تنشر الكلمة الجزء الأول من ثلاثية أحمد ضحية التي يحاول فيها تصوير الواقع والتاريخ السوداني من خلال شخصيات معاصرة تعاني من الصراعات الأثنية والدينية، ليتغلغل في تاريخ المكان وماضيه الأسطوري من أجل أنشاء الدولة والممالك بحكّام يتآمرون على بعض ويشعلون الحروب بصورة تعكس ما يجري الآن في الواقع المعاصر.

لا وطن في الحنين (رواية العدد)

أحمد ضحية

الجزء الأول: المخطوطة السرية

إهداء: إلى كل الذين أحبهم أحمد

 (القسم الأول: حواشي المخطوطة السرية)
إذا كان تاريخ شعوب البلاد الكبيرة هو تاريخ جلابي ود عربي. فان تاريخ جلابي ود عربي: آلاف السنين..

مدخل:
اقتربت عربة النقل الكبيرة مني بسرعة أكثر فأكثر.. كأنني أسمعها تصرخ وهي تهاجمني:"سأدهسك.. سأدهسك يا علي.. سأدهسك.. ". كانت سرعتها تجاهي مدهشة، وأنا مسمّر على الأرض من فرط الخوف، لا أقوى على رفع قدمي، لأركض وأنجو بنفسي ، كانت أطرافي قد تثلجت، وقلبي قد توقف عن النبض، والعربة تقترب أكثر فأكثر.. وفي اللحظة التي صدمتني فيها، وأصبحت تحت عجلاتها، صحوت من نومي مفزوعا..
تلفت حولي في الغرفة المظلمة. نهضت. أضأت النور. مضيت الى المطبخ. فتحت الثلاجة وأخرجت زجاجة مياه معدنية. بللت حلقي الجاف، وأخذت أجول ببصري بين علب البيرة " هانكن" و" وستيلا" والزبيبة والبراندي (خمور مصرية رديئة الصنع)، في الصالة، التي لا تزال بقايا دخان السجاير عالقة في أرجائها كأنها دخنت للتو..
يا لهذا الكابوس المرعب الغريب. أكاد أجن، فهذه الأحلام التي تلاحقني كلما نمت، تجعلني لا أقوى على التمييز بينها، وبين الواقع الفعلي الذي أعيشه. ما عدت أعرف هل أنا هو أنا حقا أم أنا صدى لذكرى بعيدة، ربما تتمثل في مملكة ساورا البائدة، أو مملكة الجوار أو الحلفاء أو مملكة الجبل والوادي، أو جلابي ود عربي هذه البلدة التي عشت فيها عددا من اللحظات، التي تبدو لي الآن لا متناهية.. هل أنا صدى لذكرى تتمثل في هذه الأماكن السحيقة أو القريبة فحسب أم لي وجود فعلي، هو هذا الوجود الراهن الذي صحى من الحلم مفزوعا وأضاء النور وفتح الثلاجة وجال ببصره في أنحاء الشقة و..
بالأمس حلمت بأنني في ساورا البائدة، أتنقل كروح هائمة بين مشاعر وأحاسيس شعب الوادي لمئات السنوات.. قطعت معهم كل هذه المسيرة الطويلة، حتى لحظة المبارزة بين ملكتهم "اياباسي": الأخت القوية كيرا وسولونق الفتى الشجاع من عامة الشعب(والذي قاد ثورة استرداد دالي لملكه كما تزعم المخطوطة السرية).. كان قلبي يخفق بشدة كلما تلقى سولونق بسيفه ضربة من ضربات سيف الكيرا..
قبلها كنت قد حلمت أنني في جلابي ود عربي، تلك البلدة التي رأيتها آخر مرة قبل أكثر من عقد من الزمان، أجوب حواريها وزقاقاتها، متسللا حكاياها وأخبارها، وعندما صحوت وجدت الحلم قد رمى بي مرة أخرى الى خاطر شعب الوادي!.. وهكذا بين خاطر شعب الوادي وجلابي ود عربي، ظللت أراوح محاولا الإفلات الى اللحظة الراهنة، التي أشك فيها هي الأخرى، أن تكون تمثيلا لوجودي الحقيقي في الزمن والمكان.
حدقت من نافذة الصالة أحاول أن أخترق بنظري ضباب الفجر، الذي يحيط بالأهرامات التي تبدو بعيدة من هنا، رددت بصري أحاول الوصول الى نهاية شارع الهرّم، وحاولت مقاومة النعاس، الذي لا يزال متواطئا مع خمر البارحة، التي لا تزال تسري. ، في رأسي وعروقي. نمت أمام النافذة واقفا. وجدت نفسي أعود الى "مملكة ساورا" التي كانت في هذا المكان نفسه، الذي نهضت فيه بلدة "جلابي ود عربي " بعد عشرات المئات من السنين (وربما آلآف).. رأيتني جزء من ذاكرة " سورنق " أبن كاهن " ساورا " الراعي العجوز "دورة " لم أعد أشعر بذات الرعب الذي كان يحدث معي، في البدايات، عندما أخذت هذه الاحلام تنطلق بي لتجوب بي التاريخ والأماكن، مختزلة الزمن والجغرافيا.
عندما أفقت من اغمائي وجدت نفسي في حاضرة البلاد الكبيرة، مطاردا من قبل أجهزة أمن أبو لكيلك الجنجويدي (لا أذكر أنها أعتقلتني، لكن لا أستطيع أن أنسى أنه أغمى علي أثناء التعذيب) وعندما أفقت من أغمائي، وجدت نفسي في المدينة الريفية (وآثار التعذيب على جسدي ووجهي) سألتني سارة شقيقة صديقي القديم حسن: - يبدو أنك تعرضت للضرب! مع من تعاركت؟ وأين أختفيت كل هذه الأيام؟..
-    كنت معتقلا..
أرتفع حاجباها في دهشة. ساد الصمت بيننا لفترة، ثم خرج صوتها على نحو مباغت، مهيمنا على فضاء المكان.. هكذا دون سابق انذار أخذت تحكي لي عن جلابي ود عربي وناسها.
خرجت سارة قبل منتصف الليل. أوصلتها قريبا من منزلها. عدت الى البيت الذي نشأت فيه. كنت منهكا، وما أن أسلمت نفسي للنوم حتى وجدتني في القاهرة!! بصحبة الميرم كلتوم!!.. أكاد أجن.. !!.. .
لا أعرف هل هذه أحلام، أم هي واقع حقيقي أعيشه، عبر ظاهرة خارقة تختزل جسمي وتختزل الزمن والمكان، فتستعيد فىّ كل تلك العوالم المفقودة؟!..
المفقودة؟!.. لا أدري أيها هو المفقود، والى اي عالم من هذه العوالم أنتمي حقا!..
هل أنتمي الى المدينة الريفية وجلابي في واقع الأمر، حيث تلك هي اللحظة الحاضرة لحياتي الفعلية، وما عدا ذلك هو محض أحلام، أثارتها وغذتها الوقائع والأحداث التي قرأتها في " المخطوطة السرية "؟! أم ان العكس صحيح: بمعنى أنني جزء من المخطوطة السرية، كواحد من موضوعاتها التي تناولتها!!..
ربما يكون ذلك استنتاجا متسرعا، اذ يبدو لي (ليس بصورة قطعية) أن لحظتي الحاضرة الفعلية، التي اعيشها هي في ساورا، وأنني باعتباري " سورنق: سيد الأرض أو دالي ابن آري "، أحلم بأن في هذه الرقعة من الأرض ستنشأ ذات يوم بلدة أسمها "جلابي ود عربي". وأن شابا اسمه علي (أي أنا) يسكن المدينة الريفية، سيتردد عليها كثيرا، ليحل محل والده أثناء غيابه في متجره الصغير، الذي أنشأه بهذه البلدة "جلابي"، وربما يتعرض للاعتقال في حاضرة البلاد الكبيرة، فيهرب الى مصر ويسكن في الجيزة، في شارع الهرّم تحديدا. ويلتقي هناك الميرم كلتوم، التي أختفت من المدينة الريفية، عندما كان هو صبيا بعد، دون سن المراهقة..
لا أدري الآن اي شيء هو الحقيقي، وأي شيء هو الوهم.. أو الظلال لهذا الحقيقي، او تمثلاته (الحقيقي) البعيدة.. كل ما ادركه الآن هو أنني يجب الا أنام، حتى لا أحلم وأجد نفسي فعلا في مكان آخر عندما أصحو (مثل كل مرة)..
(*)
كانت الحياة قد عادت الى طبيعتها، في اللحظة التي تهشمت فيها طبيعتي. بعد أن دهستني عربة النقل الكبيرة، وساوتني مع أسفلت الشارع.. ففي هذه اللحظة القصيرة، التي تفصل بين الحياة والموت، مرّ على خاطري كل ذلك العالم المنسي ل(جلابي ودعربي): تلك "الحلة أو الحي أو المدينة الريفية العجيبة، التي انهكت المؤرخين، بما طرحته من أسئلة عجيبة، حول جذور سلطتها، وممارسات ابو لكيلك الجنجويدي ومن سبقوه: كيف تمظهرت السلطة في البلاد الكبيرة.. هكذا مغايرة لكل أشكال ممارسة السلطة، في العالم الواسع.. لابد أن مظهرها البائس، يتعلق بمصدر انتاجها، وهكذا.. كنموذج بدأ (المؤرخون وعلماء الآثار) بدراسة جلابي ود عربي، في بناها الاجتماعية، وحكايا ناسها، التي تكشف عن شيء من ذاكرة اسلافهم المجهولين.. وبالنتيجة تم اكتشاف: أن كل البلاد الكبيرة، نهضت على أساس نموذج جلابي ود عربي، أو جلابي ود دينكاوي، أو جلابي ود نوباوي.. الى آخره.. لكن ظلت هذه الاستنتاجات التي توصل اليها المؤرخون وعلماء الآثار، مجرد مخطوطة لم يكتب لها النشر ككتاب لوقت طويل، وعندما تمت طباعتها حدث ما حدث!!..
حول جلابي ود عربي صدرت كثير من الدراسات والمقالات والكتب، التي حاولت الاجابة عن تاريخ جلابي ودعربي. ولكن كل ما كتب عن جلابي ود عربي، لم يكن محققا، كما أن فرضياته أنطلقت من أسئلة غير صحيحة.. هذه المقدمات الخاطئة ترتبت عليها نتائج خاطئة، ولذلك من دون كل ما كتب، وجدت المخطوطة السرية (التي لم يقرأها أحد) حظا وافرا من الشهرة، وذلك بسبب الاجابات الصحيحة التي توصلت اليها، بطرحها للاسئلة الصحيحة، تمثل جوهر المسألة حول تاريخ جلابي ود عربي، الذي نشأت فيه فكرة السلطة، وتشكلت في أنحاء البلاد الكبيرة..
النظام الاداري الأهلي في جلابي ود عربي، كان من الأمور اللافتة للنظر.. كان هيكلا عجيبا، فيه تراتبية مدهشة، لم يجد له أهالي البلاد الكبيرة تفسيرا، فشكل حافزا لكل الاسئلة، التي لم يتمكنوا من الاجابة عليها الا بعد الكشف الأثري، على الرغم من طرد السلطات مبكرا للبعثة الأثرية الألمانية، واعلان (جلابي ودعربي) منطقة عسكرية: ممنوع الاقتراب والتصوير!!.. بالطبع لم يعرف أحد بعد ذلك ماذا يدور داخل هذه المنطقة المغلقة، الا أن بعض الشائعات زعمت: أن بن لادن، اشترى جلابي ود عربي، لأغراض علمية:(انتاج اسلحة بيولوجية ونووّية)!!..
وكانت قصة اعلان جلابي ود عربي كمنطقة أثرية في البدء، قد بدأت بعد الحريق الكبير الذي شب في جلابي واحرقها من بدايتها الى نهايتها، وأصبح الأهالي يقيمون في العراء.. فأكتشف أحدهم عن طريق الصدفة، بعض التماثيل والأواني أثناء حفره، لنصب أعمدة خشبية (لكوخ صغير، يقيم فيه بعد حريق منزله)، فاستوقفه ذلك.. ومضى يحفر فأكتشف انه في مدخل معبد.. وهنا تدخل موظفي تنظيم القرى ومعالجة السكن الاضطراري، فاشرعوا الباب واسعا لهيئة الآثار التي اكتشفت: ان المعبد الذي اكتشفه الرجل، هو في أطراف مدينة بائدة وعندما توغلوا في الحفريات، بمساعدة البعثة الالمانية فوجئوا بعالم أثري مبهر: كانت المدينة الأسطورية (ساورا) " بشحمها ولحمها" تنهض أمام الجميع من قلب التاريخ المنسي، ومن أعماق الذاكرة الشعبية لجلابي ود عربي..
على جدران هذه المدينة البائدة، اكتشف علماء الآثار، وشوم للقبائل التي سكنت ساورا، وتاريخ الممالك القديمة المتنازعة، كما وجدوا نوعا غريبا من الورق، فشلت كل اجهزتهم المتقدمة في التعرف على نوعه او مكوناته، مكتوب عليه بما بدا واضحا انها حروف خاصة، ليست مطروحة للعامة من شعب (ساورا)، ويتم التعامل بها فقط في دوائر الكهنة، حتى لا تتسرب اسرار علومهم، لكن كان واضحا أن حروف اللغة: مزيج من الحروف اللاتينية القديمة وحروف لغة الفور والنوبا، وعلى هذا الاساس جرت محاولات فك اسرار هذه اللغة..
ذهلوا مما وجدوه: تاريخ للوقائع والأحداث التي شكلت مملكة ساورا، وأدت الى انهيارها، الأمر الذي طرح تساؤلات عدة عن علاقة ذلك بجلابي والمدينة الريفية.. وهل قادت الصدفة النازحين لانشاء جلابي، أم هو الحنين الغامض لمملكة أسلافهم.. ودودو أو بولدين(الجد الأكبر) لمملكة الجوار أو الحلفاء هل هو أبو لكيلك الجنجويدي أو حسان جداد بعد مئات السنين؟.. ولاروي شقيقة دودو: أليس من الممكن أن تكون هي السرّة، والحلفاء وساورا ليسا أكثر من المدينة الريفية أو جلابي؟!
هذا العالم القديم بمثابة المركز الذي تنعكس على مرآته ظلال جلابي وامتداداتها، مثلما أن الممالك المعاصرة لساورا(الحلفاء والجوار والجبل والوادي) مجرد صدى للصوت الأساس الذي تمثله ساورا (جلابي الآن)..
صفوّة الحواشي:
عندما صدرت (المخطوطة السرية لجلابي ودعربي)، التي تمتعت من دون كل مناطق البلاد الكبيرة، بنوع من الحكم الذاتي، في المراحل المختلفة، لحكومات الاستعمار المحلي الجنجويدية المتعاقبة (منذ خروج الاستعمار الانجليزي).. أصيبت الأجهزة الرسمية في البلاد الكبيرة(على أتساعها) بالهلع والخوف، فداهمت المطبعة التي طبعت المخطوطة، واستولت على كل الكميات التي وجدتها، وأعتقلت أصحاب دور النشر، التي وصلتها المخطوطة، وقامت بمصادرة كل الكميات التي تسربت الى المكتبات.
أخذت أقلب الشذرات التي بعث بها اليّ صديقي حسن، والتي قال أنها مجتزأت (منتزعة في عجلة) من أصل المخطوطة، بعد أن تمت طباعتها ككتاب (زعم حسن أنه أستطاع التسلل الى مكتبة ود الخزين، زاعما أنه في طريقه الى المطبخ، لاحضار المزيد من الويسكي.. وصف حسن عملية الانتزاع العشوائي لعدد من الصفحات، بأسطورية لصوصية يحسده عليها أرسين لوبين) كان من الواضح أن هذه الشذرات غير متناسقة وعشوائية، لكنها (مع ذلك) تعطي فكرة ضئيلة عن موضوعها.. وقد تمنيت مرارا أن يحضر حسن وعبده الخال اليّ هنا.. في هذه البلاد البعيدة، فقد شكيا من سوء احوالهما في البلاد الكبيرة، حيث تركتهما هناك متخذا قراري بالهجرة، ليصلا الى نفس القرار بعد عدة سنوات كما تقول رسائلهما.. لكن يبدو أنهما بعد لم يحسما هذا الخيار المؤجل..
لو كتب لهما الحضور، والتقينا ربما يكون بحوزتهما، الكثير والمثير عن تداعيات الامور حول مخطوطة جلابي ود عربي وتاريخها المجيد..
ما أستوقفني في بعض الشذرات (التي بدا من الواضح أنها ترجمت من احدى لغات البلاد الكبيرة الميتة، المزيج من عدة لغات (كما زعم حسن، دون أن يحدد هذه اللغة او المجموعة التي تتكلمها الآن) هو انسيابيتها في الحكي (بالطبع هذا، بعد أن قمت بترتيب الشذرات على نحو منطقي تراءى لي – لكن في واقع الأمر أشك أن ذاك هو التسلسل الصحيح)..
كانت أخبار طباعة المخطوطة السرية قد تسربت (كما قال حسن) في اللحظات الآخيرة، بعد أن تمكنت المطبعة والناشر السري، من طباعة عدد كبير منها.
ولكن ما أن تسرب هذا الخبر، بطريقة ظلت غير معروفة حتى الآن، تحركت الأجهزة الأمنية بضراوة للسيطرة على تسرب المخطوطة. ورغم أنها حققت نجاحا كبيرا، الا أن بعض الشائعات، أكدت تسرب سبعة نسخ لعدد من الشخصيات التاريخية في مجالات مختلفة. فاحد هذه الشخصيات هو عالم لغوي كبير، والذي ما أن وصلته المخطوطة، حتى سافر بها وأودعها في خزينة أحد البنوك الدولية (لندن) والاخر محام اسلامي شهير صاحب تاريخ يساري تمكن من سرقة النسخة الوحيدة التي كانت قد وصلت (دار الوثائق القومية) في ظروف بالغة السرية، عبر سلسلة معقدة من الوسطاء.
النسخة الثالثة والرابعة والخامسة، حصل عليها ثلاثة من قادة أحزاب تاريخية (وفقا للشائعات المكتومة التي خرجت للعلن) أما النسختين المتبقيتين، فلا أحد يدري أين أختفتا!.. أو ما هو مصيرهما؟!..
ردة الفعل العنيفة من قبل الأجهزة الرسمية تجاه المخطوطة، قسمت الرأي العام الى اتجاهات وتيارات متباينة، عبرت عنها المنشورات والبيانات، التي قامت بتوزيعها الاحزاب السياسية (المحظورة)، والاتحادات والنقابات والروابط والجمعيات الطلابية والاقليمية والأكاديمية (المحلولة)، ومؤسسات المجتمع المدني المستقلة والموالية..
فبينما كانت اتجاهات الرأي العام: وفقا لمؤسسات المجتمع المدني، تستنكر ما أسمته: السلوك الهمجي للأجهزة الأمنية، ومصادرتها حرية النشر..
وقفت القوى السياسية المتوالية في ندواتها، التي أقامتها تحت رعاية واشراف وزارة الداخلية، موقفا معضدا لما أتخذته الأجهزة الرسمية، من اجراءات (في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ أمتنا.. ) بينما القوى السياسية(المنحلة وفقا للتعبير الرسمي لحكومة أبو لكيلك)، أشارت في بياناتها التي غلب عليها طابع الانشاء، والخيال الرومانسي والاحتفاء باللغة (بكرة التجمع جاي + زي غضبة الهبباي.. . و.. سوف نخرج للشوارع + شاهرين هتافنا + ولسوف تلقانا الشوارع ب.. ): القوى السياسية هذه قالت:أنها تدين وتستنكر تزييف الحقائق. ولم يفهم أحد ممن قرأ المنشورات:هل المعني بهذا التزييف المؤرخين والآثاريين، الذين قاموا بكتابة المخطوطة، أم السلوك الذي انتهجته الدولة؟!..
كانت الاتحادات والنقابات (خاصة نقابة المزارعين خارج التخطيط واتحاد الرعاة) أكثر شجاعة، اذ ادانو ما أطلقوا عليه(السلوك البدوي الاجرامي غير المتحضر) لحكومة الجمهورية الأولى، وطالبوا بحرية الزراعة والرعي والتعبير والتفكير واطلاق سراح المعتقلين. وتحدث البعض في الشارع العام عن قضاء عادل ومحاكمة حقيقية، الخ..
لكن الطلاب العلمانيين في الجامعات والمعاهد العليا، مضوا الى خطوة ابعد من ذلك، اذ أتخذوا من قضية المخطوطة السرية، شعارا للمطالبة بمراجعة عقود النفط، مع الشركات الأجنبية، والافراج عن المعلومات الخاصة بالنفط، والثروات في باطن الأرض وظاهرها، وأطلاق سراح تاريخ الشعب (وقد بدت للمراقبين جميعهم، مسألة"أطلاق سراح تاريخ الشعب" من أكثر المطالب غموضا).
أتخذ الطلاب العلمانيون من قضية المخطوطة السرية، لجلابي ود عربي. شعارا للمطالبة بالحريات والحقوق الاساسية، واتسع سقف المطالب ليشمل كل الحقوق المدنية حتى أوضاع المثليين في الدولة الجنجويدية!!.. .
في أوج هذه البلبلة التي أعترت البلاد الكبيرة من أقصاها الى أدناها، أتصل عدد من مراكز الأبحاث think tanks والجامعات الأمريكية والأوروبية، بذلك العالم اللغوي الكبير، وقدموا له عرضا مغريا لشراء نسخته، التي كان قد أودعها الخزينة المنيعة في لندن، وكخيار ثان عرضوا عليه شراء صورة منها، اذا تعذر بيع الأصل..
للأسف كان البروف عالم اللغة وقتها شبه الميت سريريا، اذ تعطلت وظائفه الحيوية، وفقد القدرة على النطق. ولم تمض سوى أيام معدودة على ذلك، حتى قضى نحبه مأسوفا عليه.
ما ألم بالبروف الكبير كان مريبا، الأمر الذي جعل الخيال الشعبي، واللاشعور السياسي يلتقيان في نقطة واحدة: مؤامرة من الأجهزة الأمنية، لأغتيال كل من يملك نسخة من المخطوطة السرية لجلابي ود عربي!!..
كما أن الأوامر التي صدرت الى مكاتب المعلومات والاستخبارات، في كل أنحاء المنطقة والعالم، تلخصت في عبارة واضحة: الحصول على المخطوطة أو صورة منها بأي ثمن!!..
فشهدت منطقو جلابي ود عربي تحركات محمومة، من قبل سياح خواجات وأفارقة وعرب، ترتب على ذلك ازدهارا كبيرا في الأقتصاد الناشيء(لكن القوي) لجلابي ود عربي. وكانت حتى ذلك الحين ردود الأفعال لا تزال في توال مستمر..
اذ تخلى بعض أئمة المساجد وعلماء اللغة وأصول الدين عن وظائفهم، واتجهوا لأول مرة في حياتهم لدراسة التاريخ، فألفوا في غضون أسابيع قليلة، العديد من الكتب لدحض الوقائع والأحداث التي حملتها المخطوطة السرية، التي لم يقرأها أحد منهم أو من سواهم، وقد سجل أحد كتبهم الموسوم ب(الجام العوام عن الكلام في شأن جلابي ودعربي ومن والاها من أقزام) مبيعات مذهلة في أفغانستان والسعودية والعراق والبوسنة، الأمر الذي لم يجد له احد من النقاد او المراقبين تفسيرا مقبولا..
وازاء هذا التعدي المهني على علماء التاريخ، ترك المؤرخون عملهم، وأنسحبوا في صمت مريب، لم يستطع أحد أن يفسره لصالحهم أو ضدهم.
أكد بعض خبثاء المدينة(في محاولة لتبرير انسحاب المؤرخين) انه رأى أكثر من مؤرخ، لديهم استثمارات صغيرة في قلب السوق العربي، فبعضهم يعمل في دكانه الخاص ببيع "التمباك"، وآخرين اتجهوا للمرطبات والوجبات السريعة..
وحتى هذه اللحظة التي أكتب فيها عن المخطوطة السرية لجلابي ود عربي (قال حسن) لم أتمكن من العثور عليها لتحقيقها..
كل ما وصل الى علمي من صديقي حسن أو سواه، هو مجرد حواشي وبعض الشذرات، التي سأستعرضها لاحقا، على أمل أن أتمكن يوما من تحقيقها.. فما هي طبيعة هذه الحواشي والشذرات؟!..
أنها تبدأ بوصف جغرافي محض لساورا المملكة القديمة، ويتضح أن هذا الوصف الجغرافي ينطبق على جغرافية جلابي ود عربي، ما يعني أن ساورا البائدة، هي الموقع الجغرافي ذاته لجلابي ود عربي ..
(*)
(جلابي ود عربي)، الآن ليست هي "الحّلة" التي أنشأها الأسلاف النازحين..
"جلابي" اصبحت من أحياء الدرجة الأولى، التي تتمتع بكافة الخدمات. فمنذ الحريق الكبير الذي قضى على كل شيء في جلابي ودعربي، حدثت تحولات مدهشة: اذ أعيد انشاء المدينة من جديد، وبدلا عن أولئك الفقراء البؤساء، الذين كانت تعج بهم جلابي ودعربي، حل شعب كامل من المتأنقين في "جلاليبهم" البيضاء الناصعة، وبذلاتهم الزاهية..
أصبحت جلابي ودعربي رسميا " مدينة الفردوس الفاضلة"..
وهذه المدنة رفيعة المستوى، أصبحت هي الحلم عسير المنال، لرجال الأعمال والسياسة والفنون والرياضيين والمهنيين الكبار، وصفوة المجتمع بصورة عامة..
جميعهم يحلمون بالسكنى فيها.. السكنى في الفردوس الذي كان أسمه ذات يوم (جلابي ود عربي)..
ثمة علامات فاصلة يؤرخ بها لجلابي ود عربي مثل: النزوح الآخير، اغاثة الأب رونالد ريغان وزوجته المصونة اميركا (التي أنقذت أهالي جلابي ودعربي من الانقراض).. وحريق بيت أم التيمان، الى آخره من الأحداث الكبرى، التي مثلت فواصل أو مراحل انتقالية في حياة جلابي ود عربي..
" شخصيات حميمة تخطر على ذاكرتي الآن " قال صديقي حسن.. فأجبت:
- ماذا تعني، ومن تقصد؟!..
-    سأجيب على أحد السؤالين.. أقصد أم التيمان، التي توهمت منذ مراهقتها الباكرة، عاشقا كقبض الريح. فظلت تستدعيه من نبض الحروف، في رسائله العاطفية القديمة اليها..
أم التيمان أختفت في ظروف غامضة، أورثتني الندم، اذ لم أستجب لرفضها اقامة علاقة معي (في ذلك اليوم العجيب) قرنت خروجها من حياتي، بمصير رغبتي في التحقق أو التراجع.. لكن لم أتراجع، فقبلت بشرطها.. فخرجت من حياتي، كما خرجت سلمى خير الله التي لم أنجح في هزيمة تسلطها، ونجحت بعد فشل لازمني لوقت طويل.. قبل أن أتمكن من قمعها داخلي.
أطياف عديدة لأناس عرفتهم ذات يوم في لحظات انسانية مختلفة، تتراوح بين الضعف والقوّة، يمرون على الخاطر الآن، خارجين من قلب الذاكرة: تمضي ست البنات العشمانة.. تمضي ثريا.. يمضي أدروب.. حسان جداد حسان جد.. جداد: هذا رجل عجيب وغريب، كادت أن تفتك أفكاره المتطرفة بجلابي ود عربي. فبعد مجيئه من الأراضي المقدسة (يبدو أن العرافين الذين طردوه ذات يوم أعادوه مرة أخرى) وتعبيرا عن ولاءه وتقديره لهذه العودة أخذ يقيم الندوات في مسجد جلابي، ولا يكتفي بخطبة الجمعة.. كان يتحدث عن فرقته الناجية، ويعمم أحكام التحريم، منكلا بتاركي الصلاة:
" نكاحهم باطل، ذبيحتهم ومؤاكلتهم حرام، لا يدخلون مكة، لا ميراث لهم أحياء أم أموات، لا يغسلون ويكفنون، ولا يصلى عليهم، ولا يدفنون مع المسلمين.. (يتنحنح)عباد الله، اتقوا الله.. أستغفروا الله ان كنتم مؤمنين.. أستووا يرحمكم اللّه"..
هذا التصعيد العاطفي شديد التركيز لمنظومة الترغيب والترهيب، التي شهدها خطاب حسان جداد، أصاب أهالي جلابي ود عربي البسطاء بالزعر والقلق والتوتر، فأصبح مزاجهم عكرا وأخلاقهم ضيقة! ينفجرون لأي سبب، وبدون سبب.. فالرجل أعتمد في تدمير معنوياتهم، على الكلمات ذات الوقع الرمزي الثقيل في اللا وعي الجماعي..
وهكذا بين ليلة وضحاها، وعلى نحو مباغت، نصّب حسان جداد نفسه خليفة لله على الأرض، ووسيطا بين النّص المقدس وأهالي جلابي ودعربي المرّوعين..
لم يترك جداد شاردو أو واردة، تمس حياة أهالي جلابي ود عربي، الا وألتمس لها حكما تحريميا صارما، فتدخل بصورة مباشرة في حياتهم.. تفاصيلهم الدقيقة، التي يصعب التماس ربط لها في النّص الديني العمومي جدا!!.. قائلا بأهمية أغلاق باب الفتنة، معتمدا على لغة الخطر الدائم، المحدق بأهالي جلابي ود عربي المغلوبين على أمرهم، وبمبالغاته الهزيانية أعتقد بعض البسطاء: أن جداد هو الناطق الرسمي باسم الله، و أنما النصوص التي يستشهد بها، قد نزلت في حقهم وحدهم، وأختصت بها جلابي ود عربي، دونا عن سائر مخلوقات اللّه واراضي كونه الواسع!!..
ولولا أن ثلاثة من أهالي جلابي ود عربي، ربضوا له ذات ليلة غاب فيها البدر، وأبرحوه ضربا، لأصاب الرجل أهالي جلابي ود عربي بالجنون..
خرجت الشائعات بأن الثلاثة الذين أبرحوا حسان جداد ضربا هم: كسبان الضّاوي وجمال الحلّة و عبد الرحمن العوير.. لكن لم يكن ثمّة ما يؤكد هذه الشائعات، رغم التحريات الواسعة، التي قامت بها الشرطة..
الا أن" العلقة " الساخنة التي تلقاها جداد في ذلك "الكمين" من قبل المجهولين الثلاثة (أقام أهالي جلابي ود عربي فيما بعد، نصبا تذكاريا لهؤلاء الثلاثة، اسموه بنصب: الجندي المجهول) جعلته شيئا فشيئا يخفف من ترويعاته للناس، وتدخلاته في حياتهم، خاصة أن الأهالي للثأر منه حاصروه بشائعات مذهلة، جنحت بعضها للزعم، بأن جداد أغتصب ثريا بنت السّرّة في اول مراهقتها. وكادت هذه الشائعة بالتحديد تصيب جداد بالجنون!!.. فقد أسودّ وجهه وتهدل جفناه، وكان واضحا أن الرجل لم يغمض له جفن، منذ وقت أطول من الوقت، الذي قضّاه أهل الكهف وهم نيام!..
ويبدو أن هذه الشائعة المتقنة بالتحديد، هي التي نجحت في تحجيم نفوذ جداد، الى أقصى درجة ممكنة. فقد تقلص خطاب ارعابه للأهالي البسطاء في جلابي ود عربي، وأوقف حملاته الى أن تهدأ الاحوال.. لكن يبدو ان خطابه الأرهابي تمكن من بعض النفوس (فحتى صديقي حسن كما علمت لاحقا انضم لفترة محدودة الى العرافين جماعة جداد) التي أستطاع توليف قلوبها بسخاء مريب!!..
أخبرتني سارة بعد مضي وقت طويل، من انضمام شقيقها حسن الى العرافين، أن حسن في ذلك الوقت تحول الى كائن مزعج، اذ أخذ يحلّل ويحرم كما يعن له، فحطم التلفزيون الملّوّن الذي أقتنوه بعد جهد جهيد وأحرق الملاءات الجديدة لأنها ملوّنة، وألحق بها الصّور الفوتغرافية، بدعوى أن كل ذلك حرام. الأمر الذي دفع والدته (حاجة بخيتة) الى طرده من البيت. وبعد مضي بعض الوقت أدرك حسن خطأه، فوّسط سارة لدى أمه، وأخوانه فسمحوا له بالاقامة الجبرية، ريثما يتأكدون أن اللّه رد له صوابه.. تذلل حسن وطلب السماح فسامحته أمه " قلب الوالد شفوق!".. عاد حسن لكن لم يعد لديهم تلفزيون او ملاءات ملونّة!!..
في ذلك اليوم الذي جاء فيه حسن طالبا السماح، فرح أشقاؤه وأحتفوا به باقامة بارتي party صغير، دعوا له الجيران والأحباب الذين كانوا يتسألون:
- ما المناسبة؟!..
-    لقد عاد حسن..
كانت فرحة الحي بعودة حسن لا تقابلها فرحة، احتفى به الجميع حتى أن خلاّنه من شلّة عبده الخال، عزموه على كأس من عرقي الجوافة البكر، فشرب حسن في ذلك اليوم، كما لم يشرب من قبل، وغني " سامحني" حتى الصّباح..
كان عبده الخال أكثر افراد الشلّة سعادة، فهو صديق طفولة حسن وصباه وزميل دراسته، وشريك مغامراته العجيبة.. كما أنه من أكثر الذين تضرروا من تلك التحولات " الجدادية" التي أعترت حياة حسن (قال له مازحا وهو يمد له كأس عرق الجوافة الثالث:
-    البيباري الجداد بيوديهو الكوشة،
فضحك حسن دون أن يعلق) اذ لم يعد يأكل معه في صحن واحد، بدعوى أن مؤاكلته حرام!!.. الأمر الذي أضطر عبدة الخال الى طرده في نهاية الامر، وتحذيره من زيارته مرة أخرى..
الحاشية الثانية:
المجتزأ الثاني من المخطوطة السرية:
بسم اللّه الرحمن الرحيم – ربنا آتنا في الدنيا حسنة، تباركت ربنا خالق النّور ومبدأ الوجود أرزقنا سوق لقياك والصعود الى جناب كبرياك، وأجعل ذواتنا من الطاهرات الكاملات، فالفارقات العابدات. اليك أنك ولي الأبد وصاحب الطول العظيم. أما بعد هذا هو خبر ما جرى في جلابي ود نوبة، منذ نشأتها الاولى، الى أن أخذها السيل، ورّوعت أهاليها القرنتية. أعلم أن.. . (ممزق)..
ما قالته الميرم كلتوم لسلمى خير اللّه، عندما جاءتها لتفتح لها الكتاب، لم يختلف كثيرا عما قاله لها أبكر المعراقي بعد ذلك بوقت طويل. قالت لها الميرم:": (ستخرجين من عتمتك الى اشراق، يملؤك بالنور. فلا ترين سوى دربا اخضر، وجدر تسلقتها نباتات الخريف، وبين بين نهرين من اللبن والخمر، على ضفافيهما تنهض أشجار المانجو، التى تغرد بين تلافيفها الطيور الملونه، وتجلس تحتها الطواويس والغزلان..
ستخرجين من عتمتك الى بوح ندى، يخاطبك الناس بالشعر، فتتكلمين بلغة العصافير، وتدركين أول الانبياء (دالي) وتخرجين من كتابه كما خرج علي.. تحكى له عن طيّ الزمن، والمسافات، والوجوه المغبرة، وعكرة خلفتها وراءك. فيبادلك الحكمة، ويبتسم ثم يسجد وتنتظرينه وتنتظرينه، لكنه لا يرفع عن السجود، اذ يغادر الى الاشراق.. )
خرجت سلمى خير الله من الغرفة المعتمة، دون ان تعير الصّبي الصغير، المتكىء على مواربة الباب، التفاته. مضت فى الدرب الملتوى، تتجنب المستنقعات والبرك الصغيرة، فى الزقاق المظلم. وتخشى ان تهاجمها كلاب الحي على حين غرة..
وهى تخلع ثيابها حائلة اللون، لترتدى قميص نومها الداكن الخشن (وقتها كانت سلمى تخطط للأغتراب بعد أن خلفّت وفاة والدها المبكرة أوضاع بالغة السؤ).. عندما دخلت سألتها أمها بلامبالاة:
- أين تأخرت كل هذا الوقت؟!..
فأجابت باقتضاب وهى تستلقى على سريرها:
- أخذتنى سارّة الى العرّافة..
كانت صديقتها الوحيدة سارّة ، قد ألحت عليها، بالذهاب معها الى الميرم كلتوم العرّافة، ذات المهارات المتعددة __ (فهى تخط الودع، تقرا الكّف، تضرب الرّمل وتفتح الكتاب.. بعد أن تضع أعواد البخور، على المباخر العديدة المنتشرة فى الغرفة الضيقة، الصغيرة، بضؤها الكابى، الموّحى.. ليتصاعد الدّخان السحرى، محيلا الرؤية الى ضبابية، متقشعة. مسربا الخدّر، والاحساس بالوجع اللذيذ. الخفى. فى كل شىء.. حتى قطع الأثاث العتيقّة..
كانت سارّة دهشة للسؤال الذى يطرحه حال سلمى ، فهجسّت بالاجابة عن هذا السؤال. باحضارها الى الميرم كلتوم، ولية الله الصالحة ، التى ولدت مختونه(كما أشاع عنها عبد الرّحمن العوير عند رحيله الى جلابي)، وعزفت عن طلب الرّجال(كما يحكي التاريخ القرّيب لجلابي ود عرّبي والمدينة الريفية).. ، ماء شبابها يتجدد كل يوم(كأنه لا يغيض) فهي نضرّة لا يغشاها غضّن، أو يخطّ عليها شيب.. وعندما حدثت سارّة الميرم كلتّوم عن سلمى خير الله. تبسمت الميرم عن اسنانها النّاصعة، المكتملة، ولم تنبث ببنت شفة.. . )__ فى البدء رفضت سلمى الذهاب، ثم لانّت. كأن قوة خفية نهضت فجأة، لتدفعها دفعا.. وعندما خرجت من غرفة الميرّم ، كانت سارّة قد أختفت من الصالة، حيث تركتها قبل أن تدخل على الميرّم ، التى مضت بها فى دروب ذلك العالم البرزخى، تدفعها دفعا لقطع وهاده وسباسبه، الى أن توقفت عند شجرة (اللأ لوب) فى المنتهى.. فتركت سلمى تسير وحدها، كطيف سابح فى بحر من النور الكّلي..
لم تبحث خديجة عن مريم، وغادرت بيت الميرّم فى عجلة، وهى تتعثر فى قطع الأثاث بطريقها. دون أن تشعر بها. الى أن لفحها تيار هواء بارد، فادركت أنها بمنتصف الزّقاق المفضّي الى الشارع الرئيسي..
كانت سلمى منذ طفولتها كغزالة نافرّة. فعندما تبدأ الفتيات فى لعبة (الحجلّة أو عريس وعروسة، الخ.. ) تقصى نفسها ك (وزينه) على ضفاف بحيرة شاسعة. لا تريد التوغل.. تتركهم يمرحون وحدهم. وتراقبهم وهى تنشد:
(الزّارعينا فى كبد البوصة.. نّي، نّي.. مونجيض +
الطير كلّي البرسوسه.. .
الزّارعينا فى كبد الغابة.. نّي، نّي.. مونجيض +
الطير كلّي الورّتابه.. )
وظلت هذه الأنشودة، تعزّية وحدتها. منذ ذلك الوقت. وكانت حين ترغب فى فصل نفسها عن العالم الذي أخذ يتهشم حولها بعد أن فضحهم حسّان شقيقها الكبير في الحي ونكّس رؤوسهم ، تتوغل متسحبه الى داخلها وتدخل فى حالة لا شعورية، وتبدأ فى ترديد أنشودتها المحببة، بصوت عميق، ملؤه الأسى واللّوعه. كأن طقسا بكامله، تؤديه جوقه من الرّهبان.. الى أن يخترق صوت سارّة كالمعتاد، فى كل مرّة عالمها الطقسي:
(الناس عرسو.. انا فى النميم يا يابّا.. . )
هكذا تشرخ سارّة عالمها فى كل مرة، فلا تملك سوّى أن تنظر اليها بمحبة، وتمسح حبات العرّق من وجهها، وتبتسم دون تعليق..
تقول لها سارّة:
-    جاني عريس.
-    مبروك..
-    وأنت؟..
-    مالي أنا؟!..
-    يجب أن تتزوجي..
-    الا ترين كيف هو الحال في أسرتي، سأغترب..
سنوات غربتها تمضى بخطى وئيدة، كتسحب الشمس شيئا فشيئا، قبل أن تغيب. وطفل سارة الذى أرسلت لها صورته - فى السنة الأولى لولادته - يكبر. يصير صبيا، وسيما. تطل شقاوة أمه من عينيه. تبتسم سلمى عند هذا الخاطر، وتدخل آخر الصّور -التى أرسلتها لها سارّة قبل شهر، للصّبي أليف الملامح، صّبوح الوجه - فى اطار مذّهب حذاء التسريحة..
فى غربتها المترّفه تنفتح حياتها على بوح قديم، ظنّت أنها خلّفته وراءها.. بوح يطل برأسه من رّحم الماضي، بين آونة وأخرى.. يخزّ رغباتها الغامضة (التى ليست لديها فكرة واضحة عنها، فقط محض رغبة فى التلظى والتشظى).. تخرج منها، الى صلوات سرّية طويلة، تختمها بتلك الأنشودة التى تحبها، دون أن يخترق صّوت سارّة عالمها الطقوسى ويشرّخه.. .
تتفجر كوامن شجنها لوجه غامض، تعرفه ولا تعرفه. يجيء بملامحه المبهمة، من خلف ضبّاب المغيب، لحظة ما قبل الفجر الغامضة.. .
يصبح كيانها كله مشدودا كوتر كمان، عميق الجرّح والآهة، أسيان كنّدى فجر شاحب.. يخرج ابن سارّة من الصّورة، يعزف حتى تكّل يداه من العزف المنفرد، فيتوقف عن العزف، وتخرج سارّة، من سطور الخطاب.. تشد الوتر (وجدان سلمى) وتعزف نغما مألوفا، عن الشجن والترقب، فتهتف فيها بكل التحفز العميق:
-    (انه هو)!..
فتتوقف عن العزف.. تستند الى ساق النّخل، كالمنهارة. تدخل فيه.. تتلاشى!!.. وعبثا يطول انتظارها لخروج سارّة.. (التي كانت قد أحتضنت ابنها، وغابت فى سطور الخطاب.. .
تعيد سلمى الصّورة الى التسريحة، تلوكها الهواجس والظنون، فتحترّق بنيران الاسئلة، الى ان يأخذها النّوم، وتمضي بها الأحلام الى عالم مضيء.. تتلّفت حولها لترى مصدر الضوء، وعبثا تبحث.. فاضاته من اللا مكان: لا شرق. لا غرب، لا شمال أو جنوب.. تتسلق حائطا أخضر. يبدو لها ناعما. وتسبح بعده فى نهر الخمر. تتشرب مسامها بالخدّر. وتتسع رؤاها ورؤيتها. ، فتدرك الضّفة الاخرى منهكة.. وهى بين الصّحو والنّوم، تحط على كتفها يمامة، وتقترب غزالة، لتجلس اليها فى حنو. تحكي لها عن الذى وجدته ملقى على شاطىء البحر، وحيدا، ينضّح بالعذاب. فسقته من ثديها..
-    كان ينضّح بالعذاب!..
تؤكد، فتقول اليمامة:
-    العذاب غسول الصالحين..
وتحلّق، تحلّق.. لتجد سلمى نفسها بين منزلتين.. .
لطالما حلمت فى تلك النهارات البعيدة، بوجهه غجري الملامح. يأخذها من قلب حلقة (الذّكر)، ويمضى بها فى مسارات غائظة بالتوجس، مشحونّه بالمغامرة، بين احتمال موت جدير بحياتيهما، وحياة لا تدركها تلك الهواجس والظنّون، التى عانتها فى أسى والتياع، بانتظاره المضن!!!.. .
كطاقة بعث - كانت حياتها - تخرج من قلب دهاليز التاريخ وازقته وحواريه، فى مدنه المدفونه. وعندما ألتقت (علي) تصورته في البداية هو.. لكنها ما أن توغلّت في عالمه وأكتشفت علاقاته المعقّدة بأم التيمان وست البنات العشمانة وثريا وكل الحكّايا التي عرفتها عنه (ولم تلمّح له ابدا بأنها عرفتها).. أصيبت بانقباض خفّي.
لطالما حاولت التخلّص من علاقتها غير المسماة به، وكثيرا ما كانت تعزّي نفسها بمحاولة ايجاد المزيد من الاجابات لرفضها له. فتقول " على كل حال علي يصغرني كثيرا ".. ظلّت تقاوّم سطوته عليها، حتى اختفى من حياتها تماما، بعد أداءه الخدمة الوطنية..
طاقة تتفجر هكذا، كبركان. تجتاح حممه كل شىء. لتدفعها دفعا لارتياد عوالم لا تدركها. فقط تحسها. وتكاد تتلمسها. بانأملها التى ترى ما لا يرى!!!.. ..
حاولت أن تغلق قلبها دونه، لكنه ينفتح على شبح وجهه، غامض الملامح. وجهه المحزون، بخزلان حوارييه، وخيانة حسن الصديق القريب(مع ثريا).
وجهه المندفع من عالم سرمدي، بعيد، بعيد. لا تدركه الأبصار.. . فتهتز سلمى كنخلة، فى مهب الرّيح، يحاصرها "التساب". فى غمرة الادراك لوجودها غير المدرك.. وتمضي فى رحاب عالم تصّله ولا تصّله. واذ تصّلّه لا تجده. وهو فيها. وهى فيه. يتماهيان. فلا يصبحان واحدا. بل صفرا. مركزا للواحد.. وواحدا على هامش الصفر.. (تتوحد) فيه، ليتلاشيا، معا. ولا يعود لهما وجود: (صفر).. وخز شفيف وشقّي، يجبرها على طرد هذا الخاطر، وخز يتكون كدمل. يتحفز للانفتاح على نافذة مترّبة. بتعاقب الفصول.. .
لثمة خفية تنزعها من مكانها، تتلّفت حولها، وتستكين. خدّر، بلسم يهديء صّبوتها.. عذّابها الجرّح.. فتترقب وجهه أكثر، وجهه الغامض يلوّح من "شفق" المغيب، فجأة، كما صعد فجأة، تاركا صالبيه: حيارى، وهم مروعين مما شبه لهم، فى ذلك الفجر الذى ينذر بالمخاوف -.. يمضي بها، يقلق أحلامها، ويعزف على الكمان، أغنية الانتظار - للتى طال انتظارها.. الجرّح العذّاب - لمخّلصها من عذّابات الوصول (العذّاب.. العذّاب، غسول الصّالحين.. ).. تضج بأنين الشجن، وتأوهاته، ألم الغربه، القاحلة وأحتراقاتها.. هذا الموت الذي يدّنو منها، ليقودها الى (الفناء)، مبددا تصّوراتها..
ذاك الوّجه الغامض، الذى يتبدى عن أوتار الكمان، وتلافيف الشجن عصي البّوح.. يقلق وحدتها.. تتشظى به، فيمضي أكثر لوعه وألتياع، ويمضي ولا يجيء.. يغيب فى سرمديته.. .
وتحت وطء الانتظار تغوص، فى أرخبيل شائك. يدفعها الشوق. تعبره ملأى بالجرّوح المتقيحة، تتمدد تحت نبات(اليقطين).. تتشكّل معهما (هوّية واحدة): - محض نّور.. فيطّل وجه المدينة الريفية، وجلابي ود عربي خارجة لتوها من قلب التاريخ.. تطّل الوجوه التي عرفتها ولم تعرفها أبدا، يطّل وجه أم التيمان ذلك اليوم، وقد قررت أن تغادر جلابي ود عربي الى الأبد.. دون أن تفصح عن السبب "كرهت هذا المكان".. يطل وجه (علي – آري – سورنق – دالي) وذلك الشعور بالذنب في عينيه، كلما جاءت سيرة أم التيمان(أو لنقي، أو سابا سليلة الجنيات) بينهما عرضا..
اطل وجه الميرم ، كانت منتصبة. تتقدم تجاه سلمى ببطء، تعبر اليها من مكان بلا ملامح، حيث تقف فى الغياب.. تبدل وجه العرافة، حل محله وجه ابن سارّة شابا فتيا، متلفعا ببردة الكتّان، الناصعة ذاتها.. تقدم منها فاتحا ذراعيه.. لحظتها كانت احلامها (هى سارة) قد غلب عليها الغموض و الألق..
كان قد أقترب منها.. أستحالا الى لا شيء. تبددا فى الضوء، الذي يغمر أسقف البيوت الواطئة، الشجر، أوكار الطّيور، جحور القوارض، حظائر الحيوانات الأليفة، ووجوه المارّة.. عابري السبيل.. .
تتلاشى ذكرياتها القديمة، لتتشكّل اللاذكريات. يتلاشى الحنين الى الحنين. ذكريات الطفولة، شارع البيت، اشجار الحوش الكبير، قهوة منتصف النهار، الطرّيق الى محطة المواصلات وعاصمة بلادها الملبدة بالحذّر.. حنينها لأسرتها، لعالمها ذاك.. النّاس والأشياء.. يتلاشى كل شيء.. يتشكّل فقط وجه الحبيب، فى بردته الكتّان، الناصعه. يقترب شيئا فشيئا الى سطح عالم الحنين المنهار.. ليحل مركزا لوجودها وكيانها وحسّها.. يلعبان اللعبة ذاتها: يكر فتفر. تفر فيكر.. ويدهمها ليلا ليخطف منامها، ويقطف ورّدة جرّحها، ليغذي الحنين من بوح تلك اللحظات الغامضة، التى ربما عاشاها أو لم يعيشاها معا أو عاشتها سلمى لوحدها!.. فقط تشعر سلمى بسارة ، تتقمصها، وابنها يحتضنها حتى تئن ضلوع سلمى. ويغلبها التمزّق والارهاق، فتغرّق فى النّوم.. .
أحلامهما (هى وسارّة) غلّب عليها الغموض والتوجع، المستمد من أعماق غربتهما، ركاميهما، البلى الذي حاصرهما، وكل التخثر الذي حاولتا تمزيق أغشيته، للافلات من تبدد الزّمن والمكان، والشروع فى الحلّم.. .
تكلم معها (علي) كثيرا عن سارة:
- يجب أن تتكلمي معها، فقد أصبحت سيرتها على كل لسان.. الشباب يستغلون كونها مطلقة..
-    لا أستطيع.. .
-    لماذا.. أنت صديقتها؟!..
-    وأنت كذلك..
-    غير ممكن. وأنت تعلمين ذلك جيدا..
-    هل تشتهيها مثلهم؟.
-    انها بالنسبة لي: أخت.. أخت صديقي حسن.
فتهز رأسها وتزّم شفتيها، تنهي الحوار دون أن يلوح في عينيها أنها اقتنعت بشيء من كلامه..
عندما عاد شقيقها حسّان من الأراضي المقدسة، عمل على تغيير موقع الجامع في جلابي ود عربي وبناه بتصميم مختلف دون مئذنة أو قبة. في هذا الوقت كانت ثمة ظاهرة لم تألفها جلابي ود عربي من قبل قد بدأت بالبروز، هي ظاهرة " الرباطيّة" (الذين يقطعون الطريق على النّاس) ليلا في الخلاء الواسع الذي يفصل بين جلابي ود عرّبي والمدينة الريفية، فيجردون هؤلاء (المارّة من والى جلابي) تحت تهديد السلاح الأبيض أو النّاري من نقودهم القليلة!!.. وهكذا أصبح الخروج او الدخول الى جلابي ليلا من الأمور التي تحتاج للتسلّح بالشجاعة والهراوات الغليظة، أو الاسلحة البيضاء أو النارية..
ولأن جلابي ود عربي لم تدخلها شبكة المواسير بعد (لأنها خارج التخطيط) كان الناس يلجأون لشراء المياه من عربات الكارو البرّميل، وبعد أن تمكن حسّان جداد من حفر بئر داخل صّحن المسجد، حدث انفراج في أزمة المياه الى حد معقول.. فاحيانا لا تزور عربات الكارو البرميل "حلّة" جلابي ود عربي، لأعطال تصيب البوابير التي تعمل بالجاز عند الشاطيء لضّخ مياه النيل في براميل الكارو، فيلجأ أهالي جلابي ود عربي في مثل هذه الحالات الى بئر المسجد، محتملين التوترات التي يصيبهم بها جداد، في سبيل " باغة" أو "جردل" من مياه البئر (وتعبيرا عن رفض ست البنات العشمانّة لابتزازات حسّان جداد لهم في مثل هذه الحالات، كانت قد أوقفت هي وجاراتها، ثلاث عربات من الكارّو البرّميل وقالت لأصحابها، أن امام المسجد يقول لهم أن يفرغوا المياه في بيوت زوجاته (ست البنات وجاراتها) وعندما ذهب أصحاب الكارو الى جداد، يتقاضونه ثمن المياه كان الرجل دهشا. فنفى لهم أنه أمر بشيء من هذا القبيل، وأنكرت ست البنات وجاراتها:
-    نحن لم نفعل ذلك.. ربما تكون تعني نساء آخريات..
وفي الحقيقة أن أصحاب عربات الكارّو، لم يركزوا في الوّجوه، ولم يستطيعوا لذلك الاصّرار على مطالبة ست البنات وجاراتها(فأهالي جلابي كلهم يتشابهون) وربما يكونون قد أفرغوا مياههم في بيوت أخرى.. ولادراك جداد أن ثمة اشاعات قادمة ينذّر بها الجو (فقد تكوّنت للرّجل خبرة كافية بأهل جلابي)أضطر أن يدفع ثمن المياه لأصحاب الكارّو البرّميل، قاطعا الطّريق على أي محاولة لنسج حكايات وروايات من هذا الحدث العرضي. الذي أدرك منذ البداية أنه " من عمايل ست البنات")..
حاول أهالي جلاّبي ود عرّبي عن طريق العون الذاتي، أن يحفروا لأنفسهم بئرا أو بئرين، وبعد اختبارهم لعدة مواقع، اكتشفوا أن الموقع الوحيد، الذي يحتوي على أحتياطي جوفي، هو ذلك الذي نقل اليه حسّان جداد الجامع، فأنطلقت الشائعات أن: جداد كان يعرف سلفا أن المكان الوحيد، الذي به احتياطي جوفي هو هذا الموقع، الذّي شيّد عليه المسجد.. ولذلك نقل المسجد الى هذا الموقع عن عمد دون استشارة أحد!..
في هذه الفترة كانت حكومة ابو لكيلك الجنجويدي، قد أصدرت فرمانا بأن تدفع المساجد فواتير المياه والكهرباء وعوائد الأرض الى آخره من نظام المكوّس و الجبايات والرّيع (الذي أشتهرت به حكومة الجنجويدي) أسوة بكل العقارات في البلاد الكبيرة..
أصاب هذا الفرمان عددا مقدرا من مواطني البلاد الكبيرة(وجداد شخصيا) بصدمة كبيرة. ولكن جلابي لم تأبه للأمر كثيرا، فجلابي ود عربي لم تدخلها المياه او الكهرباء الحكومية، لحظة صدور هذا الفرمان، كما أنها خارج التخطيط، بالتالي ليست عليها عوائد على الأرض.. كما ان أعمال مواطنيها خارج دائرة المظلة الاقتصادية. زبدة القول أن جلابي كأنها ليست جزء من جغرافيا وتاريخ البلاد الكبيرة.
ومع ذلك العلمانيون(بالتحديد) في جلاّبي ودعرّبي (كنوع من التضامن الانساني) مع أحياء المدينة الريفية داخل التخطيط تصدوا لما حمله هذا الفرمان، بالكتابة على الصّحف الحائطية، التي كانو يعلقونها في دكاكين وكناتين جلابي ود عربي، وأكدوا أن المساجد التي يرتادها عامة الشعب (ما أطلقوا عليه السواد الأعظم)، يجب على الحكومة رعايتها.. لكن تلك التي تتبع للعرّافين أو أي من الجماعات الدينية، يجب أن تدفع الفواتير والضرائب (ينبغي أن تتحمل الفئات الناجية تبعاتها المالية كاملة) ولا ينبغي أن يتحمل السوّاد الأعظم (الذي لن ينجو وسيمضي الى الجحيم قدما) من عرقه عبء دفع الفواتير عنها.. فيخسر ماله بعد أن خسر آخرته (كما يزعم العرافين= من ليس معنا في حزّب الله فهو مع حزّب الشيطان)..
أعتبر عدد من المراقبين المتنّورين أن خطاب العلمانيين في جلابي، يعتبر فتحا مميزا في مجال الفتاوى التي تعني بالتراث وقضايا العصر. وعندما علم علمانيي جلابي بهذا التقرّيظ أعجبهم كثيرا رغم انه كان غامضا بالنسبة اليهم وغير مفهوم..
وجد خطاب العلمانيين في جلابي قبولا منقطع النظير، في المدينة الريفية والأحياء المجاورّة. بل تطور الأمر الى أن نقلته" رويترز" وعنها نقلته وكالة الانباء الفرنسية و" صوت كولونيا " والاذاعة السويسرية، وعدد من وكالات الانباء الدولية الأخرى.. وتعاطفت معه ردود فعل عالمية مقدرة، فقد تحركت على اثر ما أذاعته رويترز، منظمة الدفاع عن حقوق الحيوان الصحراوي، وجمعية الجاحظية الاقليمية، ورابطة ابن المقفع الدولية، واصدقاء الجراد، والعفو الدولية، والأزمات الدولية وحقوق الانسان وكهرباء بلا حدود، والرابطة العالمية للسكن العشوائي.. وقد أوردت اذاعة" سوا سوا" الموجهة في سياق نشرتها حديثا مفخما ومفخخا، يعبر عن وجهات نظر لم تسمع بها جلابي، التي ليس لديها ناطق رسمي لديه كل هذه القدرة على التحليل، وكانت سوا سوا تستهل تحليلاتها الاخبارية عن ردود الفعل، حول وجهة نظر علماني جلابي ود عربي ب:" وقد قال العلمانيون في جلابي ود عربي.. " وفي واقع الامر ان علمانيي جلابي ود عربي (ان وجدوا) فهم ليسوا علمانيين بالمعنى الذي تحدثت عنه هذه الاذاعات، فهم أناس بسطاء من الممكن ان يقض مضجعهم أي خطاب عاطفي، والحكمة تأتيهم" طيف طايف" مع تهاوّيم "البنقو والحشيش"، أو تجليات "عرقي البلح البكر".. هذا هو كل ما في الأمر ببساطة..
وقتها كان أبكر المعراقي (الذي كان أسمه ذات يوم آدمو) قد وفد حديثا الى جلابي ود عرّبي من مكان ما (كان حريصا على التخلص من شخصيته الحقيقية مستكينا للعزلة)..
حياة أبكر المعراقي في شخصيته التي تخلص منها (شخصية آدمو القائد الثوري) قبل أن يلجأ الى جلابي ود عربي منتحلا شخصية أبكر المعراقي.. كانت غريبة لغير المقربين منه، وغامضة، في آن!. تنهض في قدرته على تسريب تلك المشاعر المتناقضة للاخرين: التوبة، القدر، الثورة، التراجيديا، القلق، الشغف و الموت.
وكلما أقتربت منه اكثر، أكتشفت أن هذه المشاعر المتناقضة، هي الاختصار لمعنى الحب والقضية (الوطن) عند آدمو!..
لطالما حاول ادمو السيطّرة على أبو لكيلك الجنجويدى، مدفوعا بهذه المشاعر المتناقضة. ولم يجن سوى المقاومة، التى كادت ان تودي بحياته، لأكثر من مرة. لولا نفوذه وتراجعه عن الاستمرار، فى محاولة التاثير على أبو لكيلك.. .
كان آدمو رجلا استثنائيا، لا تنقصه الشجاعه ويدرك أن أصعب شيء لمن كان مثله، الابتعاد عن الشّر، وظل أبو لكيلك هو التجسيد الحي لما يطلق عليه، آدمو (شرا)..
حبيبته حليمة" الوّرتابة " تكرر مرارا، بخفوت:
-    نظراتك تخيفني لكأنها تثقبني، من اين جئت بهذه العيون؟!..
وكعادته عند تلقف يدها، لا يعلم ما هو أفضل شيء ممكن قوله لها الآن!..
لا يزال آدمو رغم مرور سنوات طويلة، يتذكر فى قيلولته المتكاسلة، كل ما مر بحياته. من مرارات واسى، والتياع. كأن كل شىء حدث البارحة فقط.. . وبين كل ذكرى وذكرى، يتوقف ليحاسب نفسه (لو كنت صمت واغلقت فمي لما جرى الذى جرى، ولما تورطت في شخصية أبكر المعراقي. هذه الشخصية الكريهة الى نفسي.. )
يتأوه آدمو فى وحدته، متكئا على بقايا من ذكريات، تشظت فى هجير السنوات العجاف..
كثيرا ما يرى الحيرّة، تأكل عيني حليمة الواسعتين.. حيرّتها منذ أول لقاء لهما فى سني حياتهما الباكرة. حين أخترقا عالميهما، غائبين فى غلالة برزّخية تقاطع فيها الألم مع القسوّة والنيران التلظي، معلنان مواجدهما الوليدة للوادي. وأشجار القمبيل. وشجر القنا، و.. .
منذها بقدر ما اقتربا من بعضهما اذدادت المسافة بينهما اتساعا.. فقد أدرك آدمو أنها لا تنتمى الى عالمه.. ذلك الحس الاسطورى، الذى يهيمن عليه ويتغلغل فى روحه وجسده!..
ولكن ظل مخلصا لها.. وظلت وفية له.. كانت سعيدة بسيطرته عليها، وكان يفهم دخيلتها..
ظل آدمو لسنوات طويلة يشعر بالحاجة للحب، فى كل ما هو حوله. لا يحتمل كلّس الحياة. يعانى آلامه وحده، دون ان تصدر عنه آهة واحدة..
منذ ميلاده، ولدى دخوله الخلوى أخذ يفكر فى كوّن اللّغة.. اللّغة التى يحفظ بها سوّر الكتاب المقدس، ولغة قبيلته المختلفة عنها.. وفى هذين الكوّنين أخذ يتحرك، لاستكناه هذا السّر الذي يبدأ من هنا وهناك بين تلافيف الآيات، ومتوّن الأحاديث. وحواشي سيرّة النّبي العربي.. كان سؤالا جارحا يتغلغل داخله، لينفتق عن ضباب يفضي الى ضباب آخر!..
قدر خفى ذلك الذى قاد آدمو الى المدرسة الابتدائية، دونا عن أقرانه، فى القرية الصغيرة الرابضة على ضفّة الوادي. حذاء دغل القمبيل..
وبين مرحلة واخرى كانت هويته تتمزّق لتلتئم وتلتئم لتتمزّق. هويته التى صاغها أبواه. وأهل قريته. بأسحارهم، وطقوسهم وطبيعة الوادى الناهض أسفل الجبّل.. كانت لغته الأم تبتعد، لتحل العربية، التى ألتهمها ذكاءه الحاد محيطا أسرارها، وأطماعها وهيمنتها على لغته الأم..
تعرف آدمو على التاريخ الانسانى وهو يودع اخر مراحله الدراسية.. أدرك صراع الانسان فى محاولاته الدائمة للسيطرة على قوى الطبيعة.. ولم يستطع تفادي رؤية تاريخ قريته يتحول الى اشلاء بين معان تاريخ اوروبا، والعالم وبلاده الكبيرة، التى يشقها النيل كفلقتين لنّواة نصّفها متغضّن، كالعرجوّن القديم..
المعارف المتناقضة والمتصادمة فتحت وعي آدمو، على أسئلته الحارقة.. تناهشته الأسئلة ففتح كيانه على مصراعيه، متوغلا فى عزلة عميقة، لم يخرّج منها الا وهو حاملا السلاح ضد أبو لكيلك الجنجويدى..
قبل سنوات طويلة من اتخاذ آدمو لقرار الثورة المسلحة، دهمت حليمة غربته ووحدته القاسية..
على شفة الوادى جلست، دون أن تستاذنه.. التفت اليها ووجهها يلتف بوجهه.. كان صفير الرّيح يتخلل الوادي الوادع، فغابت فى مسام الريح.. تبعها آدمو، مكتفيا بأن يجذبها الى مركز الريح، غارقين فى أنينها ولوعتها وهى تحتك "بقش القطاطى وصريف الحيشان"، المزروبة بعيدان الدّخن..
كان آدمو يدرك أن حليمة تعلقت به منذ الصغر، لأنه المحسوس أمامها. تنظر لقصتهما معا، كقصة حب حالمة، وهما يتسللان خلسة من (خلوة الفكى ابراهيم شطة)، الى الدّغل فى ضفة الوادى، أو الغابة حيث(صندل الردوم، والدروت، اعلا قوز السمسم)..
كان هدوء حليمة، يضفي على جنوحه، طابع المغامرة التى يحب، وبشعائرهما المقدسة، عند لقاءاتهما تنفتح بوابات السحر، ونوافذ الشجن الريفي، كأنشودات أثرية لم تكتشف.. غموض آدمو هو ما يدفع بقلق حليمه الى أقصى الحدود: عندما يغيب دون رسائل، عندما يعود دون ترقب.. تتمنى ألايسافر مرة اخرى أبدا.. هكذا ظلت حليمة تعاني توجداتها منذ سنوات دراسته الأولى فى المدينه، حتى لحظة دخوله في تلك العزلة البديعة التي خرج منها ثائرا يحمل السلاح، معلنا تمرده على أبو لكيلك الجنجويدي.. كثيرا ما كان حرص حليمة على لفت أنظار الآخرين يقلقه، ويفجر داخله كل كوامن التوتر الأزلي، لروحه الملتفة فى "دمور" أبيض يحاصره فى أحلامه النادرة!.. جمال حليمة، جاذبيتها وسحرها الذى يشبه تلك الاحساسات المتسرّبة من بوح آلهة المعابد الغابرة.. كل شيء يخص حليمة يدفعه اليها دفعا، وتتسع المسافة بينهما أيضا فى الآن نفسه؟!..
بعد محاورات عديده، ووعد ومواعيد فاشلة، في اطار من السّرية المتسربلة بسلسلة معقدة من الاتصالات والوسطاء. بعد كل هذه المحاولات نجح آدمو في لقاء مندوب (اليانكي)..
تحدّث آدمو عن آلام شعبه وأمجاد أسلافه وجهودهم الدبلوماسية، قبل هيمنة (الجنجويد)علي البلاد الكبيره.. تحدّث عن البعد الانساني لقضيته وواجب الأسره الدولية. وكان مندوب (اليانكي) يبتسم في خبث ودهاء والكلمات الآخيرة لرئيسه لا تزال ترن في فضاء أذنه:
-    تذكر أنك يانكي..
في تلك الظهيرة الغائظة التي ألتقي فيها آدمو اليانكي، كان مشحونا بانفعالات الأرض حليمه.. ومشاهد الرّفاق الذين سقطوا في غارات الجنجويد، علي القرى والحلاّل.. . جاءت صورة أمه العجوز(خاطرّة) وهي تحترّق داخل قطيتها، المحاصرة بالجنجويد، جاءته صورة أبيه (لأول مرة يراه يبكي).. كان مقطّب الجبين، يتكلم بصمت، وفي عينيه تمتزج مشاعر شتى..
أدرك آدمو أن الجنجويدي أبو لكيلك أختطف حليمة للضغط عليه.. . التاع، هاجّت دواخله.. كانت ذكريات الذين لطالما أحبهم بعمق، وترسخ وفاؤه لهم في وجدانه، تداهمه كألف عقرب تتصارع في زجاجة مغلقة؟!.. .
أنفض اجتماع آدمو باليانكي، فتوجه الي أتباعه وحواريه.. ضغط علي مشاعره الذاتية. تغلب علي ألمه والتياعه.. خطب فيهم عن حالهم ومآلهم، حتي سالت من عيونهم دموع الدّم، تبلل أرض المعسكر، المخفي بعناية، في قلب الجبال. ومضي آدمو ينظم صفوفه معلنا حربه الضاريه على الجنجويد وجيش ابو لكيلك الجنجويدي.. . ومع اشتداد المعارك، والهزائم المتوالية لجيش أبو لكيلك، انتشر الفزع، في أوساط العالمين ببواطن الأمور، من صفوة سنار الجديدة
بينما كانت العامة، تمضي بايقاعها ذاته، لا تعرف شيئا عما يجري في الحدود البعيدة، فأجهزة اعلام أبو لكيلك، عتمّت علي غارات الجنجويد، وهزائم جيش أبو لكبلك، وأكثرت من بث تلك الأغنيات، التي تكرر(الجرّيف واللوبيا، التومات، زولي هوي، شقيش قولي مرّوح وأنت يا الابيض ضميرك) ولم تنس بث أغنيات (الجبجبه؟!).. دون أن تشير بين فواصلها للقتل الجماعي والاغتصاب وحرّق القرى، حيث غارات الجنجويد لم تبق ولم تزر..
كان الجميع يتساءلون كيف لآدمو الذي طالما شدا، بثوابت أبو لكيلك العجيبة، وتغنى بأمجاده، كآخر خلفاء النبي العراف، ذو البدلة البيجية، عالم القانون واللّغات، وفتاوى النّكّاح الشرعي، وحيض النساء النفساوات..
كيف لآدمو هذا، أن يشق عصا الطاعة علي سيده المهيب الركن، ويعلن الثورة علي سعادته، ب كل هذا الجنون؟!..
وبالطبع سقط هذا السؤال في قصف الأنتينوف والهيليكوبترات والمدفعية الثقيلة، على الفلاحين والبسطاء، الذين كانوا ينظرون لآدمو (المنقذ، المخلص الذي سيملأ أرضهم عدلا، بعد ان ملئت جورا) بعيون ملؤها الأسى والالتياع..
قال عباس ود الخزين:
-    لا بد من القضاء علي قطاع الطرق، وزعيمهم آدمو، المارق المرتد..
