يرى الناقد أن محاولة إعادة بناء سيميائي لرواية "الزغاريد"، بعد تفكيكها، تفضي لتأطيرها في الرواية الإثنو-أنثربلوجية، لأنها حفر أركيولوجي في مُثُل وثقافة وعادات قبائل أيت وراين، كما أنها حفر في العقلية الأبيسية والقوة التي تمارس ضد المرأة، وتعبير عن التخلي عن الحياة الفردية لصلح العشيرة.

التنقيب الإثنو-أنثربولوجي في رواية «الزغاريد»

حميد لشهب

شَرَّف الأديب التاهلوي عزيز أمعي قبائل أيت وراين برواية "الزغاريد" (منشورة في شنتبر 2014)، مقربا القارئ من عالم منطقة من المناطق المغربية إبان فترة الحماية. بمفردات منتاقة بدقة متناهية وبأسلوب سردي سلس، يرسم الكاتب دوائر مفتوحة على نفسها، يمر من دائرة إلى أخرى دون أن يَصِد الباب، ليعود لنفس الدائرة مؤثثا داخلها ويغادرها مرة أخرى دون إغلاق الباب. يصول أمعي ويجول في الفضاءات الجغرافية لمنطقة تاهلة، قاطعا السهول والتلال، مارا بالعيون والوديان، موغلا الخطى في المناطق الوعرة لمقدمة الأطلس المتوسط، سابرا أغوار عادات وتقاليد واحتفلات القبائل كإثنولوجي لا يكل من محاولة فهم نوعية العقلية السائدة في القبيلة، ليربطها إنثروبولوجيا بما عاشه الإنسان الواريني إبان الإحتلال الفرنسي من جبروت السلطة من المستوى الثاني، أي بعض أعيان القبائل وقوادهم، ممن اختارهم الإستعمار لينوبون عنه لإحكام قبضته وزرع الرعب والهلع في نفوس قوم، عانقوا الحرية وآمنوا بالإعتماد على النفس والعيش من محصول أرضهم.

تتزاحم المواضيع على بوابة خيال الروائي الواسع، الذي ينظمها ويحبكها طبقا لخطة أدبية متناهية في الدقة، بانيا ملامح معمارها الهندسي بحبكة فنانات ناسجات الزرابي الورينية، فتختلط الخيوط في رونق ألوانها الجميلة، حتى ليخيل للقارئ بأنه تاه في غابات خروب وصفصاف المنطقة، قبل أن يجد من جديد المسرب لـ "طريق الحقل" التاهلوي، وتنفتح أمامه فضاءات السلطة الأبيسية، ومهارات السلطة الأموسية للإفلات من جبروت كل السلط في هذا التقسيم الإجتماعي الهرمي الصلب، المليئ بالعنف الفيزيقي والرمزي، إن على المستوى الفردي أو الجماعي.

