في الذكرى الثلاثين لانتفاضة الحجارة والتي تحل مع هذا العام الجديد، يقدم لنا الكاتب الفلسطيني هذه الأمثولة التي تكشف عن مدى إمعان دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين في غطرستها، وعن كيف أن السبيل الوحيد لاسترداد الأرض والكرامة هو الوحدة والانتفاض والمقاومة.

بحـث مـا جـرى: في ذكرى انتفاضة الحجارة الفلسطينية

نبيل عودة

وحد الله يا مختار:
كانت تلك أيام خير وطيبة، وجوه تفيض بالوداعة، نفوس مفعمة بالود. عادات مليئة بالنخوة. الكذب لا مكان له بين الناس. الأقاويل غريبة عن بني البشر. ربما بشر أيام زمان ليسوا كبشر اليوم؟ صحيح ان هذا القول فيه الكثير من الإجحاف وربما بعض الإثم ... وبعض الإثم عسير الحساب. لكن المصيبة التي ألمت بالمختار وأبناء عائلته جعلته يعيد التأمل فيما جرى، يراجع حساباته، يتمحص بانتباه كل ما مر عليه وما يمر. يحاول ان يتعلم الدرس مما سقط في نصيبه. ما جلبه على نفسه وعلى ابنائه. يبحث عن بدايات الأشياء، يتيه في أساس البلوى، عيناه تدمعان على مصير أبنائه وأحفاده، كيف يرضى بحكم النذل، وهو أشد إيلاما من ضرب الخناجر؟ ترى ما هي خطيئته؟ هل طيبة القلب خطيئة؟ أين ابتدأ الغلط في ما كان يظن انه فعل خير ونخوة أصيلة؟ لماذا تلفظه الأيام بقسوة بإثم لم يرتكبه؟ ما دخل أبنائه وأحفاده بما ارتكبه هو من فعل خير، يبدو اليوم انتحارا جماعيا له ولأبنائه؟ يحتار في فهم أبعاد طيبة النفس وفعلها للخير .. ترى هل تأديتهما للغريب خطيئة؟!

بلوى يصعب تصديقها ومعاناة لا نهاية لها!!
هل خطيئته انه آوى قافلة المساكين في بلده وبيته؟ هل فعل الخير يرتد على فاعلة بأسوأ ما في الكون من بشاعة؟ هل أخطأ الله يوم خلق الإنسان على شاكلته؟ رحيما، خلوقا وطافحا قلبه بالخير والنخوة؟
هل يمكن فصل النخوة والفضيلة عن أخلاق الإنسان؟
هل يمكن فصل اللون الأزرق عن لون البحر؟
يمكن فصل الجاذبية عن الأرض؟
هل هناك حياة بلا ماء وهواء؟
هل من سعادة بعالم لا يعرف إلا الاحتكام للخنجر؟
كانت ترعبه هذه الأسئلة فيصمت آمرا نفسه:

- وحد الله يا مختار!

حاشية
عاش المختار مع زوجته ومع أبنائه وزوجات أبنائه، ثم مع أحفاده مرتاح النفس، مطمئن البال، هنيئا بما وقع في نصيبه، راضيا مرضيا بدنياه، سعيدا بأولاده وأحفاده وبما قسمه الله له من ملك وقناعة؛ وبما رزقه الله من أبناء وأحفاد يحملون اسمه بعد قضاء الله بأمره. كان يشكر الله صبحا ومساء على رجاحة عقل أولاده، وتماسكهم يدا واحدة، قلبا واحدا، عقلا واحدا ويد الله مع الجماعة. لا يحب أخ لأخيه ما يكره لنفسه، لا يأخذ أخ ما لا يستطيع الأخر ان يحصل عليه، عاشوا بتعاضد ومحبة وانتشرت الإلفة بين الأخوة، ومنها امتدت للزوجات حتى صاروا نموذجا يضرب بهم المثل!!

