يعرض الكاتب السوداني المرموق هنا لمقال أخير للفيلسوف الفرنسي المعروف إتيان باليبار عما يدور في بلادنا، وفي بلده أيضا، من جنون الإرهاب الذي يغذي بدوره نزعات الانتقام، ويكشف كيف جعلنا الوضع الراهن رهائن لتلك الثنائية القاتلة وصراع الحضارات، ويكشف عن سبل الخروج من تلك الدوامة الجهنمية.

إتيان باليبار .. العالم في حالة حرب

كلنا رهائن .. الاِرهاب يتغذى من الجنون

حامد فضل الله

أعود من جديد الى مقالات وابحاث بعض الكتاب والصحفيين الالمان[1] التي تناقش قضايا الاِندماج ومشاكل اللاجئين، والتي سوف تتفاقم بارتفاع وتيرة القلق والخوف والغضب الشعبي بعد هجمات باريس الدموية الداعشية وانفجار الطائرة الروسية فوق سيناء المصرية. واستعرض اليوم مقال الفيلسوف الفرنسي إتيان باليبار[2] والذي نُشر في الصحيفة الاسبوعية الشهيرة دي تسايت بتاريخ 19 نوفمبر 2015[3]

يكتب باليبار، نعم نحن في حالة حرب. نحن نُهاجِم، وسوف نُهاجَم. كما هو الحال في هجمات سابقة– نأمل التنبؤ بها مستقبلا وفي وقت مبكر. نحن ندفع الثمن ونبكي موتانا. ولكن أي نوع من الحرب هي في الواقع؟ فليس من السهولة تعريفها، فهي تتكون من أنواع حروب مختلفة والتي اصبحت بمرور الزمن متداخلة وعلى ما يبدو لم يعد من الممكن الفصل بينها: حروب بين الدول (أو دول زائفة مثل داعش)؛ وحروب أهلية قومية أو عابرة للقوميات؛ وحرب على ما يسمى أو تعتبر حرب الحضارات؛ حرب مصلحة المجموعات الامبريالية؛ حرب الاديان والطوائف أو على الأقل هكذا يراد تبريرها. أنه ركود كبير، نقطة الانطلاقة هي القرن الواحد والعشرين، عندما يقارن المرء – بعد ما يتم تجاوزه – النماذج السابقة: الحرب البيلوبونيسية وحرب الثلاثين عاماً "الحرب الأهلية الأوروبية 1914 -1945". والحرب هي نتيجة التدخلات الأمريكية في الشرق الأوسط بعد 11. سبتمبر 2001 ومواصلتها من روسيا وفرنسا، من أجل اهدافهما ومصالحهما الخاصة، مما أدى الى تصعيدها. وكذلك التنافس العنيف لدول المنطقة من أجل السيطرة -  ايران، السعودية، تركيا وحتى مصر والى حد ما اسرائيل القوة النووية الوحيدة حتى الآن – تقدم لها ارضا مثالية خصبة. وتقر مع اندلاع العنف الجماعي بحسابات غير مسددة بين المُستَعْمَرات والقوى العالمية: اضطهاد الاقليات، ترسيم الحدود الاعتباطية، تأميم الثروات المعدنية، الصراع حول مناطق النفوذ وعقود الاسلحة العملاقة. وربما الأسوأ احياء شعور كراهية آلاف السنين الدينية من جديد: الانشقاقات الاسلامية، مواجهة الديانات التوحيدية أو بناء البديل العلماني. ان اسباب الحرب الدينية، وهنا ويجب ان يقال بوضوح تام، لا توجد اطلاقا في الدين نفسه. وانما تكمن دائما وراء العلاقات القمعية، الصراع على السلطة والاستراتيجيات الاقتصادية: الثراء الفاحش والفقر المدقع. ولكن عندما يسيطر رمز الدين (أو ضد الدين) يصبح العدو ملعونا والقسوة لا حدود لها. من ذلك ظهرت الوحوش الهمجية، التي تتغذى من جنون عنفها– مثل داعش وقطعها للرؤوس، وإذلال النساء واغتصابهن كجواري وتدميرها للكنوز الثقافية للبشرية.

ويشير الكاتب الى شكل أخر من البربرية، على ما يبدو أكثر "عقلانية" وحظي بالموافقة، مثل حرب الطائرات بدون طيار للرئيس أوباما (بصفته الحائز على جائزة نوبل للسلام) – بالرغم من ان المرء يعرف بأن اصابة ارهابي واحد يؤدي الى التضحية بتسعة مدنيين.

ويتابع، بان هذه الحرب المنتشرة ولا حدود لها والمتعددة الاشكال وغير المتماثلة تتخذ شعوب شاطئي البحر الأبيض المتوسط كرهينة . ان ضحايا الاِرهاب في باريس – كما من قبل – ضحايا مدريد، لندن، موسكو، تُونس، انقرة – جميعهم مع أهلهم ، هم رهائن. طالبي اللجوء او آلاف الذين ماتوا ايضا رهائن وكذلك الأكراد الذين يعيشون تحت وابل قذائف الجيش التركي رهائن. كل مواطني البلدان العربية هم رهائن – مخنوقين على قدم المساواة من إرهاب الدولة، تعصب الجهادية والقنابل الأجنبية.