كان ود الخزّين لحظتها يؤكد على صدق النزّوع النفسي لأبولكيلك في شهوة القتل، وعشق الدّم والاستباحة.. ففي اليوم الذي سبق اليوم الذي أستولي فيه أبولكيلك علي السلطة، في سنار الجديدة. كان قد أفتتح انقلابه علي الأمراء العنّج، بقتل عشرة من الفلاحين، وثلاث غنمايات وحمارّين ليتأكد من كفاءة بندقيته، فشدّ كبير العرّافين على كتفه بوّد، مستحسنا فعلته.. .
من دون كل المقربين منه، كانت علاقة أبو لكيلك بآدمو، مميزة (من دون كل علاقاته بالعرافين الذين يملأون قصره) على الرغم من احساسه الدائم، بأن التفاهم مع آدمو، من الأمور التي تصعب عليه، الا أنه وجد نفسه منجذبا اليه على الدوام.. ربما لأن آدمو لم يكن، يكترث للتفسيرات العقلانية، لسلوك أبو لكيلك، هذه التفسيرات التي، لوطرحها لوجد أبو لكيلك، حرجا شديدا فى تبرير وجوده واستمراريته.. .
أشد ما كان يزعج أبو لكيلك. هو خوفه الدائم، من شيء غامض لا يدري كنهه بالضبط. هذا الخوف الذي يطارده منذ الطفولة الباكرة، جعله لا يستطيع، احتمال العلاقات المستقرة بالآخرين، ووقف خلف تعذيبه فى الصّغر، للزواحف والعصافير، والتسلّي (عندما بلغ مرحلة الشباب) بقتل الكلاب والفئران والقطط..
سبب أبو لكيلك، بسلوكه العدواني مع اقرانه لأسرته، توترا وقلقا عظيمين، وازعاجا لا حد له.
كان أبو لكيلك، على الرّغم من الخوف العظيم الذي يسكنه، يشعر بانه عظيم ونبيل، ولا احد يدري كيف تكوّن فى دخيلته مثل هذا الشعور الزائف.
ظلت علاقة أبو لكيلك بكل من حوله عاصفة، لا تفتأ بين كل آن وآخر، تقتلع أمامها كل ما هو جميل، يربط بينه والآخرين.. أخضع أبو لكيلك كل من حوله (الوحيد الذي لم يتمكن من اخضاعه، هو آدمو) كثيرا ما كان يشعر، أن علاقته بآدمو أشبه باختبار القوة.. كان الهتاف باسم أبو لكيلك، والتصفيق له من أحب الأغنيات التي يشتهي سماعها فى كل لحظة.. لا يذكر أبو لكيلك فى حياته العامرة بالمعارك، أنه أحب فتاة قط.
كل الفتيات اللائي ربطته بهن علاقة عابرة، أسقطهن من حياته، بمجرد انتهاء رغبته فى الاستمرار، جميعهن كنّ جميلات، خاضعات. يتباهى بهنّ أمام أصدقائه، بفخر واعزّاز.. ولطالما حلم بنوع من الحب الاسطوري، كذاك الذي في ألف ليلة وليلة. ولا زال ينتظر مثل هذا الحب الكبير، على الرّغم من أنه يملأ وقت فراغه بالزّواج من الأرامل (زوجات قادته الذين أسقط طائراتهم في أحراش البلاد الكبيرة) الغرّيب أن أبو لكيلك ليس هو رئيس البلاد فهو(مجرد) القائم بأعمال القصر، لكنّه من هذا الموقع أصبح عمليا الرّجل الأول في البلاد الكبيرة، فكل الأموال والأجهزة الحساسة مفاتيحها في يدّه.. ويبدو أنه عندما تآمر مع العرّافين ضد جداد كان ذلك لخشيتهم أن يمضي جداد في الأتجاه ذاته الذي سبقه اليه آدمو.
العلاقة بين أبو لكيلك وكبير العرّافين ظلّت غامضة حتى لحظة دخول اليانكي، فى مؤخرة طلائع مليشيات آدمو، فكبير العرّافين شخص من ذلك النّوع الذي تنسج حوله الحكايات التى يصعب تصديقها، فالى جانب أنه كائن فطر على التكاثر اللا جنسي(كما يطيب لوّد الخزّين التعبير) كان مولعا بالابتسامات الشبقة التى يمنحها لأتباعه وحواريه بسخاء..
فكبير العرّافين ظل طوال عمره فى حالة حب دائم، كعاشق ولهان، ومغرم بفتيات سنار. وما يشعنّه من عالم بهيج..
عاشق لتلك الترّانيم التى يسمعها فى اللّيل فتملؤه حبورا، وتجعله يسير آلآف الفراسخ في طريق لم يمض فيه أحد من قبل. يتبع تلك الهواتف المضيئة (كما يزعم)التي تقوده من ظلمات الى اضاءة خافتة، فشعور بالخدر اللّذيذ.. حيث يشعر بالتحرر الكامل، كان يدرك أنه حصل على الحرّية بعد أن دفع ثمنها من عزلته لعشرات السنوات..
على الرّغم من النجاح الباهر الذي حققته ثورة آدمو المسلحة، الا أن أبو لكيلك أستطاع تطويقها فيما بعد بطريقة ما (بتنفيذ مؤامرة داخلية ضد آدمو – اذ انقلب عليه بعض قادة ثورته، فوجد نفسه مضطرا للهرب) أصبح آدمو بين مطرقة الثورة التي صنعها وسندان أبو لكيلك الجنجويدي، فلم يعد يثق بأحد أبدا، الى أن أنتقل الى الحياة الآخرة بطريقة غامضة..
قالت التّاية زوجة أبو لكيلك لجارتها محاسن زوجة وزير الدفاع خلف الله الجنجويدي:
-    أبو لكيلك مسكين وغلبّان، ما قادر يتفكك من سيطرة الزّول ده عليهو.. يقولو شمال يمشى شمال يقولو يمين يمشي يمين!؟.
سالت محاسن بتردد:
-    دحين يعني ما عندو شخصية؟!.
فرمقتها التاية بنظرة غاضبة، جعلتها تتراجع وتضيف:
-    برّي يا أختى راجلك منّو الزّيو.. هيبة وسلطان..
وعندما أبتسمت التاية، هدأت اضطرابات محاسن وانفعالاتها التي كادت تشرخ الجدار. ووجدتها فرصة مناسبة، لتسر للتايه:
-    كل ما يشاع عن انقسام العرّافين، ومناوأة أحد القسمين لأبو لكيلك محض اختراع لزّر الرّماد فى العيون، فكّل ما حدّث ويحدّث، هو من بنات أفكار كبير العرّافين، لغرّض لا يعلمه الا هو، بسرّه الباتع وأبو لكيلك شخصيا!..
فابتسمت التاية فى رضا، وهمست محاسن فى سرها: (سجّم خشّم أمو)!!.. .
وقتها كانت سنار، قد أفاقت من بوّح غفوتها الغامضة على تأوهات أبو لكيلك الجنجويدي التى أهتز لها القصر المتآكل، وفى الوّقت نفسه كان آدمو لا يزال يستعيد فى خاطره ذكريّات الصّبا والطفولة.
أفاق أبو لكيلك من الكابوس، الذي رأى فيه نفسه مخنوقا، ينظر الى رأسه وهو يتدلى من السقف. تحيط به أنشوطة طرّفها ثابت فى السقف. فتأوه تلك الآهات العميقة التى سمعها كل من في القصر من حاشية وأتباع.
من أعمق أعماق بوتقة سنار، تلفت أبو لكيلك في فرّاغ الغرّفة ذاتها. التي خرجت منها أخطر القرارات، لأكثر من عقد من الزمان، تلك القرارات التي قذفت بشعبه الى حالة من اليأس والبؤس الفرّيد، والقلّق والتّوتر العظيمين، وغيرّت من مصيره، باتجاه آخر أكثر غموضا، من آهاته الملتاعه.
عندما تولى أبو لكيلك زمام الأمور فى سنار الجديدة، كان مدفوعا من العرّافين، الذين أوهموه بأنه رجل ذو شأن عظيم فقدّر ثم قدّر، ورأى أن من الحكمة أن يفعل بشعبه كل ما يشير به العرّافين. وعندما حدّثه عبد الجوّاد ود الباهي، نقلا عن أحد العارفين بأسرار العرّافين، الذين أحكموا الحصّار حول أبو لكيلك، لم يصدّق عبد الجوّاد بل وأنتهره، فخرج الآخير غاضبا، ومضى أبو لكيلك الى كبير العرّافين يسرّب اليه شكوك ود الباهي ولم تمض سوى أيام قليلة، حتى مات ود الباهي او(قتل) وتكرًّرت حالات الموت فى ظرّوف غامضة، لكل من تشكّك فى عرّافين أبو لكيلك. وأصبحت منذَّها مقولات العرّافين من ثوابت أبو لكيلك التي يصرَّ عليها فى خطاباته الجماهيرية أكثر من العرَّافين أنفسهم، حتى شاع فى سنار الجديدة القوَّل فى سخرّية (التركي ولا المتورّك) كناية عن المأزق الوجودي لأبو لكيلك فى تبني أمور غريبة نيابة عن أصحاب هذه الأمور.
ظهر ذلك اليوّم، الذي أفاق فيه أبولكيلك محاصرا بكوابيس اليقظة التي أخترقت أحلام سنار، استعاد في ذاكرته عمليات السحق والتنكيل التي قام بها ضد الجمعيات السرّيه (التي كانت علنيه قبل توليه الحكم، انقلابا علبها) حتي لم يبق لهم صدي.
كانت تقارير مخبريه مؤخرا، تؤكد أن زعماء الجمعيات السرية الهاربون، شمتانون في أبو لكيلك وليس لديهم استعداد في اقاله عثرته، وتطييب خاطره في محنته الكبري..
ظهر ذلك اليوم هتف أبولكيلك (بعد اطلاعه علي آخر التقارير) بحاشيته التي كانت تتساءل باحساس ملؤه الزّعر والخوف والترقب.. ..
سميّ ابولكيلك وصليّ، واستهل بثوابته المعتادة، التي طالما حوّلت حنين أهل سنار الي أسي، وذكرّيات أسلافهم بكل الحكايّا القديمة الي حرب ضارية، انتزعها أبولكيلك من قلب التأريخ ليزرعها في حاضر حاضرّة البلاد الكبيرة. فاستحالت تلك الثوابت الي كوابيس، أقلقت مضاجع عمال "القصّب- الكتكو، والفحامّة" والفلاحين البسطاء في أقاصي البلاد ودوانيها، وأؤلئك الذين يعيشون على جنّي الثمار، ومطارده الأرانب ب "السفاريك".. .
كان كل من في القصر، يتصبب عرّقا، عندما ختّم أبولكيلك خطابه:
-    من أراد العودة فليغتسل، بماء البحر ومن أراد السلطة، فليحمل السلاح لقتالنا..
عباس السنجك همس لود القرّاي:
-    أبولكيلك ما ناوي يجيبها الّبر!!..
فهز الاخير رأسه
وصمت مطرقا بعيداً عن وجه آدمو، الذي غضّنته الأوجاع التي صنّعها أبولكبلك وجنجويده في قومه.. .
كان آدمو قد أضمّر لحظتها في نفسه شيئا، لم تكشّف عنه سوى وقائع الأحداث فيما بعد. اذ هرب في سرّيه تامه، وبعد هروبه انتشرت البيانات والمنشورات السوداء، التي تحكي عن فساد عقل أبولكيلك، وجنونه و الفساد في حاشيته وأتباعه.
ورغم أن هذه المنشورات لم تحمل توقيعاً محدداً، الا أن أصابع الاتهام في أجهزة أبولكيلك الاستخباريه أشارت كلّها لآدمو..
وتناقلت حاضرّة البلاد الكبيرة، في سرّيه تامّه أحد البيانات، التي لم يكتب عليها ولا حرف واحد، فاماطة اللثّام عن علاقة كبير العرّافين الحميّمه باليانكي، وربائبهم من جوار البلاد الكبيرة، الطامعين فيها، لم تكن بالأمر الذي يحتاج الي بيان!.. .
لحظتها كان مفكري الدولة الجنجويدية، ومثقفوها ومبدعوها، قد أكملوا كتابة ملحمتهم الغامضّة، التي لم تحمل سوي عبارة واحدة، علي مدي عشرة ألف صفحة هي:(يالمصيرك تنجرح بالسلاح.. ) ولم يتبرّع أيّ من النقّاد المزعومين، لشرح المحتوي المعرفي والدلالي للفظ(السلاح) التي وردت في الملحمة العظيمة لأهل الحاضرة، رغم تساؤلاتهم المريرة..
ولأن أبولكيلك لا يهجسّه سؤال، اكتفي باستحسان الملحمّه، مداريا جهله بعيون الشّعر الحاضري العنيف، لكنّه لم يتوانى في أن يعرض بعصاه، ويرقص. ما دفع أحد الخبثاء في الصفوف الأماميه أن يهمس:
-    جّب، جّب.. جّب.. .
وقال آخر:
-    حتودينا في ستين داهية..
وتصدى جبر الدار ود تور شين للمسأله فلاّك لسانه وهمهّم ودمدّم، ولم يفهم أحد الحاضرين شيء سوي كلمه (جنجويد)!!.. .
لحظتها كانت قبيلة الجنجويد(التي ينتمي اليهاأبو لكيلك) قد غادرت مضارّبها الي مكان غير معلوم، وأرسلت زعمائها الى قصر أبو لكيلك، ذي القبة الحمراء، عند مقرن النيلين في قلب الحاضرة..
كانوا يناقشون خططهم لحمايه القبيلة، وحمايه أبولكيلك من أيّ هجوم محتمل، ويخطّطون لاستكمال خطّط العرّافين بحرق مزيد من القري و" الحلالات والفرقان" واغتصاب أكبر عدد من الفتيات دون سنّ العشرّين وقتل كل الرّجال والأطفال والشيوخ دون استثناء.. ..
وعندما جلس أبولكيلك اليهم أكد علي خططّهم.. ..
كان أبولكيلك منذ طفولته الباكرة، كائنا متوحداً يعشق العزلة، ويجنح الى العنف، ولديه نزوع فطري قوي للاقتياد، وذاكره ذات قدرة فذّه علي حفظ تعليمات العرّافين وتنفيذها(فى صالوناته الخاصة)اثر نجاح آدمو، فى تصعيد وقائع السّحل الذي تمّ لقومه وتحرّيك هذه الوقائع المأساوية للضمير العالمي، أفاد أبو لكيلك أنه فعل ما فعل ليس استجابة فقط لأوامر العرّافين، بل لحبه للبيئة، فهو الذي دفعه لاعمال الابادة الجماعية، واستجابة لاجهزة اعلامه، أن هؤلاء السود البدائيون، يهددّون الحياة البرّية بالصّيد، وينّهكّون الأرض بزراعة "التمبّاك والبنقّو". كما أن الاغتصاب من وسائل تحسّين النّوع الفعالة لدمجهم فى بوتقة الحاضرّة.
ظلّ الهدّف الحقيقي لأبو لكيلك غامضاً. حتى عن أفكاره الشخصَية المضمرَة، وفي لحظات تجلّيه الخاص، عندما تتسرَب اليه حكايات الاغتصّاب، والقتل الجماعي وحرّق القرى. كان دائما يتسائل فى سريرّته (لماذا فعل ما فعل، باطلاق جنجويده لاشاعة كل هذا البؤس الذي يهدّد الحاضرة ذاتها الآن).. .
كان أبو لكيلك ينتج أفكاره بطريقة عجيبة. ينفّث ذلك النّوع من الدّخان الذي يتصاعد فى قاع دماغه، متموجاً في دوائر حلزونية. ومن قلب هذه الدوائر، تتشكل أفكار التي سرعان ما يتلقفها الجنجويد فيزرّعون الرّعب فى تلك القرّى النائية للفلاحين والصيادين البسطاء فى أقصى التاريخ المنسي للبلاد الكبيرة..
قال ود عطّا الله الذى حارب جدّه الكبير مع الامام المهدى، ومات من الجوع والعطّش في سجن الخليفة:
-    أبو لكيلك يعانى من من ضغوط عظيمة من اليانكى، الذين هدّدوه بالويل والثبور وعظائم الأمور، وجعلوه يرتجف فزعا ويهتف بالتاية: "دثرينى.. زملينى.. "..
حاولت اذاعة أبو لكيلك أن تلّطف من الشقاء والضجر، الذي أعترى حياة أبو لكيلك فأعلنت عن بيان هام، استمعوا اليه في اهتمام، فشملهم زعر وخوف مقيمين..
كان اليانكى يتدفقون من كل فج.. فكر محمد احمد ود السّرة:
-    لابد ان ابو لكيلك الان فى محنه عظيمة..
ولحظة تلى وزير دفاع أبو لكيلك خلف الله الجنجويدى (الذى ينحدر والده من صّلب أحد الأتراك فى جيش الدفتردار) بيان التصدى لليانكي. كان أبو لكيلك شخصياً، يجتمع بسفير اليانكي. مؤكداً على فروض الولاء والطاعة (منذ استيلاؤه على السلطة من قبضة الامراء الجنجويد الذين سبقوه الى حكم البلاد الكبيرة)..
كان ود السرّة مثل أبو لكيلك لا يعلم أن الآخير بتنفيذه لما يشير به كبير العرّافين، انما ينفذ خطّة اليانكي المزدّوجة لاحتلال البلاد الكبيرة، وعندما أحتج أبو لكيلك فى ذلك الاجتماع بخنوع، قمعه سفير اليانكي بقسوة:
-    نحن لم نقل لك أرتكّب الفظائع..
كان أبو لكيلك قد أسقط فى يده، وتلّفت حوله في غرفة الاجتماع مسيطرا عليه، احساس بالهروب الآن قبل أيّ وقت آخر.. .
الحاشية الثالثة:(مجتزأ رقم 3):
.. .. (ممزق) أعلموا أخواني أن كثرة أقتراحكم في تحرّير بوتقة جلابي ود عربي أوهنت عزّمي في الامتناع وأزالت حيلي الا الاضراب عن الاسعاف، ولولا حق لزم وكلمة سبقت، وأمر ورد من محل يفضي عصيانه الى تنازع النّاس وخروجها على السلطة، لما كان لي داعية الاقدام على اظهاره، فان فيه من الصعوبة ما تعلمون وما زلتم معشر صحبي تلثّمون مني أن أكتب لكم كتابا أذكر فيه ما حصل في جلابي ود فونقرو (فور) منذ دهمتها موجة النزوح الثالثة، الى عهد جلابي ود الدينكا.. (ممزق)..
(*)
كانت سارّة شقيقة حسن منذ وجدتني مع سعدية في مكتبها ب(لجنة الاختيار العامة للخدمة المدنية) وعلمت أنني متواجد بالمدينة منذ مدّة لقضاء خدمتي الوطنية، التي كنت قد أجلتها خلال السنوات الماضية، وأنني أسكن وحدي في منزل الأسرة، التي كانت قد أنتقلت الى حاضرة البلاد الكبيرة.. بعد أن قمنا بتأجير المنزل (الذي أخليته الآن من المؤجرين للصيانة بعد أن قاموا بتخريبه تماماً).. منذ أن علمت سارة ذلك حتى أخذت تزورني في المساءات، لتحكي لي عن وقائع السنوات التي غبتها عن جلابي ود عربي والمدينة الريفية..
في البداية تصوّرت أنه ليس لديها معلومات ذات قيمة، ولكن ذلك لم يكن صحيحاً، فأخذت ما أن تحضر لزيارتي حتى أقرب منها جهاز التسجيل، وأتركها تتداعى حول أمور أعرفها (لكن أفاجأ بأن لهذه الأمور من زاوية نظرها علاقات غير مرئية، لم أكن لأدركها لولا سارّة بالزاوية التي ترى منها الأمور.. ).. جمع بيني وبين سارّة نوع من الوّد الغامض، فرغم أنها كانت تكبرني بعدّة سنوات، الا أنني كنت أشعر بها أكثر قربا مني، مقارنة بشقيقها صديقي حسن، الذي كان بعمري ويصغرها قليلا..
لذلك لم أكن أخبيء عنها بعض الأمور، التي ربما تثير بعض الأسئلة.. فمنذ ألتقينا للمرة الأولى عند صديقتها سعدّية (أخبرتها بأنني أميل لسعدّية).. شعرت بها ترعى علاقتي بها، وأخبرتني سعدّية بعد ذلك بوقت طويل (بعد أن اصبحت سعدية ترتاد منزلي دون خوف، وليس كما في الأيام الاوائل لعلاقتنا، ما كان يضطرّها لرفقة سارة الى منزلي، وأصبح ارتيادها بعد ذلك لوحدها اعتياداَ وادماناَ) أخبرتني أن سارّة هي من أقنعتها باقامة علاقة معي.. .
كانت تلك أحدى أكثر الفترات مشقة، في حياتي المليئة بالوقائع والأحداث، فقد كنت وقتها مهموماً بشئوون الأسرة (اذ لم تترتب أمورها بصورة جيدة منذ أنتقلت الى حاضرّة البلاد الكبيرة)، اذ أضطررنا للأنتقال مثل آلآف الأسر من الطبقة الوسطى، في أنحاء البلاد الكبيرة، بسبب الأنهيارات المتتالية للحياة بعيدا عن الحاضرّة (التي تركزت فيها كل الخدمات) وفي ذات هذا الوقت، الذي كنت أعالج فيه هموم الأسرة، كنت منشغلاَ بالعمل السري ضد نظام أبو لكيلك الجنجويدي كناشط حقوقي.
بعد مضي كل هذه السنوات ها أنا أجلس الآن وحدي في هذه البلاد البعيدة الغريبة، أسائل نفسي في كثير من الأحيان (متى تعود الى البلاد الكبيرة يا علي؟!) يدّوي سؤالي في فراغ المكان دون أن يعود الصّدى راجعاً، فأتيقن بالصّبر على الغربة.. هاجرت رغما عني، حيث كانت كل الخيارات سيئة وأفضل الأسوأ هو مغادرة البلاد الكبيرة..
لا يزال خاطري يستعيد حلّة جلابي ود عربي بناسها وحياتها، فتقفز الميرّم كلتوم التي وجدتها بهذه البلاد، فحفزّت في داخلي كل ذلك العالم المنسي للمدينة الرّيفية وجلابي ود عربي..
كنت واقفاً أمعن فيهما النظر، الى أن تلاشيا في الشارع الخالي الا منهما. فردّدت بصري، وأنا أشعر بميدان التحرير يمتليء فجأة بالنّاس، ويهيمّن الضجيج على شارع القصّر العينّي. والزّحام يعيق حركة المرور، في الشارع المفضي إلى طلّعت حرب.
كانت الحياة قد عادت إلى طبيعتها، في اللحظة التي تهشمت فيها طبيعتي، بعد أن دهستني عربة النقل الكبيرة وساوتني مع الأسفلت.. و حتى الآن لا أدري، هل ما حدث أمامي حقيقي، ام هو وهم تخيلته.. هل الميرّم كلتّوم، التي عرفتها في طفولتي، هي ذاتها الشيخّة كلتّوم التي أختفت أمام عيني قبل قليل؟؟ هل هي ذاتها، التي غيرّت حياتي، عندما دخلتها فجأة في ذلك المساء، عند مدخل ضرّيح السيدة زينب؟!.. هل هي ذاتها هذه التي غيرت حياتي مرة أخرى، لحظة رأت عبد الرّحمن(العوير) ود التوم، فاقتربت منه، ومدت أناملها تخاصر أصابعه، ومضيا معاً، ليتلاشيا في شارع القصّر العينّي؟!..
كانت الشيخّة كلتّوم منذ عرفتها، تكتفي عن سؤالي بالنظر إلى بؤبؤ عينّي، تعبره إلى جوفي، فتدرك حقائقي وتلوّح لي بها..
فكنت أرى نفسي في رقائقها، التي تعبر بي تلك المسافة الكامنة، في عجزّ اللغة وقصورها، عن ترجمة نفسي بهذه الدّقة المتناهية، التي تلوح في ايماءات الشيخّة واشاراتها، التي تفكّك ما أستغلق داخلي، وتبوح برموز باطني، المفعم بالتلويحات، فأرى نفسي كالشمس: ساطعة (وحياتي تنساب فيها من الميلاد إلى المنتهى، عند شجرة اللألوب، التي خيمّت عندها الميرّم، تناجي ود التّوم و غرابها الأشهب، وأنا اقترب منهما حاملا قلبي على كفي.. تنساب حياتي هكذا بايجاز ورحابة، محاطة بمكاشفات الوصول، المنزّهة عن مزالق اللغة، و سباسبها ووهادها ومضايقها الوعرة!!) اذن هكذا، كان ما بيننا من أمر من المبتدأ إلى المنتهى!!..
أول مرّة جلست فيها اليها، غابت عني كأنها ترتحل في عالم لا نهائي. لا يمت إلى هذه الدّار بصلة.. كانت هائمة. مغترّبة في الزّمن والمكان. لاشيء منها سوى ثوبها الصّوف المطرّز بالريش وألياف الشجّر.. لا أدري ان كان هذا الثوب يخفي داخله الشيخّة كلتّوم، أم يخفي شخصاً آخر!!..
كنت قد ألتقيت الشيخّة قبل أيام عند ضرّيح السيدّة زينب، وأستقبلتني قبل قليل في دارها، وبعد لا تزال التساؤلات تتفاعل داخلي. ترى هل هي الميرّم ذاتها: تلك الدّرويشة، التي كنا نجلس اليها، في الطفولة، بعد أن نعبث مع الغرّاب الأشهب في شجرّتها" اللألوب"، والذي كانت ترعاه.. كنا نسألها ما يعنّ لنا من أسئلة، فتبتسم وتحكي لنا عن طّي المكان والزّمان، و"المسيد" و"حيرّان" (الشيخ كوكّاب العنقّرة).. هل هي الميرّم كلتّوم ذاتها، أم يخفي هذا الثّوب، الذي أجلس اليه الآن شخصاً آخر، لم تسبق لي معرفته..
كنت مرتبكا، وخائفا.. وحائراً، ربما.. وربما مذهولاً ومسحوراً. وذاكرتي تحاول أن تستعيد، تلك الحكّايات المتناقضّة عنها، في تلك الطفولة البعيدة..
حلّت الميرّم كلتّوم على حينا فجأة (قالت سارّة)، وأتخذت من تقاطع الشوارع، في قلب الحي مكاناً لكوخ صغير، استحال بمرور الوقت الي بيت كبير. غامض بسوره الطينّي، الذي تنبعث منه رائحة الزّعفران. لا ندري متى شيدّته.. فجأة رأينا الكوخ الناهض في قلب ميدان التقاطع!!!.. ولم تمض فترة وجيزّة حتى أختفى الكوخ بين سلسلة من الغرّف المسوّرّة بجدران الزّعفران..
كانت الميرّم ذات جمال ملائكي، وعينين اجتماعيتين، ووداعة وسمت شبابها الذي تجاوز سن العشرين بقليل (وقتها) وقد أضفى عليها ثوبها المزيج من اللّيف والصّوف والّريش (وبشرتها القمحية المشربة بغبار السفر المستمر، الذي لم يستطع اخفاء يناعتها، كزّهرة بريّة مرّت عليها عاصفة دون أن تذروها أو تكسرها).. كل ذلك أضفى عليها غموضاً وسحراً غريبين!!!..
هذا الغموض والسحر هو ما أثار الاسئلة، التي حملتها اليها لجنّة الحي، فردّت عليها بهدؤ ولطف:
-    أنا الميرّم كلتّوم بنت دورشيت السلطان – ولكنني أيضا لبنى وليلى وبثينة، فلم يكنّ سواي يوما..
أستهجن اعضاء لجنة الحي اجابتها لكنهم عملوا (مع ذلك)على أن يتقبّل الحي وجودها.. تذمر الناس في البدء. ثم خفتت أصواتهم شيئا فشيئا، ثم تقبلوا الأمر على مضض، فصّار وجود الميرّم امراً واقعاً في الحي. خاصة أن أحد أعضاء اللجنّة من (أهل الحل والعقد) قد عرض عليها الزواج (على نحو غير معلن) فرفضت وعرض عليها آخر أن يفرد لها غرفة في داره (سراً) فرفضت ذلك أيضاً.. وآخيراً تعاطف معها كل أعضاء اللجنّة، بدفع من الرجلين اللذّين قدما عروضهما السّرّية للزّواج والمساكنّة (هذه العروض التي لم تخرج إلى العلن الا بعد اختفاء الميرّم) على نحو غامض!!..
تعاطف أعضاء اللجنة معها وعملوا على دعمها، فأدخلوا بعض التحسينات على كوخها، وأشتروا لها ثيابا لم تلبسها مطلقاً، واتاحوا لها حمامات بيوتهم..
وهكذا أصبحت الميرّم كلتّوم جزءً من النسيج الاجتماعي للحي، ومعلماً بارزاً فيه بشجرّتها "اللألوب" وغرابها الأشهب، الذي لا يفارق الشجرة أبداً (كانت شجرّة "اللألوب" هذه قبل أن تنصّب "الميرّم" كوخها تحتها: يابسة وجافة منذ وقت طويل، وبمجيء الميرّم أخضرت الشجرّة وجاء هذا الغرّاب بلونه الأشهب، فأعتبر بعض عقلاء الحي المتبحرّين في العلم، أن تلك كرّامة ولية صالحة) صارّت الميرّم اذن جزء من الذّاكرة العامة للحي، الذي بدّت كأنها ولدت فيه..
أخذت الميرّم" تخّط الودع" للصّبيان والصّبايا، الذّين يزورون كوّخها. وتبيع "النّبق" و"القنّقليس" و "الدّوم" للأطفال الذّين يتجمعون في العصّارى حولها، خارج الكوّخ، فتحكي لهم كل الحكايّا التي حكّتها لهم من قبل، مراراً وتكراراً دون أن تكّل أو تمل..
فجأة بدأت الحكايّات حول الميرّم تنطلق، لا أدري: هل تزامن انطلاق هذه الحكايّات بعد حلوّلها المفاجيء بقليل، أم بعد ذلك بوقت ليس بالقصّير، اذ رّوج الرّجال (خاصة أولئك الذّين في لجنّة الحي)أن الميرّم نزحت من أرض بلادها، بعد أن ضربها الجفاف والتصّحر (وبسبب الحرب الأهلية أيضاً) فعندما مات أهلها بسوء التغذّية لم تجد بداً من مغادرة ديارها الخطرّة، فضربت في الأرض، حتى أستقر بها المقام في هذا الحي..
- لماذا لم تسكن في جلاّبي ود عرّبي، وفضّلت عليها المدينّة الرّيفية؟!..
-    الاجابة على هذا السؤال تحل عدداً كبيراً من الألغاز.. لكن للأسف لن يستطيع أحد سوى الميرم الأجابة على ذلك.
الى آخر الحكايّات من هذا القبيل والتي تم اعتمادها رسميا كحكايّا صادرة من السلطة العليا للحي..
لكن كانت هناك حكايّات أخرى فاعلة ومؤثرة، رغم أنها لا تعبر عن وجهة النظر الرّسمية للحّي، هي حكايّات النّسوة اللائي أخذن يؤكدن أن الميرّم حلّت بالحي كلعنّة، فهي هارّبة من القتل، بعد أن أحبت احد حيرّان الشيخ (كوكّاب العنّقرة)، في بلدتها التي في نواحي "كردفال"، وقرر أخوتها ثأراً لشرفهم قتلها (لكنها هربت) بعد أن قاموا بقتل "الحوّار"..
وحكّت نساء آخريات، أن "الميرّم" ليست من نواحي كردفان، بل من الغرب الأقصى في دارفور.. حيث النساء متحررات، يمكنّهن السفر إلى أى مكان، وفي أى وقت دون "محرّم"، وأنها جاءت إلى هنا لتخطف أحد "أولاد البحر" من زوجته، فقد رأته في أحدى رحلات عمله، كسائق لعربة نقل بضائع، فأحبته وأحبها، وبعد سفره قرّرت اللّحاق به، وبحثت عنه طويلاً، إلى أن حلّت بهذا الحي، لأعتقادها أنه يسكن فيه، وأن بصرّها سيقع عليه لا محالة، وهكذا نهضت قصص النّسوة في الحي، عن الميرّم على أساس أنها، تبحث عن رجل ما، فأخضعن أزواجهن وأولادهن لتفتيش يومي ومراقبة صارمة..
ولذلك عندما أقترب الشاب الغّض، والغامض المنكفيء على نفسه والمتوحد: عبد الرّحمن ود التوّم من حياة (الميرّم كلتّوم)، وأصبح لا يفارق مجلسها، مع الصّبية الذّين يصغرّونه كثيراً. ثارت حفيظة الصّبايا، وشاعت شائعة بين النّسوة في الحي:أن الميرّم وود التّوم قد وقعا في المحظّور!!..
ثم بدأت النّسوة يحاصرّن الميرّم بأطفالهن، فيوعزنّ للأطفال، بأن يهشموا قيلولاتها، برمي شجرة "اللألوب" والغرّاب بالحجارة، وألا يجلسوا اليها، ورّميها هي ذاتها بالحصى الصغيرّة.. وكنت أراقب كل ذلك بصمت، دون أن أقوى على فعل شيء. كنت مشدوداً اليها، لكنني لم أقوى على فعل شيء!!.. إلى ان أختفت الميرّم فجأة كما ظهرت فجأة، وتعددت الحكايّات والرّوايات حول اختفائها المفاجيء..
لكن كل الرّوايات أجمعت بين متناقضاتها، أنها فجر أختفائها كانت تحمل "صّرّة" كبيرة، منسوجة من الرّيش الأشهب على ظهرها.. وظلّلت بعد ذلك لوقت طويل أتسآل عن مصيرها، إلى أن غادرت البلاد وألتقيتها فجأة في هذه البلاد، عند مدخل ضرّيح السيدة زينب الذي كنت أتردد عليه بانتظام، كل جمعة لأكثر من عامين ونصف، وأخذت أتساءل: (هل هي الميرم كلتوم ذاتها، أم شبهت لي فاستمرأت هي الأمر؟!).. وكأنها أدركت تساؤلي، فخرج من الثّوب الذّي كنت أجلس اليه صوت(الامام عبد القادر الجيلاني) رقيقاً مفعماً بعذّوبة الموسيقى:
سـقاني حبيبي من شراب ذوي المجد
وأجـلسني قربه في قاب قوسين سيدي
حـضرت مع الاقطاب في حضرة اللقا        فـأسـكـرني حقا فغبت على وجدي
على منبر التخصيص في حضرة المجد
 فـغـبت به عنهم وشاهدته وحدي
ثم تنهدت بعمق وزفرت ثم ألتفتت اليّ:
- عذراً يا علي..
- لا داع للاعتذار يا شيختي.
لم أتوقف من زيارّة الضرّيح، الا منذ تلك الأمسية، التي ألتقيتها فيها عند المدخل، وأنا في طريقي إلى الخروج.. تعرفنا إلى بعضنا واستعدنا بعض الذّكريات البعيدة، وركبنا معا الاتوبيس ذاته إلى "العتبة" حيث أفترقنا، على وعد أن أزورها في شقتها، التي ما أن أستقبلتني فيها، حتى دخلت في تلك الحالة من الغياب..
ومنذ ذلك اللقاء الأول عند الضرّيح، أصبحت الشيخّة كلتّوم صديقتي الوحيدة، في هذه البلاد الغريبة..
كنا قد تقاربنا، كأننا أصدقاء منذ وقت بعيد، جمعتنا ذّكريات منصرمة، وبقايا أطياف حميمة..
ارتدنا سوح شاسعة، تعرّفنا خلالها على أدقّ حقائق أنفسنا.. تلك الحقائق التي لا تبين، الا في الارتحال والغوص بعيداً في منابع النّور..
هكذا سرنا معاً بأقدام الصدق، والتجرّد عن الاكوّان الظاهرّة، وتلك الذّكريّات المحزّنة: وهي تنسحب إلى داخل كوخها، لتنجو من الحصىّ، التي يرميها عليها الصّبية، أو تسّد أذنيها، حتى لا تسمع الضجيج في شجرّة "اللألوب"، عندما تضرب الحجارة فروعها..
طارّت بي الشيخّة كلتّوم، بأجنحة المحبة، مخترقة سماوات الأحوال والمقامات، ولم تحطّ رحالها أبدا، حتى هتف بها الجيلاني:
وتـظـهـر لـلعشاق في كل مظهر
فـفـي مـرة لـبنى وأخرى بثينة
ولـسـن سـواها لا ولا كن غيرها        مـن الـلبس في أشكال حسن بديعة
وآونـة تـدعـى بـعـزة عـزت
وما أن لها في حسنها من شريكة
ما وطد علاقتي بالشيخّة كلتّوم هو تلك العفّة، والرّقة. التي تسّم حياتها.. وكلامها في الجد والمزاح، وتلك الأحوال التي ترتادها، فتغيب عني، لكني أراها في خاطري: أين تمضي فتدهشني تلك المشاهدات، وذاك الحضور الذي تغيب فيه. كنت أدرك أن رّوحها وقلبها، يتوقان إلى تلبية نداء الشوق، والتنعم بالوصال، وما أن تنتفض وتسترد ذاتها الغائبة، متصبّبة بالعرّق والغبّار والّطين، وتجدني لا ازال قربّها، حتى تفترّ شفتيها عن ابتسامة هادئة وتقول:
- أوصيك يا علي بالسخاء والرضا – الصبر والاشارة – الغربة ولبس الصوف – السياحة والفقر..
فأضحك وانا ارد عليها:
- يا شيختي، لا أملك سوى قلبي، وهذه الثياب، ولا أظنني أرضى. فقد تركت بلدي لأمر، وأصبحت في شأن آخر، وأظنني صبور على هذا الابتلاء. ولا أظن ثمّة غربة أكثر من البعد عن الأهل والأوطان، ولا من هو أكثر غربة منّي، في الذّات والأرض. وما عاد الصّوف يصلّح لحياة هذا الزمان، الذي زهد فينا.. ومع ذلك، تطبع أكلي ومشرّبي وكسوتي خشونة الفقر.. يا شيختي، الوصايا لمن يستطيع انفاذها، اذا أنطبق الحال والمقال..
فتضحك:
- يا علي القلب اذا صفا، تجلّت عليه سطعات الأنوار الشهودّية، حتى يصبح مجالاً للوسع النّوراني، فكيف تقول أن الزّمان زهد فينا؟!.. والزّمان لا يزهد!!..
فأبتسم وأشعر أن عروّق قلبي تنتفض، وتمضي بعيداً، تخترق الطبقات والحجّب لتنزرّع في اللانهاية، فتستردني:
- يا له من قلب!!..
سألتها عن الحوّار الذي أحبت، وتلك الحكّايّا التي تناقلها الحي عنها، فتنهدت:
- كان ذا وجه صبوح وابتسامة، كلما ضاقت اتسع نورها!.. الوحيد الذي لم يكن يخشانّي، ويحضّر الّطعام اليّ، تحت شجرة اللألوب، ولا ينهض الا بعد وقت طويل.. كان فتىًّ صالحاً مليئاً بالاشراق ولا يعرّف ذلك، لكن القوّة التي شدّته اليّ، هي ذّاتها القوّة التي شدّتني اليه، كطرّفين يلتقيان، ليخلفان وراءهما عذّوبة الماء السلسبيل.. تلك كانت أول الحكّايّات وآخرها، فليس في حياتي حكاية سوّاها.. حكّايّتي وعبد الرّحمن ود التّوم، وكل ما عدّاها من حكّايّا باطل و محض أكاذيب من نسج خيال الحيّ.
كنت أتآنس به ويتآنس بي تلويحاً وتلميحاً، فالصّبي (ود التوم) تغلّب على مراهقته بصلاحه ونقاء قلبه، وذاك هو الاشرّاق.. لكن أهل حيّك ضربوا علينا الحصّار، دونما سبب يبرر ذلك.. طردني سكان حيك ، بعد أن قتلوا غرّابي الذي أعتنيت به وجاورته، طردوني بعد أن أحرقوا شجرّة "اللألوب".. فافترقنا ولم نلتق بعد ذلك ابداً. لكنّني كنت أعلم أنه سيموت كمداً كما ستموت أنت، وكما سأمضي واياه، إلى شجرّة اللألوب في المنتهى، لنقيم في كوخنا تحتها، نلّهو مع غرّابنا الأشهب الوديع.. تركت الحي دون ضغينة حتى لا أقتل كاللألوبة والغرّاب، ولم يتبق لي سوى ذكرّيات الأيام الخوالي. يا علي أنبل الذكريات، تلك التي تخلو من الضغينّة.. .
الحاشية الرابعة:(مجتزأ رقم 7)..
.. (ممزق).. رأينا ونحن بدار قلا في شهر الطير.. (ممزق) السلطان الغالب على ذلك الزمان (ممزق).. يحاصر جلابي.. كا.. فرأيت كأنه نصب عليها المنجنيق ورماها بالأحجار فقتل زعيم القوم، فأولت الحجارة آراءه السديدة، وعزائمه التي يرميهم بها، وأنه مقيما سلطنة عليها، وقد تحقق له ذلك في عيد القط، وكان بين الرؤيا وال.. . (ممزق).. فكتب له الحق.. من المدينة الريفية.. . أذكرن ذلك.. (ممزق).. .
(*)
الآن، في بوح الاحتضار.. في الخطّ الواهن الذي يفصل الحياة من الموت.. من أعلا برهات هذه اللّحظة البلّورية، أطل وحدي، على احدى شرّفات خاطري المتسع، لأراقب أحوال العالم المنسي ل"جلابي ود عربي" وأتساءل: هل هذا الذي أراه حقيقيّ أم محض وهم، يستغل ثقوب ذاكرتي ليعبئها بعجينة عفنة يتشكل منها تاريخ حلة جلابي ود عربي: ناسها.. كلابها.. دروبها.. حبيبتي ثريا، التي لم أحب كما أحببتها (حمل الىّ حسن أخبار ثريّا: أصيبت بالسّل وماتت من جراءَه، قبل أن يهرَب خميس الى مكان غير معلوّم، فبقيت السُّرّة والدتهما تلوك حسرّتها، على فقد البنت والولد في آن واحد!)..
لا زلت أرى معالم جلابي ود عربي، حيث ينهض الدُّكان الصّغير لأبي في قلبها، محاصرا برائحتها المزّيج من أبخرة الخمر البلدي ورائحة الجنس والعرّق..
منذ بدايات القرن التاسع عشر ومجتمع جلابي ود عربي يشهد حركة انتماء تشد أطرافه المتباينة التي جمعت أشتاتا في بوتقة الكينونة الهلامية التي أقيمت بالنزوح والغزو الأجنبي والأستعمار المحلي في الحاضرة.. ومع ذلك التباين كانت تبرز قوى، تجذب تلك الأطراف بعيداَ عن بعضها دون أسباب واضحة، الأمر الذي شغل بال المؤرخين طويلا، للبحث عن جذور هذه الظاهرة في حلة (جلابي ود عربي)، التي تشكّلت على غرارها كل "حلالات وفرقان " وبلدات البلاد الكبيرة، بحاضرتها ومدنها الرّيفية.. أثمرت جهود هؤلاء المؤرخين "المخطوطة السرية " التي توصلوا من خلالها لتفسير مبدئي، لأول مرة حول هذه الظاهرة.
يقول محمد سعيد القدال، كما أشار سابقا في الأنتماء والاغتراب: (أن أدونيس كتب مقتبسا كانط:" أن العصفور الذي يضرّب الهواء بجناحيه لكي يطّير، يتصور أنه لو لم يكن هناك هواء، لكان طيرانه أسهل، والحقيقة أنه لو لم يكن هناك هواء، لما أستطاع أن يطير – وعلق محمود أمين العالم، على هذا قائلا: لأ سبيل للتقدّم والقطيعة الجدّلية الحقيقية، الا من خلال الذّاكرة التراثية، فلكي نطير أبعد من الهواء، ولكي نتجاوزه، لا نستطيع ذلك الا من خلال الهواء وبفضل الهواء وعلى الرغم من هذا الهواء.. )..
قبل قليل (ثوان فحسب)أتصلت عبر هاتفي المحمول، بصديقي القدّيم حسن في الدّيار البعيدة. سألته عن "حلة جلابي ود عرّبي"، فأكد لي أنها لم تعد كما تركتها. ففي السنوات "القادمات" التي لم تأت بعد شهدت جلاّبي ود عرّبي، نهضة عمرانية مدّهشة، اذ أعيد بناءها على نحو عصرّي حديث ومنسجم، فتراصّت الأبراج والعمارات باتساق، ونهضت الجسور والطرق والكباري والمستشفيات والمدارس والجامعات، والساحات الخضراء والملوّنة بالورود والحدائق، التي كما في ألف ليلة وليلة وبدائع الزّهور..
وصار كل الّناس ناعمين كأبن حزّم في ألفتهم وايلافهم.. فقد تحقق آخيرا في جلابي ود عربي ما حلمت به وما لم تحلم به يوما!..
تمّ تشييده في السنوات القادمات، بعد أن زارها موظفي تنظيم القرّى ومعالجة السكن الاضطرّاري، وأجروا البحوث تلو البحوث بعيد زوال حكومة الجنجويد بقليل..
قطعت الأتصال بحسن دون تمهيد، لتستعيدني بعض الوقائع التي عشتها في جلابي ود عربي، عندما كنت أمضي اليها بعد الدوام المدرسي، بصحبة حسن وخميس لأبقى في دُّكان أبي حتى يتمكن من قضاء مشاويره. وكالعادة لا يلبث حسن أن يمّل، فيمضي الى منزله في مدينتنا الرّيفية، فأظل وحدي في الدُّكان أبيع للناس الى أن يحضُر أبي بعد أنقضاء النهار.
كنتُ مغرماً بأكتشاف هذا العالم الغريب عنّي. عالم جلابي ود عرّبي النّاهض في العلاقات الثنائية المتوالدة والمتشابكة بصورّة معقدّة.. لا تبين فيه الثنائية التي طبعته بوضوح لتداخلها في شبكّة من العلاقات الوّهمية، التي ظلّت غامضة بالنسبة لي، ومستغلقة على فهمي لوقت طويل، قبل أن أبدأ في الاهتمام بحواشي المخطّوطة السرّية، محاوّلاً استقراء ما خلفها من عالم مخفّي بعناية دون متن.. فقط فقط حواسي توحي (كلما حللت رموزها) بمزيد من التفاصيل الغامضة!!..
فعلاقة مثل علاقة السّرّة بكرتون، أو علاقته هو بها: كانت من العلاقات التي وقفتُ عندّها حائراَ لوقت طويل. لم يستطع أحد أن يفك طلاّسم هذه العلاّقة، التي لا تخلو من حميمّية ووّد، أو يعرّف كيف ومتى ولماذا، نشأت مثل هذه العلاّقة الملتبسّة!.. كما لم يجرؤ أحد على سؤالهما عن طبيعة هذه العلاّقة غير المسماة!.. لكن ما أستقر في نفوس أهالي جلاّبي ود عربّي، أنها علاقة مساكنّة فحسب، دون أيّ تأويل جارح، وليس لأي أحد منهم علمٌ بالكيفية التي توصلوا بها لهذه القناعة. ومع ذلك كانوا يلمحوّن في جلساتهم الخاصة لأشياء مريبة!.. وكنت كثيرا ما أتساءل: كيف رضى خميس وثريّا بتقبل مساكنّة كرتون لهم؟ وهو الغرّيب عنهم!..
اللحظة الوحيدة التي أدرك فيها أهالي جلابي ود عربي حاجتهم الماسة لمقابر، بذات قدر حاجتهم لمعرفة الطّقوس التي تجرى للموتى، كانت هي تلك اللحظة التي ماتت فيها ثريّا.. ولذلك عندما أكتشفوا موت حسّان جدّاد وأدروب حرّقا، بسبب الحرّيق الذي لم يبق منهما سوى العظام المشويّة، التي ألتصقت عليها بقايا اللحم المتفسّخ، ولم يستطع أيٌّ من المتحرّين، الذين ظلوا يتوافدون لأيام عديدّة على حلّة جلاّبي ود عرّبي التوصل للأسباب الحقيقية التي أدت الى الحرّيق، الذي شبّ في كل أطراف الحلّة وقلبها في وقت واحد! ولم يترُك شيئا دون أن يلتهمه. لذلك عندما أكتشفوا موت جدّاد وأدروب حرّقا، كانت لديه فكرة واضحة عن "إكرام الميت"!.. .
بسبب ذلك الحريق تحولت حلّة جلاّبي ود عرّبي بكاملها الى رّماد تذروه الرّياح!.. .
قبل هذه اللحظة بوقت طويل، كان الفشل مصّير كل من حاول أن يفّك طلاّسم علاقة السُرّة بكرتون، و"السُرّة بنت عرجّون " وقتها كانت إمرأة أربعينية، لا تخلو من ذلك النّوع من الجمال السّائد، الذّي لا يلفت الإنتباه، لا يَعرّف لها أحد أهلاً أو أقارب، وكانت هي ذاتها، تصّر دائما على أنها "مقطوعة من شجرة ".. ولا أحد يَعرّف لأبنيها أبٌ من بين رجال جلابي العديدين..
بدا للجميع منذ أول يوم حلّت به بينهم، كالهاربة من شيء يطاردها، فهي زائغة العينين على الدّوام، وتنتفض باستمرار، ومع ذلك أتسمت حياتها بطابع الكتمان والتحفظ، حتى أن حسّان جدّاد لم يستطع أن يحصل منها على إجابة واضحة، على عرض الزواج الذي تقدم به اليها، قبيل هجرّته الى اللّه (كما ذكر) زاعماً أن عرضه لصّونها وصّون أبنتها ورّعاية ابنها.. فهما يحتاجان لأب في هذه السّن الخطرّة، وهي تحتاج لزّوج "على سنة اللّه ورسوله"!!..
يئس "جدّاد"بعد محاورات ومداورات، فصرّف النظر وهو يشعر بالهزيمة تضعضع كيانه..
لم تكن للسُّرّة أىُّ صديقات في حلّة جلابي ود عربي أو خارجها، بإستثناء تلك العلاقة اليتيمّة، التي ربطتها بسّت البنّات العشمانّة، التي رغم تجاوزها سن الأربعين، إلا أن أول ما َلفت النظر فيها، هو بشرّتها الصّافية، التي تشبه مزيجا مصفىَّ من لَوّن القمح والبُّن نصف المحترّق!..
كانت ذات جمال "جنّي"، دفع حسّان جداد للإنزّهال التّام، فأخذ يطارّدها لأكثر من عامين، وعندما أمتنعت عليه تقدّم من السُرّة صديقتها..
كنتُ بعد نهاية كل يوم دراسي أركب دراجتي الفليبس رادفاً حسن وخميس. نعرّج علىّ حلة جلابي ود عربي، وبعد أن يتركني والدي في الدُّكان ويمضي. يتجرّد خاطري منّي وينهض جوارّي، فأتكيءُ عليه وأتأمل أحوال العالم المنسي لحلّة جلابي ود عربي.. وحسن ينظرُ الىّ صامتاً، دون أن تنفرج شفتيه عن كلمة واحدة..
كنتُ أشعر بهذا العالم غريباً، يحاصرني بظلاله محاولاً توليفي كجرّو صغير. وأذكُرُ وقتها فيما اذكُرُ: الحزن العميق في عينّي السُّرّة وهي تجاهد (دائما) إخفاء جُرّح غامض يتمظهر في هذا الحُزن.. ربما لأنني فاجأتُها مع والدي في الغرّفة الخلفية التي يقع مدخلها من جهة الباب السّرّي للدّكان. كانت رجليها مرفوعتان لأعلا. أعلا من أقصى ُشُرفات خواطري. وكان أبي يربضُ عليها كأبي الهول، وكنتُ لا أدري في أيُّ نقطة من المسافة التي بدَت شاسعة وقريبة في آن!..
لكن ما أُدرّكه تماما أن ذلك المشهد أصبح السّر الصّغير لثلاثتنا!..
في ذلك اليوم الذي أحترّق فيه بيتُ أُم التيمّان، التي كانت قد أستيقظت في الفجر، فاشعلت نار" الدُّوكة" تمهيداً للبدء في صناعة المرّيسة، وهي ُتمنّي نفسها بأن تتمكّن اليوم من تطبيق وصفة مزّيد الحلبيّ، التي أشار لها بها.. كانت تحادث نفسها وكلُها أمل في أن تمكنها هذه الوصفة من تحسين سمعتها في سوق" المرايس"، الأمر الذي سيجعل دربها سالكاً لسرقة زبائن السُّرّة، الذين كانت تطلقُ عليهم "الزباين الهايلايف"..
عندما أستيقظت أُم التيمان كانت الدّيكة لا تزال بعد تعزّف سيمفونية الفجر، تشاركها كلاب الحلة الضّفادع التي تنقُّ في خيران جلابي، كجوقة استثنائية، فمن مفارقات هذه الحّلة (في نظر سكان المدينة الرّيفية)أن كلابها هي التي تقوم بالإعلان عن الفجر. فالدّيكة تصحو متأخرة بسبب تناولها مخلفات صناعة الخمر البلدي "المشك والبلح". وصحو الكلاب باكراً كثيراً ما ُيثير حفيظة الدّيكة التي تتأخر في النّوم فتعبرُ عن احتجاجاتها بعد ذلك بالصياح، بعد أن تكونُ الشمس (عمليا) قد أشرقت!..
هذا التفسير العلمي البارع، تبرّع به حسّان جداد، بإعتباره المثقف الجهبوز في حلّة جلابي ود عربي.. اذ كان هذا الرّجل كثيراً ما يتحدث عن معرّفته العميقة والواسعة بعلوم الأولين والآخرين، ويذكر أسماء لكتب (يقول عبدُّه الخَال على لسان حسن أنه بحث عن العناوين التي ذكرها له نقلاً عن جداد، كثيراً ولم يجد كتاباً واحداً يحملُ هذه الاسماء!!)..
أشعلت السُّرّة النّار، والسماء بعد لا تزال تنتثر على صفحاتها، حُبيبات الأُرز المضيئة، الآخذة في التلاشي، مفسحةً لضؤ الفجر المتسلل على استحياء. لحظتها كان نباحُ الكلاب في الشوارع، يقطعُ ما تبقى من الصّمت، كسكين صدئة تقطعّ قماش عتيق، وما أن حاولت الشّمسُ أن تطلُ، حتى سمعت أُم التيمّان خطواً خارج دارها وهُتاف:
- أم التيمّان.. أم التيمّان أنا عبد الرّحمن ود التوّم..
فركضت نحوه في غضب، تنفضُ فيه ما تبقىّ من ُنعاسها المخمور، حتى صحىّ نصف سُكان الحلّة على سماع شتائمها المقذّعة وصراخها المسعوّر.. ونشيج عبد الرّحمن العوير الذي كان يتلقى على ظهره في إنكفاء الضربات القاسية من "مفراكتها " الغليظة، التي تستعملها لتحرّيك" المرّيسة" في " بُرمة " الفخار الكبيرة.. ولم تتوقف عن ضرب عبد الرّحمن الذي أضطر في النهاية أن يخر كجمل منحور.. .
عند هذا الحد تجمع أهل الحي بينه وبينها، وأخذ عبد الرّحمن شيئا فشيئا يتمالك نفسه، فنظر إليها بغيظ مكتّوم، ودون أن ينبث ببنت شفة، رَفع يديه الى السماء ومضى..
كانت عادةُ التجوال في شوارع الحلّة واحدة من العادات المزعجة لعبد الرّحمن العوير. فهو ما أن يبدأ الفجر في البزوغ، حتى يمضي هاتفاً بأسماء أصحاب البيوت التي يمرُ بها. هكذا أعتادَ عليه النّاس وألفوه منذ ترك المدينة الرّيفية وحلّ بينهم..
كنتُ بعد أن أُسلّم والدي الدُّكان، أعرج خفيةً منه الى دار أُم التيمّان. تدخلني غرفتها التي لم تسمح لأحد سواي بدخولها، وُتخرجُ كالعادة" شنطتها" السوداء العتيقة من أحد أرفف دولابها حائلُ اللوّن. فتفرغ أحشاء الشنطة وتمد لي الرسائل القديمة(التي تحرصُ عليها) لأقرأها لها:
-    حبيبتي تيمة..
.. وعندما أُنهي الرسالة، التي بالكاد تكشفُ تعابيرها المرتبكة، عن أحاسيس ومشاعر كاتبها، وأصل الى توقيعه "سوكا".. تمسح أُم التيمان دمعةً يتيمةً، تنحدر من عينها اليسرى، فأقرأُ لها رسالة أخرى، فتنحدر دمعة أخرى من عينها اليمنى.. هكذا تنحدرُ الدّمعات من عيون أُم التيمان بالتناوب.. كل رسالة بدمعة. فأسألها عن (سوكا) كاتب هذه الرسائل، فتهزُ رأسها، وتمضي لتحضر لي كورة "الكانجي مورو أو العسلية".. أشربُ على عجل وأمضي متخفياً خشية أن يلمحنّي أحد، فيخبر أبي الذي لن يتورّع من إحالة حياتي الى شقاء وضجر!..
من الشخصيات المنسية التي كانت تسقط باستمرار عن الذاكرة الرسمية للحلة: شخصية أبكر وأدروب وريّاك، ورغم أن جميع الأهالي يتذّكرون أنهم عندما سكنوا جلابي ود عربي وأستقر بهم المقام فيها، وجدوا أدروب وأبكر وريّاك، جزء من المعالم الرئيسية لحلة جلابي ود عربي، يتذّكرون كل شيء وينسون هذه المعالم الثلاثة البارزة والمنسية في آن!!..
كل سكان الحلّة لا أحد منهم يتذكر أنه سكن قبلهم أو سبقهم الى السكنّى.. . ربما أن نسيانهم جاء من سكنهم على مبعدّة من بيوت الحلّة المتلاصقة، اذ يحيط ببيوت أبكر وريّاك وأدروب الفضاء من كل جانب.
حلّة جلابي ود عربي ليست كبقية الحلالات والفرقان التي في أطراف البلدات والمدن. فهي حلّة نهضت فجأة على مبعدة من النيل، أثر موجات النزوح الكبيرة، التي تسبب فيها الجفاف والتصحر الذي ضرب أنحاء واسعة، من الأطرّاف الغربية للبلاد الكبيرة..
وعلى الرغم من أن الحلة أسمها جلابي ود عربي، إلا أن الأصول الأثنية لسُّكانها كانت أما أفريقية خالصة أو هجينّة، ومع ذلك كان سُكانها يصرّون على هذا الاسم:"جلابي ود عربي"..
ولم يقف هذا الإسم دون تقسيم جلابي ود عربي الى حلالات صغيرّة داخلها، مثل" فرّيق الشايقية"، " الجلابّة المساليت "، " حلة العرب"، "حي الدينكا الجلابة "، "حلة الفور"، " فرّيق النّوبّة".. .
هذا المكان الذي نهضت فيه جلابي، كان أهالي المدينة الرّيفية، التي تعتبر حلة جلابي ود عربي واحدة من ضواحيها (يزرّعون الذّرة الرفيعة والدُّخن كنشاط ثانوي بعد دوام عملهم، وما أن نهضت هذه الحلة، حتى لم يعد لديهم خيار سوى التوغل بعيدا عنها لأنشاء حواشات جديدة من الأراضي البور، التي لم تمتد اليها أيادي سكان حلّة جلابي. يزرّعون فيها ما يعينهم على حياتهم القاسية. فقد كانوا يمارسون الزراعة بعد دوام اعمالهم. خاصة أن الأراضي التي أحتلها النازحين وأقاموا فيها حلتهم، لم تكن مملوكة لأحد، فهي مملوكة للحكومة منذ العهد الاستعماري الأول، وبتعاقب حكومات الإستعمار المحلي، وصولاً لحكومة أبو لكيلك الجنجويدي.
لذلك لم يكن ثمة جدوى من محاولة سكان المدينة الريفية إجلاء أهالي جلابي ود عربي، فاكتفوا بوضع اليد على الأراضي البور، وبدأوا يعملون عليها كحواشات زراعية بديلة لحواشاتهم، التي استولى عليها النازحون فجأة، وأقاموا عليها حلتهم "جلابي ود عربي".
كانت الدهشة تهيمن عليهم، اذ ظلو يتساءلون لوقت طويل عن التوقيت الذي بدأت تنشأ فيه هذه الحلّة بالضبط دون أن يلحظها أحد!!..
كما ظلوا يعبرون عن مخاوفهم باستمرار، عن خطورة هذا الوضع الذي لا يملكون شيئا لتغييره.
العجيب في الامر أن موظفي السكن العشوائي، الذين أرسلتهم المحلية، عندما جاءوا وسألوا عن " جلابي ودعربي" لم يستطع أحد أن يدلهم عليه، وأتضح أن ذاكرة السكان لا تحتوي على هذا الاسم إطلاقا ضمن قوائمها، التي تؤرخ بها لأشجار نسب أهالي الحلة، التي ينتهي بعضها عند الفضل ابن العباس.
على الرغم من أن عددا من المؤرخين أكدوا أن الفضل كان عاقرا!!.. الأمر الذي استغله بعض الخبثاء، الذين أخذوا يتساءلون: اذن كيف ينتسب اليه أهالي جلابي؟!.. وهذا السؤال الذي لم يتبرع أحد بالاجابة عليه، أزعج "لا" أحفاد الفضل بن العباس وحدهم، بل ازعج كثيرون من مثقفي الدولة الجنجويدية، فسارعوا لإقامة الندوات السجالية التي استمرت لسنوات تحت نفس الشعار:"دليل الناس في معرفة نسب أحفاد الفضل بن العباس"، وهذا الشعار انبثقت عنه عدة شعارات جانبية للتأكيد على أهمية الموضوع، مثل " الرقص والطرب في سيرة جلابي ود عرب " و"مسك الختام في معرفة حكام جلابي ود عربي من خليفة و أمير وإمام " الي آخره من هذه الشعارات، التي شغلت بال الكثيرين في جلابي نفسها بعد أن رّوعت الآمنين خارجها وأدهشتهم أيما دهشة، فجلابي كانت تتصور ذاتها على نحو مختلف تماما، عندما حاصرها مثقفو الدولة الجنجويدية بهذه الندوات، وكتموا على أنفاس وعيها الجنينّي!!..
ويبدو أن الموضوع كان جادا أكثر مما قدر الجوار الاقليمي لجلابي، فقد أستمرت هذه الندوات لسنين عددا، ولم تتمكن بعد كل ذلك من دحض ذلك السؤال المريب الذي كان قد ألقى به أحد الحشاشين في جلابي، في واحدة من لحظات التجلي النادرة، بعد أن خدره "البنقو" ونقله الى البرزخ فأخذ ينظر من هذه المنطقة السامية الى جلابي، التي بدت كنقطة صغيرة، رمى فوقها بهذا السؤال فتلاشت في فراغ الكون.. لم يعد الحشاش يرى جلابي فقد أختفت في تلك اللحظة من تجلياته النادرة من الجغرافيا والتاريخ.. ولم تطفوّ على السطح مرة اخرى الا بعد أن تدخل أبولكيلك مدليا بدلوه كآخر العبابسة، في تصرّيح رسمي تناقلته لندن والجزيرة بأن اسرائيل عبر عملائها في جلابي و المنطقة، تتدخل في الشئون الداخلية للبلاد الكبيرة عبر جلابي، بهدف خلق أزمة وطنية تمكنها من السيطرة على منابع النيل، وإقحام أنفها في موضوع النفط، الذي ظلت عقود البلاد الكبيرة مع الشركات الاجنبية لأستخراجه وتكريره وتصديره غامضة. لا يعرف عنها أحد شيئا كأكثر الاسرار قدسية في أروقة قصر أبو لكيلك!.. )..
عندما اكتشف موظفو السكن العشوائي، أن أهالي جلابي، ليست لديهم إجابة على ما طرحوه من أسئلة مباشرة، بادروا بطرح سؤال آخر أكثر بديهية:
- اذن لماذا أطلقتم على بلدتكم هذا لاسم؟!..
وهنا انبرى كل الأهالي للرد بصوت واحد، جهوري، أرتجت له أطراف المدينة الريفية:
- لم نطلقه، ولا نعرف من الذي أطلقه!!..
فازدادت حيرة الموظفين الذين كانوا يعلمون مما درسوه في وثائق وعلاقات الارض في البلاد الكبيرة أن جلابي ود عربي مرت بتحولات عديدة عبر التاريخ، فقد سكنتها القبائل الغربية في مرحلة من مراحل تاريخها، وعمدت وقتها الى تكوين مؤسسسة منظمة للرّق و الاسترقاق، فقد كانت جلابي في ذلك العهد مركزا لجلب الرقيق، وأنطلاقا منها كقاعدة كانت حملات جلب الرقيق تنطلق في مجاهيل البلاد الكبيرة..
وعندما تلاشى نفوذ المجموعات الغربية، وأصبحت السلطة في جلابي بيد المجموعات الجنوبية تغير أسم جلابي من جلابي ود غربي الى جلابي ود جنوبي.. اذ استمرت ثلاث من المجموعات الجنوبية في تأكيد وترسيخ مؤسسة الرّق، وقامت بحملات مبدعة اذ أدخلت تحسينات كبيرة على نظام المؤسسة الموروث.. لكن لتناقضاتها الذاتية كمجموعات تسترق بعضها (ذات التناقضات التي أودت بسلطان المجموعات الغربية) سرعان ماتهشّم نفوذها تحت ضربات معاول المجموعات الشرقية، التي لم تستفد من دروس الماضي (بعد أن غيرت الاسم الى جلابي الشرقاوي) ومضت في ذات الطريق الذي أسقط نفوذ سابقيها. ما أتاح الفرصة لأن تكون هذه المجموعة، لقمة سائغة تحت ضغط المجموعات، التي هزمت في المراحل السابقة التي مرّت بها جلابي، ومن ثم كان الطريق ممهدا لاستيلاء الجلابة العرب على جلابي، ومنذ هذه اللحظة أصبح أسمها جلابي ود عربي.
وأستمر هذا الاسم على الرغم من زوال ثقافة الجلابة، وأنهيار مؤسسة الرق تحت ضغوطات العالم، والصحوة المفاجئة لضمير الآباء المؤسسين، لمرحلة ما بعد الاسترقاق وجلب الرقيق في جلابي، كما أن المساحة الجغرافية لجلابي الحقيقية، التي كانت تشمل المدينة الريفية. تقلصت وتقلصت الى أن تحولت لاراض بور قام سكان المدينة الريفية باحيائها بالزراعة، الى أن برزت بشكل مفاجيء جلابي مرة أخرى للوجود..
التاريخ الأقدم لجلابي (وفقا لبعض الاجتهادات الأثرية والتاريخية) يفيد بأن جلابي مقر لممالك جلابية عريقة منذ عصر ما قبل الديانات التوحيدية الثلاث، لكن هذا التاريخ ظل مجهولا فالكشوفات الاثرية، التي أفادت بأن جلابي والمدينة الريفية هما موقعا مملكة ساورا التي ظلت أسباب نشؤها في هذا المكان وعوامل انهيارها غامضة الى حد كبير، لم تقنع أهالي جلابي بأنهم أحفاد لأسلاف ضربوا بجذورهم في هذا المكان..
اذ كان أهالي جلابي بصورة عامة، يشعرون أن حياتهم هشة. وأنهم يقيمون على قشرة بيضة، سرعان ما تتهشم ويتهشمون معها، ولا يدري أحد: كيف تكون هذا الشعور داخلهم!!..
هزّ الموظفين رؤوسهم، واقترحوا على أهالي جلابي ود عربي اسم (الفردوس) كبديل. فهزّ الأهالي رؤوسهم دون تعليق.. وهكذا أصبح لحلّة النازحين أسمان: اسم رسمي مدّون في السجلات "الفردوس" واسم أشتهرت به الحلّة "جلابي ود عربي".. وهذا الاسم الآخير كانت التنظيمات السياسية الطائفية تستغله أيما أستغلال في الانتخابات، اذ يسرح السياسيون "المساطيل" والمخمورين بخيالهم، فيتحدثون عن أمجاد مزعومة "للجد" المؤسس جلابي، الأمر الذي يجعل أشجان عدد كبير من الأهالي ومشاعرهم "الوطنية" تهتاج، فيصوتون للمرشحين الأماجد، وهم يهتفون "لا نصادق غير.. " " لا نبايع الا.. "- "الجلابي ود عربي تقف من خلفكم وتشد من أزركم " – " الجلابي ودعربي ُتحي الثّورَة " – " الجلابي ود عربي جاهزة لحماية العقيدة والوطن " – " الجلابي ود عربي تدعم ضرب السد العالي بصواريخ كروز "- " الجلابي ود عربي تتحدى اميركا وتحذرها للمرة الآخيرة " – الجلابي ود عربي تتبنى مذبحة أم الحمام وعملية أغتيال امبراطور وادي النيل الفاشلة ".. هذه الهتافات هي في الأصل عبارة عن الشعارات المكتوبة "بالتفتة" على القماش المخرّم، والتي علقها السياسيون في أنحاء جلابي على جدارات البيوت وأبواب الدكاكين والكناتين والبقالات الصغيرة.. وهتاف أهالي جلابي بها في لحظات "الإهتياج الوطنّي" هو إستثناء ينقضي بانقضاء حالة الإهتياج العابرة، ففي واقع الأمر أن هذه الشعارات كانت تستفز الكثيرين من أهالي جلابي ود عربي، الذين يعتقدون أن الجد المؤسس "جلابي" ما هو الا جد وهمي خرج من بنات الأفكار الجنجويدية!..
واذا كان موجود فعلا ًجد بهذا الاسم، فهو غير جدير بأن تفتخر به بلدة جلابي ود عربي العظيمة.. وأن أي قول خلاف ذلك هو استفزاز مع سبق الاصرار والترصد للذين لا تربطهم به صلة نسب أو شجرة قرابة، وأن توظيف السياسيون لحدوتة جلابي ود عربي ماهو إلا تكريس للتواطؤ ضد القيّم النبيلة التي أساء اليها الجد جلابي المغضوب عليه.. آمين..
وهكذا يثير السياسيون الذين يفدون أيام الانتخابات، المشاعر القمقمية الحبيسة- لأهالي جلابي ود عربي(وذكريات الغزو والسلب والنهب والفتوحات التي جادت بها العبقرية البدوية الصحراوية.. وكأن ستين ألف شيطان في داخل كل شخص من الأهالي أنطلقوا لتعانق قبة السماء هتافاتهم التي يرتج لها السمّاك والثريا (وكوكب المريخ أيضا)..