الأحمر
ورث المختار المخترة عن أبيه الذي انتقلت إليه من جده، لذا كانت المخترة من مكونات الأسرة ومجدها. كان على ثقة أنها ستنتقل إلى ابنه البكر الأحمر، ما يثلج صدره ويسعده ان الأحمر راجح العقل، يميز بين الخير والشر، بين الحق والباطل، بين العدل والتعسف، ثاقب النظر، سريع الخاطر، واسع الاطلاع، متيقظ الذهن، بهي الطلعة، قوي الصوت، عذب الأسلوب، مسموع الكلمة من أخوته وأبناء بلده، وهو المطلوب لمن يتأهل لاحتلال كرسي المخترة.
سمي بالأحمر لأن ولادته حلت مع حرب طاحنة، خاضها أبطال البلاد والمختار على رأسهم، ضد غرباء محتلين، لم يبق بيتا لم يقدم ضريبة الدماء، حتى تحقق الخلاص برعاية رب العالمين. ولدته أمه في عز المعمعة، يوم كانت الدماء توهب بلا حساب في سبيل الحرية والخلاص، فسمي بلونها، حفظا لكرامة الشهداء وتمجيدا لدمائهم.

الأسود
أنعم عليه الله بذرية من الذكور فحمده أشد الحمد.
يوم جاءت به أمه إلى الحياة كانت البلاد تمر بفترة قحل قاسية، ندر المطر، اشتد لهيب الشمس، فحرقت الأخضر واليابس، قلت المراعي  وندر العشب.
يتذكر المحتار تلك الأيام بشيء من التندر. الأرض تشققت من العطش، العشب تيبس من الشمس الحارقة، انتشرت الحرائق التي أتت على الكثير من الغابات الخضراء، شحت مياه الآبار، انتشرت الأمراض والأوبئة، فتك بالناس المرض الأسود، لم تنفع الابتهالات في تليين قلب الخالق، لم تنفع الصلوات والدعوات من على المنابر، اسودت الدنيا في عيني المختار، وهو ينظر إلى الوليد الجديد محتارا في حكمة الله، من جهة يهبه ذرية من الذكور ومن جهة أخرى يضربهم بالقحط والأمراض، قرر ان يسمي ابنه الثاني بـ"الأسود"، لعل في ذلك حكمة، لعلها مشيئة الله الخالق الجبار؟ خلد دماء المجاهدين بابنه الأحمر، ولا بد ان يخلد حكمة الرب بما يجربهم به من ايمان، فحل  القحط وانتشرت الأمراض فاطلق اسما مناسبا على ما رزقه الله به من مولود ذكر، لعلها إشارة من السماء ان أيام التجربة الربانية قد تمت، واطمأن الخالق لصفاء إيمان شعب المختار وحسن طويتهم.

الأخضر
أعطنا مددا من يسرك يا رب العالمين. مددا من لطفك .توبة بعد ضلال. يسرا بعد عسر، خير بعد إمساك، اللهم بقدرتك يأتي الخير، بمعونتك يحل الاطمئنان، ترتاح النفوس المتعبة، ينبت الزرع، يدر الضرع وينتشر الإيمان.
اخضرت الأرض بعد جذب، اخضرت الأشجار بعد يبس، تألقت الحياة بعد ممات، هاجت وماجت الأرض بالخيرات، بساط أخضر ممتد، حل غفرانه أخيرا بعد ان أيقن ان القلوب المؤمنة صادقة في إيمانها.
طابت الدنيا للناس، الحياة صارت أجمل بعيون الأطفال، الورود ملأت البراري، لونتها بألوان قوس القزح، بان جلال الاخضرار وروعته الخالدة، الغابات جددت شبابها، نور بعد ظلام، فرح بعد كدر، حتى الزوجة طيبت نفسه بذكر ثالث، ازدادت سعادته وأيقن ان الله راض على اعماله وايمانه، قال لزوجته والسعادة لا تسعه:
- نسميه بالأخضر تيمنا بالخير يا امرأة!

