من خلال عمليات القلب والإبدال السردي النسوية تكشف القاصة المصرية عن تجذر البنية البطركية في الوعي الجمعي، وعن قدرة الفنتازيا على استثارة العقل للتفكير في مشروعية رواسيها ومواضعاتها السائدة.

صليل الأساور

منى الشيمي

لم تكن ثمة حركة غير عادية في المكان. تحلق بعض الرجال حول رجلين يلعبان، يرسمان المربعات الصغيرة على الأرض ويرصان فيها الحصى الملون. عند انتهاء الدور بفوز أحدهما. تعلو همهمة خفيفة من باقي الرجال، ويعيد الآخر تخطيط المربعات على التراب الناعم بإصبعه.

جلسوا على الأرض. اتكأ أحدهم على مرفقه ونام آخر على جنبه، بينما قرفص الباقون فغبرهم تراب الأرض الناعم الرطب. تراب لم ير الشمس منذ وقت طويل. تعلقت ذراته بسدَّى جلودهم، كأنهم تماثيل صلصال جاف. تماثيل تتحرك برتابة. لا شيء يدفع النشاط في عروقهم. تركوا لحاهم تنسدل طويلة ومشعثة. شيء ما مخيف ينثال من مناظرهم، ويجعل المرء يهرب من رؤيتهم، فلو ترك نفسه لأشباحهم تتحرك أمامه لتبخرت روحه في الهواء.

تململ الرجل الوحيد عند الجدار. منذ وقت طويل لم يشترك مع الباقين في حديث. يستند بظهره للجدار ويغفو، فإذا ماسمع وقع قدم، شخص بصره وتطلع للكوة. استطالت لحيته وابيضت في كل موضع، فإذا ابتعدت الأقدام يعود ليصنع من ساقيه هرمين صغيرين. يسند بينهما رأسه، ويذهب خياله بعيدا بعيدا. حزنوا لأجله. حاول أحدهم أن يخرجه مما هو فيه، لكن محاولاته باءت بالفشل. كيف يخرج مما هو فيه وزوجته هناك؟ صغيرة وجميلة. يتمناها نصف رجال القرية في صمت، ويحوم حولها النصف الآخر، والصغير يتيم. لا يجد من يتكفل به.

سمعوا أصوات أقدام تدق الأرض في الأعالي، فتذكر كل منهم المكان بأعلى، قال أحدهم إنه أول من دخل هذا المكان. لم يسبقه أحد، وظل سنة كاملة قبل أن يأتي الوافد الثاني. قال إنه عانى كثيرا قبل أن تعتاد أنفه رائحة المكان، وتحدث عن الأشباح التي ظهرت له، فكان يموت في الليلة عشرات المرات قبل أن يستيقظ في الصباح من جديد، وتحدث آخر متسائلا عن شكل المكان في الخارج. لقد جاء وشجرة الجازورينا صغيرة. لا تلقي بظلالها على مكانهم بينما يؤكد الوافد الأخير أن ظل الشجرة تخطى المكان لما بعده، وأن القبور ملأت التل وانحدرت بانحداره، ولامست الطريق المعبد من الناحية الأخرى.

اقتربت الأقدام حتى صارت فوقهم تماما، ثم انحرفت يمينا لتواجه الكوة المسدودة بصفين من مداميك الطوب الأحمر. انتفض الجميع، وامتدت بعض الأيدي فمحت المربعات من الأرض وبعثرت الحصى هنا وهناك. هرع كل منهم إلى الموضع المخصص له فدخل في ثوبه الكتاني المعفر بالتراب، وتلفع بسكونه.

انفتحت الكوة فرشقت الشمس سهمها بالداخل. انزلق رجل للداخل ليلقف الوافد الجديد. حمله من تحت إبطيه بينما الرجل الآخر يحمل القدمين. سجياه وصعدا، والعيون من بين شرائط الكتان ترقبهما في صمت، وتتسمع أصوات الرجال في الخارج. ميز بعضهم أصواتا يعرفها، صديق ليالي السمر، أو جار حميم التصق جدارا بيتهما، فكاد أن يقفز من رقدته، ويظهر لهم رأسه من الكوة، ويبتسم في شوق. لكنه يعرف أنه لو فعل لفر الجميع قبل إغلاق الكوة.

