يحاور الناقد في كتابة النسيان. ويخلص مع قراءة لؤي حمزة عباس إلى عراق يتذكر نفسه ويُنقَذ في اللغة، بمعنى أن السرد الذي يدعو الى النسيان ينقلب ليصبح سجّلاً ضد النسيان، فكتابة النسيان غير مجدية، لأن امكانية محوها قائمة، وبالتالي تصبح الكتابة بقاءً وتفسيراً، وتأجيلاً، وانتظارا.ً

جدلية الكتابة والنسيان عند لؤي حمزة عباس

محـمد سـلامـة

ترجمة: رمضان مهلهل سدخان

 

هل يمكن للكتابة أن تجعل من الممكن نسيان الماضي، بكل تواريخه المهشَّمة، ومدنه الممحوّة، وجراحاته، وعنفه، ويوتوبياته غير المتحققة؟ وهل إن الكتابة التي تحثّنا على النسيان هي بالفعل"تخفّف الهموم وترفع من أفكار الإنسان"، كما قال أحد الرومانسيين الإنكليز عن الشعر؟ أو هل إن كتابة النسيان، التي همّها الرئيس هو التحوّل ضد نفسها، ماهي إلا حكاية خرافية جدلية تسجّل ما يسعى الى الانمحاء دون كلل؟ بالاعتماد على هذه الإشكالية، أقدّم قراءة، أو اقتفاءَ أثرٍ من نوع ما، لموضوعة النسيان عند لؤي حمزة عباس في كتابه "إنقاذ اللغة من الغرق". إنني أرى بأن عباس يقدّم نوعاً جديداً من الكتابة الأدبية، تخلط الذاكرة بالتاريخ، والقص بالمذكرات، والمقدّمات الفلسفية بالسرد البوحي والنقد الأدبي، والنتيجة هي جنس فريد ومفاجئ يعطّل وهو يتوسط  الماضي نفسه الذي يعترضه. وإذ يتجاوز الثنائية البسيطة في تذكّر ونسيان الكيفية التي مرّ بها التاريخ المشوّه على الشعب العراقي ومدنه، فإن التفوق اللغوي في عبارات عباس حول النسيان يجبر القرّاء على التجوال في فضاء جنس آسر يمكن لسرديته [أي هذا الجنس الأدبي] غير التقليدية أن تجمع معاً الذكريات المؤلمة والخسارات الممضة بأسلوب جنائزي متناغم، تاركاً الباب مفتوحاً لسؤال مؤلم وهو: إذا كانت الكتابة هي إنقاذ اللغة من الغرق، فممَّ يخلّصنا النسيان؟ أخيراً، أرى بأن تصوير عباس غير التقليدي للماضي الحديث للعراق يفجّر تفكيراً بديلاً، وهو شكل من أشكال التمثيل الذي يعتمد على مدن ممسوحة وذكريات مشوّهة من أجل التعبير عن نوع مختلف من المحاكاة، محاكاة ما لم يوجد بعد، ألا وهو المستقبل.

هذا الجنس المضاد مبتكر بلا شك، ربما تذكير بارع بأن جميع الأجناس يتم بناؤها وتُفرض قواعدُها قرناً بعد قرن. بعبارة أخرى، يدعو لؤي الى تحرير الجنس الأدبي من الأعراف التقليدية، وهذا هو سرد العراق القادم، عراق مابعد الصدمات والدمار والمآسي، حيث ستقوم الكتابة بإنقاذ اللغة من الغرق، وهذا العراق القادم لم يعد من الممكن استيعابه ضمن أشكال الكتابة الموجودة مسبقاً. بل هو أيضاً كما لو أن لؤي حمزة عباس ينقل فشلاً معيناً من خلال تفكيك السرد، فإذا ما تحولت العنقاء الى رماد بالفعل فما الخير المرتجى من بضع ريشات يحمن حول المكان؟ بعد الموت، بوسعنا أن نسخر من استقلال كل شيء، بما في ذلك الفن. بعد العراق، لا يوجد فن، ليس بالمعنى التقليدي، لأنه لا شيء يكون ذا معنى بعد الموت، والفن الوحيد الذي يسمح لنفسه بأن يأتي هو الذي يستنطق نفسه على نحو دائم، مثل جسم مصاب لا يعرف طبيبه كيف يعالجه.

