لهم أنتم لا تعرفون فنون الحرب. أنتم ذاهبون للهلاك. وليس لديكم القوة. وأنتم الطعام الذي يحتاجه الطغاة في العالم لإضرام الحروب ضدنا. أنتم تحققون بيأسكم أهدافهم الإجرامية. عندئذ رن جرس الباب وفتح عبد الله الباب وإذا بالمحقق محمد بن حسين يعود ليقف معنا.. قال "فيصل.. هناك جانب آخر نسيت أن أستوضحه منك" قلت "تفضل" قال عبد الله "تفضلوا نجلس في الصالون." قال المحقق "لا أعتقد أن الموضوع سيطول" قلت "تفضل.. اسأل" قال "ماذا تعرف عن فيروز" ضحكت وقلت "هو الذي صب العصير على ظهري" قال المحقق "ماذا.." قلت "صب العصير على ظهري.. سحب ياقة قميصي وصب العصير فوق ظهري" قال المحقق مندهشا "متى؟" قلت "منذ سنوات طويلة.. لا أذكر.. على حياة الوالد" وأخذ مشعل وعبد الله يستمعان بإمعان ويضحكان. والمحقق نظر لي ملياً وقال ضاحكاً "صداقة قديمة!!".

وهّم محمد بن حسين بالانصراف فاستوقفته قلت "لم تسألني عن محمود.. أنا أحدثك عنه. لقد قتلوه ظلما. إنه مثلي يحب مساعدة الفقراء والأشقياء أيضا." تدخل عبد الله مازحا "أشقياء طبعا. هل فيروز سوي.. منذ الصغر وهو شقي" وعادوا يضحكون وأنا مستمر في حديثي "إنه بريء.. أقسم بالله العظيم.. أنكم ضربتم أحدا فاعترف على محمود اعترافات باطلة..أقسم بالله.. وتذكر كتاب الله العظيم ﴿واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة﴾ قتل الأشقياء عندكم حلال. أنت تأتي لي في البيت للتحقيق معي.. وجماعتك كانوا يصرخون بي وهم يطلقون الرصاص على صادق "ابتعد يا فيصل". يعرفونني.. أنا ابن الأكابر لا أقتل. أنا ابن الأكرمين في مقتلي قصاص ومحاسبة. هذا هو الظلم والظلام" ويبدو أن صوتي ارتفع ففتح خالد الصالون وأدخلني وأجلسني على المقعد وأعطاني ماءً لأشرب. عرقي يتصبب والغضب حتى النخاعين وفي الأضلع والعظام.

في البيت كنت منهكا شديد الإعياء وسلمى سألتني عن كل شيء. وقالت "لنسافر.. نغير الجو.. وتبتعد قليلا" لم أذهب للمسجد ذاك اليوم لا لصلاة المغرب ولا لصلاة العشاء. أول مرة في حياتي لا أصلي بالمسجد. اتصل مشعل بنا ليطمئن فأخبرناه بنيتنا للسفر للاستجمام في منتجع السوادي الذي أثار فضولنا بعد سماع قصص أحمد. أسبوعا أو عشرة أيام" سألنا "هل لديكم حجز بالمنتجع" قلت "لا" قال حسنا "سأعمل الحجز وأتصل بكم" حجز لنا "أنا وسلمى ومحمد" سألنا مشعل "محمد سيغيب عن المدرسة؟" قالت سلمى.. "لا بأس نريده معنا" سألها مشعل: وزهرة؟ قالت سلمى سآخذها عند أمي. زهرة متعلقة بجدتها وجدها. اتصل مشعل بعد ذلك وقال "تم الحجز.. الطائرة في الحادية عشرة صباحاً وسأمر عليكم بالتاسعة وآخذكم للمطار."

أمضينا الوقت نجهز حقائبنا لعشرة أيام أو أسبوعين. شنطة لي وأخرى لسلمى وثالثة لمحمد ورابعة لأحذية سلمى. أخذت معي "الأخبار الطوال للدينوري" وسلمى قالت "لا تنسَ المتنبي" فوضعت ديوانه في شنطة يدي. وفي المطار كان عبد الله قد اتصل بصديق له كان ينتظرنا. دخلنا قاعة كبار الضيوف وجاء مندوب للمساعدة وطلب مفاتيح الشنط. استغربتُ. ذلك يحدث معي لأول مرة. أعطيناه أرقام فتح الشنط التي كانت موحدة لكل شنطنا. شنط لوي فيتون. وحين جاء مندوب من الجمارك قال لي مبتسما "لم نجد شيئا سوى أحذية كثيرة جدا". لكن أعطني شنطة يدك.. لا بأس مطلوب أن أفتشها. أعطيتها له وقلّب ديوان المتنبي وقال ضاحكا.. في الإجازة.. المتنبي في الإجازة!" وأردف منشدا.

 

أفاضل الناس أغراض لذا الزمن

 

                            يخلو من الهم أخلاهم من الفطن

الصدمة حدثت بعد ذلك. صدمة كبيرة. جاء صديق عبد الله الذي كان بأنتظارنا للمساعدة في المطار للقاعة وأشار لمشعل وتحدثا معا والمذيع يعلن ركوب المسافرين للطائرة. وكانت سلمى تهم بالقيام ومشعل جاءنا والصديق خلفه قال "لن تستطيعوا أن تسافروا اليوم" استغربت وسألته "ما الذي حصل" قال "لا شيء.. سأحكي لك فيما بعد" قلتُ "ما الأمر.. الشنط طلعت الطائرة" قال الصديق "لا إنها موجودة بالمطار.. لم تطلع الطائرة" قلت وأنا واقف معهما اشرحوا لي ما الأمر.." قال مشعل "يبدو أن هناك أمرا بمنعك من السفر" بهت وجه سلمى وجلست خائرة على المقعد ومحمد ينظر لنا بإمعان وترقب قلتُ "أنا ممنوع من السفر" قال الصديق "لابد من مراجعة الجوازات.. لا ندري ما السبب.. نحن في المطار لا نعرف.. إن شاء الله يوم أو يومان.. ربما كان هناك خطأ في الأسماء.. أو تشابه هذا يحدث أحيانا مع الأسف ويسبب لنا إحراجا كبيرا لكن ما باليد حيلة".

