يقدم الباحث المصري الذي قدم في أعداد سابقة من الكلمة دراساته المتعددة عن الرواية العربية الجديدة، تصوره عن متغيرات الرواية ومتغيرات المجتمع.

الرواية وتغيرات المجتمع

شوقي عبدالحميد يحيى

بعد أن ساد الرواية طوال العقود الأولي من القرن العشرين الجانب الإجتماعي الذي اعتمدَ علي العلاقات الاجتماعية، الذي ازدهرعلي يد طه حسين، توفيق الحكيم، يحيي حقي، عبد الحليم عبد الله، نجيب محفوظ، يوسف السباعي إحسان عبد القدوس وغيرهم. وفي العقود الوسطي عندما ارتفعت الحرارة السياسية كانت الرواية السياسية أو الجمعية، تلك التي حاولت صنع البطل المنتظر أو البطل المنعقدة عليه الآمال، وتمثلت  في كتابات عبد الرحمن الشرقاوي، يوسف إدريس، فتحي غانم. ثم بعد انكسار ذلك البطل، ارتد الكاتب علي نفسه مؤنبا أو هاربا وإن ظلت عينه علي الوطن وهمومه آنا، فظهرت كتابات ما عرف بجيل الستينيات والذين من أبرزهم بهاء طاهر، خيري شلبي، جمال الغيطاني، إبراهيم أصلان وصنع الله إبراهيم، وآنا آخر اتسعت رؤيته إلي أبعد من حدود الوطن، ليس ابتعادا عن مشاكل الوطن فقط، وإنما إنغماسا أكثر في الذاتية متمثلا في البحث عن المطلق، ويمثل هذا الإتجاه أكثر من غيره الجيل التالي لجيل الستينيات وأبرزهم خيري عبد الجواد، إبراهيم عبد المجيد، يوسف أبو رية، سلوي بكر وغيرهم.

إلي أن ازدادت الشرنقة حول الكاتب وازداد توغله داخل ذاته فظهر ما يمكن تسميته بالرواية الذاتية التي اقتربت كثيرا من السيرة الذاتية، فأصبحت تدور حول ذات الراوي وابتعدت عن الهم الجمعي، متخذة من الجسد والأشياء والحياة الخاصة مادة لها، ومن كتابها من يمكن تسميتهم بجيل التسعينيات من أمثال منتصر القفاش، مصطفي ذكري، مي التلمساني نجلاء علام، و منصورة عز الدين وغيرهم ـ إلا أنه يجب التأكيد علي عدم وجود ذلك الخط الفاصل بين تلك المجموعات، وإنما هي كألوان الطيف المتداخلة المتدرجة، والتي ينبثق بعضها من بعض- أو أن كل مجموعة منها كالإبن من الأم يرتبط وجوده بها لفترة، ويعتمد عليها فترة، ثم لا يلبث أن ينفصل ويستقل عنها وتكون له شخصيته المستقلة.  وقد يتطلب الأمر دراسة هذه المراحل بشئ من الإيجاز غير المخل للوقوف علي عناصر الكتابة الروائية في تلك المراحل، لمعرفة ما أضافته الرواية الجديدة في القرن الواحد والعشرين وما هي العناصر الجديدة لها، ومدي اختلافها عن المراحل السابقة.