من المؤكد أن هذا الاختلاف الجمالي يؤيد ما أشير إليه في الشكلانية الروسية بأنه يغرّب أو يُبعد عن المألوف من أجل تعطيل ما هو عادي ورؤية الأشياء من جديد بكل الرعب والفزع الخليق بهذه المناسبة. العديد من المحركات السردية تعمل في قص لؤي حمزة عباس (النسيان، التذكر، الذاكرة، الكتابة، المكان) ولكن عند تقييمها، من المهم ربطها بالمادية التي يجري تعريفها على نطاق واسع تحت مظلة الواقعية الأدبية. وللحصول على نظرة أكثر قرباً من الآليات الخطابية في كتابة لؤي حمزة عباس، فإن المرء لا يحتاج فحسب الى مستوى معقّد من معرفة ماضي العراق وحاضره، جغرافيته ومجتمعه، شوارعه ومحطات حافلاته، مقاهيه، ثقافته الغذائية ومقابره، بل يحتاج أيضاً الى معرفة عميقة بالفلسفات والأدب الأمريكي والأوربي، ذلك لأننا أمام مؤلف يرى هيرمان هيسه على بوابات الگراجات الموحدة  يبشّر بمعنى الوطن، و والتر بنيامين يفتح عينيه للمرّة الأخيرة ليلقي نظرة على العالم الجديد، و شبح إرنست همنغواي يستمر في الكتابة عن خراب الحروب ومحن الجنود، حيث يتبع الجاحظَ إلى الأبد العديدُ من المتعلمين المتحمسين، و المتنبي ينفث الحياة في كل كتاب يُباع في شارع يحمل اسمه. هذا هو فن لؤي حمزة عباس. ومن أجل الحصول على صورة أكمل لعالمه السردي، علينا أن نستعد للدخول في عالم من الكونية خارج الزمان والمكان، أي يوتوبيا لا يمكن أن تدرك نفسها إلا في فعل الكتابة.

جميع اليوتوبيات في جوهرها هي رفض للحاضر وللكوارث والمآسي التي تقع خارج التحمل البشري، هذا هو المكان الذي يمكننا فيه تحديد جوهر السردية لدى لؤي حمزة عباس، التي لا تكون كتابة عن الكارثة على غرار بلانشوت، لأنه لا شيء متشظياً هنا. بل الأحرى إن الكتابة هي تداخل الحلم، وهي تجربة خارج حدود العالم الظاهراتي. المسألة شبيهة بالرفض. بالنسبة للؤي حمزة عباس: أن تكتب يعني أن ترفض بأن عالمنا ينتهي عند أعتاب الفوضى والهمجية.

وإذ يشير الى لوحة والتر بنيامين "ملاك التاريخ"، يقدّم لؤي حمزة عباس الكتابة بوصفها علاجاً أو بالأخرى ضمانة ضد الغرق. وبرغم إنه لا يقول ابداً كيف تنقذ الكتابةُ اللغةَ من الغرق، فإن الكتابة تصبح رغبة في الحياة، وعمله إنقاذ اللغة من الغرق يؤكد هذه الإرادة، حيث العراق ومدنه لاسيما البصرة، وحيث الشوارع، والرغبات، والآمال، والخسارات، والاغتراب، والشتات والموت تستمر في صدامها مع بعضها البعض. وخلافاً للفلسفة الديلوزية التي تنظَر الى الأدب بوصفه وسيلة للتوسط في المعرفة والتأمل في الأحداث التاريخية، فإن الأدب لدى لؤي حمزة عباس هو جدلية التوقيع والمحو، التذكر والنسيان: والنتيجة هي نص يتم فيه خلق مساحة للأشياء غير المصرّح بها، والمسكوت عنها، وغير المكتوبة، وهذا هو المكان الذي تصبح فيه وظيفة الفن بارزة عند لؤي حمزة عباس.