الأبيض
الخير لم يتوقف. نبع وانفجر، بركان هاج وماج، طابت نفوس الناس، وضعوا للعداوات حدا، حل السلام مع الخير، ما عاد بشر يتنكر لمحتاج، كله من خير الخالق. أقيمت حلقات الذكر بمناسبة وبغير مناسبة، ما من فقير إلا وشبع ومحتاج إلا وأجيب. ارتفع شأن المختار في عيون الناس.الابتهالات تسامت من كل مكان، انتشرت في كل طرف. مدد الخير لم يتوقف بل يزداد ويفيض ويوزع بلا حساب لكل الطالبين. كانوا يتزاحمون على حبة قمح فصار الصاع ببلاش، رحلوا بعيدا في السعادة  ولم يعرفوا حدودا لسعادتهم.
نور من عند الله ما بعده نور.
في سنوات الخير تلك مرت قافلة جياع بمحاذاة البلد، كانوا مضروبين فارين على وجوههم، تائهين في براري العالم، ما ان سمع المختار بمأساتهم حتى رق قلبه، خرج لملاقاتهم ودعوتهم اهلا وسهلا لتخفيف بعض ما لاقوه من الأسى ومدهم بما يسره الله من خير ولطف ومن سمن وعسل.
رقت قلوب أهل البلد لحال الغرباء، أقاموا لهم الموائد بما انزل الله عليهم من خيره، كسوهم بما يسره الله وقالوا لهم:
- البلد بلدكم، والخير خير الله ، انتم ضيوفنا وأهلنا وأعداؤكم أعداؤنا.

طابت نفوس الغرباء بعد ضياع، رقت حالهم بعد طول معاناة، شبعوا بعد جوع، ارتاحوا بعد شتات وعذاب، اندملت جراحهم بعد تقيح، اطمأنت نفوسهم بعد رعب، قال كبيرهم الذي حل أهلا ونزل سهلا في بيت المختار انه لن ينسى هذا الفضل الإنساني الكبير، والاستقبال الطيب والإكرام الجميل، وانه سينقله لولد الولد، فلولا هذه الأرض الخيرة، وأهلها الطيبين لهلك هو وبني قومه. مدح الضيافة الكريمة وأشاد بالأرض الخيرة التي تدر حليبا وعسلا، وان أبناء قومه الخبراء في الزراعة والصناعة سيرشدون الشعب الكريم المضياف على طرق عدة ووسائل جمة، لجعل الأرض تعطي أضعاف ما تعطيه، بحيث تطعم أهل البلد والبلدان المجاورة وإقامة المصانع لزيادة الخير خيرا، وأضاف: حان وقت العمل وكلنا أبناء جد واحد.
طابت نفس المختار ونفوس أهل البلد، أيقنوا ان الله استجاب لابتهالاتهم بعد ان ايقن بصحيح إيمانهم من تجربته بهم، ها هو يصفح عن مساوئهم ، يبعث الخصب في أراضيهم ويهبهم ابناء عمومة اكتسبوا فنون المهن كلها.
اكتملت سعادة المختار الشخصية بأن رزقة الله ولدا رابعا، أقام الاحتفالات والموالد، أطعم القريب والبعيد، شمل الغرباء بخيره وسعة بيته وقرر ان يسمي ابنه الرابع بـ"الأبيض" رمزا للوئام والسلام والخير الدافق الذي بعثه الله بغير حساب، وأعلن على الملأ ما جاء في الآية الكريمة:
- "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم، عسى ان يكونوا خيرا منهم".

دلائل
لا يدري أحد متى جرى ذلك ولا يعرف حتى المختار متى بدا التحول.
ما هي نقطة البداية لما جرى فيما بعد؟
كيف لم ينتبه أحد لما جرى؟!
وقعت بعض المشاكل مع الغرباء، كان المختار يحلها بحزم ولا يمل من القول لبني قومه:
- أولئك ضيوفنا، كرامتهم من كرامتنا وسمعتهم من سمعتنا.
ويصيح فيهم بالآية الكريمة:
- "وجزاء سيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره عند الله".
رغم ذلك ارتفعت بعض الأصوات تحذر مما يجري في الخفاء. كان الأحمر من ضمنهم فغضب المختار وزجره بقوله:
- اجتنب الظن ان بعض الظن إثم.

لكنه لم يجتنب.

غضب المختار غضبا شديدا وأعلن أمام الآثمين:
- ان الله هو الوهاب، هو الحارس لما وهب، ننكر خيره بعد عطاء؟ نجحد بعد هبه؟ ان الله يحاسب ما في القلوب، أتريدون عسرا بعد يسر؟ قحطا بعد غيث؟ إمساكا بعد خير؟ أسفي على النفوس الضعيفة غير الواثقة، خسئت الذمم اللئيمة الجاحدة لخير الله وعطائه، الله هو القيم على كل شيء، الواعي لما يجري، الساهر على عباده، حامي خيرهم، المترصد للشر، الغفور الرحيم والجبار المتمكن.