ركبنا سيارة مشعل. أنا في الأمام وسلمى ومحمد في المقعد الخلفي. قلت لمشعل "أريد أن تتصل بالأخ عبد اللطيف" قال "لقد أبلغتُ عبد الله بالخبر.. وهو سيتصل بعبد اللطيف". جلس معي مشعل في البيت ومحمد بجانبي قلت "يا مشعل لقد سمعت من الأعرج أنه ليس أنا.." قال مشعل "لكن لابد أن تعرف السلطة ذلك.. أعطنا اليوم أو غدا لتوضيح الأمر" قلت "معقول.. لا أعمل ولا أسافر.. بسبب ضرب الأعرج" كان مشعل ينظر إليّ مشفقا وسلمى تطل علينا بين الحين والآخر وتقول "لا بأس ننتظر يومين أو ثلاثة" قلت "اليوم الثلاثاء.. يعني سننتظر حتى السبت أو ربما الأحد أو ربما الإثنين.." قال مشعل "لابد من الانتظار. المهم ستأتي مساءً للمجلس. سيكون عند الأخ عبد اللطيف معلومات. أكيد أنه عرف بما قال الأعرج.." وسلمى عادت لي قالت: قلت لمشعل إنك لا تأكل وعندك برد. أنت لديك حمى يا فيصل. البارحة كنت تعرق وتتأوه تأوهات حادة وبصوت مرتفع. أنا قلت لمشعل الأفضل أن تسافر.

في الظهيرة لم أنم ولم أستطع أن آكل الغداء، وسلمى تنظر لي بأسًى. صليتُ العصر في المسجد وأطلت الدعاء.. أن يرحمني أرحم الراحمين.. أن يغفر لي إن كنت قد أخطأت.. أن يعطيني القوة لقول الحق.. وتذكرت الرسول الكريم ومقاومته للظلم والطغيان وصبره على المكروه ومعاناته.. وأكثرت من الصلاة عليه.. وتمنيت أن أكون قويا مثله وأن أصبر على المكروه".

ذهبت للمجلس في منزل الأخ عبد اللطيف كالمعتاد بعد صلاة المغرب. وكان الإخوان ينظرون لي بتبصر وفي عيونهم دهشة وعطف وتساؤلات مخيفة. جلس خالد بجانبي قال "الأخ عبد اللطيف سأل عن الموضوع. سوف تظهر الحقائق. لست أنت المقصود. يريدون فقط أن يعرفوا أين ذهب أحمد" قلت له هامسا "لكنني لا أعرف" قال "صحيح" الأخ عبد اللطيف يقترح عليك أن تكلم وزير التقوى والإصلاح سيأتي بعد قليل.. بعد صلاة العشاء كالمعتاد.. تعرف هو المسئول عن الأمور الدينية.. هو المسئول.. اشرح له الموضوع" قلت "أي موضوع" قال "اشرح له كل ما حدث وسيساعدك".

دخل الوزير وقمنا جميعا احتراما له وجلس بجانب عبد اللطيف كالمعتاد وهما يتكلمان كالمعتاد وأنا أغلي. عبد اللطيف كان واجما بعض الشيء وإن كان يخفي ما بداخله" والوزير كان بين الحين والآخر يلقي نظرة علي. وحين قام الوزير للخروج تبعته وعند الباب قلت له "أريد أن أحدثك بموضوع شخصي" نظر إلي نظرة تعجرف قال "عبد اللطيف أخبرني بذلك.. غدا الأربعاء سأكون مشغولا في النهار. بعد صلاة المغرب سأنتظرك في بيتي" قلت "شكرا" وأحسست أن في نظرته استعلاء. تبعته مودعا حتى سيارته. ضخم كالفيل وعباءته السوداء على كتفه مثل خيمة كبيرة. أسير وراءه مودعا حتى باب سيارته. ركب السيارة. في المقعد الأمامي. دون أن ينظر إلي. دون أن يلاحظ أنني وراءه جئت مودعا. وربما لاحظ وقوفي بجانب باب سيارته لكنه تعمد ألا يلاحظ.

ما عدت للمجلس. وقفت غاضبا. وامتلأ فمي لأول مرة في حياتي بمجموعة شتائم لم ترد في مخيلتي من قبل. مجموعة من الكلمات السيئة والشوارعية. لم أنطقها طبعا. ظل لساني نظيفا. لكنها كانت في فمي. ركبت سيارتي وسرت نحو البيت. الأنوار تهتز أمام عيني. والطريق هو الطريق لكنني غير متأكد أو غير مبال. ساقاي ترتجفان. برودة شديدة في جسدي. في رقبتي عرق. برد. برد شديد. وعيناي مبتلتان. الأنوار تتماوج. وإشارة المرور الحمراء قتلتني وأنا أنتظر.

أوقفت السيارة داخل جراج البيت. ودخلت مبكرا للبيت على غير العادة وسمعني محمد فجاء راكضا وسلمى نظرت إليّ مرتجفا. قلت "بردان" وقبل أن أقع أمسكتْ ظهري واقتادتني لغرفة النوم وساعدتني على دخول الفراش. هي ومحمد يلمسان جبهتي. حار مثل النار. والعرق يتصبب وأنا بردان. ومحمد يركض هنا وهناك يجلب فوطا و FECKS وماءً حسب تعليمات الوالدة. وأختي حصه لا تكف عن الاتصال واعطاء النصائح لسلمى.

في العظام. البرد في العظام. أجلستني سلمى قليلا وغيرت ملابسي الرطبة من العرق. وجاء طبيب لم ألاحظ ما قال أو قلت. وأعطاني حقنة. وسلمى زادت الأغطية فوقي. ورحت في سبات عميق. أهذي. دثروني دثروني. أهذي. زملوني زملوني. أهذي. أطير في السماء الواحدة تلو الأخرى.

سبع سماوات. زرقاء وخضراء وبنفسجية وذهبية وفضية، ولون جديد لم أعرفه من قبل. لون جديد ليس له اسم في ذاكرتي، وسماء حمراء. أشق السماء. فوق. فوق الضاحية. وفوق بولدر. وأعود للضاحية. قطع حديد ملتهبة تتطاير يمينا وشمالا. محمود في الصغر يهرول ونحن وراءه. قرون وعلٍ بحري أسماك بزعانف قرمزية. "دثروني دثروني" جبال أفغانستان يتطاير منها الشرر. ناصر وأحمد وراء مدافع كبيرة لها فوهات غريبة مثل عيون القطط السوداء تطلق النار في نفس الوقت من العينين. وضجيج جهنمي في أذني ومع ذلك أنا أطير بين السماوات في منطاد واسع يقوده ربان يلبس نظارات عريضة وكاب أزرق لا يسألني أين أريد. ولحق بي ابني محمد في المنطاد. وزوجتي سلمى في المنطاد.وزهرة. وأكلنا عشاء فخما في المنطاد. والهواء يلفحنا بقوة دون أن يشوينا. الفجر كالنهر.. والنخيل.. تثرثر.. ألثمها وشعرها يتطاير في السماء القرمزية، سماء بلا لون وهواء بارد يهز المنطاد وأطفال مثل الملائكة بأجنحة ملونة مزركشة يأتون بالطيبات لنا في تسارع كهدير القطار.. برق يخطف الأبصار وألثمها في الرقبة.. وزهرة تشد ساقي ومحمد خائفاً. وأنا أقبل رقبتها وشعرها يتطاير. رأيت الوزير ضخما مثل الفيل. وصادق يترنح يسألونه أين فيروز. والحجي نظير يداه مسامير "ستذهب للجنة يا فيصل". وسلمى تشدني بيديها كي لا أقع من المنطاد.