كأن أهل جلابي ود عربي، لم تكن هذه الهبات الغضنفرية جزء من حياتهم العامرة بكل ما هو عجيب وغريب! فما أن ينتهي موسم الانتخابات ومع نفاد المصارّيف والسكر والزيت والذّرة، التي أشترى بها السياسيون أصوات الناس، ينسى أهالي جلابي كل شيء خاصة تهديداتهم لامريكا، التي دفعت وزارة خارجيتها لأن تضع جلابي ود عربي ضمن المناطق الراعية للارهاب والتطرف!!..
لا يعتبر أهالي جلابي أن هذا أمر خطير، فلا أحد منهم مهموم بعلاقة جلابي باميركا.. أو علاقة أميركا بالعالم الذي جزء منه جلابي الموقرّة..
وهكذا تعود الحياة في جلابي بعد الانتخابات لإيقاعها الراكد المألوف، محفوفة بالآمال العراض التي رسمها السياسيون في أذهان الناس قبل أن يرحلوا (فأهل جلابي ود عربي كأسلافهم الغابرين لا يتعلمون من دروس الماضي – يصدقون السياسيين ويظلون حبيسين لهذه الاحلام التي تبدت عنها وعود الانتخابات التي بذلها السياسييون في لحظات الحماسة المنبرية، أمام مكبرات الصوت، حتى أن أحدهم وعد أنه لو فاز سيصطحب كل أهالي جلابي فوجا إثر فوج في رحلة سياحية للفضاء الخارجي، حتى يطلعوا على إنجازات واحدة من سلالات أسلافهم الغابرين الذين هبطوا من السماء!.. وصدقه أهل جلابي رغم ادراك بعضهم أن السياسيين أصلا يبذلون الوعود لأنهم لا يرغبون في انفاذها، فلو قاموا بانفاذها لن يجدوا أحدا يصوت لهم، فالناس وقتها سيعون أن هؤلاء السياسيين ليست لديهم برامج، وكل ما لديهم هو أضغاث أوهام في السلطة والتسلط، والتي عندما تمنح لهم – السلطة – لا يعرفون ماذا يفعلون بها سوى ارسال الجرافات للبلدات والاحياء العشوائية خارج التخطيط لهدمها دون تقديم معالجات لأصحاب هذه البيوت المهدومة أو بدائل)..
المفارقة أن جلابي لا تزال خارج التخطيط، كما أن السواد الأعظم من سكانها ليست لديهم شهادات ميلاد أو جنسية!!بالتالي قانونيا ليس لديهم الحق في التصويت لعدم وجود أو اكتمال أوراقهم التي تثبت شخصياتهم، كما أنه والأمر كذلك ليس من حق المناطق خارج التخطيط، أن تتمتع بالخدمات الأساسية الا بعد تخطيطها، ومع كل ذلك يعتقد أهالي جلابي ود عربي – أصالة عن أنفسهم ونيابة عن كل شعوب البلاد الكبيرة التي تشبههم - أنهم مواطنون مواطنة كاملة (على الرغم من أن جلابي ود عرّبي تنقصها الخدمات الأساسية!!) وهذا الأمر عندما ُيثار يلتبس على أذهانهم ويرّبك أفكارهم، اذ لا يستطيعون حل المعادلة الصعبة التي تقول بنهوض المواطنة في الخدمات (كما قال أحد موظفي تنظيم القرّى ومعالجة السكن الاضطراري أثناء تدخينه البنّقو في بيت مزّيد الحلبي).
حلة جلابي ود عرّبي رغم حداثة نشأتها، في هذه المرحلة من تاريخها المتقطع كجزر معزولة، ظلّت كالزئبق تتمدد كل يوم، حتى ألتهمت اجزاء واسعة من المدينة الريفية..
لم يكن أحد من سكانها من جيل المؤسسين، فالجميع كانوا يؤكدون، أنهم جاءوا ووجدوها مليئة بالناس، كما أنها لم تشهد أى حالة وفاة تقتضي وجود مقابر لوقت طويل من الزّمن.. والأغرّب من ذلك أن كل سكانها بين سنّ المراهقة والخمسين. ولاحظ موظفو السّكن العشوائي أيام حملات الهدّم (فأهالي جلابي محيرّين كلما جاءت الجرافات وهدمت جلابي، يفاجأ المجلّس البلدي أن الأهالي شيدوا جلابي من جديد، فجلابي تجرّبة سكنية فريدة، لاتيأس مثل الأحياء العشوائية الأُخرى، رغم فقدها لأرواح عديدة في أيام الهدّم المتكرّرة، كأن روح شجاعة هي التي تحرك كل الأهالي وتوحدهم، وكل الأرواح التي فقدتها جلابي، قتلت مقابلها عدداً من عساكر الجيش والشرطة، الذّين كانوا يأتون مع حملات الهدّم، الأمر الذي أفضى في النهاية الى يأس المجلس البلدي، فبعد 15 محاولة هدم لجلابي صرف نظره تماما فيما أسماه ب"مسألة جلابي ود عرّبي المعقدّة " وأقترح رئيس المجلس أن يطلق عليها اسم "الفردوس" وتترك وشأنها كأيّ منطقة حُكم ذّاتي)..
ما لاحظه موظفو السكن العشوائي، أيام حملات الهدم التي كانوا يستعينون فيها بالجيش والشرطة (وخلّف ذلك بالطبع، ضحايا بعدّد شعر الرأس من الجانبين)هو غياب الأطفال والمسنين، فهزّوا رؤوسهم ومضوا، ولم يعودوا بعد ذلك أبدا. لكنهم كتبوا تقارير صارمة، لم يتسرّب منها سوى عبارة واحدة " هذه البلدة، يجب ألا تشملها خدّمات الرّعاية الإجتماعية "، مع أن برنامج الرّعاية المذكور، لا وجود له سوى على المستوى النظري (ومع ذلك حتى نظرياً حُرمت منه جلابي ود عربي)!!..
أدهشت هذه العبارّة، التي سرّبها بعض الموظفين، الذين يرتادون جلابي طلبا للمخدرات أو الخمر أو الجنس، ليدخنّوا أو يحتسوا أو يقيمو علاقات جنسية (كل هذه الخدّمات مجانا)، بعد أن يقدموا وعود عظيمّة، لأصحاب الشأن في هذه الأمور(بأنهم سيستخرجون لهم عقود ملكية للأرض " كل فرد منكم لازم يحصل على قطعة أرض في جلابي.. دي منطقة عندها مستقبل، كما أنه هناك كلام تحت تحت أنها منطقة نفط.. ولو ما فيها ذاتو، قطعة الأرض بتنفعكم انشاء الله تبيعوها للأمم المتحدة، تعيد فيها توطين اللاجئين البوسنيين، أو تعمل فيها مزارع دواجن.. حرّة.. ")..
وهكذا يطلق الموظفون العنان لأحلام أهالي جلابي، الذين يبدأ الواحد منهم يتصّور شكلّه في العقال والقطرّة والجلباب الأبيض، المصنوع خصيصا في الصّين لأهالي جلابي الأثرياء.. وتمضي به الأحلام، فيتخيل نفسه وهو سائح في بلاد العالم الواسعة، يحمل عملة جلابي التي ُتجندّل في طريقها كل أوراق النقد البترولية والصناعية، ولا تتوقف أحلامه إلا بعد أن يرى نفسه قد أكتفى من ترحال السياحة، وملذات الدنيا وغادر الفندق عائدا الى جلابي الحبيبة، حيث تحط به طائرته الخاصة في مطارها الدولي "..
عندما يطيب للموظفين تكرار (.. أو تعمل فيها مزارع دواجن.. " تضحك "فدّاديات " جلابي، اذ يخطر على بالهن لحظتها "حسّان جداد"..
ظل سؤال الرّعاية الاجتماعية الذي سربه الموظفون، يشغّل بال جلابي، الى أن تمكن منها ذلك الحريق العجيب (فالمطافي لم تتدخل، إلا بعد أن أتى الحريق عملياً على كل شيء) المرّيب، الذي أشارت بعض الشائعات الموثوقة، أنه تكنيك جديد من جماعة أبو لكيلك في المجلس البلدي، لمحاربة السكن العشوائي!..
لم تكن أُم التيمّان، هي القصة الوحيدة في حياتي بجلابي ود عربي. فهناك قصة أخرى مع ست البنات العشمّانّة، في تلك السنوات الباكرة من مراهقتي..
كانت ست البنات العشمانّة، بين آن وآخر تصّطادني، وأنا أترنح من ال"كانجي مورو" أو أل "عسلية ".. أتسلل خفيّة، منفلتاً بحذّر، من بيت أم التيمان، فتحملُّني العشمانّة حملاً على دخول بيتها.
في البدء كنتُ أمانع، ولا أوافق إلا بعد إلحاحها الشدّيد. بعد ذلك أصبح بيت ست البنّات محطتي التالية لبيت أُم التيمّان. ولم تكن تدع أحداً يراني، إذ ُتدخلّني الى دارها، من باب خلفي مموّه، ألج عبرّه الى غرفتها الخصوصيّة..
كانت تغسل لّي وجهي، وتمسح علىّ رأسي وُتقبلُّني بجنون، وقبل أن تدعني أنصرف تعطّيني أوراق اللّيمون أو التُوم لأضعها في فمي، وأمضغها كي ُتزيل رائحة "الكانجي" أو " العسّلية" من أنفاسي.
عدد من صغار التُجار، في المدينة الرّيفية، أغلقوا محلاتهم وأنتقلوا إلى جلابي.. كان أبي أحد هؤلاء التجار، الذين لا أدري سبب إنتقالهم، ولكن بالنسبة لأبي، فربما كان الحنين لبيئته القرّوية، التي لم تعرّف الكُهرباء ومواسير المياه.. تلك البيئة الغامضّة بعوالمها السّحرية، في أقصى الغرب.. ربما ذلك هو ما جعله ينتقل بدُّكانه الصّغير إلى جلابي ود عرّبي، فهي تمثل الّظل للقرية التي جاء منها..
في البداية كانت الحرب بين أبكر والشيخ "جداد" غير معلنّة، ولكن ما أن سافر حسّان جداد، الى الأراضي المقدّسة وعاد، بعد أن بقى فيها لأكثر من عامين، حتى أبرز أنيابه لأبكر..
اذ أخذ يتحدث عن الدّجل والشعوذّة، ولم يلبث أن أخذ في خطبة الجمعة، يخصص محاور، وفصول كاملة عن ذلك ضاربا بأبكر المثل.. ورغم ذلك كان أبكر صامتا صمتا مريبا، لا ينبث ببنت شفة..
أنطلقت بعض الشائعات تعليقاً على حملة حسان جداد ضد أبكر، زاعمة أنه يحسد أبكر على النساء الجميلات، اللواتي يأتين من المدينة الرّيفية خصيصاً، كي يزيل عنهن "العوارض"، أو يعالجهن من "الطب" أو العين، الخ..
وذهب البعض الآخر الى أن واحدة من اللآئي يأتين، الى أبكر المعراقي، هي في الواقع سلمى خير اللّه التي تسكن المدينة الرّيفية الأخت غير الشقيقة لجداد، وانما تأتي لأبكر بغرض أن يكتب لها "للمحبة والزواج"، أو يجدد لها ما كتبه سابقا، وجنح خيال البعض أن ثمة علاقة جنسية بينها وبين أبكر، وهى الدافع الأساس لحملة جداد الشعواء..
بينما اصر آخرون أن جداد رجل صالح ويرفض البدع، وهنا أضطر البعض إلى تذكيرهم بالعلاقة المريبة التي تربط جداد وأدروب، والتي لا يمكن أن تكون من علامات الصّلاح..
وهكذا تعددت الروايات والحكايّات حول المسألة، واضعة نصب عينيها (هذه الحكايّات والروايات) عوامل وعناصر وأسس وخيارات وأحتمالات عدة، تقف خلف الحملة الانتقامية التي قادها جداد ضد أبكر، منذ مجيئه من الأراضي المقدسة، ولولا تهديدات البعض لجداد، لتطورت الى بسوس أخرى!!..
ولكن، بعد أن داهمت قوات الشرطة العسكرية والأمن الايجابي وجهاز الأمن العام، في الساعات الاولى من فجر أحد الأيام منزل أبكر المعراقي وحاصرته، وأخرجته مقيدا بالسلب الغليظ الذي لا تعقل به الا البعير، ونصبت له عمودا من خشب الصنوبر الذى كانت الحكومة الجنجويدية قد أستوردته من لبنان خصيصا للاعدامات والشنق، ونصبت هذا العمود في قلب أكبر ميادين جلابي بعد نادى المنادي في الناس بالمايكروفونات، اصطف العساكر ورموه بالرصاص بعد هذه المداهمة السريعة والمباغتة التي لم تدع لأبكر مجالا للهرب بالاعدام الفوري لابكر اصيبت جلابي ود عربي، برعب لم تستطع التخلص منه الا بعد شهور عديدة، حتى أنها في الشهور الأولى، لم تجرؤ على معرفة السبب، خلف ما فعلته أجهزة الأمن بأبكر، بهذه الطريقة العلنية البشعة..
رغم أن الحكاية كانت واضحة وضوح الشمس، كما أن الأجهزة الأمنية لم تحرص على إخفائها، اذ أعلنت في بيان رسمي أن أبكر ليس أبكر فأسمه الحقيقي هو آدمو.. ذلك المتمرد المسلح المسئول عن التمرد الذي حدث قبل فترة، في الأطراف الغربية للبلاد الكبيرة (وبعد أحتواء الحكومة للتمرد، بتآمر عدد من قادة المجموعة المتمردة، ومجموعات أثنية منافسة للمجموعة التي ينتمي اليها أبكر، وأنقسام مجموعة أبكر نفسها بسبب عدد من الاختراقات الناجزّة من قبل الحكومة الجنجويدية لمجموعات الإنقسام) لهذه الأسباب وأسباب أخرى أستطاعت حكومة أبو لكيلك القضاء على التمرد..
وكان أبكر قد هرب منذ وقت مبكر، عندما لم يعد يثق بأحد من المجموعات المنقسمة، ولم يتم العثور عليه رغم البحث المكثف الذي أجرته أجهزة أمن أبو لكيلك.. فقد أختبأ أبكر متنكرا في شخصية معرّاقي، في جلابي التي لا يمكن أن تخطر على بال الأجهزة الأمنية، كمكان يصلح لأختباء أىّ شخص، لطبيعة الحياة العلنية لأهالي جلابي من جهة، ولكونهم بلا أسرار تذكر من جهة أخرى..
ويبدو أن إختباء أبكر، وتنكره تغطية لشخصيته الحقيقية، كان مؤقتا ريثما يتمكن من(أعادة بناء تنظيمه المسلح وترتيب أوضاع رجاله، و ترتيب أوضاع ثورته المجهضة لإشعال نيران تمرده من جديد..
هذه الرواية الرّسمية أقنعت الاهالي. في البدء. لكن، بعد أن أطمأن الموظفين الذين يرتادون جلابي الى زوال الخطر عنها، وأن الأوضاع في جلابي قد عادت الى طبيعتها (كما أكدت اذاعة لندن بذاتها وصفاتها ذلك)، بعد أن تأكد الموظفون بما لايدع مجالا للشك لديهم (بعد أستماعهم لعدد من الفضائيات أيضا) عادوا يرتادون جلابي مرة أخرى يمارسون المثاقفة التحليلية للحدث، أثناء علاقاتهم الجنسية او أثناء قعدات الخمر أو الحشيش..
وهكذا خرجت الى العلن في فضاءات جلابي ود عربي، تحليلات تختلف تماما عما قالته الحكومة الجنجويدية رسميا في بيانها الشهير (وبدأ الحديث عن إنتهاك حقوق الانسان والحق في محاكمة عادلة، الخ.. مما يسميه أبو لكيلك ب: خزعبلات العولّمة)..
عندما غادر الأثر المرّوع أهالي جلابي، علموا من بعض المتنورّين (علمانيين جلابي ود عربي) أن بعض القوى السياسية أصدرت بيانات، تعضد من معنويات أهالي جلابي (في هذه المحنة التاريخية التي يمرون بها – كما جاء في أحدى الصحف السرّية التي تطبع على أوراق الرونيو بآلة الخشب البدائية، المسماة "كرجاكة"، والتي هي احدى الانجازات العبقرية للنضال السرّي تحت الأرض ضد نظام أبو لكيلك)..
من أكثر التحليلات التي أستوقفت أهالي جلابي، ذلك التحليل الذي ألتقطه مزيد الحلبي من أحد الموظفين في السكة الحديد بأن: أبكر الذي أعدمته قوات الأمن ليس هو آدمو ولا يحزنون، وانما هو كبش فداء لإحباط "جماهير شعبنا"، وقطع الطريق على أنتفاضتها الشاملة والمحمّية بالسلاح. فهذا الاعدام هو بمثابة القضاء على أمل الحركة الجماهيرية، في هبتها الثورّية القومية والأممية(حتى هذه اللحظة لم ُيشاهد ذلك الموظف في جلابي ود عربي مرة أخرى على الاطلاق، كما أن أسرته لا تعرف مكانه، وزملاؤه في العمل غيروا وظائفهم، فاغترب بعضهم الى الخليج ومصر، وقدّم بعضهم طلبا لاجازة طويلة الأمد بدون مرتب، وأستقال البعض الآخر بدعوى أنه وجد فرصة عمل أفضل (مع أن شهود عيان يؤكدون أن هؤلاء بالذات، أغلقوا على أنفسهم أبواب بيوتهم، وليست هناك عروض أفضل قدمت لهم، أو أي شيء من هذا القبيل).. هذا الموقف من الموظفين أسعد مسئولين سكة حديد أبو لكيلك، فهذه المؤسسة أصلا تم تدميرها بصورة منظمة، بسبب أن نقابتها شكلت مصدر إزعاج لكل الحكومات الجنجويدية، منذ جعفر الجنجويدي الثاني مرورا بصديق الجنجويدي الرابع عشر وصولا لأبو لكيلك الخامس، وبتقديم الموظفين لإستقالات، حملوا عبئا كبيراً عن المسئولين، الذين كانوا عملياً قد باعوا السكة الحديد لجمهورية "مالفي" في أقصى الجنوب الآسيوي، باعتبار هذه المؤسسة (السكة الحديد مثلها مثل المشاريع الزراعية: خاسرة)!!.. وهكذا لم يعد – ببيع السكة الحديد – أى مؤسسة قطاع عام، فقد كانت هى آخر مؤسسات القطاع العام، التي تبقت من حملات البيع المسعور، لمؤسسات البلاد الكبيرة، وكان الموظفون يدركون قبل تقديم إستقالاتهم (التي يؤكد البعض أنهم أجبروا عليها) يدركون أن السماسرة الذين أطلقهم أبو لكيلك في أصقاع الأرض الأربعة، لم يجدوا مستثمرا مغريا بعد، إلى أن لاح في الأفق ذلك المستثمر الآسيوي..
لكن الشائعة الجديرة بالاهتمام الشعبي في جلابي ود عربي، تلك التي أنتجها الاهالي أنفسهم، والتي تفيد أن جداد وظف علاقاته النافذّة للقضاء على أبكر، الأمر الذي جعل أهالي جلابي ود عربي يخافون جداد كثيرا (وندم البعض بالفعل على كلام ربما يكون قاله لجداد في وجهه ذات مرة، وأنتابت بعض رّهاف القلوب، ممن أساءوا لجداد الهلاوس في أحلامهم، اذ يأتيهم جداد في شكل ديناصور، أو تنين أو كائن فضائي غريب ليشتت أحلامهم، بعد أن يكتم على أنفاسهم أو يخنقهم أو يبتلعهم، فيرون أنفسهم في أمعاءه الغليظة، التي تعتصرهم.. يموتون ببطء ببطء ببطء شديد).. وهكذا أمتنع هؤلاء عن الإساءة لجداد، والذين كانوا أكثر شجاعة خففوا حملاتهم ضده!!..
التخوفات التي أبدتها المدينة الرّيفية عند نشأة جلابي ود عربي، أتضح أنها كانت تخوفات في محلها. فقد صدقت هواجسهم وظنونهم، فبعض نساء الموظفين والعمال كنّ يتركنّ بيوتهنّ ما أن يغادر أزواجهن الى العمل، ويجئن الى جلابي ود عربي ليمارسن نزواتهن. ولا يعدن الى بيوتهن الا عندما تقترب مواعيد عودة الأزواج المنهكين..
كذلك أصبح الطلاب يتسللون من مدارسهم، ليقضوا بقية يومهم الدراسي في جلابي..
كان من أبرز معالم جلابي ود عربي كرتون وأدروب وجداد وأبكر وجمال الحلة ورياك وعبد الرحمن ود التوم (العوير) وكسبان الضّاوي.. اذ يشتركون جميعهم في أحوالهم الغريبة، كما دونتها الذاكرة الشعبية لجلابي..
هذه الأحوال التي أصبحت مألوفة، اذ لم تعد بمرور الوقت تثير إهتمام أحد. على الرُّغم من أن ذاكرة جلابي نفسها، نهضت في هذه الأحوال.
لكن ما ظل ثابتا وراسخا، أنه ما أن ُينطق اسم جلابي ود عربي، حتى يتبادر الى الذهن كرتون وأبكر وجمال والعوير والضّاوي.. فكرتون (وكرتون هذه ليست جزء من أسمه الحقيقي الذي لم يفصح عنه لأحد أبدا) كان يأتي مهندما، ومتأنقا الى جلابي صبيحة كل جمعة. فيدخل بيت السّرّة ست المريسة، ويبقى ليشرب حتى تتلاشى سحابة النهار، فيخرج مشعشعا ومترنحا، ليمضي باتجاه المدينة الريفية، متعثر الخطى، ومتمتما بكلمات لا يسمعها أحد سواه!.. ولا يبين مرة أخرى الا صبيحة الجمعة التالية، وهكذا).. أعتاد الناس عليه: يأتي ليشرب الخمر البلدي، وينصرف بهدؤ دون أن يسأل أحد أو يسأله أحد!!.. حتى أنه عندما سكن مع السّرّة في بيتها، لم يبد هذا الأمر غريبا، أو مثيرا للتساؤل (بعض الشائعات أكدت أن جداد ذاته بشحمه ولحمه لم يهتم لهذا الأمر ليدرجه ضمن حملاته الوعظية في ترويع الآمنين من آهالي جلابي) رغم تبجحاته السابقة، عن إهتمامه لأمر السّرّة وابنيها، ورغم غاراته الدينية الجهادية المنتظمة!!..
ما كان يثير التساؤل حقا هو: أين كان كرتون يسكن في المدينة الريفية، وكيف كانت حياته بالضبط، ولماذا ترك بيته ليساكن السرة ست المريسة؟!..
.. الآن ومن أعلا بُرهات هذه اللحظة، البلّورية. وفي لحظة أحتضار، حيث جسدي مُلقى بين الحياة والموت، تجيء كل هذه العوالم، ماثلة أمامي. حيث يتكثّف الزّمن حتى ليصبح دهرا..
ها أنا أجلس على ُشرفة الخاطر، لأسمع صوت حسن ممتزجا في صوت شقيقته سارة. صوتا واحدا متوحدا قادماعبر الزّمان والمكان، مختزلا المسافات وقوانين الضوء والكيمياء والفراغ الواسع الذي يفصلنا، يحدثني عن جلابي ود عربي التي لم تعد كما هي ذاتها تلك البلدة التي ينتهكها زوار الفجر وجرارات المجلس البلدي وحملات الانضباط والنظام العام، والمباحث الجنائية.
فقد تغير الحال في مدينة الفردوس (جلابي ود عربي سابقا)..
أحاول تجميع الوقائع والاحداث، وترتيبها في ذاكرتي لانشائها من جديد.. (جلابي) كما عرفتها: بلدة كل شيء فيها يُنبيء دائما، أن ثمة كارثة ستحدث بعد قليل!!.. فكل شيء معد للأنفجار!!..
فجداد لم يكتف بإعلان الحرب على أبكر فحسب، اذ سرعان ما شملت حملته الأنتقامية رياك دون أن يدري أحد سببا مقنعا لذلك. فجداد دون سابق إنذار أخذ يُحرض الأهالي على مقاطعة رياك (زاعما أنه "رياك"وثني مسيحي كافر) آمرا عباد الله المؤمنين في جلابي بالابتعاد عنه وعزله، كالمرض المعد، مستهديا بالحديث " انما المسلمين ------- تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " فكان البعض يهز رأسه موافقا، وربما تأخذه الحماسة فيهتف "وأقتلوهم أينما ثقفتموهم " فيرد عليه آخر " وأعدوا لهم ما أستطعتم من قوة -------"، وبالطبع يتدخل علمانيو جلابي همسا ضد هؤلاء "الهتيفة " يريدون أن ينالوا حظوة عند جداد " ويتجرأ بعضهم فيرفع صوته معارضا:" أنت تريد أشعال الفتنة الدينية – الدين لله والوطن للجميع " بينما لا يأبه آخرون اذ ينصرفون بهدوء، ما أن يبدا جداد إستهلال حملته.. وهؤلاء الذين لا يأبهون على وجه الخصوص، هم أول من لاحظ التبدلات التي أعترت شخصية كرتون التي أعتادوها.
اذ لم يعد كرتون يغادر جلابي الا مرّة أو مرتين في الشهر، حاملا كل الكراتين وباغات الزيت الفارغة التي يشتريها من الدكاكين والكناتين في جلابي، يربط كل ذلك على حمّار السّرّة، ثم يمضي بها الى المدينة الريفية.. يغيب الى أن تنقضي سحابة النهار فيأتي بدونها.
كان الأهالي في جلابي يتساءلون:" اين يمضي بكل هذه الكراتين و"الباغات " الفارغة؟!"..
فكان جداد يرد عليهم:
- ربما تكون فيها مصلحة.
-    قطع الرقاب ولا قطع الأرزاق.
ورد جداد عادة يكون متوقعا، خاصة في هذه الحالة، نظرا لمحاولاته الدؤوبة في تجنيد كرتون الى صفه، بعد أن نجح في تجنيد أدروب، الذي كان قد ارتبط به في علاقة مريبة، أثارت الأسئلة حتى في الأوساط العليا للعرافين، وفقا للشائعات التي ملأت جلابي ود عربي..
يعتقد البعض أعتقادا جازما أن جداد، أنضم الى العرافين، نظرا لدوره الكبير في إعتقال وإعدام أبكر المعرّاقي، وأن العرّافين، هم الذين مولوا مشروعه الخاص بالاتجار في الدجاج والبيض، وأنه يحاول تجنيد كرتون لهذه المجموعة العجيبة، التي تعرف كل شيء، فما أوتته من العلم ليس بقليل. كما أن جداد حاول من قبل تجنيد رياك ففشل، الا أن نجاحه في تجنيد أدروب دفعه الى مواصلة الجهاد لتجنيد المزيد من العرافين..
أحوال العالم المنسي لجلابي ود عربي مليئة بالثغرات والثقوب (طبيعة الذاكرة المنتهكة لجلابي ذاتها) إذ تسم ذاكرتي في هذه اللحظة الفاصلة بين عالمين بالانهاك، فتسقط منها الذكريات عشوائية، متداخلة، غير مكتملة.. تتكوّم الأحوال: حالا فحال، أمامي ككتلة من القلق الكُلّي والأحاسيس والشجن. فيكون التساؤل كالهلاك: هل كان لهذه البلدة وجود أصلا؟ أم هي تشكلت من دوار خمر البارحة، التي لاتزال أبخرتها تفوح من أنفاسي!..
لم يطلق أهالي ود عربي على حسّان اسم جداد للسخرية منه. فالتسمية جاءت للرجل من تجارته في الدجاج والبيض. إذ لم يترك بيضة واحدة أو دجاجة "حايمة" في شوارع جلابي أو المدينة الرّيفية، إلا وأستهدفها بالشراء من أصحابها، وشملّت إهتماماته بالطيور حتى فراخ الحمام، وعندما توسعت مداركه، ضم الى تجارته الأرانب والبط وديك الرّوم ودجاج" الفولان"، لكن لم يسر عليه سوى اسم: جداد "دجاج"..
في الأيام الأولى لتجارته، عندما وفد الى جلابي حديثا، كان يبذل مجهودا جبارا في سبيل جمع أكبر قدر ممكن من الفراخ والبيض والفراريج.. يمشي على قدميه مسافات طويلة ويطرق كل الأبواب، في كل احياء جلابي والمدينة الريفية مترامية الأطراف ليسألهم ان كان لديهم شيء منها للبيع.
 ويوما بعد آخر أصبح أشهر من المحافظ، كل المدينة تعرفه. فلم يعد بحاجة للبحث عن الطيور أو البيض. فكل شيء أصبح يأتيه في مكانه. فلا أحد لديه بيض أو أيّ نوع من أنواع الطيور الجلابية أو العجمية يرغب في بيعه الا وأتى به الى جداد، قاطعا المسافات من المدينة الريفية الى جلابي(هذا اذا لم يكن من أهالي جلابي). الذي ابتداء من هذه اللحظة أصبح أسمه حسّان جداد (بدلا عن حسان فقط – لوحظ أنه كان يفخر بلقبه الجديد "جداد" الى حد الإنتماء، فعندما تقول له "جداد" يبتسم بسعادة غامرة كأنك تناديه ب"حضرتك" أو "جنابك " أو " سيادتك") ويبدو أن عمل الرجل في الطيور جعله من أصحاب الأحلام المحلقة في سماوات ليس للآخرين الأجنحة الكافية ليطالوها..
فالرجل طرح مشروع سلسلة من االمجمعات الاستهلاكية اطلق عليه:" الأمن الغذائي". تزامن اطلاق هذا المشروع الأخطبوطي، الذي شمل ضواحي وبلدات المدينة الريفية، تزامن مع تأجير جداد لمحل في قلب السوق الكبير للمدينة الريفية..
 وهكذا أتسعت تجارته وأصبح من أهم الموردين للبقالات الكبيرة، وأصبح محله في السوق الكبير للمدينة الريفية، مركزا لمجمعاته الاستهلاكية، التي شملت مشاريع فرعية مثل "مطاعم جداد للوجبات السريعة" "جداد للعرديب والمرطبات التراثية""جداد للخضر والفاكهة " "جداد للخردوات " "جداد للترحيلات عبر المدن"، " جداد للصناعات الدوائية – تخفيضات خاصة للكلوتات الطبية والكوتكس والكوندمس، ولفيترا للذين لديهم مآخذ على الفياجرا بسبب تحفظاتهم على الاعلان التلفزيوني المبتذل للفياجرا الذي يعرض فيه أحد الأشخاص وهو يغرس مسمارا سميكا في جدار صلب دون أن ينثني هذا المسمار، الذي يبدو من الواضح أنه سقى بماء الفياجرا، و تسهيلا لخدمة الزبائن ابتدر جداد بند خدمات توصيل مجانية"، "تاكسي جداد التعاوني" "جداد للتبغ والعماري الأصلي "..
وتأكيدا على جديته التجارية شنّ جداد على الجمهور حملة اعلانية تلفزيونية، عرضا لمنتجاته الطبية على وجه الخصوص، ولاحظ بعض المراقبين، مدى استفادة جداد من اعلانات الفياجرا والليفيترا..
 لم يترك جداد شيئا يتم استهلاكه يوميا، لم يضعه ضمن مشروع مجمعاته الاستهلاكية. ورغم هذا اليسر الذي جاءه من وسع، لم يرحل جداد من سكنه القديم، فالرجل مشهود له بالوفاء للتراث!!..
شهد مسكن جداد الفارّه دونا عن كل مساكن جلابي ود عربي، توقف العربات الأمريكية واليابانية الفارهة أمامه بالساعات الطوال.. كان زواره يأتون في هذه العربات من مختلف أنحاء المدينة الريفية والبلاد الكبيرة، خاصة حاضرتها.. كانوا رجالا أنثويي الملامح (بل حتى طبيعة الصوت عندما يتكلمون وطريقة المشي" المتفدعة" عندما يترجلون عن عرباتهم الفاخرة) متأنقين في ثيابهم الزّاهية وأجسامهم اللامعة، " النديانة"، التي أزعجت أدروب فسأل أحدهم:
- وجهك مالو ناير كدي؟!.
فرد عليه:
- من أثر الركوع..
فقطع أدروب الحركة، كأن أحد الأمطار الغزيرة" صّبت" عليه لحظتها!!..
في هذا الوقت كان جداد قد نقل الجامع من موقعه القديم وأكمل بناء الجامع الجديد في موقع آخر، أثبتت الأحداث فيما بعد أنه أختاره بعناية منقطعة النظير، ونصّب نفسه إماما عليه (ومأموما كذلك أغلب الأحيان!!) اذ لم يعد أحد يرتاد الجامع، الذي أصبح اسمه جامع جداد بدلا عن "مسجد جلابي ود عربي العتيق".
في لحظة سابقة لهذه اللحظة (هي اللحظة التي سافر فيها جداد للأراضي المقدسة) وفي غيبته انطلقت كثير من الشائعات حول أعماله المريبة. لكن الشائعة التي أنطلقت من مجالس النساء كانت مختلفة عن الشائعات الأخرى، عن علاقاته وأعماله. مفاد الشائعة أن جداد يرتبط بعلاقة مثلية مع أدروب.. بالطبع وصلت هذه الشائعة الى مسامع الرجال، فأعادت الى أذهانهم شائعة سمعوها في الأيام الأولى التي جاء فيها جداد وأستقر في جلابي..
مفاد تلك الشائعة أن جداد منذ نعومة أظفاره وهو جزء من كيان العرافين، متشرب بأفكارهم، ولذلك أرتقى داخل صفوفهم، وظل يرتقي الى أن اكتشفوا بالوثائق والاثباتات، أنه نهب مبالغا ضخمة دون أن يعثروا لها على أثر، فواجهوه وطردوه من كيان العرّافين، ولم يظهر جداد سوى الفقر والحاجة، ولم تبد عليه علامات الثراء أبدا، وضرب في أنحاء البلاد المختلفة، الى أن طاب له المقام في جلابي وبدأ يظهر عليه الثراء تدريجيا.
بعض الأهالي وقتها كان لديهم رأي مختلف، وهو أن ما تم من قبل العرافين تجاه جداد هو مؤامرة لاقصائه بسبب مثلّيته، بينما مضى آخرون للزعم أنها مؤامرة مثل كل المؤامرات(" فالسياسة مؤسسة أحقاد منظمة") من هذا النّوع التي تحدث في مثل هذه الجماعات بسبب الصراع على النفوذ والسلطة والثروة.
والبعض الآخر من "أهل التقية " في جلابي، هزّ رأسه ولم يعلق بسوى "أستغفر اللّه العظيم من كل ذنب عظيم – أحفظنا يا رّب ". ما دفع بعض الخبثاء للضحك وهم يتحسسون مؤخراتهم في اطمئنان. وعندما تهامست النساء بالشائعة، أطلت الشائعة القديمة برأسها مرة أخرى في أذهان الأهالي، الذين سارعوا بابتلاعها مثلما أبتلعوا ما سبقها من شائعات، دون أن يحاولوا الجهر، خشية أن يرسلهم الرّجل وراء الشمس. فالرجل أيّاً كان الأمر يبدو أن العرافين أعادوه الى صفوفهم، وقاموا بتمويله وأصبح صاحب نفوذ كبير، فثروته لم يجنها من الدجاج فحسب، وما الدجاج الا ستار يحجب به مصدر ثروته الحقيقي. وُيخفي به أنشطته غير المرئية (لوحظ أن جداد منذ اطلق مشروع مجمعاته لم يعد يتحدث عن ُحرمة السجاير أو عذاب تارّك الصّلاة على الإطلاق!!).. كان إيمانهم لا حدود له، بأن لجداد علاقات متشعبة، مع العرافين والطائفيين وما الى ذلك من شاكلة (وقتها كان العرافين قد انقسموا الى قسمين قسم ضد أبو لكيلك والآخر معه)..
ولم يتنفس الأهالي عمليا، وأخذوا يضايقون جداد علنا في بعض الأحيان الا بعد انقسام العرافين، الذي أدركوا بعده بوقت ليس قصيرا، أن له تأثيراً كبيرًا على نفوذ وسلطان جداد.
التغييرات المهنية التي حدثت في حياة جداد، جعلت تجار" الكناتين" في جلابي يحسدونه سرا، بينما يجهرون "ما شاء اللّه، اللّهم زد وبارك ".. هذا كان في البداية، اذ لم يقووا على كتمان ما في صدورهم، فأخذوا يجاهرون بهذا الحسد، الأمر الذي كان يستدعى دائما تدخل جمال الحلّة ليس لأنه من الذين أخذوا يتقربون لجداد، بل لأنه عرف بالمباشرة اللاذعة والتلقائية المرّة، التي لا تتلفت للكلام..
الأمر الذي جعل الناس يختلفون حوله، فمنهم من ينظر اليه كمجذوب و"بركة" حتى أن هؤلاء نسجوا حوله كثير من الأساطير. ومنهم من ينظرون اليه، كمحتال يصعب الوثوق به.. ولولا علاقته الوطيدة بعبد الرحمن العوير وكسبان الضّاوي، اللذين يجمعان كلاهما بانه "راجل بركة" لما تركوه يضايقهم، ولردوا له الصّاع صاعين. فهم يخافون لعنة عبد الرّحمن ود التّوم التي رأوها بينة في بيت أم التيمان، عندما تعاركت معه. ولم تمض سوى دقائق قليلة، حتى أشتعلت النار في بيتها، فجاءت وركعت تحت قدميه تطلب السماح ولم تنهض الا بعد ان قال لها:
أنا مسامح. قومي. اذهبي يا أمة اللّه.. -
 كما أن كسبان الضّاوي على سخريته المرّيرة، التي توغر الصدّور، كان عملاقاً، ولذلك لا يجدون مناصاً من كظم غيظهم!!..
الحاشية الآخيرة (مجتزأ صورة وثيقة غير مقرؤة الخط):
(*)
هل تحزن ثريا لو كانت لا تزال على قيد الحياة؟.. هل تحزن في آخرتها الغامضة، إذا عبر بها هذا الكلام؟.. أو حملته لها سحابات الغيوم الآن، بعد أن تعبر بوجهي اليها؟!.. هل سيغضبها في آخرتها اذا نقله لها ملائكتها الكروبيين.. أو عبرت به، مرهقة من وعثاء التخاطر؟؟!!..
ثريا المراهقة داكنّة البشرة، التي عبرت على حياتي، في لحظة فاترة فتور ماء الآبار. فبقيت مستمرة كأغرب لحظة حاسمة في حياة انتقالية بين الصّبا والمراهقة!.. من أين جاءت بهذا السّحر الجبلي، الذي وسمها بحيويّة الطقوس البدائية..
في ثريا كانت تلتقي جبال النوبة، بغابات الإستواء، في قلبي الناهض في النيل، ليشكل الملتقى شرياناً، يتخلل كل نواحي جلابي ود عربي.. فيسمع همس القّش تحتك به الرّيح، ويتحسّس الدُّخان المتسلل البيوت المهتزّة.. كيف نفذت هذه الصّبية اليانعة الى قلبي فتوحدت به.. مبتعدة عن هذا الظمأ، مختبئة في أحد كهوفه. كهف مثل كهوف أسلافها الذين أدركهم الحب، فطاردوا الغزالات في رحلات الصيد، ولم يعودوا أبدا.. تتركني الآن تتخاطفني الطّير ووحوش الفلاة.. فلاة جلابي ود عربي..
ما أدركه الآن تماما: أنني أعتلي هذه البُرّهة الشاهقة، لأنظر من فوقها، الى ذلك العالم التّحتي، السّرّي، أنقب فيه ببصري وأحاول أن أشُم تلك الروائح الزنخة البعيدة، التي وسمت بعطنها أزقة وُجدُر جلابي ود عربي.. تتخلل البيوت القش والطين اللّبن والدّروب الضيقة المتسخة بالرّوث وبقايا أكياس الورق والبلاستيك، والعُلب الفارغة..
أحاول ملامسة هذه الروائح الآن. من هذا العلو الشاهق، لأكشف ما أختبأ خلفها، من أقنعة للناس والمكان وكلاب السكّك التي لا تهدأ..
كانت ثريا في مثل عمري.. أهتم أبي لأمر شقيقها خميس الذي يكبرها قليلا، فألحقه بالمدرسة. فكنا ثلاثتنا: أنا وهو وحسن – بعد إنقضاء اليوم الدراسي، " نترادف" على دراجتي الفليبس الى أن نصل الى جلابي. وقتها كانت ثمة شائعة قد إنطلقت، مفادها: أن المجهود الجبار الذي بذله والدي، كيما يتم قبول خميس في المدرسة الريفية، جاء من اهتمامه (أبي) (بالسرة والدت)ه(خميس)، وليس حبا في عمل الخير (كما ظل يزعم) وهو يقوم بتسويق نفسه كرجل صالح!!..
لا أدري لماذا تم نبش هذا الأمر في هذا التوقيت بالذات، على الرُّغم من مضي عدة سنوات منذ أدخل أبي خميس المدرسة!!..
لم يكن أبي يمانع علاقتي بخميس (هو الذي يمانع أن تكون لي أيُّ علاقة بأي شخص من شخوص جلابي) أكد لي صديقي حسن (وقتها):
-    والدك على علاقة بأم خميس.. هذا مؤكد..
فضحكت ولم آبه للأمر. وربما لهذا السبب الذي زعمه حسن. تسامح معي والدي عندما جاء الى الدّكان على نحو مفاجيء وضبط ثريا تحاول اغرائي..
رآها تحسر فستانها القصير البالي عن فخذيها، وتعري صدرّها، بعد أن أنصرفت مأخوذة. توقعته يضربني (كنت زائغ العينين ومرتبك.. لكنه لم يفعل) اذ أكتفى بتحذيري وتخويفي..
كانت ثريا تقتنص الأوقات، التي يكون فيها أبي غائبا والدكان خال من الزبائن، فتقف في مدخله وتكشف لي عن فخذيها وصدرها الذي أكتمل نمو ثمرتيه للتو!!..
فتشعل في داخلي حمم وحرق، تجعلني خائر القوى، لا أقوى على الوقوف. كأن شياطين الجحيم تلهو في عروقي، وهي تطلق ضحكاتها الفاجرة، التي تتوحد مع ضحكة ثريا، فيشكلان معا ضحكة واحدة، متحدة ومتوحدة مع الفراغ العريض لفضاءات جلابي ودعربي..
في الأوقات التي يزدحم فيها الدكان بالزبائن، وتلامس أذني أحاديثهم عن ثريا. كنت أشرع أذني على وسعهما، حتى تكادان تتشربان بغيبة الزبائن لثريا.. فأهالي جلابي: الغيبة والنميمة، لا تطيب لهم، إلا عند ما يتصادفون أمام الدكان لشراء غرض من أغراضهم.
ومثلت هذه الغيبة والنميمة مصدرا أساسيا من مصادر معرفتي بأحوال جلابي، ومصدرا يكاد يكون معتمدا من قبلي حول ثريا والأمور والموحيّة، التي لا تخلو من اغراء خفي.. أو الداعرة العاهرة "الفاجرة الصغيرة" كما عَرَفَتهَا نميمة الزبائن وأغتياباتهم. ربما شكّل الزبائن في داخلي ثريا كاغراء محض.. اغراء فاتن ومفتون بالفجور.. ولذلك حاولت بدوري، إغراءها على إقامة علاقة معي، لتطلعني على معارفها الواسعة، التي شدّتني اليها أحاديث الزيائن.. تلك المعارف الغامضة عن ذلك العالم السّري، الذي لا أعرف عنه شيئا!!..
كنت أرغب في خوض التجربة لأفهم معنى الحرّقان الذي أحس به يتخللني مفصلا، مفصلا، فيجعل صلبي وسلسلتي الفقرية، راعشتين كالمصابتين دون سائر الجسد بالحمى "الراجعة"!!..
لكن ثريا لم تتح لي هذه المعايشة أبدا، فظلت كمدينة مفتوحة لكل الغزاة دوني..
كانت تكتفي بتعرية فخذيها أو صدرها، أو تعريتهما معا وتمضي، مخلفة وراءها تلك الضحكة العجيبة، لتحاصرني بدوامات أصداءها، التي لا تزال ترّن في طبلة أذني حتى الآن. رغم انقضاء كل هذه السنوات..
لا أدري لماذا كانت ثريا تعاملني بهذه الطريقة. تصرفاتها كلها كانت تقول برغبتها فيّ!!.. لكنها في الواقع لم ُتقم معي أي علاقة، مثل تلك التي تقيمها مع شباب ورجال المدينة الريفية.. كأنها تقصد استثنائي عن عمد، على الرغم من أن الشائعات، التي تم اطلاقها حولي في جلابي، أكدت أنها على علاقة بي!!.. .
وحرص الزباين على التلميح لي بذلك (أحيانا عندما يستاءون، من أسلوب تعاملي معهم في البيع) أو التصريح مباشرة (عندما أرفض أن أسمح لأحدهم أن يستدين مني، تنفيذا لقرارات أبي الصارمة "الدين ممنوع والزّعل مرفوع").. كانوا يخاطبونني بوقاحة:
-    لو كانت ثريا لكنت دينتها..
.. أو يلمحون:
-    ثريا ما شايفنها اليومين دي.. مشت المدينة تسترزق ولا شنو؟!..
.. فأكظم غيظي ولا أنبث ببنت شفة.
كنت مشدودا الى ثريا بقوة خفية، خارقة لا أملك ازاءها شيئا. فلم أكن أقوى على التحكم في نفسي كلما رأيتها، إذ تتهشم كل القرارات، التي أكون قد أصدرتها سابقا، لتحكم تصرفي لحظة مجيئها.
لم أكن أمنع عنها شيئا تطلبه من الدكان، وكلما زاد امتناعها عني، كلما أصدرت مزيدا من الفرّمانات والصكوك بحق نفسي، وكلما زاد هشيم القرارات والصكوك تحت قدمي ثريا!!..
اذ كانت رغبتي فيها تشتد. حتى أن السبب الأساسي لتسللي لبيت أم التيمان، كان بسبب هذه الرغبة القوية، في استجابة ثريا. كان قبولها لي يعني الكثير، ففكرت في الانتماء الى عالمها، علّه يكون مدخلا لهذا القبول. وتمهيدا لاستجابتها التي كنت أضع الكثير من الخطط في سبيلها. فبسبب ثريا أصبحت مغرما بالتاريخ(قرأت سيرة ابو ليلي المهلهل، قيس، كثير.. الخ) اذ شعرت ان ما بيننا يشبه الحرب بجولاتها وصولاتها.. معاركها العديدة، لذلك خرجت من دائرة التاريخ المدرسي وسّير العشاق وأخذت اقرأ المذكرات التي كتبها قادة أو معارف لهؤلاء القادة فقرأت: نابليون، صلاح نصر، جيفارا، هتلر، مذكرات بابكر بدري، خواطر حسن عابدين وارائه، مذكرات يوسف ميخائيل، كفاح جيل احمد خير، ملامح مجتمع حسن نجيلة، مذكرات خضر حمد، مذكرات عبد الرحمن المهدي، ذكريات ومواقف أمين التوم، مذّكرات جوزيف لاقو، من يجرؤ علي كلام بول فندلي، لعبة أمم مايلز كوبلاند.. . الخ الخ.
رغم صغر سني كنت كالفأر أقرض المعلومات أفهم بعضها وبعضها لا أفهمه، أحاول إعداد نفسي لأم المعارك(المعركة الحاسمة) أضع الخُطة تلو الاخري وفي كل مرة أحذف منها تفصيلات وأضيف أخري، فتسقط الخطة لحظة مجيء ثريا(واصبح مرة اخري بلا خطة) حتي يئست وشعرت ان كل الذين قرأت لهم قد خدعوني، خدعة لا يمكن اتسامح معها. فكرهت التاريخ وقراءة التاريخ. وكان ان سمعت احدهم ينطق بكلمة تاريخ امامي، أشعر بنوع من الغثيان، والحاجة للإستفراغ.. لماذا كانت كل خططي تنهار تحت قدمي ثريا؟ ظل هذا السؤال يحدق بي ويستبد لوقت طويل.
أول مرة أدخل فيها بيت أم التيمان،. كنت غاضبا، فقد رأيت ثريا قبلها بلحظات، تخرج وهي تجرجر ردفيها المثيرين، من بيت أدروب، بتعب لا تخطئه العين. كانت تتلمس بين آن وآخر أسفل مؤخرتها.. كانها تتلمس جرحا، وكان الشارع خاليا. الا منا الأثنين، حيث لم تكن تراني، في نهايته عند أحدى الزوايا. مكثت أراقبها الى أن غابت في الدرب المفضي الى بيتهم. شعرت لحظتها بنوع من الغضب. الذي لم آلفه من قبل، يجتاحني. فقصدت بيت أم التيمان، التي حاولت اخفاء دهشتها فلم تفلح، فسألتني بعد صمت طويل:
 - في شنو؟!..
-    عاوز أشرب..
أمعنت النظر في وجهي طويلا وهي ترمي مزيد الحلبي (الذي كان يجلس وقتها وهو يخرج يده من "جردل" المريسة، الذي شارف على الانتهاء) بنظرة تحذير حاسمة..
-    ما الذي تريد أن تشربه؟!
-    عرقي..
-    أنا لا اعمل العرقي، وأنت صغير على العرقي.
-    مريسة..
فضحكت:
-    المريسة لا تشرب الا في عز النهار.
فأشرت الى مزيد الحلبي، الذي كان قد أتى على كل ما تبقى في "جردل" المريسة الذي أمامه.. فقالت بسرعة:
-    كانت هذه آخر مريسة، لكن لدي" كانجي مورو" مخصوصة وهي شراب الطلبة..
أخذت أتلمظ طعم السمسم والسكر في "الكانجي" وشعرت بخدر لذيذ يسري في عروقي، وأخذت كل التغضنات التي أعترت وجهي تنبسط.. ملامحي تبدأ في الارتخاء.. كانت حدة الألم الذي خلفته ثريا قد بدأت تخف.. ذلك الاحساس الذي دفعني لدخول بيت أم التيمان وشرب الكانجي. ربما ما يشابهه هو ما دفع رياك الى أن يدلي لي بآخر أعترافاته، عندما التقيته في زيارته الآخيرة بهذا البلد، على رأس وفد رسمي رفيع المستوى من وفود حركة الجمهورية الثانية.. ألتقيته مصادفة في غاليري الأوبرا، في جناح النحت والتشكيل الأفريقي. كان واقفا مع أحد التشكيليين التشاديين، الذي كان يحدثه عن احدى اللوحات التي وقفا أمامها.
وضعت يدي على كتفه، أخبرته أنني أتابع التطورات التي تحدث في البلاد الكبيرة، وجلابي ود عربي.. على نحو خاص. وذكرته بنفسي. فأحتضنني وأخبرني، أن حركتهم ستشكل مع حكومة الجنجويدي حكومة وطنية للمرة الأولى في تاريخ البلاد الكبيرة منذ أعلان الجمهورية الأولى في 1956.. اعتذر للفنان التشكيلي ومضى بصحبتي، الى مقهى وادي النيل المطل على التحرير. ما أن جلسنا حتى جاء صديقي الشاعر المصري شعبان ناعوت المعتاد على المجيء الى هنا، في الأمسيات، عرفتهما ببعضهما البعض. تبادلنا قليلا من حديث الذكريات، اعتذر شعبان ومضى.
جاءني صوت رياك عميقا لكنه حيوي ودافيء. كان ليس كمن يجلس في مقهى عام. مطل على أحد شوارع القاهرة الضاجة بالناس والفوضى. والزحام. كان كمن يجلس في بيته عند أطراف حلة جلابي ود عربي. قال رياك:
 - " لم أفد الى جلابي ود عربي وأضع عليها رحالي، في سياق التغيير لمكان كرهته. لم يكن الغرض تجديد المكان وحياتي المرهقة. فجلابي ود عربي البائسة، لم تكن مكانا، أمثل لتجديد الحياة والناس، لكنها كانت مكانا مناسبا لي للاختباء، من عيون الأمن الايجابي والاستخبارات. وزوار الفجر الى آخره من أجهزة الجمهورية الأولى المتربصة. (لذلك تخلصت مثلما فعل أبكر) من شخصيتي الحقيقية، كأحد القادة المكلفين بتوحيد الفصائل العسكرية، والقوى المدنية التي أنقسمت عن حركة وجيش الجمهورية الثانية.. تخلصت من شخصية القائد لاكو لادو، وأنتحلت شخصية أخرى هي شخصية رياك.. الشخص النكرة، بوجهه النحيل وثيابه المتسخة الرّثة، ووجهه الذي يبدو عليه الخمول. رياك الذي لا يشعر بوجوده أحد، ولا يخلّف عبوره أمام الناس أى أثر.. لا يشعرون به، ولا يتذكرونه الا لماما.. وأخترت لنفسي مكانا قصيا في الاطراف النائية من جلابي ود عربي. بعيدا عن بيوتها المتلاصقة، كأنها تخشى جرافات المجلس البلدي. التي تهددها بالزوال في أى لحظة. في هذا المكان شيدت بيتي الفقير. من القش والقنا والحطب وزربته بالشوك،.. شيدت قطيتي (ضهر التور) وجعلت لها بابا متينا. فمن هذه القطية كنت أنطلق في تحركاتي السرّية، تقمصت شخصية رياك، لوقت طويل دون أن يتمكن أحد من اكتشاف حقيقتي. أو ينتبه الى أنني لا زلت موجودا، بقطيتي أم غادرتها الى مكان ما. حتى عندما كنت أغيب لأيام وأسابيع، لم يكن أحد يشعر بغيابي، الى أن حلّ حسّان جداد بالحلة، وتنامت سلطته على نحو غريب. فمنذ اللحظة الاولى شعرت ان كان ثمة خطر يتهددني، فسيكون من هذا الرجل، الملتحي.
كان جداد يتعمد خلق علاقة معي بأي ثمن، ويحرص على إلقاء السلام علىّ وايقافي لتجاذب أطراف الحديث، كلما رآني.. وكنت أسمع صوته أحيانا يناديني من خارج قطيتي، التي أحرص على اغلاقها عليّ. ولا أرد عليه فييأس الرجل ويمضي معتقدا، أنني غير موجود، أو معتقدا أنني موجود ولا أرغب في ادخاله. ربما كان الرجل، يرغب في توليف قلبي الى دينه. وربما يكون له هدف آخر. وفي كل الأحوال كنت، حذرا. تجاهه.
لم يكن يسكن جواري أحد. الى أن فوجئت ذات يوم بأدروب، ينقل قطيته من الطرف الآخر من جلابي ود عربي الى جواري. ولمعرفتي المسبقة بكل شبكة العلاقات داخل جلابي، أدركت ان خلف هذا الأمر ما خلفه، فأدروب من القلائل المقربين الى جداد. وهكذا تصورت أن جداد دفعه الى تغيير مكان سكنه لمراقبتي، والا لما ترك أدروب كل الفضاءات الواسعة في جلابي، ليزاحمني بالجوار. لم يزعجني الأمر كثيرا، فقد علمتني تجربة الصراع المسلح، أن العدو الذي أمام عينيك وتعرفه، خير لك من عدو مجهول لا تعرفه.
فكرت كثيرا في التخطيط لأمر، يشعل غرابة أطوار هذه الحلة، الى أقصى مدياتها ضد حسّان جداد.
وكنت قادرا على ذلك. فقد كنت أعرف عنه الكثير. ابتداء من طرد والده له من البيت، بسبب مثليته مع المراهقين، ما دفعه لترك المدينة الريفية، وهو لا يزال شابا بعد، الى الوسط حيث أنقطعت أخباره، ثم الأطراف الغربية للبلاد الكبيرة، التي أصبحت أخباره فيها مجهولة تماما. وعودته مرة أخرى للظهور على نحو مفاجيء، في حلّة جلابي ودعربي. بعد سنوات طويلة من أزمته مع والده. الذي كان قد توفي مخلفا وراءه أسرة، مفككة مكوّنة من ست بنات، فالولد الوحيد حسّان كان بصلة معفنّة، على الرغم من استئصالها، ما تبقى منها عفّن بقية البصل!! الأمر الذي حاولت ازاءه شقيقته سلمى أن تنجو بنفسها، فأغتربت. علمت كل ذلك من مكتب معلوماتنا، الذي أضاف أن حسان جداد، كان أحد العناصر الثانوية في الحركة العسكرية بغرب البلاد. والتي تم تدميرها تدميرا تاما بسبب وشايته.
فكرت كثيرا في مجابهة شيخ جداد (كنت أفلت من مراقبته لي بسهولة) لكنني تراجعت لإدراكي، أن المواجهة ستتطور، وقد تصل الى حد تصعب السيطرة عليه، فتؤدي الى الكشف عن حقيقة هوّيتي، خاصة أنني كنت مشغولا بأمور أكثر أهمية، فقد أنقسمت حركتنا الى ما يزيد عن الثلاثين فصيلا عسكريا. ، وما يربو على الخمسة فصائل مدنية، وأصبح طلابها في الجامعات متنازعين الولاء، ما جعل نشاطهم وفعاليتهم تتضائل.
 كنت مشغولا بهذه الانقسامات التي سببتها أختراقات حكومة الجنجويدي ونزعات البعض المحدودة، بسبب ضيق الأفق والرغبة في الزعامة، والتي ترتب عليها أن نجحت حكومة الجمهورية الأولى في التوقيع على أتفاقات مع عدد من الفصائل، بمعزل عن الحركة الأساسية وجيشها. أطلقت عليها أتفاقات "سلام من الداخل " وكوّنت من هؤلاء وأولئك المنقسمين الذين وقعوا معها على اتفاق مجلسا تنسيقيا. ورمت اليهم بعض فتات السلطة التي ما لبثت أن انتزعتها منهم. وكان دورنا الذي كلفنا به شاقا ومعقدا، فقد كنا نرغب في إعادة هؤلاء الى صفوفنا وتوحيد جهودنا، وفي ذات الوقت كنا نخشى أن يكرروا فعلتهم، على نحو ما اذا نجحنا وأعدناهم الى الصفوف مرة أخرى. وكنت مهموما " بلملمة " ما تبقى من أطرافنا.
في هذا التوقيت بالذات (من الهموم الكبيرة) أعلن حسان جداد حملته الانتقامية ضدي، فقد تسرّبت اليه معلومات خاطئة (لا أدري من أين جاء بها – ربما تكون من بنات تجلياته في لحظة من لحظات الارتعاش المثلي النادرة).. مفاد ما جادت به بنات أفكاره أنني بصدد التمهيد لجماعات التبشير المسيحي، حتى يتمكنوا من "تنصير" أهالي جلابي ود عربي!! وهو أمر بدا لي غريبا، ففي واقع الأمر لست من المهمومين بشئون العقائد والديانات، فبطبيعتي كعلماني، أتصوّر أن تلك هموم رجال الدين.
كان بامكاني القيام بهجمة مرتدة، وفضح التاريخ السري لجداد، والذي بعضه موثق بالمكاتبات والصّور التي لا أدري كيف حصل عليها مكتب معلوماتنا. والتي أستوقفني فيها، ما بدا واضحا من ارتباط لجداد بجماعات دينية وطائفية مختلفة ومتناقضة. واذا تم ترتيب هذه المعلومات في السياق الصحيح، نستطيع أن نستنتج أن جداد عنصر اختراق للقوى الدينية المختلفة، التي لا اتفاق بينها حول الاسلام الا على أركانه الخمسة!! باستثناء ذلك يختلفون في كل شيء!!..
تأملت الصّور التي ألتقطت له في أوضاع حرجة، مع أمثاله وهم عراة، وأكتشفت في أوضاع الممارسة التي بدا واضحا أنه انتقاها بعناية، امتلاكه حسا فانتازويا وميلا للتجديد والأبداع.. ورغم رغبتي في احراق هذه الصّور، الا أن هذا الحس الفانتازوي الجمالي، استوقفني وجعلني أدرك أكثر جوهر المشروع " الحضاري" الذي طرحه العرافين!!.. ركنت في نهاية الأمر الى اعادتها كلها (الصور والمكاتبات)الى مكتب المعلومات مع توصية للاحتفاظ بها، وارسال نسخ منها الى المعارض الفنية الدولية، التي تهتم بهذا النوع من الخلق والابداع، في حملاتها الدعائية، المضادة لسياسات الجمهورية الاولى..
بالطبع لم أستخدم أي معلومة مما اعرف ضد جداد. لادراكي بأن هذه انما معركة جانبية يمكن تأجيلها (كما تصورت وقتها أن أي معلومة من هذه المعلومات، قد تقود الى مصدرها الأساسي - أنا) وآخر ما كنت أفكر فيه هو معركة تكشفني!!.. فذاك ما لم أكن بحاجة اليه على الاطلاق.
تلاشى صوت رياك في الفراغ، وأنا أسترد ذاكرتي لأعبر بها الى حيث لا أدري، فقد تداخلت الحقائق مع الأوهام والأحلام والإنتقالات المتكررة من مكان الى آخر بمجرد أن اسلم نفسي لسلطان النّوم ، فبت لا أعرف بالضبط هؤلاء الذين يقفزون الى ذاكرتي ليلهون فيها ويمارسون حياتهم، ويدلون باعترافاتهم ويحكون عن جرائرهم الصغيرة وجرائمهم الكبيرة. هكذا دون أن يطرقوا باب الذاكرة أو يستأذنوا..
يقفز كرتون. تقفز السرة. وأقف أنا بينهما أحدق في هذا السقط من الأفكار المتراكمة على عتبات الذاكرة. وهي تتشكل لحما ودما، يصرخ ويبكي ويضحك ويأسى ويلتاع.. وبين بين أحاول تفهم هذه الخواطر الجياشة، فأقول لكرتون:
 - ما الذي رمى بك الى جلابي ود عربي؟!..
فيحدق في قلب عيني، يقلب بصره داخل الجفن فأشعر بحرقان في المقل، ألمسها، أنتزع رموشا دخلت خفية، أبعد الرموش المتساقطة، وأمسح العين المحمرّة، فيتنهد كرتون ثم يأتي صوته عميقا كالليل البهيم:
 - ربما تدهش، اذا أخبرتك أنني فعلا لم تربطني بالسرّة علاقة كالتي تصّورها البعض، حتى والدك.. .
واقع الأمر كنت كعابر سبيل، أو ضيف (موجود ولست موجود) بمعنى لست جزء من حياتها الخاصة كما أشيع.. ربما لا تصدق أن كفي لم تلامس كفها سوى مرات معدودات، وحتى في هذه المرات لم تكن ثمة رغبة أو شعور بالخصوصية.. كانت مرات خالية الا من الأحاسيس العامة التي يصافح بها أي شخص، شخص آخر يلتقيه في مكان عام.. " كل ما بيني وبين السرة، عادي تماما وعاما، بدأ لحظة جئتها ذات ظهيرة حارقة، وسألتها السكنى معها. فنظرت اليّ مليا، وهزّت رأسها دون تردد.. هكذا تم ّ الأمر. وافقت في صمت فنشأ كل ما بيننا في الصمت، وافقت دون قيد أو شرط. كما أنني كنت سأسحب سؤالي لها اذا أشترطت على أي نوع من الشروط، أو أبدت رغبة ما على سبيل الضغط عليّ..
ربما لا تصدق أن ما أقوله لك الآن هو بالضبط ما كان بيننا، لكن يجب أن تصدق، لأن تلك هي الحقيقة الوحيدة في الحياة الزائفة للسرة بنت عرجون، التي حتى يوم غادرت جلابي ود عربي، لم أرَ غرفة نومها ولم تنتابني أي من الرغبات الحميمة تجاهها..
كان بامكاني بناء بيت لي في أي من الفضاءات الواسعة لجلابي، مثل الآخرين.. أسكن فيه وحدي دون قلق ثريا وخميس، دون الرغبات المدفونة والمعلنة للسرة بنت عرجون. ، دون أن أضطر لرؤيتها أو رؤية ابنتها في أي من المواقف المحرجة العديدة التي رأيتهما عليها، مع آخرين من رواد بيتها..
كان بامكاني أن أمضي للسكنّى وحدي. لكنني لم أفعل. فقد خشيت الوحدة طيلة حياتي. تلك هي مشكلتي التي جعلتني أهجر بيتنا الكبير في المدينة الريفية، وأهجر أشقائي وشقيقاتي..
- ما الذي تعرفه عن الوحدة؟!.. ربما لا تزال صغيرا على هذا الشعور..
-    لقد قرأت كثيرا من الكتب.
-    همم
-    أعرف دور الشعور بالوحدة في تأسيس التنظيمات وحدوث الانقلابات وقيام الثورات.. أن تضع نفسك في قلب الحدث(لتهزم الوحدة) ينبغي ان تجد لنفسك دورا وسط الناس ذاك هو النقيض للوحدة، ما تفضي اليه الوحدة
ابتسم كرتون ابتسامة بلهاء:
-    ربما فسرت ما قرأته خطأ..
- همم.. .
- الوحدة قاتلة، تعوق تطور الانسان. تعوقه من أن يفعل أي شيء. كيف تستطيع أن تخرج الحياة من العزلة؟؟!!.. مستحيل!!.. "..
ربما كانت وجهة نظر كرتون صحيحة. لكن وجهة نظري ليست خطأ. ففكرة الكون خرجت نتيجة الاحساس بالعزلة والوحدة والفراغ.. هذه الأقانيم التي تدفع الى التأمل فالتجلي.
قطع كرتون همس خواطري، فنظرت اليه في تردد..
- الشعور بالوحدة قاس ومعذب، كنقحان الصديد في الجرح القديم، قد تصل الى درجة استعذاب أكلانه، وتلك هي النهاية لحياتك.. كانسان يحب الناس والحياة ويرغب في أن يحبه هؤلاء الناس وهذه الحياة. فكل ما يريده هو أن يكون جزء منهما.. وينال التقدير والاحترام. ربما تفكر أن وجود الانسان بين أشقائه لا يستقيم وشعوره بالوحدة، وهو أمر غير صحيح. فقد كنت موجودا بينهم ومع ذلك ظلت أشعر بوحدة كاملة..
ينهضون في الصباح. يعد كل واحد منهم الشاي لنفسه.. يشربه أثناء أستعداده للمغادرة الى العمل. نادرا ما يجتمعون حول مائدة واحدة. فكل من يشعر بالجوع يمضي لاعداد الطعام لنفسه. وفي الأوقات النادرة التي يجتمعون فيها يركزون الحديث على مثالب بعضهم البعض. يضخمون هذه المثالب، فيتحول الأمر كالعادة الى معركة كلامية، ربما تفلت أحيانا لتدخل فيها الأيدي.. تفرغ الأخوات عذابات أنوثتهن المؤرشفة في متحف العنوسة. ويفرغ الاخوان أحباطاتهم وفشلهم في أقامة حياة أسرية تخصهم.. بصوت متوحد كانوا يكرهون بعضهم، يتبادلون هذه الكراهية. يحملون فشلهم لبعضهم البعض.. هل كانت حياتي مع السرة على علاتها هكذا.. وجدت في السرة التسامح الذي أفتقدته، فسامحتها بقدر ما سامحتني، هي الغريبة عني.. بينما فشل أخوتي في التسامح مع بعضهم.. فمن أختار؟؟!!.. "..
-    لقد أخترت..
-    ربما..
.. في نهاية كل شهر يأخذ كل منا نصيبه الشهري من الإرث الجاري (إيجارات عقارات) هذه هي الحياة التي كنت أعيشها لسنوات عديدة. حاولت أن أجد أسرة في العمل، شغلت نفسي بالعمل. جرّبت كل المهن الحرفية، حتى اصبحت خبيرا في الحدادة والسمكرّة، والتبريد والتكييف والميكانيكا والبوهية، وكل ما يتصل بالعربات.. لكنني لم أجد نفسي في أي شيء من كل هذا. الى أن وجدت السرة ووجدت فيها ما ظللت أفتقده.. منذ أول يوم دخلت فيه بيتها، وقابلتني بدفء وترحاب آسرين.. شعرت باهتمامها بي.. بمحبتها وقدرتها على الغفران، ورغبتها هي نفسها في الغفران (كانت تأتي لتبكي على صدري إثر كل خطيئة).. فكانت رغبتي في أن أمضي ما تبقى من حياتي في هذا الصفح. هذا الدفء: السرة.. تزداد..
خلعت بصري من صوت كرتون، لأزرع ذاكرتي في ذاكرته، لأرى السرة بنت عرجون الأربعينية الجميلة، التي لم تنجح السنوات والإنجاب في هدم قامتها الممشوقة..
تتماهى ذاكرتي في ذاكرة كرتون، أسأل عنه السرة، فتحدثني عن متاهته وطيبة قلبه، والحنان الذي يملأ جوانحه ليفيض، ويغطي كل فضاءات جلابي، التي تصبح لحظتها بلدة وديعة حاضرة هنا، غائبة هناك.. بين الضلالة والهدى.. يغطيها كرتون بقلبه الوارف المخضر.. يغطي شوارعها العطنة وأزقتها الضيقة وكلابها التي أخذت من طبع أهاليها.. كلابها التي لا تهدأ أو " تنهد".. وناسها " العُزّاز" في نظر أنفسهم.. وحيواتها السرّية التي تنهض في العلن، ومغامراتها مع عربات "الكشّة" ورجال المباحث ومجرمي المدن النائية، الذين ما أن يحلون بجلابي، حتى يشعر الجميع باقتراب كارثة..
تخبرني السرة:
 - كرتون ذهب الى السوق الكبير. ليحضر لي بعض أغراض الشغل. لا أدري من دونه كيف كنت سأعمل، أو أعيش..
-    ستعيشين كما كنت تعيشين دوما..
-    هممم..
كنت واثقا أنها من دونه كانت حياتها ستستمر، لن تنتهي بها السبل لمجرد كونه ليس موجودا وليس جزء من حياتها..
حدثتني عن مساعداته لها ووقوفه الى جانبها في سراءها وضرائها. وخاصة عندما تتعرض لكشة أو تسجن لأيام..
الغريب في كرتون: كأنه يمتلك قرون استشعار، فدائما تحدث مداهمة النظام العام لبيت السّرة في غيابه. لم يحدث أن تم القبض عليه أو سجن!!.. وكان هذا الأمر بالنسبة لأهالي جلابي بمثابة الكرامة من كرامات كرتون..
تتنهد السرة:
 - أنه أكثر من والد لخميس وثريا..