ويزأر بالمتشككين بالآية الكريمة:
- "لا تستوي الحسنة والسيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فان الذي بينك وبينه عداوة، كأنه ولي حميم".

ويضيف بعد برهة سيطر بها على غضبه:
- من انتم حتى تتنكروا لقيمنا وتاريخنا؟
لكن الشكوك ازدادت والدلائل باتت أكثر وضوحا وتجسما. .وتمرد ابنه الأحمر على أحكامه صار علنيا.

بعض ما جرى:
في يوم من الأيام قال كبير الغرباء، الذي أنزله المختار في بيته على الرحب والسعة:
- مختارنا العزيز، الغرفة الكبرى سيسكنها ابني الذي تزوج ، مفهوم؟

الصفعة أسهل على المختار من هذه الوقاحة. لجم المختار غضبه وتمتم بآية البقرة:
-" والصابرون في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك المتقون".
رد علي الضيف:

-انت ضيفنا ، للضيف واجبات في أعناقنا، لكن لا حق له بأملاكنا.
- مختار انتم على راسي، نحن نعتز بكم ولا نبخل عليكم بخبرتنا ومعرفتنا، نرجو صبرك علينا حتى تصبح في اليد حيلة.
- خبرتكم ومعرفتكم منذ طبقناها لم تعد للخضرة طعم، ولا للفاكهة نكهة، على كل نحن راضون بما بعثه الله ، اما الدار يا سيد...؟
- فقط لفترة قصيرة يعود بعدها كل شيء إلى أصحابه وأكيد لن ننسى فضلكم.

صمت المختار، لكن بقيت في الحلق غصة، في الصمت مضض، في الجو كدر، في النفس حيرة وفي النظرات ألم.

صار يغرق في الصمت طويلا ويتيه في تأملاته، يتوجس من الاحتمالات، يحتار مما يسمعه من أولاده، يقلقه كلام الأحمر، يزجره ويأمره بالإحسان، "وأحسنوا ان الله يحب المحسنين". يقلق من بوادر النزاع المرئية، يفرض هيبته ويمنع الاقتتال بين أحفاده وأولاد الضيوف الذين يقضون أوقاتهم باللعب معا. لطفك يا ملطف. "وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر". مع ذلك كثرت الحوادث التي تثير التساؤلات والقلق. لكنه يثق ان الخالق عليم بكل شيء ولن يتخلى عن ابنائه البررة. "والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم". انه يرى ولا يُرى ، يُمهل ولا يُهمل، يُجرب ولا يُجرب، قوله الفصل في ساعة الفصل، تطمأن نفسه بعض الاطمئنان ويزجر أبنائه المتهامسين محاولا ان يبعد الأحمر عنهم.

- - وحدوه.. وحدوا الله
يحتار ما الذي يجعل الأحمر حادا، سليطا، لا يعرف الصبر، يريد ان يجمع أخوته مستبقا إرادة الله وفصله، يريد الحق عنوة، غافلا عما يقوله الله في كتابه العزيز: "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما". عبثا حاول ان يقنعه انه لن يصيبهم الا ما كتب الله لهم.
كثرت الدلائل وبات الصمت صعبا، المختار بان عليه الهرم، الإرهاق وحسن تدبره للأمور. أصبح يتقوقع بالصمت وتبدو على وجهه إمارات الذهول.

أصابت الحيرة أولاد المختار، فبادر الأحمر لجمعهم وتوضيح خطورة الموقف.

- المختار مخه طار .. اجتزنا كل الأضغان، قلنا كرامة الضيف كرامتنا، حتى صاروا أصحاب البيت وصرنا غرباء، تجاهلنا الإهانات، سيطروا على عملنا وخيرنا، تجاهلنا استحواذهم على خيراتنا، فصرنا كالأيتام على موائد اللئام. ماذا بقي لنا؟ لا بيت نسكنه، لا بستان نزرعه، هل نشكرهم لأنهم لم يحرمونا من هواء نتنفسه؟ المختار.. والدنا .. لتحل عليه رحمة الخالق. يسرح في القنوط، ينوء بعجزه، يبحر في غيبوبته، كلامه لا يعيد الحق، لا يزهق الباطل وأشك اذا بقيت في ذهنه مقدرة على الفهم. أنا يا إخوتي أكاد انهار من القهر، أنبهكم ولا تنتبهون، دمي يفور غيرة عليكم والى ما آل إليه مصيركم، أي مستقبل تحفظون لأبنائكم؟ ألم تصلوا لنهاية المعاناة؟ حتى أيوب زهق من صبركم.