اما مقدمة كتابه "الكتابة، إنقاذ اللغة من الغرق" فتعنوَن بـ "كتابة النسيان". كيف بالضبط تكون كتابة النسيان ممكنة؟ كيف تصبح الكتابة، التي تؤكّد وتسجّل ما هو منقوش، نفياً بحد ذاتها؟

إن نظرة فاحصة في التنويعات الموضوعية في "كتابة النسيان" تسمح لنا أن نميّز بين مجموعات قليلة من العلاقات الجدلية:

(1) العلاقة بين الكتابة والحرب.

(2) العلاقة بين الكتابة والنسيان.

(3) العلاقة بين الكتابة والمكان المادي.

الفئة الأولى تعالج مجاز الجندي، في حرب الأجيال حيث يُقتل البشر باسم ما يحلو لهم أن يؤمنوا به. ومن المثير للاهتمام، إن سرد لؤي حمزة عباس يجد نقطةَ انطلاقٍ لتصوير الإنسان العاقل المتحارب في القص الأمريكي المعاصر. التقرير أو القصة هو "ما يتجلى بوضوح في مدريد" لإرنست همنغواي. إن سرد لؤي حمزة عباس للنسيان لا يثير الكثير من القص على الإطلاق، سوى الإيماءات إليه بإشارة حنينية تقريباً، مؤكداً إننا إذا نظرنا عن كثب، سنجد دليلاً لكتابةٍ تنقذ اللغة من الغرق. ويمكن إيجاد الدليل في الجيب العلوي من قميص جندي همنغواي:

"الكتابة هي نحن، يتهدّدنا المحو في كلِّ حين .وجوهنا إلى أسفل الماء، نحن الغرقى، أعيننا مفتوحة تواصل النظر .عن الأعين المفتوحة يمكننا أن نتحدث في كتابة النسيان، عن يوم بعيد آخر من أيام الكتابة، عن واحدة من صفحاتها التي تُضاء بأنوار الحروب الخاطفة، حيث يأوي همنغواي مُقتبساً من الحرب التي تتجلّى، نابضة بالحياة في مدريد. ما أبعد الخامس والعشرين من نيسان 1937 ما أصعب الوصول للصفحة الثامنة والعشرين من النيويورك تايمز.  في هامش وحيد، مثل طيف عابر، يمكنك رؤية جنديّ يستلقي على الرمال بثيابه الكاملة، عيناه مفتوحتان، عظمتا وجنتييه بارزتان، يمسحهما ضوء آخر النهار، خوذته مائلة قليلاً وقد التفّ حزامُها على الرقبة، كأنه يواصل الإنصات لامع العينين لنفير بوق الحرب النحاسي البعيد. في جيبه العلوي، إن حدّقت مليّا، سترى دليلاً للنجاة كُتب خصيصاً لإنقاذ اللغة من الغرق .إنه دليل جندي أرنست همنغواي وقد عاش الحروب جميعها، قُتل فيها مرّة بعد أخرى وبعد كلِّ مرّة يقوم ليواصل كتابته بانتظار حرب جديدة قادمة، كأن قيامته بالكتابة وحدها وهي ما تجعل لحياته معنى".