كانت السرة في غرارة نفسها تحب كرتون، مثلما كان يحبها في قرارة نفسه، ذلك النّوع الغريب من الحب نادر الوجود.. فالأمر ليس مجرد دفء او كرم فياض، وقدرة مدهشة على العطف والحنان، كما كانا يعتقدان، بسبب تهيب السرة الدائم منه (هذا التهيب الذي جعلها لا تجرؤ على مصارحته، وجعله لا يستطيع التصريح بهذا الحب) السرة على عكس كرتون، كانت لديها قدرة فذة على ادراك طبيعة مشاعرها تجاهه، منذ أول يوم دخل فيه بيتها، لكنها أدركت لسبب ما، أنها لا تستطيع الحصول عليه (حبها له هو ما دفعها لرفض عرض حسان جداد، كما كان يطيب لها أن تزعم لأم التيمان وست البنات، لكن في أعماقها كانت تدرك أن جداد يريد الزواج منها، حتى يتمكن من اقامة علاقة آمنة مع ثريا. هكذا شعرت من نظراته. التي كانت تأكل جسد ابنتها أكلا. ومع أنها كانت لا تمانع إقامة ثريا لعلاقات، إلا أنها ما كانت لترتاح لهذه العلاقة بالتحديد. ولذلك عندما يخطر على ذهنها هذا الخاطر، تزعر في دخيلتها وتهمس:
-    سجم خشمي. البنت وأمها!؟!..
 كرتون نفسه ربما لأسباب اضافية أخرى، خفية ذات صلة بالوضع الاجتماعي لأسرته، وعناصر نشأته البعيدة.. ربما.. كان يدرك مثلما أدركت السرة، أنهما أصبحا بالنسبة لبعضهما كحبيبين أو زوجين، كالأمنيات، التي ربما لا تتحقق حتى في الحياة الآخرة. كما أن السرة بحكم تجاربها السابقة أستطاعت التكيف مع هذا الوضع. فهي ليست بكرا، ككرتون الذي لم يحدث أن أقام علاقة مع امرأة قط، في أي مرحلة من مراحل حياته!!.. والسرة في واقع الأمر لم تحط رحالها في جلابي لأنها هاربة لأمر ما. فكل ما في الأمر أنها مرت بحياة قاسية وتجارب صعبة. اذ نهضت حياتها في اليتم بمراراته، وأحزانه وأساه فقد فقدت والديها في سن مبكرة، دون المراهقة، فأضطرت للعمل كخادمة في البيوت. حيث تخدم وتأوي، وأحيانا تجد نفسها مشردّة، لا تعرف الى اين تأوي. وما أن بلغت سن المراهقة حتى مضت الى المدينة المجاورة، وأنتقلت من ممارسة الجنس مع مخدميها الى ممارسته على نحو احترافي. فعرفت تلك البيوت الواطئة في أطراف المدن، ومضت تعمل بلا هوادة، الى أن أصابها داء الترحال، فأخذت لا تقوى على المكوث في مكان واحد لوقت طويل.
المكان الوحيد الذي أستقرت فيه لفترة طويلة هو جلابي. حيث أنجبت أبنيها خميس وثريا، ففارقتها ثريا مبكرا بسبب الاصابة بالسل.
كانت علاقة السرة بست البنات العشمانة من العلاقات المميزة والمريبة في آن، فالرباط العميق الذي جمع بينهما، يسم العلاقة بالتميز. لكن الشائعات التي أنطلقت لتوصيف هذا الرباط، كانت تبعث على الإرتياب والدهشة. فقد عرف عن ست البنات العشمانة دونا عن كل نساء جلابي، ومنذ وقت مبكر أنها سحاقية، حتى أن بعض الخبثاء كانوا يصيحون خلفها، عندما يرونها في الشارع:
-    الضكريّة.. الضكريّة..
فكانت تلتفت اليهم وهي تطلق سيلا من الشتائم والسباب المقذع. والى أن غادرت السرّة دنيا ست البنات، الى آخرتها الغامضة، تسبقها ابنتها ثريا بقليل. لم يعرف أحد سر علاقتهما المميزة أبدا..
في ذلك اليوم الذي فاجأت فيه ابي مع السرة، أدركت تماما حقيقة ما أكده حسن. فقد كنت حقا كالأعمى، الجميع يعرفون علاقة أبي بالسرة، الا أنا، فقد كنت وقتها مأخوذا برصد وترصد علاقة كرتون بها..
في ذلك اليوم أصبت بما يشبه الصدمة، التي لا أدري: " لماذا؟!".. فقد كنت شخصيا أتمنى ابنتها، فما المشكلة عندما تمنى أبي الأم؟؟!!.. هذا ما كان يشكل محورا للنزاع في داخلي لوقت طويل.. في محاولة لايجاد تفسير لما شعرت به من صدمة لحظتها..
عندما قصدت منزل أم التيمان بعد رؤيتي لثريا تخرج من بيت أدروب وهي تتحسس أسفل مؤخرتها، شعرت بشعور مماثل لذات ذلك الشعور بالصدمة، وأنا أرى أبي باركا كجمل مهتاج على أمها المستلقية!!.. وجدت عند أم التيمان مزيد الحلبي (الحداد) نظر اليّ وكأنه يهم بقول شيء، لكن نظرات أم التيمان الحاسمة أسكتته.
ومنذ أول لحظة نشأت بيني وأم التيمان علاقة ناعمة، ليس لها اسم واضح، أو محدد..
علاقة لطيفة تختلف عن تلك العلاقة التي نشأت بعد ذلك بيني وست البنات.. تلك العلاقة المباغتة الملتهبة، الغارقة في الدموع والشجن، الذي جعلني أتعرف على عوالم لم تخطر لي على بال من قبل، واستدعت اليّ عوالم من الزمن القادم في حياتي، فظللت مدينا لها بالتأمل والتفكير لوقت طويل.
كانت ست البنات العشمانة من أجمل نساء الأرض، وأكثرهن مودّة وحميمية وعذوبة ودفء (وكنت صفر التجارب) فبدأت الخطو معها من لحظة الصفر. ولم تخيب ظني في التعرف على هذا العالم الموسوّس، المجنون. فشملتني برعاية خاصة (عرفت منها كيف أقبل أنثى وأعانقها و.. وأستمتع – أفعل تلك الأشياء التي لا تقال.. ) عبأتني بالمتعة والحميمية الفائقة والدفء، وعلمتني من أسرار النساء الكثير. وقبل كل ذلك جعلتني أكتشف كيف أجنّ بها!!.. عندما أدركت ما كان ينقصني من معرفة من ست البنات، أخرجت لساني لكل كتب التاريخ التي قرأتها، وبعد أول تجربة في الليلة ذاتها، مضيت أجمع كل كتب التاريخ والمذكرات من أنحاء بيتنا المختلفة، كوّمتها أمام الباب الخارجي (أمام الباب تحديدا – ينبغي الا يدخل التاريخ بيتنا) أشعلت فيها النار، وأنتظرتها الى أن تحولت الى رماد، فبُلت عليها بولا غزيراً.. وشعرت بأن عبئا كبيرا كان يثقل على كاهلي قد إانزاح.. فشعرت بغبطة وحبور لا يحلان الا على رجل سعيد.. .
صارت ست البنات العشمانة محور عالمي، أفكر فيها في كل لحظة.. أفكر فيها وأنا أذاكر، أو انجز الواجب المدرسي، معالجا الأمور الكريهة الى نفسي مثل النحو والصرف والرياضيات والكيمياء والفيزياء، الى آخر هذه الاشياء العجيبة..
كانت أم التيمان تجيئني على اهداب هاء السكت، متكئة على كسر همزة إن، فتتكسر كل الأساطير التي تعيد بناء نفسها داخلي قبل كل لقاء.. تخرج اليّ باستداراتها من نظرية الدائرة، فلا أرى نفسى الا خطا مستقيما يسقط على نقطة الاصل.. من نظرية لامي تجيء، من الكوانتم، كيمياء الحلول، تنعش كل عناصر الكوّن الخاملة داخلي، فأحلق معها، فوق قوانين الجاذبية، فوق طبيعة البشر، فوق كل شيء: ككوّن قائم بذاته بقوانينه الخاصة، التي لم يتوصل اليها العلماء ولن يتوصلوا أبدا.. أم التيمان.. أم التيمان.. هذه امرأة التعرف اليها يمّلك معرفة واسعة بالشأن الأزلي لقصة الكون: الذكر / الأنثى – الجنس.. الأمر الذي يهجس كل العلوم، دون أن تنفك هواجسها أثر كل أكتشاف لسر جديد من أسراره، التي(للمفارقة معلنة) تضرب بجذورها في قلب التاريخ والطبيعة..
علمتني أم التيمان أن الاستمتاع بالحياة، يعتمد على قدرتنا على أنتهاك القوانين (الى أي مدى نستطيع فعل ذلك دون أن نشعر بالخوّف) فقد كانت امرأة من طراز خاص: امرأة لا تخاف. كانت تعتقد أن المصابين بأمراض نفسية وأخلاقية مستعصية، هم وحدهم الذين يشعرّون بالخوف (آه يا علي ربما بسبب شجاعتي أعاني ندرة الأحلام) وحدهم الذين لا يجرؤن على أنتهاك القوانين، عكس الذين يدركون جوهر الحياة فينفذون رغباتهم دون أن يترددوا محاصرين في ُحلم الرغبة في تحقيق هذه الأحلام..
ووفقا لأفكارها عن الحياة، كنت مصنفا تلقائيا، ضمن المصابين بامراض نفسية وأخلاقية مستعصية.. اذ لم أكن ميالا لانتهاك القوانين، كما أنني دائم الخوف من أن يتم أكتشاف علاقتي بها (بأن يتسرب أمر علاقتي بها الى أبي أو أي من افراد أسرتي) ولا أظنني في ذلك الوقت خرقت قانونا، سوى بعلاقتي معها (حسبما أذكر في هذه اللحظة فقط)..
طريقة تفكير ست البنات العشمانة كانت تعجبني، وربما أسهمت هذه الطريقة في تعلقي بها لوقت طويل. كنت أغضب اذا تحدث عنها أحد بصورة غير لائقة، لكن لا أجرؤ على التعبير عن هذا الغضب. وأكثر ما كان يغضبني الإصرار على كونها سحاقية (فأنا أعرفها أكثر من أي شخص آخر) مع أنني لا أستطيع الجزم، نظرا لغرابة اطوارها، وتقلبات أحوالها..
أهالي جلابي ود عربي رغم حياتهم المديدة في هذه البلدة. ثمة أمور ليست لديهم معرفة كافية بها. فمثلا: كنت أعرف أن سلمى خير اللّه هي الشقيقة الصغرى لحسان جداد (وليست مجرد قريبته التي تسكن المدينة الريفية) لكن لا أحد يعرف هذه المعلومة سواي (اذ سربتها لي في لحظة ضعف أنثوي سلمى ذاتها بشحمها ولحمها) ربما بقصد ايذاءها لشقيقها جداد (لكنها حرصت مع ذلك أن يبقى الأمر خاصاً، كسر بيننا فلا يعرفه أحد غيري).. كان ذلك وأنا في طريقي الى الدكان قادما من البيت، عندما رأيتها تقف في قلب الشارع المفضي الى الدكان مع جداد. كانا يتشاجران. وما أن أقتربت منهما حتى ران عليهما صمت أحرجني وأربكني، ثم مضى جداد لا يلوي على شيء. اقتربت مني ومضينا معا باتجاه دكان أبي. لم أسألها. كانت تبكي وتتحدث من خلال نشيجها:
 - لا تخبر أحد بما رأيت.
-    أؤكد لك أنني لن أخبر أحدا..
-    هممم..
-    لم أرَ أو أسمع شيئا..
هيمنت بدموعها على وجهي:
- جربيني..
-    أنه أخي.. شقيقي..
-    من؟!
-    حسان خير الله. لا أريد فضحه أو أذيته.
-    اذن لماذا تحضرين الى هنا؟!..
فصمتت ولم ألح عليها. كنا قد وصلنا الى أعتاب الدكان..
حاشية غير مكتملة: وثيقة 10
(*)
في الشتاء تصاب جلابي ود عربي بهاء السكت، أذ يخيم الصمت الزائف على كل شيء، فلا تعد تسمع سوى زفيف ريح الشتاء الباردة، وهي تحتك بقش البيوت. أو تتسلل شقوق البيوت الطين.
في الشتاء بقدر ما يعم الصمت الأزقة والدروب العطنة والبيوت الواطئة، الفائحة بروائح سبخة، الا أن دواخل الناس في جلابي، تلتهب وتصطرع فيها الحرق، بصورة مميزة عن أشهر الصيف الغائظة.
عندما يحل الشتاء على جلابي، تتدهور أسعار المريسة، وتصبح الفداديات (صاحبات الأنادي) على شفا الأفلاس، لولا رواج العرقي الذي بالكاد يسمح لتجارة الخمر البلدي بالاستمرار ويحفظها من الانقراض.
ولذلك منذ وقت مبكر قبل حلول الشتاء، تبدأ " الفداديات" في حفظ أواني " المريسة" (غير المرغوبة في هذا الفصل) ويخرجن أواني صناعة "العرقي" (التي كنّ قد خبئنها منذ نهاية الشتاء الماضي (هذا اذا كانت الفدادية متخصصة في نوع واحد من الخمر حسب الفصول – ولكن هناك نوع آخر من "الفداديات" في الصيف اذ الى جانب اهتمامهن بصناعة المريسة، يصنعن العرقي – وهؤلاء كنّ من ذوات الثقافة الاقتصادية الرفيعة، التي تعتمد التنويع الانتاجي، فتمضي بعضهن الى اضافة صنف آخر مثل "الكانجي مورو " أو غيره من الخمور البلدية اللطيفة) لكن الفداديات بصورة عامة تزدهر صناعتهن الأساسية "المريسة " صيفا واذا كنّ لسنّ من رواد التنويع في الأصناف يتجهن شتاء الى تجارة الجنس، التي تجد في هذا الوقت من العام ازدهارا، يفوق كل ازدهاراتها في الفصول الأخرى، وهكذا تشهد جلابي في الشتاء، ابتداء من الظهيرة حركة دؤوبة، لعاهرات ومثليين المدينة الريفية والمدن المجاورة باتجاهها.
فتيات أشكال وألوان (من كل الأعمار والتوصيفات: عزباوات، متزوجات، هاويات، محترفات، مدفوعات جميعن بالحاجة التي يفرضها البرد للدفء، وربما للمال، الخ.. )..
لم يكن اللواط والسحاق والسلوك المثلي بعامة، ضمن الثقافة الجنسية التجارية لجلابي، ففي بدايات نشأة هذه الحلّة، كان يتم النظر للوطي ككائن غريب، وافد من عالم آخر، غير عالم جلابي الذي لم يكن بعد جزء من حركة انتقال المعلومات، ولكن منذ حلّ حسّان جداد وأدروب وست البنات العشمانة، أصبحت مفردات مثل خوّل ولوطي أو لوطية من المفردات المألوفة والشائعة والمعترف بها على نحو غير رسمي في القاموس الشعبي لجلابي، والذي حوى الى جانب ذلك غرائب مفردات اللغة العربية ولغات البلاد الكبيرة الأخرى في هذا الحقل الهام من حقول المعرفة الانسانية، التي تهتم بأكثر الجوانب سرية في الذات الفردية (أشار حسن الى أن الوثائق التي كتبت المخطوطة السرية على هداها، أشارت أن مملكة ساورا التي كانت بهذا الموقع – جلابي- أكدت وجود ممارسات مثلية، حسبما فهم الأثاريون، بعد تفكيكّهم للغة الاشارية والرمزية التي وجدت على جدران ما أسموه ب"حانة أتني" الكبيرة. لكن اشارات ورسوم أخرى في المدينة الأثرية المكتشفة، تعود الى عهد ساورا الاسلامية، أي مرحلة متأخرة من تاريخ ساور، نفت ذلك على اطلاقه اذ حصرت النشاط المثلي بين النساء فحسب!!)..
في هذا الفصل من السنة تشهد جلابي، توافد اللوايطة والسحاقيات من كافة الأعمار والأشكال والألوان، يجيئون بثيابهم الزاهية، التي لا تعكس روح هذا الفصل الكئيب.
كما يشهد هذا الفصل توافد الموظفين والعمال بصورة أكثر انتظاما (رغبة في الجنس والعرقي)..
 اذن في الشتاء من دون كل الفصول، تتراكم الأجساد على "عناقريب" وسراير جلابي، فهذه الحلّة هي وطن في العراء، تتناهشه الريح الباردة من كل جانب، حتى يتأصل فيه الحزن (الذي هو أكثر أبدية من بين كل المشاعر، كما أشارت كشوفات المدينة الأثرية). وفي هذا البرد القاس يلتمس الجميع الدفء، في بعضهم البعض. فتتلاصق الأجساد كتلاصق بيوت جلابي المهترئة.
في الصيف من كل عام تتجرد جلابي من آثار شتائها، فتنداح الحياة على نحو مختلف، فالبيوت التي كان يسكنها الصمت أبتداء من العاشرة مساء، تضج بحركة النّاس في الظهيرة، حيث يبدأ يوم جلابي الصّيفي منذ الصباح الباكر، على عكس الشتاء اذ يبدأ اليوم بعد منتصف النهار، فالناس يصحون كسالى بسبب البرد الذي " دشدش" عظامهم. وفي الصيف على عكس الشتاء كل أهل جلابي بلا استثناء وينامون عند الفجر. وما أن تشرق الشمس حتى يتوافد عشاق المريسة والكانجي والعسلية، الذين لا يرحلون الا في المساء، مفسحين المكان لرواد العرقي.
ثمة تجارة لم تكن ضمن النشاط الاستثماري، في الثقافة الاقتصادية لجلابي. هي تجارة البنقو والحشيش، اذ بدت هذه التجارة ترسخ أقدامها بعد المجاهدات والنضالات الفذّة لمزيد الحلبي وكسبان الضّاوي. ففي البدء وجدا كثيرا من العوائق بسبب الاعتقاد الشائع في جلابي، بحرمة الحشيش والبنقو والسجاير الاحمر(العادي ده) دونا عن سائر الخمور والأدخنة. ولكن بعد النشاط التنويري المكثف لمزيد الحلبي وكسبان. أقتنع أهالي جلابي(باستثناء جداد وبعض الذين يوالونه من التجار) أنه لا توجد آية واحدة حرّمت الحشيش والبنقو، على عكس العرقي والمريسة (مع أنهم كانوا لا يحفظون سوى قل هو اللّه أحد!!). هذه "الفتوى" هدأت بال الناس قليلا!! كما أن كسبان ومزيد أعطيا مسألة الاتجار بالبنقو والحشيش بعدا وطنيا ثوريا في غمرة حماستهما ضد المخدرات "الاسرائيلية " التي تدخل الى جلابي عن طريق الغرب محملة على اللواري القادمة من " نيجيريا".
فكان ضمن أجندة ندواتهم التي جعلا شعارها " مقاطعة المخدرات الاسرائيلية وضرب عملاء أسرائيل في المنطقة: واجب وطني ". كانا يفردان مساحة واسعة للحديث عن أنواع المخدرات في البلاد الكبيرة. فيتحدثان الى الحضور، عن سلسلة نسب البنقو الغرباوي منذ أكتشفه الراعي "بانغنيتو" في شمال أفريقيا أثناء تجواله بغنمه في سهول أطلس!!والبنقو والحشيش الشرقاوي الذي يضرب بجذوره في تلك الحديقة التي تعود لثمانية آلاف سنة، في الحبشة (أكدوا أن نجاشي الحبشة قبل أعطاءه حق اللجوء للعرب الهاربين من القمع والانتهاكات الواسعة لحقوق الانسان في مكة كان "يصطبح" كل صباح على سيجارة عظيمة على غرار أسلافه، ومن هذه السيجارة بالتحديد(والتي كان يعدها له خصيه الأول من نبات البنقو في حديقته القصر المقدسة) تحدر نسب البنقو الشرقاوي العريق جيلا اثر جيل.
لكن كل هذه الأنواع لاتضاهي البنقو الجنوبي، الذي يعود تاريخه الى ممالك الزولو والبانتيو اللتين نشطتا في تصديره الى السونغي ومالي، وهذا النوع من البنقو لتميزه أطلق عليه أهل جلابي (مسكين أنا، وقلبي أنجرح- على التوالي) وفي لحظات تجلياتهم يتندرون حوله بأنه الكافر المتمرد الحبيب (هذا غير التعابير الأخرى مثل: الفيل والطراوة والنكهة والتونسية وقطار عجيب وعجوبة، الخ.. ) وتقول الأسطورة أن البنقو الجنوبي هو نبات مقدس، كان الاله لانجور يداوي به جرحى الحروب، ويشفي به الأكمه والأبرص بعد أن يغمسه في دم غزالة بكر بنت بكر (أي أنها البكر وأن ابويها أيضا بكرين على رأس قائمة أشقائهم)..
وبسبب هذه الأسطورة أعتقد أهالي جلابي (البعض منهم على الأقل) أن هذه النبتة المباركة تحرس البيت من الأرواح الشريرة، اذا تم تعليقها بطريقة معينة، بحيث تتدلى من سقف البيت، ولكن هذا الأعتقاد يدخلهم في معضلة عظيمة، مع مكافحة المخدرات بحيث يتمزقون، بين القانون الرسمي واعتقاداتهم الموروثة المقدسة!!..
وهكذا تعتبر هذه الندوات التي تصدى بها كسبان ومزيد للحملات المضادة من جداد، محطة هامة في ابتداع فكرة المهرجانات والمواسم الثقافية بجلابي، كما أنها شكلت منعطفا في مسيرة إغناء القاموس التعبيري الرسمي لجلابي.
لم يجد جداد في نهاية الأمر جدوى، من الصراع مع كسبان ومزيد، فحاول في فرص النقاش التي يطلبها في الندوة، أن يوسع المقاطعة لتشمل كل "البضائع الاسرائيلية" فلم تجد محاولاته هذه، لحرف الخط الدعائي الذي انتهجه كسبان ومزيد قبولا لدى الأهالي (الذين كانوا على الرغم من بساطتهم لا يصدقون ما أسموه: كلام فارغ!!)، فالأهالي لم يحدث لهم أن رأوا خواجة بحكم موقع جلابي من الجغرافيا، ولذلك لم يكن من الممكن أن يعادوا "اسرائيل" التي لم يتشرفوا بمعرفتها أصلا!! كما أنهم لا يعرفون أين تقع هذه الاسرائيل من جغرافيا البلاد الكبيرة، والخريطة العامة لضواحي جلابي المؤمنّة، وهكذا أسقطت محاولات جداد لحرف أفكار السواد الأعظم في جلابي سقوطا مريعا جعله يهرب الى الأراضي المقدسة..
أسعد هذا السقوط جهاز مكافحة المخدرات (للمفارقة). فلم يقم بأي محاولات لتعويق خطة كسبان ومزيد (في البداية فقط) لكن بعد ذلك بوقت طويل، أصبح بيت مزيد وكسبان عرضة لحملات التفتيش من قبل المكافحة بين آن وآخر، ومع أنهم في كل حملة كانوا يقلبون بيت مزيد رأسا على عقب، الا أنهم لم ينجحوا على الاطلاق، في معرفة المخابيء السرية أو أساليب الترويج التي يتبعها كسبان ومزيد.
لكن قبل ذلك وكردة فعل على هذا السقوط، دعى جداد أهالي جلابي الى ندوة حشد، لها الكراسي والصيوانات والمياه الغازية والبلح، والانارة بالوابورات الجاز "جنريترات". وعلق على مقدمة الصيوان قطعة كبيرة من القماش كتب عليها بالخط الكوفي": جلابي ود عربي تحذر اميركا للمرة الآخيرة - بن لادن بطل قومي.. ".
 جاء أهالي جلابي أكلوا البلح وشربو المياه الغازية، وما أن بدا جداد في ندوته يتحدث عن العراق والاحتلال، الخ.. حتى أنفض أهالي جلابي الى بيوتهم، وقد اعترتهم دهشة عظيمة (فهم لم يخلصوا بعد من قصة اسرائيل، تطلع لهم قصة العراق وبن لادن!!). وتعبيرا عن غضبهم أشاعوا أن جداد جنّ(مال التومة ومال العراق واسرائيل حتى تهدد أميركا: جلابي ودعربي تحذر أميركا للمرة الآخيرة؟!! بن لادن بطل قومي؟!!).. أشاع حينها بعض الخبثاء الذين أرادوا استغلال الموقف أن جداد عنصر ارتباط في شبكة أرهابية تتبع لبن لادن والظواهري!!..
كان مزيد في هذا الوقت قد تخلى عن عمله في "الملجة" كحداد، وأستقر بصورة نهائية في جلابي، التي أصبح يلازمها مع أنتعاش تجارته ولا يغادرها الا نادرا..
في واقع الأمر ليس هذا هو ما يميز جلابي عن الحلالات والفرقان الأخرى، فما يميزها حقا هو الطابع الذي وسم حياة سكانها بطابعه.. الطابع الذي منحهم خصوصية تميزهم عن سائر مخلوقات الله وكائناته العجيبة في البلاد الكبيرة. هذه الخصوصية تمثلت في قدرة أهالي جلابي على الفرح، رغم ما يتعرضون له من كشات وسجون، قد تطول مددهم فيها أو تقصر. وعلى الرغم من ايماناتهم الدينية العميقة، كانوا يواءمون هذه الايمانات الدينية العميقة وسلوكهم، الذي لم تشهد له الليبراليات الراديكالية، عبر التاريخ المعاصر مثيلا. فأهالي جلابي ايمانهم عجيب وغريب: ففي لحظة هم ملحدون ولا دينيون، ساخطون على الديانات والمؤمنين بها، وفي لحظة أخرى ليس كمثلهم أتقياء، وبين اللحظتين يتقلبون في سلوكهم اليومي بين التحفظ والتحرر والإنحلال التام..
قابلية أهالي جلابي على استقبال الجديد مدهشة، فعلى الرغم من أن الكهرباء هي أختراع يسمعون عنه فقط، وبالتالي تلفزيوناتهم كلها، تعمل ببطاريات العربات. ومع أنهم ليست لديهم قنوات فضائية، والانترنيت ليس ضمن ثقافتهم، إلا أن جهاز الفيديو الوحيد في جلابي (الذي يملكه مزيد الحلبي) جعلهم يتصلون بعالم الموضة والأزياء، وتقليعات التسريحات في العالم من أقصاه الى أدناه (الى جانب أنهم ابتداء من دخول جهاز الفيديو بواسطة مزيد أصبحت لديهم معرفة مثيرة بأنواع الأوضاع الجنسية، على الطريقة الفرنسية والايطالية والهولندية والامريكية، فأصبح ليس من المستغرب أن يجد أحدهم بين فخذي عشيقته، حلقا من الذهب، أو اسورة من الفضة، الى جانب أوشام لطيور وأفاعي في الكتفين، أو النهدين أو الفخذين – فقد أزدهرت صناعة الأوشام المثيرة كصناعة فنية مبهرة مع دخول الفيديو، الذي مثل مرحلة تحول كاملة، وانتقال من ثقافة البلاد الكبيرة الكلاسيكية الى آفاق العولمة). فمزيد الحلبي كان رجلا خصب الخيال، لذلك لم يكن يكتفي باحضار شرايط الأفلام فحسب، بل كان ينتقي الى جانبها شرائط الموسيقى والرقص الأفريقي والغربي والبرامج الممتعة مثل أوبرا oprah وlaw & order الخ.. (هذه البرامج جعلت النساء والرجال في جلابي يكتشفون كم هي حياتهم بائسة، وهكذا ظهرت طبقة من المثقفين الذين أطلقوا على أنفسهم فيما بعد – علمانيو جلابي ود عربي -!!)
عندما يحل المساء يحضر الكثيرون من أهالي جلابي يتزاحمون أمام بيت مزيد الحلبي لشراء التذاكر من خميس (الذي كان مزيد قد أوقفه في الباب) حتى يتمكنوا من الدخول لمشاهدة الفيديو..
وعندما شاهدوا للمرة الأولى نيكول كيدمان في the others تبدى العقل الأسطوري لجلابي كاشفا عن مواهبه الدفينة (على الرغم من أنهم بكوا كثيرا لقتل بطلة الفيلم لطفليها، وانتحارها وبقاء أرواحهم الثلاثة معلقة بين العالمين) فأصبح البعض يختبئون عند منعرجات الدروب ليخيفوا المارة. وسبب لهم ذلك خوفا لم تستطع أفلام الفضائيين eliensومصاصي الدماءمن تحقيقه. و على عكس ذلك، أسعدهم روبين ويليام في the dead poets society على الرغم من الكآبة الرومانسية المزعجة، التي تنضح من هذا الفيلم (فرغم كل شيء شعب جلابي هو شعب واقعي) ومن الأفلام التي ظلوا يحكونها لبعضهم البعض، وعبرت عن تطلعاتهم غير المشروعة في القوة الغاشمة فيلم توم كروز the mission impossible والغريب في الأمر أن مجتمع المشاهدة في جلابي، انقسم الى مجموعات فمجموعة تحاول ان تفرض على الآخرين، مشاهدة المباريات الرياضية المختلفة (ملاكمة، كرة، سباق، الخ.. . ) وأخرى تحب أفلام روكي ورعاة البقر وجوالة تكساس، وتلك الأفلام التي على غرار the independence day، وأخرى لا تحب شيئاً سوى الأفلام الهندية. وانطلاقا من هذه التغييرات التي أعترت جلابي وأزعجت جداد، قرر الآخير جلب جهاز تلفزيون و فيديو كبير، ووابور لتشغيله، بدلا عن بطاريات العربات.. وأخذ يشغل بين كل فيلمين من الأفلام المصرية القديمة " أبيض وأسود " (الوسادة الخالية =عبد الحليم ولبنى عبد العزيز، للرجال فقط = سعاد حسنى ونادية لطفي ، شباب امرأة = شكري سرحان وتحية كاريوكا، فقد كان جداد يعتقد أن هذه الافلام اسلامية!) أخذ يشغل أشرطة لأحمد ديدات وعمرو خالد والقرضاوي ألخ.. لكن لم تجد خطة جداد رواجا فسرعان ما ملّ الناس أفلامه "الاسلامية"..
هذه المشاهدات لأفلام الفيديو المتنوعة جعلت لأهل جلابي ذوقا رفيعا في الأزياء والرقص والغزل وأشياء أخرى!!.. كما أنتشرت بفضل هذه الأشرطة حفلات البارتي، التي اخذ أهالي جلابي يقيمونها بسبب وبدون سبب (فعندما أنجبت كلبة السرة التي كان أهالي جلابي يتهمونها بالعقم، أقامت السرة بارتيا لم تشهد له جلابي مثيلا منذ ذلك البارتي الذي كان جداد قد أقامه احتفاء بالتطورات المهنية التي حدثت في حياتهما جعل اهالي جلابي يطلقون عليه لوقت غير قصير: الديك الراقص)..
وهكذا كان أهالي جلابي يملكون قابلية عجيبة على هضم كل جديد، في أي مجال من المجالات المتعددة للحياة وممارساتها اليومية، لذلك كانو دونا عن سكان الضّواحي الاخرى التي تشبه جلابي. يهتمون بمشاهدة أفلام الجنس، اكثر من أي شيء آخر، رغم أنهم لم يكونوا يعانون من أي حالة كبت.. ربما كان ذلك لحاجتهم العلمية الماسة و لعادتهم في هضم المعارف الوافدة، أصبحت العديد من الأشياء التي تعرفوا عليها من أشرطة الفيديو المختلفة، جزء أصيلا من ثقافتهم ومعارفهم الجديدة.
ساعد على ذلك أن جلابي تنهض في الخيال بطبيعتها المعقدة ذات التجليات، أكثر مما تنهض في الواقع اليومي. وربما لهذا السبب بالذات، ألهمت الشعراء من أبنائها (الذين برزوا بعد ذلك على مستوى البلاد الكبيرة) أعذب الأشعار التي طبقت شهرتها الآفاق، وأصبحت مفتتحا لمهرجانات الشعر العالمية. كما أن كل الكتاب والروائيين والتشكيليين والمغنين الذين انجبتهم جلابي، قد قوبلوا في مشارق الأرض ومغاربها بترحاب شديد، أزعج وزارة الثقافة (فقد كان هؤلاء بشهرتهم الكبيرة قد جردوا الوزارة من مهمتها الأساسية: تعريف العالم بثقافة وابداع البلاد الكبيرة) فقد أعطت هذه الشهرة العالم أنطباعا كاذبا عن وزارة الثقافة (فالصورة الابداعية التي عرفها العالم عن ابداع البلاد الكبيرة، جعلت الوزراء في الشرق والغرب يتصلون برصفائهم المتعاقبين في جلابي ليدعون المبدعين عن طريقها، الى مهرجانات ومؤتمرات دولهم في حقول الابداع والمعرفة المختلفة) فتحرج وزارة الثقافة ولا تعرف كيف ترد، لأن مبدعي جلابي لسؤ حظها جميعهم من المعارضين، الذين يرفضون السفر عبرها لتمثيل البلاد الكبيرة، الأمر الذي يضطر الوزارة للأستعانة ببعض الجنجويد المدّعين، فيسافر هؤلاء ويعكسون وجها قبيحا وفجا للعالم، عن البلاد الكبيرة. ما أضطر كل الدول المضيفة، التي كانت ترسل دعوات للتوقف عن ذلك، وهكذا لحق ابداع جلابي بموطن أسلافه في ساورا البائدة.. غاب تحت حجب النسيان)..
كل هذا كوم والسياسيين الذين أنجبتهم جلابي كوم آخر، فقد مثّل هؤلاء جرحا داميا، ظل " ينقّح" داخل وجدان جلابي قاطبة..
فعندما يخرج الواحد من هؤلاء الى الضؤ، ويتربع على عرش السلطة مثل عباس ود الخزين وعبد الجواد ود الباهي ومحمد أحمد ود مستوره، ينسى جلابي واهلها ويلعن " سلسفيل" أسلافها وسلالتها الضالين والمغضوب عليهم، كما ظلوا يزعمون في جلساتهم الخاصة، ولا يقدم لجلابي أي شيء، تعبيرا عن جمايلها ووقوفها معه في الانتخابات. بل يعمل من موقعه على تضييق الخناق عليها، ولذلك كانت من الهموم الكبرى في جلابي، عملها الدؤوب على الا يصل أحد ابنائها الى دست السلطة، فقد ملّت من الانقلاب عليها والتنكر لها.. إذ يصبح عدوا بعد أن كان حبيبا.. ..
من جلابي وحدها تستطيع استشفاف تاريخ البلاد الكبيرة، والتقلبات التي مرّت بها في الإثني ethnic والاجتماعي واليومي والثقافي.
على مسرح جلابي المنصوب في العراء قدم مسرحييها الذين حصل أغلبهم على جوائز عالمية (لم تسمح لهم الدولة بالسفر للحصول عليها) كبيرة في التمثيل والاخراج والتأليف.. من هذا المسرح خرجت روائع المسرح الوطني، التي أصبحت تدّرس لتلامذة المسرح في بريطانيا وفرنسا وألمانيا (مراكز الآداب والفنون العالمية منذ الانحسار الهليني على أيام مملكة ساورا).. فأهم السمات التي حملتها مدرسة "جلابي" المسرحية، أنها أستفادت من عصر الباروك في تعابيرها الحسية، وأخذت عن البيكيتية عبثية هذا العالم في البلاد الكبيرة، وعلى هدى كونت حاولت اشتراع عقلانية جذرية في الابداعي..
هذا المزيج الغريب، أدهش العالم واوقف ضربات قلب المشاهدين، الذين كانوا يحبسون أنفاسهم منذ لحظة رفع الستار حتى أسداله.. قدمت جلابي مسرحا غير معقولا البتة، أستطاع أن يعكس مباهج "الانسان" وآلامه في هذا المكان المعزول عن العالم والمسمى "جلابي ود عربي".. ما جعل أحلام الاهالي تتجاوز مجرد طرد حكومات الاستعمار المحلي الجنجويدية، الى نوع من الحلم الصوفي بالخلاص والفردوس المفقود والمدن الفاضلة..
هذا المسرح الذي قدمته جلابي استطاع أن يضخ معان وقيم جديدة، جددت دماء العروق الجافة للمسرح العالمي، خاصة بعد المرحلة الشيكسبيرية الباروكية، التي أستمرت لوقت طويل رغم أنف التاريخ الفني..
تخطر في راسي الآن كل هذه الخواطر عن جلابي وناسها، وأنا أراقب مسيرة حياتي منذ النشأة الأولى في المدينة الريفية، الى أن انتهى بي المطاف ها هنا..
نشأت متوحدا في العزلة والوحدة، التي لا تزال تطبع حياتي بطابعها الموحش (لكن هذه العزلة تريحني من مشاكل الاحتكاك بالناس. فالناس عندما يتصلون ببعضهم البعض، تنشا بينهم المشاكل بسبب المشاعر الدنيا كالغيرة والحسد، أو لسؤ الفهم الذي يتم تصعيده سجاليا فيتحول من اختلاف الى خلاف(قطيعة)، أو بسبب الالتزامات المتبادلة التي تنهض فيها مشاعر متضاربة ربما تفضي للاحساس بالخذلان فالكراهية فالتآمر.. هذه العزلة تجنبني التعرض لكل ذلك مما لا احب.. ).. لذلك كنت كلما حطمت طوق عزلتي و خرجت لأتصل بهؤلاء الناس، أعود مرة أخرى لاضرب السياج حول نفسي..
 لحظات الاتصال بالناس في حياتي لهي، لحظات قليلة، لكنها مكتظة بالاستهداف والحصار..
اللحظة الأولى: هي تلك اللحظة التي كنت أساعد فيها والدي في الدكان وهو ينتقل به في ارجاء المدينة المختلفة، فأول مرة قام بتأجير محل لتجارته، كان ذلك في الحي الشرقي، قريبا من شاطيء النيل، الذي تنكفيء عنده المدينة الريفية، كشخص مهيأ للاستفراغ. تدهور هذا المحل بسبب علاقته الجنسية مع صاحبة العقار، فقد كانت زوجة لسائق عربة حكومية محدود الدخل، ولذلك كانت تعمل في بيع الكسرة واللقيمات، وتؤجر جزء من عقارها كمحل تجاري. كانت سعاد صاحبة هذا العقار أربعينية جميلة، خاطبت فيه أشواق مقموعة، حفزته على الدخول في رأسمال تجارته. ودرء للفتنة والحرب التي أشتعلت في بيتنا، استجاب ابي لرغبة اخوالي وسلم صاحبة العقار محلها، وارتحل ببضاعته الى الحي الشمالي، على مقربة من بيتنا، اذ كنا نسكن شمال شرق هذا العقار. وهناك حاول أن يلتقط انفاسه ويسترد ما خسره مع الاربعينية الجميلة، عندها بدت جلابي كافق استثماري واعد، أخذ بعض تجار المدينة الريفية يتحدثون عنه بحماس، فذهب ابي وتفقدها ثم أختار مكانا، اصبح فيما بعد بمثابة القلب، شيد عليه دكان من الطين اللبّن، ألحق به قطية من القش والحطب و"الشراقن"، لم تكن نبؤات تجار المدينة الريفية قد جانبت الصواب، فقد أثبتت جلابي بمرور الوقت أن خيالها الاقتصادي لا يضاهيه خيال.
كنا قد تقلبنا بين مراحل مختلفة في الفقر، قبل أن يتمكن أبي، من انشاء تجارته ولا زلت أذكر عن طفولتي "الجوع" كمفردة وسمت حياتي بشرخ بالغ (الخوف من الجوع) فالخوف من الجوع لا يعني افتقاد الطعام فحسب، بل كل الرغبات الأخرى، اذ هذا الخوف، يحمل معه مخاوف تظل تلاحق الانسان طيلة حياته، فالجوع يشعل في النفس رغبات أخرى في ارتداء الأزياء التي يقع عليها النظر. في اشتهاء كثير من الاشياء التي نمر بها ونظل نحلم باقتنائها، في اشباع هذا الظمأ للمشاعر الحميمة والنبيلة..
ومهما انصلحت أحوالنا واقتنينا كل ما نرغب فيه، وأشبعنا كل ما نشعر به من احاسيس، نظل نرغب في مزيد من الاقتناء والاشباع، حتى يصبح واضحا، أن الخوف من الجوع استحال الى قيمة تتحكم في سلوكنا ومشاعرنا.. الجوع يتحول هكذا الى المحور الذي تنهض فيه الأحاسيس، المشاعر التي تتحكم في سلوكنا حتى الممات..
.. ازدهرت تجارة جلابي اذن، ومضى عهد ذلك الجوع نهائيا والى غير رجعة. هذا الازدهار اشعل في نفس ابي الرغبات القديمة المدفونة، وأعادها الى السطح مرة اخرى، فأقام علاقته التي طبقت شهرتها الآفاق، تلك العلاقة الحميمة مع السرة، ذاك هو الوقت الذي كنت فيه قد يئست من علاقة الكر والفر بيني وبين أبنتها ثريا، ولأنني كنت على شفا الدخول الى الجامعة اصبحت غير ميال، للحلول محل أبي في الدكان أثناء غيابه، الى أن انقطعت صلتي بجلابي تماما، فما عدت اذهب الى الدكان الا للضرورة القصوى. لكن ما أطلقته ام التيمان من مارد في عروقي، دفعني لأرتياد بيت سلمى خير اللّه، الذي لم يكن يبعد عن منزلنا كثيرا. فقد كانت سلمى خير الله قد أنفصلت من السكنى مع شقيقاتها، وسكنت لوحدها منذ جاءت من غربتها في الخليج وأستقرت نهائيا، هي التي دعتني بود لزيارتها، عندما التقينا صدفة في محطة المواصلات.
 كانت ودودة معي، فتصورت في البدء انها ترغب في اقامة علاقة معي، شبيهة بتلك العلاقة التي ربطتني بام التيمان. لكن بمرور الوقت اتضح لي أنه لم يخطر على بالها ابدا مثل هذا الأمر. فقد كانت على عكس ما يبدو عليها، عفيفة وكثيرا ما أتصورها عندما تخطر على بالي كعذراء شقية، أو ذلك النوع من الحوريات اللائي يخطفن الشباب من "قيف" البحر، عندما يقعن في غرامهم. لكن سرعان ما يعدن هؤلاء الشباب الى حافة الحلم مرة اخرى. لينزلقوا بهدؤ الى حيث بؤسهم العريق. بعد أن تكون الحورية المزعومة قد تلاشت في أعماق النيل.
هكذا اذن لم أستطع التفكير ولا مرة واحدة في سلمى خير الله دون ان تكون مقرونة بخاطر أسطوري غير مكتمل التخليق.
ابرز ما استطيع الجزم به الآن عنها، أنها لم تكن لديها فكرة واضحة عما تريد أو ترغب به. كنت أجيء الى بيتها في الامسيات. وأتسامر معها ساعة او ساعتين، ثم اغشى في طريق عودتي الى المنزل، صديقي اللدود حسن الذي كنت أحرص على الا يعلم شيئا، عن علاقتي بها، فقد كنت أتحفظ معه حول كثير من الأشياء، التي أخذت اعتبرها أسرارا مقدسة لي، وحدي فحسب. وكان هذا الموقف بسبب ما تسرب اليّ (قبل زمن طويل من عبده الخال، عن حكايا حسن في المدينة الريفية عن ثريا ومزاعمه بأنه خاض معها كثير من المغامرات من وراء ظهري) ولأنني كنت أدرك جيدا، أن حسن نوع غريب من البشر. يحب تلفيق المغامرات، واضفاء منطق مدهش على الأكاذيب، التي تشكّل جلّ حكاياه، حتى في حكاياته عن تجاربه الحقيقية الحقيرة. يضطر الى سرد نوع من الأكاذيب المفضوحة، اذ لا يحكي سوى أنصاف وأرباع الحقائق، ويعمد الى تضخيم الوقائع الاحداث وتصعيدها، على نحو فانتازي يصعب تصديقه.
كان حسن خصب الخيال، الى درجة أن كل زملائنا كانوا يتنبؤن له بمستقبل خيالي مشرق، وكنت ادرك، انه يحاول ان يعوض نفسيا أحساسه بالانتماء لأسرة مدقعة الفقر، لطالما كرهها. فأخوته العشرة الذين يعتبر هو خاتمة عنقودهم. لم يكملوا تعليمهم، وعطالى عن العمل، تفرق بعضهم داخل وخارج البلاد الكبيرة، كما أن والده يسكن مع أبناءه الآخرين من زوجة اخرى، في مدينة ريفية أخرى. فوجدت ام حسن رغم تقدمها في السن، نفسها مضطرة للعمل في الحواشات، حتى تتمكن من أن تعول هذه الأفواه، بسبب كل ذلك كان حسن كذابا كبيرا. يحاول اشباع غروره الذكوري، كنوع من التعويض النفسي في جوانب حياته الأخرى.
حكى لي ذات مرة، ان ست ذكية الأرملة مديرة المدرسة قد استدعته، وكانت ست ذكية قد أشتهرت في أنحاء المدينة وضواحيها، بعلاقاتها المتعددة، حتى انني بعد وقت طويل جدا، وكنا وقتها قد رحلنا الى حاضرة البلاد الكبيرة (عندما جئت لأداء خدمتي الوطنية في المدينة الريفية بعد التخرج من الجامعة، زارني أحد أصدقائي المدرسين، الذي كان بالأساس رفيقا لي أيام كنت حزبيا مغيبا، فأصبحنا أصدقاء بعد أن تركنا الحزب ،
طرق على هذا الصديق (الاستاذ عادل) باب بيتنا، الذي كنت قد أخليته وقتها من المؤجرين:
-    عندي زولة عايز أدخلها..
-    تفضل.
دخل تتبعه ست ذكية فاستأذنت في الخروج. كانت ست ذكية قد فوجئت بي. فقد كانت مدرستي في الابتدائية المختلطة، وكنت أحد تلامذتها، الذين كانت توليهم أهتماما كبيرا. وبعد أن عملت حكومة الجنجويدي على تطبيق نظام الفصل بين الجنسين، فلم تعد هناك مدارس مختلطة. كلفت ست ذكية بادارة مدرسة، في احدى ضواحي المدينة الريفية، حتى هذه المساء، كنت أعتبر أن امر علاقاتها المتعددة محض شائعات (بعد ذلك قلت لعادل:
- أنها أستاذتي. أنت لم تخبرني لاخلي المنزل حتى لا تحرج من رؤيتي..
فأكد لي انها لم تتعرف علي. مع انني كنت واثقا انها تعرفت علي. خاصة أنني كنت أزورها باستمرار فيما مضى. وصلتي بها لم تنقطع الا بعد وقت طويل)..
زعم حسن أنه كان يمارس الجنس معها، وأخذ يصف لقائهما بالحركات والتأوهات، وكيف أن قضيبه بعد عدد من المرات قذف دما..
بعد أيام حكاية حسن، أخبرني عبده الخال، أمين اسراره أن كل ما حكاه، محض اكاذيب، فقد سمع الشائعات عن ست ذكية، التي كان قد تعرف عليها بواسطة عبده الخال نفسه، الذي كان(الخال) قد ربطته بها علاقة حميمة، وقرر حسن التقرب منها، من خلف ظهره، فحسمته وطردته شر طردة. فأخذ يحكي عنها هذه الأكاذيب. ولذلك خطر لي ان حسن لم ُيقم أي علاقة مع ثريا، لكنني لا أستبعد أنه كان يلتقيها، ويحكي لها عني ما ينفرّها مني، ويجعلها تمارس تجاهي ذلك السلوك العجيب، الذي لم أستطع فهمه على الاطلاق.
كبيرة هي شبكة الروايات الشفاهية، التي تعرفت خلالها، على الجوانب الخفيّة، والمظلمة فيمن إحتكيت بهم لفترة طويلة من حياتي. مع ذلك لم أثق بها تماما. وان كنت كثيرا ما أعتمدها كعوامل مكملة لما اقف عليه من حقائق، غير قابلة للدّحض. هذا هو منهجي الآن فيما أجريه من مراجعات، لوقائع وأحداث جلابي ود عربي.. هؤلاء الشخوص الذين كنت ارى فيهم. كل الشخوص الذين عبروا على مجتمعات البلاد الكبيرة، عبر تاريخها المظلم المديد، فصنعوا حقبها المختلفة، بافراحها واحزانها. مراثيها وامجادها في آن.. دون أن يتعرف عليهم احد من المؤرخين أو يهتم بهم.
فالمؤرخين اهتموا فقط للأثر، الذي خلّفه الافراد من أبناء جلابي، الذين تقلدوا مواقع السلطة الثقافية او السياسية واصبحوا مهمين، ولذلك ركزوا دوما على دراسة الفرد. فالتاريخ بالنسبة لهم سجل لبطولات الافراد العباقرة، الذين يحركون الاحداث باطراف أصابعهم، وهكذا يهملون أو يتجاهلون دور البسطاء من جلابي، في صناعة الثورات وصياغة الاحداث. ويذهبون الى أن اهمال دور الفرد في التاريخ، او التقليل من شأنه يتعارض مع وقائع الاحداث، التي صنعها بالفعل القادة.
 ولا أحد يختلف معهم في ان هذا التقليل، والأهمال لدور الفرد يخالف الواقع، ولكن التركيز المطلق على دوره، يخالف ايضا واقعا آخر.. فالتركيز على دور فرد ما مثل حسان جداد أو لاكو لادو، أو مجموعة من المجموعات التي سكنت جلابي، في مراحل مختلفة. منذ ايام كان اسمها ساور المقدسة، في التأثير على ظاهرة تاريخية معينة، ليس هو المنهج الذي يمكن الاعتماد عليه، في رؤية ظواهر التاريخ التي كشفت عنها جلابي.
فهذا التركيز بفضل عشرات العوامل المعقدة، التي أثرت على الظاهرة، وتحصر المسألة في جوانب فرعية مهما كان تأثيرها، فانها لا تستطيع أن تؤثر في الظاهرة التاريخية، تأثيرا ينقلها من النقيض الى النقيض.
المؤرخين الذي شدتهم حكايا جلابي، سلطوا الضؤ على بعض الافراد الطائفيين، كود الخزين ومحمد أحمد ود مستورة وود الباهي أو أبو لكيلك الجنجويدي نفسه، ومجدوا بذلك ذاتية هؤلاء الأفراد غير المهمين، ولذلك عندما تخطر حكايا جلابي في ذهني الآن، لا أرى سوى الجماهير الغفيرة، التي تعاقبت عليها، عبر مراحل التاريخ المختلفة.. هذه الجماهير التي مثلها كسبان الضاوي ومزيد الحلبي والسرة وام التيمان (وقبل كل هؤلاء بولدين وسورنق وأسلافهما في ساورا وممالك جلابي الغابرة) هؤلاء العباقرة الذين لولاهم، لما كان لجلابي وجود. ولما أهتم بها أحد من المؤرخين. الذين أعدوا رسائل الدكتوراه والماجستير، وكل ماهو من قبيل الدراسات العليا فقط، في جلابي كبوتقة.
 منهم من كتب عنها محتفيا بدور الفرد، الى درجة أن واحدة من هذه الرسائل المثيرة للغثيان، ذهبت للبحث في العوامل الذاتية التي فجرت طاقات جداد، وذهبت اخرى للبحث عن الاسباب الداخلية والخارجية لحريق جلابي..
وناقش أحد طلبة الماجستير باستماتة، إستنتاجاته النظرية التاريخية، حول الدور البارز للقائد لاكو لادو في تطوير جلابي؟ وهكذا ذهب آخرين للحديث عن السياسات الجنجويدية، ممثلة في الممارسات الجائرة لتنظيم القرى ومعالجة السكن الاضطراري، بينما هي في واقع الامر مجرد سياسات غير ايجابية، ولا علاقة لها بالتاريخ الذي يصنعه الشعب في جلابي.. ظانين أنها تمثل التاريخ الحقيقي لجلابي..
وما كانت هذه الرسائل الا خطوة أخرى، في مصادرة تاريخ جلابي ود عربي، وتكريس لآيديولوجيا التفوق الذاتية.. آيديولوجيا الفردالمسيطر الخالد أبدا!!..
.. من حافة الحلم. عند أقصى زوايا الخاطر، يقفز أبكر، خارجا من الدوائر المتموجة للبخور. لم تكن ثمة رواية مؤكدة يمكن الاعتماد عليها، في اضاءة الحياة السرّية، التي ظل بعيشها في جلابي، الى أن اختفى هو وبيته، في لحظة حصار غاشمة. لم تكن ثمة رواية مؤكدة، يمكن الاعتماد عليها، في اضاءة الحياة السرية، التي ظل يعيشها كآدمو أو كأبكر، حتى تلك اللحظة، ذات صباح كئيب، مشبع برائحة الرطوبة والبارود والبرد، الذي لم يثلّج أطراف الناس فحسب، بل ثلّج كل البيوت في جلابي، التي صدمت ذلك اليوم ودخلت في لجج الهلع والخوف، وهي ترى أبكر يرمى أمامها بالرصاص تحت عود المشنقة..
مع أن أبكر ظل منسيا كمعلم بارز في ذاكرة الحكي اليومي، الا أن لا أحد ممن عاصروا لحظة حلوله بجلابي، كيف أنتصب بيته لوحده باشارة من يده فقط.
جاء أبكر للمرة الأولى، وأقام ثلاثة أيام في العراء، رافضا تلبية استضافة الأهالي في بيوتهم.. مضى في صبيحة اليوم الرابع الى سوق جلابي، لشراء مواد بناء للبيت الذي أزمع تشييده. كوّم البائع أمامه كل ما طلبه: من حصير وقش وقنا وحطب، وعندما أحضر الكارو، كان المكان خاليا من أبكر ومواد بناءه!..
 سأل جيرانه من باعة مواد البناء، فأكدوا أنهم لم يروا زبونه المزعوم، ولم يروا عربة كارو تحمل مواد بناء، وفي الواقع لم يروا شيئا على الاطلاق، من اي نوع كان. فكل ما يعبر بهم لهو من الوضوح، بحيث يشعرون به حتى لو غضوا النظر!!..
رأى الناس أبكر يقف في طرف البلدة، وقد تكوّمت أمامه مواد البناء، رفع يده اليمنى فانتصبت "قطية" غريبة التصميم في الهواء، قبل أن تستقر على الأرض.. مضي بتؤدة الى داخل القطية. أشعل فيها النار والناس يراقبون مدهوشين.. أتتت النار على القطية والناس يتسآلون: لماذا أنتحر الرجل حرقا؟.. لكنهم فوجئوا به يخرج من القطية حيا، لاشيء من الحروق عليه سوى رماد ثيابه، التي كانت قد أحترقت، ولا يزال رمادها يغطيه، بعد. كأنه ثوب وليس رماد. ثوب؟!!..
 تراجع الناس خائفين، تبقى منهم قلائل ينظرون لأبكر، الذي رفع يده اليسرى فتساقط الرماد منها وأصبحت عارية، فانتصبت قطية أخرى من قلب الرماد، غريبة الشكل لم يروا مثلها من قبل. اذ تجلى في تصميمها كل شكل منسي من الأشكال الهندسية الغامضة.. كانت قطية جميلة توسطت سورا من شوك المسكيت الجاف.
ومنذ تلك اللحظة أخذ الأهالي يتعاملون مع أبكر كساحر كبير، وأخذوا يمنون أنفسهم الأماني، وأجتهدوا في التقرب اليه. الا أنه كان من الواضح أن أبكر لا يرغب في أي نوع من العلاقات الخاصة، تربطه بأي شخص من اهالي جلابي.
تلك الحادثة المذهلة. المتعلقة ببناء أبكر لقطيته، ظلت حديث الأهالي، الذين أخذوا يتناقلونها جيلا عن جيل، في اللحظات التي تحتج فيها شخصية أبكر، على سقوطها عن ذاكرة الحكي اليومي، متشبثة بتلابيب الذاكرة الباطنة..
ورغم سقوط أبكر عن ذاكرة الحكي اليومي، الا أن حكايته أنتشرت خارج جلابي، فوصلت أسماع النساء والرجال في المدينة الريفية، والمدن المجاورة، وأخذت الفداديات يذهبن لأبكر، ليكتب لهن الحجبات التي تحميهن من "الكشة"، او التي تجلب اليهن الرزق. بل والمرشحين في الانتخابات المغشوشة، للمجالس البلدية، كانوا يحضرون منكسرين، الى منزل أبكر، كي يكتب لهم حتى يتمكنوا من الفوز، وهكذا تمددت سمعة أبكر، في كل أنحاء البلاد الكبيرة..
لم تكن لأبكر علاقة سوى بشخصين، اصطفاهما من دون كل الأهالي: هما كسبان الضاوي وجمال الحلّة.. وربما كان ذلك لأن كسبان (رجل في حاله) اشبه بالمجاذيب، اذ يكون في لحظة واعيا ومدركا (مثل تلك اللحظات التي كان ينوّر فيها الأهالي، بأهمية الحشيش والبنقو) وفي لحظات أخرى، يكون غير عالم بأي شيء يجري حوله، سابحا في ملكوت بعيد عن عالم جلابي.. وجمال الحلة ربما لأنه قريب الشبه في أحواله من كسبان، قرّبه ذلك من أبكر، فقد كان بركة يعتقد فيه الأهالي، الى درجة أنهم صوروه، وعلقوا صوره في دكاكينهم وبيوتهم لتجلب لهم الرزق..
وفكرة البركة التي يعتقدها أهالي جلابي، لا أحد يدري على وجه التدقيق، كيف نشأت في أذهانهم. فالرجل لم تكن له كرامة واضحة، كعبد الرحمن العوير مثلا، عندما رفع يديه فأحترق بيت أم التيمان..
اذن باستثناء كسبان الضأوي وجمال الحلة، وزبائنه من الجنسين، لم يكن أبكر يسمح لأحد بدخول بيته. ولذلك عندما أعلن حسان جداد حملته الانتقامية ضد ابكر المعراقي، كان كسبان وجمال هما اللذان تصديا لهذه الحملة الشرسة.
ثمة علاقة محتملة بين أبكر ومزيد الحلبي، لكنها غير مؤكدة، فالبعض يقول بها والبعض الآخر ينفيها..
الحاشية الأولى:(وثيقة مصورة رقم 23)
(*)
من اين تبدا الحكاية والى اين تنتهى؟.. من المقولات الكبيرة و الكثيرة و المثيرة التى انطلقت منها فكرة الوطن، وهى تبحث فى عالم جديد، يتكون فى تشظى وتمزق عالم يؤول الى الانهيار والتلاشى!.. عالم تنهض فيه جلابي أرض النازحين التاريخيين، في ساورا البائدة أو مملكة الجبل والوادي، بمجهوليها الذين جاءوا من كل مكان، يحملون حرمانهم واحزانهم وهزائمهم.. إحباطاتهم وخذلاناتهم العميقة؟!..
 من اين جاء هؤلاء.. انه السؤال الذى شغل البال، وقتل من بحث فيه. فمن اين اتى هؤلاء الى ساورا.. الى جلابي ود.. .. . الى اشباه المدن فى البلاد الكبيرة.. . لم ياتوا كالتروبادور المرتحلين بغنائهم الرومانسى المعذب فى اللانهاية.. عابرين بخيالاتهم البحار العظيمة. يواجهون غضب طبيعة متوهمة. واهوال وحوش لا وجود لها. ثم يتكئون على صدر جلابي، ينفضون عذاباتهم، لتنهار كما نهضت فى الانهيار، مثل مملكة الجوار، ربما.. الحلفاء، ربما.. مثل كل دويلات المدن.. تنهار بفعل الغربة والحنين!..
انها جلابي لحظة الميلاد. الناهضة فى قلب السوق البلاد الكبيرة، ، تستمرأ تعاطى الاحاجى، والحواديت، عن الذى ياتى ولا ياتى، وميلاد عصر جديد، سهلت فيه عملية تبادل وانتقال عناصر الثقافة، فتقاربت الجزر المعزولة، بما جعل التواصل يتغلغل فى الوجدان، ليتشكل النسيج الذى طالما حلم به الأسلاف في ساورا البائدة!..
لكن قبل ان يموت السؤال، تنهض فى الفضاء الطرفي للمدينة الريفية آلاف ال "جلابي ود.. . ) من كل شكل ونوع شاهقة، شاهقة، شاهقة على الرغم مما يضرجها من نزيف!..
 ذات نزيف جبل "سابا" صديقة الجنيات، عندما رمت بنفسها من أعلا قصرها الملكي، احتجاجا على استيلاء، بييه على السلطة، في مملكة الجبل والوادي..
الجبل ينزف.. والسؤال يظن انه سيهدم العالم ويشيده، على نحو مختلف.. لا انهدم العالم ولا بقى السؤال هو السؤال.. كل ما هنالك: نزيف وضجيج وانهاك ف البدو تدخلوا بعدتهم وعتادهم، يدعمهم الرسميون من ثعالب الجنجويدي البحرية، التى فاجأتها الوديان، بنعومتها وطزاجتها..
البدو بعدتهم وعتادهم يرمون الجبل بالراجمات، تؤازرهم الطائرات، لينجرح الخاطر، ويستحيل تناغم الطبيعة ايقاعا مختلا، يضرج وحدة السؤال وتوحده، ويهدمه ليعيد السؤال بناء نفسه من جديد(هل كان وقتها هناك طائرات وراجمات؟.. لكن كيف أعدم أبكر أو شنق، أو قتل؟؟)..
لا زال السؤال يظن انه سيشيد الاجابة! على نحو مختلف.. !
كيف لهم ان يفهموا ان الجبل خارج اطار الفيزياء، كيف لهم يفهموا أن مغزاه الروحى؟!.. سيظل اخضرا مثل الفضاء المرتحل فى اللوعة والغياب، والمهاجرين القدامى والجدد، الى فضاء قبل جلابي القديمة، وهى تتكون فى التمزقات!!.. .
هاهو السؤال يستعد للنفى الاختيارى والرحيل، يمضى ك(عبد الكريم من عشيرة (كليبا التي ينحدر منها أبكر)الى قصر السلطان، يبلغ سن الرشد. فيقود الفرسان ضد العريقات الجدد.. يطردهم من آبار (كارنوى)فى دار (قلا) ويزحف حافرا فى طبقات الوعى، القصوى ليحرر الناس، والمكان والوادى والشجر والقرود واشجار، القمبيل. ليدخل الجميع فى مزيد من الاسئلة الحرجة، لينفك اسار الجبل.. .
بينما يسقط آلاف القتلى. يروّون بدمائهم الوديان، فى اللحظة ذاتها يختلف المثقفون المازومون حول (بروتكول ميشاكوس) ويناقش الساسة والمفكرون المزعومون، الإلياذة والأديسة، فى كافتيريات هيئات التدريس، ويتغنى الجميع برحلات جلجامش، لايجاد ربط بين مؤسسات المجتمع المدنى فى المدينة الريفية وحاضرة البلاد الكبيرة، وسومر أو بابل..
يمر الدراويش(كما مرّ الآشوريون يوما) لحظتئذ بلباسهم المرقع عبر ثقوب الايديولوجيا!..
فى كافتيريا (اتنى) و(قاع المدينه الريفية فى قلب البلاد الكبيرة، وجوار جامع جداد.. ويحتدم السجال فيما اذا كان لابن عربى تاثير على الشعراء المجاذيب، او كون مالىو الصونغي وإمارات الساحل، محض مؤامرة شيعية!..
والى اى مدى تداخلت الازمنه الثقافية، فى بوتقه الصهر. الفرن الجنجويدي في حاضرة البلاد الكبيرة..
كانت مسارب الايديولوجيا تحاصر، البعد فوق الفيزيقى، للكائن المسمى جلابي، وتلّخص المسألة فى حدود الشرط الفيزيقى!.. بينما تدلو حانة أتني في ساورا البائدة (اهم المنابر) بدلوها وتتدلى فى الفراغ الذي تنهض فيه جلابي بعوالمها المعلنة مع سبق الإصرار والترصد!!..
فالى (اتنى) ياتى القلقين.. المتوترين والموتورين، الذين لا يستطيعون الاستمرار فى أيّ عمل، نظرا لحساسيتهم المفرطة، تجاه المضايقات. اذ تجعلهم يشعرون بالحزن والتشاؤم، ما يدفعهم للغربة والاغتراب حيث هم!..
فتدهمهم المنافى بالحنين، ويتاوهون ويغمدون جراحاتهم، اقصى تفاصيل الفجيعة والدمار.. و يمضى! الواحد منهم باحساس محارب منقرض.. .. .
انها(اتنى) جلابي، فكل بيت في جلابي هو أتني.. أتني الباحثين عن وطن دفء، فى الخمر البلدى المختلس، نزل عليهم (بروتكول ميشاكوس) كالصاعقة. والآن يفيقون من سكر دام لعقود طويلة يحلمون بالبلاد الكبيرة الجديدة!!..
لكنه الالم والرعب فى العيون الخبيئه الكابية، ففى فراغ (اتنى) تمر الصور، الذكريات، الاخيلة التى عاشوا لاجلها طيوفا متمزقة بالاسى والحرمان.. .. .
فيكتب البعض بايحاء السؤال اسئلة اخرى: (بين مطرقة اليانكى وسندان النازيين السمر): احداث ووقائع العذابات اليومية بوحدتها ووحشتها واساها!!.. فى الخط الفاصل بين عالمين لينطوى السؤال على نبؤة الماساة!..
تنهض هنا مساحة خالية، ملأى بالتساؤلات الحارقة، لم تتمكن المخطوطة السرية من الإجابة عليها، تساؤلات يحملها التاريخ السحيق لشعوب البلاد الكبيرة.. شعب الوادى، الذى يتكون فى التمزق الشامل للناس والحياة والوادى ذاته، الوادى بطبيعته وناسه واحساساته الغامضة.. الوادى الشاهد على اندثار اجيال ومولد اخرى، بافكارها المتباينه وتطلعاتها المتعددة عن: الحياة والناس والوجود والمصير والهدف.. .
حياة الوادي المتبدلة بناسها، هى حياة السؤال نفسه، مذ كان هاجسا فى خاطر الكون، فى لحظة دقيقة، تفصل بين عالمين ينهض على ركامهما الوادى، كشاهد على عواصف الطبيعة، وزوابع التاريخ!..
ربما هو اللّوذ باليانكى الغرباء، الذين قدموا، رغم أنف رائحة التراب وعبق التاريخ، ورغم انف العالم المقهور كله!.. حماة للسلام وراعين للديموقراطية والتنمية وحقوق الانسان، كما يزعمون..
 جاءوا كما جاء اجدادهم من قبل. يدّعون اخراج الناس من الظلمات الى النور، فغاص الناس فى الظلمالت اكثر فاكثر..
لم يرفض شعب الوادي والجبال اليانكى، كما فعل الاسلاف منذ وقت بعيد. لم يرفضوهم، على الرّغم من انهم كانوا يدركون، ان اليانكى سياخذون ثمنا غاليا، من وجدان الناس وثروات الجبال الغنية واحساسات الارض..
هذا القبول باليانكى ينطوى على اسئلة محرجة، حول العلاقة بالسلطة الوطنية، منذ غادر الانجليز، حتى لحظة تدخل اليانكى لانهاء الحرب الاهلية!.. فمن الموقع الاخر، فى الغابات يتكرر ذات الموقف: لم يرفض رجال الغابات اليانكى، سمحوا لهم باقتلاع الاشجار والحفر عميقا فى باطن الارض لاستخراج الزيت، بعد ا!ن ارضوا الفرنسيين، الذين لا تزال الاشواق الديجولية تعمل عملها فىتطلعاتهم العولمية!..
اذن لم يأت اليانكى هذه المرة، كرجال منظمات انسانية فحسب، تحارب الفقر والجهل والمرض.. ورجال الغابات يعلمون ذلك، ويقبلونه بطيب خاطر. فقد اوقف اليانكى الحرب، واصبح بالامكان مساءلة الحكومة الجنجويدية، عن الميزانية العامة للدولة؟!.. لكن سلطة اليانكى تتمدد لتشمل كل اطراف البلاد الكبيرة المهمشة!.. لم يعترض أحد على اليانكى، فقد اشتغلت بنجاح تام رمزية الغريب، الحكيم: الذى يملأ الارض عدلا بعد ان ملئت جورا..
والآن من أعلا برهات هذه اللحظة البلّورية، ها أنا أجلس وحدي على أحدى شرفات خاطري المتسع، لأراقب أحوال العالم المنسي لجلابي ود عربي. فتاريخ جلابي هو تاريخ النازحين ونزوحهم، فمن ذكريات النزوح المتعاقبة، تشكلت الذاكرة الجمعية لجلابي. ومن أحزان ومآسي النازحين، تشكل الوجدان الثقافي لجلابي، ففي موجة النزوح التاسعة، خلال قرن من الزّمان، في بدايات الربع الآخير من القرن الماضي. جاء المزيد من النازحون من أطراف البلاد الكبيرة، وأطراف المدن الريفية البعيدة عن مجرى النيل.
 فجفاف تلك السنوات، لم يصب الأطراف الغربية فحسب، بل ضرب كل الأواسط البعيدة عن النيل. خاصة أن الأزمات الاقتصادية، للبلاد الكبيرة بسبب الفساد السياسي والمحسوبية، والنهب المنظم، الخ من أسباب وعوامل بلغت ذروتها، وأضطرت الناس الى النزوح، فكانت جلابي التي أنشأها النازحون الاوائل، مركز جذب ألتقى عنده كل هؤلاء وأولئك، الذين محلت أراضيهم، وجفت آبارهم ونفقت بهائمهم فلاذوا بجلابي. التي كان أقتصادها التقليدي المحدود لا يقوى على مقابلة الإحتياجات الضرورية لكل هؤلاء النازحين..
تدفقت منظمات العون الانساني والاغاثة الأمريكية، ولأول مرة في تاريخ الاغاثات التي كانت تتم على مقربة من جلابي، تتعرف الأجيال الجديدة من النازحين على اسم "أميركا" وريغان.. هذين الاسمين، الذين حملتهما أغنيات الحكامات، والمغنين البدو وأشعار المسادير والدوبيت، وغنا الهدّاي والمردوع والجراري.
حتى عازفي" الربابات والطنابير وأم كيكي جعلوا " من أسمي أميركا وريغان مفتتحا لقصائدهم المجيدة، التي تمدح الخواجة النبيل.
هذه الأغنيات ترّنم بها القاصي والداني، في أنحاء البلاد الكبيرة، وشغلّت الناس وقتا طويلا، وبات الكثيرون يعتقدون أن أميركا هي زوجة الرجل الكريم ريغان، هذا الرجل الصالح الذي لم يروه أبدا، فقد أكتفى بارسال الطرود، المحملة بالمعلبات والزيوت والذرة والقمح والأغذية المختلفة، لاغاثة عباد الله المؤمنين في جلابي وأطرافها وامتداداتها، الى قلب المدينة الريفية، التي أصبح يطلق عليها ايضا "الفردوس".