قال الأسود:

- الكلام المنمق لا يغني ولا يسمن، المختار يدرس الموقف وينتظر الإشارة، للخالق حكمة فيما جرى ويجري، لننتظر بما يفتح به الله ، انه والدنا، لحمنا من لحمه، دمنا من دمه، كيف نقف ضد من كان السبب في وجودنا؟ ماذا سيقول عنا الغرباء؟ ثم متى كان الصبر رذيلة؟ "واستعينوا بالصبر والصلاة.." انه قول مبين!
قال الأخضر:

- القلق موجود هذا صحيح، لكن خير الله دافق، لا احد يجوع، مختارنا بدا عليه الهرم، لكن عقله يزداد رجاحة، ما صمت الا لكثرة توحده مع الخالق بانتظار أمره، أقواله تزداد حكما، كلامه مليء بالمنطق، انا واثق من رجاحة عقله وسلامة قيادته، سيعبر بنا المحن الى بر الأمان، سيجتاز بنا الضيق الى الجنة، ما ضاع سيعود بإذنه تعالى ما دمنا واثقين متكلين عليه، علقوا آمالكم عليه واطلبوا من الله أن يتمم بخير، ان يبعد دسائس الشيطان عن قلوبكم، يطهر نفوسكم بالمزيد من الإيمان، "وجزاء سيئة سيئة مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره على الله"، ان الوسواس لخناس والله لن يخذل عباده الصالحين.

قال الأبيض:
- وحدوا الله يا جماعة ولنر حكمة الله فيما جرى وما يجري. "ولا تبدلوا الخبيث بالطيب" ان الله لا يحب الخائنين، سبحانه لن يفعل أمرا إلا وله هدف. لعله يجربنا؟ يفحص إيماننا؟ لا تقولوا عن المختار بما تجهلون، له علينا حق الأبوة، "وبالوالدين إحسانا.." فلا تفسروا صمته وتأملاته كما يحلوا لكم، لكل ساعة أوان، لكل كلمة مكان، فاعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا!!

هذا الكلام لم يعجب الأحمر، حاول ان يثير مخاوف إخوته، أن ينبههم بما خفي عليهم من واقع ملموس ومصيبة زاحفة، إلا ان ثقتهم وإيمانهم بأن الخالق يرى ولا يُرى، يُمهل ولا يُهمل، لا يتخلى عن عباده الصالحين، منبها أن قنوط المختار وسرحانه ليسا مظهرا من مظاهر التجلي والتفكير.لكن الأحمر لم يقنعهم!!

قال لهم ان الله أعطانا عيونا لترى وعقولا لتفكر، أعطانا إرادة لنقرر ولا ننتظر. ان سبحانه في علاه لن ينزل لينفذ ما هو واجبنا، هيا قبل فوات الأوان، قبل الضياع الكامل. لنعقل ونتوكل، هذا أمر رباني.

استعاذ  أخوته من الشيطان الرجيم وقالوا ان كلامه كفر، نظروا إليه بعيون الغضب، رفعوا الابتهالات الى العلي القدير بأن يصفح عنهم ويشد أزرهم، ان يبعد الشيطان عن نفس الأحمر، يهبه الثواب، يطهر روحه من رجس الكفر، يقوم تفكيره يهديه الصراط المستقيم، ان يمدهم بالصبر ويشملهم برحمته ولطفه.