تمدد الوافد الجديد في الجوار. تفوح منه رائحة العطر. كفنه أبيض منشى. كاد أن يتململ بداخله، لكن رجلا فتح الكوة من جديد، وأسقط رأسه ونظر مرة أخرى، فالتزم الجميع بالسكون والصمت، حتى إذا رحل نفض الجميع الأردية، وتحلقوا حول الوافد الجديد، ولكزه أحدهم بعصاه فتحرك الجسد تحت الرداء الأبيض، ثم تفككت الشرائط، وتحركت اليدان.

تهللت أسارير الجميع. كان شابا معروفا لبعضهم. شاركهم المزاح مرات. مد كل منهم يده وسلم عليه. تولى أحدهم تعريف الكبار الذين رحلوا قبل إدراكه بكثير فلم يعرفهم ولم يعرفوه، وكانت فرصة جيدة استثمرها الجميع. سألوه عن حال البلدة. سأله كل منهم عن حال الأهل. سمى له عدة أسماء وتمنى لو يعرف عنهم خبرا، وسأله آخرون عن شكل المكان في الخارج، هل اختلف عما كان من قبل؟ أما الرجل الصامت دوما فسأله عن حال زوجته وابنه، أما زالت جميلة؟ تمنى لو سأله.. هل مازالت تذكره؟ هل يجد ابنه الصغير ما يسد جوعه؟ لكنه لم يتحدث، واتخذ مجلسه بجوار الحائط، وتشرنق بوحدته.

وقت قصير، نفضوا فيه الرتابة، ثم عادوا للصمت الذي يسمح بسماع دبيب القلق في الصدور، وزحف الأفكار في صعودها وهبوطها. عاد الرجال لرسم المربعات على الأرض، والبحث عن حصى مناسب، وافتعال الاندماج في المراقبة، أو البحث عن ذكرى يقصها علّ تفاصيلها تثني حواف الوقت المدببة. عادت الأقدام لتدق الأرض من جديد، وتضايق بعضهم لأن المكان ازدحم، وعليهم أن يكفوا عن إحضار آخرين، وفي لمح البصر. اختفى كل واحد منهم في كفنه. تاركا مسافة غير مرئية أمام عينيه. يراقب منها المشهد، وكما المرة السابقة أسقط أحدهم نفسه وانتظر حتى تناول الوافد الجديد. أرقده على جنبه الأيمن وخرج سريعا بعد أن أغلق الكوة وهموا في الخارج ببناء الجدار.

وكعادتهم ـ في الداخل ـ بعد كل مرة تطلعت العيون، وانتظروا برهة ليقشر الوافد عن نفسه غطاءه، لكن صوتا صك آذانهم وجعلهم في حالة يجف لها العود الأخضر. لقد صلصلت أساور تحت الكفن، وبدأ الجسد يتحرك في ليونة. مد الجميع يده في آن واحد. حتى الرجل المنعزل هناك جاء على صوت الأساور. مدفوعا بتأثير النشوة، وشرعوا في تعرية الوجه. ما أن تم هذا حتى صرخ الرجل الوحيد، وهمهم الباقون، كانت زوجته بكامل بهائها. كادت أن تبتسم له لولا تعبير وجهه المتجهم. لم تطل نظرته لها. أسرع إلى الكوة المغلقة. صرخ بأعلى صوته: "هناك خطأ.. امرأة وضعت هنا عن طريق الخطأ، يجب أن تبعث لمرقد النساء. عودوا يا رجال.. قهقه الرجال. وضع أحدهم يده على صدره من كثرة الضحك، وأشار عليه بيده الأخرى كما لو كان مجنونا، وتمنى آخر لو يسأله ممن تخاف عليها؟ عاد الرجل إلى موضع رقدتها ومازال صراخه يرن عاليا. أنام ذراعها بجوار جسدها وأحكم لف الكفن حولها. أغمض لها عينيها وغطى وجهها، ثم عاد ليقف بالقرب من الكوة. يصرخ.. لا ترحلوا.. ثمة خطأ.. امرأة بين الرجال.. امرأة.. بين.. الرجاااااااااااااااال. 


نجع حمادي ـ خريف 2007