رأيت أبي داخلاً المنطاد. قبّل محمد ورفع زهرة على كتفه. قال ما لكم تخافون الهواء والنجوم والشمس الحارقة. متلثماً يغطي وجهه بكوفية قطنية رمادية. أنا بدوي. أصلي بدوي. حضري ولدت في مدينة وعملت بالهند وتعلمت الانجليزية والأوردية كما تعلمون لكنني بدوي الطباع. الصحراء في قلبي. المشي الطويل في الليل. قهوة الفجر. رؤية النجوم. أنظر إلى اللامحدود. لا نهاية للعالم للبصر لا تساع القلب وحدقة العين وللنسيم مثلما هنا في المنطاد فقط هنا لا أسمع صوت القدم تلو الأخرى تضرب الأرض. الصحراء.. حيث لا صوت سوى صوت قدميك تضرب بالأرض. في الليل نسيم والنجوم والسماء فوقنا. وإن طلع القمر يتنور الكون. تفتح عينيك وتلقي الكوفية على كتفك والخيال يشتعل، عجب العجاب.. لا حدود  لامتداد البصر وانطلاق الخيال. الصحراء. في النهار والليل لا حدود للأفق اللانهائي. تغمض عينيك تحميهما من عصف الرمال المتناثرة. لا أحد. لا صوت سوى الهواء ونعلاك تضربان بالأرض. راحة البال. "في البادية يا فيصل، يقول وهو يحتضن زهرة، الجوع والشمس والرمال لكن الحرة لا تأكل بفخذيها". قبّلت رأسه ومضى.

 

(7)

بعد صلاة المغرب توجه فيصل إلى منزل وزير التقوى والإصلاح. لا حراس عند الباب. الباب واسع كبير تدخل منه السيارة وبجانبه باب صغير من الخشب المزخرف لدخول البشر. ذاك النهار. نهار الأربعاء. فيصل لم يتغد جيدا. في العاشرة صباحا أفاق من نومه والعرق يتصبب من جسده. أخذ حماما. شرب شايا بالحليب. ولم يأكل شيئا بالفطور. كان يستعد لمقابلة الوزير. تلك الرؤى والكوابيس في الليل تتراءى له في النهار. ولم يأكل كثيراً في الغداء شوربة ورز أبيض بالروب ولم ينم في الظهيرة. أهو في حلم. أما زال في حلم. "الحرة لا تأكل بفخذيها يقول والدي سعد بن كعب الناصر" بعد صلاة المغرب أوقف سيارته عند باب منزل الوزير. دق الجرس وجاءه خادم يعرف بمقدمه أخذه إلى صالة الاستقبال. واسعة جدا أكثر من عشرين مترا طولا وعرضا. والحيطان مزينة بزجاج مزخرف ونوافذ شرقية طويلة خلفها إنارة خفيفة وفي صدر القاعة كتابة واضحة بخط النسخ ﴿إنما يخشى الله من عباده العلماء﴾ وفي الجهة المقابلة بنفس الخط ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر﴾. دخل الوزير من باب جانبي. مثل الفيل في حجمه ومشيه. قام فيصل احتراما. مد الوزير يده ليصافحة. يده يد فيل. الوجه عريض أنف مستقيم عينان واسعتان وجبهته عريضة. لو لم يكن الوزير بهذه الضخامة لعُدَّ جميلا. كل ملامحه الأنف والفم والجبهة كلها أنيقة متناسقة وناعمة. فقط حجمه أكبر من المعتاد.

قال الوزير الغرفة هنا كبيرة تعال للمكتبة نكون أقرب لبعض ونسمع أحسن. هنا يشعر المرء بالبرودة. ثم نظر الوزير لفيصل من طرف عين. "ماذا بك.. أراك شاحبا" قال فيصل "عندي برد" قال الوزير وهو يسير نحو المكتبة دون أن يلتفت نحوه "ما كان يجب عليك أن تأتي.. الصحة هي الأهم. يمكن أن نؤجل حديثنا لوقت آخر" شعر فيصل بالإذلال واستمر الوزير قائلاً "ها أنا قد وصلت ويمكن أن نتحدث.. لا بأس.. لا توجد مشكلة. عندي موعد هام.. لكن موضوعك يهمني أيضاً" فيصل كره الأسلوب والمنة.

دخلا المكتبة. الشكل مثمن وقبة عالية مغطاة بزجاج معشق. قبة من دورين. قبة فوقها قبة. وكتابات قرآنية "وجادلهم بالتي هي أحسن" وأخرى "وأمرهم شورى بينهم" قال الوزير "ظهري يوجعني سأتمدد على الأرض. مثل بعير مدَّ رجليه الضخمتين على الأرض واستند على مسندين كبيرين وضع كتفه عليهما. يحلق شاربه. في عينيه كحل أو هكذا رآه فيصل من قريب. حواجبه دقيقة. وجهه باسم. "تعال يا فيصل اجلس هنا قربي حتى أسمعك"، جلس فيصل على الأرض في مقابله. بدأ الوزير "أعندك مشكلة يا فيصل؟" فيصل كان يحدق بالوزير وأجابه على الفور بنبرة واضحة. "أنت عندك مشاكل"

 ذهل الوزير واعتدل في جلسته. وضع المسندين خلف ظهره وتربع مُرَكِّزا النظر لفيصل ومتربعا. قال وهو يحدق في وجه فيصل مستفزاً. "وأنت جئت هنا لحل مشاكلي"؟ قال فيصل بثقة "إن شاء الله" جلس الوزير على مقعدته ووضع كفيه على الأرض مستندا عليهما وقال بتحد واستخفاف "ابدأ ما هي المشاكل التي تريد حلها" قال فيصل "الاستبداد" قال الوزير "الاستبداد؟" قال فيصل. "معالي الوزير أنت تعرف أن الاستبداد يولد الاستبداد. يولد أمة خاضعة ذليلة خائفة متملقة منافقة.. معالي الوزير الاستبداد السياسي يتولد من الاستبداد الديني". ضحك الوزير ساخرا "يتولد من الديني؟" قال فيصل "الكلمات ليست مهمة أنت فهمت قصدي.. ففكر معالي الوزير وساعد على إيقاف الظلم" قال الوزير "عرفت قصدك.. أين رأيت الاستبداد؟ الشرطة يريدون معرفة مكان أحمد.. وأخوك عبد اللطيف طلب مني أن أساعدك. وإذا عاونتني ساعدتك.. إن كنت تعرف مكان أحمد فبلغ المختصين به" غضب فيصل غضبا شديدا وزاغت عيناه "أمن أجل هذا تعتقد أني أتيت لك؟" قال الوزير "إذن قل لي لماذا أتيت" قال فيصل "قلت لك.. أو لا تسمع أنت" قال الوزير "فيصل.. لا ترفع صوتك هنا أنت في بيتي.. وأعرفك صاحب مشاكل ولكنك الآن في بيتي فلا ترفع صوتك.. أنت أتيت لي. أنت طلبت ذلك. أنا لم أستدعك. إكراما لصديقي وزميلي وأخي عبد اللطيف وافقت على مقابلتك. أنا أعرف أنك صاحب مشاكل. صاحب المشاكل. فلا ترفع صوتك أمامي".