الخواجا يلقي خطبة:
لم تعرف بعد تفصيلات كثيرة عن هذه الخطبة، اقتصرت على أبناء قومه وبعض المقربين من المختار الذي لم يستطع كشف اللثام عما يجري في الخفاء. لم يفقه لغة الكلام، حار في تفاصيل العبارات، استكان في زاوية سارحا في تأملاته، غائبا عما يجري، متوجسا دون إلمام، عاجزا عن الولوج في المتاهات، محاولا ان يستشف ما يأتي من قوي العبارات التي يسمعها ولا يفهمها، يحاول ان يقتبس من الله رؤيا، لكنه تاه في ما لا يقوى على تذكره، يزداد يقينه ان الدنيا غير الدنيا والعصر خائن. تتراكم في مخيلته صور الماضي، تختلط مع صور الحاضر، يصفقون للخواجا، يخبط كفا بكف، لا هو تصفيق ولا هو احتجاج، بأي زمان هو؟ يحاول ان يربط نفسه بزمن معروف، بات يجهل حتى المكان، يسمع كلاما دون إلمام بالمعاني، يتيه في مخيلته، يفقد ما يربطه بالمكان، تتلاشى صلته بالواقع، يتيه في زحام الوجوه التي حوله، هل هو يوم الحشر؟ أو الجن يعيث فسادا بين الناس فيصدم الخلائق ببعض؟ في صمته يتيقن انه لا يريد الشجار مع احد، يرجو من الله هداية وحاله كالجائع الذي يأكل ولا يشبع والظمئان الذي يشرب ولا يرتوي.

يتكاثر الناس يوم الحشر، يتابع الوجوه المعروفة محاولا ان يرى حكمته في ألغازه، تترنح الخلائق أمام ناظريه، هل هو يوم الدين؟

ينتفض كالملسوع محاولا ان يتذكر سيئاته وحسناته غير واثق ليقينه ان ما فعله من حسنات تفوق (إذا ما وضعت في الميزان) سيئاته.. فكاد يصرخ: "الأمان.. الأمان" وغرقت نفسه بألم وكدر واكتئاب.

كشف اللثام عن بعض ما خفا:
تدل البينات ان الخواجا كشف أمام كبار قومه أنهم لا يعتبرون أنفسهم ضيوفا في هذا البلد، فلهم الحق بالأرض، بالعمل، بالهواء، بالماء، بالصحراء، بالجبال بالوديان والمغائر. بما هو موجود فوق الأرض وبالموجود في باطنها، وأضاف ان حقيقة وجودهم بعيدين كل هذا الوقت عن هذه البلاد، إنما يشير إلى حادث اليم في تاريخهم القديم، إذ شردهم البابليون والرومانيون قبل آلاف السنين، ان ما يأخذونه اليوم من المختار، أبنائه وأبناء جلدته، هو حقهم المنصوص عليه بكتب الله السماوية والمثبت بكلام الأنبياء ... وهي مشيئة الخالق الجبار. ان الله يسمع صراخهم ويصغي لصلاتهم، فهو ملجأهم الأخير، هو ذا يوم الرب قادم، يخلي الأرض يفرغها ويقلب وجهها، يبدد سكانها الغرباء، ان الوعد واضح، افتحوا الأبواب لتدخل الأمة البارة الحافظة للأمانة، حين تطلب يسمعها الرب مستجيبا لها. يعطيهم خبزا في الضيق وماء في الشدة، فلتعودوا يا أبنائه إلى ما ارتدتم عنه، هو ملك الحق، هو ملك العدل، هو المعين، "لا تخف يا عبدي يعقوب" قال الرب. قال أيضا: اعبر إلى أرضك التي تفيض لبنا وعسلا، انه كلام مبين، لغة واضحة وصريحة، إرادة متجلية، لقد حان الوقت للعودة من كل الأصقاع لتحقيق كلام الرب.

قال الخواجا كذلك: ان بعض الحواجز قد تقف حائلا في سبيل تحقيق وعد الرب، لكن الرب الذي وعد يعرف كيف يوقف الشمس في كبد السماء، يعرف كيف يفي بوعده ويخلصهم من أعدائهم والمتكاثرين عليهم.

حاشية:
حذر الأحمر إخوته، واقتبس لهم من كلام الخواجا بعض ما خفي عنهم، وما عجز والدهم ان ينقله لهم. أصابتهم الحيرة، احتواهم القلق والتردد، أيقنوا ان المسالة باتت كبيرة ولا تحتمل الصبر، لكنهم آثروا الوصول إلى والدهم المختار يشاورونه في ما صار إليه حالهم.
حانت من المختار صحوة، صحواته صارت نادرة، أيقن أن الأحمر وراء الضغينة الجديدة فقال بعد تأمل:

- هذا الأحمر يدخل الضغائن في قلوبكم، اتقوا الله فيما تفعلونه، البيت بيتنا والحق حقنا والله بكل شيء عليم، الملك ملكه يهب منه بقدر ما يشاء..