نحن في حاجة إلى السلام، وليس الاِنتصار
ويقول في فقرة بعنوان: "يجب على الأمم المتحدة أن تستعيد من جديد فكرة تأسيسها "
ويتساءل، ماذا يجب القيام به؟ ويرى "علينا جميعاً ،اولا التفكير بعمق وان لا نترك الخوف والتحالف القسري وروح الانتقام تسيطر علينا". وبالطبع يجب اتخاذ كل الاِجراءات السلمية والحربية الضرورية، لإحباط الهجمات الاِرهابية ومعاقبة مرتكبيها. وفي الوقت عينه يجب مطالبة الدول الديمقراطية ان تعمل بعزيمة جادة، بمنع جرائم الكراهية ضد اولئك المواطنين، بسبب أصلهم أو عقيدتهم، وحمايتهم من الذين نصبو أنفسهم وطنيين ويجب دمغ هؤلاء كأعداء داخليين. وابعد من ذلك يجب على هذه الدول ان تلتزم بالحقوق الاساسية والتي تأسست عليها شرعيتها، وايضاً ان تحترمها ، اذا قامت بتكثيف ترتيباتها الأمنية. ونرى، كم هو صعب تحقيق ذلك، كمثال: قانون باتريوت وغوانتانامو.

ويقول، يجب علينا وضع قضية السلام في مقدمة اجندتنا، مهما كانت الصعاب. وهو يتكلم عن السلام لا على النصر، عن السلام الدائم والعادل وليس سلام الضعف أو سلام المساومة او السلام ضد الإرهاب. السلام الشجاع والمتين؛ السلام للجميع، لأولئك الذين لهم مصلحة في السلام، على الجانبين من البحر الذي يربطنا سواء فهو مهد حضارتنا وعاش صراعاتنا القومية والدينية والاستعمارية والاستعمار الجديد وما بعد الكولونيالية.

ويرى، ربما تكون هذه أوهام، لتحقيق مثل هذا الهدف، فالظروف غير مواتية وليست مشجعة ولكنه لا يرى ايضا كيف يمكن للمبادرات السياسية التي تعارض هذه الكارثة، بدون الوازع الأخلاقي، الذي يجسد ويعبر عن هذا الهدف. ويعرض ثلاثة أمثلة:

- في المقام الأول إعادة القانون الدولي، لتعزيز دور الأمم المتحدة. فسلطتها قد تم تخريبها من خلال المطالبات السيادية الأحادية، والخلط بين المهام الاِنسانية والاعتبارات الأمنية السياسية، والخضوع للنظام الرأسمالي – وبدلا من سياسة التكتلات – تتدخل سياسة المحسوبية. فالأمم المتحدة يجب ان تعود الى فكرة الأمن الجماعي ومنع الصراعات، مما يعني اصلاح أساسي للمنظمة. وهذا الاصلاح يؤدي الى وضع حد لدكتاتورية بعض القوى، التي تؤدي الى تحييد بعضها لبعض أو بالاشتراك لتحقيق ما هو الأسوأ.

- المقام الثاني يتعلق بنبض المواطنين وتجاوز العداوات الدينية والمصالح الجماعية المتضاربة –على افتراض التعبير عنها علناً. فوجهات النظر الفردية يجب ان لا تكون من المحرمات وفي الوقت عينه غير إطلاقيه، فالحقيقة بحكم التعريف لا توجد، اذا لم تكن ناجمة عن الجدال والصراع.

- المقام الثالث، الأوروبيون العلمانيون او المسيحيون يجب أن يعرفوا ، ما هو موقف المسلمين من المفهوم الديني للجهاد الذي يحتم إضفاء الشرعية على المشاريع الشمولية وأعمال العنف وكذلك تقدير امكانيتهم واستطاعتهم مقاومة ذلك داخلياً. وبالمثل يجب أن يعرف المسلمون (وغير المسلمين) جنوب البحر الأبيض المتوسط، ما هو الموقف الآن للغرب السائد سابقاً، من العنصرية ومن رِهاب الاسلام والاستعمار الجديد؟ ولكن وبصفة خاصة يجب على المغربيين والمشرقيين خلق لغة كونية جديدة، والمخاطرة بالتحدث لبعضهم البعض. أن قفل الحدود أو ترسيمها على حساب التعدد الثقافي، الذي يميز جميع مجتمعات المنطقة، تعني بالفعل حربا أهلية.

على هذه الخلفية، فلأوروبا دور مهم - دور لا غنى عنه لتحقيقه بالرغم من تفككها. كل بلد قادر ان يقود الآخرين الى طريق مسدود، ولكن يستطيع الكل ، ايجاد الوسائل للخروج وتحديد المسار. بعد الأزمة المالية وأزمة اللاجئين تقود الحرب أوروبا إلى الهلاك، اذا لم تجابهها بعزيمة. أوروبا تستطيع ان تساهم في اصلاح اساسي للقانون الدولي؛ بل وقد تضمن بأن أمن الديمقراطيات لا يتم بتقويض سيادة القانون؛ وتستطيع أوروبا أن تفهم بأن تنوع مجتمعاتها "كأنزيم" لتشكيل جديد للرأي العام. اوروبا لا تطلب المستحيل من مواطنيها، لمواجهة هذه المهام على قدم المساواة. وتشير الى مسؤوليتنا الخاصة، ما هو ممكن، ان يصبح واقعاً.



[1] Wir sind alle Geiseln“ von Étienne Balibar. Die Zeit. 19. November 2015.

 [2] إتيان باليبار أستاذ الفلسفة السابق في جامعة باريس واستاذ زائر حاليا في جامعة كولومبيا \ نيويورك

[3] .تم عرض المادة من النص الالماني المُترجم عن الفرنسية، ترجمة بتينا انجلز