قال فيصل: معتذراً لم يكن ذلك قصدي.. لم أرد أن أرفع صوتي.. أأنا صاحب مشاكل يا معالي الوزير! حين أتحدث عن الظلم والاستبداد أكون صاحب مشاكل. لقد رأيته يقتل أمام عيني يا معالي الوزير. رجل بريء لديه عائلة يصل الفقراء والمساكين.

قال الوزير: تقصد محمود؟

قال فيصل: نعم محمود.. هذا ظلم..

قال الوزير: صحيح. ربما يكون محمود مظلوما.. الله أعلم.. 

معالي الوزير: هذا ما أقوله أنا.. كيف نبتعد عن هذه الفتنة.. مشكلة قتل الأبرياء. هل تعرف أني كان يمكن أن أكون متهما مارقا مجرما زنديقا بكلمات سخيفة من أحد الموقوفين.. كلمات خوف، كلمات جبن، من مسكين أعرج يريد أن ينجو بنفسه فقط.. يمكن أن يقول أي شيء يريدونه.. ضربوه وقالوا له قل فيصل.. يقول لهم أحمد.. يقولون فيصل.. تصور معالي الوزير كان يمكن أن أكون الآن في السجن. أو أكون مقتولا. تصور...

قال الوزير باستعلاء: الحمد لله أنت لست في السجن أنت في بيتي.. في منزلي.. الله حماك.. أنت هنا الآن ألا تحمد ربك لأن لك عائلة معروفة تحميك.

صرخ فيصل: والذين لا يصلون إلى بيتك ليس لهم حماية. هل تقول إن الله لا يحميهم، لأنهم لا يصلون إلى بيتك.. ليس عندهم أخ مثل عبد اللطيف. ليس لهم مثل عائلتي.

قام الوزير من جلسته وتقدم نحو المكتب ودق الجرس ثم نادى من جهاز الاتصال الداخلي بالخدم.. أعطونا قهوة.. وأعطونا معها حلويات أو فواكه.. ثم استدار نحو فيصل.. ماذا تفضل؟ ودون أن ينتظر ردا من فيصل واصل الكلام للخدم: حلويات وفواكه واستدار نحو فيصل: تعال اجلس على المقعد.. الظاهر أن الكلام معك سيطول. أنت شاب صالح. أنا أعرف ذلك.. وعبد اللطيف أخ وصديق.. أكثر من أخ.. أريد مساعدتك.. هل تفهمني.. هل تفهم ما أقول، وارتفع صوته قليلا وجحظت عيناه - سنساعدك.. لكن عليك أن تعرف أنك صاحب مشاكل.. في أمريكا وهنا.. ولولا احترام الجميع لأسرتك لما كنت هنا الآن. لما كنت في أي مكان.

مبهورًا جلس فيصل على مقعد، والوزير استدار حول المكتب وجلس وجها لوجه مقابل فيصل.

قال فيصل: في أمريكا..!

قال الوزير: نعم في أمريكا.. حين كنت طالبا هناك..

قال فيصل: لقد عدت من الدراسة منذ أكثر من عشر سنوات

قال الوزير حاسما: وكنت منذ ذلك الحين مشاغبا...

قال فيصل : أنا مشاغب؟

قال الوزير: تاريخك معروف

قال فيصل: كلنا لنا تاريخ.. ماذا فعلت أنا بأمريكا..؟

قال الوزير: أنت تعرف ماذا فعلت

قال فيصل: إذن أنت تحاكمني

قال الوزير: أريد أن أساعدك.. أريدك أن تفهم أنك صاحب مشاكل.. وتعرف جيداً إننا نعرفك. ما الذي دعاك لذاك النقاش عن المحرقة مع عميد الكلية..

قال فيصل: وماذا أيضا؟

نظر له الوزير بحدة: وتلك القصة في ندوة المثليين.. والشيك الذي أعطاه لك الأمير فأعطيته لفتاة تافهة

قال فيصل: وماذا أيضا؟

قال الوزير: أنت تعرف أحسن مني.. الاجتماعات مع شلة المتنطعين.. ألم تفقه قول رسول الله "هلك المتنطعون"

قال فيصل: نحن المتنطعون؟

قال الوزير: الله قال في كتابه "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" نحن العلماء أولي الأمر.. نحن نتجنب الفتنة والمتنطعون يطلبونها.. دماء المسلمين في رقابهم. صديقك محمود قد يكون مظلوما.. لكنه كان لا يفرق بين الصالحين والمتنطعين.. هذا جزاؤه. فقره الفكري.. لا يستطيع أن يفرق بين محبي الخير ومثيري الفتن.

قال فيصل: معالي الوزير أنت تخلط الأمور بطريقة تريد أن تبرر بها ما تفعلون.

احتدَّ الوزير ثانية: أفعل ما أعتقد أنه صحيح. ماذا تظن نفسك؟ مصلح الشرق؟ المنقذ من الشرور. مقاوم الاستبداد. أنت صاحب مشاكل فقط وإلا قل لي مالك وهذا الحديث مع عميد الكلية عن المحرقة.. أنت ما شأنك بهذا الأمر. المسيحيون فعلوها باليهود ما شأننا نحن بهذا الأمر. لماذا تريد أن تدخل به. المحرقة والحديث عنها وسيلة لتكفير المسيحيين عما فعلوه باليهود ليس فقط في أيام النازي بل في كل تاريخهم. ما شأننا نحن بهذا الأمر. دعهم يريحوا ضميرهم. من الأفضل ألا يتكرر ذلك أبدا أبدًا. يقولون ستة ملايين طيب هذا موضوع مال، كلما زاد العدد زاد التعويض. ما لنا نحن بالتعويض. المحرقة مثل الاستعمار مثل استعباد الأفارقة.. الرقيق الذين بنوا أمريكا.. كلها نتيجة التعصب.. كره الغير.. استعباد الآخرين.. والأهم يا فيصل أن كلها دولار.. استخدام الآدميين بأجر أرخص للزراعة، للبناء، لاختبارات المعامل. نحن نعرف ذلك أكثر منك ونعرف أكثر وأكثر.. لسنا طرفا في هذا الموضوع.. أنتم المتنطعون تريدون إدخالنا بهذا الموضوع وهو لا يخصنا. نحن يا أبني حريصون جداً أن لا ندخل في هذا الأمر بين اليهود والغرب. عندنا كانوا آمنين. نعرف أن لهم وظيفة في منطقتنا. لكنهم دائماً يوظفون. هذا تاريخهم هل تريد أن تغير التاريخ. هم يقولون اسرائيل حاملة طائرات على الأرض. هي كذلك.