ويبدو أن الرجل الصالح ريغان، كان يعلم تمام العلم، أن موظفي الاغاثة من أبناء المدينة الريفية، أو البلاد الكبيرة يعاونهم المجلس البلدي، سيتمكنون من سرقة المواد الإغاثية، وبيعها لأصحاب الكناتين، ولذلك ارسل أغاثة لا عدّ لها أو حصر، حتى لا تتأثر بالنقصان مهما كان حجم السرقة..
وبالفعل ظل هناك دائما ما يكفي لحاجات النازحين، الذين لولا الرجل الصّالح ريغان، وزوجته المنعمة أميركا، لقضوا نحبهم جوعا وعطشا. اذ لم يكتفي هذا الرجل بارسال الإغاثات. بل أرسل محولات كهرباء صغيرة، وأجهزة ومعدات طبية (كما علم النازحون – لانهم في واقع الأمر لم تصلهم هذه المحولات والاجهزة والمعدات، اذ اختفت في ميناء شرق البلاد، بمجرد وصولها، وقيدت قضية أختفائها ضد مجهول) لكن موّظفي ريغان، خشية تكرار مثل هذه الحوادث الغامضة، جاءوا بأنفسهم وأنشأوا مستشفي طواريء، ومحطات مياه ورّياض للأطفال(كانوا يقدمون في هذه الرياض، خدمات عديدة من غذاء صحي، وتطعيم ولبس وعلاج) في مناطق النازحين.
وتوسعت مشاريع الأب ريغان وزوجته، لتشمل القرى المحيطة بالمدينة الريفية، فأنشأوا عبر فروع منظمات plan sudan عدداً من القرى النموذجية، المميزّة بخدماتها الأساسية، (المراحيض الثابتة، والحمامات والمطابخ والكهرباء ومواسير المياه).. مضى ذلك الزّمن اذن، الذي يقضي فيه الواحد من هؤلاء حاجته في العراء، أو يستحم داخل ذات المكان الذي ينام أو يطبخ فيه، بعد أن يخوض نضالا مستميتا، لأجل الحصول على الماء..
 وهكذا انقرضت الكوليرا، ودخلت متحف الأمراض الأثرية، ولم تطل برأسها مرة اخرى، الا عندما اجتاح الفيضان الكبير البلاد، في أول خريف بعد سنوات الجفاف والتصحر.. اجتاحت الامطار والسيول البلاد الكبيرة من شرقها الى غربها، فلم تنجو الا مناطق قليلة، وشهدت البلاد بسبب ذلك مجاعة لم يسبق لها مثيل (وقتها كان الأب ريغان وزوجته، قد أختفيا بصورة غامضة، ولم يعد احد يسمع عنهما شيئا) حتى أن الناس، أصبحوا يشربون الشاي، والقهوة بالبلح وحلاوة الدربس، فقد أصبح السكر يندرج، في باب الذّكريات العزيزة. وأصبح أعتماد الناس في غذائهم اليومي على الطيور الموسمية، التي تضل اسرابها وبعض النباتات البرية..
تلك سنوات لم تشهد لها البلاد الكبيرة مثيل، الا على أيام الخليفة عبد الله الجنجويدي، وخلفه أبو لكيلك..
أخذ الناس رجالا ونساء في جلابي ود عربي وامتداداتها، يتذكرون الرجل الصالح ريغان، ويدعون له ايا كان المكان الذي أختبأ فيه، بطول العمر والصحة والعافية، وزيارة قبر الرّسول الكريم، ويتمنون له أن يتصدر قائمة الشهداء والصديقين، في الدار الآخرة منذ عهد آدم ونوح الى عهد father moon ، ويدخل الجنة كولي من أولياء الله الصالحين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.. آمين..
بمجيء النازحين مرة اخرى بهذه الأعداد المهولة، وإنشآهم المساكن المؤقتة، في إمتدادات جلابي وحولها، ما لبثت ان ابتلعت أراضي الحواشات، التي يمتلكها سكان المدينة الريفية.. بتكاثفهم هكذا توصل الخيال الاقتصادي لجلابي، الى ضرورة اقامة سوق جديد، يستطيع أستيعاب الحاجات الجديدة الناشئة عن تمدد جلابي، وكثافة سكانها فنشأ سوق العصر، الذي سرعان ما تم تغييره الى سوق الحر.
ففي البداية كان الناس يأتون بعد الظهيرة، بعربات الكارو المحملة ب"الأقشّي" وعصير الليمون والكركدي، والكوارع و"القدو قدو" والسمك والخضروات واللحوم، الخ..
ولكن بعد أن وجد السوق رواجا، أصبحوا يأتون بتجاراتهم المختلفة، قبل ان تفشي الظهيرة عن نفسها. ومن هنا كان الاسم: " سوق الحر"..
أصبح سوق الحر بمثابة الملتقى للأحبة. فالفتيات والشبان، يستغلون التسوق لتبادل الأحاديث الغرامية، ما أدى الى إبداع لغة جديدة، وّظفت الكنايات والتشبيهات دون معرفة سابقة.. اذ يقول الفتى لبائع السمك مثلا:
 - من أعماق البحر وأتأخرت في النار شديد..
فيرد عليه البائع دون أن يدري ما وراء هذ الكلام:
-    لا والله مقلية مظبوط
فتهم الفتأة (التي تكون وقتها بجوارهما، تشتري من بائع الخضار) أن حبيبها على جمر الشوق يتلظى مشتاقا للقاء المنتظر، فترد دون أن تلفت انتباه شقيقها الذي يرافقها:
-    رغم أنو امي منعتني من الشراء منك، واخرتني لحدي ما وافقت، عشان خضارك مش ولابد. الا أني ما بغير الزباين.
ويفهم الفتى الصعوبات التي تواجهها حبيبته في سبيل لقاءه.. وهكذا عبر هذه اللغة الجلابية، يتم استغلال لغة التسوق نفسها، لإنجاز المواعيد والمقابلات بين الأحبة، المتوقعين والعشاق القدامى والمحتملين والجدد، الخ..
ولأن الأفق الاستثماري لجلابي عبر تجاربها الاقتصادية، أصبح منطلقا ورحباً، فقد استثمرت اللجنة الشعبية لجلابي، نشؤ هذا السوق، ففرضت رسوما على الباعة.. الأثر التراكمي لهذه الرسوم، أنجزت منه المدرسة الابتدائية (لأول مرة في تاريخ جلابي) مع أن جلابي لم يكن بها أطفال، لكن المدرسة كانت تعمل فكل طلابها من أبناء النازحين، الذين كانوا يقطنون امتدادات جلابي..
ما ميز جلابي لوقت طويل، هو النسيج الاجتماعي المنسجم لسكانها. اذ لم يكن هناك تقسيمات لأهاليها، بناء على حساسيات من أي نوع، على الرّغم من بساطتهم، ولكن ما أن أصبحت الأحزاب السياسية، تهتم باستغلال جلابي، وتقيم فيها الندوات في المواسم الانتخابية، وتزامن ذلك مع عودة جداد، من الاراضي المقدسة.. ما أن حدث كل ذلك، حتى أصبحت جلابي منطقة أخرى، غير تلك التي عرفها سكانها المتعاقبين.. كانت كل جلابي تدعى "جلابي ودعرّبي فقط" دون تسميات اخرى.. أصبحت الأجزاء الشرقية منها، تدعى بحلة العرب، والاجزاء الشمالية بحلة القُمز، والأجزاء الجنوبية بحلة الغرّابة، والأجزاء الغربية بالجانقي.. حتى أن كل جزء من هذه الأجزاء، أصبحت له أسماء أخرى، فحلة العرب بأجزائها السبعة، لكل جزء من هذه الاجزاء اسم يخصه. فهذا الجزء لدغيم وذلك الجزء للحسانية وهذا للبرقو والمساليت والزغاوة والفلاتة..
كانت تفاصيل الساعات اليومية لجلابي، على مدى قرن من الزمان هي ذاتها لم تتغير. تتحرك على مستويين: مستوى في الشتاء وآخر في الصيف.. الفرق بينهما هو أن أهالي جلابي، في الشتاء يختبئون في منازلهم مجرد ان تغيب الشمس. عكس الصيف أذ ينامون مع تباشير الفجر. لكن تفاصيل اوقاتهم هي ذاتها لا تتغير، فالتغيير فقط في تقديم وتأخير الزمن، وفقا للتوقيت الخاص بجلابي (يتقدم على غرينتش بثلاث ساعات) التي كانت تستمتع بنوع من الحكم الذاتي، اذ تخشاها الجهات الرسمية (خاصة الشرطة والمباحث والأمن) ولذلك يحرصون، عند شن واحدة من الغارات على جلابي ود عربي، أن يكونوا مدججين بالعدّة والعتاد، حتى يخاف الناس، ولا يكون ثمة ضحايا في الأرواح.
 بالطبع ما أن يحل الشتاء، حتى يتوقف أهالي جلابي عن شرب المريسة، فهم بحاجة للدفء، والمريسة ُترّطب الجسم.
وعلى هذا الأساس كانت جلابي كلها، في الصيف منذ الساعات الأولى من الظهيرة، ترتوي بحصصها من المريسة. التي غالبا ما تكون بالنسبة لكثيرين، ليست مجرد خمر بلدي بقدر ما هي غذاء يومي.. حتى أن مدير المدرسة الريفية، عندما طرد خميس ود السرة، وطلب منه احضار ولي أمره، جاءت مستورة غاضبة فتكلم معها المدير عن سبب طرده لابنها:
-    الولد طردناه عشان بيجي المدرسة سكران بالمريسة..
-    يعني ما ياكل ولا شنو. يجي المدرسة جيعان بدون فطور..
صرخت في وجهه، وكان أن أدرك المدير لأول مرة، أن المريسة هي غذاء رئيسي في ثقافة السرة، والكحول ما هو الا ناتج ثانوي يصاحب عملية صناعة هذه الوجبة، الغنية بالسكرّيات والبروتين والفيتامين..
بعد وقت طويل من علاقتي بأم التيمان، كنت قد ألححت عليها بالسؤال عن سوكا حبيبها صاحب الرسائل الغرامية القديمة، التي كنت أقرأها لها كل يوم. فتنهدت بعمق وهي تتكيء على الجدار، وتمد قدميها على فخذي، حتى يلامسان حافة السرير.. أخذت تحكي بصوت موجوع:
 - كان سليمان (سوكا) إبن الجيران، الذي أحببته من دون كل فتيان الحلة. فقد نشأنا معا، وعندما أصبحنا في مرحلة المراهقة، قرر أن يتزوجني، لكن اهلنا رفضوا، وحلف الجميع ستين يمين. كانوا ينظرون لنا، كاطفال بعد.
ترك سوكا المدرسة وهرب، فغابت أخباره ثم أصبحت، تصل بين آن وآخر، لكن كل الأخبار التي كانت تصل، كانت متناقضة، فمن هذه الأخبار، أنه مات في أفريقيا الوسطى، بينما بعضها يؤكد أنه قتل في الصراع المسلح، في الاطراف الغربية من البلاد الكبيرة..
ويصر بعض حاملي الأخبار، على أنهم شاهدوه في ليبيا وعلموا منه، أنه كان في معسكر اللاجئين بتشاد، وهكذا لم أعد أعرف هل هو حي أم ميت. وكنت قد كرهت أهلي واهله وأنكفأت على ذاتي معتزلة الناس. وأخذت أفكر في الهرب للبحث عنه. الى أن حانت الفرصة وتمكنت من الهرب..
بحثت عنه في أماكن كثيرة، استطعت الوصول اليها. وعندما فشلت في الوصول الى أماكن أخرى للبحث عنه. كان قد قيل لي أنه شوهد فيها. يئست فجئت للاستقرار في جلابي، التي أصبح أهلها أهلي وناسها ناسي. لم يعد بالامكان ان أعود الى أهلي. فهم لا محالة سيقتلونني حالما يرونني. ولذلك حرصت حتى على تغيير اسمي الحقيقي:
 - ما اسمك الحقيقي؟.
فابتسمت ولم تجب..
-    الا تثقين في ّ؟
-    بل أثق بك..
-    لماذا لا تخبرينني؟
-    الأفضل الا تعرفه، كما انه لن يفيدك بشيء، فقد سار عليّ اسم أم التيمان، والجميع لا يعرفون لي اسم سواه.
قطع حوارنا، دخول سلمى خير الله، التي كنت قد عرفتها بأم التيمان، قبل فترة قصيرة.. فصارت كلما جاءت، لزيارة أبكر المعراقي الذي كان يكتب لها، تغشّى في طريقها أم التيمان. كانتا تجلسان لوقت طويل وحديهما. وتتهامسان.. ولا ادري ما الذي كانتا تقولانه لبعضهما.
كانت سلمى ذات جمال ملائكي موحي. وجهها بملامحه الهادئة وجسدها المشدود، لا يعكسان حقيقة أمرها أبدا، حتى أنني ظللت لوقت طويل، أظن انها لم تبلغ الثلاثين بعد. عندما أكتشفت أنها في النصف الاول من العقد الرابع،. وأنها عاشت في غربة طويلة، فقد دفعتها الوفاة المبكرة لوالدها لهجر البلاد الكبيرة، والاغتراب للعمل. ومنذ أنقضت سنوات غربتها، وهي تحاول لّم ُركام ذكرياتها، وتشكيل ماضيها العائلي من جديد. كانت تشتاق لدفء الأُسرة والحياة الأسرّية.. تشتاق للزّواج والانجاب، وربما ذلك ما حفز على استمرار، ارتباطها العميق، بزميلة الدراسة والطفولة سارة، وابنها الصغير. اذ كانت تربط بين سلمى وسارة علاقة من ذلك النوع من العلاقات، التي تستوقف التاريخ الاجتماعي طويلا. ويلخصها في مفردة أو عبارة واحدة: أنهما تحبان بعضهما حبا كبيرا..
كان لصوت سلمى سحر قوي يهدني كلما تسرب أعصابي، وكنت أعلم انني أشتهيها، كما كانت ام التيمان أيضا تعلم. وكنت كلما التقيتها وجلست اليها استثار، فأضطر الى الركض سريعا، حتى أصل بيت ست البنات العشمانة، فاداهمها وأصر عليها بتلبية رغبتي حتى لو لم تكن في حالة تسمح لها بذلك. وفي واحدة من هذه المرات، بعد أن التقيت سلمى، فأطلقت شياطين الجحيم في دمي، ركضت مسرعا الى بيت أم التيمان، وفوجئت بأنها مسجونة بعد أن تم القبض عليها، في كشة مفاجئة وغير متوقعة. كنت كالمسعور فركضت الى بيت ست البنات، التي فوجئت برغبتي، اذ لم تكن بيننا علاقة من هذا النوع، أصررت عليها وأنا أبتز عاطفتها. فوافقت بعد جهد جهيد، لكن بشرط: أن تكون تلك اول وآخر مرة، أراها فيها، وبالفعل لم أر أم التيمان بعد ذلك أبدا.
وكنت كلما تذكرت كلامها:
-    أنت تستبدل علاقتي بك في مجرد لحظة تنقضي..
لم أعرف وقتها كيف أرد. وحملت هذا السؤال بداخلي وقتا طويلا. وكلما خطر على ذهني هذا الخاطر. أشعر بانقباض في قلبي.
رحلت أم التيمان بعد ذلك الحادث بمدة قليلة، ولم يعد احد يعرف الى أين ذهبت، وكنت أشعر أن سلمى خير الله، تعرف المكان الذي قصدته أم التيمان، لكنها أبدا لم تخبرني.
لم اكن اجرؤ على مطارحة سلمى الغرام، فقد كانت هذه المرأة ذات قدرة غريبة، على السيطرة، حتى أنني لم أكن لاجرؤ على النظر في وجهها، دون ان اشعر بالارتباك، أدركت منذ وقت مبكر، أنني كنت ضعيفا أمامها. وأدركت أكثر شعور جداد شقيقها تجاهها، لابد أنها كانت تضعضع كيانه، وتفقده القدرة على السيطرة. ، على نفسه بقدرتها. ، الغريبة هذه. التي لم أعلم حتى بعد كل هذا الوقت الطويل: أين يكمن مصدرها..
حتى أن ادروب في واحدة من تجلياته النادرة. ، أستوقفني، بعد أن رآني امشي بصحبتها وأودعها الي خارج جلابي ود عربي:
-    البنت دي جمرّة!..
 فضحكت:
- يعني شنو؟!..
-    حلوة شديد..
-    قل هذا الكلام لها هي..
-    لم تسمح لي بمجرد التحية. لا أدري ما مشكلتها معي..
-    أنت حبيت البنت دي ولا شنو يا أدروب؟..
-    انا قلت أوسطك بيناتنا..
-    لا لا، حاول تعالج مشكلتك معها بعيدا عني..
ومضيت تاركا أدروب خلفي يلوك حسرته. وما أن مشيت قليلا، حتى أستوقفني عبد الرّحمن العوير (ود التوم)، الذي لا أدري من أي شق في الارض، أو في ُجدُر جلابي، خرج ليقف أمامي على هذا النحو المفاجيء:
-    ما الذي كان أدروب يقوله لك؟..
دهشت لاهتمام عبد الرحمن لمثل هذا الأمر، فعبد الرحمن عرف عنه عدم الاهتمام واللامبالاة بما يدور حوله، ولذلك كانت دهشتي كبيرة فصمت.
-    ماذا كنت تقول لبنت خير الله أخت جداد؟
اصبحت دهشتي أعظم، فوجئت به يعرف اسمها كاملا وعلاقتها بجداد. ، فسألته بحدة:
-    وما أدراك أن ابوها اسمه خير الله وان جداد شقيقها؟.
فلم يرد على سؤالي. ضحك ضحكته الصاخبة. وركض مبتعدا.. قبل هذه اللقاءات المتتالية، التي خلفت في نفسي آثارا لازمتني لوقت طويل. كان أدروب يحاول أن يجيبني على سؤالي اياه، عن الاسباب التي جعلته يصبح مواليا للعرافين، واحد اتباع جداد، ففوجئت أنه لم يؤمن بافكارهم(التي يعدها غريبة!). يوما.
-    اذن لماذا أنضممت لهم؟..
-    المعايش جبارة..
-    كيف يعني؟..
-    شقيقي الاصغر كان منهم. فقتل في الاطراف الجنوبية (استشهد) وجاءوا ليبلغونا بالخبر في أحتفاء شديد.. نصبوا الصيوانات (عرس الشهيد) كما زعموا. كانت الاسرة وكل الأهل حزّاني، فاستأت منهم لكن لم اكن ادري ما الذي استطيع فعله.
-    عرس الشهيد؟!. هنا في الأرض؟؟
-    جاءوا بالعربات المحملة بالارز والسكر والدقيق والخضار، (التي قالوا أن الملائكة هي التي أرسلتها لنا). كان عرسا لم تشهد منطقتنا او الملائكة مثله من قبل. قالوا ان اخي يجلس الآن في غرفة نوم بديعة مع الحور العين. تحدثوا عن جمال غرفة النوم والحور العين حتى حسد الناس. كل الناس. أخي. كنا مصدومين. وما أن مضت ايام، حتى بدأت حدة الصدّمة تخف شيئا فشيئا، وبعد شهرين عينوا أبي أمينا لمخزن السكر الوحيد في المنطقة. لم أكن اعلم ان والدي يرغب في تلقينهم درسا. اذ عندما قرروا عمل الجرد السنوي لمخزن السكر كان المخزن فارغا.
-    أين السكر؟
سألوه، فكانت اجابته حاسمة:
-    الملائكة كل يوم تحضر لتاخذ السكر بالعربات الكبيرة، لتقيم به أعراس للشهداء. الشهداء أصبحوا أكثر منذ استشهد ولدي.
ولم يستطيعوا أن يقولوا له شيئا، فاكتفوا بفصله عن العمل. ادركوا انه يرد عليهم زعمهم، عندما جاءوا لابلاغه باستشهاد ابنه، بان هذه اللوازم ارسلتها الملائكة.
تابعت عبد الرحمن العوير وهو ينصرف ضاحكا، ضحكته المجلجلة. حدث ذلك في ذات الوقت. الذي كان فيه جداد، مشغولا بأمر حملته المقدسة، ضد الخوّنة والمارّقين في جلابي. ولأول مرة، أعلن جداد صراحة أن تمرد اهالي جلابي. على الصلاة سيجعلهم مرتدين وخارجين على الاسلام. وفي سياق ذلك اعلن حالة التعبئة العامة. وأصدر عددا من الفتاوى، محرما فيها التدخين وبيعه وشراؤه، وتأجير المكان لمن يبيعه، وحلق اللحية لأن في حلقها تشبها بالمشركين والمجوس، والاستماع الى الموسيقى والاغاني. فذاك امر لا شك في تحريمه تماما، مثل مشاهدة أفلام الفيديو عند مزيد الحلبي، لأن بهذه الافلام نساء كاسيات عاريات وربما عاريات تماما. وهكذا عبر لغة التعبئة العامة، التي تستنفر العواطف، أخذ جداد يصدر العديد من الفتاوّى التي يحرم فيها ما يعن له.
مشكلة جداد أنه ينتمي من جهة أمه الى أحدى القبائل الأفريقية، غير المسلمة. حيث نشا في ديار أبيه، في كنف الاسلام، وبزياراته المتكررة لموطن امه، نشب داخله صراع حاد ومثل كل ابناء جيله، تحمل شهادة ميلاده(1 يناير). فقد تم تقدير سنه بواسطة الطبيب، وُّدون اسمه في سجل المواليد والوفيات، وهكذا استخرجت له شهادة(تسنين = تقدير العمر) بعد وقت طويل من ولادته.
عندما قرر والده(بعد وقت طويل من ولادته في ديار أمه)، أن يرحل وينتقل الى ديار ابيه(جد جداد)، حيث نشأ جداد وأخوته.
عندما قرر والده ذلك، كان يدرك أن تلك مرحلة أولى، لاستقراره مع اسرته الجديدة. فقد كان يعمل على ترتيب أوضاعه هناك مؤقتا، الى ان يتمكن من ترتيب أوضاعه بصورة نهائية في المدينة الريفية التي كانت مزدهرة وقتها. وهكذا لم يلبث سوى سنوات قليلة مع، اسرته حتى انتقل بجداد وابناءه الاخرين من ديار أبيه الى المدينة الريفية.
حيث بدأ جداد مسيرته التعليمية، داخل أسرته في المدينة الريفية.. وفي هذا المجتمع الطائفي تمت صياغة جداد خلال سنوات حياته الاولى، التي تشكلت من تاثيرات الحياة البدائية لأسرة أمه. والبدوية لاسرة والده. والتأثيرات القوية للمدينة الريفية، بمكوناتها المزيج. كمركب تصطرع داخله، تاثيرات عديدة، متنوعة ومتباينة. فكانت العربية لغة أبيه، بالنسبة له لغة اولى مثلها مثل لغة والدته، وبتدرجه في مراحل التعليم المختلفة، وتعرفه على التاريخ والجغرافيا تبلور داخله الصراع القديم بحدة، لم يستطع تفاديه. كان نزاعا بين الافكار والآراء المحلية التي شهدتها مراحل حياته، ونشأ عليها على يد والدته ووالده، واهالي المدينة الريفية، والمعرفة التي منحتها اياه المناهج المدرسية، ومن هنا حدث له تحولا شبيها بالتحول الذي عاشه آدمو، حتى أنتهى الى ابكر.
 لكن تحول جداد كان في الاتجاه المعاكس لأبكر. كانت حياة جداد قد تخبطت كحياة آدمو، وعمتها الفوضى العارمة.
حكى لي ادروب عن حقيقة شائعة، كنت قد سمعتها منذ وقت طويل: كيف أن ثريا عندما بلغت سن المراهقة، استدرجها جداد الى بيته، قال أدروب:
-    كنت أنا ذاتي اشتهيها. ولذلك اهتممت بمراقبتها في غدوها ورواحها، وتبعتها في احدى المرات لحظة خروجها من منزلها، فرأيت جداد يستوقفها في منتصف الطريق المفضي الى خارج جلابي، ولم يلبثا أن غيرا مسارهما عائدين الى جلابي. فتبعتهما حتى فوجئت بثريا تدخل مع جداد بيته. لم تكن للبنت تجربة، ولا تعرف ما هي مقدمة عليه. ترددت كثيرا الى ان حزمت امري. فدخلت عليهما. لكن كان الوقت قد فات. فقد كان الدم يسيل على فخذيها، وهي تبكي مرعوبة. ادركت أن جداد اغتصبها. فهدأتها وغسلتها. وجداد ينظر الي مزهولا ومرتبكا. وأنا صامت لا أفتح "خشمي" معه. هذه الحادثة هي السبب في علاقتي بجداد وثريا معا..
-    قمت بابتزازه يعني؟..
-    ليس تماما..
سألته عن علاقته السرية التي تربطه بجداد، فرفض أن يتحدث عن ذلك مطلقا. ربما ما عرفته من اجزاء متفرقة عن حياة ثريا، في تلك الفترة، هو ما شكّل موقفي من المرأة.
بدا لي ذلك اشد وضوحا، أثناء ادائي الخدمة الوطنية، بعد التخرج من الجامعة بعدة سنوات. فالموظفات اللائي كانت مكاتبهن، تجاور مكتب الخدمة الوطنية، الذي كنت أعمل فيه، في المجلس البلدي ومقر المحافظة، للمدينة الريفية. كنت أتعمد التعرف اليهن. وأعمل على استدراجهن الى مسكني. مستغلا في ذلك احساسهن الحاد بالعنوسة. ورغبتهن في الاستقرار. لكن لم تكن هناك تجربة حقيقية، ومؤثرة بين كل هذه التجارب. خلفت في داخلي أثرا لا ينمحي. مثل تجربتي مع سعدية.
فقد كانت فتاة بسيطة في حياتها ولبسها، تعمل في لجنة الاختيار للخدمة العامة. منذ اول يوم شعرت انها أحد اهدافي التي لم انتبه لها من قبل. توثقت علاقتي بها اكثر، عندما التقيت سارة شقيقة حسن في مكتبها ذات مرة.
كانت سارة الاخت الوحيدة التي تتوسط عشرة اخوة ذكور اصغرهم حسن. وكان قد مضى وقت طويل منذ التقيت سارة آخر مرة،. فمنذ انتقالنا للسكن في حاضرة البلاد الكبيرة. فقدت الاتصال به. سالتها عن حسن فعلمت أنه أصبح متطرفا من أتباع العرافين وجداد. فأدهشني ذلك تماما. أشعل في داخلي كثير من الأسئلة. لمعرفة سبب حدوث ذلك لحسن.
وعندما سالت حسن عن تجربته هذه بعد ذلك بوقت طويل. قبيل مغادرتي للبلاد الكبيرة. بطريقي الى الهجرة. ضحك حسن وقال لي:
-    ربما كانت تلك التجربة العجيبة. هي عقاب لي على ما اقترفته من جرائم.
 ولم يزد. اذ كان حريصا على عدم الادلاء بتفاصيل، سوى عن التطورات التي اعترت جلابي، التي شهدت تحولات لا تصدق. فقد تمت اعادة تخطيطها، واعادة توطين اهاليها بشهادات بحث، تثبت ملكيتهم للأرض، التي شيدوا عليها منازلهم. وقد قامت الحكومة الوطنية التي تلت حكومة ابو لكيلك الجنجويدي، بادخال الخدمات الأساسية. فشقت الشوارع ورصفتها، وأدخلت شبكة المياه والكهرباء والغاز. حتى ان الكهرباء والغاز جعلت حسابهما، بعداد من الانواع الحديثة اطلق عليه الناس " الجمرّة الخبيثة" وأنشات عدد من المدارس في مراحل التعليم المختلفة. وخططت سوق "الحر" الذي كان اسمه سوق " العصر"، ووزعته على الاهالي الذين شيدوا عليه، دكاكين الطوب الاحمر والخرصانة المسلحة. كما افتتح عدد من البارات والكازينوهات والحدائق، بعدد من انحاء جلابي على استحياء.
كانت جلابي ود عربي وامتداداتها، قد شهدت تحولا الى النقيض. فقد استطالت عمرانيا، وظهرت طبقة جديدة من التجار، وتم الاستيلاء على الجامع من جداد. ووضع تحت الاشراف المباشر للاوقاف والشئوون الدينية. التي قامت بتجديديه وتحديثه وتوسيعه. فاصبح تحفة فنية، جذبت الى العبادة عددا كبيرا من الناس. لم يشهد له تاريخ جلابي مثيل.
تقلصت مساحة الجريمة والفقر، واصبحت جلابي تعرف الآن بمدينة "الفردوس" الراقية ذات العمارات السوامق، والعربات الفارهة. نسى أهالي جلابي. كل فترات الضّنك والبؤس الذي حكم تاريخهم المديد. أصبحت الابخرة القديمة، السبخة المشبعة بالعطن، محض تاريخ، فمدينة الفردوس، لا تفوح منها الآن سوى رائحة "الدّلكة والكّبّريت ودّخان الطلح" والصندل والعطور الباريسية الغالية.. و انتشر" الدّش " في كل مكان. وأصبح المزاج الفني في جلابي اكثر رقيا. فهم الآن يحفظون افلام مورغان فريمان، وديزل واشنطن وانجلينا جولي وجوليا روبرت وفورد هاريسون، وريتشارد غيرد، وويل سنايبس، الخ من الممثلين والممثلات المميزين، الذين ارتبطوا في الذهن العام لجلابي، بالرعاية الخاصة، التي ظل يقدمها جورج بوش (الإبن والاب) الذي كان قد تزوج اميركا أرملة ريغان، فهو كأسلافه، اهتم كل الاهتمام بجلابي، ما جعلها تكّن له احتراما كبيرا.
ها هي برهة اللحظة البلّورية، تتقلص في وحدتي، على شرفة خاطري. ، الذي هيجته ذكريات جلابي..
 ها أنا أخرج من الأحوال المنسية، متلفتا بين المتوّن والحواشي، طاردا من ثقوب ذاكرتي، رائحة الخميرة التي حملها التاريخ المنسي لجلابي: تاريخ المكان والناس الناهض، في الرّوث وأبخرة الخمر البلدي، ورائحة الجنس والعرق..
كان دمي يسيل على الشارع، والبُّرهة تتقلص شيئا فشيئا، لتتجمد في لحظة واحدة، هي اللحظة التي كنتُ اقف فيها، مع الميرم كلتوم، في قلب ميدان التحرير، وهي تتلقى ذلك الهتاف:
.. وما ان لها في حسنها من شريكة، ،
نعم وقتها كنا في ميدان التحرير قبالة التمثال، ومع آخر كلمات الهاتف، بدا ميدان التحرير فارغا الا منا. وشاب بهالة ملائكية يتهادى في مشيته من بعيد، باتجاهنا من قبالة الشارع، المفضي لتمثال طلعت حرب. رأيت في طيفه عبد الرحمن ود التوم (العوير) وأدركت من ارتباكها انه حقا هو..
نعم كانت الميرم كلتوم مرتبكة ومتنازعة، تقلب بصرها بيني وبينه. ثم حسمت أمرها فمضت تجاهه، الى ان اقتربا من بعضهما، وتخاصرت أصابعهما. ومضيا في شارع القصر العيني.
كنت واقفا امعن فيهما النظر الى أن تلاشيا في الشارع الخالي الا منهما، فرددت بصري وانا أشعر بميدان التحرير، يمتليء فجأة بالناس والضجيج يملا شارع القصر العيني، والزحام يعوق المرور في الشارع المفضي الى تمثال طلعت حرب.
كانت الحياة قد عادت الى طبيعتها، في اللحظة التي تهشمت فيها طبيعتي، فآخر ما ألتقطته عيناي. عربة نقل كبيرة، قادمة نحوي بسرعة.. ثم لم تلتقط أذناي بعد ذلك سوى صرير عجلاتها وهي تطأني..
عندما أفقت لم أجد العربة، لم أجد ميدان التحرير. تلفت حولي كنت في قلب ساورا، فأدركت ان الحلم لا زال يلقي بي من زمكان الى آخر، فأغمضت عيني وانا أحاول مسح ما تجمد من دم، في وجهي كانت قد خلفته العربة، التي وطاتني على جسمي..

(القسم الثاني: المخطوطة السّرّية مُتُن وحواشيّ)

"آري" العظيم – تذّكر أنك ستموت يوما!!

مدخل:
 نعم.. لا أدري حتى الآن. أيُّ شيءٍ هو الحقيقي، وأي شيءٍ هو الوهم.. أو، الظلال لهذا الحقيقي، او تمثلاته البعيدة.. كل ما أُدركه الآن، هو أنني يجب الا أنام، حتى لا أحلم وأجد نفسي فعلا في مكان آخر.. عندما أصحو (مثل كل مرة)..
من أين يبدأ هذا الحُلُم؟.. وأين ينتهي؟!..
هل يبدأ من هذه اللحظة (هناك) في مملكة الوادي.. اللحظة التي دهم فيها الوباء مملكة الجبل والوادي، وقتل (آريها) العظيم؟!.. أم يبدأ من لحظة أخرى، هي تلك اللحظة التي أصبحت فيها هند ودعد محض جاريتين، في مملكة الجوار، تنفذان الرغبات الغامضة، وتسرحان مع أحلام سلطانها؟..
 أيّاً كانت لحظة البداية، ثمة علامات فارقة متماثلة، كحرِّيق جلابي، الذي في وجهه الآخر، هوالوباء الذي ألتهم مملكة الجبل والوادي. الوباء الذي خرج من قلب التنّوع.. تنوع الناس في جلابي وأنقساماتهم، التي لا تختلف كثيرا، عن انقسامات العشيرة المالكة، سواء في ساورا، أو جذرها البعيد، كمملكة خرجت من غموض الجبل ووحشته، و.. الكثافة. الكثافة التي جعلت الموارد تنضب، والناس تتمدد، بحثا عن وطنٍ آخر.. كل شيء يمتزج في كل شيء بما يتجاوز، طاقة الحُلُم.. كأن الجغرافيا (جغرافيا الحُلُم) بوقائعها وأحداثها، تخرج من قلب جلابي.. أقصد من قلب التاريخ، لتُسقِّط نفسها في لحظات، تراصت الى جانب شقيقاتها من لحظات البلاد الكبيرة، لحظات جلابي ودعرّبي، التي لم تعد تعرف الى ماذا تنتمي!..
وهكذا يتحقق الوعي القديم، كظِّلٍ للراهن. يحايث هذا الماضي المعفَّر بالغبار، الراهن الذي تتجاذبه الفصول، وبوح الخمور البلدية في جلابي. بحيث لايصبح ثمة فرق بين سلمى خير الله ولنقي، أو أُم التيمّان ونبتة، أو: ساو، صولمنج، بييه وأدروب وأبكر وجداد أو سولونقْ وسورِّنقْ و عبدّه الخال.. فلا نعد قادرين على التمييز، بين شخوص مملكة عتيقة، غابت طيّ التاريخ، وبلدة معاصرة، بناسها الذين لا يزال بعضهم أحياء، وبحياتها التي سكنتنا، وشكّلّت داخلنا، كل هذه الهواجس والظنونْ، التي دفعت بالأحلام الى وعيِّنا، فتقاذفتنا هذه الأحلام.. هذه الرّغبة المجنونة..
هذه الرّغبة المجنونة لبولدِّين، في تدمير مملكتي شقيقيه، ذاتها رغبة أبو لكيلك الجنجويدي.. رغبته التي تدفعه ليسلك على نحو ما سلك. ذاتها الرغبة التي تحاصر حسن الآن، ليتقمصني وهو يتجوّل (يتصور نفسه حرا) في طرُّقات التاريخ.. وشعاب ممالكه البائدة، مخترقا صوت ود الخزين أو ود الباهي.. (في واقع الأمر سكنّ صوتي الذي تسلل إليه خلسة منهما).. خلسة؟!..
الخلسة هي ذات السلوك، الذي نهضت فيه هذه الممالك، التي يتجوّل في أنحائها.. فقد خرجت للعلّن فجأة كأنها تقارير حقوقية ضد حكومات مستبدّة، كما خرجت من بعد جلابي كتقرير حي، يمشي بين الناس..
 خرجت بعد أن وضعت قواعدها في الظلام الدّامس، الذي حجب بداياتها، وهكذا فاجأت الناس (وهكذا أنهارت). لم يلحظها أحد، بسبب الخفاء (والخلسة) التي ضرّبتها حول نفسها!!..
السؤال هنا: هل كان آدمو عندما فعل ما فعل (يدرك خطورة الخلسة على مشروعه؟) يظن نفسه سولونق (1) الجد المؤسس، الذي هو عبارة عن ظِّل بنقا، مؤسس ساورا، التي أدهشت الأثريين، بتعدد حقّبها، والمرّاحل التي عاشتها، وتقلبت فيها بين الفناء والبعث كطائر الفينيق، اذ تفنى لاروي (السرة) والحلفاء والجوار (المدينة الرِّيفية)، وكل الإمتدادات في الناس والطبيعة، لتنهض (خلسة) كجلابي، محورا تنعكس ظلاله في تلك المرّايا البعيدة، وليكون أيضاً، صدّى لذلك الصوت، الذي يرتّد عن فراغ جدارات كهوف الجبل و"كَراكِيرِهِ"..
أشعر بنوع من الصداع الغرِّيب، وأنا أحاول التغلُّب على الوسنْ. ربما غفوة فحسب، تكفي لقذّفِي الى عالم، أشد إزعاجا مما ارتدت من عوالم حتى الآن، أغالب النوم وأنا "أدعك " جفني بشدّة.. أغالبه.. أغالبه، أصرّخ في نفسي: لا أريد أن أنام.. لا أريد رؤية هذه الاشباح.. أغالبه، يطِّلُ بين الصّحوِّ والنّوم طيف حسن.. صوته.. فأراه يتضخم أكثر فأكثر فيما يرى النائم..
(*)
يتنهد حسن: أنا الآن حزين إلى درجةِ البُكاء. محاصرٌ بصوتِ ود الخزين وود الباهي، المنبعثين من جهاز التسجيل أمامي.. بعد أن وضعتهما الصدفة المحضّة في طرِّيقي، بعد وقت طويل من إمدادي ل(علي)، في غربته البدِّيعة، بكل ما توفر في يدّي عن جلابي ود عرّبي. ولم أكن أُصدق أن ما مددّته به، له بقية، تحمِل أكثر مما حملت، تلك الشذّرات المتفرِّقة.
الآن يتكشف وعيِّي أكثر فأكثر، عن طبيعة ذلك الإهتمام الذي أبداه "علي"، وهو يُلّح في السؤال عن تفاصيل لا تخطر على البال، عن جلابي ود عرّبي.. لم أكن أُقدّر وقتها هذا الإهتمام، وأتمنى الآن لو كان حيّاً.. هل هو ميت؟!..
لأضع بين يديه هذه التسجيلات الصّوتية، التي سجلتها مع ود الخزيّين وود الباهي، بعد أن عادا لجلابي ود عرّبي، مهزومين ومكسورّين. فقد ترتب على إنقسام العرّافين، تداعيات أودّت بهما الى المحاكمة بتهمة الفساد السياسي وجرائم أخرى لا تحصى ولا تعد، لكن المحامين لم يتمكنوا من إثبات شيء يذكر منها، لذا خرجا من السجن بعد فترة وجيزة.. وما أن خرجا من السجن، بعد قضاء مدّة عقوبتهما، حتى لم يجدا لنفسهما ملاذا، سوى جلابي ود عرّبي، التي خرجا منها مسئولين في مؤسسة أبو لكيلك، وعادا إليها كما لحظة خروجهما منها: محض شخصين مغيبين غيابا فاجعا، على الرغم من حضورهما التّام، مثل الشخوص العديدّين الذّين تضّجُ بهم جلابّي..
فمن أين أبدأ الحكي.. هل من ذاكرتي الخاصة أبدأ، أم من ذاكرتّي ود الخزِّين وود الباهي المحملتان بصراعاتهما في الجغرافيا الضيِّقّة، التي يتحرك فيها أبو لكيلك الجنجويدي..
لا أدري أين تكون نقطة البداية الصحيحة. فلطالما تصّوّرت، مثل كثيرين أن المخطوطة السّرّية، أو كتاب دالي: محض وهم من بنات خيال "علي". ولم أتصوّر أنها حقيقية أبداً، حتى إلتقيت ودّالخزّين صدفة في لحظة من لحظات الحنين، التي زرت فيها مدينة الفردوّس. صافحني الرجل بحميمية، عندما عرّفته بنفسي وأخذّني الى ود الباهي، وهكذا أصبحنا "شُلّة أُنس"، تلتقي في المساءات، لتبث حديث الذِّكريات، في جهاز التسجيل، تحاول أن تتماسك به وتعلِّن وجودها، واستمراريتها على قيد الحياة، أو كأنها تؤكد قدّرتها، على أنها لا تزال قادرة على الفعل..
كانت حكاياهما، تستند على ما ورد من معلومات حقيقيّة، في المخطوطّة السّرّية، التي لم يدعاني أراها أبداً، اذ نفيا حصولهما عليها. وكنتُ واثقاً أن لديهما على الأقل نسخة منها، وأن كل ما يسردانه أمام جهاز التسجيل، إنما هو مستقى منها..
كنتُ أشعّرُ بوّدِ الخزّين، عندما يتحدث كأنه لا يخاطبني، أو يخاطب جهاز التسجيل، نعم.. كنتُ أشعّرُ به كأنه يرى آدمو متربعا في الكُرسّي المجاور له، في قاعة إجتماعات ابو لكيلك، وكأن حديثه موجّه إليه هو وحده.. وكنتُ أرى في ذات المقعد. ، أحيانا. ، شخص"علي"جالسا، ورأسه منكساً كعلم القصر الجمهوري، يستمّع لتداعيات ودّ الخزّين في صمت مطبق، وكثيرا ما أختلط لدىّ الشخوص المتعاقبين بين آدمو وعلي.. حتى ظنّنت أن هذا الإرتباك والتشوّيش هو من فعل درجات الصّوت المتغيرة في حنجُّرُة ود الخزّين. اذ أن وّد الباهي عندما يتحدث يجعلني أشعُرُ بأنه لا وجود لشخص إسمه آدمو، أو علي البتة بيننا.. فقط زجاجة النبيذ الاحمر المغشوش و كؤوس الويسكي red labale وجهاز التسجيل..
غاص ودّ الخزّين بذّاكرته، بعيدا، بعيدا. إالى تلك اللحظة التي تجلّى فيها آدمو، فاستحال الى محض ذاكرّة، مكثّفة للأرض والإنسان، والتاريخ والأشياء..
من أعماق صوت ود الخزّين، انسحب الأهالي، خلف جند المملكة المنهك، وهم يحملون على ظهور الإبل وظهورهم ما أستطاعوه.. انسحب الأهالي من كل شبرٍ من أرض الوادي، أو موطيء قدم في كهوف الجبال، حيث خلّفوا ذكرياتهم التليدّة..
في هذا الوادي أنشأ الأسلاف مملكتهم المجيدة، التي أستقطبت الأصدقاء والأعداء، لوقتٍ طويل. في الأرض والطبيعة أنتسجت حياة النّاس.. في رمال هذا الوادي، وعروق الجبل، توحد مصيرهم لوقت طويل، طويل..
عاشوا غربتهم في غربة الوادي. وتآلفوا في أُلفة جبل الكبش العظيم. ظلّت حياتهم تأخذ معناها من الجبل، والجبل يأخذ قيمته من هذه الحياة المتجدِّدّة. بمغامراتهما معا. وأحلامهما التوسعية التي لم تتحقق أبدا. فبقيت كملحمة مكبوتة طّيّ الذّاكرة والنسيان..
في هذا الوادي ولّدت عدّة أجيال. في كهوف جباله تعاصرت أجيال أخرى. وخرج كل هؤلاء واؤلئك، ليودعونهم في اللحظة الرّاهنة. وهم يغادرونه الى الأبد!..
منذ أختلفت العشيرة المالكة على المُلك، بعد أن دهمهم الوباء الذي طحن المملكة، وأُصيب آري جراءه، حتى أنشغل أبناؤه الثلاثة، بإقتسام السلطة، فعمّ السّلب والنهب، وأنفرط عقد الأمن، لتلتهم الفوضى كل شيء!..
منذّها غادر تاريخ الوادي حياة إنسانه.. هدأت العشيرة المنهكة، وألتفت حول إنقساماتها الثلاث.
الهزّات التي أصابتهم بها الصراعات على سلطة الملك، تجلّت في إنفعالاتهم، وقراراتهم ومصائرهم.
قالت والدة الإبن الأكبر دودو:
-    أنت أحق بالعرش من أخويك..
قالت والدة الإبن الأصغر سوني:
-    أدّر أنت الجيش وأترك لأخويك أمر المملكة.
وقالت والدة الإبن الأوسط بنقا:
-    أسمعني جيدا. لقد أوصى لك أبيك آري (2)العظيم بعرشه. فلا تخذّله مهما يكُّن من أمر. فلم يوص لك به عبثاً..
إنسحبوا بإنقساماتهم الثلاث، يَيِمّمون وجهات الشرق، والوسط والشمال. ينطّوّون على أحزانٍ شتىّ، وذّكرياتهم.. كل ذّكرياتهم تتنآى عنهم، وتتلاشى في فراغ الذّاكرة الفسيح..
تجمعت أقسام مملكة الجبل والوادي الثلاث، في السهل الممتد. تجمعت كجيوش تنسحب من معركة خاسرة.. تقدّم بنقا:
-    تناحرنا فيما بيننا، ولم نحقق وصية آري العظيم.. لم نحقق أحلامنا، ولم ننجز شيئا، والآن لم يبق أمامنا سوى أن نفترق، ونتفرّق في هذه الأرض، ليحاوّل كلٌ منا البدءِ من جديد.
-    ما مضّى، مضّى.. لم تعد ثمّة جدوى من إلقاء اللّوّم على أحد. أنا سأيمّم وجهي شّطر البحر.
أضاف سوني:
-    سأمضي باتجاه الرّيح، لأُشيد مملكة أُخرى.
وشخصا بعيونهما في وجه دودو، الذّي أبتسم في خبث، دون أن ينبث ببنت شفّة. ثم أشار لرجاله والأهالي الذين خلفه، ومضي في طريق الصحراء..
تركهما خلفه يكفكفان ذكرياتاً لن تفارقهما أبداً، ذكريات بعضها يعود الى الطفولة الباكرة..
تنهد حسن: " كان دودو كأبو لكيلك الجنجويدي. كلما رأى شيئا جميلا بيد أحد شقيقيه، سارع لإنتزاعه.. يضرّبهما دونما سبب واضح. يلهو معهما، عندما يرغب هو بذلك. يفسد عليهما ضحكاتهما العذّبّة عندما يشاء، فيعكِّر صفو الذّاكِّرة، التي نشطت في اختزان التفاصيل المقيمّة والعابرة، ودفقة الإحساس لحظتها.
فشلت كل أساليب التنشئة الملكية، مع دودو المغرّم بعراك الصبية، وأغتيال الحيوانات الأليفة، دونما حاجة لذلك أو مبرر..
عندما كبِّرَ دودو قليلاً، أخذ ينتزع أراضي الفلاحين، ويزداد جبروتاً على جبروته بمرور الوقت.
فاض كيل النّاس بدودو. فأخبروا آري، الذي قام ب" تبخيره بالشطّة" وربطه عاريا على شجرة قمبيل، أسفل الوادي. في أوجِّ البرد، وأعتقد أن ذلك سيكون درساً قاسياً.
كأن بخوّر الشطّة، وزمهرير البرد أطلقا شياطين الجحيم في دماء دودو.. إذ صار يدخل بيوت المزارعين في أطراف المملكة عُنّوّة.. يختطِّف بناتهم ويهرب بهنّ، الى الفيافي التي يعرّفُ كلُ شبرٍ منها. يجدّون في البحث عنه، يقودهم شقيقيه، وبعد بحث مضّنٍ يجدون الفتيات منهكات ومنتهكات، وملوّثات بالدّم، وعلى أجسادهن القروح النيئة، ولا أثر لدودو.. كأنه ذرّة غبار تلاشت في رمال الوادي..
نفاه السلطان الى أرضٍ بعيدة على حدود المملكة، يحكمها أحد ملوكه الأشداء، الذي خصص لحراسته العبيد القساة والجواري الصُّم!..
توسطّت أُمه. توسطّت شقيقته الوحيدة لاروي الحبيبة. توسطّت العشِّيرّة الملكية: قاصيها ودانيها. توّسط الجميع، ولم يتراجع آري عن قراره أبداً.
كان متعجباً من هذا الإبن الغرّيب!!..
عندما غادر دودو. ، لم يكن مسموحاً لأحد بزيارته في منفاه، سوى شقيقته، التي يحبها كضياء عينيه. ووالدته "إياكوري"(3) الحقوّدة.. التي كانت عندما ترى ذلك البرّيق في عينيه، وهو ينظر الى شقيقته لاروي(البرّيق ذاته الذي رأته في عيني آري قبل أن يتزوجها) تخشى عليهما إغتراف الفعل الشنيع، الذي يحرِّمه عليهما دمهما الواحد.. البريق اللعين ذاته تراه في عيني دودو وهو يحلّق حالما في وجه لاروي وجسدها.. ذات البرِّيق تراه في عيني لاروي، وهي تتفحص بنظراتها الحالمة، جسد دودو الفارع، مفتول العضلات!..
تحادث إياكوري دودو، فيطمئنها. تحادث لاروي، فتهديء بالها.. وحالما تخرج من منفىّ ولدها، تتجوّل مع العبيد والخصيان، في أرجاء المنفىّ المنبسط، حتى ترتمي لاروي على أحضان دودو..
الآن دودو يريد أن يبني مملكته الخاصّة، في هذا الشعب الذي حلّ به.. .
كان كل شيء في الجوار يبدو غريبا عليه. فشعب الجوار ليس كشعبه، الذي تفرق في السباسب والوّهاد، عاريا إلا من "الكنافس" الكتانية، التي تلّفها النساء حول الخصُور والعجيزات والفخذّين، والمآذر التي يلِّفها الرجال حول أصلابهم..
نساء الجوار كُنّ يسدلنّ على صدورهن أغطية شفافة، من القطن، تتدلى من العنق لتصّل الخصر، تلامس كنافيس القطن الناعمة. بينما يكتفي الرّجال بلّفِّ أصلابهم، وحزم بطونهم..
كان شعب الجوار هادئا في طباعه، ليس مثلهم هم: ساكني الكهوف والحجرات المنحوتة في الجبل.. الأكواخ التي يسكنها شعب الجوار، من القصّب وفروع الأشجار على قاعدة الحجر والطين اللّبِن، كانت هذه الأكواخ مبنية في نظام دقيق. مدهش، لم تقع عليه عينهم من قبل !..
-    انه شعب متفوِّق علينا.. هنا سأحقق أحلامي.. سأبني مجداً، لم يتصوّره آري أبداً،
قال دودو لأفراد عشيرته، الذين ترددوا:
-    لكنهم يعبدون القِّط!..
فرد عليهم بحسم:
-    دينهم هو ما ترونه من نظام.
حسم آري دودو الأمر، وبدأ يُشيِّد، بمساعدة الأهالي مملكته العُظمى، بعد ان سوى امورِّه مع هذا الشعب الجديد..
وقتها كان بنقا قد استقرّ في وادِ فسيح، بعد مسيرة أيام طوال في درب الأربعين. وادِ جدد فيه الذكرى، والشجن والحنين لمملكة الجبل والوادي. التي تركها خلفه، وبدأ مع رجاله يعملون بجد، يشيدون نواة مملكتهم الجديدة..
-    ماذا نسميها؟..
-    ساورا.. سنشِّيدها للأجيال، إرثاً ليس كمثله إرثْ.
أضاف أحد الرّجال:
-    أحد الغرباء يقول أن دودو حطّ رِّحاله، على مسيرةعدة ليال ونهارمن ساورا..
-    انها مملكة الجوار التي يحلم بها.
-     ماذا تعني؟!..
-    لا شيء، لننهي ما بدأناه من عمل في أقصّر وقت.
كان دودو قد تسبب في كل ما حلّ بهم، برفضه لوصية آري. إذ أوغرّ بعد موته الصدور، وأشرّع أبواب المملكة على مصاريعها للغرباء. واعتقد أن الوباء الذي تسبب في موت آري، وأخذ ينتشر إنتشار النار في الهشِّيم، سيجعلهم يتخلّون عن وصيّة آري، وينصِّبونه آري مكانه.. قال آري وهو في النزع الآخير:
-    ستكون يا بنقا خلّفي، وستترأس أنت الجيوش يا سوني..
-     وأنا يا أبي؟!..
قال دودو فقطّب آري حاجبيه:
-    أنت ولدي الاكبر، لكنك لم تقُم بواجب الإبن الأكبر أبدا، تخلّيت عن بكوريتك و ظللت كالبعير الشرّود. فلا يحق لك أن ترِّث في مُلكي..
اتسع نطاق انتشار الوباء، الذي ظلّ يحصِّد في طرِّيقه الأرواح، كما يحصِّد المزارعون قناديل العِّيش. قال الكهنة:
-    انتشار الوباء وموت آري من علامات الزّمان!!..
نشِّط دودو وعشيرة أُمه، يعبئون رجال المملكة وأهلها، مستعينين بالنساء الملكيّات، في دسائسهم ومؤامراتهم.
تفرّقت الكلمة، وعمّت الفوضى، فاجتمع الأُخوّة الثلاث بالكهنة والشيوخ، الذين أكدوا:
-    لابد من تنفيذ وصيّة آري.
-     لكنها خرّقت العُرّف!..
قال دودو وتبعه سوني:
-    مثلما يحق لبنقا تولِّي العرش، يحق لي ذلك أيضاً.. لكنني سأكتفي بأن أكون عامله على الجيوش. إذا تنحى دودو عن المطالبة، بالحق في العرش.
ولم يفلح الكهنة والشيوخ في اقناعهم. فانقسمت المملكة الى ثلاثة أحلاف. كل إبن من الأبناء الثلاثة، تسنده أُمه وعشيرتها وبعض الأهالي..
في الطفولة البعيدة كان دودو يحكي أحلامه التوسعية العظيمة:
-    عندما أُصبح آري سأستولى على مملكة الجوار.. .
-    لماذا تستولى عليها؟!..
يقول سوني، فيرد دودو:
-    هناك الرّجال والخصب والعمارة..
-    لكن ذلك كله لا يعني شيئا في غياب العدل. هل أنت عادل؟!..
-    لا ليس العدل هو المطلوب..
-    ماذا تعني؟!..
-    أعني أن المطلوب هو الهيمنة..
انسحب بنقا من خواطره الكثيفة على صوت أحد الرّجال:
-    وضع سوني نواة مملكته عند منحنى البحر.
-    انها أرض مكتظة بالممالك الصغيرة. لن يتركوه..
منذ أن حطّ سوني رحاله على شطِّ البحر، أدرك أن الممالك التي جاورها، لن تدعه يهنأ بهذا المكان، الذي أختاره بعناية، لإقامة مملكته الجديدة. فحرِّص على زيارتها واحدة تلو الأُخرى.. جلس الى ملوكها وأكد لهم:
-    نحن إنما قوم نزحنا نبحث عن وطن، بعد أن قضى الوباء على مملكتنا.
-    ستكونون تحت إمرتنا.
-    أنتم أصحاب الأرض، ونحن لا نريد سوى الحياة في سلام.
كان سوني قد أدرك تماماً، أنهم لن يتركوه وشأنه. وأنه لن يستطيع إحتمالهم طويلاً. لكنه ظل يسارع الى تلبية طلباتهم المتكررّة، والمستمرّة دون توقف. واجتهد في تهدئة خواطر عشيرته، حتى لا يفلِّت زمام الأُمور، وهم في هذا الحال من الضّعف..
-    يجب أن نكمل بناء هذه المملكة اولا ً، وعندما تقوىّ شوكتنا، يمكننا أن نستعد للحرب، لتثبيت حقنا واستقلالنا عمن جاورنا، وسلطتنا عليهم إن تمكنّا من ذلك..
استقرّت مملكة سوني ونمّت وازدّهرّت بكفاح شعبها، وتجمع جيشها ليخوض أولى الحروب التي تقرر مصيره. ، بشكل نهائي وحاسم. لم يخال أحد أن هذه الحرب القاسية ستنتهي يوما.
وضعت الحرب أوزارها، بانتصار سوني على آخر مملكة. ، تبقت من الممالك الصغيرة حوله. كان قد ضمها اليه وعيّن على كل واحدة منها، ملكاً من أقوى عشائرها، حاكماً من قبله، وتحت سلطانه.
أصبح آري سوني مهاباً ومطاعاً.. وهكذا نهضت مملكة الحلفاء، من غياهب تاريخ مزّقته المحن والعداوات والتآمر.
قال ود الباهي:
-    اذا كانت الجبال (كما قال آدمو) قد وفرّت الملجأ الضروري، لمملكة الجبل والوادي، فإنها أيضاً قد حجبت بداياتها..
أكد ود الخزِّين وهو يواصل ما أنقطع من حدِّيث، بعد أن قلب حسن شريط الكاسيت على الوجه الثاني..
.. مرّت عشرات السنوات، بل المئات منها، وربما عدّة قرون (كما يزعم آدمو عندما تنتابه نزعات تطرّفه الخاصة جداً).. مرّت هذه الفترة الطويلة من ذكرى الأسلاف الكبار: سوني وبنقا و دودو.. الذين أصبحت ذكراهم أصداء متلاشيّة، لماضٍ عميق الغّور!..
مرّت مئات السنوات الأُخرى، لتندثر ذكراهم تماما، فلا تنبعث الا في الكشف الأثرِّي بجلابي ودعرّبي..
هذا الكشف الذي أستقت منه المخطوطة السرّيّة، تفسيراتها لوقائع ما يجري. الجذور التاريخيّة، التي تنهض فيها هذه الوقائع والأحداث.
هذه الأحداث التي يعود نموذجها، لا في ذكرى الأسلاف الأوائل فحسب، بل في مرحلة لاحقة.. في ذكرى الكيرا (كما عرِّفها آدمو)، التي نهضت بأسرتها، من جذور هؤلاء الأسلاف الكبار.
وأصبحت ذكرى الكيرا نفسها، كأصداء متلاشيّة لأُسرّة ملكيّة، نهضت في الغرّبة والترحّال..
ضربت بجذورها عميقا، في أرض الوادي، وشيئا فشيئا توسعت المملكة، خلال التحركات الملكيّة، وبسطت سلطانها من الصحراء الليبية، حتى حدود النيل. يقودها الأب المؤسس لهذه المرحلة، والفاتح العظيم سولونق. قبل ذلك بوقتٍ طويل، في فجر التاريخ، كان سوني قد شيّد قصرِّه، على غرار قصوِّر أسلافه.. قصراً مهيبا، بقاعدته الواسعة، وحجراته المتداخلة في بعضها، وأبهاءه العديدة التي جلب لها المثّالين، والبنائين من الممالك المجاورّة. شيدوها بإحساساتهم الجياشة، ونحتوا فيها النقوش التي تصّوِّر، الايام الآخيرة لمملكة الجبل والوادي، وآري في النزع الآخير، وقد إلتف حوله أبناؤه الثلاثة. نحتوا تاريخ المملكة بمحبة وود شدِّيدين، كانهم ينحتون تاريخ محبوباتهم!..
كان سوني طموحا، يتطلع لإعادة بناء مجدٍ مفقود، كضياء النجم الغارِّب. جلس الى حلفاءه، الذين أستهل أحدهم الحدِّيث:
-    لقد شيّدت مملكة عظيمة، ولسوف تزداد عظمتها كلما مضت الأيام، والسنون..
-    تذّكروا دائما أنها ليست مملكة سوني وحده، فهي مملكتنا جميعا. فدونكم لما استطاع سوني فعل شيء وحده.
استحسن ملوك الحواضر كلامه، فاندفع أحدهم قائلا:
-    كلنا فداء لك أيها السلطان العظيم، آري سوني.
صفق سوني بيديه ونهض قائلا:
-    أعدوا مجلس الخمر والطعام..
أسرع العبيد والخصِّيان الى القاعة المجاورة. نهض خلفه ملوك الحواضر. كانت رائحة الطعام الشّهي، ونكهة الخمر المغرّيّة تضوّعان، في فضاء القاعة السابحة في العطر البّرّي..
تفرّق مجلس سوني، بعد أن تداول أحوال المملكة وهموم شعبها، وتوسيع تجارتها، وزيادة رحلات القوافل وتدريب الجيش..
 وقتها في مملكة ساورا، كان بنقا قد جمع رجاله، وقسم بينهم الحواضر و(الشرتايات)(4) والمقاطعات و(الدماليج)(5)..
تفحص رجاله مراراً وتكراراً، واحداً تلو الآخر..
-    ستكون أنت ملكاً للحراب، وأنت للسيوف، وأنت للمدى ّ التي تُرمى، وسيكون ثلاثتكم مسئول عن حاضرتين. أُريد منكم، أن تحكموا كما كان الحال في مملكة الجبل والوادي.. مملكتنا العظيمة التي قضى عليها الوباء..
ثم أطرّق بنقا قليلا، قبل أن يُضيف:
-    وأنت ستكون ملكا للحصاد، وأنت للقوافل، والجبايات..
-    أمرك آري.. لكن ملك العبيد والخصيان..
-    أعلم ما تُريد قولّه. هو أيضا ملكا للقضاة.
-    سنكون طوع أمرك آري العظيم.
-    تذكروا أن الجيش مسئوليتكم جميعا، وأنكم أنتم المملكة..
عندما أنهى دودو في مملكة ِ الجوار تشييده لقصره، شرع في احتفالات التنصّيب، مقرونة، باحتفال زواجه من شقيقته لاروي..
استمرّت احتفالات المناسبتين السعيدتين لأيام. جعلت الناس متنازعين، بين مشاعر متناهضة بين الفرّح والحُزن، والإحساس بالخطيئة. وما أن علِم دودو بمعارضة بعض أفراد العشيرة الملكيّة، لهذا الزّواج الذي خرّق العُرف، ولم يجرؤ أحدهم على قول ذلك، مباشرة لآري دودو، حتى أختفى هؤلاء المعارضين، في ظروف غامضة، دون أن يُعثر لهم على أثر بعد ذلك أبداً..
جلس دودو وزوجته الصغيرّة الجميلة (إياباسي)(6) لاروي، في قلب المخدّع الملكي الوثير، الواسع.. قالت لاروي:
-    يكفينا أن نخرُق العُرف مرةً واحدة.
-    وما جدوى كل ما فعلناه؟!..
مرّت عشرات السنوات، على ذكرى الأسلاف الكبار: سوني، بنقا ودودو. فحكم شاو من سلالة سوني مملكة الحلفاء. وحكم حفيد بنقا دورشِّيت ساورا الجميلة، ومن سلالة دودو ولاروي جاء بولدِّين..
عندما نهض بولدِّين من مخدّعه، كانت إياكوري زوجته، لا تزال تغطُّ في نوم عميق، تمعن جسمها الممتليء تسبقه أصابعه المتشهيّة. كان جسمها يكاد يتدفق من السرِّير الوثير. سحب عليه الغطاء وخرج. ولج على الكهنة والشيوخ حجرة عملهم الواسعة:
-    أنتم تعرفون أنني مغرّم بأسرار الجسد، أريدكم أن تكشفوا لي عن هذه الأسرار، لا تدعوا حيواناً دون أن تشرِّحوّه. أريد معرِّفة كل وظائف جسمه:
ومضى يجلس على (الكّكّر)(7)، بعد أن طلب العبد العملاق نمرود:
-    أنت جديد في خدمتي. سأُجربك بأول مهمة. اذا نجحت لك مني كل ما تحلم به، واذا فشلت فلن تستطيع تصّور مدى بشاعة الميتة التي أُعدّها لك..
-    .. .. .. .. .
-    ستمضي أنت وعجوبة الى مملكة الحلفاء.. عجوبة تعرف كل شيء..
عندما وصل النمرود بعجوبة الى مملكة الحُلفاء، وضعا رحلهما، ريثما يُهيء لها النمرود مكاناً بقلب الحاضرّة، بين الفواشر والقصر الملكِّي..
كبرقٍ يخلخِّل كيميائهم، فوجيء أهالي الحاضرّة، بالجمال المذهل لعجوبة. هذا الجمال الذي أنتزع عيونهم من محاجرها، وقلّب حاضرتهم رأسا على عقب. أُصيب البعض بالجذب، وغرق آخرين في الشعر والغناء، حتى ماتوا ولهاً وصبابة.. حتى أن الكهنة أرتبكوا وشعروا بإحساسات لم يسبق لهم الشعور بها!.. كان جمال عجوبة. ، شيء من ذلك النّوع العجيب من الجمال الشرِّير!..
تسآل قادة الجيش الذين قهرّهم دلالها، وداعبت ملوك الحواضر. ، أحلام جعلتهم في بللٍ مستمرْ. فسأل الملك عن سر هذا الاسم، الذي يتردد في الأُغنيات، والأشعار بل و متسربا أغان الحصّاد، وتجليد النحاس وعيد الجلوس على الككر، وشعائر الرجولة وذكرى الحلف المقدّس، وأُغنيات الحداد الجنائزي على مملكة الجبل والوادي، وموت آري بالوباء الغامض!عجوبة؟ يا له من إسم!..
تسآل آري شاو وآثر السلامة. رفض رؤية عجوبة، عندما رغب ملك العيون أن يأتي بها إليه.. تسآل الشرتايات والدماليج، وأخذوا يتسلّلون خفيّة، من خلف ظهور ملوك الحواضر، و(الكامني)(8) ليمتعون أبصارهم برؤيةِ عجوبة، ويمضون وقتهم الموتّور في مصِّ الشفاه اليابسة. ، على ضوءِ نار الحطّب، التي تتوّسط ساحات بلداتهم، وقراهم، وهم يتسامرون مع الأهالي الذين لا يُصدّقون ما يسمعون..
-    كيف لم تبق ِ بوجدان الرِّجال شيئا لآخريات؟!..
-    أنه ما يحدث لكل من يراها يا خَيّ..
أصبح مجلس عجوبة، عامراً بكبار القوم، الذين يتقربون ُزُلفى، ويتزلفون دون حياء..
كانت النيران قد اشتعلت في قلوبهم، وهاجهم الوجد. ، وقضّ مضاجعهم الإشتياق، الذي أقلق منامهم برِّيح الصّبا، التي تجيء من الحكايات البعيدة، خلف" بحر مالِحْ "..
قال النّمرود:
-    لن يلبثوا أن ينقضوا عليك عجوبة، فلن يحتملوا أكثر مما أحتملوا من إغواء.. أرى ذلك في عيونهم..
-    وماذا ترى؟..
-    يكفي ما أثِّرناه فيهم.. لقد وضعنا أساس الخلّل.. يجب أن نهرب، لتأتِ هند ودعد، تنجزان ما تبقى من المهمة..
-    أنسيت تهديد آري؟!..
-    فعلنا ما هو أكثر من المطلوب..
ومثلما جاء بها النّمرود فجأة.. فوجدها النّاس بينهم على حين غرّة، ودون سابق إنذار، اختفى بها فجأة، فأصبح النّاس، وكأن عجوبة لم تكُن بينهم قبل ليلة واحدة!!..
اختفت عجوبة مخلفةً وراءها الحكايّا الأُسطوريّة. ، والأشواق العارمة، وأقسم قادة الجيش وملوك الحواضر، بأنهم سيفترسونها دون إبطاء لو وقعت أعينّهم عليها مرة أُخرى..
كان النّمرود العملاق الصغّير. ، عبدها، الذي أهداه اياها إبن عمها الملك الشرّيف إبن الفضل العباسي، فأخذت تصطحبه معها منذ الصِّغر. يقف بعيدا يحرِّسها ورفيقاتها، وهنّ يلعبن في الوادي المفضي، الى جبال البحر، الى أن دهمتهم وهم في سحابة نزهتهم رِّيح عاصف.. فأسرّع النّمرود يمسك بيد عجوبة، ومضى يخبئها وشقيقتيها ورفيقاتها، في مغّارّة. ، أسفل تل صّخري محاصر بجرف الوادي.
إمتلأت بهم المغّارّة، التي ضاعف ظلام العاصفة من وحشتها. ، لم يترك النّمرود يد عجوبة أبداً.. تسآلت وهي تسحب يدها من يده في عنف:
-    أين سأجلس في هذا الضّيق؟!..
مدّ النمرود يده يتحسس جسدها، الذي يقف فوقه، وجذبها الى حِجرِّه. وهو يقول:
-    ها هنا ستجلِسين.
مانعت عجوبة قليلاً، ثم أستكانت كقطة أليفة، بعد تملمُل عنيد، أشتدّت العاصفة، وبدأت السماء ترعد، انكمشت في حجرِّه.. .
شيئا فشيئا نفى جسمها إحساسها بغربّة حجر النمرود عنها..
هدأت العاصفة، وتحوّل الجوّ، الى برودة ثلجيّة صاقعة. غاصت عجوبة في أحضان النمرود.. أشتد الرّعد، فتوغل النمرود..
كانت السماء تمطِّر والبرق يلمع والرّعد يصُّم الآذان..
تنهد ود الخزِّين وحاول أن يُكمل، فقاطعه صوت ود الباهي:
-    ما فعلته عجوبة بالناس لا ينمحي، من ذاكرّة التاريخ..
-    أيُّ تاريخ، وأيُّ ذاكرة؟!.. التاريخ الرّسمي؟!..
خرج صوت شاو متحشرجا من أعماق حُنجرّة ود الباهي، وهو يخاطب خصِّيه الأول:
-    سمعت بجارِّية بديعة، بهرّت النّاس؟..
-    إنها أمرأة ظهرّت فجأة. أشعلت النيران وأختفت.
-    كيف أختفت؟..
-    لا ندري.. كل ما حدث أننا اكتشفنا فجأة أنها لم تعد موجودة..
-    دون سبب؟!.. لابد أنكم لاحقتموها جميعكم، وهي مجرّد إمرأة ووحيدة.. أخبرني ملك العيون..
انصرف الخصِّي الأول متعجبا من أطوار شاو الغريبة، بينما دخل (كتركوا)(9)، على مجلس دورشِّيت في ساورا البديعة:
-    أحد التجار جاء بجاريتين لم نرْ من هنّ، في مثل جمالهنّ البديع من قبل!!..