الخط الناظم للرواية هو موضوع الحب في كل أبعاده الإثنولوجية والإنثربلوجية. يتماهى هذا الحب بين العشق الروحي، أي الحب من أجل الحب، وبين ضغط الغرائز البيولوجية لإشباعه بأية طريقة من الطرق. كما أنه يتيه في تلابيب تلاقي الثقافات والهويات والأعراق. فها هو الورايني يقوم "بِحَجَّة" لقبائل أيت سادن، بِنِيَّةِ سرقة غني من أغنيائها، لكنه لم ينتبه بأن قلبه هو الذي سُرق، بعدما لم تنجح عملية السطو، وتُيِّمَ بسادنية، حاملا هُيامه بها بعد موتها وبعد أن تزوج ثانية؛ ليحكيه للتعساء من بني قبيلته وهو يتسامر معهم بعد يوم عمل شاق فيما يشبه "معسكرات العمل الإجباري لهيتلر"، الذي مارسه الفرنسيون على المغاربة أيضا لشق طرق في الجبال الوعرة للأطلس المتوسط، قصد إخماد مقاومة القبائل ضدهم. أما النوع الثاني من الحب في "الزغاريد"، فيمكن تسميته بالحب الإثنو-ديني بين شاب ورايني مسلم وشابة فرنسية يهودية. وهو أصعب حب على الإطلاق، لأن العامل الديني يدخل على الخط، لتُحاك ضد المحبين "مؤامرة" قتل الحب، بطرق أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها "عمياء"، لا تعير لهذا الشعور أية قيمة، بقدر ما تُقمطره في خانة المحرمات. وقمة الحب التي تقدمها الرواية، سواء في جانبها الإيروتيكي أو المثالي الصرف هو الحب الذي يحدث بين شخصين من ثقافتين مختلفتين: الفرنسي (بول) والمغربية (عيشة الوراينة). ما يهم في هذا السياق هو التوغل الإثنولوجي، بطرق سيكولوجية، في شخصية "عيشة الوراينية"، التي عندما أحبت ركبت عن وعي وتبصر وبصيرة كل المخاطر وكل العقوبات المحتملة، حتى ليخيل للقارئ وهو في لحظة إغفاء بأنه سقط في حب "عيشة"، ليس فقط لجمالها الفتان، بل قبل كل شيئ لتحريكها وإيقاظها وشعلها لفتيل مثال الحب فينا: الحب مهما كلف ذلك الثمن. الحب بصدق وبسابق نية وترصد. من طبيعة الحال، وبما أننا ربينا في ثقافة لا تعرف من الحب إلا تلك المقاولة التي يجب أن تضمن الربح المادي والمعنوي وألا تجلب "العار" للعائلة وهي تحبو بين أرجل القبيلة، فإن مثل هذا الحب، لا تكون عاقبته إلا عقوبة العقلية الإبيسية له بأقسى ما يمكن للعقوبات أن تكون: الزواج بأول قادم، بغية تغطية "العار". من طبيعة الحال فالحب عار في ثقافة عار، وبالخصوص إذا كان مختزلا في "كيس صغير" من الدم بين فخدي المرأة، علما بأن هذا الكيس لا يوجد عند الرجل ليحاسب يوم "الدخلة" على عذريته، يعني عدم استعمال "قضيبه" "لتلطيخ" شرف القبيلة. إنها في العمق معادلة صعبة، تُضمر بُعدا لاشعوريا، يتمثل في تصور خاص، ليس فقط للمرأة ككائن حي، بل قبل كل شيئ للحب كمطلب إنساني محض. لا يوجد هناك شيئ اسمه الحب من منطلق أنثروبولوجي قح في ثقافتنا، بقدر ما يطغى المنطق البراغماتي و"الأخلاقي": يُصَرَّفُ الحب كعملة متداولة في تضاربات بورصة المصالح، وبالخصوص المادية منها. ويخيل للقارئ بأن "عيشة" في رواية أمعي قد وعت هذا، وعلى الرغم من عدم إقبارها لحب "بول"، فإنها نجحت في "استثمار" جمالها لتحقيق كل رغباتها تقريبا، أكان ذلك ماديا أو معنويا، لأنها فهمت بأن معظم الرجال في ثقافتها، تُحكم السيطرة عليهم، عندما تحكم النساء القبض على تلك "الزائدة" الموجودة بين أفخادهم.

إذا حاولنا إعادة بناء سيميائي لرواية "الزغاريد"، بعد تفكيكها بشكل مقتضب، يمكن تأطيرها في خانة الرواية الإثنو-أنثربلوجية، لأن كل مقوامات هذا الصنف من الرواية متوفر فيها بما فيه الكفاية. فهي عبارة عن حفر أركيولوجي في مُثُل وثقافة وعادات قبائل أيت وراين، بما يتضمن ذلك من سرد للسلطة الإستبدادية في جانها العمومي-السياسي لبيادق السلطات الإستعمارية من مغاربة. كما أنها حفر في العقلية الأبيسية، المُؤَسَسَة على أوهام قوة تمارس ضد المرأة، سرعان ما تتبخر عندما تلتجأ النساء للدفاع عن حقهن في الحياة، بممارسات تؤطر "أخلاقيا" في باب "المس بشرف الرجل"، الذي يعمم بدون وجه مشروع كمس بشرف القبيلة، وهذا ما يعزز بالكاد منطق الخضوع إلى عقلية القطيع والإستغناء أو التخلي الطوعي أو تحت الضغط الفيزيقي والرمزي عن الحياة الفردية في معناها الواسع. ويتضح ذلك كله في تجارب الحب، الذي يختزل عادة في مستواه الحضيضي المعمول به والمتفق عليه؛ ونفي الحب كحق إنساني فردي إلى أدغال وكهوف الثقافة العربية، لتبقى أسطورة مغارة فريواطو المحادية لأيت وراين شاهدة على أن هذا النوع من الحب حرام في ثقافة الحلال والحرام والشرف والذل.

 

(النمسا)