من المؤكد، أنا مضطر الى الحصول على عدد "نيويورك تايمز" عام 1937 وأقرأ قصة أرنست همنغواي. لدهشتي، لم أتمكن من تحديد موقع الجندي القتيل. تبدأ القصة بانفجار شديد بجانب الفندق في وسط المدينة حيث يقيم همنغواي ويموت رجل إيطالي نتيجة لذلك. يدفعك لؤي حمزة عباس خارج قصته، يجبرك أن تذهب وتجد همنغواي على صفحات نيويورك تايمز بعد 77 عاماً (تمّ نشر نص لؤي حمزة عباس في العام الماضي، عام 2014)، وتبحث في الجيب العلوي للجندي القتيل بعدها تعود وتواصل قراءة لؤي حمزة عباس. الإكتشاف صادم: الشخص الميت الوحيد هو رجل إيطالي، عدو، أو فاشي إذا جاز التعبير. لكن ليس هناك دليل، ولا جيب علوي، ولا شيء أبداً. الشيء الوحيد الذي وُجِدَ هو نص همنغواي. ثمة جندي في ذلك المكان، ليس ميتاً، بل مصاب إصابة خطيرة، هو شاب أمريكي من بيتسبيرغ يحمل اسم جاي ريفين، الذي كان معه الحوار التالي مع همنغواي:

سأل، "كيف هي الأمور في أمريكا؟ ماذا يفكرون بنا هناك؟"

قلتُ، "لقد تغيرت المشاعر كثيراً. بدأوا يدركون بأن الحكومة ستكسب هذه الحرب".

"هل تظن ذلك؟"

قلت، "بالتأكيد".

"ألم تهتم بالألم؟"

قال، "أنا سعيد جداً. كما تعرف، أنا لا أهتم بأي شيء من هذا القبيل إذا كان بإمكاني فقط مراقبة ما يجري. لا أهتم بالألم، كما تعلم. لم يبدُ هذا مهماً حقاً. لكنني كنت دائما مهتماً بشكل كبير بالأشياء، وأنا حقا لا أهتم بالألم على الإطلاق إذا كان بإمكاني متابعة الأمور بذكاء. يمكنني أن أكون ذا فائدة حتى. كما تعلم، لا أهتم بالحرب على الإطلاق. أبليتُ بلاءً حسناً في الحرب. أصِبتُ مرة واحدة قبل ان أعود والتحقتُ مجدداً بالكتيبة في غضون أسبوعين. لم أستطع تحمل البقاء بعيداً. ثم حصلتُ على هذا".

سألتُ، "كيف حصلتَ عليه؟"

"حسناً، كانت هناك بعض القوات التي تم توجيهها وذهبنا لإعادة تشكيلهم نوعاً ما، وفعلنا ذلك؛ ومن ثم خضنا معركة مع الفاشيين، وهزمناهم. كانت الى حد بعيد معركة سيئة، كما تعرف، لكننا هزمناهم وبعد ذلك ألقى احدُهم قنبلة يدوية عليّ".

ويُنهي همنغواي تقريره هذا بالعبارة التالية: "ولكن لا شيء مهماً كأهمية ذلك الذي أخبرني به جاي ريفين، الأخصائي الاجتماعي من بيتسبيرغ والذي لا يمتلك أي تدريب عسكري، بأنه ليس صحيحاً. هذا نوع جديد غريب من الحرب حيث تتعلم بقدر إيمانك بها".

لذلك ابتداءً من مَأسسة العسكر في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة، مروراً بالحرب الكورية (التي لا أحد يتحدث عنها)، حرب فيتنام، إلى عاصفة الصحراء واحتلال العراق، وكأن التاريخ لا يعني شيئاً، أو إنه لم يحدث. وكتابة النسيان التمهيدية تقدّم النموذج الأصلي من الكتابة التي تمحو نفسها، وهي كتابة تُنسى، تُعاد كتابتها، يُعاد نسيانها، الى ما لا نهاية. الوحشية هنا ليست الحرب نفسها، ولكن موت الضمير، المخاوف من تلميع الرعب، أو كما يشير الى ذلك القولُ المأثور الشهير لجورج سانتايانا في عمله "العقل في الإحساس المشترك، حياة العقل"، المجلد 1، حيث كتب "اولئك الذين لا يستطيعون تذكّر الماضي محكوم عليهم بتكراره." ما هو فريد بشكل لافت للنظر بالنسبة لنص لؤي حمزة عباس هو ليس فقط  الكتابة التي تستدعي أخرى ولكن الاستخدامات المستمرة من المجاز في عدم اتصاله الصادم بالضنك في عراق ما بعد 2003.