 رد عليه ملك القوافل:
-    أعتن بهما ثم أحضرهما بعد ذلك الى آري العظيم..
التفت آري الى ملك الخيول:
-    هل تمّ عدد سائسي الخيل؟..
-    نعم آري العظيم. وأشترينا المزيد من الجياد الاصيلة..
-    فرساننا أشداء. يستحقون جياداً كريمة. اخبر ملك القوافل بأن يأتيك بالمزيد. أُريد جيشا لا يُقهر..
-    لسنا بحاجة لمثل كل هذه الاعدادات آري.
-    أنا من يُحدد ما نحتاجه وما لا نحتاجه، فلا تنس ذلك مرةً أُخرى.
أخيراً خرج (الأُورنانق)(10) عن صمته:
-    يجب أن نكون أقوياء.
خيّم صمت عميق غلى قصر بولدِّين، الذي كان لحظتها جالسا على عرشه، وأمامه تلمع ثمانية عيون ببرِّيق عجيب، بين الشرّاهة و الأحلام المحلِّقة. قلّب بولدِّين عينيه متفحصاً المشاعر، التي تبوح بها العيون الثمانية المتغوِّرَّة، في الصّمت العميق الذي لَفّ المجلس. زفرّ بعمق:
-    إذ تدركون تلك الحكاية. كيف تفرّق شعبنا الواحد، وأنقسم الى ثلاثة شعوب منذ عشرات السنين. لقد أورثنا الجد الأكبر دودو وخلفاءه مهمّة صعبة. مهمّة توحيد شعبنا مرةً أُخرى.
قالت ماريانا:
-    أنجزّت عجوبة جزءً من المهمّة..
-    لكنها لم تشعل النّار في قلب آري شاو..
قال عبد اللّه الجُرهمي، فأضافت ماريانا:
-    أين عجوبة الآن؟!..
ردّ الجُرهمي:
-    بصُحبة إبنتيها الكنداكة وسابا. إذ لم ترهما منذ وقت طويل..
فتسآلت ماريانا بضيق:
-    لماذا لا نقنّع ساورا والحلفاء بمهمّة آري؟..
خرج آري بولدِّين عن صمته:
-    لقد فاوضتهم كما فاوض أجدادي أجدادهم.. الذين يأخذون على الجَدِّ الأكبر دودو ما حلّ بهم من فرقة وشتات، ويقولون أن شعبيهما لم يعودا ذات الشعبين، الذين رحلا من مملكة الجبل والوادي. يقولان أنهما شعبان مختلفان مثلنا.. اختلطوا بالنّاس الذين وجدوهم والذين جاءوا إليهم..
تحدث فوك الذي كان صامتا منذ جلسوا الى آري بولدِّين:
-    ليس أمامنا الآن سوى الحرب.
-    لا، الحرب هي المرحلة الآخيرة، فهما مملكتان قويتان.. ربما أقوى منا.. .
تسآلت العيون كلها، فأجاب آري بولدِّين بابتسامة خبيثة:
-    أنت ماريانا. و.. فوك، ستذهبان معاً الى ساورا. ستشغلِّين أنت آري دورشِّيت، وتصرفينه عن هموم القصر والناس. وأنت فوك عليك بتغيير مزاج الناس وإهتماماتهم. هناك آخرين كُثُر سيساعدونكم. بعضهم تعرفونهم (ربما) وبعضهم لا تعرفونهم..
ثم ألتفت آري ناحية عبد اللّه الجُرهُمي:
-    وأنت منذ الآن أيها الجرهمي، محض تاجر يسرِّي عليك اسم التاجر، أكثر من أي شيء آخر.. تتنقل بين الحواضر الثلاث بقافلتك، تنقل أخبار العيون الينا وأوامرنا اليهم..
-    أود أن..
-    أفهمك. سترحل عجوبة الى الحلفاء، ولن تعود مرةً أُخرى إلا بعد إنجاز المهمة كاملة..
-    ابنتيها صغيرتين بعد، وقد أثر غيابها فيهما.
-    ستحملهما معها هذه المرّة..
لم يستطع عبد اللّه الجرهمي النُطق ببنتِ شفة. انفضّ المجلس، وما أن ابتعد الجرهمي حتى أوقفه صوت هند. انتحت به وهمست في أُذنه:
-    انجِ بنفسك.. عجوبة ستقتلك..
-    ماذا تقولين؟!..
-    انها تخدعك.. تخونك مع العبد النّمرود.
 وحكت له الحكاية.. منذ تلك اللحظة العاصِّفة في المغارّة، التي بسفح التّل الصّخري عند جرف الوادي، حتى لحظة هربهم. وجاءت دعد لتؤكد له الحكاية:
-    أنت ابن عمنا مهماً يكُن من أمر، ولا نريد لك الموت، بسبب عاهرة أسلمت قيادها لعبد..
-    سأقتلها..
-    سيقتلك آري بولدِّين، ولن يُصدِّق إفادتك عنهما، وحتى لو صدّق الأمر لا يهمه لذا سيقتلك فهو يعتمِّد عليها في تحقيق حُلمُه بضّم مملكة الحلفاء وساورا.. والرأي عنّدي أن تهرب ببنتيك.. .
-    كيف وهي لا تفارقهما؟!..
-    سنساعدك في ذلك..
كان الجرهمي مجروحا ومخترقاً الى أقصى حد.. .
أخذ شاو يحكِّي عن الجد الأكبر سوني وهو يُشيد مملكته، من عذابات الرّحيل، وأسى الغربة والفرقة والشتات، لتترابط وتتوحد وتقوى بوجه الأعداء..
-    لقد أورثنا سوني العظيم مملكة عظيمة علينا أن نحافظ عليها..
قال شاو. ففهم الحلفاء ما يرمي اليه، فالبلبلة التي أشاعتها عجوبة في صفوفهم، كانت محور مجالسه. نظروا الى بعضهم البعض. وأطرقوا رؤوسهم. قال أحدهم:
-    سيظل حلفنا خالداً أبد الّدّهر..
قال شاو:
-    إنما جمعتكم الليلة لتجديد الحلف.
فتدخل آخر:
-    لدي أمر كنت أود أن اطرحه.
-    .. .. .. .. .
-    نحن حلفاء لساورا منذ كوّن الأجداد هذه المملكة العظيمة. وساورا يفصل بيننا وبينها مملكة الجوّار، وهي مملكة لا تقل عظمة عن ساورا.
أطرق شاو حفيد الجد الاكبر سوني قليلا ثم أجاب:
-    ربما حكى لكم أجدادكم عن الجوّار. فهي المملكة التي اسسها دودو. ، شقيق جدّنا الأكبر.. ودودو وخلفاءه لا يتحالفون مع أحد مثلنا. فهم دائما يطمعون فيما بيد غيرّهم.
أضاف أحدهم:
-    أغلق دودو أبواب العشيرة الملكيّة دون الإختلاط بشعب الجوار. وظلوا يستولدون في هذه العشيرّة المنهكة.. .
أكد السلطان:
-    تزوّج دودو من شقيقته الوحيدة لاروي، ومنهما تحدرّت هذه العشيرّة الملعونّة، التي ظلّت تحكم الجوّار..
-    أنهم ليسوا أهلا للثقة..
-    ويعبدون القِّط.
-    رغم انغلاقهم على أنفسهم، غلب عليهم دين الشعب، الذي وجدوه في الجوار وحكموه.. بعد أن تركوا عبادة الكبش المقدس..
(*)
استقبلت ساورا يومها المعتاد بنشاط النحل وهمته. دلفت إياكوري الى مخدعها، لتجد آري لا يزال يغط في نوم عميق. جلست تنتظره لوقت طويل، إلى أن فتح عينيه بتثاقل، فابتسمت في وجهه:
-    هكذا أنت دائما..
جذبها إلى أحضانه:
-    ومن الذي جعلني هكذا؟!..
دخل عليها كتركوا:
-    هيأت لك الحمام آري..
نهض آري وهو يقول:
-    هيء إياكوري أيضا ريثما أُحضر الحمام.
فهتفت به:
-    ليس الآن.. ليس الآن.. .
ابتعدت خطوات آري، فقالت إياكوري تخاطب كتِركوا:
-    ما هي أخبار المحظيات.. محظيات آري.. وجواريه؟..
-    أنت تعرفين كل شيء اكثر مني!..
-    أجب فقط.
-    أنه يقضي أكثر لياليه معك. لا تستطيع أيُّ جاريّة أن تأخذه منك..
ابتسمت إياكوري في اطمئنان وصرفته:
(*)
حمل بولدين مولوده الصغير من إياباسي. تمعن وجهه "سيكون لك شأن عظيم، كجدّك دودو بني.. ".. وضع المولود برفق على صدر أمه، التي ابتسمت في عذّوبة، وأغمضت عينيها في دِّعة واطمئنان.
خرج بولدِّين – عبر ممراً طويلاً. وقف في نهايته ودخل واحدة من الحجرات، استقبلته هند بالأحضان:
-    غبت عني، حتى قلت أنك نسيتني..
-    لقد انشغلت بولادة الصغير.
-    إياباسي تنسيك كل شيء.
ردّ في غضب:
-    أنت تعلمين أنني لا أُحب أن يتحدث عنها أحد..
-    إنني أُحبك..
-    بل تخافين منِّي..
حدقت هندْ في عمق عينيه، وانسحبت الى ذكرّى بعيدة.. ليلة هربت وشقيقتها دعدْ مع أُختهما عجوبة، وخطيبها عبد اللّه الجرهمي..
كان الرُّعب يقود خطواتهم. ، ويقفز بقلوبهم خارج أقفاصها. لم تهدأ نفوسهم إلا عندما وصلوا مملكة الجوار.. تقدّم الجرهمي من أحد النّاس..
-    دلني على قصر الملك..
كان آري بولدِّين يجلس وحيداً.. مطرقاَ برأسه في تفكير عميق، عندما هتف بهما الحاجب:
-    ادخلوا..
(*)
بينما أجتمع فوك بماريانا، كان التاجر الجرهمي يهمس في أُذُن عجوبة:
-    يجب أن نعود إلى موطنّنا.. هناك حيث الجبال.. جبال البحر الكبير..
-    كيف نعود، وأنت تعلم ما تعلم عن عشيرتنا.. سيقتلوننا..
-    مشكلتنا مع الملك وليست مع العشيرة..
-    لكنه الآمر الناهي..
-    كان ينبغي أن نبقى، ونعالج الأمر. يجب أن نعود. لقد أخطأنا بالهروب..
-    ومهمتي في بلاد الحلفاء؟
-    انسي كل شيء..
-    لا استطيع بعد كل هذا.. لا أضمن البقاء على قيد الحياة. لم يعد الأمر سهلاً، سهولة هرّبنا من ديارِّنا..
قال الكاهن الكبير:
-    لقد صنعنا هذا السائل الشفاف، من عصِّير بعض النباتات النّادِّرة ومزجناه بسائلي القِّط والفأر..
أخذ آري بولدِّين يتفحص الحيوان الصِّغير، المسلوّخ الممسوّخ الرأس دون أن يُعلق.
-    لقد كررّنا الأمر أكثر من مرّة.. أنه لا يستمر في النّمو..
ظل صامتا..
-    لن نألوا جهداً آري..
لاحظت عجوبة التغييرات التي أخذت تطرأ على عبد اللّه الجرهمي، ولاتدري لها سببا.. افترقت عن النّمرود الذي أوصاها بمراقبته، ما أن وطأت أقدامها عتبة الكوخ حتى دهمها الجرهمي بالسؤال:
-    أين كنت عجوبة؟!..
-    طلبني آري لأستعد للرحيل الى مملكة الحلفاء.
تفكّر قليلا:
-    أُفكر في العودة الى الدِّيار وحدي واقتسام الملك مع أخي.
-    سيقتلك. إنها علاقة دّم.
-    العرش لا يعرِّف علاقات الدّم.
-    العرش يقوّى بعلاقات الدّم.
-    لم أعد أفهمك. ما الذي تخبئه عنِّي؟!..
كان الجرهمي قد تأكد من صِّحة مزاعم هندْ ودعدْ، حول علاقة عجوبة بالنّمرود، وحاول أن يستجيب لنصيحتيهما،. بمقاومة الأتون الذي يعتمل في دواخله.. كان قد قرّر أن يهرب ببنتيه التؤام (سابا والكنداكة)، ما أن تحين له الفرصة المناسبة.. أبعدّت عجوبة بصرِّها عنه.. قال:
-    ماذا عن شقيقتيك؟!.
-    ما بهما؟!..
-    هل طاب لهما المقام هنا؟.
-    لا يهمني.. لم تعودا أُختاي اللتين أعرفهما.. حوّلهما بولدِّين إلى عاهرتين، تخصّانه وحده..
كان الجرهمي يخطِّط للهرّب الى مكان لا يعرفه فيه أحد. انشغلت أفكاره بتؤامتيه الصغيرتين، حتى لم يتمكن من النوم، الى أن دهمته من أثرِّ الأرق والإرهاق غفوّة. وعندما صحىّ انتبه لإختفاء عجوبة.. أخبرته جاريتها أنها رحلت مع النّمرود في الفجر، الى مملكة الحلفاء، وتركت له واحدة من تؤامتيه.. .
كانت عجوبة قد اطمأنت على صغيرتها التؤام سابا، ألبستها أيقونة منقوشة بدقة.. لفتها جيدا بالقطن والكتان.. حملّت الكنداكة برفق ونادت جاريتها:
-    اهتمي بها..
ثم التفتت الى النّمرود:
-    لنمض الآن..
-    والجرهمي؟!.
-    تركت له احدى تؤامتيه..
-    انها قسمة عادلة.
-    لابد أنه سيعود الى دياره.
وابتلعت غلالة الفجر الضبابية النّمرود وعجوبة..
كانت عجوبة لحظتها، تكرر ذات قصة هربها من ديارها. ، في ذلك الليل البهيم..
عندما نمَّت عجوبة وترعرعت. ، وأدركت أن عشيرتها لن تتركها تتزوج من النّمرود،. الذي تفتحت وردتها عليه ذات عاصفة وزمهرير. جاءته:
-    ليس أمامنا سوى الهرب.
أطرق الفتى العملاق. وبعد صمت عميق أجاب:
-    سيلحقون بنا ويقتلوننا. الرأي عندي أن أتقدّمك الى مملكة الجوار.. لن يلحظ أحد اختفائي، سأبقى وأنتظرك هناك. الجرهمي يحبك. "إملأي رأسه" ليهرب بك، وسنرى بعد ذلك في أمره ما يكون..
كانا يتحدثان خلف أحد أعمدة البهو الكبير، في القصر الملكي، لم يلحظا هندْ ودعدْ اللتان كانتا تراقبان عجوبة، وتصطنِّتان إلى حديثها مع النّمرود..
اختفى النّمرود صبيحة اليوم التالي. ولم تمض أيام معدودات حتى ملأت عجوبة رأس الجرهمي، فتعارك مع أخيه الملك الشّرِّيف.. وقتها كانت هندْ تهدِّد عجوبة. بأنها ودعدْ تعرفان كل ما خطّطت له مع عبدها النّمرود، ولن تدعاها تهرب مع الجرهمي دونهما.. وإن فعلت أو حاولت خداعهما، سيكشفان للجرهمي أمرها..
عبأت عجوبة الجرهمي وأقنعته، بأن أخيه الشريف يتآمر لقتله، حتى يصفوّ له الجوّ فيتزوجها دونه، وأنهما يجب أن يهربا.
-    لن أترك هندْ ودعدْ خلفي. لا أطمئن عليهما هنا دوني.
-    لا عجوبة. لن يحدث لهما شيء.
-    لا، لا أستطيع فنحن يتامى لا أحد لنا سوّى بعضّنا البعض.
وبعد جهد جهيد تمكنّت عجوبة من إقناع الجرهمي. ومضيا ُيخطِّطان إلى أن حانت الفرصة المناسبة فهربا إلى الجوار..
كانت عجوبة في أشدّ الإشتياق للنّمرود. تمنِّي نفسها بصفاء الجوّ المختلس معه، هنا في الجوار.. كانت طوال مسير الهرب، الى الجوار تتأوه كلما وضعا للراحة الرحال، وتتنهد عندما تطأها الأشجان كما تطأ الأقدام جسر عتيق منهد: آه يا نمرود يا غرّة عينِّي.. وشغَّاف قلبي.. .
ما أن استقر المقام بفوك وماريانا بمملكة ساورا، حتى شرعا يُنفذّان خُطة بولدِّين ملك الجوار. استطاعت ماريانا انتزاع آري من محظياته وجواريه، وأجهدّت نفسها كثيرا لإنتزاعه من إياكورِّي.. كانت تسلُّب لبه بما تعلمته من أفانين في قصر الجوار..
أختلَّت مواقيت آري، وأخذت اهتماماته بأحوال المملكة، وشعبها تقل شيئا فشيئا.. وقتها كانت الكندّاكة تكبر وتتكوّر. تجدِّد أحلام القادة بعجوبة، التي ظلّت تشعِّل مواجدهم.. بيتها ذي الرّايات الحُمر.. قبلها بوقتٍ طويل، كان التاجر عبد اللّه الجرهمي، قد أدرك أنه فقد تؤامته الكنداكة الى الأبد. فحمل سابا تؤامتها ومضى الى أن وصل طريق الملح، فقصد مالحة.
حمل الجرهمي حقده و"غبينته"، وتسلّل في ليلٍ بهيم مخلفاً وراءه هروب عجوبة، التي هربت مثلما هربت سلفها سوبا، من زوجها الصياد، ومثلما هربت بناتها اللاتي تحدّرن من صلبها من أزواجهنّ، ومثلما هربت شقيقتيها هند ٍ ودعدْ الى ساورا..
انه الحنين الى الدّم، دّم آخر في النار والشفق. ، لا يقوى وجدانه على احتماله. دّم ينحدر من الجنّ الذين حبسهم سليمان في دياره.
كرّس عبداللّه حياته لسابا، التي طبعّت العزلة حياتها فوسمتها بالإنطواء والإنزواء. لاتنشرِّح إلا وحدها في الجبل، تأنس بصديقات لا يراهنّ أحد.. صديقات تراهنّ وحدها..
وقتها كان فوك ينشط في استقطاب شباب ساورا، يطلعهم على فنون لا يعرفونها في القاعة الفسيحة، التي شيدها بعد أن أستأذن آري..
قاعة "أتني" التي رَصّ عليها طاولات، من عروق الشجر. ، ودِّكك من الحجر الرَّملي وعروق الجبل..
ألحق فوك أتنّي بسلسلة من الأكواخ، التي جلب لها الجواري الحسان من الجوار، ليسكن اليهن مرتادي أتنّي..
وظلّت غرفة فوك المُلحقة بأتنّي مغلقة دون النّاس، لا يدخل فيها إلا خاصته من قادة الجيش وملوك الحواضر والملوك المحتملِّين.. يجلس إليهم ويحدِّثهم عن الأولين والآخرين، ويُهيء لهم الأكواخ لقضاء متعتهم، ويهديهم الجواري اللواتي تعجبهن، ليرحلن معهم الى حواضرهم وقصورهم..
قد يأتي فوك أحياناً بشباب لارا المميزِّين، إلى غرفته الساحرة يسقِّيهم الخمر، ويمضي بهم إلى غياهب، يخرجون بعدها منهكين، تؤلمهم مؤخراتهم أشدّ الألم..
سأل التاجر الجرهمي الصّبي الصغِّير، الذي ظلّ يحدِّق في القافلة:
-    ما أسمك؟!..
-    سورِّنقْ (11)..
-    هل ترغب في أن تصبح تاجراً؟!..
-    لا.. أرغب في إرتياد الآفاق البعيدة..
-    عندما تكبر قليلا ستمضي معي..
-    شارفت على سن الرجولة..
-    إذن بعد أن ُتجرى لك شعائر التدريب الرّجولي..
انتسجت في فكر التاجر الجرهمي خواطر مبهمة. فراسته تفيد بأنه سيكون لهذا الصّبي شأن في مملكة ساورا.. هذه المملكة اللعينة التي فقد بسببها زوجته، وتؤامه الكنداكة، فتيتمت وتوحدّت الصغيرّة سابا وتوحشّت في هذه الوحدة التي بلا أنيس..
-    إذن تريد أن تحكم ساورا..
-    نعم.
-    الجوّار لن يتركها لك..
-    وما شأن الجوّار بساورا؟!..
-    ثأر قدِّيم، اسمع كلامي كي تنتصِّر على الجوار.
-    سأسمعه.
-    سأعدِّك إعداداً جيداً لن نتركه يحقق حلمه أبداً..
-    ألا تأخذني معك الآن؟!..
-    لا تتعجل الأمور، لا يزال هناك وقت كاف.
ومضى سورِّنقْ إلى دالي الذي دهمه:
-    لقد قررّت أن أمضي سورِّنقْ.
-    إلى أين؟!..
-    فقط سأمضي..
-    وساورا؟!..
-    آري يقودها إلى الدّمار. سآتي لإنقاذِّها يوماً.. أنا لا أُريد أن أحكم سورِّنقْ.. التعاليم هي التي يجب أن تحكم.. هناك هاتف يناديني سوِّرنقْ..
-    إذن تريد أن تمضي لتتعلم المزيد؟!..
-    أُريد أن أتأمل لأرى ما يجب أن أراه. سأمضي سائحا في البرّاري، لتكتمل أفكاري لأجل ساورا العظيمة..
-    ستجدها خراب!..
-    لكنك ستنقذها. أنت من ينقذها سورنق!.
أطرق سورِّنقْ قليلاً:
-    أنت إذن تتنازل لي عن العرش؟!..
-    العرش لمن يختاره شعب ساورا.
-    سيختار من العشيرة الملكية.
-    أنت من العشيرة الملكية.
-    من جهة أُمي فقط. يجب أن أرحل معك.
-    بل ستبقى وأن أردت سترحل وحدك، فأنا راحل وحدي.
وأفترقا.. .
أصبحت الكنداكة الفتاة الفارعة، ذات الجمال المجنون، والجسد المتمرِّد سلطة قابضة، يزورها الملوك وقادة الجيش، أكثر مما يزورون سلطانهم.. محمّلين بالهدايا الثمينة والأحمّال الغالية. كانت تستقبلهم جميعاً، ثم أدّعت ضيق المكان، بعد ان جعلتهم يدمنونها. ، فأمر أحد قادة الجيش ببناء قصر بديع لها.. لا يضاهيه سوى قصر آري..
-    أُريد الزّواج من الكنداكة.
قال القائد فردّت عجوبة بمكر:
-    أصبر قليلا، فهي لم تصبح إمرأة بعد..
-    لكنها بسن الزّواج!!..
-    ذلك لأن جسمها فارع، لا يخدعنّك الجسد. فلجسد المرأة سطوّته..
-    سأصبِّر لشهور قليلة فحسب..
-    لا نريد أكثر منها.
أحاطت الكندّاكة قصرّها بالعبيد والخصّيان، وصارت تحدد مواعيد متباينة، لزوارها حتى لا يصطدِّمون ببعضهم البعض.. قالت عجوبة لآري:
-    قادة الجيش.. كل واحد منهم يريد الحصول على الكنداكة، وأنت الوحيد الذي يستحقها، فهي خادمتك التي تحبك. ، ولا تستطيع القبول بأحدهم إلا بعد معرفة ردّك..
كانت الكندّاكة قد رمقت آري بنظرّة أورثته ألف حسرّة.
-    وأنا أُريد الكنداكة..
-    لقد قلت لهم أن السّلطان يريدها (أعذرني يا مولاي) فهددّوا بقتلها وقتلي..
غضب السلطان وجلس متفكرا الى خواصه. جاء قائد الجيش الى الكندّاكة:
-    يجب أن نتزوج الآن..
-    لكنك لم تكمل تدريب عبيدي وخصّياني..
-    بل فعلت.
-    أعني الجدد..
-    في كل مرّة تأتين بالمزيد من العبيد والخصّيان. ماذا تريدين أن تفعلي بكل هؤلاء؟!..
-    أُريد أن أحميك وأحمي نفسي من السلطان، والملوك الآخرين..
-    كيف؟!.. ما الذي يجري؟.. .
-    سأُخبرك في الغدِّ عند مجيئك، فعجوبة الآن مريضة..
وبالفعل كانت عجوبة في النّزع الآخير لحظتها.. كان قد دّس لها السُّم دون أن تستطيع الكندّاكة معرفته. قالت عجوبة بصوت واهن:
-    تفرقنا عن بعضنا كندّاكة، تركنا ديارنا، وحرمنا أنفسنا من تؤامك سابا.. وكل هذا ثمن غال، فلا تسلِّمي هذه البلاد للجوّار.. ان تحقق الُمرّاد.. ولا تكونِّي لأحد الرّجال فتضيعي مثلي..
لفظت عجوبة أنفاسها الآخيرة، وجلست الكندّاكة تبكيها، بينما جيشها الصّغير الذي كوّنته من عبيدها وخصّيانها. كان لحظتها يدهم إحدى القوافل، بعد أن قتل كل من في قصر الكندّاكة ممن شكّت فيهم أو فيهن.. قيَّد جند الكندّاكة كل رجال القافلة، ومضوا بهم إلى حيث كانت الكندّاكة تقيم..
كانت الكنداكة وقتها قد أنشغلت بأحزانها على امها، رغم مضِّي أيام وأسابيع وشهور، مرّت كلمح البصر، دون أن تئد حدة حزنها، الى ان دخلت عليها واحدة من الجواري، فلملّمت الكندّاكة آلامها، وقالت في أسى:
-    ماذا تريدين؟!..
-    لقد مضى وقت طويل على أمر القافلة، دون أن تنظري فيه.
عندما دخلت الكندّاكة الحجرات، تتفقد الأسرى. ، أشرع سورِّنقْ. ، الذي كانت السياط قد مزقت ظهرّه، عينيه على آخرهما، في دهشة واسعة، ولم يعد يشعر بالألم وهتف:
-    سابا؟!!!.. .
التفتت إليه الكندّاكة، التي بوغتت وفي زهول اقتربت منه:
-    ماذا قلت؟
-    سابا..
-    هل تعرفها؟
-    انها زوجتي..
-    زوجتك أنت؟!..
قالت باستنكار، ثم أشارت الى العبيد بان يفكوا قيدِّه، ويحضروه الى مجلسها. جلست تنتظره. أدخله عبدها ميمون. كان ممزقا، نحيلاً، تغضّن جلده، على خيوط الدّم المتجمدّة، التي تقيّح بعضها. دفعه ميمون بقسوّة. فعاجلته:
-    والآن أحكِّي لي ماذا تعرف عن سابا؟!..
-    لا شيء سوى أننِّي تزوجتها من أبيها وليّ نعمتي.
-    هل تعلم من أكون..
-    لو لم أكن أعلم أنها وحيدة لقلت تؤامتها.
-    هي تؤامتي بالفعل.
-    لم تخبرني؟!..
-    ربما لا تذكر، والجرهمي لم يخبرها.
اخذه العبيد الى احدى الحجرات. تركوه دون قيد وأعتنوا به. أحضرت له جاريتها ثوبا من القطن لفَّ به صلبه وصدرَّه وألقى ما تبقى على كتفه.. .
مكث سورِّنقْ في ضيافة الكندّاكة أسابيعاً وأيام، حتى شُفىّ وعاد أحسن مما كان. وقتها كانت الكنداكة تبحث الأمر مع ميمون. تحدثا طويلاً وتشاورا، ثم أمرت باحضاره اليها..
-    اذن انت من ساورا الهالكة، لا محالة؟
-    كيف؟
سردت عليه الكندّاكة خطة الجوار، التي ظلّ آري بولدِّين، يعمل عليها منذ عدة سنوات. ثم ختمت قولها:
-    وحدك لن تستطيع عمل شيء.
-    سأحاول.
-    وسأساعدك لكن بشرط.
-    ما هو؟!..
-    أن نتوحد بعد ذلك في مملكة واحدة، نحكمها ثلاثتنا. وتكون انت "الكامني: سلطان الظل". فما بيننا دّم، انت زوج تؤامتي ووالد عيالها..
فكر سورنق قليلا. لم يرقه عرضها، لكن لم يكن في وضع يسمح له بالرفض، فوافق:
-    قبلت.
أطلقت الكنداكة سراحه وسراح قافلته، وأعطته من عندها ثلاثة قوافل،
-    انها لأجل سابا. أحكِّي لها خبري..
-    لا محالة سأفعل.
كان سورنق قد قرّر ألا يأتي على ذِّكر الأمر لسابا. سيكتفي بمناقشته مع الجرهمي فحسب. مضت قوافله لأيام وليال وأسابيع عديدة، وعندما وصل الى مالحة كان الجرهمي، قد مات فكتم الأمر بعد نزاع يشتد ويخف في نفسه – فالكنداكة كما تقول فراسته لا يؤمن شرّها كما أنه لم يُرِّد تعديل أحلامه، بإضافة تفصيلات جديدة. وقتها كان آري شاو ومملكته، يعيشان أيامهما الآخيرّة أذا اجتمع قادة الجيش، وتحدّث أحدهم، الى ملك القادّة بغضب:
-    أنت ملكنا وهيبتك من هيبة المملكة.
تطاير الشرّر من عينّي القائد:
-    ماذا تريد أن تقول؟
-    كل النّاس تقول ان الكنداكة تعبث بك..
-    لا أحد يجرؤ على العبث معي.
-    ما قالته لك في أمر الزواج، قالته لغيرك.
-    لم تخبرني العيون بشيء من هذا.
-    لأنها وعدت ملك العيون أيضا..
نهض قائد الجيش في غضب، ومضى الى الكندّاكة، التي جاءتها جاريتها ركضا، لتجدها في أحضان ميمون.. فغرّت الجارية فاهها، لملّمت الكندّاكة نفسها بسرعة، وهي تصِّيح بالجارية في غضب:
-    ما الذي جاء بك على هذا النحو؟
-    انه قائد الجيش.
همست الكندّاكة في أُذن ميمون:
-    أقتل هذه الجارِّية، حتى لا يعرف القادة، أنك لست خصِّيا، فيقتلونك ويقتلونني..
نادى ميمون على الجارِّية، التي أدركت انها لا محالة هالكة، فالكندّاكة قلبها كأنه قُدّ من الصّلد. لا يعرف الرّحمة. والحجر يشعر وميمون لا يشعر.. إرتاعت الجارِّية:
-    أُقسم أننّي لن أُخبر أحداً..
أطبق ميمون بيديه على عنقها. تلّوّت حتى جحظت عينّاها، مع تهشُّم سلسالها الفقري، تحت وطء كفيه الغليظتين..
عندما ذكر قائد الجيش الأمر للكنداكة، قالت له أن ذلك القائد تقدّم لخطبتها، فرفضته كما رفضت سواه، ولذلك يكِّيد لها. فغضب قائد الجيش، وقاد عدداً من الجند لإعتقال ذلك القائد.. هاج بعض القادة، فاعتقلهم. تدخل ملوك الحواضر، والقادة المتبقين. تدخل آري وأحتشدّت الجيوش ضد بعضها..
وقتها كانت الكندّاكة، على رأس جيشها تنتظر لتقاتل المنتصر..
صفق آري بولدِّين بيديه وصاح بالحاجب..
جاء على إثر ذلك الكهنة والشيوخ والعيون. وما أن جلسوا حتى وجه بولدين حديثه الى الكهنة:
-    كيف تمضي الأمور؟!..
-    لا زلنا نُشرِّح القِّط، لنكتشف أسراره، فهو حارس عالم الأموات، وأسراره كثيرة..
أضاف آخر:
-    ستحمل لنا الأيام القادمات أسرارا كثيرة.
تحدث كبير الكهنة:
-    عبادة القِّط تنتشر في ساورا ببطء شديد.
قال آري بولدِّين:
-    أنتم لا تبذلون جهداً كافياً..
-    سنفعل آري العظيم..
عقّب أحدهم:
-    حدثتنا النجوم عن وباءٍ كثيف ومحلٍ شديد، سيحل بساورا، في السنوات القادمات..
قال آري بولدِّين:
-    وما جدوى سيطرتنا عليها، إذا كانت ماحلة وموبؤة.
-    بدأنا نعد الأمصال آري. الجفاف الذي سيضربها سيعقبه خير وفير. سنعمرها بعد أن ينقشِّع عنها الجفاف. هذا هو الرأي عندي.
-    الجفاف والوباء امران لم أضعهما في الحُسبان.
-     لكنهما سيفيدان في اسقاط ساورا.
أكد بولدين:
-    والعيون، تفيد ايضا أن الامور في مملكةِ الحلفاء تمضي كما نشتهي. فالحرب بينهم أشتعلت، ولن تلبث الكنداكة إلا قليلا، حتى تسيطر على الأمور كلها.
علّق أحد الكهنة:
-    وهل ستعطينا لها الكنداكة لقمة سائغة، بعد أن أجهدت نفسها فيها؟!..
-    أنها عاملة من عمالنا، ثم أنها بذلك تشتري عتق والدها الجرهمي وتؤامتها سابا.
-    ربما تعرف أنهما لم يمكثا في الجوار.. فالجرهمي هرب بإبنته بليلٍ.. اختفى بها على نحوٍ غامض..
-    لو كانت تعلم بمصيرهما كما تقول، لأفادنا ميمون بذلك. لكن يبدو انها لا تزال تظن انهما ها هنا حيث تركتهما عجوبة قبل أن تغادر مع النّمرود..
-    قد لا تبالي لهما، فبريق العرش ليس دونه إغراء..
-    فلتكن إذن الحرب بيننا.
-    ستلتف حولها العشائر المتحالفة.
-    ستقضي الحرب على العشائر. وستقضى الكنداكة على ما يتبقى. هكذا أوصتها عجوبة..
-    لكن قد تكون عجوبة، خرجت عن الخطة الأساسية، وأضافت تفصيلات من عندها.
-    وإن يكن فالحرب بيننا. وستكون لصالحنا، فالكنداكة لن تقوى على الدخول في حرب جديدة وقد خرجت من حرب للتو..
-    منذ مات النمرود بصورّة غامضة، اصبح من الصعب الوثوق فيما يرِّد من أخبار الكنداكة.
إمتلأت ساورا بالجواري الحسان، اللائي جلبهن تجار الجوار، بأرخص الأثمان. لم يخلو كوخ من أكواخ ساورا منهن. انتشرّن كما ينتشر السُّم في الدّسم، وعجّت بهن حانة أتنّي الناهضة في قلب ساورا، يتجمعنّ فيها ليتدفقن على امتداد ساورا الجميلة.. يعدن مرة أُخرى، ويمضين بالأهالي الى عالم ظلالي لاهب، وحُلُم لا ينتهي.. يدخل الناس غلالتهن الشفافة ولا يخرجون، إلا وهم على حافة الإغماء، بالرّهق الذي كأنه رهق سنوات عديدة.. تحرّشت هندْ بالعجوز دورّة:
-    ألا تريد أن تعود لصِّباك أيها الشيخ؟!..
زجرها دورّة وهو يمسح لحيته الكثّة.
لحظتها، كانت دعدْ تتلوىّ بين أحضان حاكم الحاضرّة الشمالية، في غرفة فُوك الحُلُمية الغامضة. تشعِل أحلام الحاكم بأشواقٍ، ومواجد لم يعرفها أسلافه أبداً..
حشّد سلطان الجوّار جيشه، بعد أن تأكد له سقوط الحواضر السِّت لساورا، وزحف ببطءٍ شديد..
زحف جيش ساورا المنهك، مثقلا بهزائمه المريرّة..
زحف الجيشان تجاه بعضهما البعض..
اقتربا، اقتربا.. ولم يتوقفا عن الزحف أبداً. أراد جيش الجوار أن يستريح، لتكون المعركة الفاصلة، فجر اليوم التالي.. الشرّر الذي يتطاير من عينّي آري، منعه الإستجابة، فأصدر قراره المباغت بالإلتحام.. حارب ببسالة فائقة أدهشت الجوّار.. كان يقاتل كألف رجل، ركبهم الجنّ، وشياطين الجحيم، إلى أن اخترقه سهم مسموم، فأرداه قتيلاً..
سقط آري.. سقط القتلى.. سقط الجرحى، وتفرقت بقايا الجيش في السهول الواسعة لساورا، المنهكة..
وقتها كانت الكندّاكة قد هيمنت على مملكة الحلفاء، ودان لها الأمر، فمضت تبني مملكتها وجيشها على غرار تنظيم الجوار، الذي أخذت تستعد له في سرّيّة وصمت تامين.
جاءها ميمون فبادرته بالسؤال:
-    هل انتهت تدريبات الجند الجدد؟!..
-    صار لدينا جيشاً عظيما، منذ استلمت زمام الأمور كنداكة.. لكن يبدو أن الجوار لن يتركنا وشأننا، اذ يستعد لمعركة..
ثم أستطرد:
-    ثمة رجل وأمرأة من الجوار، يريدان لقاءِك..
-    ألا تعرفهما؟..
-    ومن لا يعرف فوك وماريانا..
-    لماذا لم تدخلهما؟!..
-    لم أرَ لذلك ضرورة عاجلة، فحبستهما في إحدى الحجرات، الى حين إبلاغك بأمرهما..
نهضت الكندّاكة يتبعها ميمون، الذي تقدمها الى إحدى الحجرات.. دخلت.. كانت ماريانا وفوك مقيدين إلى ظهري بعضيهما البعض. كانت الدماء تسيل على جسميهما وقد تغوّر حبل غليظ من عروق الأشجار في لحميهما..
-    أتيتما اذن برسالة بولدِّين اللعين. هل يتوقع بعد كل ما فعله بأُمي وأبي وشقيقتيها وتؤامتي.. بعد كل ذلك هل يتوقع أن نسلمه مُلكنا لقمة سائغة؟!!..
-    وما ذنبنا نحن.. إنما نحن رسل؟..
-    .. .. .. .. .
-    نحن نكرّهه أشدّ مما تكرّهينه،
سارع فوك بالقول. فأمعنت الكنداكة نظرها في عينيه، ثم انتقلت الى عينّي ميمون، الذي أومأ لها هامسا:
-    لقد أخبراني عن كل العيون التي يعرفونها..
-    أامسكت بهم، أم بعد..
-    وجميعهم اعترفوا.
ابتسمت الكندّاكة في رضا:
-    اسمع فوك. أنا أعلم بقصتك مع ماريانا، التي أجبرها بولدِّين اللعين على فعل أشياء، لا ينبغي أن تفعلها مع سواك، كما أجبرك أنت أيضا. أنا لن أُجبركما على شيء، وأُقدِّم لكما عرضاً لن تجدا مثله أبداً.. عرض فوق أحلامكما..
-    مُرينا..
-    أريد خبرتكما في كل شيء، ولن تندما على ذلك أبداً.. أُريد أن أعرِّف كل شاردة وواردة في الجوّار..
-    هل ستطلقين سراحنا؟!..
-    لا أعنّي ذلك بالضبط.. أعنِّي أن تدلانا على من نحن بحاجة إليهم في الجوّار. وعلى من يُشكِّلون خطراً فعلياً علينا هناك..
كرّر ميمون على عيونه التي أجتمع بها، الأسماء التي يجب أن يتخلّصوا منها..
-    تقربوا منهم بحذر، ودسوا لهم السُّم، دون ان يساورهم الشّك. بولدِّين هو هدفكم الأول. ثم قادة جيشه، وملوك حواضره.. لا أُريد فشلاً. والذي يتمكن من قتل بولدِّين له عند الكندّاكة ما لم يحلم به يوماً وله مني كذلك عطاءٌ عظيمْ..
مضت العيون لتنفذ مهمتها، بينما حاصر أحد الشيوخ الذين ألتف حولهم جمع من الناس، ميمون. أصرّ الشيخ الوقور على الدخول للكنداكة، التي كانت غارِّقة في أفكارِّها، عندما دخل عليها ميمون يبلغها طلب الشيخ:
-    حوله جمع من النّاس ويصِّرُّ على رؤيتك.
-    أهو من الجوّار؟!..
-    لا.. يقول أنه من كل مكان.. يقول كلاما لا أفهمه.. يقول أنه أتى برسالة المخلِّص..
دخل شيخ وقور، التف جسمه كله بالكتان، وبقى أحد كتفيه عارياً. كان يحمل عصا معقوفة من الحرّاز، ذات شعبتين في مقبضهما.. حيا الكندّاكة، وطوّق بعينيه المرحبتين في هدؤ واطمئنان وجهها.. انتظرته الكنداكة أن يستهل حديثه، فظل صامتا. كان بعينيه لمعان غريب.. لمعان عميق يفعل فيها فعل السِّحر.. جاء صوته بعد برهةٍ من الوقت كصّدى بعيد..
-    أتيت لأُخلِّصّك بمشيئة المخلِّص، من عبادة الكبش، لتصبح مملكتك بشارّة الممالك..
كانت خواطر الكندّاكة المعتمِّلة قد هدأت. قالت بصوتٍ آلي:
-    أشرّح حديثك..
أخبرها عن البلاد العجيبة التي جاء منها، وعن أنبياءٍ ورسُلٍ كُثُر.. عن عذاباتهم وآلامهم، والبشرى (الخبر السار) الذي جاء يحمله اليها..
حدثها عن الكلمة.. كلمة اللّه، وحمله الذي يزيل الخطايا، وتكلم عن خطيئة العالم..
تسآلت الكندّاكة عن العالم.. ما هو العالم؟!.. فاتسعت إبتسامته المرحبة أكثر فأكثر، وتخللتها بالصّفح والغفرّان، الذي يتحدث عنه وسلام المدن، والبحار والأنهار والصّحارى والغابات. حدثها عن اللّه روح الكون الموجود في كل شيء في الوجود.. و بدأت الكندّاكة تفهم معنىّ العالم الواحد بناسه مختلفي الأشكال والألوان.. " لكنه واحد " هكذا همست لنفسها.. والشيخ يحكِّي لها عن معجزات المخلِّص، الذي حوّل ماء العرس في" قانا " الجليل الى خمرّة جيدة، وأظهر مجده، وكيف أطعم خمسة آلاف، بسمكتين وأرغفة شعير خمس. ، بعد أن عبر البحيرّة ومشى على الماء دون صرح ممرد..
كان الشيخ قد أشعل فضول الكندّاكة، فأفردت له حجرة في القصر، وأبقته ليحكِّي لها كل يوم عن الأنبياء والرُّسل وبشارّة المخلِّص. ويوماً بعد آخر، كان النّور يتسرب ليملأ وجدان الكندّاكة المعتم.. أصبح للكندّاكة هدف، بعد كل الذي فعلته بحياتها. اذ أخذت تفكر، في كيف تنشُّر هذه الرِّسالة ليعمّ نورها العالم..
-    أرسلي المبشرِّين ليجوبوا البلاد، بعد أن أعطيهم معرفتي..
-    وحربي مع الجوار؟
-    ربما تكون لنشر البشارّة..
-    وهل أصلح لنشرها، وانا كما تعلم؟
كانت الكندّاكة، قد حكّت له عن والدها الجرهمي، الفتى الغّر الذي خدعته أمها، ولم يُلاحظ أبداً العلاقة السِّرِّية التي تربطها بالنّمرود.. النّمرود الذي أنطلت عليه حيلة ساذجة، واضحة وضوح الشمس دون أن يشعر بها..
كان الجرهمي منذ طفولته. ، يراقب نمو عجوبة، وإثر كل يوم يتنامى حبه لها ويزيد. حتى عميّت بصِّيرِته. لم يكن يُدرِّك أنها ليست له، هي التي حوصِّرَّت بالعاصفة والبرق والرّعد، ولم تعد تنتمي لعالم الجرهمي، المنبسِّط كصّحراء أجداده، الذين تناسلوا مع الجنّ..
حكّت الكندّاكة عن قتلها الأنفس، ونهبها للأموال وأغترافها الخطايا.. مسح الشيخ رأسها وتمتم.. ثم أخذ يحكّي لها عن النّاس في جبل الزيتون، وقد اجتمعوا عند الفجر يتعلمون من المخلِّص، فجاءه بعضهم بإمراةٍ ضُبطت تزنِّي، يريدون إعدامها رجماً بشرِّيعةِ موسىّ. فقال لهم " من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر" فأضطروا للإنسحاب واحداً تلو الآخر، وبقى وحده مع المرأة التي خاطبها "أنا لا أحكم عليك. إذهبي ولا تعودي تُخطئين".. تنفست الكندّاكة الصّعداء، فهمت ما أراد الشِّيخ قوله.. كان النّور قد عمّ وجدانها..
اجتمع آري بولدِّين، بمجلسه السُلطاني منهوباً بالقلق والتوتر. قال في غضب:
-    تأخر الرُّسل كثيراً في العودّة. لم يحضر احد ليخبِرنا عن الكندّاكة؟!..
قال قائد الجيش:
-    وليست هناك أخبار عن العيون كذلك!!..
قال ملك العيون:
-    اختفت العيون كلها من مملكة الحلفاء، ولم نعد نعرف لهم أثر،
ثم أضاف باستياء:
-    الأمر واضح وضوح الشّمس أن الكندّاكة، أسرت ماريانا وفوك، فدلاها على العيون..
أشتد غضب آري:
-    كيف تجرؤ على أسر رسلنا اليها، ألم تسمع بانتصارِّنا الباهر على ساورا؟!..
قال قائد الجيش:
-    انها الحرب آري..
فنهض آري وعيناه تقدحان بالشرّر، آمراً قائد الجيش:
-    استعد للحرب اذن..
لم تكُّف الكندّاكة عن عقد مجلسها السّلطاني لمتابعة أمور المملكة، واستعدادات الحرب وما يدور في الجوّار.. سألت النّمرود، الذي أجاب:
-    عيوننا تمضي بخطىًّ حثيثة في التنفيذ..
-    والنتيجة حتى الآن؟!..
-    سُمِّمَّت كل العشيرّة الملكية خاصة القادة وملوك الحواضر، ولم يبق سوى آري نفسه..
-    ورجالنا الذين قاموا بهذا الامر؟
-    اختفوا قبل أن يظهر أثره.. ربما يصلون في أي لحظة.
-    وآري؟
-    وجدوا صعوبة كبيرة في اختراق قصره، فهو لا يأكل إلا من يد إياباسِّي زوجته..
-    ما أن يصّل رجالنا الذين أنجزوا مهامهم. أُوكِّل لهم بأمري قيادة فرُق الجيش. وأكمل معهم استعدادات الحرب.. وآتني بالأخبار أولاً بأول..
للمرّة الأولى يشعر بولدِّين بالإلتياع وكل هذا الحزن، وهو يرى كبار قادته يموتون الواحد تلو الآخر يوماً بعد يوم. بعد أن تتهرأ أجسامهم وتتفسّخ.. والعشيرّة الملكية يسقط أفرادها، ملوك حواضرها. قادة جيشها، بذات الطرِّيق..
-    إنه السُّم..
قال آري بولدين بحزن عميق،
نقّب الجند والعيون في أرجاء المملكة وقلبوا أعاليها سافلها. ولم يعثروا على أثرٍ يدلهم على واضعي السُّم.. لم يكن حينها قد تبقى من العشيرّة الملكية، سوى آري بولدِّين ووليّْ عهدهِ الوحيد. ضرب آري بولدِّين الجدار بقوّة:
-    لابد أنها الكندّاكة. لا أحد سواها يجرؤ على مثل هذا الفعل..
-    ولماذا لا يكون الفاعل من ساورا التي قضينا عليها؟..
-    لا، انها الكندّاكة. لقد باغتتنا..
قال أحد الحكماء وهو يضِّيف:
- قبل أن تحارب ساورا نصحناك آري، أن لا تفتح أبواب الحرب، وأخبرناك بما قالته النجوم،
 عن علامات الأزمنة..
أضاف آخر:
-    الحرب عندما تبدأ، لا أحد يستطيع ايقافها، أو توقع ما يحدث فيها..
تدخلت إياباسِّي:
-    لم تترك لنا الكندّاكة الآن خياراً سوى الحرب.
والتفتت إلى آري:
-    أم تريد أن تتراجع عن ُحلُم أجدادنا؟!.. اذا قرّرت التراجع سأتولى الأمر بدلاً عنك..
نظر إليها في غضب:
-    آري حفيد الجد الأكبر دودو، لا يتراجع أبداً عن أمرٍ بدأه..
التفت الى القائد الجديد للجيش:
-    ليبدأ الجيش في الزحف منذ الصباح الباكر.
-    الجيش بحاجة لرفع معنوياته أولاً.. الإغتيالات هزّته تماماً، خاصة أننا لم نتمكن من القبض على الذين قاموا بهذه الإغتيالات..
-    ماذا سأفعل للجيش أكثر من سجنَّي لملك العيون، الذي قصّر في أداء واجبه في حماية المملكة من المدسوسِّين، وفشلِّه في قيادة عيونه، والقبض على المدسوسِّين، ماذا أفعل للجيش أكثر من ذلك؟!..
-    لنتريث حتى ينقضِّي موسم الحصاد، ومجيء القوافل..
-    لقد أعلنت الكندّاكة الحرب ولن تتريث.
-    أعلم أنها قوِّيَّة بما يكفي، لكنها ليست أقوى منا.. ويجب ألا نغامر..
نظر اليه آري برِّيبة:
-    مع من أنت؟ معي أم مع الكندّاكة؟!..
تراجع قائد الجيش وهو يهزُّ راسه في دهشة:
-    سأُنفذ ما أمرتني به آري.
أوقفه بولدِّين قبل أن يمضِّي:
-    كانت ساورا أعظم كثيراً من الحلفاء، وأنا من قضّى عليها.. الزحف صباحاً..
كرّر آري عبارته الآخيرة.
وقتها كان فوك والنّمرود. ، ينهيان آخر تدريبات الجيش الضخم، الذي أبقياه على أهبة الاستعداد، على حدود المملكة..
(*)
.. من قلب الفناء الذي يتوسّط المدِّينة المقدّسة: ساورا جاء الصّوت عميقاً مبحوحاً ومتحشرجاً:
-    الى ساورا جاء الغزاة..
عندما أقترب الغزاة من ساورا، تفقد بييه الفتيات الملكيات، وسأل:
-    أين شبونة؟!..
فأجبن بصوتٍ واحد:
-    لا ندري..
قاد بييه الفتيان الملكيِّين الأربعة الى خارج أسوار ساورا..
(*)
عندما هجم الغزاة على ساورا، كانت شبونّة مع صولمنج في الكّهف.. خلف الدّغل، عند الجرف الصّخري.. عشّهما الذي لطالما ألتقيا فيه.. فكّ صولمنج عن شبونّة غلالتها.. كان وقع حوافر الغزاة لكأنه يشعل فيهما مواجداً لا تنتهي..
كانت الشّمس تجرجر أزيالها في الأفق البعيد، وثمة ضوءْ شاحب ُيلقِّي بظلاله على الكّهف الذي أختبأت فيه نيردِّيس وساوْ، الذي ابتعد عن جسدها مرتاعا، وهو يتبيّن في الخطىّ القادمة شبح نبتة:
-    عليك اللعنة نبتة. أخفتينا!..
قالا في صوت واحد، فضحكت نبتة في صهيل ملتاع ردّد صداه الكّهف..
-    نبتة، ألم أقل أن دورك صباح الغد؟..
-    لم أستطع الإنتظار ورأيت أن نفعل ذلك جميعاً، كما يفعل آري مع نساءه..
تسآلت نيردِّيس التي عقدت ذراعيها على صدرها:
-    كيف؟!..
-    لا تكوني غبية.. أنت تعرفين كل شيء. ألم تعلمينِّي أنت ما علمتك إياه ماريانا، جارية آري..
طوقهم صمت عميق. قطعته نبتة وهي تنتقل بالحوّار:
-    ألم تسمعا بنبؤة دالي بفناء ساورا..
-    انه يهزِّل. ساورا جنَّة الحياة..
قالت نيردِّيس العاريّة تماماً، وهي تجلس على حجر ساوْ، فأسرعت نبتة تجذبها وتقول:
-    أليس لديك صبر؟.
-    ألم تجدي لكوَّي ّرجلا بعد؟!..
-    إنها لا ترغب في رجل سوى بييّه!..
-    لكن بييّه يحب لنقي!..
-    هي مثلما لا تريد رجلاً سوى سورِّنقْ.. فلتنتظرا إذن إلى أن يصيب الجفاف غياهبها.
ضحكت نبتة بخلاعة، كفتيات أتنّي البيضاوات:
-    رأيتهما مراراً في الدُّغل مع قرود الطَّلح.
-    ماذا تعنين؟!..
-    أعني ما أقول.. الغرباء جعلوا الناس يكتشفون أشياء مذهلة، نحن اليوم لسن كأسلاف آري.. أجدادنا..
-    النّاس الآن في ساورا يعيشون حياتهم كما يريدون، حتى الأغراب يأتون الى ساورا ينفضون وعثاء الطّرِّيق والمنفىّ..
-    ولذلك دورة لا يفتأ يخيف الناس بفناء ساورا..
 كان دورّة الراعي العجوز والد سورنق، قد تخلى عن الكهانة، وامتهن رّعي الجاموس والأغنام.. ولا يفتأ يردد لكل من يصادفه في طريق العودة الى ساورا:
-    تحالف المجرمين مع شعب ساورا، سيفنيها.. لم تعد ساورا هي ذاتها التي نعرفها.. لا محالة لعنة لا تبقي ولاتذّر ستحل بنا..
قلبت شريط الكاسيت وأنا أوقف ود الباهي (بإشارة من يدي) ريثما أدخل شريطاً جديداً. زفرت بعمق وأنا أرى مؤخرة المدينة الشاسعة، التي كانتها جلابي ود عرّبي يوماً وهي تتمدّد على شريط النِّيل..
 الفردوس الآن تغتسل كسابا الفارعة، من ذكريات آخر لياليها البهيجة مع سورنق.. تقف سابا أعلا الّتل ترقبه وهو يمضّي بعيداً. يتضاءل شيئاً فشيئاً، حتى يستحيل إلى نقطة صغيرّة في أُفق رحيب. نقطة في صحراء لا متناهية. ، ويذوِّي. يتلاشى ليكون الغياب. ، في الفضاء اللامتناهي، حيث ساورا تخرج من أعماق ود الباهي، تنضّو عنها ذكريات يوم آخر في الفجيعة، وترقب قادماً من بَوح أحزانها. يجدد أفراحها ويشرِّعها للقادمين. ، من غياهب سحيقة لأزمانٍ قادماتْ.. ليخطوّن مدينتهم الجديدة، وليحيا سورِّنقْ في الذّكريات. ذكريات لنقِّي الحبيبة، الصّبية الصّغيرّة التي تكبر يوماً بعد آخر، وتتفتح كالطبيعة، في الخرائف المثمرّة، عن أفواف الزّهر و الثّمر الحلو، وربما تتفتح كالطبيعة، عن الاعاصِّير والزوابع الأنثوية الخالدة في قصص العشاق..
-    أين اختفيت الأيام الماضية سورِّنقْ؟!..
-    اعتزلت مع أبي العجوز دورّة.. يقول أنه يجب أن ابتعد عنك..
-    لماذا؟!..
-    أنت تراهقين، وأنا أصبحت شاباً..
-    ألهذا السبب فقط؟
أحتوت ببصرِّها البرِّيق الغامض الذي يشِّعُ من عينيه..
-    أنت تخيفني سورنق!..
-    إهدأي لنقِّي.
-    لم أعد أفهمك.
-    سأرحل، وعندما أعود سأكون آري مهاباً. سأبني لساورا سوراً ضخماً، عالٍ من الحجر!.. وأضعُ الحرّاس على أبوابه، وأكتب على جدرانه أسرار الكبش المقدّس. سينِّير مجد الكبش ساورا في ليالِ الشتاء الطويلة. ويدفئها.. وسيأتيها الغرباء الذين يهربون الآن منها. نعم سيعودون فتحميهم مرةً أخرى، من جور الأهل والأوطان.. ستظل ساورا مفتوحة، ولن تغلق أبوابها أبدا إلا في الليل، فالليل لا يأتي عليها.. سأحمل إليها كنوز الممالك الاخرى، وامجادها ولن تمضي بغير شريعة الكبش..
-    لا أفهمك سورِّنقْ!..
كان سورِّنقْ يبدو غريباً على لنقِّي، غريباً على أقرانه الذين لم يعد يجالسهم، مكتفياً بصحبة دالي إبن آري شقيق لنقِّي. والإعتزال معه لأوقات طويلة، في محراب الكبش، أسفل المنحدّر الصّخري خلف الهضبة، التي يدفن في سفحها الأطفال..
الفتيان الملكيين كانوا يهابون سورِّنقْ، الذي كان يبزَّهم في الرّكض، والصراع وتسلق الأشجار كالقرد، منذ الطفولة الباكرة، كانوا لا يتجرأون على إزعاجه أبداً، بمؤامراتهم الصغيرة التي يحيكونها ضد بعضهم البعض..
الفتيات الملكيات في أُنوثتهن الطِّفلة، كنّ يتعمدن اللهو معه دونهم جميعاً، ويبتعد عنهن ليلهو مع لنقِّي وحدها. يغرن منها، ويبدين كراهيتهن له دون تحفظ، ومع ذلك ظل سورِّنقْ فارس أحلامهن منذ الصِّغر، كلما كبرن يرّين جواده الأبيض ينأى ويبتعد.. قالت نيردِّيس:
-    سورِّنق لا يشبهنا، فهو ليس إلا إبن راعي خرّاف.
 رمتها لنقِّي بنظرّة حادة:
-    لا تنسي أن أُمه من العشيرة الملكية..
-    انه لا يحب النّاس. يرى نفسه أفضل منا و من الفتيان الملكِّيين. ثم أن تكون أمه شقيقة آري إياباسي، مثل ام كوّي وشبونة، فذلك لا يكفي. فسورِّنقْ من أب ليس من دّم آري على عكسنا.. ولا تنسى أن آري القادم هو شقيقنا (دالي)، وليس إبن الرّاعي العجوز دورّة..
صمتت نيردِّيس فجأة. ، كأنها تتذّكر شيئا، ولم تعلِّق لنقي.. تغيّر عمق عينَّي نيردِّيس، وهي تحاول أن تجوس في أعماق عيني لنقِّي:
-    اسمعي لنقِّي. بييه يقول أنك تتهربين منه!..
تدخلت نبتة على نحوٍ مباغت:
-    اسمعي أنت نيردِّيس. لنقِّي تحب سورِّنقْ وتكرّه بييه، أي جزء من هذه العبارّة غير مفهوم؟!..
أضافت كوِّي:
-    لماذا لا تتركينها وشأنها، دائما تلاحقينها ببييه؟!!..
ابتسمت نيردِّيس في خبث:
-    يبدو أنكنّ وقعتن في غرام بييه فجأة!.
تدخلت شبونّة التي ظلّت صامتة طول الوقت:
-    نيردِّيس، لقد ظللت لفترة طويلة تتدخلين في شئوننا، كلنا لن نسمح لك بعد الآن بمثل هذا التدخل..
قالت في حدّة فنهضت نيردِّيس غاضبة:
-    ستلجأن الىّ كالعادة، عندما تقعنّ في المشاكل، تذكرن ذلك جيداً..
ضحكت شبونّة بسخرِّية:
-    مشاكل أكبر من لو أخبرت دالي بما تفعلينه مع ماريانا؟.
التفتت في حدّة:
-    لكنكن تفعلن ذلك معي!..
-    سننكر جميعا كل شيء، ووحدِّك ستقعين في المشاكل، ألم تعلمينا أنت كل شيء؟!..
أطل التساؤل من عيني لنقِّي:
-    ما الذي تفعلنه مع جارية آري؟
تراجعت نبتة:
-    لا شيء. فقط نريد إيقافها عند حدِّها.
وألتقت نظراتهن في صمت وتواطؤ. فتجربتهن مع ثرثرّة لنقِّي بإحساسها الدائم بالخوّف منذ الطفولة الباكرّة، علمهن أن يخفين عنها اسرارهن، التي كانت تعلم بعضها بطريقتها الخاصة، ولا تجعلهن يشعرن بانها تعلم، كانت ترغب في ألا تكون جزءً من عالمهن فاكتفت بالعلاقة الحميمة التي تربطها بكوِّي..
كان الضجيج في بهوِّ العرش قد بدأ يتعالى، فصمتن ثم بدأن يتفرّقن، في حجرات القصر الكبير، بعيدا عن بهوِّ العرش، الذي أزدحم برجال المملكة، الذين بدوا منشغلين، أكثر من أي وقتٍ مضى.. التفوا في مجلسهم حول آري، الجالس على "ككرِّه " بمهابة. وقد بدأت على وجهه علائم التفكير العميق. ران الصّمت لفترة ليست قصيرّة، وتلاشى الضجيج شيئا فشيئا.. جاء صوت آري حاسما وهو يقلِّب بصره في حاشيته، موجها حديثه الى حاكم الحاضرة الجنوبية الغربية من مملكة ساورا المقدّسة:
-    ستأخذ معك أبناء العائلة المقدّسة، هذه المرّة ليتدربون. ، على فنون القتال تحت إشراف "الأورنانق" بحاضرتك..
-    سيشرف عليهم حكام المقاطعات آري، فقد جئت بالأورنانق الى هنا..
-    اذن على الاورنانق أن يتصِّل بالحاضرة الشمالية، ليرسل كل شبان حاضرته اليه.
إستأذن كبير خدّم القصر فسمح له آري:
-    ماذا هناك؟.
-    حاكم الحاضرة الشمالية يستأذِن ويعتذر عن التأخير..
-    ليأت..
ابتدر قائد القوافل الحديث:
-    نحن على أعتاب سنوات جدب، وأرى إذا سمح آري أن يأمر بأن تتولى "إياكوري"، تخزين الطعام والإشراف على إنتاج الحواكير..
-    لقد أوكلنا هذه المهمة للقضاة، ورُّماة المدى وحاملي السيوف، ستشرِّف عليهم إياكوري.
قال ملك حاملي السيوف:
-    أخبرني ملك سائسي الخيل بما تحدثتم به آري. في أن الجوار يعبيء جنده؟.
-    لم تردنا أخبار جديدة أُخرى. ربما تكون وجهة جُند الجوار. ، مملكتنا المقدسة، ولذلك أرسلنا الى حلفاءنا وطلبنا منهم المجيء الى ساورا، وأرى أن يهتم حكام المقاطعات، بإجراء الإحتياطات اللازمة، للدِّفاع عن ساورا، إذا كانت نيّة الجوار مهاجمتها.
ومضى آري يرتب مع مجلسه الحاشد شئوون مواجهة الجدب، والحرب المحتملة وعندما أنهى حديثه صفق فيهم بيديه:
-    عليكم موافاتي بكل ما يطرأ..
ترك آري الأمر لرجاله ومضى مطمئناً، الى أحضان محبوبته ماريانا، مكتفياً بتلقي الأخبار عن طريق "كتركوا " الخصِّي المسئول، عن ماريانا الجارِّية المفضلة لديه.
كان "كتركوا" يصرف الحكام والقادة، دون أن يدعهم يلتقون آري، الذي كان قد أنزل هموم المملكة عن عاتقه، ووضعها على ظهر رجاله، وتفرّغ لمحظياته وجواريه. وبعد مرور وقت طويل.. طويل جدا جاء سورنق الى ساورا الخراب.. .
-    آخيرا وصلنا..
أشار سورنق بيده من على صهوة الجواد، فتوقف الركب خلفه. توقفوا جميعا يحدقون في الوادي المترامي الأطراف، بعيونهم المتسعة. شعروا جميعا لحظتها بحنين وشجن بعيد. ، يشدهم الى هذه الأرض. نزلوا من صهوات جيادهم، وتفرقوا حول مجاري المياه، يغسلون وجوههم من وعثاء السفر الطويل.. .
طوقوا بأبصارهم الوادي، الذي بدا شاسعا، كأنه يمتد في اللانهاية، ليلتقي بحافة السماء متناهية البعد..
على إمتدادات الوادي، بدت أكمات متفرقات هنا وهناك، مدّغِلة وساحرة!!..
أشار سورنق لبييه فتوغل الآخير في الأكمات، يتبعه خمسة من الجند الأشداء..
هواء الوادي البارد، لطّف نفوسهم العليلة برهق الجفاف، وإنهاك الوباء الغامض. خراب ساورا والترحال المضن لأسابيع وأيام طويلة. هواء الوادي المنبسط، ينعش الوجوه المرهقة، التي أضناها فراق الأحبة والغياب الذي خالوه لأيام الشجن الوديع.. .
قلّب سورنق بصره في الوادي، رغم ترحاله في طرق عديدة، منذ هرب في تلك القافلة. هو الخبير بالقوز في شبه الصحراء عبر مالحة قريباً من جبل الميدوب. حيث الطرِّيق العرِّيق لتجارة الملح. لم يجد أبدا في حله وترحاله مثل هذا الوادي!..
طوّق سورنق الوادي ببصرِّه المنهك، وكان قد أتخذ قراره، وخُطّط العمران ترتسم في عقله المكدود. الذي بدأ يستفيق وتتجدد حيويته هناك، على أمتداد هذا الجبل، الذي يبدو كما لو أنه الكبش الإلهي المقدس، بظِّلِّه الملقى على السهل، كأنه فروة تظلِّل الوادي من الهجير. وبقمته المشرعة: ذروتين تبدوان ككفي العجوز دورّة، لحظة التضرع بالدعاء الحار. كأن دورّة هو الذي يجلس على إمتداد هذه القاعدة، مرتديا عباءة رسولية مهيبة، يدعو لساورا الجديدة بالمجد.. قطع عليه الكاهن دورّة، الذي كان قد تخلى عن الرعي، وعاد لممارسة الكهانة مرة أُخرى، تأملاته:
-    ظلت الطبيعة هنا تمنح أجدادنا هويتهم. خصبهم.. خصب الكبش المقدس. هنا أستقر الكبش وأسلاف دالي في وقت سحيق..
تنهد سورنق بعمق:
-    وهنا سيشيد البناءون قصر آري، على هذا التّل. ، الذي تحتضنه أقدام الكبش. ستكون مدافن آري والى يسارها، سينحت ساو من عروق الحجر خصي الكبش، رموز الخصوبة ويقين تجدد الحياة..
هزّ الشيخ دورّة رأسه في رضا وأنسحب، كانت حوافر جواد بييه لحظتها تقترب، تدخل في خطط سورنق وخواطره، تتدخل في حبل أفكاره:
-انها مليئة بالحيوانات المتوحشة.
قال بييه، ففرك سورنق بيديه:
-    ليس ثمة أكثر توحشا من النّاس سنستأنس منها ما نستطيع، ونطرد الباقي..
وواصل حديثه:
-    هنا سيشيد سورنق مملكة أخرى، بدلاً عن ساورا المهجورة. هنا سنبدأ من جديد. ، لتتواصل مسيرة الأجداد.. هيا ليبدأ الجميع في تعمير هذه الأرض. وأنت أيها القائد بييه، اذهب الى المملكة المهجورة وآتِ بالباقين..
-    الآن؟!..
-    نعم الآن. اذهب.. .
وأنطلق بييه يتبعه عدد من الجنود في رحلة طويلة شاقة. رحلة إلى ساورا..
كانت ساورا المدينة المقدسة قد بدأت تعاني الجدب، ثم ما لبثت أن أنهارت تماماً، بعد أن دهمها الغزاة وخربوها.. قتلوا آري وأستحيوا النساء، ودمروا المعابد. ، ونهبوا قطعان الجاموس. ، التي تبقت من الجفاف.. قضوا على كل ما تبقى من مجد ساورا ومضوا..
منذ ترك كتركوا الإهتمام بإياكوري منذ وقت طويل، إستجابةً لأمر آري، بأن يعطي جل إهتمامه لماريانا. لم تعد إياكوري تهتم بالحصول على العطر البّرِّي.. كانت محاصرة بذكرى تلك اللمسات البديعة، لأنامل كتركوا الخصي وهو ينقل أنامله المدربة، على تضاريس جسدها.. المتحفز، ويدلِّكها بأعشاب البّرِّية النديانة. وينتف الزغب شعرةً فشعرة، هكذا كان يهيئها ويعدها لآري كل مساء..
حتى لحظة انتحارها عندما دهم الغزاة ساورا واستباحوها، كانت لا تزال تشعر بتلك اللمسات، وذلك الدفء الذي يخلخل كيانها، ويجعلها تهتز، كرِّيشة في مهب الرِّيح، بين الوعي واللاوعي، وفي النزع الآخير أحست بتلك الحالة من التوهج، التي يعقبها أنطفاء وخدّر، وخوّر عقب التنهدات اللاهثة والتأوهات الخابية.. فارقت إياكوري الحياة وهي راضية عن نفسها !.. نعم على الرغم من وجه ماريانا.. فقط وجه ماريانا. ، الذي ظل يحدق فيها من موقع بين عالمين، يلاحقها بنظرات آخر الوجوه البغيضة الى نفسها..
قبل أن تنهار ساورا بقليل نشط حفارو القبور، وصانعوا الأثاث الجنائزي، وبعد ان خرّب الغزاة ساورا. هرب من تبقى من الغرباء، الذين هجروها هربا من الجدب وخوفا من الحرب، هربوا لا يلوون على شيء في سباسب الصحراء ووهادها..
كان شعب ساورا يتناقص بالحسرّة والجوع، والوباء الغامض يحصِّد الأرواح سريعا، سريعا، دون رحمة. كأن ما حدث لمملكة الجبل والوادي القديمة، يتكرر مرةً أُخرى في ساورا..
الوباء الغامض أضطر الغزاة الى المغادرة سريعا، وأضطر الغرباء للجؤ الى الجوار. وعندما جاء سورنق لم يجد سوى بقايا ساورا وأحزانها، التي تدفع الشيوخ للتفكير الحازم، في إنقاذ ما تبقى من شعب ساورا..
فأرسل سورنق الرُّسُل ليستكشفون الأراضي البعيدة..
لا يزال دورّة يذكر تلك الأيام البعيدة، وساورا قد بدأت تنهار، تحدث وقتها مع دالي طويلاً، ونصح آري فأختفى دالي وتلاشى كفص الملح، وأنشغل آري بنساءه العديدات.. في تلك الأيام لم يكن خاطر دورّة منشغلا سوى بأحوال المملكة، التي كان يرى ضياعها رؤية العين، فحكام الحواضر والقادة، لم يعد احدهم مهتما بإبلاغ آري بما يجد من أمور، وانصرفوا مثله الى ملذاتهم..