قال فيصل: أنا كنت أتحدث مع السيد شكت عن فلسطين.. عن الفلسطينيين الذين...

قاطعه الوزير: نحن نساعد الفلسطينيين أكثر منك ومن المتنطعين.. ضميرنا مرتاح ورؤيتنا أوضح.. الأمير يريد بناء الدولة.. نريد أبناءنا مثلك أن يبنوا البلاد.. أن يعمروها بالعلم والخير.. لا بالقنابل والسكاكين. ونحن لا يزايد أحد علينا في موضوع فلسطين.. نحن لسنا أغبياء لنوقف بناء البلاد حتى ينتهي موضوع فلسطين الذي سيطول طالما النفط موجود وتجار الأسلحة يعمرون. والمسيحيون لم يستوعبوا اليهود بصورة كاملة بعد. ها هم قد بدءوا لكن الأمر سيطول" أن يتحول هذا الدين الإثني إلى جزء من الديانة المسيحية. آخر الديانات الإثنية. لقد سلكوا طريق  استيعاب اليهودية ضمن المسيحية. تبرئة الفاتيكان لليهود من دم المسيح. المذكور – كتابة - أنهم حاكموه وجرموه وصلبوه. أنها بداية طريق. ستطول، وسيتعذب الفلسطينيون أكثر خلالها. لكنها بداية طيبة. العهد الجديد يا فيصل أحسن من القديم وألف مرة أحسن من تعاليم التلمود، أو تلك الكتابات الأسطورية.. كلها قتل وتنكيل. دع الكنيسة تستوعبهم تدريجياً. نعم على حساب دماء الفلسطينيين وممتلكاتهم. لكن أنظر للصورة بشكل أشمل. ذات يوم لن تكون حاجة لهذه الوظيفة. لهذا الدين الأثني. لقد أصدر الفاتيكان براءة اليهود. هذا جيد. هذه بداية جيدة ذات يوم لن يكون هناك حاجة لهذه الوظيفة. لحاملة الطائرات على أرض الفلسطينية وستكون اليهودية جزء من المسيحية. وكلاهما أهل الكتاب الذي جاء محمداً ليكمله. أنت يا فيصل لا تنظر لأبعد من طرف أنفك.

كان فيصل يستمع مندهشا لخطاب الوزير الطويل والمثير. نظر له الوزير نظرة استقصاء.

قال الوزير لفيصل.. كل.. هذا من فضل ربي.. هذه حلويات من فضل ربي كُلْ، وقل الحمد لله.. أنتم بخير ونحن بخير.. البلاد في نعمة كبيرة.. أنت لا تعرف كيف كان آباؤنا يعانون من شظف العيش.. البحر والصحاري والجهل والأمراض.. أنت لا تعرف ذلك.. أنت من جيل مُرفَّهٍ.. جيل سعيد. جيل المكيفات والفضائيات.. جيل اللغو والانتقاد والمهاترات.

توقف فيصل عن الأكل نظر للوزير: معالي الوزير.. لا داعي لأن تزيد.. أعرف ما تريد قوله.. كان الأفضل لكم ألا نتعلم. أليس كذلك.. كان من الأفضل أن نبقى جهلة فقراء أذلاء. أعرف كيف تفكر.. أنت لا تسمع إلا نفسك.. لا تفقه بصراحة إلا كلامك.. أنتم أولي الأمر ونحن المتنطعون.. لنا الهلاك إذن..

نظر الوزير شزرًا بحدة: سنرى من ينتصر... تريدون أخذ الدين.. أنتم تأخذون الدين منا.. هيهات يا فيصل.. سنرى من ينتصر..

قال فيصل: تعني لا خيار.. لا بديل..

قال الوزير: إن شئت فنحن لها.. ماذا تظننا أرامل بلا حول. لن نسمح للمتنطعين باسم الدين أن يفتنوا البلاد.. هم جعلونا قساة باطشين..

قال فيصل: كنتم قساة باطشين قبل ذلك..

قال الوزير: وكنا نسوس الناس بالمودة.. ونصلح قدر المستطاع.. لكن منذ أن حل التفرنج عندنا ما عدنا كما كنا.. الفرنجة يقولون أفكارا عظيمة والفعل عكس القول..انظر ماذا حل بفلسطين.. الفعل دوما عكس القول. هذه نهاية ديمقراطيتهم.. سوف ترى. لقد نأوا عن العدل. هؤلاء الذين تريدون تقليدهم... عندهم الأمر عادي. شمشون قتل ثمانين ألف فلسطيني. أتدري لم يتباهون بذلك؟ ليبرروا ذبح الناس الآن. وفي أمريكا وأستراليا أزالوا السكان المحليين. نظفوا المكان باسم الفضيلة وباسم الإنسانية وزرع الدين الجديد. هؤلاء هم الذين تريدون تقليدهم. الكذابون سطوا على الفكر اليوناني وقالوا هذا أثرنا واستعمروا اليونانيون وتركوهم متحفا وآثارًا وفقرًا. تريدون تقليد الكذابين. السراق.

قال فيصل: معالي الوزير عدت تخلط الأمور وتصنفها على مزاجك...

قال الوزير: وماذا في ذلك.. على مزاجي طبعًا.. أتريدني أتكلم على مزاجك!

قال فيصل: إذن كيف تسمعني؟

قال الوزير: لقد سمعت الكثير من غيرك.. وكل قصصك نحن نعرفها.. ذهبت لحفلة المثليين... لماذا..؟ صاحب مشاكل أنت.. كلكم أصحاب مشاكل. وطالما فتحت الموضوع إذن لتسمعني جيدا

هب فيصل واقفًا: وماذا يغيظك - وأنت وزير للدولة في شئون الدين - من موقفي هذا

قال الوزير: أسمع فيصل. أنا لست رجل دين. أنا رجل سياسة أدارة وزارة التقوى والأصلاح. لست من علماء الدين. أنا خريج الحقوق وليس الشريعة. وما يغيظني أنك صاحب مشاكل ولا تستطيع أن تعترف بذلك بل تخشى أن تعترف.. ما دخلك أنت بالدين أو بالمحرقة أو المثليين. رجل فاضل توزع الصدقات وتدرس وتبحث في مركز اللغات بالخارجية. ومترجم خاص لأخيك.. ماذا تريد أيضاً؟.

توقف فيصل برهة عن الكلام.. ثم رفع رأسه وقال للوزير قصد استفزازه.