يخبرنا فريدريك جيمسون بأن ما يؤلم هو التاريخ في عدم إحالته الى نص. ويواصل كلامه: لكن لا يمكن جعله متاحاً الاّ من خلال النص. بالنسبة لي أتفق مع البديهتين الأولى والثانية، وليس مع الثالثة. ما يظهره لنا لؤي حمزة عباس هو تاريخ غير قابل للاسترجاع، أي كتابة تنسى بينما هي تكتب. فالتاريخ لا يمكن جعله متاحاً لنا من خلال النص. فما نراه في النص هو ليس سوى انطباع عن التاريخ، أي لغة تحرّك الذاكرة، حتى لو أن الذاكرة تشي بنا. ويخبرنا لؤي بأن هذه هي الروح "التي تقاوم النسيان"، ليست الكتابة ذاتها، التي لا تقوم سوى بدفعها، والأمر متروك لنا أن نرى دليل الإنقاذ في الجيب العلوي من بدلة الجندي إذا نظرنا بما فيه الكفاية: "الروح العصيّة على النسيان"، العبارة التي تكررت بشكل ممنهج طوال النص، إذ يدرك لؤي حمزة عباس إدراكاً تاماً بأن ذاكرتنا يمكن أن تخوننا، وأن الذاكرة تموت تماما مثل البشر، وأن خيانة الذاكرة وموتها هو في الواقع البصمة الأكثر وضوحاً من تفرّدها، و الأكثر قيمة أيضاً:

"لكن الذاكرة، على الرغم من ذلك، تخون كما يخون البشر، وتموت مثلما يموتون؛ إن خيانة الذاكرة وموتها هما أوضح أشكال فرديتها، أكثرها جلاء وأعلاها قيمة."

ليس هذا فحسب، بل أن الكتابة نفسها ليست بمنأى عن الخطيئة، حيث يبدو بأن:

"الكتابة الخاطئة، سيئة الحظ، هي الكتابة التي تنهض من الجانب الخطأ، مدلدلة قدميها في يوم سيئ، يرنو الشيطان لكلِّ كلمةٍ من كلماتها ويبتسم. ترتبط الكتابة بالشيطان فتكون سيئة وتُطرد من الجنّة مثلما طُرد".

وهكذا فإن بحثاً عن سردٍ يلمّح إلى الإجابة خارج ذاته، وخارج النص، ويقطع قراءتنا من أجل التعالق والتداخل مع قراءة أخرى وقراءته بالضد من نص لؤي حمزة عباس ينتهي بتشويه همنغواي فقط لتمثيله لنا بطريقة محزنة جداً. وتصبح الكتابةُ التذكارَ الوحيد، في خطر النسيان هذا، بأن الولايات المتحدة قد نسيت عنف ما حدث، وأن همنغواي جديداً لا بد أن يكتبها مراراً وتكراراً. أو كما يصفها لؤي حمزة عباس:

"في بلد النسيان يمكنني كتابة كلِّ شيء كما حدث، مرّة بعد مرّ ة، كما لو لم يحدث من قبل".

إعادة كتابة الأحداث هذه تكون شاعرية، فضلاً عن أنها سياسية. وهكذا يصبح همنغواي ضحيةً لنص لؤي، وهو التذكير المزعج بأن الولايات المتحدة قد خانت وفرّطت بحكمتها، نسيت همنغواي، أو ملفيل، أو فولكنر، أو هيروشيما، أو الحرب الكورية، أو حرب فيتنام، أو حتى عاصفة الصحراء، أو عدم الإكتراث بالأموات. والرسالة وراء ذلك بعيدة كل البعد عن الغموض وهي إن: أمريكا لديها تاريخ في نسيان عنفها الخاصة بها. إذ إن انسحاب قواتها من العراق جعل الأمر يبدو كما لو إنها بشكلٍ ما وصلت الى إنتصار ثقافتها، من خلال الوعود السياسية لرئيسٍ جديد، كما لو إن هذا بإمكانه أن يقلب الهمجية. الكتابة، إذن، ولا شيء غير الكتابة يصبح فعلاً act للذاكرة التي تعمل ضد فعلٍ للنسيان حتمي تقريباً. إن الإشارة إلى النسيان لا تعالج فحسب فشل الولايات المتحدة في تذكّر فظاعاتها في العراق، ولكن [تعالج] رفض مواجهة تاريخها، وتتذكّر مجازر الآلاف من المدنيين الأبرياء، ونهب المدن، وتقطيع أوصال الحياة اليومية، و شلّ الحياة، والأهم من ذلك إنها تستمريء رعب انتهاكات الجنود، والقتل العشوائي والتعذيب غير الأخلاقي في أبي غريب.