كانت الحياة في المملكة تتعطل، وآري لا يهتم. أرسلت إياكوري زوجة آري في طلبه، فلبى مسرعا، ليخبرها بما وصل إليه في شأن تعليم الفتيان الملكيين (والفتيات الملكيات)، الذين كانت تخطط لإنتزاع القصر من هيمنة، الجواري والمحظيات والخصيان بواسطتهم، لتعود ساورا الى سابق عهدها، مملكة للمجد. قالت إياكوري:
-    كيف يمضي إعداد الفتيات والفتيان؟!..
-    شارّف على الإنتهاء.
-    أحوال القصر تسؤ دورّة..
-    بل أحوال المملكة كلها..
-    أين تركت الفتيات الملكيات؟!..
-    في سومنق.
-    يبدو أن نيرديس خرجت من هناك دون أن تراها. فقد جاءت الى هنا قبل قليل.
-    انها متمردة.
نادت إياكوري على نيرديس المراهقة، ذات الجسد المتحفز. أتت نيرديس مطأطأة الرأس. نظر دورّة في عينيها.. أعماق عينيها بحنق. ابتلعت ريقها، وهي تتذكر تلك اللحظة، التي سبقت مفاجأته لها: هي وبييه في حجرة فوك الملحقة بالحانة.. قبلها بأيام كانت قد جاءته تركض في فزع والدّم يسيل على فخذيها، كان وقتها يجلس وحده في سومنق.
-    لا تجزعي يا عزيزتي. إهدأي. لقد أصبحت إمرأة. كل النساء يحدث لهن ذلك. ستمر أيام قليلة. وتعودين كما كنت.. إذهبي الآن الى إياكوري..
قبلها، لم يكن دورّة منتبها للتكورات، التي بدأت تظهر في أجساد الفتيات الملكيات. وجسد نيرديس بصفة خلصة.. .
 تنهد دورّة بعمق وقلقه يتنامى فالرسل الذين أرسلوا، لإستكشاف المناطق المجاورة، لم يعد منهم احد حتى الآن. والأحوال تزداد سوءاً. كان الرسل قد غابوا لأيام وشهور عديدة، خالها الناس سنوات ودهور. طال الغياب وزحف اليأس، يقنط بالنفوس المنهكة، وعندما رأى الناس أول القادمين من الكشاف، استبشروا خيراً. ركضوا بنفاد صبر لسماع الأخبار الجيدة، التي يمنون انفسهم بها..
توالى الكشاف واحدا تلو الآخر، يحكون عن محصلة رحلاتهم المرهقة، وفي كل مرة يشعر سورنق والناس بالخذلان. لكن ظل الشيخ دورّة يهديء النفوس القانطة، يبعث فيها الأمل من جديد، بحكمته النافذّة، ويصِّرُ على الحكي عن أرض موعودة.. أرض الأجداد التي لم تصورها حكايات الرسل، الى أن جاء بييه بعد مضي وقت طويل، وأخذ يصِّف أرضا بعيدة، خالية إلا من وحوش البرِّيّة والأدغال، تجري فيها المياه العذّبة، وتنتصِّب الصخور في صورّة الكبش. أرضا كأرضهم تماما قبل أن تصيبها لعنة الغرباء، الوافدون من خلف البحار العظيمة، فتجف وديانها وتصاب بالمحل، ويدهمها الوباء الغامض، ويتسلط عليها الغزو الساحق لمملكة الجوار.. .
لتتحوّل في لمح البصر، الى قبور متنامية، وبيوت مهجورة، وهياكل تمشي على قدمين!..
بينما أنشغل الرّاعي العجوز دورّة، بإعداد الفتيات الملكيات، الخمس. لممارسة السلطة المباشرّة على القصر، بعد أن أنهى إعداد الفتيان الملكيين الأربعة، لطرد نفوذ المحظيات والجواري، اللائي سلبن عقل آري، فصار يتخبط ولا يفعل شيئا إزاء الخراب الذي بدأ يحل بالمملكة. أخذ يراقب الفتيان الأربعة، منسحبا من إنشغاله بالفتيات الخمس شيئا فشيئا، فنبهته نيرديس:
-    أبا دورّة.. نريد أن نمضي لنرتاح..
التفت اليها في هدوء:
-    كيف ترتاح من أختيرت بعناية لتكون زوجة إلهية، وممثلة للسلطة بين كهنة الكبش وآري؟!..
وقتها كان آري قد جمع نساؤه، وأجلس إياكوري إلى جواره. كان مهدوداً ومنهاراً. لأول مرّة يشعر بالخذلان كما يشعر به الآن، وتحدث في حزن عميق:
-    حكام الحواضر أصبحوا يتجرأون علىّ. لا يهتمون بأنني آري سليل الكبش المقدّس..
تنهدت إياكوري في عمق:
-    لقد جلبت ذلك لنفسك آري. إهمالك لأمور المملكة، جعلهم يتجرأون عليك. لقد فقدت هيبتك.
التفت اليها بحدّة:
-    آري لا يفقد هيبته أبداً..
قالت بهدوء:
-    الجوار يعد جيشاً، بينما القواد لم يفعلوا شيئا. ، مما أمرتهم به.. القواد والحكام منشغلين بمحظياتهم وجواريهم. ، اللائي هن أهم من تنفيذ أوامر آري!!!!..
قالت ذلك وهي ترمي ماريانا بنظرّة متأففة.. ردّ عليها:
-    سأعزلهم..
-    لست في ظروف تسمح لك بذلك. الوقت غير مناسب. ثم أنك يجب أن تجد دالي أولاً. وبمساعدة الفتيان الملكيين، يمكنك استرداد هيبتك.. هيبة ساورا.. لكن قبل كل ذلك يجب أن تعود الأمور الى نصابها. هنا في هذا القصر..
نظر آري الى إيا كوري في ألم ثم ألتفت الى ماريانا. نهض فتبعته وهي ترمي إياكوري بنظرّة شامتة..
غاب الرّاعي العجوز دورّة مرّة أخرى، حيث الفتيان الملكيين، فتذكر سورنق: إبنه الوحيد، الذي أختفى ذات صباح بعيد..
نشأ سورنق محباً للعزلة والإنطواء، ميالاً للتأمل والأحلام الكبيرة، لم يكن ترك أبوه للكهانة والعودّة للرّعي في ذلك الوقت يروقه. لشدِّ ما أنف عن الرّعي، وحلم بإرتياد الآفاق البعيدة. ظلت أحلامه تكبر معه يوما بعد آخر.. أحلامه بعبور الصحراء الشاسعة، ورؤية ما تخفيه خلفها من عوالم جديدة، والوصول الى ذلك البحر البعيد، الذي يفصل بين عالمين: عالم السافنا والمستنقعات والصحراء، وعالم آخر مجهول!..
وذات صباح شاحب أختفى سورنق، مثلما أختفى دالي من قبل.
أختفى سورنق مباشرّة بعد أن أُجريت له طقوس الرجولة. هرب مع إحدى القوافل الماضية من ساورا الى طريق الملح، منتهزا فرصة أن عرض عليه قائدها الجرهمي اصطحابه، وتعليمه التجارة وفنون الحياة..
كان التاجر عبد اللّه الجرهمي رغم محظياته وجواريه العديدات، لم ينجب سوى تلكما التؤامتين من عجوبة، التي أختفت من حياته منذ وقت طويل، تاركةً له سابا، التي نشأت في كنفه نشأة غريبة، إذ كانت ميالة للوحدة، والتوحد منذ طفولتها الباكرة.. تمضي خلف جبل الميدوب فتحضِّر إليها الجنيات ثمار غريبة تأكلها بسعادة غامرة، فتشعر بنفسها قوِّية وخفيفة ونشيكة كطاقة ما. تلهو معهن وتعود في المساء الى مهجعها دون أن تكلم أحد. قال العرّاف لأبيها:
-    إبنتك مأخوذّة بجنيات الجبل. روح جدتها التي حبسها سليمان الحكيم في(سواجن)(13) وأنقذها ذلك الصّياد وتزوجها.. هذه الرّوح ترافقها الآن..
كانت سابا متوحشة، وشرِّسة. تقاتل كرّجل، عندما يقترب منها أحدهم أو يتحرَّش بها. كانت كالحُلُم المستحيل، لأقرانها المبهورِّين بجمالها الساحر.. ذلك النّوع من الجمال الفريد الذي لا علاقة له بالبشر..
وعندما رأى التاجر ذلك البرِّيق في عينَّي سورنق.. تلك الرّغبة العميقة في المجهول، والتي لا تخطئها العين المدرّبة. ذلك الشيء اللامع، الذي كان يُقلق الرّاعي العجوز، كلما رأى أقران سورنق، فتأكله الحسرّة وتتجددّ في أعماقه الأحزان..
كان بييه، ساو، صولمنج وكوري أقران سورنق يكبرون أمام عينيه يوماً بعد آخر. يتخطّون مراهقتهم ويهيجون عليه الذّكرى، التي لا تفارقه أبداً. ذكرى ذلك اللمعان القلِّق، في عينَّي سورّنق، الحبيب الغائب..
عندما يرى ساو وهو يصنع من عروق الحجر تماثيلاً دقيقة لشبونة، يتنهد:
-    سورّنق أفضل منه..
ويتعلق بصرّه بصولمنج بقسماته الهادئة، في عزلته المحببة المهيبة، يتعبد في محراب الكبش، ويقدِّم القرابين للطبيعة..
-    لو كان سورنق موجودا لدخل يتعّبّد للآلهة..
ويتامل كوري المغرّم بصنع الطبول الصّغيرّة، ويتذّكر كيف يُحضِّرَّها في المهرجانات، ويُنصِّبها على مبعدّة من ضاربي الطبول، ثم يقرّع بإيقاع وديع يخلخل القلب، ويرعِّش السِّلسِّلَّة الفقرِّيَّة..
-    لو كان سورّنق موجوداً لترفع عن ذلك..
وعندما يصرّع بييه أقرانه في لهوِّهِّم البريء، يتأوه الرّاعي العجوز في ألم..
-    آه سورّنق، أنت أقوى منه.. أين أنت يا بني.. بعينيك شيء يسحبك بعيدا وعميقاً..
.. ومنذ إختفاء سورّنق. ، في ذلك الصباح البعيد، أخذ الآباء يشددّون الرقابة على أبناءهم، أن يتخطّفهم التجار والغرباء، فيصبحون مثل الرّاعي العجوز دورّة، يلوكون الحسرّة و الأسى والأسف..
الوحيدون الذين كانوا يعلمون كدورّة، أن سورّنق لم يختطف:هم أقرانه الفتيان الملكيين.. كانوا عندما يجتمعون بعيداً عن القصر، بين الأكواخ، أو قريباً من حقول الذُّرة والفول والسمسِّم أو في جناين الموالح.. يتذكرون سورنق إبن معلمهم الرّاعي العجوز، الكاهن دورّة.. لم يحدث أبداً أن نسوه، رغم مضي سنوات عديدّة منذ أختفى بغموض(فمثله لا ينسى) في ذلك الصباح الشاحب الذي فقدت فيه الشمس، بهاؤها!..
-    أراد سورّنق أن يحقق أحلامه، أن يجوب الآفاق ويتعلم أكثر.. ويعرف..
قال ساو، فعلّق بييه، كأنه يطرد طيف سورّنق الذي يشِّل تفكيرّه:
-    لقد اختارك آري مثالاً ملكيا ساو.
-    .. .. .. .. .
علّق كوري بخبث:
-    لكنه لم يعد ينحت سوى الفتاة شبونة!..
قاطعه بييه في حزم:
-    إحذّر كورِّي ولا تنسى أنها فتاة ملكية..
وعقّب صولمنج في هدوء:
-    والفتيات الملكيات مقدسات، لا يتزوجن. وإن تزوجن ليس لأزواجهن سلطة عليهن.. هكذا علمنا الكاهن العجوز دورّة..
-    تقصِّد الرّاعي العجوز..
قال ساو ووجه يتعكر ثم أضاف:
-    أنتم تتحدثون كثيرا كأنني لا أعرِّفُ عنكم شيئا. أنت يا كورِّيّ تختلي بنبتة كثيرا، ولقد رأيتك أنت كذلك يا صولمنج برفقة نيرديس، و رغم ان القصر يعدك روحيا لتكون كاهنا ملكيا.. هل تصدِّقون الكاهن صولمنج يحب فتاة ملكية، وأنت ايها المصارع بييه، هل أتحدّث عن فتاتك؟!..
تعكر وجه بييه:
-    ماذا تعني بحق الكبش؟
-    أليست لك علاقة غامضة بنيرديس، وفي ذات الوقت تلاحق شقيقتها لنقي.. شقيقة دالي!؟!..
ردّ ساخرا:
-    لا، لم يحدث ذلك. لقد أخطأت، فالتي تلاحقني هي كوِّي.
-    أنا لم أتحدّث عن التي تلاحقك. بل عمن تلاحقها أنت..
قاطعه بييه:
-    أنت ترميني بما ليس فيّ. أنت تكذِّب، لأنك تحسدني، لأنني أصرعك دائماً، الوحيد..
قاطعه:
-    وكذلك أنت الوحيد الذي له علاقة غامضة مع عامل حانة أتنّي..
كان بييه الوحيد بين شبان ساورا الذي يُسمح له بدخول حانة أتنّي.
عندما دخل أول مرّة أهتم به الغريب الأبيض فوك، أكثر من أي شخص آخر، وسقاه الخمر بسخاء غريب. فظل بييه منذها يتردد على الحانة، واصبح وفوك كالأصدِّقاء القُدامى، رغم فارِّق السِّن ولغة فوك المتعثرّة..
أخذّه فوك ذات مرّة الى غرفته الملحقة بأتني. أتى الخمر المعتق، شرِّبا كثيرا حتى غابا عن الوّعي..
عند الفجر أفاق بييه ووجد نفسه عارياً، وأحس بألم في "مخروقته". نظر حوله. كان فوك ايضا عارياً. إرتدى إزاره بعجلة. ، وهجم على فوك يضرِّبه حتى أدماه. ظل فوك صامتا يبتسم في سخرِّية، وكأنه لا يشعر بألم الضربات، التي أستمر بييه يوجهها إليه كيفما أتفق..
-    ما الذي فعلته بي؟.
-    لم أفعل بك شيئا. إنها الخمر، هذا النّوع.. .
استرد بييه خواطره وهو يمسك بآخر كلمات صولمنج..
-    .. وكلنا يعلم منذ طفولتنا الباكرة، أن لنقي تحب سورّنق. ألا تذكرون كيف كانت تغضب حينما لا تجده معنا. فتركض بعيدا إلى ما وراء الحقول، حيث مراعي الجزو. تبحث بين الجاموس والأبقار عن سورّنق إلى أن تجده. كنا نجلس مع بعضنا البعض، ونلهو إلا سورّنق ولنقي. دائما يبتعدان عنا. يتهامسان و يضحكان في رنين ينتزع العشب من فم الجاموس و يجعل الأبقار تنسى أجترارها وخوارها!..
تمدّد آري عاريا في مخدعه. حاولت ماريانا، أن تنسيه همومه وأحزانه. لم يأتيه أحد بأخبار دالي، وأحوال ساورا تسوء كل يوم، أكثر من اليوم الذي سبق. وهو مشوّش لا يدري ماذا يفعل.
-    إنس يا حبيبي كل همومك، فانت معي. الآن معي. مع حبيبتك ماريانا.. إنس كل شيء ولا تتذكر شيئاً سواي..
كانت كلماتها تهدئه. ترتخي أعصابه، ويشعر بصّفحٍ وغفران، فيبتسِّم.. فتداعبه ماريانا، وهي تتمتِّم بين لحظة وأخرى:
-    ستبقى قوياً آري.. ستبقى لأجلي..
الأيام تمضي ببطء، في غياب سورّنق. ، والبهاء الذي يشِّع من حواضر المملكة السِّت، يخبو شيئا فشيئا، وذلك البرِّيق الساحر لساورا يتضاءل، ومع ذلك تضاف الى قصر آري مبانٍ حجرية جديدة، فالأسرة الملكية تكبر، وقد آن الآوان لإعطاء الفتيات الملكيات، والفتيان الملكيين حجرات خاصة بهم، بجواريها وعبيدها.. حجرات منفصلة وبعيدة عن حجرات أمهاتهم..
الأمطار غيرّت مواعيدها منذ عدّة مواسم، وبدأت علامات الجدب تتضح شيئا فشيئا. خشى الناس الخطر الذي يتهدد حقول الذُّرة والفول والسمسم.. النباتات البرِّية الوحشية بعضها لم ينبت في السنوات الآخيرة، والقوافل التي تجيء الى ساورا مرتين في العام قلّت كثيرا.. وصارت مثل الأمطار تأتي في غير مواعيدها..
عنما تهطل الأمطار الشحيحة تصيب الأرض والناس، بشيء من الخصب. تتوالد الماشية، لكن ليس كثيرا كما مضى.. تنمو الذُّرة، لكن ليست شاهقة كما كانت.. يجدد الناس إزاراتهم الصّوف والجلد بالكتاّن، لكن ليس القطن والغلالات الناعمة الذي أصبح ذكريات تنتمي إلى ماضي ساورا الزاهر..
الذين يرتادون حانة أتنّي الكبيرة في قلب ساورا، عددهم يقِّل.. لقد ولى زمن الخصب الوفير الذي يريح البال وتتنامى معه الأحلام الكبيرة!..
في ذلك الصباح البعيد غامرت نيرديس بدخول مخدع آري، بعد أن تأكدت من خروجه الى غرفة الككر. كانت متلهفة لمعرفة: لماذا تريدها الجارية الفارعة البيضاء ماريانا. التي منذ وطأت قدميها أرض ساورا، حتى لم تعد الاشياء هي الأشياء، اذ أحدثت وفوك فرقاً كبيراً في كل شيء..
كان كل من في القصر قد انقسموا الى قسمين في موقفهم من ماريانا: قسم أعجب بها كثيرا(الرجال) وقسم يشعر تجاهها بحقد عظيم (النساء).. لكن كل القسمين كان يتحدث عن سطوتها على آري للدرجة التي جعلته لا يقرب جواريه ومحظياته ونساءه. عزف عن الجميع وولع بها وحدها. منذها أشتعلت النيران، في قلب إيا كورِّيّ. ، التي أخذت تحاول وسعها استرداد مكانتها، في قلب آري دون أن تصيب شيئا من النجاح..
وقفت نيرديس الى جانب الباب بتلصص، ولم تشعر بوقع خطى ماريانا، إلا وهي تقف أمامها وتضع يدها على كتفيها:
-    أدخلي لا تخافي فلن يراك أحد. خشيت ألا تحضري. طلبت من كتركوا الا يطلبك إليّ إلا إذا رآك وحدك..
-    إياكورِّي لن ترضى عني، لو علمت أنك طلبتني..
-    لن تعرف أنك جئت إليّ. كما ترين أنا هنا وحدي، أريدك أن تكوني صديقتي..
-    .. .. .. .. .
-    لا أحد يحضر إلى هنا، إيا كوري حاصرتني وحرضّت نساء آري..
-    آري هو الذي منع الفتيات الملكيات، من دخول خدا الجزء من القصر. لماذا طلبتني؟!..
-    لأتعرف إليك. لقد أصبحت في سن إمراة صغيرة، تؤهلك لمعرفة الكثير.
كانت نيرديس قد أصبحت أنثى مكتملة منذ أيام قليلة فقط.. حديث دورة الراعي العجوز اليها، وحديث أمها أشعلا في رأسها أفكاراً غامضة، فأوقد في نفسها فضولاً خابياً، منذ وقت طويل
-    لماذا لا تجلسين؟!..
كانت نيرديس بادية التردد فجذبتها ماريانا، من يدها بلطف. أجلستها على الدّكة الملتصقة بالمخدع وجلست.. .
-    أنت إبنة آري وإياكوري الصّغرى. أليس كذلك؟!..
-    أنا تؤام لنقي، ونبتة تكبرنا.. .
ثم أطرقت نيرديس برأسها.. ثم تلفتت في قلق تجاه فتحة الباب،
-    لا تخافي. لا احد يأتى الى هنا. وآري منشغل بمجلسه..
ثم نهضت:
-    سأعلمك اشياء جيدة، آن الأوان أن تعرفيها..
-    أي أشياء؟!..
-    إنها أشياء تخص النساء..
أستبد بنيرديس الفضول، سحبتها ماريانا من يدها، دون أن تترك لها فرصة لتجيب، مضت بها ماريانا الى حجرّة داخلية مجاورة، وأغلقت الباب ثم أسدلت ستارا كثيفا، وأجلستها على مخدع الغرفة..
قال ساو:
-    أحلم بساورا كلها مبنية من الحجر بدلاً عن هذه الأكواخ..
-    هل جننت؟..
قال بييه ثم اضاف:
-    أتريد أن تساوي النّاس بنا. أتريدهم أن يصبحوا ملكيين؟!..
-    أليسوا شعبنا؟..
قاطع صولمنج بييه ثم أكمل:
-    أما أنا سأصنع طبلا كبيرا. أكبر من الطبل المقدس، ليكون بديلاً عنه!..
تدخل كورِّي:
- دعونا من كل ذلك الآن..
- ألا توجد أخبار عن دالي. ألن يعود..
- كيف يعود وقد خرق آري العرف.. حتى أن دورّة تخلى عن الكهانة بسبب ذلك..
إستبدل آري الأم القوية إياكوري بمحظية لعوب، يقول دورّة أنه أستمرأ خرق العرف و لا يأبه للجوار الذي يعد الجيوش لمحاربتنا..
-    الجميع يتخلون هذه الأيام عن الأعراف..
-    ماذا تعني؟!..
-    ألم تفكر أنت في مساواة الأهالي بنا.. ألم تفكر في إستبدال الطبل المقدس..
-    أحذر بييه، ستجلب لنا اللعنة..
-    الللعنة حلّت منذ فقد آري سيطرته، على أمور المملكة، ولم يعد لنا دور يذكر في مملكة ساورا..
خيّم عليهم الصمت لفترة، فقطعه ساو محاولاً تغيير مجرى الحديث:
-    أنتم لا تفكرون بصورّة صحيحة. يجب أن نصرف أهتمامنا لرد هيبة ساورا، فحقنا في الملك لا يقل عن حق دالي فيه.. كما أنه بالإختفاء الغامض لدالي، نكون نحن الورثة، وعلينا التصرف على هذا الأساس. نظر بييه الى ساو في خبث،
 فقال صولمنج:
-    استطاع دالي التمكن من الحروف، وحكمته لا تخفى على أحد لو كان موجوداً، فهو أحق بالعرش من غيره.
قال كوري فقاطعه بييه:
-    أنتم تتحدثون كأن آري لم يعد موجودا..
فعلق كوري:
-    نحن نتحدث عن المستقبل، ولا نعني الوقت الحاضر. كما أنني أعرف جيداً، أن دالي زاهد في العرش. لقد أفسده الغرباء الذين كانوا يجالسونه لأوقاتٍ طويلة..
-    لكنهم مكنّوه من معرفة أشياء كثيرة.
-    الغرباء كانوا يأتون فقط لبيع مقتنياتهم العجيبة. لقد أفاد من سورنق.. .
-    بل سورنق هو الذي أفاد منه.
تغير وجه بييه:
-    كل ذلك ليس مهماً الآن. يجب أن نفكر في تدارك الأوضاع.
قاطعه كوري:
-    لكن مهم أيضا أن نعرف لماذا واين أختفى دالي؟
-    نبتة تقول أنه غضب من كون أبيه، ألعُوبة في يد ماريانا..
-    بل قل ألعوبة في يد المحظيات والجواري والخصيان!.
-    المحظيات البيضاوات اللائي جلبهن له التجار، من خلف البحار البعيدة، هنّ أساس المشكلة
-    أرسل آري الرسل والمراسيل، المحملة بخيرات ساورا، الأمر الذي أوغر صدر الجوّار.. الذي أرسل يحذره، لكن آري لم يتجب..
-    مال الجوّار ومالنا ان ارسلنا الى حلفاءنا المراسيل.. وشيء من خيرات ساورا أو لم نرسل؟..
-    الجوار يريد ساورا أن تعامله مثلما تعامل الآخرين الذين يبعدون عنها إلى ما وراء الأُفق السحيق.. يرى نفسه الأقرب إلينا في المسافة والدّم..
-    انهم يعبئون جيشهم يا صديقي.. كيف لنا أن لا نتوجس منهم؟!..
عندما دخل رسل آري مدينة الحلفاء. كانت رائحة الخراب تفوح من كل شيء. أستوقفتهم الأنغام الحزينة التي تصدر من "زمبارة" أحد المغنين عند مدخل المدينة، واستمعوا باهتمام للشاعر الذي ينشد خلف الأنغام مأساة الحلفاء..
عندما أنهارت المدن القديمة بفعل الحروب، اجتمع ما تبقى منها وتحالفوا ثم تواضعوا على بناء مدينة واحدة كبيرة. اختاروا لها من بينهم حاكما، يديرونها معه كمستشارين له.
نمّت المدينة وازدهرت، واصبحت قوة لا تقهر، وإلى هذه المدينة الجديدة جاءت المراة بارعة الجمال عجوبة. فتنت الوزراء، وقادة الجيش.. لعبت بقلوبهم وأفئدتهم، ولم يحظِ بها أحد منهم أبدا ثم أختفت عجوبة، غابت لسنوات عدة قبل أن تعاود الظهور مرة أخرى. فعلموا منها أنها عادت الى موطنها في الشرق، لترعى إبنتها الوحيدة.
وكانت الكنداكة ابنتها آية المدينة الكبيرة، كعلامة لآخر الزمان، لم ترَ مثل جمالها عين بشر. جنّ الشعراء وفقد الوزراء هيبتهم، وكاد قادة الجيش لبعضهم البعض. مضت الأيام وخطّ الشيب على شعر عجوبة رحاله، ووسمتها التجاعيد والأخاديد، لكن ظل شيء من الجمال القديم في المحيا و القامة التي لم تنحنِّ.. وكلما أشرقت شمس الصباح، كان جمال الكنداكة يغوِّر حنين الجراح، أكثر فأكثر ويشعل صبواتا لا أول لها ولا آخر.
كبرت الكنداكة إذن، وداعبت في خيال الناس ذكرى ذلك الجمال البعيد الذي عاشوه يوماً، وهم يتذللون لعجوبة، حتى ترضى. تقدم الوزراء وقادة الجيش واحدا تلو الآخر، يخطبون منها الصبية البضة التي سلبت عقولهم، وأشعلت في وجدانهم حماقات آلآف السنين.. ألهبهم يفاعها وغصنها المياد، الذي لم يترك المغنِّين جزء فيه لم يدبجوا فيه أغنية عارمة الأوار. وفي هذا الجو المشحون بأهواء الأشواق، وأشتياقات الوصل، نسجت عجوبة مؤامرتها، وأخذت تقول لكل من يتقدم لخطبة الكنداكة، انها ترغب في أن تزوجها، له ولكنها تخشى هذا الوزير أو ذاك.. وعندما أرسل السلطان في طلبها، زعمت له أن قواد الجيش والوزراء، هددوها وأمروها بألا تقبل بخطبة الملك لإبنتها.. وهكذا أخذ كل وزير يشعر بأن الآخرين، يقفون أمام حلمه بالكنداكة.. كما شعر السلطان بالغضب، تجاه قادة الجيش والوزراء. تنتابه مشاعر شتىّ. إذ اعتقد أنهم لم يعودوا يهابونه، ويتجرأون عليه ناسين أنه آري المملكة، ولا يقيمون له وزناً. ولابد له من استرداد هيبته التي أهدرت. وهكذا ردت عجوبة التحالفات، التي نهضت عليها المملكة الى جذورها. فتمايزت إلى مكوناتها التي نهض فيها التحالف، واشتغلت الأحقاد القديمة والإساءات المنسية، وأصطفت الجماعات ضد بعضها البعض..
قال المغني لرسل آري:
-    أكلت المدينة الكبيرة نفسها، ليصفو الجو لحكم الكنداكة، التي تزوجت من أحد الخصيان.
نظر الرسل الى بعضهم البعض، وقرروا التراجع الى ساورا بخفي حنين!..
كانت المدينة المقدسة تنتظر مجيء الرسل، مثلما تنتظر الأمطار، التي مضت ثلاث سنوات منذ آخر هطول لها.
جفت الوديان ومحلت الأرض، وأصيب الناس بالهلع. الغرباء الذين كانت أزقة ساورا، وحواريها تمتليء بهم هربوا.. أتنّي الكبيرة التي تتوسط ساورا، بنى فيها العنكبوت بيوته الآمنة.. وسكنته الخفافيش والبوم.. هجرت أتنّي ولم يعد أحد يرتادها. عمّ الضيق أرجاء ساورا التي بدأت تذوي أكثر فأكثر، مع مشرِّق كل صباح جديد..
صباح كل يوم يحمل الناس جثمان طفل أو طفلين، فالوباء بدا بالأطفال، الذين لم يبلغوا السادسة، ولم تُجر لهم بعد طقوس التدريب الشعائري. فهم ليسوا كاملي العضوية في الجماعة، ولذلك يدفنون في مدافن مخصصة لهم، تحت سطح الهضبة بعيدا.. عن مدافن الرِّجال بعد أن يوضعوا في أوعية الفخار مقرفصِّين..
أخذ الوباء الغامض ينتقي الرجال شيئا فشيئا، فنشط حفارو القبور وصانعو الأثاث الجنائزي، أكثر من أيّ وقت مضى على التاريخ المجيد لساورا، التي عمتها الأحزان الآن.. حتى آري نفسه بدا مرعوباً، من هذا الذي يحدث، ويستشعِّر أن أيام ساورا الآخيرة قد دنت. أفزعه ما أصابها، وهو يرى أيامها الجميلة. ، تولى الى الأبد. كان يائسا ومحبطاً ومنهكاً ومنتهكاً حتى النّخاع!..
أصاب الجفاف الأشجار فصارت يابسة كالحة. الوباء الذي يحصد الأرواح والوديان، التي صارت أمتداداً لصحراء قاحلة. الوباء لم يدّخر شيئا. وتلك الأخبار التي تتواتر عن جيش الجوار الجرار، والرُّسل الذين لم يعودوا أبدا، تزيد النفس قنوطاً على قنوطها!..
حاول آري ترتيب الأمور في المملكة. نشِّط وسط جنده بعد أن أستيأس من عودة الرسل ومؤازرة الحلفاء..
كان جيش الغزاة يقترب شيئا فشيئا من ساورا، عندما أجلست إياكورِّي لنقي على حجرِّها وأخذت تداعب شعرها في حنو:
-    ليس لساورا إياباسي سواك لنقي. أختيك ليست لديهما حكمتك، ودالي قد لا يعود. فمن لساورا غيرك. انه أمر عظيم، لكن طاقتك ستحتمله. ستستطيعين لنقي، وستقدرين على النهوض بشئوون المملكة. إذا دهم الغزاة ساورا. ، ولم نعد أحياء بقربك. يجب أن تعيدي بناء كل شيء، اذا حدث المكروه.. عديني لنقي أنك ستحافظين على عرش أجدادك.
اقترب الغزاة أكثر فأكثر، فارتجفت قلوب الناس. ، وأهتزت الفروع اليابسة، وتشققت أرض الوادي القاحل وازداد اضطراب آري، فهتف بقائد الفرسان بييه:
-    دع كل شيء واهتم فقط بحماية الفتيات الملكيات..
-    ألن أحارب؟!..
-    نعم أنت والفتيان الملكيين، يجب أن تتم حمايتكم كما علمنا الأسلاف. يجب أن يبقى من يستمر لأجل ساورا..
-    والفرسان؟!..
-    سأجد من هو كفء لقيادتهم.
أعاد آري تنظيم جيشه من جديد. أكثر ما كان يُقلقٌه هو إمدادات حواضر ساورا السِّت، اذ لم تصل رغم مضي وقت ليس بالقصير، ما أربك خُططّه. فساورا تحارب في أوقات عصيبة.. انهارت معنويات آري تماما، عندما تواترت الأخبار، بأن الحاضرتين الشمالية والغربية الحدوديتين مع الجوّار، سقطتا في يد الجيش الغازي.. اسقط في يد آري..
-    لكن كيف؟ جيشهم لا يزال يزحف! كيف؟!..
-    لقد تعاون معهم بعض قادة الجيش ووزراء بلاط الحاضرة، كما أنهم أوكلوا مهمة اسقاط المدينتين لجيشين آخرين..
-    والعيون؟ عيون ساورا؟ اين العيون؟!!..
-    انها مسئولية كتركوا.
بحث آري عن كتركوا الذي كان كفص ملح وذاب! بكى آري كما لم يبكِ من قبل. كانت ماريانا أيضاً قد اختفت! ربت دورّة على كتفه بحنو، وقالت إياكوري في لوم:
-    لم تسمع كلام أحد.
التفت إليها دورّة في هدوء:
-    ليس هذا وقت اللوم.
تنهد آري المجروح المخان:
-    ترى أين يكون دالي الآن؟ أنا بحاجة اليه الآن أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
-    لا تشغل بالك به. سيأتي. لا محالة سيأتي..
هز آري رأسه في أسف وأسى. أطرق إلى الأرض ثم رفع رأسه ببطء، وأمر قواده بسحب الجيوش من الحواضر الأربعة، المتبقية ومركزتها شمال ساورا. ، المدينة المقدسة. لم يعد أمامهم الآن. ، سوى الإنتظار على أبواب المدينة، لمقاومة الغزاة، فساورا لا تستطيع إختيار الميقات والمكان للمعركة الفاصلة. خرج آري في قيادة الفرسان ليلحق بالجيش شمال العاصمة، تداعت ماريانا بطيفها الساحر في تلك الحظة الأولى.. في تلك اللحظة التي دخل فيها كتركوا يعلن عن وجودها..
-    قافلة قدمت من درب الأربعين، جاءتك بهدية..
-    هدية؟!..
-    تركها التاجر الذي جاء بها ورحل.
-    لماذا لم يقابلني؟!.
-    ربما لم يسمح له حراس القصر. فاختفى. ربما يعود مرةً أخرى..
-    اهتم بها وبعد أن ترتاح آتني بها..
 ولم يمض سوى اسبوع حتى دخلت عليه ماريانا. وقف مشدوهاً. لم يكن يتصورّها بهذا الحسن. تمنى لحظتها رؤية التاجر الذي أتى بها ليشكره. لكنه لم يرّه أبداً، وبمرور الوقت كان قد نسيه. أنسته ماريانا كل شيء ولم يعد يذكر شيئا سواها. ظل طيفها الساحر، لحظة رآها لأول مرة مسيطراً عليه، حتى وهي بين أحضانه..
-    اللحظة التي رايتك فيها، لم أرَ أنثى. كنت أمامي جسرا بين الشجن واللوعة. طيف من اشتياق أزلي..
حاول آري أن يبعث في الجند شيء من الحماس والأمل. لكن الهزيمة التي جاءوا يحملونها، معهم من الحواضر التي أخذت تسقط واحدة تلو الأخرى. تحت سنابك خيل الغزاة، وتركع كالسبايا والصبايا المهزومات، وهن يقهرن تحت وطء الغزاة..
كانت النفوس متآكلة وآخذة في الإنهيار المتسارع، فلم تتبق سوى ساورا العاصمة. والغزاة يقتربون. عما قليل ويكونون على أبواب ساورا. الحلفاء البعيدين لم تأت منهم أخبار. فالرسل لم يصل منهم أحد، وساورا تمضي لتنمحي من الوجود، وتكون أثرا دارسا..
الشائعات تضعضع الجيش المنهار، الشائعات التي لا يعرف مصدرها أحد، تتحدث عن قتل الكنداكة لرسل آري:" لحقت بهم خارج المدينة الكبيرة وقتلتهم. رمت بجثثهم لطير الفلاة.. " الشائعات تتحدث عن اللعنة التي جلبها تجار القوافل، وتتحدث الشائعات عن غضب زوجة آري. ، إياكوري الأم القوية المقدسة. ، وحسرتها.. ورفضها مفارشته منذ سنوات عدة.. بالضبط منذ جاءت ماريانا، وأخذ يستخدم طرقا غريبة عليها في المخدع، فلفظته لها..
الشائعات تحاصر الجيش الموجوع المتداع.. أرسل آري لملك الجوار، أن يتراجع ويدع ساورا وشأنها، فرد عليه، بأنه لن يتراجع إلا إذا جاءه آري صاغرا، وركع عند قدميه وذرّى التراب على رأسه وناح مرددا:"أنا إمرأة.. أنا إمرأة.. " غضب آري غضبا شديدا، حتى صارت عيناه بلون الدّم. أصدر الأوامر بالزحف، الذي كان يدرك أنه زحف اليائس..
زحف الجيشان تجاه بعضهما البعض.. اقتربا.. اقتربا.. ولم يتوقف الزحف أبدا. اراد جيش الغزاة أن يستريح، لتكون المعركة في اليوم التالي. الشرر الذي يتطاير، من عيني آري. ، منعه الإستجابة. ، فأصدر قراره المباغت بالإلتحام..
حارب آري ببسالة أدهشت أعداءه، كان يقاتل كألف رجل، ركبهم الجن السود وشياطين الجحيم الحمر. قاتل ببراعة وحماس بالغين، كأن ماردا مجنونا، فائق القوّة تلبسه!.. قاتل كما لم يقاتل أحد من قبل أو من بعد، الى أن أخترقته مدّية سامة فأردته. سقط آري فأرتبك الجيش وأرتعب سقط القتلى. سقط الجرحى، وتفرقت بقايا الجيش المهزوم، في السهول الشاسعة لصحراء. ، لا قلب لها..
حمل الغزاة معهم جثمان آري، ودخلوا به ساورا المفزوعة. كان الناس ينتظرون قدرا غامضا، حتى أنهم لم ينتبهوا لانتحار زوجة آري للوهلة الأولى، مثلما لم ينتبهوا لإختفاء الفتيات والفتيان الملكيين.
عندما دهمت جيوش الغزاة ساورا، عمّ الخراب كل شيء. خلى القصر الملكي.. لم يكن به سوى بعض الخصيان والجواري، والمحظيات والعبيد.
قتلت جيوش الغزاة كل من وقف بوجهها.
قبل أن يستبيح الغزاة ساورا، كان بييه وساو، قد انسحبا من مؤخرة الجيش. دخلا المدينة، يبحثان عن الفتيات الملكيات. وجد بييه الفتيات الأربع، فذهب يخفيهن في ركن حجري، خلف الأكمة الصخرية. ، في الوادي القصِّي، الذي يجاور ساورا، من جهة الجنوب، بينما اختفى ساو. ، بشبونة في مكانهما الأثير..
انسحب الغزاة بعد أن نهبوا ما استطاعوه. خشيوا أن يصيبهم الوباء.  هم أيضا. إذ اشتد الوباء. كأنه يتحالف مع الدمار. ، الذي خلّفته الحرب، وأخذ يتفشى بسرعة كبيرة.
وجد الأهالي جثة آري المتعفنة. ، بعد أيام من مداهمة الغزاة وانسحابهم. حملوا الجثمان ذو الرأس المنخور، ووضعوه القرفصاء داخل آنية الفخار الملكية، بعد أن لفوا جسده بالقطن، ثم جيء بالخصِّي الأول. حيث ُطعن في القلب تماما، وتُرِّك ليلفظ أنفاسه الآخيرة، بهدؤ ثم ُقدِّم قربانا لآري..
لم يجدوا أحدا من قارِّعي الطبول، لينقل بالضربات الخفيفة، نبأ إنتقال آري الى أسلافه.. إلى الودّيان والصحراء والغابات.. ليحمل النبأ: صّوى السّارِّي وعلامات الطريق. ، وهواء الصحراء وأوراق الشجر.. إلى الناس والبِّيد والطيور. ، في السماء البعيدة..
ليخيّم الصمت الجنائزي. ، على الكون كله. ضياء النجم البعيد الغارب، وقمر السهوب الشاحب، والشمس المخبأة في تلافيف الغيوم، وبخار الأرخبيل، وقرنا الكبش الخصِّي..
لأول مرة. لا يقرع إيقاع الموت. في تاريخ موت السلاطين بساورا المقدسة، ولأول مرة يدفن آري في صمت. دون ان تدفن معه مقتنياته العاجية، التي نجت من سلب الغزاة..
ودع الناس آري بنظرة عميقة، غامضة وهم يدفنونه، في الأعماق السحيقة للمدافن المقدسة، بعيدا عن مدافن الشعب. قريبا من مدافن الأطفال..
ثم ألتفتوا يدفنون الجنود في منحدرات الهضبة، التي يدفنون تحت سطحها الأطفال..
خلّف الغزاة وراءهم صدمة هائلة، لم يعرف شعب ساورا مثلها، أبدا طوال تاريخه العريق، ومع الخراب والوباء والجفاف، كانت أمداء اللعنة تتسع..
جفت الوديان والضروع، وحلّ الخراب بكل شيء، وأزداد نشاط حفارو القبور. ، أكثر فأكثر..
كان ساو لحظتها، ينهض من على صولمنج. مهدودا والأخير يقول له في تأوه:
-    لقد أصبحت متوحشا ساو!..
تجرع ساو بعض الخمر بتلذذ:
-    انني اقاوم الموت والدمار اللذان حلا على ساورا..
-    أنا ايضا أريد أن أنسى كل شيء!..
-    ترى كم سندفن اليوم من الموتى؟!..
-    أنا لن أشارك في هذا المناخ الجنائزي. ، مرة أخرى.
عندما نهضا وأرتديا إزاريهما. كان فناء المدينة قد بدأ يزدحم، بجميع القادمين من المدافن..
قال ساو:
-    لنعجل حتى لا يفتقدنا الناس.
أخذ الفناء يزدحم أكثر فأكثر بأهالي ساورا، الذين نزحوا من الحواضر كلها، فامتلأت بهم المدينة الخراب. ، التي شغرت من سكانها الاصليين، واغرابها الذين هجروا أكواخهم منذ وقتٍ مبكر. قرر من تبقى من شيوخِ وكهنةِ ساورا، تنصيب آري جديد، فتدخل دورّة:
-    نحن لا نعرف مصير دالي حتى الآن.. خبر خراب ساورا، ومقتل آري ملأ الآفاق. ، وقد يجيء دالي في أيُّ وقت. ، إذا كان لا يزال حياً بعد..
أتى صوت نيرديس من قلب الجمع:
-    لا تضيعوا وقتا، نحن بحاجة لآري، وبييه هو الأصلح لهذا الأمر، وإذا جاء دالي يتنحى بييه له.
قلّبوا أبصارهم بين نيرديس وبييه، الذي كان صامتا، لا تعبر ملامح وجهه عن شيء، قال أحد الشيوخ:
-    نحن في محنة وهذا أمر سابق لأوانه.. سيدير ساورا مجلسا من الشيوخ، وبعضٍ من أفرادِ العشيرة الملكية، الى حين عودة دالي. لقد أستشرنا الكبش المقدس في ذلك. سيكون جزء من هذا المجلس من تبقى على قيد الحياة من كبار رجال ساورا.
ثم ألتفت الشيخ إلى بييه وساو وصولمنج وكورِّي:
-    نحن نثق بكم. فلا تفعلوا شيئا دون أن ترجعوا الينا.
أضاف دورة:
-    عليك يا ساو بتصوِّير الخراب، الذي حلّ بساورا، على جدران المعابد.. وأنت بييه عليك جمع ما تبقى من الشبان وتدريبهم، واتركوا لكورِّي أمر الجمع الصبية في سومنق..
قاطع صولمنج الشيخ دورّة:
-    أنتم تنسون شيئا مهماً، ليست لدينا مقومات للبقاء هنا، وتعمير ساورا من جديد..
.. انسحب دورّة بعيدا، طفا على سطح ذاكرته. ، وجه وحيده الغائب سورِّنق..
-    أنت تحلم كثيرا سورِّنق!..
-    كل ما نفعله في الواقع هو أحلام.
-    ماذا قال لك دالي هذه المرّة؟.
-    لم يقل شيئا. نظر إلىّ عميقا، ثم أطرق كنبيٍّ تؤرقه رسالة عظيمة.. غامضة لا يدري هو نفسه كُنهها..
-    ماذا تعني؟.
-    دالي يخفي بين جوانحه أسرار كبيرة.
-    وكيف عرفت أنت ذلك؟
-    عندما أسأله دائما يكرر " سيجيء الوقت الذي تعرف فيه كل شيء " و " الأمر لا يتم بدونك!"..
-    إذن هو الذي يغذِّي فيك جنونك..
-    أيُّ جنون يا أبي. أنا لا أعرف حتى ماذا يعني!..
-    لا، أنت تخبيء عني شيئا سورنق. لن أُجبرك على الحديث. أنا اشعر بك. ما تفكِّرُ فيه مستحيل!!..
-    فيماذا أفكر؟!..
-    لن تصبح آري بالسهولة التي تتصوَّر!..
.. . انعقد في الأفق البعيد. ، غبار كثيف جعلهم يتجمعون في ذعر، من كلِّ أزقة وحواري ساورا،. حدق صولمنج في الغبار، الذي أخذ يقترب شيئا فشيئا. هتف صولمنج:
-    انهم الغزاة مرةً أُخرى..
كان قلب دورّة قد انتفض بشدّة. أمعن بييه النظر:
-    لا، ليسوا الغزاة..
 اقترب الغبار فتبينوا خلاله ثلاث قوافل كبيرة، من الجمال المحمّلة، يتقدمها قائدها على جوادٍ أبيض. اقتربوا منه. صرخ دورّة:
-    سورنق!!!..
.. . بعد أن أنهى الأهالي احتفالهم بعودة سورنق، اجتمع الشيوخ، وقرروا أن يكون سورنق قائدا للمجلس الذي يدير شئوون ساورا حتى مجيء دالي. أو اختيار آري جديد اذا استمر غياب دالي.
باشر سورنق مهامه في نشاط محموم. وزع الأحمال التي جاءت بها، قوافله بنفسه. ، على الأطفال والشيوخ. وكان عندما يناله الأعياء يدخل الى غرفة دالي. يغمض عينيه ويرحل في أسرار ساورا.
كانت الفتيات الملكيات مستاءات، من فرض الشيوخ لسورنق، قائدا على الشباب الملكِّيين، وللمجلس الذي يدير ساورا. قالت نيردِّيس:
-    لقد اشتراهم بالأحمال التي وزعها عليهم.
تدخلت لنقِّي مستاءة:
-    انت دائما هكذا نيرديس. لقد أنقذ الأهالي من الموت. أعرف انك تريدين أن يصبح بييه آري.. لكنه لا يستطيع أن يقدم لشعب ساورا. ، ما يستطيع أن يقدمه سورنق. فالغزاة لم يتركوا شيئا حتى لنا نحن الملكيين. وبييه يعرف ذلك جيدا..
كان مجيء سورنق. ، قد أحيا الأمل في النفوس البائسة.. صوته العميق المؤثر، وكلماته النافذة تفعل في جراحات نفوسهم فعل البلسم الساحر. تشفيها مما ألم بها من مرارات. ، وآلام وأحزان غائرة، وتجعلهم يشعرون بالطمأنينة. كان كلام سورِّنقْ الهاديء الواثق الدافيء، يرمم وجدانهم ويأسرهم، ويجعلهم يحسون أن بالإمكان مواصلة حياتهم، كما في السابق، أيام مجد ساورا الخراب..
مضت أيام عدة على وصول قوافل أخرى لسورِّنقْ، وكلما مرّت الأيام تزداد، لنقِّي قلقا وتوترا.. تشتاق للقاء سورنق، ويحزُّ في نفسها أنه تزوج وأنجب، فتتراجع عن لقياه.
ظلت تهرب من لقاءه لعدّة شهور. كانت كلما مضت باتجاهه، لتحادثه تغيِّر رأيها..
قالت نبتة:
-    لم يحفظ سورنق العهد لنقي. لا تأبهي له. الأفضل أن تستجيبي لبييه.
ردت لنقي بتوتر:
-    لكنه لم يعاهدني على شيء، سوى أنه سيتزوجني..
في اليوم التالي لوصول سورنق، كانت لنقِّي، قد تحينت الفرصة، للإختلاء بدورّة الذي بادرها:
-    أين أنت. سورنق يسأل عنك منذ عاد؟.
-    عزمت في نفسي ألا ألتقي به، إلا بعد أن ألتقيك.
-    ما الذي يدور برأسك؟.
-    هل تزوج في غيابه الطويل؟
أطرق دورة قليلا، تفكر عميقا وهو يزفر ببطء:
-    نعم لنقي.. لقد كان..
ركضت لنقي مبتعدة، لم ترغب في أن تسمع أكثر مما أرادت معرفته.. منذها أخذت تتحاشى الاحتكاك بسورِّنق، تعاني احتراقاتها وحدها في صمت وتوتر مؤلم..
اصرّت شبونة:
-    حتى لو لم يعاهدك، كان لزاما عليه الا يتزوج..
هزّت كوِّي رأسها:
-    انتم تحمِّلون الأمور فوق طاقتها. لنقي هي الاولى.. انها ابنة آري..
اضافت شبونة:
-    كلام كوِّي صحيح. يجب الا تهتمي لنقي بزواجه من تلك الغريبة، التي لم نرها ولا نعرف عنها شيئا، فهو لك وسيظل لك..
قالت نيرديس التي كانت تراقب حوارهم في استياء:
-    اسمعي لنقي أمامك أحد خيارين فقط. اما أن تتزوجي بييه، وهو الذي سنساعده كلنا ليكون آري، واما ان تتزوجي سورنق، بشرط أن يترك الغريبة، ولا يأتي على ذكرها. وفي هذه الحالة أيضا لن نتركه، يجعل من نفسه آري علينا.. فنحن نريد بييه.. .
وسرحت نيرديس في خواطِّرِّها، بعيدا الى تلك اللحظة. ، التي فاجأها، فيها الشيخ دورة مع بييه. ، في غرفة فوك الملحقة بأتني..
كانت بعض لم تمض سوى أيام قليلة، على لقاءها بماريانا.. نقل دورّة بصره بينها وبين بييه.. صفع بييه بقسوة على وجهه، ثم سحبها من يدها، ومضى بها الى سومنق، ثم أخذها بعد ذلك الى القصر.
كان كلاهما مرعوبا، فاعتكفا بعيدا عن عيون دورة. ، وتجنباه لأيام عديدة، الى أن اصطادهما وتحدث إليهما طويلا..
-    لم أخبر أحدا بما رأيت، على ألا تعودا إلى ذلك مرة أخرى..
أشد ما كان يقلق سورنق هو لقاءه المتوقع بلنقي، التي أزعجه تجنبها له كل هذه المدة.
دخل عليه الشبان الملكيين، وأخرجوه من عزلته. سألوه عن الوديان والسباسب والوهاد والصحراء الشاسعة، وما خلف البحار البعيدة ، سألوه عن أشياء لا حصر لها، فحكى كل شيء منذ لحظة هربه، في تلك اللحظة، من ذلك الصباح الشاحب، إلى أن جاءه خراب ساورا.. أنهى سورنق حكاياته وقال:
-    سيطرنا الآن على المجاعة، لكننا لا نستطيع السيطرة على المحل.
-    الأحمال التي جاءت بها القوافل الآخيرة، شارفت على الإنتهاء.
-    ارسلت في طلب الذّرة والكتان والقطن، لكن ليست تلك هي المشكلة، فالخراب الذي حلّ بساورا حطم الناس، ولذلك علينا أن نرحل بهم، من هنا ليبدأون حياتهم من جديد..
قال سورنق فقاطعه بييه:
-    كيف نهجر أرض الأسلاف، وننزح عنها سورنق..
-    الأرض كلها للآلهة، والأسلاف معنا أينما ذهبنا..
خيم الصمت على الوجوه الشاحبة، صعب عليهم إبتلاع أمر الرّحيل، لكن خشيتهم من تخلي سورنق عنهم للموت والوباء أكبر. الهزيمة التي ضعضعت النفوس، جعلت للخراب طعما أكثر مرارة من الحنظل.
قال ساو بحسم:
-    نعم يجب أن نهجر هذه الأرض. ساورا لم تعد هي ساورا. كل شيء هنا سيذكرنا بالهزيمة
قال بييه:
-    انها ليست المرة الأولى، فساورا دخلت في حروب من قبل، انتصرت وهزمت، لكنها لم تغيِّر أرضها..
أكد سورنق:
-    لكن ليس طوال تاريخها، تتعرض وديانها للجفاف. وناسها ومواشيها للوباء!.. لو أصرّ الناس على الإستمرار بالبقاء هنا. ، سيموتون. كما أن دالي يريد للنّاس الرّحيل. أخبرني ذلك.
أشرع الجميع عيونهم وقلبوا أبصارهم. ، في بعضهم البعض. أضاف سورنق بحسم:
-    نعم جاءني دالي في خلوّتي. وأخبرني أنه علينا الرّحيل.
تداولوا الأمر بينهم، ثم عرضوه على الشيوخ صباح اليوم التالي. قلّب الشيوخ والكهنة الأمر في أذهانهم من كل وجوهه، ومضوا إلى المعبد يستشيرون الآلهة. غابوا لأيام في عزلة تامة ثم جاءوا فتحدث دورة:
-    لقد فوضني الشيوخ والكهنة بالحديث عنهم. سنعود إلى الأرض التي جئنا منها في البدء..
أتسعت عيون الجميع دهشة:
-    الأرض التي جئنا منها؟!..
-    نعم جاء أسلافنا من مملكة الجبل والوادي. جبل الكبش التي بدأت. ، تتكوّن بإتحاد غامض في الأزل بين الآله الكبش وروح الوادي. شكلا معا المملكة المهابة، على أرض الوادي الخصِّيب. حيث ينتصب الجبل العظيم آري، ليُطِّل على الجوار كله. ، من علٍ. يطِّل على الدّغل والسهل والقيزان. شهد الأسلاف ولادة الجبل، في روحهم وروح الجبل فيهم. وهذه المملكة التي صارت خرابا (ساورا) ما أنهارت إلا لتقديس البعض للقط، حارس مملكة الأموات. ، وتركهم عبادة الكبش المقدس.. انفصلت ساورا عن روح الكبش، لتؤلف مع القط مملكتها الهالكة.. في مشورَّة الآلهة، أن دالي سيجيء، ويشيد مرة أخرى ساورا.. سيبعث مملكة الجبل من قلب الوادي. من روح السلف الهائمة (دالي مختار منذ الأزل) للحقيقة والنظّام.
خيم صمت عميق، على الوجوه المنهكة. غرقوا في الدهشة والرّهق. اضاف دورّة:
-    لقد سقطت مملكة الجبل والوادي، في زمن سحيق. كانت قد تضافرت عليها، دفعة واحدة عشائر الغرباء والمحل والوباء القاتل. ، ووحوش البرِّية. أنهار كل شيء دفعة واحدة. مثلما حدث لساورا. فضرب الأسلاف في الآفاق إلى أن وجدوا هذا المكان، الذي أنشأوا عليه ساورا. كان أجدادنا نحن الشيوخ المعمرِّين، بعد لم يضع أجدادهم بذور آبائهم في أرحام أمهاتهم. انه زمن بعيد.. بعيد.. بعيد جدا.. .
مدّ احد الشيوخ تاجا من العاج، نقش عليه الكبش رمز القوّة والخصوبة. أخذ دورة التاج بيد، ووضع اليد الأخرى على رأس سورنق، وأخذ يتمتم:
-    انه قائدكم لمملكة دالي الجديدة. باركه الشيوخ والكهنة. باركه دالي إبن الكبش والجبل، روح ساورا القديمة، روح الجبل القديم الحي أبدا.. انه ابن دورة الراعي لشعبه، الكاهن المعلم.. أمه أخت الملك الكبرى، إبنة الكبش المقدس. انه سيدكم.. سيشيد مملكة دالي لشعبه العظيم. آمين..
هتف الكهنة والشيوخ خلفه:
-    آمين..
وضع دورة التاج على رأس سورنق:
-    ستقودنا منذ الآن، إلى أرض الأسلاف
كان الجميع ينظرون الى بعضهم البعض، ويطرقون رؤوسهم، و يقلِّبون وجوههم في حيرّة وقلق. تنتهبهم الأحاسيس والأفكار الغامضة، دون أن ينبثوا ببنت شفة..
قال سورنق:
-    صِف لنا أرض أسلافنا الأوائل أبا دورة.. نحت الشيخ دورّة ذاكرته. هوّم بخلاياه. نقّب بعيدا بعيدا.. أغمض عينيه، هدأت أنفاسه وأنتظمت، وأخذ يصِّف ببطء سهلا شاسعا. ، تتخلله المجاري والوديان والقيزان والجبال المتفرقات، والأكمات والادغال..
انطلق الرسل يبحثون عن هذ المكان، إلى أن جاء بييه ذات يوم، غارق في الغبار والحر:
-    وجدت أرض الاسلاف سورنق..
-    أهي جميلة؟!..
-    لم أرَ أجمل منها من قبل.. وحكى بييه لسورنق كيف أن قلبه خفق بشدة، عندما وطأ أرض الوادي.. " النقوش التي في جدران ذلك الكهف. ، الذي تنحدر المياه من مكان ما داخله، هي نقوش ساورا ذاتها.. النقوش والرسوم تحكي مسيرة شعب الوادي، في البدء والمنتهى، وتتحدث عن خيرات الوادي وطبيعته!"..
-    كيف وجدت هذا الكهف؟..
-    دخلت بدافع الفضول، فهو أول ما تقع عيناك عليه، وأنت تدخل الوادي.. ما أن وطأته قدماي حتى تعلق قلبي بالمكان" منذ الوهلة الأولى". لكأن حنينا بعيدا يشدني،. انها حقا أرض الأسلاف.
نادى سورنق في الناس:
ليستعد نصفكم للرحيل وليبق النصف الآخر. وتحرك الركب يقوده بييه الى مملكة ساورا الخراب ليأتي بالباقين من شعب ساورا، المهدد بالانقراض. نزل الركب وانزل الأحمال. وأخذ الجند يبحثون عن كهوف في الجوار واسفل الجبل. أدخلوا الشيوخ والنساء والاطفال إلى الكهوف، وأوقدوا النار عند مداخلها، حيث نام الرجال يحرسهم بعض الجند.
في الصباح جمعهم سورنق، ووزعهم إلى فرق. ، للعمل. وتحوّل الوادي الى خلية نحل دائبة الحركة..
كان المعبد الكبير قد اكتمل بناؤه، وشارف قصر آري على الإنتهاء، ولم يعد الوادي الموحش هو ذاته. توغلت الحيوانات الضارية في مجاهيل الادغال، ونهض سومنق في أعلا التل، وحقق ساو أحلامه القديمة في تشييد الفواشر حول القصر من الحجر..
كانت حاضرة الوادي أجمل من ساورا المهجورة. كانت تنمو بسرعة مدهشة..
نظف الأهالي الأكمات. نصبو" دناقل" العسل في الأشجار، وزرعوا الموالح والحبوب. نصبوا معاصر الزيوت والخمر..
أعاد ساو صياغة أحد الكهوف ليصبح مشغلا جميلا. كان يعمل بأزميله في أحد التماثيل الأنثوية،. بينما دهمته نبتة. فتوقف عن عمله. وضع التمثال جانبا، وأخذ ينظر إلى صدرها نصف العارِّي تلمظ وهمس:
-    سأنحتك يوما نبتة..
كانت تقف لا مبالية، وهي تبتسم في عذوبة:
-    لماذا ليس الآن؟.
مدت يدها تاخذ التمثال، الذي كان يعمل فيه:
-    انها لنقي..
قالت وهي تقطِّب حاجبيها، فرد بهدوء:
-    طلب مني سورنق نحتها..
كانت لنقي في هيئة الكبش، تفتح زراعيها تحتضن الهواء. شعرها ملفوف في جدائل صغيرة، تتدلى على الكتف. ، وبين نهديها المتحفزين العارِّيين. تتدلى حبات خرز صُفت بعناية. كان الكنفوس القطني الذي ترتديه، ينسحب قليلا. ، عن باطن فخذيها، ويبدو موشيا، قطبت نبتة حاجبيها في غيرّة.
-    يجب أن تنحتني في الحال..
فضحك ساو وهو يقترب منها، فاتحا زراعيه:
-    لا تكوني مشاكسة مثل نيرديس. الأمر ليس بهذه السهولة.
ادارت وجهها عنه، وهي تفلت نفسها من بين زراعيه، وأخذت تقلِّب بصرها في محتويات مشغله الصغير، الذي نقشت على جدرانه، تصاوير تمثل خراب ساورا، ومعابدها المهجورة وزوجة آري المنتحرة، وآري يقاتل ببسالة واستماتة. وفي صورة أخرى: إياكورِّي في كنفوسها الملكي وجسمها الفارع تحتضن بيديها، رأسا لكبش لامع العينين. كانت راكعة تحت قدمى كبش، يؤلف مع وجه ابنها دالي وحدة واحدة.
-    مشغلك جميل ساو!..
قالت نبتة في دلال فاجابها في تذلف:
-    وأنت بديعة نبتة.
-    أنت كاذب.
-    كيف؟.
-    أترك نيرديس ان لم تكن كاذبا!..
غيّر ساو مجرى الحديث:
-    الم ترى الطبل الذي صنعه كورِّي؟!..
-    انه أكبر طبل أراه في حياتي ساو..
-    بييه يقول أن هذا الطبل، سيحل محل الطبل المقدس الاكبر..
أخذ الناس يتوافدون الى المملكة الجديدة، وأخذت قوافل الملح تمضي وتجيء، وأنتشر التجار من شعب الوادي (شعب ساورا القديمة) يتاجرون بمواشيهم وحقولهم، بين الحدود القبلية والمهنية التي على الرغم من ثباتها، كان من السهل عليهم النفاذ منها. فالمزارعين الناجحين يستثمرون في الماشية، حتى يصلوا الى نقطة تكون فيها قيمة ماشيتهم، أعلا من قيمة حقولهم، ولكي يحموا استثماراتهم في الماشية، يجب عليهم عبور حدود الجوار العرقية، تاركين لغتهم وأسلوب حياتهم، ليتخذوا أسلوب حياة الجوار، لكونه الأسلوب الملائم لبداوة الماشية، تماما كما كان يحدث في ساورا البائدة، على حدود بداوة الإبل، حيث تكون الضغوط قوِّية على شعب ساورا، الذي يضطر للتكيف مع قيم الأبالة، عندما يعبرون الى حدودهم(*)الجفاف الذي أصاب الانحاء المجاورة للوادي. أضطر الرُّحل لأن يتوافدوا على المملكة الوليدة. اذ افقدهم الجفاف قطعانهم، وهدد الوباء حياتهم، فاستقروا في مملكة الوادي النامية، تخلوا عن ترحالهم واصبحوا مزارعين، وعندما يهتاج الحنين الى حياة البداوة في داخلهم. يذهبون في القوافل ويعودون، ولكن يظل الحنين هو الحنين..
اخذت المملكة تزدهر بسرعة وتنبض بالحياة، كأنها ليست تلك المملكة. ، التي أنتشر فيها الوباء يوما، وانقسم أبناء سلطانها الذي قتله الوباء الى ثلاثة مجموعات، ضربت في أنحاء الأرض. كأنها ليست هي تلك المملكة التي درّست ذات يوم..
كانت تنمو بصورة عجيبة وتزدّهر كأنها تخرج من قمقم أزلي..
اجتمع الرّجال الملكيين الذين كانوا يوما مجرد فتيان مغرورين في ساورا البائدة.. اجتمعوا في سرِّيّة تامة بكهف ساو، قال بييه:
-    مضى وقت طويل على سورِّنق وهو يقودنا، ونحن بعد لا نزال بدون آري.. والأمور تمضي كما توقعت نيرديس.. سورنق يخطط لتنصيب نفسه آري. ولن ينتظر دالي..
تساءل كورِّي:
-    ما العمل إذن؟
رد صولمنج:
-    أرى أن نجمع ما تبقى من العشيرة الملكية خلفنا. وبعد أن نضمن وقوف الجميع إلى جانبنا، سيضطر سورِّنق للتنحي..
قال بييه بعد تفكير عميق:
-    سورِّنق عرف كيف يكسب ثقة شعب ساورا. عرِّف كيف يستقطب البدو الرُّحل "الأبالة" الذين لا موطِّن لهم سوى الترحال، وجعل حتى الجنجويد" صعاليك الرُّحل " يشعرون بالإنتماء إلى هذا المكان. سورِّنق عرف كيف يجعل شعب الوادي يحبه ويخشاه، فهو الذي أنفق عليهم وأنقذهم من الموت المحقق، بعد خراب ساورا..
أضاف ساو:
-    لا تنسى إضفاءه على نفسه طابعا إلهيا خارقا، لا يقوى بعده أحد على معارضته..
قاطعه بييه في حدّة:
-    هل سنتركه يهنأ بالعرش لمجرّد هذه الإدعاءات، في الإتصال بدالي، وتلك التُرهات التي يحيط نفسه بها؟!..
أطرق كورِّي راسه وقال بعد تفكر:
-    أرى أن نبدا بمضايقته بالشائعات.
أضاف صولمنج:
-    هذا جيد. يجب أن نضايق ايضا هؤلاء الدُّعاة والمبشريِّن، الذين فتح لهم الباب على مصراعيه..
 لم تتحدث الفتيات الملكيات أو يعلِّقن. كن ينظرن في صمت إلى بعضهن البعض تارة، وتارة أخرى للرجال الملكيين.. نيرّدِيس هي الوحيدة لحظتها، التي انسحبت بخاطرها بعيدا عن أحاديث الرِّجال، ونظرات شبونّة وكوِّي ونبتة..
كانت هائمة في ذلك الليل البهيم، عندما أنسلّت خلسة في طرِّيقها الى بييه، الذي واعدها عندما ألتقته صباح اليوم الذي سبق. وصلته لاهثة الأنفاس،
-    هل رآك أحد وأنت تخرجين؟.
-    لا، لقد كنت حذِّرة. أنت تعلم أن آري يشدد الحرّاسة على القصر. فلا يستطيع أحد الخروج. تمكنت من الخروج بأعجوبة.. انها المرّة الأولى التي أفعل فيها هذا..
-    أعرف..
قال، وسحبها من يدها. مضيا في الدروب المتعرِّجة، الخالية التي انتهت بهما، إلى غرفة فوك في أتنّي.. كانت نيردِّيس متردِّدة وخائفة وقلقة..
-    أهدأي نيردِّيس!.
-    احقا ستتزوجني بييه؟
-    لقد وعدتك بذلك..
-    إذن لماذا نمضي متلصِّصين هكذا؟
-    نيردِّيس، لقد اتفقنا أن يبقى امرنا سرا، لا يعرِّفه أحد سوانا.
-    وشقيقتيّ لنقي ونبتة؟.
أجابها بحسم:
-    لا أحد نيردِّيس. أنا أريد أن أصبح آري، وأنتِ ستكونين إياكوري. ولنقي لا تريد لنا ذلك..
-    لكنك تقول للجميع أنك تريد لنقي؟
-    كلهم كاذبون.
نفضت نيردِّيس رأسها عن هذه الخواطر المرهقة، التي ظلت تصطرِّع داخلها لسنواتٍ وسنواتْ..
كانت قد جاءت بالفتيات الملكيات، ليحضرن إجتماع الرّجال الملكيين، من خلف ظهر لنقي. التي كانت تجلس لحظتها إلى سورِّنق، وتنظر في عينيه، تداعبها كل الأحلام القدِّيمة، لأزمانٍ لم تأتِ بعد ْ..
-    لقد حققت حلمك سورِّنق.. ماذا عن حُلمُنا؟.
-    حُلمي لم يتحقق بعد. وحُلمُنا تقفين عقبة أمام تحقيقه..
-    ألأنني أصر على أن تترك سابا؟.
-    انها أم إبني الوحيد (دالي) وأم إبنتي (كيرا).. كيف أتركها؟!.
-    لكنني ملكية. إبنة آري. شقيقة دالي. ولا أحتمل أن تشارِّكني فيك إمرأة أخرى. احتفظ بإبنيك وأعد سابا إلى ديارها..
-    ليس لها أحد هناك. لقد جاء أبوها بأمها من جبال الشرق. من البحر البعيد..
-    بل قل انك تريدها!..
-    اسمعي لنقي. لقد وقفت معي هي ووالدها، في وقت كنت فيه بحاجة لمن يقف معي. كنت وحيدا وغريبا!..
واخذ سورِّنق يحكي للنقي ما سمعته منه مرارا وتكرارا، عن ذكريات غيابه الطوِّيل.. منذ هرب في تلك القافلة، في ذلك الصباح الشاحب، مع صديقه التاجر الجرهمي.. .
كان التاجر قد استرعى انتباهه هذا الفتى، الذي ما أن تصل القافلة الى قلب ساورا، حتى يقف أمامها ويحدِّق فيها بعينين تشِّعان ببرِّيقٍ عجيب، فيحدث نفسه:" سآخذه معي ذات يوم!"..
كان التاجر يفكر في إبنته الوحيدة، التي تكرّه الإختلاط بالناس، وتعِّيش كالوحوش، دون أصدقاء سوى جنيات الجبل..
أكد العراف:
-    سحرتها الجنيات اللائي خرّبن المدينة الكبيرة. مدينة الحلفاء..
حدّث التاجر نفسه:" صبِّي غريب مثله، قد يتمكن من إخراجها مما هي فيه ".. كان التاجر الجرهمي منذ أن هربت عجوبة زوجته، بعد ان أخذت الكنداكة تؤام سابا، يلتقي العرّاف الهرِّم بين آنٍ وآخر. وكان قد أخبره مرارا، بأنه لن يلتقي عجوبة مرّةً أخرى، ولن ينجب بعد الكنداكة وسابا، وإن تزوج كل نساءِ الأرض. ولن يتمكن من سابا سوى رجل غريب، موعود بالملك..
في الأيام الاولى. ، كانت سابا تحضر له الثمار والشواء. ، واللبن. دون أن تبادله كلمة. ولم يحاول الإقتراب منها أبدا. ، إذ كان يريدها أن تشعر تجاهه بالأمان..
 كان يحاول أن يبدو أمامها لطيفا وعفيفا وطيبا. فكان سلوكه تجاهها مثل قسماته المرِّيحة، التي لا تشبه قسمات شبان مالحة الموتورِّين. فأخذت سابا تألفه ببطء، وتستمع للأصوات التي يحاول أن يعلمها إياها بإهتمام، وبعد مضي زمن ليس بالقصِّير، أخذت أصواتا مشابهة. ثم أخذت تتعلم منه بعدها بسرعة..
علمها سورِّنق لغة عشيرته الملكية، فمضت تتعلم من كل شيء حولها.. حتى كلام العصافير وأوراق الشجر وحشرات اللّيل..