*  *  *

ارتبطت فكرة نشأة الرواية في أحد الآراء، بالحروب في عهد السلاطين، حيث يجلس الراوي (ليحكي) عن انتصارات الجيش علي العدو مضيفا من عنده ما يضخم من تلك البطولات التي أدت لهذا الانتصار، أو في محاولة لإبراز عناصر خارجية أدت للهزيمة ـ إن كانت نتائج الحرب هي الهزيمة ـ في محاولة لإرضاء السلطان عن رعاياه من جانب، وليظل الشعب ملتفا حول سلطانه الملهم الذي لا يأتيه الباطل، من جانب آخر.  فارتبط الحكي بحركة المجتمع (الجيش والشعب) بشكل أو آخر،  منذ بدايات القرن العشرين حيث البدايات الحقيقية  للرواية العربية بظهور زينب هيكل ـ بينما كانت البدايات بالنسبة للرواية العالمية آواخر القرن الثامن عشر. ثم جاءت روايات البدايات ـ بالنسبة للرواية العربية لتعبر عن فكر وحياة المرحلة، فكانت روايات طه حسين وتوفيق الحكيم والطيب صالح، روايات بحث عن هوية، في مجتمع ضاع بين الهوية المصرية أرضا وحضارة، وهوية الاستعمار المسيطر الفارض لوجوده المحاول لمحو هذه الهوية، وفرض هويته علي الأرض والناس، فعبرت رواياتهم عن المرحلة قلبا وقالبا، متمثلة في عنصر البعثات التي كانت هي المحك الحقيقي بين النخبة المؤثرة ـ آنذاك ـ والمجتمعات المختلفة مع مجتمعهم في كل شئ، فكانت أديب طه حسين / عصفور من الشرق للحكيم / قنديل أم هاشم ليحيي حقي / موسم الهجرة إلي الشمال للطيب صالح / الحي اللاتيني لسهيل إدريس، والتي مثلت مرحلة حيوية ومؤثرة في مسيرة الرواية، وتعبيرها عن المرحلة. ثم يقدم الحكيم في عام 1933 روايته (عودة الروح) التي اهتم فيها بالأوضاع الاجتماعية التي سادت رواياته من بعد وهي (يوميات نائب في الأرياف) و(عصفور من الشرق). حيث اعتمدت كلها علي نقد الأوضاع الاجتماعية السائدة، في مواجهة الأخر، مثلما كانت روايات طه حسين (دعاء الكروان) و(شحرة البؤس) التي ركزت أيضا علي الأوضاع المتردية للأفكار السائدة، في ثورة ورفض لها. وليظهر بعد ذلك نجيب محفوظ الذي أرخت رواياته للحقب المصرية بدءا من ثورة 1919، وحتي يوليو 1952 وما تبعها وكان من نتيجتها ما حدث من هزة في يونيو 1967، متحسبا لوقوعها نتيجة ما ظهر من تجاوزات لرجالها والمستفيدين منها، فكانت (اللص والكلاب)، (السمان والخريف) (ثرثرة فوق النيل) و(ميرامار) التي نبهت لما يحدث في وقت عز فيه البوح وانخرست الألسن، فكانت كلمته إلي جانب كونها أمانة، فهي رسم دقيق وصادق لحركة المجتمع في تلك الفترة.

ومع ظهور حركة يوليو 1952 وما صاحبها من تيارات اشتراكية اهتمت بطبقة العمال والفلاحين، ظهر كتاب من أمثال عبد الرحمن الشرقاوى الذي قدم (الشوارع الخلفية) وروايته الأشهر (الأرض) التي صورت باقتدار تلك الرؤية السائدة آنذاك من ظلم الإقطاعيين للفلاحين الذين جاءت الثورة لنصرتهم، فكانت تعبيرا عن فكر مرحلة وترجمة لهواجس أمة. ثم يأتي يوسف إدريس ـ الذي أحدث ثورته بالأساس في القصة القصيرة ليسهم أيضا في العطاء الروائى، فيقدم (الحرام)1959،  والتي صور فيها مآساة طبقة لها وجودها في تلك الفترة وهي عمال التراحيل وما يقع عليهم من غبن، وما يعيشونه من بؤس وفاقة. ويظهر كذلك فتحي غانم ليقدم تصوره أيضا عن مرحلة يوليو 1952 في رائعته (الرجل الذي فقد ظله) في عام 958، أي بعد أن كانت رؤية المرحلة ورؤاها قد تحركت من تحت القناع، ليكشف بها عن سوءات ما حدث وما يحدث، معبرا عن فترة مشحونة بالغليان التحتي، غير المنظور، فكانت أيضا نبوءة مبكرة لما حدث بعد ذلك.