قال الأبيض:
- يا والدي ألا ترى معي ان وضعنا بات غريبا؟ الخواجا سيطر على البيت وملأه بأبنائه وزوجات أبنائه، منعنا حتى من النظر للبيت والبكاء على ماضينا، وها هو يسيطر على البستان، فما الذي تبقى لنا؟
- ان الله يمهل ولا يهمل، ابتهلوا ، رددوا اسمه، اشكروه على كل شيء، إياكم والمعصية، صفوا قلوبكم من كل ضغينة، ان الأحمر حاد الطبع غير صبور، أخشى عليه من النار، لا تكرهوا ما يجيء من عند الله لعله يرى أمرا لا نراه، ان الله يجرب إيمانكم فإياكم والانزلاق.

قال الأسود محتارا:
- مع ذلك ما هي معصيتنا حتى نعاقب هذا العقاب و...

قاطعه المختار ضاربا عصاه بالأرض:

- العوذ بالله .. العوذ بالله من الشيطان.

قال الأخضر مصمما:
- يا والدي أهانوك، أولادهم يضربونك، حولوك إلى عتال في موانئهم، بعد ان كنت سيدنا وسيد قومك، حولونا إلى زبالين في شوارعهم، طباخين في مطاعمهم، عمالا في ورشهم، ومع ذلك لا ننجو من الإهانات والمضايقات، حتى البستان سيطروا عليه، ولم يعد لنا ما نخاف عليه .. أين نواريك التراب يوم يدعوك ربك؟ ندفنك بالهواء؟

طالت تأملات المختار والأخوة حائرون لصمته الممتد، شاعرون بثقل المعاناة، رازحون تحت عبء القهر، منتظرين مشورة ولي أمرهم، ها هو يجيل النظرات بهم، يستعرضهم واحدا واحدا، كأنه يراهم لأول مرة، وفجأة ينفجر بما تبقى فيه من قوة صوت:
- إياكم والمعصية، إياكم والمعصية، تفو على الشيطان، تفو على الشيطان.
وحل الصمت!!

وضوح الرؤية:
خرج الأخوة من حضرة والدهم والشكوك تعتمل في صدورهم، الارتباك باد في خطواتهم، مترددون، متشككون، أيجوز ان يكون الأحمر على حق من البداية؟ انه أمر صعب التصديق؟ لكنهم يلمسون ان ما جرى كان في غفلة من الزمن، غاب فيها وعي المختار وأبناء بلده. ما العمل؟ هل يعود الزمن للوراء؟ اتضح لهم تماما ان أشد ما يحتاجه المختار هو لطف الله بعد ان بلغ من العمر عتيه!!

الحيرة سيطرت على وجوههم.

الحزن سيطر على بالهم.

الدموع ملأت أعينهم.

في القلب غصة.

في الحياة قهر.

- والحال؟!

سألوا، فأجابهم الأحمر الذي ظل صامتا لفترة طويلة:

- إرادتنا معنا وان نبدأ متأخرين أفضل من ان نواصل الخنوع وتبرير ما جرى..

- كيف ؟!

- ندعو لاجتماع شامل، كبارا، صغارا، نتداول وتقرر!!

نظروا بوجوم نحو بعضهم البعض، ثم تجرأ الأسود وقال:

- لتقرر أنت نحن نوليك الأمر.

- أبدا، نجتمع ونقرر، نلتقي حزمة واحدة، ليكن قرارنا بحجم المصيبة، لتكن خطواتنا بحجم قدراتنا، لكل شيء حساب، لكل موقف جواب، المهم يد واحدة، التزام واحد، قرار واحد وهدف واحد!!

حقيقة:
كل شيء يبدأ بخطوة واحدة، أما ذلك الصباح الكثيف الضباب الموافق الثامن من كانون ثاني لسنة ألف وتسعمائة وسبعة وثمانين، فقد بدا بحجر...!!

 

nabiloudeh@gmail.com

(الناصرة – 1989)