- أنت الآن تتحدث عن مثنى

ضرب الوزير يده على الطاولة: ابني..!!؟

قال فيصل: نعم

ارتفع صوت الوزير: وما دخلك أنت بشأنه

قال فيصل: إنه معروف.. سيارته مثل سيارتي.. ولقد رأيت أفرادا كثيرين يتبعونني يظنونني هو؟؟ ابنك مثنى.. معالي الوزير أصلحه إنه متهتك..

صرخ به الوزير: يا فيصل لا تكن انتهازيا ولن تستفزني بهذه الجسارة وهذا اللؤم.. هذا ابني.. تريدني أن أخنقه! الله خلقهم والله يصلحهم وهو يحاسبهم. ما شأنك أنت. الله يغفر كل الذنوب. كل الذنوب إلا أن يشرك به. ماذا تريد. تريد من الدولة؟ أن تسجنهم؟ إذا لأقاموا الدنيا علينا ضد حقوق الإنسان. الحرية الفردية. الداء الذي لا براء منه. الحرية الفردية. العلمانية. الحمد لله ليس لدينا أكليروس ولا سلطة كنيسة.. ولا رهبنة.. ما لله لله وما لقيصر لقيصر.. هكذا فصلوا الدين عن البشر.. هكذا استعمرونا.. ما لقيصر لقيصر دون عدل أو نقاء. أخذوا كلمات المسيح دون مضمونها. هذه أفكارهم. تريد عدلا في فلسطين.. ما لقيصر لقيصر.. لماذا العدل طالما ما لقيصر لقيصر. فلسطين لقيصر وإن كانت مع ذلك لله فهذا أكثر راحة لضميرهم. شد الوزير الطاولة بيده ومد يده للسكين أمسك تفاحة يقشرها وفي عينيه شرر "المثليين. أول مرة تسمع به. ألم تقرأ أبو نواس وغيره. ما الجديد في هذا الموضوع. تريد استفزازي في بيتي في الحديث عن ديني؟". لؤمكم واستفزازك الشخصي لي حقير في نظري. أنت من تكون.

قام فيصل من مقعده: معالي الوزير.. كيف ستساعدني.. أنا متعب. لم أنم البارحة. أريد أن أسافر..

نظر له الوزير بعمق: نريد معلوماتك عن أحمد أين ذهب..

صرخ به فيصل: أنت.. وزير التقوى والإصلاح.. هذه مسألة تتعلق بالداخلية.. أأنت الشرطة؟

وقف الوزير غاضبا: نحن وهم نحفظ النظام.. هدفنا واحد.

صرخ به فيصل: هذا هو الاستبداد.

مضى فيصل نحو الباب والوزير صرخ به: ابحث عمن يساعدك. سأرى إن سافرت.

أخيرا عثر فيصل على سيارته الواقفة قرب بيت الوزير. بجانبها سيارة مثلها. كان مرتبكا ومفتاح باب السيارة لا يدخل بسهولة لفتح أي باب من أبوابها. وأدخل مرات مشغل السيارة حتى ركن في مكانه، ودارت الماكينة ومضى يجوب بالسيارة الشوارع. كان سيذهب للمجلس ولم يذهب، فكر أن ينطلق نحو الضاحية ولم يذهب هناك أيضا.. بعد ساعة أو أكثر عاد للبيت خائر القوى. سألته سلمى "ما لعينيك حمراوتين" احتضن محمدا وعاد البرد يهز جسده من جديد وهو يحتضن محمدا. محمد يقول "بابا جسمك حار" أدخلوه السرير. وأتت له سلمى بشوربة دجاج. تساعده في شربها ومحمد يمسح فمه وذقنه. لم ينم.. "دثروني" وسلمى تضع الأغطية عليه وعاد يهذي كما في الليلة السابقة. في الصباح قالت له سلمى "مشعل اتصل يقول أخوك عبد اللطيف يريد أن يراك بعد صلاة العصر. قبل المغرب" كان جائعا. وأكل طعام الفطور مع سلمى ومحمد. فطور كبير متعدد الأنواع. أريد قوانص دجاج.. وبيض بالبصل والطماطم.. أكلَ كثيرا. أكل زيتونا. وشرب القهوة. لم يتحدث كثيرا. كان واجما. متعبًا. سأل سلمى "أريد زهرة.. لن نسافر.. ربما لن نسافر.. هيا نأخذ محمدا وزهرة للسوق ولملاعب الأطفال.. دعونا نتنزه." أخذ محمدا معه لحمام السباحة المغطى المكيف. وأخذ يسبح مرات عديدة بسرعة وقوة. ومحمد وزهرة يسبحان. "تعالي اسبحي معنا" ونزلت معهم سلمى حمام السباحة. سلمى تنظر إليه بألم وشفقة وترقب. تنظر إليه يمسح بالفوطة ظهر زهرة ووجهها. يساعد محمد في تجفيف شعره. مضوا للسوق. اشتروا لزهرة حصانا هزازا. ومحمد توقف عند ألعاب الكومبيوتر واشترى مجموعة جديدة من ألعاب نايتندوا. تغدوا في مطعم تايلندي في مجمع البركة. وترك للجارسون بقية الحساب قالت سلمى "تركت له الكثير.. دعني آخذ الباقي" أخذها من يدها وألقى الباقي على الطاولة وهو يردد

 

وأنّى شئت يا طرقي فكوني       أداة أو نجاة أو هلاكا

وسلمى تقول له "إلا الهلاك" نظر لها نظرة حنق. ابتسم وأمسك يدها وسارا يتقدمهما الأطفال وهو يقول "الله يستر.. الله يستر". وحصه تتصل وتتصل سلمى.

بعد العصر ذهب لزيارة أخيه عبد اللطيف الذي كان ينتظره بفارغ الصبر في المجلس. بدأ عبد اللطيف يأخذ بيده. "سمعت أن البرد أصابك.. سلامتك" قال فيصل "الحمد لله.. أخذت اليوم العائلة للسوق.. وتغديتُ كثيرا.. وسبحتُ في الصباح. أشعر الآن أن البرودة زالت. قال عبد اللطيف "الحمد لله" وجلسا على كرسيين متقابلين. بدأ عبد اللطيف الكلام "فهمت أنك انزعجت من نقل الصدقات لعدنان.. أولا أريدك أن تعرف أنني وافقت على هذا الرأي لكن لم أكن البادئ به.. كل الإخوان رأوا من الأفضل أن تبتعد قليلا.. لا أحد يريد تعقيدات أكثر. أنا قررت أن تترك العمل بالوزارة بعض الوقت أيضا لتجنب أي تعقيدات. أنا أمرتُ بذلك لا غيري. أما منع السفر فهو سخيف لم أعرف به إلا حين أبلغني مشعل به. اتصلتُ أمس بوكيل الداخلية فقال لي ليس له علم بالموضوع... الأمر سيسوى خلال الأسبوع القادم. نحن لا نتدخل بعمل وإجراءات الوزارات الأخرى."