وما حدث بعد ذلك هو نكسة السادس من يونيو 1967 والتي كانت أكبر هزة في العصر الحديث، لا في مصر وحدها، وإنما في الوطن العربي كله، كانت أيضا بداية لظهور جيل جديد من الروائيين، فإلي جانب محاولاتهم الإسلوبية في استحداث تقنيات جديدة، ومحاولة التمرد علي الأساليب التقليدية في القص ـ ليس هنا مجال التفصيل لها ـ فإنهم عبروا بصدق وإحساس عن المرحلة الجديدة مثل جمال الغيطاني الذي قدم (الزيني بركات) الذي عاد بنا فيها إلي العصر المملوكي كي يلبس شخصياته حللها، بينما ينطقها بلغة العصر ومعاناة العصر الحالي من كبت وجاسوسية وتنكيل، في عملية اسقاط من أجمل ما قدم هذا الجيل، ناقدا وكاشفا لعمليات القمع الواقعة من الحاكم للمحكوم، وكيفية التحايل للوصول إلي الحكم. وبهاء طاهر الذي قدم (خالتي صفية والدير) 1992  والتي تعتبر من أمتع ما قدم خلال هذا الجيل، والتي تميز بحق أهم عناصر تلك المرحلة، فتعدد مراحل ومستويات القراءة، إذ المستوي القريب والمباشر الذي يقوم علي المآخاة بين المسلم والمسيحي، كما تعتمد الرمز الذي يؤل صفية إلي مصر التي وقعت في حب حربي وطمحت للزواج منه الذي يمكن اعتباره حربي - رمز العهد أو الجيل الجديد، والخال (القنصل) الذي تزوج صفية، والذي يعد رمزا للجيل القديم، جيل الإقطاعيين والذي انقلب علي الجيل الجديد رغم التفاني والخدمات التي قدمها هذا الجيل، وفيها أيضا حاول بهاء طاهر تصوير العصر وصراعات الأجيال التي كانت علي أشدها في المقارنة بين عهود رئاسية متتابعة، رافضة للكل، وباحثة عن زمن الصفاء والوئام المفقود، والتي بدأت في الظهور بشكل لافت فيما تلا ذلك من كتابات أجيال جديدة، والتي هي موضوع دراستنا.

فإذا كانت رواية بهاء طاهر قد صدرت في 1992، فكانت البذرة ـ في تصورنا ـ لما تلاها، والتي اخترنا علي أساسها الروايات الصادرة في القرن الجديد ـ القرن الواحد والعشرين ـ كاستمرار لمسيرة التعبير عن التطورات المجتمعية خلال تلك الحقب المتتابعة، الأمر الذي يتيح لنا أن نستقرئ التاريخ الحقيقي للمجتمع من خلال الرواية، باعتبارها المؤرخ الحقيقي لحركة المجتمع عبر تلك العصور، والمعبر عن تموجاته وتطوراته، الاجتماعية والفكري، بل والاقتصادية.

وإن كان ما سبق لم يكن تأريخا للرواية بشكل عام، وإنما اختيار قائم علي الأكثر إلتصاقا وتصويرا لحركة المجتمع، متجاهلين أعمالا أخري لنفس الكتاب، ومحاولات عديدة لكتاب آخرين لهم مكانتهم في الحركة الأدبية، إلا أنه من الملاحظ أن هذه الروايات المختارة، تمثل مراحل البدايات لكتابها، وهوالأساس الذي اعتمدنا عليه في اختيار نماذج مختارة للدراسة فيما بعد، حيث اعتمدنا علي الرواية الأولي لمجموعة من الكتاب المتميزين، الذين استطاعوا إحداث ما يمكن إعتباره ثورة حقيقية علي المتبع في اسلوب الكتابة الروائية، فضلا عن تميز كل منهم ببصمة خاصة به تضعه في مصاف المجددين في منهج الكتابة الروائية.

وإعتمادنا علي الرواية الأولي جاء لعدة اعتبارات منها:
- العمل الأول دائما يحمل الجينة الرئيسية للكاتب التي تحدد برنامجه في الكتابة ورؤيته لها
- العمل الأول في أغلب الأحيان يحمل مشروع الكاتب الروائي، والذي يمكن تتبعه في كتاباته التالية.
- الشباب دائما هو وقود وقائد الأعمال الثورية، فهو يملك جرأة المغامرة، وروح التحدي، فضلا عن محاولته إثبات ذاته ووجدوده في ظل أوضاع قائمة، غاليا ما يكون رافضا لها.

وقد اعتمدنا في دراسة كل رواية لا علي منهج واحد للدراسة، وإنما لكل رواية منهجها الخاص، النابع من عناصرها هي، بمعني أننا لم نعتمد قولبة الأعمال الروائية في قوالب سابقة. مستعينين في ذلك بكل المناهج الدراسية المتاحة، القديم منها والحديث. مسترشدين في خلفية كل منها بالنظرة الباختينية لما يسمي في الاصطلاح النقدي بـ (الكرونوتوب) الذي يهتم بالجدلية المستمرة في الزمكان (الزمان والمكان) باعتبارهما عنصري الدراسة الأساسية القائمة علي فعل داخل الزمن، وحوارنا قائم علي تموجات مجتمعية في مكان معين، في اطار زمن معين، لينتج فعلا، هو محور الدراسة.

