يعود القاص اليمني إلى موضوع يكاد يكون منسياً في ظروف الحروب الطائفية التي أثارتها قوي الغرب وأمريكا، ليصور لنا حلم شيخ فلسطيني من سكان مخيمات لبنان وهو يجهر بحلمه للأجيال الجديدة التي تكاد تنسى ذلك الحلم الذي ضحى من أجله أجيال من المناضلين المنسيين.

المفتاح

حامد الفقيه

الإهداء: لــ (ستين) عاماً من أمل العودة والحنين، ومواويل السمر، وحنين الشوق لصفرة البرتقال، ومنقوشة الزعتر، وزرقة سماء طبريا والقدس. لعقيدة قذف الحجارة، وربط الإزار؛ لزرع الشجر، وغرس نبتة الزيتون الأخضر.

لركعة الأقصى المكرمة بخمسمائة ركعة.

 

يجلس الحاج (فراس) الشامسطي البالغ من العمر(ثلاثة وسبعين) عاماً على ربوة تشرف على مخيم "عين الحلوة" الفلسطيني بـ(لبنان)، وعين الشمس تتدحرج على وجه السماء الغربي، ويجمد نبضها الجو البارد وصفير الرياح.

أمامه المخيم ممتد ببيوته المبعثرة المتراصة كنعش ضخم الصنعة.

ينظر تارة في وجه الشمس الداني نحو الغروب، وتارة أخرى نحو أطفال المخيم الذين يتسابقون على الاقتسام إلى فريقين؛ كي يلعبوا و يحملوا هَمَّ غروب الشمس عنهم قبل اقتسامهم للّعب.

يحملق في احمرار الشفق فيتذكر احمرار سماء القدس قبل ستين عاماً حين كان في سن الفتوة، يوم مقدم سرطان هدد فتوّته.

يظل هكذا على الربوة يناجي النجوم المؤنسة، ويسائلها عن بيته في (دير

ياسين) قضاء (صفد). يناجي - عبر نسيم الليل البارد - غصن الزيتون، ويرجوه أن يتمايل أمام ناظريه حال عودته. يرسل شهقة إلى رئتيه الجافتين الملتهبتين، وهو يتأمل نبتة الزعتر ويرجو رائحتها أن تشاغب أنفه وصولاً إلى رئتيه.

يمد يده أمامه وهو فاتح قبضته، ويتوسل صفرة البرتقال أن تنعم يده بملمسها. يستجدي جدار منزله أن يسند ظهره وهو عائد من جهد يوم العودة.

ينشر الفجر نوره وترسل الشمس شعاعها، وتقطع على الحاج (فراس) سهرته مع (البيارة والمنزل).

ينظر بعد وضوح المخيم، وخروج أبنائه لطلب الماء، وتراصهم حول بئر المخيم، وتدافعهم؛ ليدركوا دوامهم المدرسي.

 يأكلون فتات الخبز المتبقي من اليوم الفائت بعد أن خبأته أمهاتهم في خواصرهن بجوار المفاتيح.

      ارتفعت الشمس رمحاً في وجه السماء المكسف جمالها. يمسك الحاج (فراس) بركبتيه، ويستجمع بقايا قوته؛ لينهض وظهره المنحني يأبى أن يستقيم.

يعزف أحد مواويل المخيم بصوته الجهوري، ودمعه الهتون، وجسده المرتعش قائلاً :

( صامد لا مأوى ولا بيتْ... صامد لكن ما تخليتْ

(ع جراحي) والله شديتْ.... حتى نكمل ها المشوار

صـامـد صـامـد يا دار... صـامـد رغـم الحصـار)([1]).

يسمعه كل أبناء المخيم، وأمهاتهم الحنونات، ينزل من على الربوة نحوهم فيجتمعون أمامه؛ ليخبرهم قائلاً :

  • لن تذهبوا إلى المدرسة اليوم أيها الفتيان، لأني من سيعطيكم درس اليوم بل درسكم الأبدي.

يتقدمون نحوه، وهم يحملون قبضاتهم الواحدة تشد الأخرى، فيخرج المفتاح من خاصرته، ويقبض على أيديهم والمفتاح معاً، ويلقنهم درسهم :

  •  لن يسقط المفتاح.

فيرددون بصوت واحد وراءه :

  • لن يسقط المفتاح.

ويرفعون المفتاح فوق رؤوسهم، حينها تتهاوى قوى الحاج (فراس) ويسقط على أرض المخيم، فيحملونه على نعش المخيم الأبيض ليدفنوه ويعودون حاملي المفتاح.

وهم يقسمون : لن يسقط المفتاح.

           16/6/2008

  • أديب وقاص يمني

 

 

[1] - أحد مواويل العودة الفلسطينية.