وعليه فإن سرداً يدعو الى النسيان ينقلب فجأة على نفسه ويصبح سجّلاً ضد النسيان، وهو تاريخ لصدمة ميؤوس منها وسخرية من قوة عظمى تعاني من فقدان الذاكرة المزمنة التي أحد أعراضها العراق. الرسالة موجودة هناك، لكن علينا أن ننظر عن كثب للعثور عليها: عليك أن تتوقف عن التصرف مثل بلد حديث ومتحضر يمكن تحقيق الاحتفال بنجاحه عن طريق النسيان.

كتابة النسيان تبدو كأنها مهمة غير مجدية، فالكتابة يجري محوها دائماً، لماذا نكتب إذن؟ الإجابة الوحيدة ذات المغزى لهذه الممارسة السيزيفية هي الإرادة أو الرغبة في محو العلامات من أجل إعطاء وجود مكمّل للحياة. وتصبح الكتابة نجاة للمؤلف، أي إنقاذه من الغرق. للكتابة هنا وظيفة الإنقاذ والحفاظ على بنية حماية اللغة والإبقاء عليها، وبشكل متناقض مسؤولية المحو والنسيان:

"كلّ كتابةٍ نسيان، ربما قال الكاتب مثل ذلك من قبل، ما لم يقله بعد أن كلّ نسيانٍ تفسير وأن كلّ معنى تأجيل وانتظار".

وبالتالي تصبح الكتابة بقاءً وتفسيراً، وتأجيلاً، وانتظاراً، حتى بعد المؤلف، حيث تصبح الكتابة خزاناً للرغبة التي تسجلها، أي يوتوبيا. وإذ نقرأ كتابة النسيان لدى لؤي حمزة عباس فإننا نؤخذ بهذه اليوتوبيا ذاتها، في عراق قادم، عراق يتذكر نفسه ويُنقَذ في اللغة.

"الكتابة"، كما تصفها هيلين سيكسوس "هي دائماً ما تأخذ بعين الاعتبار الوفرة واللاجدوى بينما هي تخفض قيمة التبادلات التي تُبقي الكلمة المنطوقة في مسارها. هذا هو السبب لماذا تكون الكتابة جيدة، وهي تسمح للسان في تجريب نفسه، كمن يجرّب عناقاً". الكتابة هي بالتالي عناق من النوع الذي لا ينطوي على وجود محض، وإنما يدور بشكل غير محدد وبمعزل عن مؤلفها، عناق يظهر في غياب الكاتب، ومع لفتةٍ نحو المستقبل، فإن الكتابة تنفي الحاضر وتصبح القوة التي لا تؤكد سوى نفسها. هذا هو المكان حيث تكمن موارد الأمل. وتصبح كتابة النسيان كتابةَ العراق الذي يتجاوز الوقتية نحو مشهد أكثر دواماً وبقاءً:

"لن تكون ثمة حاجة للحديث عن معتقدات الناس وخفايا إيمانهم، كما لن تكون ثمة حاجة للحديث عن الدكتاتورية وفجائعها، وعن مجانية القتل وامتهان الإنسان في فصول ما بعد السقوط، دع الصامت يتحدث لتكتمل بين يديك خرائط الألم العراقي".

(جامعة كولومبيا)