وإذا كان المنهج العلمي يقتضى تصنيف الروايات المختارة في مجموعات، كل مجموعة تشكل عاملا مشتركا فيما بينها، إلا أن ما اخترناه من روايات تشترك كلها تقريبا في مجموعة من الخصائص والسمات المشتركة، حتي تم تجميعها جميعا في حزمة من العناصر

التي يمكن تلخيص أهم استنتاجاتها  كرؤية عامة في قراءة هذه الأعمال في الأتي:
1   عدم الاعتماد علي القصة أو الحدث، بل تقديم صورة كلية وكأنها لوحة بانورامية للمجتمع يربطها خيط هلامي يحدد مسارها ويوجه رؤيتها.

2 ويرتبط بالبند السابق سواد سمة  قصر صفحات الرواية، حيث أصبحت الرواية تدور في متوسط مائة صفحة (مع الاستثناءات القليلة) فلم يعد الكاتب بحاجة لتتبع مسيرة حياة بكاملها مثلما كان في روايات نجيب محفوظ ـ فيما قبل وبما فيها الثلاثية، حيث أخذ حجم القصة في القصر بعد ذلك ـ  أو يوسف السباعي أو إحسان عبد القدوس وغيرهم.

3 التركيز علي منطقة "وسط البلد" للتعبير عن البلد ككل، منطلقا مما حدث بها من تغيرات شكلية (في العمارة خاصة) للدلالة علي ما حدث من تغيراجتماعي ونظرة للأشياء.

4 إختفاء الشخصية بمعناها التقليدي، إذ لم يعد الكاتب بحاجة لرسم شخصية وتتبع تكوينها إلا بقدر ما يخدم رؤيته بالمقتطع من مسيرة الحياة، وأصبحت الشخصية مجرد أداة في يد الكاتب يحمل عليها رؤيته.

5 الجرأة في التناول للمسكوت عنه بتكسير التابوهات التقليدية، مثل الجنس والدين، بل والسياسة في بعض الأحيان، رغم عدم التركيز بشكل مباشر عليها.

6 الأبتعاد عن الكتابة السياسية المباشرة، اكتفاء بتصوير الواقع الذي هو انعكاس للأحوال السياسية، والاقتصادرية المتردية.

وقد لخص الدكتور جمال التلاوي رؤيته في لرواية القرن الجديد بشكل مركز حين قال:

{.. إن أكثر الروايات الحديثة تعكس نوعا من عدم اليقين الأنطولوجي الوجودي لإنسان هذا العصر، وهو أمر قد يفضح الادعاءات الفكرية لدي الإنسان الذي تحول بدوره إلي حالة سيكولوجية. وبناء علي التحولات الفكرية فقد استجابت الرواية وطورت طرائق السرد حتى أصبحت بعض هذه الطرائق وكأنها تتحدي التنظيم الواقعي الممنطق، وذلك لنقل صورة حقيقية من عالم متحول مراوغ، وأصبح الاغتراب هو اليقين الثابت من بين هذه التحولات مع كثرة الشك ومع تطور علمي وتكنولوجي، فسيطر المطلق علي النسبي، وانفتح اللاوعي علي الوعي، وأصبحت الطبقة الرابعة في الرواية تتصل بالصفات الميتافيزيقية للتوازي مع الموقف من الحياة.. }(1).

وبصفة عامة يمكن القول أنه قد تطورت الأساليب والتقنيات للحكي، وظلت وظيفة الرواية  قائمة في التعبير عن تطور العلاقة بين طبقات المجنمع، وتطور فكره ورؤيته لهذه العلاقة. لذا اعتبرت الرواية من أهم المصادر التي تقوم عليها دراسة المجتمع وتطور أفكاره ومسار تحولاته، مثلما يقول د. عبد الحميد عقار:

{.. إن مناقشة وضع الرواية العربية في تكوينها وتحولها سيمكن في النهاية من الوقوف علي تطور الفكرالعربي ككل، لأن الرواية ليست مجرد شكل أو تقنيات بقدر ما هي تصور ووجهة نظر حول الذات والعالم والمحيط من حولهما، والوقوف علي وجهة النظر معناه الوقوف علي نمط التفكير ونمط الحياة، والوقوف علي نمط الإرتباط بالكون... }(2).

 

shyehia@yahoo.com

ـــــــــــــــــ
1-  د. محمد نجيب التلاوي وجهة النظر (السارد في الرواية العربية) ص 19
2-  الآداب البيروتية