قام فيصل من مقعده وقبل جبين أخيه عبد اللطيف "أنا أعرف جيدا.. أعرف جيدا أنك لن تعمل أي شيء إلا في مصلحة إخوانك.. مصلحة العائلة" قال عبد اللطيف وهو يبعده بيديه "أنت عزيز يا فيصل.. ناصر وأحمد خذلوني. أنت عزيز يا فيصل.. لقد خذلوني.. أنت عزيز يا فيصل على أبيك وعلي وأنا وعلى الوالده وعلى حصه. طوال الوقت يوصوني بك. لا تتخيل كم يحبونك وكم يخافون عليك من أي سوء". قال فيصل "لا أحد يريد أن يخذلك.. أنت الأخ الكريم وذو الفضل الكبير وأنت الوالد.. لا أحد يريد أن يخذلك" وضع عبد اللطيف يده على صدغه متفرسا في وجه فيصل "أريدك ألا تخذلني إن كنت تعرف أين أحمد أخبرنا. اليوم اتصل بي الأمير أكثم أعز الأصدقاء وطلب مني أن تساعد الدولة".

وضع فيصل وجهه بين يديه "ما الذي أفعله أنا بهذا الأمر.. صدقني لا أعرف.. والله العظيم لا أعرف.." عبد اللطيف يتفرس به "وأنا ماذا أفعل.. أخوان.. اثنان.. من عائلتي..اثنان يخرجان عن الطاعة.. أنا ماذا أفعل" قال فيصل "إنهم رجال. لم يسرقوا.. لم يهتكوا عرضا. لم يخونوا أحدا" نظر إليه عبد اللطيف متبصرا "لا.. هنا نحن نختلف" قال له فيصل "أليس لهم رأي..! أليسوا أحرارا. أليس لهم شأن بمصيرهم.." عبد اللطيف كان يتفحصه جيدا "أحرار ولكن" قال فيصل "لا أحد يريد أن يخذلك يا عبد اللطيف.. صدقني"

رن جرس التلفون. وقام عبد اللطيف ليرد عليه وفيصل يحدق في الأرض والحيطان والبرد عاوده من جديد. عاد عبد اللطيف "تفضل يا فيصل.. هذا وزير الداخلية يسأل هل لديك معلومات عن أحمد؟" هز فيصل رأسه والبرد يسري في العظام وقال ساخرا "معالي الوزير متأكد أنني سأعاونه لو كنت أعرف!" نظر له عبد اللطيف بتريث "هذا ما يتوقعه الجميع" قال لماذا يتوقع الجميع مني ذلك.. أولا دعني أقسم لك ثانية أنني لا أعرف.. لكن لو كنت أعرف ما الذي يجعلهم يتوقعون مني أن أخبر عنه.. أأنا مخبر؟ لماذا يريدون تجريمي أو خيانة نفسي.. هل لأنني صادق ومخلص.. أنا صادق ومخلص لنفسي.. لا لأحد آخر.." وارتفعت حدة صوته وهو يهز رأسه "لا لأحد آخر"

قام عبد اللطيف ثانية وتحدث برهة بالتلفون وعاد ثانية وبدا بشوشا وقال لفيصل "ما علينا.. أنت لا تعرف عنه شيئا.. هذا الموضوع انتهى.. الآن لنأتي لموضوعك.. كيف كانت مقابلتك مع وزير التقوى والإصلاح. حكى فيصل بالتفصيل الحوار الذي دار. واستوقفه عبد اللطيف "مثنى! لماذا ذكرت له ما يخص ابنه.. لماذا يا فيصل.. هذا موضوع خاص به واستفزاز ونحن نريده أن يساعدك" أجاب فيصل دون تردد "وهو ما الذي يعطيه الحق باستفزازي.. ألم تلاحظ أنه متعجرف.. ألم تلاحظ في كلامه أنه يحاكمني.. يسألني عن أمور أنا نسيتها.. يسأل عما قلته وفعلته في بولدر.. كل هذه السنوات وأنا هنا ليس له ما يشكوه مني.. فقط قبل أكثر من عشر سنوات يسأل لماذا ولماذا.. يريد تجريمي بأي شكل.. هذا الفيل" ضحك عبد اللطيف "الفيل.!" قال فيصل "فيل.. هذه الضخامة.. ويلقط حواجبه أيضا.. فيل بحواجب ناعمة.. وكحل.. ألم تر عينيه.. أكيد بها كحل"

وضع عبد اللطيف يده على فمه ضاحكا وقال.. "اسكت يا فيصل.. يكفي ليتني ما طلبت منه أن يساعدك" ضحك فيصل ". أول مرة أجلس معه عن قرب. أول مرة أرى وجهه عن قرب.. أول مرة ألاحظ ضخامة كتفه ويديه.." قال عبد اللطيف ملاطفًا ومغيرًا لغة الحديث "في المدرسة كنا نسميه البعير.. يلعب معنا السلة ظهره كالسنام وساقاه كساقي نعامة" .. "المهم هو لن يساعدك الآن" قال فيصل "لا أدري.. لا أظن" سأله عبد اللطيف "وماذا تريد مني الآن.. ألديك الصبر لتأخذ الأمور مجراها ويتبين أنك لا تعرف مكان أحمد وعندئذ تنتهي هذه الأمور.. أم تريد مني شيئا آخر."

تردد فيصل في الإجابة.. وقال "أريد شيئا آخر.. منك أو مني شخصيا.." استغرب عبد اللطيف إجابته وأنصت بإمعان وتركيز. "أريد التحقيق في مقتل محمود.. أنا متأكد أنه بريء.. تهم باطلة.. أنا متأكد من ذلك" عبد اللطيف "أنا وأنت.. نحقق في مقتل محمود؟ ماذا تقصد يا فيصل.. يا فيصل أردناك عونا صرت فرعوناً.. أنت الآن الذي تريد أن تحقق" قال فيصل "نعم..لماذا يقتل الأبرياء.. لماذا يقتل الفقراء.. لماذا لا نُصلح الأوضاع. اذهب للضاحية لا يوجد بها طريق معبّد. مكتظة بالناس. أليست الضاحية جزءًا من هذه المدينة.. من هذه البلاد. أنت لا تسمع ولا ترى يا أخ عبد اللطيف.. أنتم تدفعون هؤلاء الأشقياء لمزيد من الشقاء. قل للأمير يمنحني أرضا أبيعها وأبني لهم الشوارع.. ومستوصفا أيضا.. أكثم صديقك.. قل لهم يمنحونني أرضا أبيعها.. أنا كما تعرف لا أريد الفلوس.. قل لهم" نظر له عبد اللطيف نظرة متفحصة وقال له "أنت ترتعد يا فيصل.. عندك حمى" قال فيصل وهو يمسح العرق من جبهته بكوفيته "نعم.. نعم عندي برد" كان عبد اللطيف قد عطس مرتين.. قال لفيصل "أظنك أعديتني.. أظن أن عندي برد أيضا". عبد اللطيف في وقفته المستقيمة ووجه الصارم البشوش يمسك بيد أحمد حتى الباب "يا أحمد عندك حمى".