-    أنا سعيد بك سورِّنق.
قال التاجر الجرهمي وهو يُضيف:
-    لقد علمت سابا الكثير. لقد أنقذتها من وحدتها ووحشتها. أذكر الآن حكاية ذلك العرّاف عنها. قال أن شفاءها على يد ملك غريب. ومن صُلبِها يخرج ملوك أشداء.. ملوك شعب فريد.. أرغب في الموت وأنا مطمئن عليها معك.
كان شباب مالحة يحسدون سورِّنق على علاقته بسابا، اذ كانت تمثل حلمهم الكبير، من دون كل الفتيات.. يحلمون بمجرد إبتسامة منها ترِّيح صبواتهم، وتطلِّق لأحلامهم العنان..
منذ طفولتها بينهم، كانت سابا كطلّسمٍ عصِّي البوح.. ما أن يقترب منها أحد، حتى تصرعه بعدوانية ليس لها مثيل. كانت تقاتل بقوّة فائقة، كأنها وحش ضار..
ظل سورِّنق يراقبها منذ أيام مجيئه الأولى. ، بصبر وهدوء. فقد شعر بها كفرس برِّي جامح. يشعل فيه التحدي. كل ما تمناه وقتها، ألا يفسد عليه الشبان الحمقى، علاقته المتنامية بها..
 لا يزال سورِّنق يذكر، كيف كان شبان مالحة. ، يتحرشون به عن عمد، يقصدون استفزازه. ولم يجد أمامه سوى أن يحتملهم بصبر. إلى أن استطاعوا اخراجه عن طورِّه، فأشهر في وجوههم هراوته الحجرية. ضحكوا منه وتحلقوا حوله، يشاغلونه من كل اتجاه، الى أن تمكنوا من تشتيت انتباهه..
فقد تركيزه، فحاصروه.. أقتربوا منه.. رفعه أحدهم، وقيد آخر يديه إلى ظهرِّه. هزَّوه من مئذره وأخذوا يضربونه بالهراوات، وهم يضحكون حتى أغمى عليه. وهو بين الصّحوِّ والإغماء شاهد سابا، تفرقهم عنه وتصرعهم واحدا تلو الآخر. كانت هائجة كلبؤة جريحة، يتطاير من عينيها شرر ألف نار.
في تلك اللحظة الفاصلة بين الوعي والإغماء، كانت حواجز أخرى بينه وسابا تنهار. يصاحبها أسى وحزن شفيف، لا يخلو من الخجل:" كيف تحمِّيه إمرأة!".. رفعته سابا بين يديها كطفل صغير، ومضت به إلى كهفها. وظلّت تعالج جراحه حتى الصباح..
أفاق وأخذ يراقب فعلها بأوراق الشجر، فقد كانت تمضغها وتضعها على جراحه.. .
-    سأرحل سابا..
نظرت إليه بعمق:
-    لأنني دافعت عنك. لقد كانوا أكثر منك. لو تقدموا إاليك إثنين إثنين لصرعتهم. أنا أعرفهم جيدا..
-    سأرحل عن هنا ذات يوم.. .
قال لسابا، التي لم يبد عليها أنها فهمت شيئا، هذه المرّة. فهزت رأسها:
-    لن تستطيع. سأرسل في إثرك صديقاتي جنيات الجبل. سيأتين بك بعد أن يُثخنّك بالجراح. لقد خرّبن المدينة الكبيرة، فكيف بضربك أنت؟!..
فضحك وقال بخبث:
-    لماذا تريدينّني أن أبقى؟!..
-    ستعرِّف ذات يوم..
ولم تضف شيئا. أخذ يجهد نفسه في تعليمها لغة قومه، ولا يتوقف إلا ليغوص في ظلال ساورا البعيدة، التي تدهمه بأطياف الأقران والأحبة.
-    سأرحل من هنا ذات يوم، لأرى ما خلف البحار البعيدة والصحراء..
يقول لأقرانه، فيضحكون منه. يؤكد:
-    دالي طلب مني الرّحيل..
صباح اصطحبه التاجر، كان قلبه يتلفت نحو ساورا. لكن حنينا أقوى للمجهول ظل يشدّه. قطعت القافلة السباسب والوِّهاد، إلى أن وصلت بعد قمرين إلى جبل الميدوب، فأناخت ووضعت أحمالها..
مضى سورِّنق مع التاجر، الذي أفرد له كهفا يرتبط بكهف سابا، وكهوف زوجاته عبر ممرات معقدّة.. وجاءه بسابا:
-    إنها إبنتي سورِّنق. إعتن بها. ربما يكون شفاؤها على يديك.
-    هل هي مريضة؟!..
-    نوع غريب من المرض. اذ لا تكلم أحد، ولا تحب الإختلاط بالناس، هكذا هي منذ طفولتها. إعتنِّ بها وسأعلمك كل شيء..
كانت سابا بلونِّ الطلح، فارعة كقمبيلة. معتدلة إعتدال البان. لم يرَ أجمل منها أبدا، أبدا. لا ترتدي على صلبها، سوى كنفوس جلد خشن. اقترب منها سورِّنق، فكشرّت في وجهه.
كجنِّيات الودّيان ترسل سابا شعرها على ظهرها، وتزداد تكشيرا طيلة اليوم. في اليوم التالي دخلت تحمل اللبن والثمار. أكل متغاضيا عن بصرِّها الساهم، ونظراتها المهوِّمة.. قال لها أنه يريد الإستحمام، وأخذ يمثله بالإشارات. سحبته من يده ومضت به، إلى الوادي خلف الجبل. هبطا الوادي. أشارت إلى الأرض فلم يفهم شيئا، ركعت على الأرض، وأخذت تزِّيح الرّمل بكفيها. حفرت حفرة صغيرة، فانداح الماء ليملأ الحفرّة ويسيل. فهم مقصدِّها وأخذ يحفر الأرض حفرة واسعة، عميقة.. خلعت كنفوسها، وفك عنه إزاره، وأخذا يستحمان في الوادي..
-    لقد نسيت عهدنا سورِّنق..
قالت لنقي بأسى، فرد بحزن:
-    لم أنس. لكنها الغربة عن الاهل والوطن.
-    لم تعد أنت سورِّنق الذي أعرِّفه..
كانت لحظتها وصايا إيا كورِّي، تنساب في خاطرها:
-    يجب أن تحافظي على مُلك آري لنقي..
وكانت لحظة المواجهة، التي ظلت تتجنبها، بما يعتمِّل في دخيلتها، من أفكارٍّ متضارِّبة ومشاعر متناقضة، تشعلها وصايا إيا كورّي.. وحبها اليتيم وحصّارات بييه، الذي يُصِّر على تصيدِّها، لإدراكه أن مشروعية الملك لها، بعد دالي، وفقا لتراتبية ساورا الملكية ، فهي كبرى بنات آري الراحل.
-    توقفي لنقي. لماذا تكرهينني؟.
-    أنا لا أكره أحد.
-    قلبك مع سورِّنق، وسورِّنق ليس لك. ثقي بي لنقي. أنا لا أريد سواك..
 كانت لحظة المواجهة الأولى، بعد غياب سنوات طويلة، وتهرب شهور عديدة. أشدّ إيلاما من الغربة، والحنين وأنتظار اللقيا، وتداع ذكريات الطفولة الضائعة، مع شعاعات النجوم البعيدة، عندما تهجع كل مساء. تقلِّب ذاكرتها، تجدهما يختبئان في الأكمة البعيدة. هي وسورِّنق. خلف الحقول. يجلسان. يضحكان في عفوِّية. فتغني لنقي في شجنٍّ عميق، يلِّف الصّمت والأشواق في غلالة من المشاعر الدافئة. تحتوِّي كل عذاب آت. يكتشفان يوما إثر آخر أحاسيسهما، أشياؤهما الخاصة، وشعورهما بعذاب مرتقب. فتمضي أصابع سورِّنق، وأنامل لنقي بعيدا بعيدا.
تدِّب كالنمل. تحفز البوح والشجن، وتشيع الدفء، لتصبح تشابكات الأنامل، زادا للذكريات القادمة خلسة، وخلسة يتوتر الجسد المتحفز، يسيل على رمال الوادي الذهبية، كحطام اوانِ الفخار، عندما يجرفها السيل بعيدا. عميقا في الصحراء التي لا نهاية لها.
-    انه الظمأ والحنين سورِّنق..
-    لقد قلت وقتها سأتزوجك.
-    وأجبت وقتها، أننا سنخرِّق العرف..
-    لا. اننا لا نخرِّق العرف، فالخالق جعل الناس، منذ البدء ذكرا وأنثى، وقال لذلك يترك الرجل أباه وأمه. ، ويتحد بزوجته، ليصير الاثنان جسدا واحدا، فلماذا يفرق الإنسان ما جمعه الخالق. الإنسان لأجل التوحد في نصفه الآخر، لا يترك أمه وأبيه فقط. يترك العرش لنقي. هل تدركين ما أعني؟ يترك العرش..
ظل سورِّنق يتحدث بلغته الغريبة، عن أحلام وخواطر أكثر غرابة..
-    ومع ذلك سأكون آري.. وساتزوجك لنقي.. الرؤيا التي أراها تقول ذلك..
-    الرؤيا أم الأفكار الغريبة لأخي دالي؟.
-    دالي يقول انك الوحيدة التي تفهمينه.
-    هو أيضا يفهمني..
-    لذلك تعتزلان الناس عندما تلتقيان. ماذا عن الرؤيا..
-    أرى فتاة هي أنت ولست أنت. فتاة تشبهك في كهف محاط بدغل كثيف. تحدِّق في طيف بعيد. أظنّه أنا.. طيف يحدّق في العرش.. عرش خلف ظهرِّها..
-    ماذا تعنِّي سورِّنق؟.
-    بل ماذا تعنِّي الرؤيا.. العرّاف يقول أنني سأصبح آري ذات يوم، بعد غربة ورحيل. لكن لن اصبح آري إلا إذا وجدت تلك الفتاة..
نظرت إليه في شك:
-    ماذا تعني بإذا وجدتها؟
أدرك أنه لا يستطيع خداعها..
-    أتحدت بها..
-    أتفعل سورِّنق؟
قالت ونهضت غاضبة. أمسكها من يدِّها. وهدأ بالها. ولم يعد للحديث عن تلك الرؤيا أبدا. حاول جاهدا أن ينسيها إياها.. أجلسها على أحضانه.. دائما يجلسها على أحضانه. ظهرها في صدرِّه، ويديه تعبثان في صدرِّها.
-    عندما ترحل سورِّنق خذني معك..
-    لا لنقي يجب أن تبقى..
منذ أصطحبته القافلة، وذاكرته تمتص كل شيء حوله: علامات الطرِّيق. صوّى الساري، نجوم السماء.. حارب وأسر.. عُذِّب وفرّ من الأسر، وتاجر.. رأى الأهوال والأعاجيب، وعندما عاد. ، وجد صاحبه التاجر الجرهمي قد مات، وسابا أنجبت له طفلا وسيما. ، أسمته دالي، كما أوصاها. ، قبل أن يغادر مالحة، بتجارته وتجارة الجرهمي..
كان التاجر العجوز قد ترك لسابا وابنها دالي كل شيء: الكتان والذُّرة والجمال والجاموس والأغنام..
-    انها لك سورِّنق.
-    ستبقى لدالي إلى أن يكبر سابا.
-    .. .
-    ما ذقته في أسر الكنداكة سابا كان شاقا على نفسي.
بعد أن مات الجرهمي، توقف سورِّنق عن السفر بتجارته، وأصبح يكتفي بإرسالها مع تجار مالحة، لتأتي له قوافلهم عند عودتها بالخير الوفير.
ينتظر عودة القوافل بنفاد صبر وقلق، ليتعرف منها على أخبار ساورا البعيدة..
حوّل سورِّنق مالحة من مركز لتجارة الملح، إلى حاضرة شبيهة بساورا المهجورة. كان أهالي مالحة قد أوكلوا له مهمة قيادتهم، فصار أشبه بآري لمالحة. لكن لم يخبو حنينه لساورا أبدا..
عندما يستفزّه الشجن، يصعد مع سابا إلى قمة جبل الميدوب، يرمي بعينيه قلب الصحراء، فتتبعان طرِّيق الملح، علّ قافلة تأتي من ساورا البعيدة، بريح الأحباب.. .
-    أحكي لي لنقي كيف حدث ما حدث؟
-    انهن الجواري البيضاوات، اللائي جئن من أقاصي البحار.. أحضرن معهن لعنة سبيهن..
كن يحاصرن آري ليلا ونهارا. وهو بينهن لا يكِّل الطِّراد، ولا يهتم للملكة الأم التي ملّت وهي تذّوِّي شيئا فشيئا.. كان الناس في ساورا يفعلون ما يعنّ لهم، ولا يهتمون لأحد.. بعضهم تخلى عن ميراث الأسلاف، وأخذ بما يقوله. ، أولئك الملتحين المدّعين، الذين نهوا الناس عن عبادة الكبش.. ودعاة آخرين تحدثوا عن نبِّي يدعوا لخالق لا يراه أحد..
قاطعها:
-    وكيف ترِّين أنت حديثهم هذا؟
أطرقت برهة:
-    انه أشبه بما كان دالي يزعمه. لكنني لم أفكر في الأمر، فالأسلاف تركوا لنا الكبش، وهو عندي كل شيء.. .
-    انه لا يختلف عن القط.
-    كيف؟.
-    هناك أمور لانستطيع إيجاد إجابة مباشرة لها.. هناك أمور تحدث بسبب معجزة ما، بتدبير قوى ما. قوى لا نراها، تدير حياتنا دون أن نراها..
-    كان دالي يكرِّر ذلك قبل أن يختفي..
فالمهرجانات التي يحدث فيها فعل الأرواح الشرِّيرة، جعلت دالي يبتعِّدْ.. هل تصدِّق سورِّنق كيف أصبحت الحياة في ساورا. الرِّجال يأتون بعضهم، وكذلك يتبادلون النساء، والنساء يفعلن ذات الشيء مع بعضهن البعض!!..
الأجنبيات جئن بذلك. دفعن الناس لفعله، فأختفى دالي وأنت، وزّوَّت الملكة الأم التي كانت تحذِّر آري فلا يستجيب. كانت تتآكل مما حدث حولها، حتى أستحال جسدها إلى هيكل، جفَّت في عروقه مياه الحياة، وآري بين جوارِّيه ومحظياته. كان دالي يلِّج عليه المخدّع، فلا يسمع منه ويطرده. يجيئه مرّةً أخرى.. يحتدان فيطرده، فيخرج إلى أن جاءه يوما منعقِّد الجبين، وقبل أن يقول شيئا طرده آري فخرج.
انعقدّت سحابة رمادية في أبهاء القصر. تفتق عنها صوت هاتف (سقطت ساورا الجاحدة لرّحمة الخالق. طوبىّ لدالي. طوبىّ للذين يرحلون، عن ساورا الجاحدة) وتكشفت السحابة عن كبش، قرونه تلمع بلون الشمس، ووجهه كبرد الشتاء، الذي يتجمع قرب الجبل، أقصى الوادي البعيد.
كان الكبش يشرع قدمين من نار. يحتضن بهما القصر، الذي تسيل على جدرانه الدّمامل، والقروح الخبيثة، وتزكم أبهاؤه الروائح النتنة. ثم هدأ كل شيء.
بحثنا عن دالي ولم نجده. كان دالي قد اختفى. قال آري انها رؤيا آري التي رأى. فأحتضنته ماريانا:
-    لا تهتم، انه كابوس. روح شريرة بسبب إكثارك من الخمر..
وكان معبد التّل يتكشف عن دالي يهتف بالشيوخ، يمنعهم من أداء ِ الشعائر للقِّط، وتقدِّيم القرابين الآدمية، ويحثهم على الخروج إلى أرض الأسلاف.. يقول " مثلما جئتم منها، إليها تعودون.. ".. تنهدت لنقي وهي تسنِّد رأسها، على صدر سورِّنق وتضيف:
-    كل هذا حدث وتسبب في دمار ساورا..
-    أعرف ذلك كله فقد كنت بينكم. أعني ما الذي حدث في غيابي..
-    دمر الغزاة ساورا..
عندما تناقلت الصحراء والوديان والغابات، أخبار خراب ساورا، كان سورِّنق يستفيق من رحلته الطوِّيلّة للتّو، وهو ينظر إلى الصَّبي الصّغير دالي، وهو يلهو مع سابا، ثم يركض خارج الكوخ..
كان سورِّنق وقتها يستفيق للتّو، من قصة هروبه ذات صباح شاحب، في إحدى القوافل المتجهة إلى مالحة مركز تجارة الملح، قُرب جبل الميدوب.. قال لسابا:
-    سأمضي إلى ساورا. إنها بحاجة إلىّ..
-    وأنا؟.
-    أنت نور عيني اللتين أرى بهما. ما أن يستقِّر بي المقام حتى آخذك..
حلّت سابا كنفوسها القطني وسألته:
-     أتذكر يوم جئت أول مرّة. يوم ضربك شبان مالحة؟.
-    لم أعد ذلك الفتى سابا..
ابتسمت:
-    لا تغضب. ما قصدت إغضابك. أعني هنا لديك هذا الصّبي، ولديك ذكرياتك منذ كنت فتّيًّ غرْ.. كيف تستطيع ترك كل ذلك وتمضي، تاركا خلفك حياتك؟!..
-    أنا إبن ساورا في النهاية، وهي تحتاجني الآن. انه واجبي..
سحبته من يده خارج الكوخ، وقادته عبر سلسلة معقدة، من الكهوف المتصِّلة، بممرات متعرِّجة.
-    إلى أين نمضي؟.
-    إلى كهفي. حيث أستقبلتك أول مرّة..
كانت تقوده وكنفوسها في يدها.
-    لماذا؟.
-    لأنني سأنتظرك دون أن أنظر إلى رجل في غيابك.
-    أنت نور عينّي..
دلفا إلى الكهف وهي تسحبه من يده. بحثت في أشياءها. أخذت كنفوسا قديما من الجلد..
-    انه ذلك الكنفوس الذي وجدتني به. سارتديه الآن وأنت تغادِّر.. أتذكره؟!..
أمسكه في يده. تفرّس فيه.. هاجه الشجىّ والشجن، وتدفقت في عروقه حرّق، كتلك التي تندفع من جوف الجبل.
في ذلك الوقت كانت سابا، قد بدأت تألفه وتعتاد عليه. فعنّ له أن يقترِّب أكثر من رؤيا العرش.. دنا منها وهما ينهيان حماميهما، في ذلك الوادي. أراد أن يتوحد معها، خبّت الإلفة في عيونها، وأنبعث محلها شرّر. كشرّت عن اللبؤة داخلها. نظر في أعماق عينيها بقوّة تنمرّت أكثر. دنا منها. فمدّت يديها كحيوان كاسر، لتنتزع خاصِّرته، فتراجع بزاوية حادة أطاحت بذراعيها في الهواء، فأختل توازنها، فباغتها من الخلف وأحتضنها. ، مقيدا يديها الى ظهرها، وشابكا ساقيه في ساقيها. أخذت تحرِّك رأسها وقدميها في عنفٍ، تشققّت له تربة الوادي الرملية الرطبة، وتزأر بوحشية، جعلت الطيور. ، التي في أعلا التّل ترتاع، وتهرب من وكناتها لا تلوي على شيء.
ظل سورِّنق ممسكا بسابا، إلى أن خارت قوّاها،. فكفت عن المقاومة، فتركها.. وقبل أن تتهاوّى كقلعة مهدّمة، سندها برِّفق، وأتكأها على حافة الوادي، وأبتعد عنها قليلا، ينظر إليها. حدّقت فيه بدهشة وغابت بعيدا.. .
عندما أفاقت وجدت نفسها لا تزال، مرتدية كنفوسها الجلدي. ومستلقية تحت قمبيلة ظليلة.. نظرت اليه في تردد، وتساؤل غامض يطِّلُ من عينيها.. تلمست بين فخذيها في عناية ودِّقة.. فحصت نفسها جيدا وسألته بدهشة:
-    لم تفعل شيئا؟
-    لم أفعل شيئا..
-    لماذا؟
-    لانك لا تريدين..
ولأول مرّة تبتسم سابا بهذه العذوبة في وجهه. في المساء جاءته بلبن كثير، وثمار وشواء.. أخذت تلقمه وتحكي له عن الجنِّيات اللائي سحرنها..
أكل سورِّنق كما لم يأكل من قبل. ، وشرِّب من كفيها ماء الآنية الفخارية، المعطرّة بالسِّعدَّة ونام.
عندما تسللت أشعة الفجر، الكوات المجهولة في الكهوف. تسحبت سابا. جاءت تحمل آنية ملأى باللبن. أخذت تشاغله حتى صحى. نهض بتكاسل وشرِّب من اللبن حتى أرتوى. مدّت سابا يدها الى مئزره، تحاول أن تفك العقدة التي تربطه. حسر عنه مئزرها، حلّ كنفوسها. نهض. جذبها اليه، واحتضنها بقوّة. أسندت سابا يديها على جدار الكهف، وحنّت ظهرها. باعدت بين ساقيها. الحمامة في مدخل الكهف حلقت.. حلّقت إلى عشها وهدلت.. ركعت سابا على ركبتيها والعرق يبللها. كانت كأنها تعود من رحلة بعيدة..
كانت لا تزال تتألم، وسورِّنق ينسحب منهكا ومهدودا.. استلقيا على ظهريهما يحدِّقان في سقف الكهف.. وضعت رأسها على كتفه. خيّم عليهما الصّمت، وأصابعهما المتوترة وانفاسهما اللاهثة تهدأ قليلا قليلا، والزّبد الذي سال منهما، يخطُّ على الرّمل أحاديث الأولين والآخرين، يزركِّشها بأُغنيات جنِّيات الجبل..
كانت الشمس قد غربت، عندما ارتدت سابا كنفوس الجلد، وخرجت من تلك الذّكرى المتجددة، وهي تنظر للصغير دالي، الذي بدأ وكأنه يبحث عنهما.. إلتفتت إلى سورِّنق:
-    ستجيء بنتا تؤاخِّي هذا الصّبي.
-    أرعيهما جيدا سابا..
-    اهتم لنفسك سورِّنق..
ومضى سورِّنق صّوب ساورا المهجورة، مخلِّفا وراءه سابا والصبي الصّغير دالي، وكيرا التي في رحم الغيب، كيرا التي ربما تولد في جبل الميدوب..
بينما أنشغل شعب الوادي، في ذلك الصّباح النديان باستعدادات الإحتفال البهيج، لإكتمال المملكة الوليدة، التي ألتفت حواضِّرّها النامية، حول الجبل الناهض، في قلب الوادي مقسما الأراضي الشاسعة، مترامية الأطراف. إلى مستنقعات وسافنا.. إذا بالجبل المقدس يهتز في عنف. سقطت له القلوب، وبرزت له العيون من محاجرِّها. توقف الناس عن أعمالهم وأخذوا يحدِّقون في بعضهم البعض..
أطلّ سورِّنق من قبة القصر، وهتف في صوت حاول أن يجعله عميقا ومؤثرا:
-    لا تهتموا. واصلوا أعمالكم..
كان بييه وقتها يجلس إلى نيردِّيس، التي احاطت وجهه بيديها:
-    ألم يحن وقت زواجنا بعد؟
-     ليس قبل أن أصبح آري يا نيردِّيس، ألا تريدين تحقيق أحلامك كإياكورِّي..
-    ولنقِّي..
-    أنت تعرفين أنني أريدك أنت. وتعرفين لماذا ألاحقها هي..
-    محاربة سورِّنق في كل شيء..
-    إذهبي الآن نيردِّيّس قبل أن يفاجئنا أحد. لم يتبق سوى القلِّيل ثم نعلن عن علاقتنا.. .
خرجت نيردِّيس من كوخ بييه، الذي تنفس الصعداء. كان واثقا أنه لو إنتصّر على سورِّنق، لن تواجهه مشكِّلّة سوى نيرِّيّس، لكنه بحاجة إليها الآن، اكثر من أيُّ وقتٍ مضى..
نفض عن نفسه غبار التدريب، وخرج الى حيث أجتمع سورِّنق بالكهنة والشيوخ، يتداولون أمور المملكة الوليدّة بينهم.. قال احد الشيوخ:
-    إذا كانت السماء حمراء صافية عند الغروب تقولون: سيكون صحو (3) وإذا كانت السماء حمراء متجهمة في الصباح تقولون: اليوم مطر!انكم تستدِّلون على حالة الطقس من منظّرِ السماءْ. أما علامات الأزمنة فلا تستطيعون الإستدلال عليها!(4)(**)..
حدّق فيه سورِّنق طويلا دون أن يعلِّق، إذا أنتقل مباشرة للتأكيد على ضرورّة الإ‘ستعدادات للتنصيب..
خرج الكهنة والشيوخ يكلِّمون الاهالي، ويحاولون تهدئة بالهم، ثم مضوا مع الجيش الجنِّيني لإكمال الإستعدادات..
اجتمع سورِّنق بعائلته الصّغيرّة، أحاطها بذراعيه..
-    لقد تأخرنا كثيرا لابد أن ننهي هذا الأمر الليلة.
كان القرع على الطبول يشتد، والأهالي شيئا فشيئا يتجمعون في فناء القصر..
-    آخيرا تحقق ُحلمك سورِّنق
قالت سابا. فنظر الى ابنيه دالي وكيرا، ثم عانق وجهها ببصرِّه:
-    حلمي سيحققه ولديّ.
ربت على كتف الفتى وشقيقته، وخاصر زوجته، وخرج يتقدمهم..
توقفت الطبول حالما اطلّ بوجهه، وأخذ الأهالي ينظرون إليه في إعجاب وهو يمضي لإعتلاء الككر، ثم انطلقت الطبول مرة ً أخرى في إيقاعات حميمة، ما لبثت أن تلاشت في صمتٍ مرعب، عندما أهتز الجبل مرةً أخرى وبعنف أشدّ. أخذ الناس يتماسكون وينظرون إلى بعضهم البعض وأقدامهم قد تسمرّت في رمل الوادي الرطب..
تعالت همهماتهم التي بعثها الفزع والخوف.. ولمرّة ثالثة أهتز الجبل ، وأنشقّت عنه سحابة بيضاء تحيط بشخص ما. بدت ملامحه ضبابية في رُكّام السّحابة.. كانت السِّحابة تتقدّم باتجاه الإحتفال. حدث هرّج ومرّج. زاد رُعب الناس وخوفهم، فصرّخ فيهم سورِّنق وهو يحاوِّل الإمساك بتلابيب شجاعته:
-    لا تجزعوا فتهلكوا. أثبِتوا لتتبينوا الامر..
إقتربت السِّحابة من الجمع شقته. كاد الناس يموتون فزعا ورُعبا. لم يكُن أحدهم قادِّرا على إنتزاع قدميه من الأرض، أو ردّ عينيه اللتين شخصتا في السِّحابة، التي أتجهت صّوب سورِّنق. انقشعت السِّحابة وتبدى عن رُكامها رجل وقور مهيب.. شعر الجميع بنظراته تأسرهم. صرّخ سورِّنق في دهشة وترحيب:
-    دالي.. .
أوقفه الرّجل الوقور بإشارة من يده ووضع يدّه اليمنى على كتفه وهو يقول:
-    لقد نفذت رغبتي سورِّنق، وها أنا أعطيك المملكة.
أخرج دالي من تلافيفه كتابا من الجلد، صُّفَ بعنّاية، ومده لسورِّنق وهو يُضيِّف..
-    هنا تجد المملكة المقدسة، كيف ولدت وكيف يجب أن تمضي.. أنني أعطيك مملكة أجدادي سورِّنق..
ثم نظر دالي إلى الكهنة والشيوخ وأشار لهم بأن يتقدموا لتتويج، سورِّنق. اقتربوا منه فأخرج من تلافيفه عمامة سوداء كبيرة.. .
-    انها عظمة العرش..
مدّها لهم وأشار بأن يضعوها على رأس سورِّنق بدلا عن تاج الكبش، ثم وضع يده على العمامة التي براس سورِّنق، وأخذ يتمتم بكلمات مبهمة. فتجمعت السِّحابة مرةً أخرى وأحاطتهما، تحولا الى ضباب ثم اختفيا..
عندما أنقشعت السِّحابة كان سورِّنق جالس على العرش وحده، وليس ثمة أثر لدالي.. كان دالي قد اختفى كأنه لم يمر من هنا أبدا!!.. .
هتف بهم سورِّنق ان يواصِّلوا الإحتفالات وأن يبهجوا.. في ذلك اليوم شعر الرِّجال أن طعم البّقو مميزا فوق العادة. وأحست النساء بصفحٍ وغفران وهن ينظرن للرِّجال المخمورِّين يتحرّشون بمنابع الخصب ومصدّر الحياة..
رقصّت الفتيات كما لم يرقصن من قبل، وأحس الشيوخ والكهنة للإحتفال طعم خاص فارقوه منذ وقت طويل، يدهمهم الآن بكل ما تتبدى عن الذّاكرّة من حنين..
وعندما توقف الناس عن الرقص والغناء، تحدث سورِّنق عن مجد ساورا المهجورة، وخطاياها وخرابها وتكلم بإسهاب عن الممالك النامية في الجوار، والتي قد تحسد شعب الوادي يوما على ازدِّهار مملكته، فتُسيِّر الجيوش..
-    اليوم أكمل دالي هيكل المملكة المقدسة، مملكة الجبل والوادي، التي انشأها في ظلام الجبل. واليوم أعلِن لكم رغبتي في الزواج من لنقِّي شقيقة دالي العظيم في مهرجان تجليد النِّحاس القادم، ليكتمِّل إحتفالنا بإكتمال تدريب الجيش والزواج من إياباسي لنقِّي..
خيم على القصر صمت مهيب منذ أخترق السهم المسموم فؤاد سورِّنق، فأرداه، وتآمر الكهنة والشيوخ مع بييه فزوجوا لنقِّي منه قسرا. مضت تلك الأفراح التي تخلِّفها المهرجانات البهيجة، ولم يعد لنسيم الوادي ذلك البوح العطِّر والدّفاق الرّيان بالحنين..
فمنذ سقط دالي طرِّيح الفراش شُلّت حركة الوادي، كما لم تشِّل لحظة اختراق السهم مجهول المصدر للجموع الغفيرّة واستقراره في فؤاد سورِّنق، مساء الأحتفال بتجليد النحاس.
كانت لنقي جواره مزهولة، لا تصدِّق ما تراه. تحدِّق عينيها في اللاشيء. فكل شيء بدا أمامها كحلم قصير متوهج لم يلبث أن إنطفأ.. قال دالي وهو يحاول أن يرفع رأسه قليلا:
-    يبدو أنهم قد دسوا لي السُّم كيرا
-    العرّاف قال أن الترياق الذي تناولته سيشفيك. لا تخشى شيئا دالي. ستشفى..
ابتسم في وهن:
-    لا تمنِّي نفسُك الأماني كيرا. لقد قضى الامر إنها أيامي الآخيرّة. لحظاتي الآخيرّة ربما..
دمعت عينا كيرا بغزارة. ها هو دالي يحتضر الآن بين يديها، مثلما أحتضر سورِّنق بين زراعيها من قبل، ومن قبل العجوز دورّة..
كانت تدرِّك أن العشِّيرّة الملكية لن تتركهم وشأنهم يهنأون بحياتهم، فكثيرا ما كان سورِّنق يقول:
-    أنتما إبني سابا الغريبة عن هذِّه الدِّيار، لن يتركوكما فأحذرا، ولم تمضِّ سوى سنوات معدودات على اكتمال المملكة وأنتشار تعاليم دالي التي حلّت محل شعائر الكبش حتى قُتِلْ سورِّنقْ..
وقتها بحث الحرّس السلطاني والجبد، يقودهم بييه عن مشتبه يتهمونه. قلبوا الارض اعلاها أسفلها ولم يتركوا حجرا لم يسألوه. ونتفوا حتى لحاء الاشجار، ولم يتركوا كهفا لم يبحثوا فيه، أحال بحثهم المسعور حياة العشيرة الملكية الى شقاءٍ وضجر. وبعد كل ذلك لم يتمكنوا من العثور على مجرد أثر يشفي الغليل..
كان دالي قد باشر مهام والده سورِّنقْ مباشرّة بعد الدّفن، إذ أُجريت له طقوس التنصيب، وقرّر الكهنة، أن يراجع دالي بييه في كل صغيرّة وكبيرّة من شئون المملكة الناهضة.
كان دالي قد أدرك منذ الوهلة الأولى أن العشيرة الملكية تخطط لسحب البساط من تحته، لتنفرِّد بحكم المملكة النامية دونه.. قبل إجراءِ طقوسِ التنصيب نصّحته كيرا:
-    لقد تآمروا على قتل والدنا آري سورنق يا دالي. وسيتآمرون عليك. سيبدأون بفرض بييه عليك بحجة صِّغر سنك. يجب أن نجد مخرجا بعد أنقضاء هذه الأحزان التي ستظل فينا ما بقى الدّهر.
حتى الآن لا تدري كيرا لماذا اصبح سولونق إبن الراعي العجوز يخطر على ذهنِّها كثيرا، خارجا من قلب أحزانها.. كان وجهه يطل ممزقا أغشية الأسى واللوعة، تستردها ملامحه الى فترة الصِّبا الباكر، عندما كانت تدربه هي ودالي.. قال دالي:
-    أنت تحبينه
فتأوهت ولم ترد..
.. كان المزارعون والرُّعاة وهم في طرِّيقهم الى مساكنهم، في السّحر، الذي سبق أُمسية التنصيب، قد سمعوا صوت منادٍ في البرِّية يهتف بهم ان توقفوا.. كان المنادي يغطي جسده بثوبٍ من الكِّتان، ويحمل في يده اليمنى عصاة محنية، ولا تخلو من التعرجات.. هتف بهم:
-    يا ابناء الزُّناة، كيف تجرأون على ارتكاب المعصِّية، وتقتلون آري غيلة وغدرا، قد ابدلكم سورِّنق بساورا الهالكة مملكة الوادي اليانعة.. كيف.. ..
أُصيب المزارعين بالرعب فتراجعوا مزعورِّين وهتفوا بالناس حتى تجمعوا فيهم، ليستمعوا الى حكايتهم.. .
أصبح هؤلاء المزارعون والرُّعاة هم كهنة المعابد الجديدة، التي شرع دالي في بناءها بمجرد أن خلف والده سورِّنق.. كان الواحد من هؤلاء الكهنة ما أن يقف وسط الجموع، حتى ينطلِّق لسانه ليأتي بحديث الأولين والآخرين، كأن ثمة من يُملِّيه ما يقول..
صدقهم البعض والتفوا حولهم و يتجولون في حواضر المملكة. وكذّبهم آخرون كُثُر.. فكانوا عندما يجتمعون بدالي، يسكنون الى تطييبه خواطرهم..
-    لقد ارتبط الناس بعبادة آلهة الأسلاف منذ وقتٍ بعيد ويصعُب عليهم أن يُغيروا ما ألِفوه في لحظةٍ واحدة. أرفقوا بهم وأصبِروا عليهم ولا تيأسوا..
وصبر كهنة المعابد الجديدة على الاذى، الذي أخذ يزداد بمرور الأيام. وبين آنٍ وآخر كان دالي يدعوهم، يتفاكر معهم، ويعطيهم صفحات من كتاب دالي لينشروها بين الناس..
-    ليس من ذلك جدوى، ما لم تكن هذه التعاليم متماهية في كل شيء يحكم المملكة.
قال أحد الدُّعاة، فسأل دالي:
-    ماذا تعني بالضبط؟
-    يجب أن يُنشّر كتاب دالي في الجيش والقضاة كقانون. ويجب أن يكون لك أنت نفسك مجلسا دائما. تجتمع إليه وتستشيره في كل شيء من شئوون المملكة..
-    انني أجتمع بالشيوخ والكهنة، كلما تعقدّت الأمور، مثلما يفعل كل آري..
-    يجب ان يكون المجلس ثابت، وليس كلما تعقدت الامور.. مجلس يعبِّر عن المملكة كلِّها وليس عن أفكار العشيرّة الملكية والكهنة وحدهم..
وأصرّ دالي على تجذر تعاليم دالي في الجيش الذي لا يزال جنينيا بعد. كما أخذ يقرِّن تغيير الشرتايات، بمدى تشبعهم بكتاب دالي، فاخذ لا يُنِّصِّب أحدهم في منصّب شرتاي أو خلافه، إلا بعد تأكُدِّهِ من التشرُّب بتعاليم دالي..
وانتشر الكهنة والشيوخ يعلمون الاطفال الحروف، في أوقاتِ إضافية، غير تلك الأوقات التي كانوا يقضونها في سومنق..
عاد الإستقرار الى نفوس الأهالي التي جعلها ذلك السهم مضطربة خائفة مما هو آتٍ..
وبدأ الحزن يخف شيئا فشيئا.. يغادر دواخل الناس ونفوسهم، التي احبت سورِّنقْ وقدرته كما قدرّت دالي..
أستطاع دالي بمساعدة كيرا وبعض الكهنة والشيوخ الصادقين، توحيد الناس في فترة وجيزة. فلم يستطع بييه الذي لم يعد يقوى على إخفاء تذمره، الإنفراد بالحكم وتنفيذ ما ظل يخطط له لوقتٍ طويل..
أخذ عدد القوافل التي ترتاد المملكة النامية يزداد عن كل مرةٍ سبقت، ومع هذه القوافل كان يأتي أولئك الملتحين الذين كانوا يجيئون الى ساورا المهجورة في اواخر أيامها لينذرون أهلها، ويبشرونهم بفجر جديد..
انتشر المبشرون والدعاة الغرباء، يتحدثون عن الكنداكة التي تملِّك البحر والساحل والسهل وكيف تخدِّم بإخلاصٍ في مملكة الرّب وملكوته وتغترِّف من مجدِّه، فتحقق الإنتصارات العظيمة..
تحدثوا عن عذابات إبن الإنسان وهو يقود الناس إلى الخلاص، حاملا عنهم خطاياهم وإنتكارهم ونكرانهم وجحودِّهم، الذي جبلوا عليه، ومع ذلك صُلِّب لأجلِهِم، كي يتحققوا في المسرّةِ والسلام..
أصبح الناس يختلفون عما كانوا عليه في الماضي، فمنذ تشّد دالي في نشر تعاليم دالي العظيم، حتى أختفت تلك اللامبالاة، وأخذوا يستمعون بإهتمام لكل شيء، ثم يمضون في طريقهم هادئي البال أو يتبعون طرقا مختلفة تفضي لدربٍ من النّور..
لكن لم يشأ أعداء المملكة النامية أن يستمر هذا الحال، اذ كان بييه الذي اضاف تفصيلات جديدة لخططه بعد أن حذف تفصيلات أخرى، لتتمخض بشائر خطته الجديدة فيما صنعه من جيش يخصه وحده داخل الجيش الجنينِّي للمملكة النامية.. وسومنق داخل سومنق المملكة الأساسي، وهكذا.. فبييه كان قد تمكن من شراء عددا لا يستهان به من الشيوخ والكهنة الموالين لدالي. كما اصبح لديه عددا مقدرا من المبشرِّين والُّعاة الذين أستمالهم لبعث شرِّيعة القط والكبش من جديد..
واستمال بييه من عبيد القصر الملكي وخصيانه، بعض الذين تضاءل دورهم داخل القصر عقب تولي دالي لزمام الأمور.. كان بييه يعمل بهدؤ في ظلامٍ معتم لا يراه فيه أحد، مستعينا بالجواري والمحظيات والنساء الملكيات، اللائي تقودهن له نيردِّيس، مستعينة بأقران بييه من الشيوخ الملكيين: كورِّي، صولمنج وساو الذين لم يروقهم أبدا مسار الامور في المملكة الجديدة.. ، التي بقدر ما تنمو يوما بعد آخر، بقدر ما يتضاءل فيها نفوذ العشيرة المالكة لساورا الهالكة.. ويندفن في أعماق الماضي السحيق. اذ لم يبق من مجد ساورا المهجورة، سوى أصداء لذكريات عائلية منصرِّمة.. أصداء بين جنبات القصر المهدّم لأري الراحل، أو بين جنبات أتني التي تتوسط ما أطلق عليه يوما " ساورا الجميلة "، ، وتلك المشاوير الحميمة في السهول وبين الكهوف، مع الفتيات الملكِّيات، اللائي تعلمن من الجواري البيض الفنون الساحرة في العلاقة بالرجال..
فوجيء دالي ببييه يحكم قبضته على كل شيء فجأة، ويتعمد معارضته في كل أمر. أدرك لحظتها أن بييه أستغل انشغاله بتكرِّيس النظام والحق والعدل فنخر عميقا في جسم المملكة. وما أن يحين موعد المجلس حتى يجد دالي نفسه موضع إتهامات مثل كل مرة من قبل العشيرة الملكية وبعض الكهنة والشيوخ الذين طلبوا منه أن يتزوج لنقي إبنة آري الذي استمات في الدّفاع عن ساورا وسقط قتيلا لأجل إرث الاجداد..
-    لكنها كانت ستصبح زوجة لابي. لا يحق لي ذلك..
قال احد الشيوخ من أتباع بييه:
-    لا دالي. أنت تريد أن تغير حياتنا وقبل ذلك تريد أن تقضي على ورثة العرش جميعهم.
-    أختاروا لي اى فتاة اخرى
كان دالي قد ادرك فداحة الفخ الذي نصبه له بييه، وشعر بأن تلك هي الايام الآخيرّة لسلطة سورِّنق، عندما دخل عليه بعض الجند، يقودهم بييه على حين غرّة وأخذوه مقيدا، حيث حبسوه في حجرة تحت الارض..
استتب الأمر لبييه الذي عمل على تعجيل زواجه من لنقي وتشديد قبضته على مملكة الوادي. أعاد بييه الناس قسرا الى عبادة الكبش بعد أن نكّل بكل الذي تخلوا عن عبادته، وأتبعوا ديانات الدّعاة وديانة دالي التي أحضرها في كتاب الجلد عندما فاجأ الناس يوم تنصيب سورِّنق.. حبس بييه بعض الدعاة والمبشرِّين الغرباء في حجرات تحت الأرض. وطرد بعضهم من مملكة الوادي. وأعتقل كل الذين علم بتذمرهم من أهالي الوادي، وأودعهم حجرات مظلمة تحت الأرض..
كانت سابا وكيرا وقتها تزوران جبل الميدوب. مستودّع الذِّكريات الحميمة، ولا تعلمان بما يجري في غيابهما. عندما رغبت سابا في العودة خالفتها كيرا الرأي فقد كانت تعلم من جنياتها بما يحدث في مملكة الوادي ، وأقنعتها بالمكوث لفترةٍ أطول في مالحة إلى أن تهدا الاوضاع التي لم تكن لدى كيرا فكرة عنها. كانت سابا متوجسة وقلقة على إبنها دالي رغم التطمينات التي بذلتها الجنيات، وكانت تعلم أن تلك بداية النهاية لمرحلة فاصلة في حياة مملكة الوادي.
-    لا أدري ما الذي يقلقك سابا. منذ غادرنا الوادي وأنت متوجسة
كانت سابا مهمومة بتدعيم دعائم حكم دالي خليفة سورِّنقْ، وكانت مشتاقة لاداء آخر دور في حياة ابنيها قبل أن تغادر الى مملكة الجنيات صديقاتها لتستريح ما تبقى لها من ايام حياتها التي بدأت تشعر بدنو أجلِّها..
أصرّت سابا على الرّحيل، بعد أن اقنعت كيرا بالبقاء في مالحة، كانت تنتابها رغبة قوية تجبرها على العودة، فرافقتها كيرا حتى خرج مالحة، حيث يبدأ درب الأربعين..
قالت كيرا قبل ان تودِّع سابا:
سابقى لبعض الوقت لأكمل تدريباتي كما أتفقنا
هذا المكان حميم اليك؟
كنت اتدرب فيه مع دالي، قبل رحيلنا الى مملكة الوادي..
ومضت سابا برفقة العبيد والخصيان وبعض الجواري صوب مملكة الوادي، وما أن وصلت حتى ألقى عليها القبض، واودعت احدى الحجرات الحجرية في القصر الملكي.. عندما حاولت صديقاتها جنيات الجبل التدخل منعتهن:
-    انني انفذ مشيئة عجوبة. ستبقى مملكة سورِّنق في دالي والكيرا.. أحفادي وسورِّنقْ سينتصرون. وهذه هي معركتنا الآخيرة لإستقامة الأمر. ما كان كان وما تمّ تم ْ..
 ذهبت جنيات الجبل لرعاية كيرا وهن يوعزن في أنفسهن امرا أخفينه عن سابا..
مضى على سابا أكثر من قمر وهي ملقاة في حجرتها، يطل عليها فقط وجه بييه بين آنٍ وآخر، تلمع في عينيه الشهوة المغموسة في الخيانة والغدر..
-    الا تقبلين بي زوجا سابا؟
-    لا زوج لي بعد سورِّنق.
-    الا تريدين الخلاص من السجن.
-    كنت اعرف بانني سأسجن منذ وقت بعيد. واعرف انني سأهزمك.
ضحك بييه ضحكة مجلجلة وخرج.
أجرت سابا طقوس الاتصال بصديقاتها جنِّيات الجبل، اطلعتهم على خطتها فتشكلوا كأهالي الوادي واخذوا يحمسون الناس للثورّة، في ذات الوقت كانت قرينة سابا تمرِّر جسدها من كوّة الحجرّة وتدلّت من نافذة حجرتها، كان الناس الذين جمعتهم الجنِّيان دهشين الى حد الزهول، وهم ينظرون اليها تمرِّر نفسها من النافذة، ثم تسقط من هذا العلو الشاهق.. تهوِّي وتهوِّي قلوبهم معها، في ذات هذه اللحظة كانت جنيات الجبل قد اخذن سابا الى مدخل المملكة، يخبئنها في كوخ احد الرّعاة المخلصّين لملك سورِّنق، الذي كان احد كهنة المعابد الجديدة التي دمرها بييه..
كان الناس ينظرون في رعب وفزع متنازعين بين الهلّع والخوف والدهشة.. غاصت الأرض بقرينة سابا، تحلق الناس حول المكان الذي هوّت فيه، وبداوا يهمهمون.. تبدى المكان عن رهد تسبح فيه خيول لم يشاهدوا مثلها من قبل..
كانت الخيول تسبح في الرّهد المغطى بالدم.. وشعر سابا قد انتشر عليه ممتزجا في ذيول الخيول واعرافها..
هتف احدهم منتزعا الناس من دهشتهم.. هتف آخر أختفى الرهد والخيول وجثة سابا ومضى الناس في هتافهم يجوبون دروب وشوارع مملكة الوادي مدفوعين بقوّة غريبة، فجرّت كل الغضب المحبوس في دواخلهم منذ مقتل سورِّنق.. كانت الثورّة قد انطلقت..
كانت سابا تدرِّك أن وجودها بعد مقتل سورِّنقْ يثير حفيظة العشيرّة الملكية، ويجعل شعب الوادي متنازعا بين ولاءين.. لكن في واقع الامر كان شعب الوادي يعاني شعورا غريبا مزيج من الحزن والأسى والغضب المستعِّر.
فانبثاق رهد الخيول في المكان الذي مادت فيه الأرض تحت جسد سابا، شحنّهم بمشاعر شتى، ليس كمثلها الا تلك المشاعر عند تنصيب سورِّنق وإطلالة دالي حاملا كتابه الجلد، والعمامة السوداء، لتنصيب سورِّنق بنفسه.. كانوا كمن يفيق من ظلام طويل، ويمضي في طريق مفروش بشوك الهشاب والطلح والقتاد..
سرّت الهتافات سريان النار في الهشيم وتمددت الثورة، وانتشرت الشائعات التي تضخِّم الجراحات التي لا تنمحي منذ مقتل سورِّنقْ واعتقال دالي، وحبس الاهالي والمبشرين والدعاة.. تمدد في الناس روح جديد، روح غاضب دواماته آخذة في الإتساع لا يقوى كل جند بييه على السيطرة على مدياتها. سقط القتلى. سقط الجرحى. وظل الناس يتقدمون وغضبهم يزداد إثر كل قتيل او جريح إستعارا. تيار الحياة في المملكة تغيّر، كجبل يلقى على نهرٍ جار..
في ذات هذا الوقت كانت جنِّيات الجبل قد أعددن كيرا للزحف على المملكة، بعد ان اخبرنها بكل ما جرى ويجري..
تهيات كيرا على راس جيش من العبيد والخصيان المدربين على القتال، ومضوا، الى ان وصلوا مدخل المملكة حيث كوخ الراعي، الذي أختبات عنده سابا. كان الكوخ خاليا، والراعي وابنه الوحيد سولونق منشغلين بتهييج الشعب وإطلاق سراح دالي وكل الذين سجنهم بييه، بعد ان انفلتت الامور تماما إثر معرِّفة جند بييه وأعوانه بإقتحام كيرا للملكة في مقدمة جيش جرار.
بحث جند كيرا عن بييه الذي كانت همته قد تضعضعت وانتابته المخاوف، وقتها كان سولونق الذي يقود الأهالي وجيشها الذي تقوده قد سيطرا على كل شيء، وتمكن سولونق من قتل بييه، وحطم الاهالي وجيش الكيرا أبواب الصنوبر التي أغلقت بها الحجرات الحجرية، التي حبس فيها بييه الناس.
كانت نيردِّيس ايضا قد نشطت، تطلِّق سراح كل الذين حبسهم بييه، وتدِّل الاهالي والجند على أماكن الحجرات الخفية في أنحاء متفرِّقة من المملكة. وتعبيء الناس ضد العشيرة الملكية. كانت نيرِّيس تنتقم لنفسها من بييه الذي باعها في سبيل الحصول على السلطة ولتقِّي..
هدأت أحوال المملكة شيئا فشيئا وحمل الناس دالي على أكتافهم..
انتصار كيرا في معركتها الاولى أعاد إلى ذهنها حاجتها لفتاها الذي ظل فؤدها يخفق كلما رأته في ذلك الصبا النائي.. فتاها سولونق الذي أنتزع سيفها من يدها بعد ان اكملت تدريبه بنفسها.. كانت تدرك ان الايام القادمات تحمل ما تحمل، فتشعل الحاجة والذكرى البعيدة لسولونق وهو يلتقط السيف قبل أن يقع على الأرض،. ففغرت فاهها دهشة وأختل توازنها على صهوة الجواد. فالتقطها سولونق كالرِّيشة قبل أن تصّل إلى الإرض.. تلك أيام الشجن تتجدد من الذكريات القديمة.. لحظتها أنفجر دالى ضاحكا عليهما وهو يراقبهما من أعلا التل، وهمس في أذن كونجو شقيقة سولونق، وهو يشير بيدِّه تجاههما..
لا تزال كيرا حتى الآن تشعر بأنفاس سولونق اللاهثة تسكنها. لا تزال تشعر بذراعيه القويتين تطوقانها.. عندما حكّت لسابا في ذلك الوقت أجابتها:
-    انه رجلك..
ولم تأخذ إجابة سابا مأخذ الجد. الآن الإحساس بالأخطار المتنامية وفقد الأحبة والوقوف على مفترق الطرق، كل ذلك يجدد حضور سورنق أكثر من أى وقت مضى.. حضورّه داخلها. داخلها الذي لم تدرِّك هشاشته من قبل بقدر ما تدركه الآن.. منذ أن وقعت عيناها على سولونق وهو يقود ثورة الناس لأجل عرش دالي..
حكم دالي والكيرا شعب الوادي بهدؤ وتؤدة، وبعد عشرات السنين لم يعد لحكايات (الجدات) موضوع سوى دالي الذي تحدث بحديث الأولين والآخرين، وكيرا التي استطاعت أن تمضي بشعب الوادي إلى تميزه، مستعينة بأهل البلد وأهلِّها في جبل الميدوب، وتؤامي دالي من كونجو وجنيات الجبل صديقات أمها..
كان سولونق أخطر سلاطين الظِّل الذين مروا على تاريخ الكيرا "شعب الوادي"، فهو الذي دفع بساورا لترأس فئة الحدادين تلك الفئة المحتقرّة، التي تأكل الخبز، فتلاشى خطره على مملكة الكيرا الى الأبد. عيّن سولونق والده توقوينق (16) وعيّن كورِّي شرتايا (17)على كوبي، وجعل من صولمنج سامبي(18)زعيم منطقة بين شرتاي ودمليج) وفرّق ما تبقى من سلطة ساورا الهالكة في أصقاع الوادي الواسعة بعيدا عن القصر الملكي.
ظلّت كيرا تعامل شعبها بألوهية. خاصة بعد أن انفتق عن المكان الذي هوّت فيه سابا، ذلك الرّهد السِّحرِّي الذي أشاع عنه الناس أنه فعل جنِّيات الجبل..
كان تؤامي دالي من كونجو يبديان مقدراتا غريبة منذ طفولتهما، فعندما تتأخر مواعيد المطر، يصعدان أعلا التّل الذي يواجه جبل الكبش في زاوية القصر الشرقية، يتجمع الناس ليروا فعلهما يرفع التؤام أياديهما نحو السماء ويغيبان في صمت عميق. ثم لا يلبث جسديهما يتوتران وتتقلص أعصابهما وتنبسط. تبرز العروق النابضة على جبينهما، تتجمع سحابة وتنعقد عند قمة جبل الكبش، ثم تنبسط على الوادي..
مبارزة الكيرا الشهيرة وسطوة سولونق ورهد الخيل ومطر التؤام كل ذلك جعل شعب الوادي يستسلم لقيادة كيرا بطيب خاطر، حتى أنها عندما نفت العجوز نيردِّيس إلى ساورا المهجورة لم يجرؤ احد على فتح فمه!..
عندما أخبر سورِّنق سابا بحزنه على لنقِّي التي لا تريد أن ترى ما يراه، مضت اليها سابا وظلت تلازمها الى أن جاءت بموافقتها
-    كيف تمكنت من ذلك سابا؟
قال سورِّنق، فأجابت:
-    ساعدتني جنِّيات الجبل
احتضنها بحب كبير:
- لكنني لن أحضرزفافك اليها. ، سامضي مع كيرا الى جبل الميدوب..
قدّر سورِّنق ما فعلته سابا لأجله تقديرا كبيرا:
-    افعلي ما يحلو لك سابا، ايتها الجنِّية، خذِّي معك سارِّنقا وكوتنقو (سارنقا:قائد الفرسان الذين يحاربون بالسيف "سار")..
كان أزدهار الوادي حديث الناس في أرجاء البلاد الكبيرة، فنشط ساو الذي صار شيخا على مضض مع البناءين يصممون فواشرا جديدة للجيش المتنامي الذي تم تنظِّيفه من أتباع بييه والعشيرّة الملكية، وكونت كيرا بمساعدة سولونق قوّة خاصة ضارِّبة يقودها العبيد والخصيان وبعض الحراس الذين تثق بهم. وقالت:
ستمضون في مهمة مقدسة تفتحون الجوار وتحكمونه كما أحكم هذا الشعب. تصنعون هناك ما صنعناه هنا. وتحكمونه باسمي..
كان البناءون كلما أكملوا بناء أحد الفواشر الجديدة حتى تعمر بالسكان الذين يفدون من وادي النيل وواحات الصحراء الخارجة بعيدا عن جبل العيون ومن حيث تهب رياح الشمال والجنوب..
-    اسمعي كيرا. اريد أن أتزوج لكن ليس قبل أن تتزوجي أنت.. لقد جاء الغرباء بكثرة الى الوادي وعما قريب سيصبحون اكبر عددا من شعب الوادي. سيختلطون بشعب الوادي ولن يحول بينهم وبين العرش شيء. يجب ان لا يبقى العرش في السورِّنقْ
-    أتذكر ذلك الفتى الذي دربناه في صبانا؟
-    سولونق الذي قاد ثورة استردادنا لعرش سورنق..
-    هو سولونق شقيق كونجو.. .
-    انه فتىَّ شجاع، ومخلص للسورنق، عجلا بالزواج..
-    وأنت
-    سأتزوج كونجو..
كان دالي جالسا على عرشه عندما دخلت كونجو إبنة الكاهن الكبير يصحبة والدها. جلسا في حضرته. تسآل دالي، فاجابه الكاهن:
-    انها كونجو. أصرّت كالعادة على المجيء لتطمئن عليك قبل أن تنام..
ابتسم دالي في حنو وطأطأت كونجو رأسها ذات الطأطأة التي كان يراها عليها، وهما يجلسان على الربوّة، أعلا التل، يتفرجان على مبارزة سولونق وكيرا.
-    هل تشعرِّين بما أشعر به كونجو..
قال دالي في ذلك المساء البعيد. فلم تجب. أخذت يده بيدها، وضعتها على صدرها ثم قبلته بعذوبة..
أخذ السم يسري في جسد دالي، وينتشِّر ورأسه على حجر الكيرا، يحيط بكل زراع تؤاميه الصغيرين، ومضت الى حجرتها باكية. وكيرا الفارعة كامها صارت شاحبة وبدا الشيب يظهر في شعر رأسها.
الأحزان التي تتابعت وقتها لم تترك لقلبها فرصة للوجيب البهيج. تتالت الأحزان منذ جاء دورة في صباحٍ بعيد، مغبرا من وعثاء السفر والحنين العميق الى احفاد لم يرهم، عرفوا فيه ملامح سورنق الحبيب الغائب، كما رسمته سابا في ذاكرتهم الصّلدة كجبل الميدوب، وشدوا معه الرِّحال صوب الوادي، الى مملكة سورنق، ولم تمض سوى أيام قليلة حتى توفى العجوز دورة أثناء تعبده.. كانت الكيرا قد جلست بمحاذاته عندما غاب متضرعا في دعاء حزين. فاضت الدموع الغزيرة من عينيه الوادعتين، ثم ما لبث أن إتكأ في حضن حفيدته الصغيرة. واخذ يدها في كفه الواسعة، رابتا عليها بحنو:
-    أسمعيني جيدا كيرا، من صُلبك يجيء سلاطين هذا الشعب. ستدهمكم المآسي وتحاصركم الأحزان، وتدهمكم الآلآم كجيوش غازية.. لكن كل ذلك يعجِّن روحكم ولا يفِّت عضد أجسادكم.. فلا تضعفي.. .
كان الكاهن دورّة لحظتها يلفظ أنفاسه الآخيرة. انطبع كلامه الذي لم تفهمه وقتها في ذاكرتها، واصبح يتكرر كلما أختلّت الى نفسها، أو جلست تعيده على سورِّنق آري الذي يجيبها في حنان:
-    نعم كيرا، العشيرة الملكية من بقايا ساورا لن يتركوك ولن يتركوا دالي، فالحذّر الحذر..
-    كيف انت ألست منهم؟
-    انما أنا ابن راعٍ عجوز من عامة الشعب
-    ولنقِّي الا تتزوجان؟
-    انها لا تريد..
كان سورِّنق يخشى على كيرا من كل شيء حولها، دائم الإرتياب. فلا يدعها تخرج مع قريناتها فآثار الظلام الذي جعل القلوب تقيح والافئدة تسيل صديدا في ساورا المهجورة، تلقي بظلالها على شعب الوادي..
-    خذها دالي إلى عمق الوادي. علِّمها ما علمتك إياه سابا ووالدها. علمها كيف تقاتل كرجل وكيف تمتطي الخيل..
كانت كيرا قد تشرّبت بحكايا الاسلاف من دورّة وتعلمت الحرف من سورِّنق، وأعتادت مع دالي على فنون القتال. شعورها بالإنحدار من جبل الميدوب، وعروق الملح في مالحة وصوى ساري الطرِّيق الصّحراوي ونجوم السماء والصّي وجنيات الجبل: يشكل وجدانها، حيث يثوي فينهض ليصبح هو هي ذاتها. يشكلها فتصبح بشكيمة لا تلين وعزيمة تفتت الصخر..
نشأت كيرا متوحشة كسابا، صديقة الجنِّيات والوحوش، يسمع بها الناس في الوادي، يعرفونها ولا يرونها، وعندما شكّ السهم المسموم فؤاد سورِّنق هتف أول ما هتف:
-    كيرا..
فاختلط الخوف والحزن في عيون الناس بالدهشة. كانت كيرا لحظتها تصفف شعرها وتعد نفسها للخروج، عندما ترددت أصداء صرخة والدها في فضاء الوادي، فخرجت مزعورة، أصطدمت في طريقها بالخصيان والحرّس يحملونه والثوب الذي ألتف به تضرّج بدمِ أحمّر قانٍ، التف الأهالي حول القصر..
-    غدروا بك سورِّنق!..
قال دالي في حزن، بينما كيرا تسجيه وتتكيء رأسه على حجرِّها.. جلس دالي الى يساره متلقفا الصوت الواهن، الذي يخرج من اعماق سورِّنق:
-    لا تدعهم يغدرون بك
-    ستتعافى آري سورِّنقْ
ربت سورِّنقْ على يد دالي:
-    انت الآن شاب وكيرا صبية. لقد تعلمتما الكثير وتعرِّفون ما لا يعرِّفه أقرانكم. لا يوجد احد مثلكما في المملكة. تذكرا ذلك دائما!..
ولم تمض ايام معدودة حتى أعلن الوادي الحداد متشحا بالحزن والسواد والإحباط. صباح دفن سورِّنقْ في المغابر الجديدة، إكفهرّت السماء، واستحال لون أوراق الشجر الى صُفرّة شاحبة.
غردت الطيور في اشجار القمبيل الشاهقة بغناء حزين، رددّت صداه الجبال، وفراغ الوادي الذي خيّم عليه الاسى واللوعة..
وما أن انتهى الدفن حتى برقت البروق وأرعدت السماء وهطلت الأمطار لثلاثة أيام متتالية، دون ان تتوقف ساعة واحدة، تغير لون رمال الوادي الى تربة داكنة، متقطعة وخالط المياه شيء من طعم الدموع..
اجتمع الكهنة والشيوخ ونصبوا دالي آري على المملكة، وأبقوا بييه قائدا لجيشها الجنِّينِّي ومستشارا له.
في الصباح التالي لإنتحار سابا فوجيء الناس بجسم كالرُّخ يهوِّي من قمة جبل الكبش. هوّى. هوّى.. وسقط على ارض الوادي. اقتربوا منه. تبينوا فيه أحد الدعاة المحبوبين للناس.
وقتها كانت الذاكرة تسحب دالي الى لحظة شجن لاهثة. لحظة شجن تراصت الى جانب شقيقاتها من لحظات الأمومة والبنوة التي تظل ابدا في الوجدان تضيئه لغد بعيد بعيد.. فأخذ يبكي وهو يرى نفسه يلهو معها، في الطفولة البعيدة، في جبل الميدوب، كانا يتسلقان الأشجار والصخور ويتنقلان بينها بخفة كالقرود.. كانت حياة سابا. ، حيويتها تتراءى في عينيه القائمتين بالدموع..
التجارب المريرة التي مرا بها، تجعله وشقيقته كيرا أكثر حذرا من أىّ وقت مضى في التعامل مع العشيرة الملكية المتبقية من ساورا الهالكة. وأشدّ حذرا من الناس والشيوخ والكهنة الذين من لم يتآمر منهم توقف عن الوقوف الى جانبهم مكتفيا بالفرجة على الوقائع والأحداث المأساوية التي بدأت بإغتيال سورِّنق وسجن دالي وانتحار سابا..
لم يعد دالي يثق بأحد ونشأ لديه اعتقاد بان الخلاص في تطبيق شرِّيعة دالي بحذافيرها على شعب الوادي، وجعل كل شيء ينشأ مستمدا منها.. وما ان شرع دالي في تنفيذ هذه الفكرّة، غاضا الطرف عن إستفزازات لنقِّي المتكرِّرة حتى نشِط ما تبقى من العشيرة الملكية في الجانب الآخر، فارسلهم في جيش الفتح للجوار. وظل يخطط لشعبه ناشرا تعاليم سورِّنق.. تعاليم دالي العظيم، بحرصٍ شديد.. .
-    دسوا لي السُّم كيرا، انه السُّم يجب ان تنهضي لشئوون المملكة. لم تعودي الآن إيا باسي فحسب، بل آري هذه المملكة المجيدة..
-    ستشفى دالي وتنهض بشئوون المملكة من جديد.
كانت كيرا تحاول تمالك نفسها، وطمأنته. لكنها كانت تدرك ان دالي الآن يمضي في الطرِّيق الذي مضى فيه دورة وسورِّنق وسابا من قبل..
كانت إيا باسي كيرا جالسة على الككّر وقد التف حولها الشيوخ والكهنة مطرقين لصمتها المهيب، وهي تجوس في داخلها بين تلافيف ماضٍ شرخته الأحزان وخطّت عليه المآس..
كرّر الشيخ صولمنج:
-    أنه العرف كيرا. لم تحكمنا امرأة من قبل.
-    بل حكمت
-    لابد أن تتزوجي.
-    لقد تحدثنا في هذا الأمر كثيرا
-    نحن الآن أكثر إصرارا. فقد تركناك وقتا كافيا لتقرِّري وحدك.
أطرقت كيرا وفكرّت في عمق:
-    سأتزوج لكن على طريقتي وبشروطي.
-    ماذا تعنين؟
-    في مهرجان الحصاد سأنازل الفرسان ومن يهزمني يكون هو زوجي
-    وإذا لم يهزمك أحد من الفرسان؟
-    يفتح النزال لعامة الشعب وللجميع حتى الغرباء..
-    حتى لو كان من يرغبون في نزالك العبيد والخصيان؟
-    نعم
-    يبدو أنك تخططين لأمر ما
-    ماذا تعني؟
-     سألتينني من قبل عن ذلك الفتى سولونق وأخشى أن تهزميه في النزال؟
-    انه فارس وقد قاد ثورة استردادنا لعرش سورنق من قبل كما أنه شقيق حبيبتك كونجو..
-    انه فتىَّ شجاع، ومخلص للسورنق، عجلا بالزواج، ليس قبل أن يهزمني..
-    بالطبع..
هزّ الشيخ صولمنج رأسه في دهشة وقلّب النظر في وجوه الشيوخ الذين لم يخفوا إستياءهم. ثم قال بعد تردد طال:
-    لك ذلك..
دار بخلد الشيوخ والكهنة ما دار بخلد صولمنج في تلك اللحظة. إذ كانوا يشعرون أن إياباسي كيرا تخبيء شيئا ما خلف كلامها. شيء لا يدركونه الآن، فهي منذ جلست على العرش وحدها، وتتكشف كل يوم عن خبث ودهاء لا حدود لهما..
تصوروا في البدء أنها ستمضي كما يشتهون، لكن مع الأيام بدت كيرا اشد صرامة من سورنق، وأكثر حنكة من دالي، لم تستسلم أبدا لإرادتهم في تزويجها. كانت تُصِّر في كل مرّة على الرفض عندما يعرض أحدهم عليها الزواج. وعندما أشتدّت شوكة أولئك المبشرون والدعاة من جديد، وأخذوا يعيدون الحديث القديم عن نبي أخر ظهر في مشرِّق الشمس، نبي لا يبحث عن ارض ميعاد ولا يتحدث عن حمله لخطايا البشر الذين عليهم وحدهم ان يتحملوا مسئولية خطاياهم واخطائهم، فتحت الباب واسعا أمامهم، وشغلّت الكهنة والشيوخ بمجادلتهم..
أعلن المنادي أن كيرا ستختار زوجها في مهرجان الحصاد، فأنتظر شعب المملكة بصبر نافد حلول موعد المهرجان وهو يشعر بالزمن يمضي بطيئا جدا، فالضحوّة لكانها ليلتين وقمر، والنهار لكأنه خريف كامل، أو بعض شتاء.. لم يكن سريان الزمن كما ألفوا..
حلت مواعيد المهرجان ونازلت الكيرا كل فرسان المملكة وهزمتهم واحدا تلو الآخر، ، وهي تهتف عقب كل نزال:
-    هل من منازل؟
فلم يجرؤ أحد من عامة الشعب على التقدّم اليها. كانت انفاس الناس لا تزال محبوسة، وهي تترقب في الصفوف.
وعندما كادت كيرا تنصرف دون ان يتقدم احد لمبارزتها، خرج من بين الصفوف إبن الراعي سولونق وتقدم منها بثقة.
اشهر سيفه. فأشهرت سيفها. وتلاحما..
كان يكران ويفران، يتلاحمان ويتراجعان، والناس كل الناس بين الدهشة والزهول، من وقائع هذا اليوم الغريب، الذي لم يمر كمثله يوم في تاريخ ساورا أو مملكة الوادي..
كانا يتبارزان بضراوة. يقعان ويقومان دون ان يمس احدهما الآخر بخدش..
والجموع المحتشدة بكيانها كله نسيت كل شيء، عدا هذان الجبلان الجباران اللذان يتزحزحان تجاه بعضهما يصطدمان وينفكان..
انتهى الجزء الأول
الخرطوم – القاهرة -الإسكندرية

هوامش:
(1)    سولونق أو صولونج: العرّبي في لغة الفور، وكل الألغاب التي سترد فيما يلي هي في التراتبية الإدارية بلغة الفور.
(2)    آري: السلطان العظيم او الملك العظيم.
(3)     إياكورِّيّ: الأم القوِّية – الزوجة الأولى للسلطان.
(4)    شرتايات: ج. شرتاي. منصِّب إداري (حاكم) في تراتبية الفور.
(5)    دمليج:
(6)    إياباسي: أخت السلطان - الأم الملكية
(7)    الكّكّر: كرسي العرش. كرسي السلطان.
(8)    الكامنِّي: سلطان الظِّلْ.
(9)    كتِركوا: خصِّي السلطان.
(10)    الأورنانق: قائد الجند الشباب.
(11)    سورِّنقْ: سيد الأرض.
(12)    سومنق: خلوة – مدرسة لتعليم الأطفال.
(13)    سواجن: هي مدينة سواكن الميناء على البحر الأحمر شرق السودان. تقول الأسطورة أن سليمان سجن فيها الجنّ العصاة، وحرِّف الإسم الى سواكن بمرور الوقت.
(14)    الفواشر: ج. فاشر – المعسكرات الملكية.
(15)    توقوينق: رئيس الطقوس الدينية.
(16)    شرتاي:ج. شراتي. رؤساء مقاطعات.
(17)    سامبي: زعيم منطقة بين شرتاي ودمليج.
(*) برفيسورأوفاهي. المجتمع والدولة في دارفور. مركز الدراسات السودانية. طبعة أولى القاهرة. 2002
(**) متى: 15، 16