عند الباب ارتمى فيصل على مقعد طويل ويديه على وجهه. توقف عبد اللطيف ونظر له "ما بك.. هل آتيك بطبيب" رفع فيصل وجهه عيناه حمراوان "أنا تعبان" جلس عبد اللطيف على نفس المقعد الطويل مبتعداً عنه قليلاً "ما بك هل أتصل بطبيب" قال فيصل "لأ.. أريد أن تفتح قلبك سأحدثك بصراحة" التفت عبد اللطيف نحوه "بصراحة؟" هل مازالت لديك صراحة أخرى" نعم نعم قال فيصل. أنتظر عبد اللطيف برهة وفيصل سأله " ومحمود؟" قال عبد اللطيف "ماذا عن محمود؟" قال فيصل "قتلوه كان بريئاً" قال عبد اللطيف واضحاً حاسماً "من دخل المطبخ لا يشكو من الدخان" قال فيصل "محمود دخل المطبخ إذاً؟ وماذا عن ناصر وأحمد" قال عبد اللطيف "وناصر وأحمد؟ ماذا يظنون إلأنني أخوهم ستغض السلطة النظر عنهم. من يحمي البلاد والأستقرار والنظام أليس الدولة أليس أجهزة الدولة. أنت يعرفون أنك برئ ولهذا حين عرفوك صرخوا بك أبتعد يا فيصل. لم يقتلوك. المحقق أتى لعندك في البيت. لم يستدعوك لمركز الشرطة" ألقى فيصل رأسه وسأل وهو يحدق بالأرض "وماذا عن الأعرج... إني خائف الآن أكثر من الأول. يمكن في أي وقت يستدعوه ليقول ما يشاؤون. يمكن أن اعتقل أو أقتل" قال عبد اللطيف بهدوء وحسم " الحقيقة أنك لم تقتل وها أنت موجود في بيت أخيك.. هذا هو الواقع. لأنك برئ أنت هنا. الشرطة تعرف اجراءاتها .. لا تقلق" قال فيصل "سامحني يا أخ عبد اللطيف أنت لا تعرف ما الخوف بوزارتين وصداقة متينة مع الأمير أكثم.. أنت محمي.. لا تعرف الخوف.. لم تعرف الخوف أبداً أبداً أنا حائر وخائف. أنا خائف" أحمر وجه عبد اللطيف واعتدل في جلسته يغلي غضباً وارتفع صوته وقال محتداً "أنا لا أعرف الخوف! بوزارتين؟ وصديقي الأمير أكثم.. أنت ماذا تعرف عن الخوف.. الأعرج يمكن يغير كلامه في أي وقت؟ هذا هو الخوف. لقد عشت الخوف طول حياتي. الخوف عليكم وعلى سمعة العائلة ورفاهية إخوتي وابنائهم. الخوف من الخظأ. الخوف من عدم رضى الأمير. الخوف من أن تصدر مني زلة لسان أو سوء تصرف غير مقصود. أحسب ألف حساب ليس للأمير فهو كريم معنا ومع والدي من قبل.. ماذا عن الحاشية. والأشاعات، والحساد، والذين يطمعون بأحدى الوزارتين. ماذا عن التغيير. الرغبة في التغيير لأي سبب أو بدون سبب. نحن في السلطة نمشي على حبل مشدود بين جبلين طول الوقت ننظر حولنا كي لا نسقط. الخوف من جفاء الأمير. من فقدان النفوذ. أن يعرف الناس أن الأمير غير راض عنك أو أنك بعيد عن السلطة. لن يسلموا عليك في الطريق. ولن يأتوا للمجلس. ستجلس فقط مع إخوانك وأضطر للتوسط لهم هنا وهناك. أنا لا أعرف الخوف يا فيصل. بدون سلطة من سيهابك. الثقة موجودة والخطأ مسموح لكن كل هذا سهل الكسر مثل عود كبريت. إذا غضب عليك الأمير مُسحت من الدفاتر. سترى الشامتين والعاطفين والذين يلومونك بحق أو بدون حق. أنا لا أعرف الخوف؟ قم حفظك الله وأذهب للطبيب. أنت تعبان جداً وتخلط الأمور.. وما طننتك يوماً ستكلمني بهذا الشكل. الحمد لله لقد حفظت عائلتي. صنتها وأخلصت للأمير. للبلاد. من غيره مسئول عن الدولة. هو المسئول الأول والأخير. ولا تقل لي أن أحداً يشعر بهذه المسئولية مثله. أنا مسئول عن عملي وعائلتي ومساعدتي كمعاون مخلص مثل أبي للأمير. هو المسئول الأول والأخير. بيده الحل والربط. كفى ناصر وأحمد.. والآن تسألني عن محمود؟ قم حفظك الله. ولا تخذلني أنت أيضاً. يكفي.. يكفي.

مضى فيصل لبيته. سلمى تنظر له متفحصة. ما عاد قادرا على أن يروي لها كل شيء. غطت جسمه بلـ FECKS وغطته جيدا. نام نوما عميقا ولم يذهب لصلاة المغرب ولا لصلاة العشاء. في العاشرة والنصف وبعد أن عرق كثيرا. قام واستحم. وشرب شايا بالحليب. وتبادل الابتسامات والنكات والتعليقات مع سلمى.. وقف أمام المرآة مستعرضا جسده، عضلاته، فحولته، مشط شعره وأوى للفراش محتضنا زوجته وهو في أوج نشوة كما في ليلة عرسه.

وفي صباح الجمعة تأهب للذهاب لصلاة الجمعة ومحمد كذلك.. قالت سلمى "لا.. لا سيذهب محمد معك اليوم للصلاة كالمعتاد" تريد أن يحكي لها محمد.. تتوجس أن هناك أمرا وراء اقتراح فيصل ألا يصحبه محمد هذه الجمعة للصلاة. بعد الصلاة وقف فيصل، وزير التقوى والاصلاح لمحه من بعيد وسمع صوته ودنا الوزير من المصلين ليسمع كلامه. والهاتف النقال في جيبه. وألقى فيصل خطبته المشهورة "أعوذ بالله من سخط الله" كما جاء في كافة مواقع الإنترنت التي صارت تكتب على هواها ما تريد.. ما قاله فيصل وما لم يقله. ولم يره أحد بعد باب المسجد. لا هو ولا ابنه محمد.